أولا ـ الشريعة

أولا ـ الشريعة

في اليوم الأول..  وبينما أنا في سجني الانفرادي أقلب طرفي في مسيرة حياتي الممتلئة بالتناقضات.. إذا بي أسمع صوتا من مكبرات صوت السجن يقول: في هذا المساء.. سيساق إلى الموت (خبيب بن عدي) ([1]).. وقد رأت إدارة السجن ـ من باب الرحمة واللطف ـ أن تسمح لجميع للمساجين بزيارته وتوديعه.. من الصباح إلى المساء.. على ألا يتجاوزوا الحدود التي يسمح بها قانون السجن.

بعد فترة من صياحه هذا.. رأيت مجموعة من الحرس تفتح أبواب السجون المتنوعة الانفرادية منها والجماعية.. ليلتقي جميع السجناء في ساحة السجن.. وهناك أحضر كرسي للسجين الذي يراد إعدامه.. ليتكلم كلماته الأخيرة التي يودع بها أصدقاءه السجناء.

لم تطل الفترة حتى جاء خبيب مكللا بأشعة عميقة من الإيمان.. جلس بهدوء على الكرسي الذي وضع له كما يجلس الملوك، ثم قال، وهو يوزع نظراته الحانية على الجمع: بورك فيكم.. لقد شرفتموني بالجلوس بينكم.. فلذلك اسمحوا لي أن أحدثكم عن الرسالة التي ظللت حياتي جميعا أدعو إليها.. ولا حرج عليكم في أن تختلفوا معي.. أو تجادلوني.. فقد ظللت طول عمري أسمع للمخالفين، ولا أطلب منهم إلا أن يسمعوا لي.

في البداية اسمحوا لي أن أذكر لكم أن هذا الصليب الذي شرفني الله بامتطائه اليوم هو نفسه الصليب الذي امتطاه قبلي رجال من أهل الله.. لم يكن لهم من هم إلا أن يعيش البشر حياة ممتلئة بالسلام والعدالة والإيمان.. لقد قدموا نفوسهم فداء لصالح العدالة التي لن تتحقق إلا في المنهج الذي اختاره الله لعباده.

لقد أشار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى عظم المكانة التي ينالها من قدم نفسه لأجل هذا، فقال: (ألا لا يمنعن رجلا مهابة الناس أن يتكلم بالحق إذا علمه.. ألا إن أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر) ([2])

من هؤلاء الرجال الرجل الذي اخترت بعد أن وفقني الله للإسلام لأن أسمى باسمه.. إنه خبيب بن عدي ذلك الرجل العملاق الذي قدم نفسه في سبيل أن تنتصر شريعة ربه على تلك الشرائع الجاهلية..

لقد قال عندما أراد القوم شنقه:

ولست أبالي حين أقتل مسلما
 
على أي جنب كان في الله مصرعي
  
وذلك في ذات الإله وإن يشأ
 
يبارك على أوصال شلو ممزع
  

لقد ردد جميع أولياء الله من الذين بذلوا أنفسهم في ذات الله ما قاله خبيب.. كلهم لم تغرهم الدنيا.. ولا تلك المناصب الرفيعة.. ولا ذلك البهرج الكاذب.. كلهم أبوا إلا أن ينصروا شريعة ربهم.. الشريعة التي لن تتحقق العدالة إلا بها.

قالوا: أنت تعلم أنا من مذاهب مختلفة.. وكلنا له شريعته التي يدين بها.. والتي لا يرى العدالة إلا فيها.. فحدثنا عن هذه الشريعة التي نراك تقدم روحك رخيصة من أجلها.

ابتسم، وقال: شريعتنا عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها، وحكمة كلها.. الشريعة عدل الله بين عباده، ورحمته بين خلقه، وظله في أرضه، وحكمته الدالة عليه وعلى صدق رسوله صلى الله عليه وآله وسلم أتم دلالة وأصدقها، وهي نوره الذي به أبصر المبصرون، وهداه الذي به اهتدى المهتدون، وشفاؤه التام الذي به دواء كل عليل، وطريقه المستقيم الذي من استقام عليه فقد استقام على سواء السبيل فهي قرة للعيون، وحياة القلوب، ولذة الأرواح، فهي بها الحياة والغذاء والدواء والنور الشفاء والعصمة، وكل خير في الوجود فإنما هو مستفاد منها، وحاصل بها، وكل نقص في الوجود فسببه من إضاعتها، ولولا رسوم قد بقيت لخربت الدنيا وطوي العالم، وهي العصمة للناس وقوام العالم، وبها يمسك الله السموات والأرض أن تزولا، فإذا أراد الله سبحانه وتعالى خراب الدنيا وطي العالم، رفع إليه ما بقي من رسومها، فالشريعة التي بعث الله بها رسوله صلى الله عليه وآله وسلم هي عمود العالم وقطب الفلاح والسعادة في الدنيا والآخرة([3]).

كان الرجل يتكلم بكل مشاعره.. وقد أثر في الحضور لأجل ذلك تأثيرا شديدا.. لكن بعض الجالسين قام، وقال: هذا إجمال يحتاج إلى تفصيل.. وهذه دعاوى تحتاج إلى دليل.

نظر إليه خبيب، وقال: صدقت.. لا يمكن أن يقبل الإجمال من دون تفاصيله.. ولا الدعاوى من دون دليلها.. وإن شئتم أن أذكر لكم من ذلك ما تقر به أعينكم فعلت.

قالوا جميعا: كلنا آذان صاغية.. فحدثنا.

قال: سأحدثكم ـ أولا ـ عن نفسي.. أنتم تسمعون أن اسمي خبيبا، فتتصورون أني ولدت مسلما.. وأني من أسرة مسلمة.. وأني ورثت الإسلام كما ورثه أكثر الناس..

ليس الأمر كذلك.. أنا من أسرة غير مسلمة.. وعندما ولدت عمدت كما يعمد كل صبيان النصارى.. ولقنت ما يلقنون من مبادئ المسيحية..

كان ذلك في الصبي.. وفي صدر الشباب.. لكني بعد أن شببت عن الطوق، واكتمل لي العقل الذي أفكر به رحت أبحث عن شريعة الله.

وكان أول ما بدأت به (الكتاب المقدس).. لقد رحت أبحث عن شريعة الله في الكتاب الذي قيل لي: إنه وحي الله لأنبيائه.

قالوا: وما الذي جعلك تبحث فيه دون غيره؟

قال: لقد علمت علم اليقين، بأدلة كثيرة لا يمكن ذكرها هنا، أن الله الذي نظم هذا الكون جميعا يستحيل أن يترك الإنسان هملا.. فلذلك رأيت أن شريعة الله لن تغيب عن خلق الله.. ولكن الخلق هم الذين قد يغيبون عنها.

قالو: كيف؟

قال: الغفلة.. والكبرياء.. والجهل.. كل ذلك يمكن أن يقف بين الإنسان والبحث عن شريعة ربه..

قالوا: فما الذي وجدت في الكتاب المقدس؟

قال: وجدت فيه من الجور والظلم والجهالة ما جعلني أعتقد اعتقادا راسخا أن الشريعة التي يحويها يستحيل أن تكون شريعة الله.

لست أدري كيف صحت من حيث لا أشعر: هذه دعوى عريضة.. كيف تقول هذا عن الكتاب المقدس؟

التفت إلي بحنان، وقال: اعذرني.. فأنا لم أرد الإساءة إليك.. ولا إلى الكتاب المقدس.. ولكني أعتقد أن الشريعة التي تمتلئ بها جنبات الكتاب المقدس يستحيل أن تكون شريعة الله لعباده.

أنت تعلم أن الكذبة حملوا أقلام الكتبة، وراحوا بأهوائهم يحرفون الكتاب المقدس([4]).. لقد ذكر إرميا هذا، فقال:( فقال الرب لي: بالكذب يتنبأ الأنبياء باسمي.لم أرسلهم ولا أمرتهم ولا كلمتهم.برؤيا كاذبة وعرافة وباطل ومكر قلوبهم هم يتنبأون لكم) (إرميا: 14:14).. وقال:( الأنبياء يتنبأون بالكذب والكهنة تحكم على أيديهم وشعبي هكذا أحب.وماذا تعملون في آخرتها) (إرميا:5: 31)..

وهو يصرح بكل ألم قائلا:( كيف تقولون نحن حكماء وشريعة الرب معنا.. حقا إنه إلى الكذب حوّلها قلم الكتبة الكاذب ) (إرميا: 8: 8)

ليس إرميا وحده الذي صرح به.. لقد رأيت في المزامير:( اليوم كله يحرفون كلامي.عليّ كل افكارهم بالشر ) (مزمور:56/ 5)

ورأيت في (حزقيال:7 / 26):( ستاتي مصيبة على مصيبة.ويكون خبر على خبر.. فيطلبون رؤيا من النبي.. والشريعة تباد عن الكاهن والمشورة عن الشيوخ)

وسمعت إشعيا يقول:( ويل للذين يقضون أقضية الباطل وللكتبة الذين يسجلون جورا ليصدوا الضعفاء عن الحكم ويسلبوا حق بائسي شعبي لتكون الارامل غنيمتهم وينهبوا الايتام ) (إشعياء:10 /1-2)

إن إشعيا يتحدث عن المطامع التي جرت القضاة والكتبة إلى التحريف.. إنه يتحدث عن بيع كتاب الله بثمن بخس كما قال كتاب المسلمين.

بل هو يصرح بذلك قطعا لكل تأويل، فيقول:( ويل للذين يتعمقون ليكتموا رأيهم عن الرب فتصير اعمالهم في الظلمة ويقولون من يبصرنا ومن يعرفنا. يا لتحريفكم. هل يحسب الجابل كالطين حتى يقول المصنوع عن صانعه لم يصنعني. أو تقول الجبلة عن جابلها لم يفهم )( إشعياء: 29 /15-16)

وهو يقول:( ويل للبنين المتمردين يقول الرب حتى انهم يجرون رأيا وليس مني ويسكبون سكيبا وليس بروحي ليزيدوا خطيئة على خطيئة ) (إشعياء: 30 /1 )

سكت قليلا، ثم قال: عندما قرأت هذا علمت أن الرب أرحم من أن يأمرنا بطاعة الشريعة التي حولها هؤلاء الكذبة إلى مسخ.. لقد قرأت في كتاب المسلمين المعاني الحقيقية للتوراة.. لقد جاء فيه :{ إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ((المائدة:44)

هكذا كانت التوراة قبل أن تحرف.. ولكنها عندما حرفت صارت تحوي النصوص الكثيرة الممتلئة بالخرافة والشعوذة والجور والدجل..

لن أقرأ لك كل ما صرفني عن شريعة الكتاب المقدس.. بل سأكتفي بجانب مهم منها.. رأيت أن الجور فيه قد ضرب أطنابه..

إنه الموقف من المرأة.. أنت تعلم أنه من الجور الكبير أن يفضل أحد الجنسين وأن يحقر غيره.. ولذلك فإن الشريعة التي تقوم بهذا الجور وتدعمه شريعة أهواء لا شريعة من رب العالمين.

لقد قرأت في سفر الخروج : ( و إذا باع رجل ابنته أمةً لا تخرج كما يخرج العبيد) (الخروج 21/7).. وقرأت أنه في أيام القضاة اشترى بوعز جميع أملاك أليمالك و مالكليون و محلون، ومن ضمن ما اشتراه راعوث المؤابية امرأة محلون(انظر راعوث 4/9-10).. وقرأت في( الجامعة 7/26-28 ) : (فوجدت أمرّ من الموت : المرأة التي هي شباك، و قلبها أشراك، و يداها قيود، الصالح قدام الله ينجو منها.. أما الخاطئ فيؤخذ بها…رجلاً واحداً بين ألف وجدت، أما امرأة فبين كل أولئك لم أجد)

بل إن سفر اللاويين يقرن المطلقة والأرملة بالزانية، فيعتبرهن دناياً يحرم على الكاهن الزواج منهن (اللاويين 21/10-15) كما يفرض السفر أحكاماً شديدة على المرأة حال حيضتها حتى أن مجرد مسها ينجس الماس إلى المساء كما ينجس كل من مس فراشها أو شيئاً من متاعها (اللاويين 15/19-32 )

وفي العهد الجديد رأيت بولس يحمل المرأة خطيئة آدم، ثم يحتقر المرأة تبعاً لذلك فيقول : ( لتتعلم المرأة بسكوت في كل خضوع، و لكن لست آذن للمرأة أن تعلّم، و لا تتسلط على الرجل، بل تكون في سكوت، لأن المرأة أغويت، فحصلت في التعدي) (تيموثاوس(1) 2/11-14)، و يقول مبرزا ما في نفسه من احتقاره للمرأة : (الرجل ليس من المرأة، بل المرأة من الرجل، ولأن الرجل لم يخلق من أجل المرأة، بل المرأة من أجل الرجل) (كورنثوس(1) 11/8-9)

لقد أوحت هذه النصوص للآباء والقديسين في ملتنا النصرانية بأن يفرضوا على المرأة شريعة مملوءة بالجور والظلم والإجحاف.. لقد قال القديس ترتليان (ق3) إثر تشبعه بأمثال تلك النصوص المقدسة عن المرأة:  (إنها مدخل الشيطان إلى نفس الإنسان، ناقضة لنواميس الله، مشوهة لصورة الله (الرجل).. و يقول بعد حديثه عن دور حواء في الخطيئة الأولى:( ألستن تعلمن أن كل واحدة منكن هي حواء؟!…أنتن المدخل الذي يلجه الشيطان..لقد دمرتن بمثل هذه السهولة الرجل صورةَ الله)

ومثله قال القديس سوستام عن المرأة: (إنها شر لا بد منه، و آفة مرغوب فيها، و خطر على الأسرة و البيت، و محبوبة فتاكة، ومصيبة مطلية مموهة)

ومثلهما قال القديس جيروم (ق5) في نصيحته لامرأة طلبت منه النصح: (المرأة إذن هي ألد أعداء الرجل، فهي المومس التي تغوي الرجل إلى هلاكه الأبدي، لأنها حواء، لأنها مثيرة جنسياً)

أما القديس أوغسطين (ق 5)، فيتساءل : ( لماذا خلق الله النساء؟).. ثم يجيب : (إذا كان ما احتاجه آدم هو العشرة الطبية، فلقد كان من الأفضل كثيراً أن يتم تدبير ذلك برجلين يعيشان كصديقين بدلاً من رجل و امرأة).. ثم تبين له بعد بحث مضن أن العلة من خلقها هي فقط إنجاب الأولاد، و منه استوحى لوثر فقال: (إذا تعبت النساء أو حتى ماتت فكل ذلك لا يهم، دعهن يمتن في عملية الولادة، فلقد خلقن من أجل ذلك)

ولم يكتف هؤلاء القديسون بهذه التصريحات الجائرة.. بل راحوا يعقدون المؤتمرات الغريبة للبحث عن حقيقة هذا العنصر الغريب الذي يسمونه (المرأة )، ففي القرن الخامس عقد مؤتمر ماكون للنظر هل للمرأة روح أم لا؟ وقرر المؤتمر خلو المرأة عن الروح الناجية.. و قال القديس جيروم: (المرأة عندما تكون صالحة تكون رجلاً).. أي أنها تشذ عن مثيلاتها الإناث فتصير مثل الرجال.

و في عام 586م عقد مؤتمر لبحث إنسانية المرأة، ثم قرر المؤتمر بأغلبية صوت واحد بأن المرأة إنسان خلق لخدمة الرجل.

و بعد ظهور البروتستانت في القرن السادس عشر عقد اللوثريون مؤتمراً في (وتنبرج) لبحث إنسانية المرأة.

التفت إلى الجمع، وقال: هل يمكن لشريعة يحمل كتابها المقدس هذه النظرة عن المرأة.. ويحمل رجال دينها بل قديسوها هذه النظرة القاسية الجائرة.. هل يمكن لشريعة مثل هذه أن تكون شريعة عادلة مع هذا الجانب المهم المشكل للمجتمع الإنساني.

التفت إلي، وقال: بمجرد أن عرفت كل هذا استحييت من أن أدين بشريعة يدين بها هؤلاء.. لقد رأيت أن الله أعظم رحمة وعدلا من أن يحكم على هذا الكائن الإنساني بكل هذه القسوة..

بعد أن يئست من أن أجد في الكتاب المقدس الشريعة العادلة رحت أبحث في القرآن..

أصدقكم القول أني لم أبدأ ببحثي فيه إلا وأنا ممتلئ بشبهات كثيرة كانت تقف حجبا بيني وبينه.. لكن الله أعطاني القوة، فحطمتها جميعا، ولم أبق أثناء قراءتي للقرآن الكريم وللنصوص المقدسة التي نطق بها محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلا عقلي.. ذلك البرنامج الذي برمجني الله به لأميز الخبيث من الطيب، والحق من الباطل.

وكان أول ما شدني في القرآن الكريم هو تلك النظرة المحترمة للكائنات جميعا.. الإنسان والحيوان.. والنبات والجماد.. وكل شيء.. فالكل خلق الله.. والكل مسبح لله.. وليس هناك شيطان إلا الشيطان الذي رضي بمحض إرادته أن يصير شيطانا.

لقد قرأت في القرآن الكريم عن الحيوان.. بل عن البعوض قوله تعالى :{ إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ) (البقرة:26)

وقرأت فيه عن النمل قوله تعالى :{ حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) (النمل:18).. لقد رأيت هذه الآية تحضنا على احترام هذا العالم، واحترام قراه التي يؤسسها.

وبحثت فيه بعد ذلك كله عن المرأة.. فوجدت أنها والرجل فيه سيان، لا يختلفان إلا الاختلاف الذي تفرضه وظائفهما وقدراتهما.. لقد قرأت فيه قوله تعالى :{ فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَاباً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِO (آل عمران:195)، وقوله تعالى:{ وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً) (النساء:124)، وقوله تعالى :{ مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (النحل:97)، وقوله تعالى :{ مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ) (غافر:40)، وقوله تعالى :{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (الحجرات:13)

ووجدت القرآن ينسب الخطيئة للزوجين كليهما.. لا لحواء وحدها([5]).. قال تعالى :{ فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ) (البقرة:36)

ووجدت فيه أن التوبة حصلت من كليهما.. قال تعالى :{ قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ) (لأعراف:23)

ووجدت القرآن ينعى على أهل الجاهلية تفضيلهم الذكر على الأنثى.. وذلك في مناسبات كثيرة مختلفة.. قال تعالى :{ وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58) يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (59)} (النحل)

ووجدت ينعى عليهم ما كانوا يقعون فيه من وأد البنات.. قال تعالى :{ وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (9)} (التكوير)

وجدت هذا وغيره كثير بالنسبة للمرأة والتصور نحوها.. ونحو وظيفتها.. ونحو حقوقها([6]).

وهكذا وجدت الأمر مع جميع أصناف الناس، وخاصة المستضعفين منهم.. لقد وجدت القرآن يوليهم كل العناية، ويحترمهم أعظم احترام.. وقد كان كل ذلك بوابتي للبحث الشامل في مدى قدرة شريعة الإسلام على تحقيق العدل للبشرية التي امتلأت بالجور..

وقد وجدت في الشريعة الإسلامية ـ بعد البحث المستفيض ـ أربع خصائص كبرى لم تتحقق بكمالها إلا فيها.. ولذلك رأيت أنها الشريعة الوحيدة الصالحة لأن تخرج البشرية من ظلمات الظلم والجور إلى أنوار الأمان والعدل.

قلنا: ما هذه الخصائص؟

قال: الربانية، والشمولية، والواقعية، والمثالية.

قلنا: فهل ستحدثنا عما وصلت إليه في أبحاثك؟

قال: أجل.. فلم تكن لي وظيفة في الحياة، بعد أن امتلأ قلبي ببرد اليقين إلا أن أبشر بشريعة الله.. وأنا الآن ممتلئ سرورا لأني سأستشهد في سبيلها كما استشهد خبيب وإخوانه من الصادقين من أهل الله.

الربانية

قلنا: فحدثنا عن الركن الأول.

نظر إلى السماء، وقال: الغريق الذي أحاطت به المياه من كل جانب.. ولم تبق له أي قوة يصارع بها تلك التيارات العنيفة التي تريد أن تصرعه.. ولم تبق له أي قوة يستطيع أن يصارع بها تلك الحيوانات المتوحشة التي تريد أن تلتهمه.. ثم جاءته سفينة ومدت حبالها إليه.. تريد أن تنقذه.. هل ترون من الحكمة أن يرفض مد يده لحبال النجاة التي مدت إليه؟

قلنا: مجنون إن فعل ذلك.

قال: فالبشرية ـ إذن ـ كلها مجنونة.

قلنا: وما علاقة هذا بذاك؟

قال: إن البحر العميق الذي تسبح فيه البشرية.. والشياطين الكثيرة التي تريد أن تمسخ طبيعة البشرية لا يشبهها شيء كما يشبهها ذلك البحر، وذلك الغريق.

قلنا: فما الحبال؟

قال: إن الرب الرحيم الذي خلق هذا الكون، ولم يغفل عن الدقيق والجليل فيه، مد حبالا كثيرة للبشرية لينقذها بها من نفوسها التي تصارعها.. ومن الشياطين التي تريد أن تلتهمها.

ولكن البشرية مع ذلك ترضى بأن تبقى في ذلك الصراع المميت، ولا ترضى بأن تمد يدها لحبال النجاة التي مدت إليها.

قلنا: أي حبال؟

قال: حبال الشريعة.. فالبشرية لا ينقذها إلا ربها الذي هو أعلم بطباعها، وأعلم بالشياطين الذين يتربصون بها.

قال رجل منا: دعنا من الإجمال، وهات التفصيل.

قال: لقد رأيت المسالك التي سلكتها البشرية لتقضي بها على الانحرافات المختلفة بأنواعها جميعا: النفسية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية.. وغيرها.. وقد وجدت أن كل تلك المسالك باءت بالفشل..

وقد بحثت في سر ذلك الفشل فوجدته يرجع إلى أمرين:

أما أولهما، فهو أن الذي يضع تلك القوانين بشر كالبشر.. هو غريق مثلهم.. ولذلك لن يستطيع الغريق أن ينقذ الغريق..

وأما الثاني، فقد وجدت أن البشر لا يسلمون أنفسهم إلا لمن هو فوقهم.. أو لمن يرون له من القدسية ما يجعله أهلا لأن يطاع..

لقد كان هذان الأمران هما دليلي إلى ركن الربانية.. وكونه ركنا أساسيا لا يصح أن تخلو منه شريعة من الشرائع أو قانون من القوانين..

لقد رأيت أن البشرية الغريقة لن ينقذها إلا إله خبير مقدس.. له من السلطة ما يفرض به قوانينه على عباده، فإن أحسنوا جازاهم.. وإن أساءوا عاقبهم.

ولم أجد هذا الوصف إلا عند إله المسلمين.. وفي شريعة المسلمين.

الخبرة:

قلنا: فحدثنا عن الخبرة.

قال: لاشك أنكم تعرفون مدى التخبط الذي وقعت فيه البشرية عند بحثها عن الإنسان.. ولاشك أنكم عرفتم المدارس الكثيرة التي تاهت وهي تبحث عن حقيقة الإنسان([7]).

قال رجل منا: كيف تقول ذلك؟.. والبشرية لم تصل في تاريخها جميعا إلى مثل هذه الثروة المعلوماتية الضخمة التي استطاعت البشرية أن تكتشفها في هذا العصر.

قال: إن أكثر هذه الثروة الضخمة يدل على التيه أكثر من دلالته على الهداية..

قلنا: كيف ذلك؟

قال: لن أحدثكم عن رؤيتي في ذلك.. بل سأنقل لكم كلام عالم كبير من علماء هذه الحضارة لا شك أنكم تعرفونه.. إنه الدكتور ألكسيس كاريل.. لقد كتب هذا الدكتور كتاباً سماه (الإنسان ذلك المجهول).. وقد ضمنه شهادة ضد هذه الحضارة المادية القائمة، لقتلها أهم خصائص الإنسان.

وقد أطلق في هذا الكتاب المهم صيحة مدوية بالأخطار التي تهدد الجنس البشري من جراء الاعتداء على القوانين الطبيعية، التي لا تدع المعتدين عليها بلا عقوبة؛ وأعلن جهل (العلم) بحقيقة الإنسان.. بل بأبسط حقائق تكوينه الجسدي ذاته!

سأنقل لكم من كتابه هذا بعض ما قال.. لتدركوا مدى جهل الإنسان بحقيقته وطبيعته ووظيفته.. وهو الجهل الذي لا يتيح له أن يضع الشريعة لنفسه.. فالشريعة علاج.. ولا يمكن للطبيب أن يعالج جسما لا يعرفه.

لقد قال في مقدمة كتابه هذا:( إن هدف هذا الكتاب هو أن يضع تحت تصرف كل شخص مجموعة من المعلومات العلمية التي تتعلق بالكائنات الحية في عصرنا.. فقد بدأنا ندرك مدى ما في حضارتنا من ضعف.. وكثيرون يرغبون في أن يلقوا عنهم التعاليم التي فرضها عليهم المجتمع الحديث.. ولهؤلاء أكتب هذا الكتاب.. كذلك كتبت لأولئك الذين يجدون من أنفسهم شجاعة كافية ليدركوا ـ ليس فقط ضرورة إحداث تغييرات عقلية وسياسية واجتماعية ـ بل أيضاً ضرورة قلب الحضارة الصناعية وظهور فكرة أخرى للتقدم البشري)([8])

وقال فيه:( إن الحضارة العصرية تجد نفسها في موقف صعب، لأنها لا تلائمنا، فقد أنشئت دون أية معرفة بطبيعتنا الحقيقية، إذ أنها تولدت من خيالات الاكتشافات العلمية، وشهوات الناس، وأوهامهم، ونظرياتهم ورغباتهم. وعلى الرغم من انها أنشئت بمجهوداتنا إلا أنها غير صالحة بالنسبة لحجمنا وشكلنا) ([9])

بعد كل هذا.. فإن الدكتور كاريل يقترح على البشرية لتخرج من هذا التيه المزيد من الاهتمام بمعرفة الإنسان..

لقد قال يعبر عن ذلك : ( إن العلاج الوحيد الممكن لهذا الشر المستطير هو معرفة أكثر عمقاً بأنفسنا، فمثل هذه المعرفة ستمكننا من أن نفهم ما هي العمليات الميكانيكية التي تؤثر بها الحياة العصرية على وجداننا وجسمنا، وهكذا سوف نتعلم كيف نكيف أنفسنا بالنسبة للظروف المحيطة بنا، وكيف نغيرها، إذ لم يعد هناك مفر من أحداث ثورة فيها. ولئن استطاع هذا العلم- علم الإنسان- أن يلقي الضوء على طبيعتنا الحقة، وإمكانياتنا، والطريقة التي تمكننا من تحقيق هذه الإمكانيات، فانه سيمدنا بالإيضاح الصحيح لما يطرأ علينا من ضعف فسيولوجي.. كذا لأمراضنا الأدبية والعقلية.

إننا لا نملك وسيلة أخرى لمعرفة القواعد التي لا تلين لوجوه نشاطنا العضوي والروحي؛ وتمييز ما هو محظور مما هو مباح؛ وإدراك أننا لسنا أحراراً لنعدل في بيئتنا وفي أنفسنا تبعاً لأهوائنا..

وما دامت الأحوال الطبيعية للحياة قد حطمتها المدنية العصرية، فقد اصبح (علم الإنسان) أكثر العلوم ضرورة)([10])

صرخ رجل منا فرحا: ها هو كاريل قد أعطى الحل.. وهو يغنينا عن الشريعة التي تحدثنا عنها.

نظر إليه خبيب بابتسامة عذبة، وقال: لا.. إنه دلنا على الشريعة..

قال الرجل: هو دلنا على (علم الإنسان).. لا على الشريعة.

قال: وعلم الإنسان لن نجده إلا عند رب الإنسان.. إن الله هو خالق هذه الآلة الإنسانية العجيبة.. وهو العالم بكيفية حركتها، وبكيفية توجيهها، وبسبل كمالها، وبسبل هبوطها.. وهو بالتالي الوحيد الذي له الحق في أن يشرع لها..

صرخ رجل آخر، وقال: إنك توقعنا بهذا في حيرة أخرى.. فالشعوب كلها تعرف الله.. وكلها لها من الشرائع ما تزعم أن الله خصها به.. فكيف تزعم أن ذلك خاص بشريعة الإسلام؟

لقد قرأت لمستر دالاس.. وهو وزير خارجية أمريكا.. حديثه عن دور الكنيسة وإله الكنيسة في مقاومة انحراف الحضارة المادية.. والذي تجلى بصورته المثلى في الشيوعية التي يقوم نظامها الاجتماعي على أساس (المذهب المادي) و(التفسير الاقتصادي للتاريخ)

لقد كتب في كتابه:( حرب أم سلام)، وفي فصل بعنوان (حاجاتنا الروحية) يقول : (إن هناك شيئاً ما يسير بشكل خاطئ في أمتنا. وإلا لما أصبحنا في هذا الحرج، وفي هذه الحالة النفسية.. لا يجدر بنا ان نأخذ موقفاً دفاعياً، وان يتملكنا الذعر.. إن ذلك أمر جديد في تاريخنا!

وكتب يقول: إن الأمر لا يتعلق بالماديات، فلدينا أعظم إنتاج عالمي في الأشياء المادية، إن ما ينقصنا هو إيمان صحيح قوي. فبدونه يكون كل ما لدينا قليلاً. وهذا النقص لا يعوضه السياسيون مهما بلغت قدرتهم، او الدبلوماسيون مهما كانت فطنتهم، أو العلماء مهما كثرت اختراعاتهم، او القنابل مهما بلغت قوتها!

والحل الذي يقترحه مستر دالاس بعد هذه التصريحات عبر عنه بقوله : ( لن تكون هناك فائدة من إنشاء (أصوات أمريكا) أخرى عالية الصوت، إلا إذا كان لدينا شيء نقوله، يكون اكثر إغراء مما قيل حتى الآن!.

وإيجاد هذه الرسالة هو قبل كل شيء مهمة الزعماء الروحيين لأمتنا. وبعثورهم عليها يستطيعون أن يساهموا بشكل حاسم في الإحباط السلمي للأساليب الشريرة، والخطط التي تعدها الشيوعية السوفييتية.

إن كثيراً من الوعاظ والمعلمين يأسفون لأن المعرفة العلمية قد زادت قدرة الإنسان على الأذى إلى درجة كبيرة. ولا يجب أن نصدق ان المعرفة في حد ذاتها شيء يمكن الهرب منه.

إن القوة المادية الكبيرة تكون خطرة في عصر المادية فقط؛ وليس في عصر روحي. والمعرفة العلمية الجديدة خطرة اليوم لأنها حدثت في وقت أخفقت فيه الزعامة الروحية أن توضح الصلة بين العقيدة والعمل. ولعله يكون اكثر أهمية لو أن العبادة الروحية تطورت بدلاً من محاولة وقف التقدم العلمي، او الرجوع به القهقري ).

وفي الأخير.. بعد كل هذا يرى أن الحل يكمن في الكنيسة.. فهو يقول : ( هذا هو التحدي النهائي لكنائسنا ومنظماتنا السياسية وللرأسماليين عندنا، ولكل فرد يخاف الله، او يحب بلده! )

ابتسم خبيب، وقال([11]): سلني أنا عن الكنائس.. أنا الذي ربيت فيها.. ولدي من المعرفة بقدراتها ما جعلني أطمئن اطمئنانا تاما إلى أنها أعجز من أن تؤدي هذا الدور الخطير..

إن الكنائس لم يعد لديها من المسيحية ـ منذ ما أفسدها بولس أولاً، وقسطنطين ثانياً، والكنيسة والمجامع والبابوات ثالثاً ـ ما يصلح شريعة للإنسانية.

إن مستر دالاس ـ بحكم عدم خبرته في هذا المجال ـ يكلف رجال الكنيسة والزعماء الروحيين مالا قبل لهم به حين يطلب إليهم، بما بين أيديهم من رصيد مهلهل للمسيحية، ومن تاريخ مرير بين الكنيسة ورجالها والدين وأهله وبين ضمائر الناس وعقولهم، ومن فصام نكد قامت بعده كل جوانب الحياة والفكر والشعور على أساس العداء للدين كله([12])..

إنه يكلفهم بعد كل هذا مالا قبل لهم به.. إنه يطلب إليهم استحداث منهج من ذلك الرصيد المهلهل، يصل بين الإيمان والعمل، وبين الفردية والجماعية، وبين الروح والمادة، وبين التقدم العلمي والهيمنة الروحية على هذا التقدم، وبين العناية بتنمية الحياة للمجتمع مع سيطرة الروح الإيماني.. منهج لا يفرق بين الدين وممارسة الدين. ويرفض القول: بأنه من غير الممكن الحصول على عدالة اجتماعية بدون ممارسة الإلحاد والمادية. كما يرفض أن يكون للأشياء المادية الأولوية. أو أن تكون العبودية والاستبداد وسيلة الإكثار من الإنتاج المادي. او أن يعتدي على الحرية العقلية والروحية والاقتصادية في سبيل هذا الإكثار.. منهج لا يطلب وقف التقدم العلمي باسم (الدين)! ولا يجعل التدين وسيلة واحدة هي عودة العلم والمعرفة القهقري!.. وفي النهاية منهج تتطور (العبادة) فيه حتى يصبح (العمل) إحدى صورها..

إن منهجا بهذه الصفة لا يمكن أن يوجد في الكنيسة..

إن مستر دالاس يريد أن يجند (الدين) لحماية الأنظمة الغربية من الشيوعية.. ولكن الدين لا يملك أن يصنع شيئاً في هذه المعركة الصغيرة! بين أنظمة مادية وأنظمة مادية من نوع آخر! انه لا يملك أن يصنع شيئاً في صورته الباهتة التي تراد له.. لا يملك أن يدافع عن الناس وهو مطرود من حياتهم طرداً قبيحاً!

إن (دين الله) لا يصلح خادماً يلبس منطقة الخدم، ويقف بحضرة (أسياده)، ويوجهونه حيث يريدون! يطردونه من حضرتهم فينصرف، وهو يقبل الأرض بين أيديهم.. ثم يقف وراء الباب- في شارة الخدم – رهن الإشارة!.. ويستدعونه للخدمة، فيقبل الأرض بين أيديهم، وينحني قائلاً: لبيك يا مولاي! كما يفعل من يسمونهم (رجال الدين)!

قال بعض القوم: وأي دين يمكن أن يقبل هذه المسؤولية الضخمة؟.. لقد جربت الأديان هذا.. فلم تفلح.. لقد اكتفت من سياستها بتوزيع صكوك الغفران.

نظر إليه خبيب، وقال: الإسلام يملك هذا.. فهو الدين الوحيد من بين أديان البشرية جميعا الذي يملك منهجا جديدا للحياة غير الذي عرفته أوروبا وعرفه العالم في فترة الفصام النكد وقبلها وبعدها.. منهجا أصيلا، مستقل الجذور.. منهجا شاملا متكاملا. وليس مجرد تعديل للحياة الراهنة وأوضاعها القائمة.. إنه منهج للتصور والاعتقاد؛ كما أنه منهج للعمل والواقع.. ومن ثم فهو – وحده – الكفء للاضطلاع بمهمة إعادة إنشاء الحياة البشرية على قاعدة جديدة.

قال الرجل: إن هذه دعوى عريضة.. فكيف تثبتها؟

قال:  لقد بحثت في الإسلام كما بحثت في المسيحية.. وفي جميع الأديان.. فوجدت أن الإسلام بمبادئه.. كما هو بتاريخه جميعا لم يضع نفسه بديلاً عن العلم والحضارة، ولا عدوّاً للعلم والحضارة.

لقد وجدته يضع نفسه إطارا للعلم والحضارة، ومحورا للعلم والحضارة، ومنهجا للعلم والحضارة في حدود إطاره ومحوره الذي يحكم كل شؤون الحياة.

ووجدته الإعلان الشامل لحرية العقل البشري تجاه الكون المادي، وقوانينه، وقواه، ومدخراته.

ووجدته الإيذان العام بانطلاق العقل الإنساني ليعمل ويبدع في ذلك الملك العريض الذي استخلفه ربه فيه.

إن الإسلام يكل رسم التصميم الأساسي للحياة البشرية، إلى العلم الكامل الشامل، المبرأ من الجهل والقصور والهوى كذلك.. إنه يكله إلى علم الله.

سكت قليلا، ثم قال: إن هذه الحضارة التي تحيط بالبشرية اليوم، تحطم أهم ما في كيان (الإنسان) وتحارب أرفع مقوماته الإنسانية، وفي الوقت الذي تقدم له تلك التسهيلات الرائعة – وإن كانت هذه التسهيلات قد تكون مؤذية لكيانه المادي ذاته.

والإسلام – بطبيعة تصوره لحقيقة الكون ودور الإنسان فيه، وبطبيعة منهجه الواقعي التجريبي- لن يعمد إلى المصانع فيحطمها! ولن يعمد إلى تلك التيسيرات التي تقدمها الصناعة للحياة البشرية فيلغيها!

ولكن الإسلام سيعمد – ابتداء – إلى تغيير النظرة إلى هذه الحضاريات وقيمتها.. سيمنحها قيمتها الحقيقية بلا مبالغة وبلا بخس كذلك! بحيث يصبح الروح الإنساني المؤمن هو المسيطر عليها. لا أن تكون هي المسيطرة عليه، وعلى تصوراته ومشاعره وأوضاعه وأنظمته..

قال الرجل: فكيف كان للإسلام كل ما ذكرت.. ولم يكن لسائر الأديان؟

قال: لأن الإسلام هو الدين الوحيد الذي بقي محفوظا بصفائه وقدسيته من بين سائر الأديان جميعا.

والقرآن الكريم هو الكتاب الوحيد من بين الكتب المقدسة جميعا الذي ظل يحتفظ بقدسيته.. وبالتالي هو الوثيقة الوحيدة التي يمكن اعتبارها رسالة الله إلى عباده([13])..

أما سائر الأديان، فقد عراها من التحريفات ما جعلها أفكارا بشرية أو أوهاما بشرية لبست لباس الدين، وحاولت أن تعبر عن مراد الله.. وفي الحقيقة لا تعبر إلا عن تلك الأهواء والخرافات التي كانت تسكن عقول رجال الدين.

القداسة:

قلنا: حدثتنا عن الخبرة.. فحدثنا عن القداسة.

قال: لقد عرفت من خلال أدلة كثيرة أن الذي يضع الشرائع للعباد لا يصح أن يكون له من الهوى والجهل والغرور ما يحول بينه وبين التفكير السليم في المهمة العظيمة التي وكلت له..

وقد وجدت من خلال الواقع أن هذا لا يمكن أن يتحقق بصورته المثالية في الإنسان.. فالإنسان ـ مهما سما وتقدس ـ سيبقى إنسانا.. هو غريق كسائر الغرقى.. والغريق لا يمكن أن ينقذ نفسه.. فكيف يمكنه أن ينقذ غيره؟

لأجل التأكد من هذا بحثت في قوانين العالم ودساتيره..  منذ بدأ هذا العالم إلى اليوم.. وقد رأيت أن الإنسان لم يفلح إلي الآن في الكشف عن دستور حياته([14])!

ضحك رجل منا بصوت عال، وقال: كيف تقول هذا.. ولا نرى دولة من دول العالم إلا ولها دستورها وقوانينها التي تنظم حياتها.

التفت إليه خبيب مبتسما، وقال: وجود الشيء لا يعني صحته ولا فاعليته.. ألا ترى المريض قد يستعمل الدواء.. ولكن ذلك الدواء قد يكون سبب شفائه.. كما أنه قد يكون سبب هلاكه؟

قال الرجل: قد يكون سبب هلاكه إن وصفه له دجال.. أما إن وصفه له طبيب فلن يكون إلا سبب صحته وعافيته..

قال خبيب: صدقت في هذا.. وليس هناك من طبيب يعرف البشر، ويعرف ما يصلحهم غير ربهم الذي خلقهم:{ أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ } (الملك:14)

قال الرجل: وأولئك العمالقة الخبراء من علماء القانون؟

قال خبيب: أولئك مهما سموا.. فسيظلون بشرا.. لهم شهوات البشر وأهواؤهم وأمراضهم.. ولا يمكن للمريض أن يعالج صحيحا. 

ولعل أكبر دليل على ذلك هو تخبط البشر في وضع القوانين.. كتخبطهم قبلها في تصورهم لحقيقة الإنسان:

لقد قال بعض خبراء التشريع مقررا هذا: (لو طلبت من عشرة خبراء أن يعرفوا القانون، فعليك أن تستعد لسماع أحد عشر جوابا! ! )

لقد انقسم خبراء التشريع إلي مدارس فكرية كثيرة ؛ ولكننا- رغم تعدد هذه المدارس- قد لا نجد لبعض كبار علماء القانون فيها مكانا!

قال الرجل: ما سر ذلك؟

قال خبيب: إن سبب ذلك يرجع إلى عجز هؤلاء الخبراء عن التوصل إلي أساس صحيح يمكن إقامة صرح التشريع عليه..  إنهم يجدون أن القيم التي يحاولون جمعها في هيكل الدستور يستحيل وضعها في ميزان واحد.. وأن مثل رجل القانون في محاولته هذه كمثل الرجل الذي يزن مجموعة من الضفادع بمجموعة أخرى مماثلة ؛ فكلما وضع مجموعة في كفة وجد أن ضفادع الكفة الثانية قد وثبت إلي الماء مرة أخرى، ومن ثم باءت كل الجهود- التي استهدفت الحصول علي الدستور المثالي- بالفشل الذر يع.

لقد عبر الأستاذ (و. فريدمان ) عن هذه المشكلة قائلا: ( وإنها لحقيقة: أن الحضارة الغربية لم تجد حلا لهذه المشكلة غير أن تنزلق من وقت لآخر، من نهاية إلي نهاية أخري)

ولاحظ (جون آستين) أن الدستور- أي دستور- لايصبح نافذ المفعول إلا إذا كانت تسنده قوة من ورائه، فعرف (القانون) في كتابه، الذي نشر لأول مرة عام1861 علي النحو التالي: (القانون هو الحكم الذي أصدره (رجل رفيع المنزلة سياسيا لمن هو أدني منه في المرتبة السياسية)

وقد أصبح التشريع بناء على هذا التعريف (مرسوما لصاحب السيادة)

ولذلك شن المحدثون من العلماء حملة شديدة علي هذه الفكرة، وقالوا: إنه لا يمكن منع انحرافات الحكام إلا إذا كان (رضا الشعب العام) دعامة أساسية في التشريع.. وأنكروا أي قانون أو دستور لا يحرز رضا الجماهير ؛ وترتب علي ذلك أن ضوابط كثيرة يجمع علي صحتها وإفادتها جميع أهل العلم ومعلمي الأخلاق لا يمكن تنفيذها، لأن الشعب لا يوافق عليها.

فالأمريكيون ـ مثلا ـ لم يتمكنوا من إدخال مشروع قرار يحرم الخمر، لأن الشعب لم يرض عنه.. كما اضطر البريطانيون إلي إدخال تعديلات هامة في قانون عقوبة القتل، واضطروا إلي إباحة أنواع محرمة من العلاقات الجنسية، علي الرغم من ضجيج المثقفين، واحتجاج علماء القانون !

ليس هذا فقط.. بل إن هناك مسألة أخرى تدل على تخبط المشرعين في هذا المجال.. إنها اختلافهم حول قابلية القانون للتغير:

لقد لقيت نظرة (القانون الطبيعي) رواجا كبيرا في العصور الوسطي، وفي العصور التي تلتها، ومؤداها أن الطبيعة البشرية هي المصدر الحقيقي للتشريع: (فالطبيعة تطالب أن يكون حق السيطرة والحكومة لمطالبها الطبيعية ودعائمها الرائدة. وقد أعطت الطبيعة هذه الدعائم للإنسان في صورة (العقل)، ولذلك لابد من إقامة حكومة بقوة العقل)

وقد أعطت هذه النظرية أساسا كونيا للمشرعين، فقيل :إنه لابد من دستور موحد صالح لكل العصور.. وهذه هي نظرية علماء القرنين السابع والثامن عشر حول القانون.

ثم جاءت مدرسة أخرى ادعت استحالة معرفة الأسس الكونية للدستور.. يقول (كوهلير) في هذا: (ليس هناك دستور أبدي، وأي تشريع يصلح لعصر ما ليس- بالضرورة- صالحا لعصر آخر. وليس لنا إلا أن نجهد أنفسنا في البحث عن دستور يلائم كل حضارة علي حدة. فقد يكون دستور ما خيرا لطائفة من الناس، ثم يسب هلاك طائفة أخري)

وقد قضت أفكار هذه المدرسة الأخيرة علي تحكم القانون واستقراره، فهي تدعو الإنسان إلي فكرة التغير العمياء والنسبية؛ وهي لن تنتهي إلي حد ما حيث إنها تفتقر إلي الأساس.. وقد قلبت هذه الفكرة جميع القيم الإنسانية رأسا علي عقب.

بالإضافة إلى هذه المدارس هناك مدرسة أخرى تدعو إلى إحراز أكبر قدر من مقومات العدل في التشريع.. لقد كتب (اللورد رايت) معلقا علي فكرة (دين راسكو باوند): (إن راسكو باوند يدعو إلي فكرة- اطمأننت إلي صدقها بعد جميع تجاربي ودراستي في القانون- وهي أن الهدف الأساسي والابتدائي للتشريع هو (البحث عن العدل)

فإذا سلمنا بهذه النظرية واجهنا سؤالا هاما هو: (ما العدل؟) ؛ (وكيف يمكن تعيينه؟)، وهكذا مرة أخري نرجع إلي (جون آستين)!

ومرة أخري نقف أمام ظاهرة أن الإنسان لن يستطيع الكشف عن أساس واقعي للتشريع ؛ رغم الجهود الجبارة التي بذلت في هذا الحقل منذ مئات السنين، ويزداد يوما بعد يوم شعور بالمرارة وخيبة الأمل بين رجال التشريع، لأن الفلسفة الحديثة قد فشلت في بحثها عن أهداف الدستور.

قال رجل منا: إن أكثر ما ذكرت تصريحات.. ونحن نريد إثباتات.. فالتصريحات لن توقعنا إلا في التقليد.

قال خبيب: صدقت.. أنا أكره التقليد.. ولهذا لم أكتف بما ذكرت لكم من تصريحات.. لقد رحت أبحث في مدى توفر الدين على جميع الأسس اللازمة التي يبحث عنها المشرعون لصياغة دستور مثالي.

وقد بدأت بأهم مشكلات التشريع الإنساني.. وهي مشكلة مصدر التشريع.. فأول الأسئلة وأهمها بالنسبة لأي تشريع هو البحث عن مصدر هذا التشريع: من الذي يضعه ! ومن ذا يعتمده حني يصبح نافذ المفعول؟

لم يصل خبراء التشريع إلى إجابة عن هذا السؤال حني الآن.. ومن الصعب أن يجدوا:

لأنه لو أننا خولنا هذا الامتياز للحاكم، لمجرد كونه حاكما، فليس هناك أساس نظري وعلمي يجيز تمتعه- هو أو شركاؤه في الحكم- بذلك الامتياز.. ثم إن هذا التحويل من ناحية أخري لا يجدي نفعا ؛ فإن إطلاق أيدي الحكام ليصدروا أي شئ لتنفيذه ـ بوسيلة القوة ـ أمر لا تطيقه ولا تحتمله الجماهير.

ولو أننا خولنا سلطة التشريع لرجال المجتمع، فهم أكثر جهالة وحمقا ؛ لأن المجتمع- أي مجتمع- إذا نظرنا إليه ككل، لا يتمتع بالعلم والعقل والتجربة، وهي أمور لابد منها عند التشريع.. فهذا العمل يتطلب مهارة فائقة وعلما وخبرة، وهو ما لا تستطيع العامة من الجماهير الحصول عليه ؛ كما أنها وإن أرادت لن تجد الوقت الكافي لدراسة المشكلات القانونية وفهمها.

قال رجل منا: من السهل أن نقوم بحل وسط.

قال خبيب: ما هو؟

قال الرجل: أن يختار الشعب من يمثله.. ثم يصدر هؤلاء القوانين والتشريعات باسم الشعب.

ابتسم خبيب، وقال: من الممكن أن ندرك حماقة هذا الحل الوسط، حين نجد أن حزبا سياسيا لا يتمتع إلا بأغلبية 51% من مقاعد البرلمان يحكم علي حزب الأقلية الذي يمثل 49% من أفراد المجتمع البالغين.

والأدهى من هذا أن هذا الحل يحتوي على فراغ كبير جدا تنفذ منه (أقلية) لتحكم علي أغلبية السكان.. فالحكومة التي حكمت بلادنا قبل فترة([15]) قد وصلت إلى مقاليد الحكم عن طريق الانتخابات العامة التي أجريت في البلاد..  وقد فاز حزب (اليمين) فيها بنسبة 70% من مقاعد البرلمان في حين أن نواب هذا الحزب لم يحصلوا إلا علي 40% من أصوات الشعب في الانتخابات. وهذا هو ما حدث في الانتخابات التي أجريت قبل سنة، وحصل حزب الشمال في كلتيهما علي أقل من 50% من مجموع الأصوات! ولكنه رغم ذلك كان له الحق في تشكيل الحكومة، لأن أصوات الناخبين الأخرى كانت موزعة بين نواب الأحزاب (المعارضة)، ولم تكن بطولة حزب (الشمال) إلا في أنه أحرز أصواتا أكثر من أي حزب آخر علي حدة.

ولا أستثني من هذه القاعدة إلا الانتخابات المزعومة التي تجري في الأنظمة الشمولية، فيفوز زعماؤها بأرقام خيالية للأصوات!

وهكذا نقف مرة أخري أمام ظاهرة البحث عن أساس القانون ومصدره.

قال الرجل: إن هذا تحد حقيقي.. فهل استطاع الدين أن يواجهه؟

قال خبيب: أجل.. لقد رأيت الدين يستجيب لهذا التحدي الخطير، الذي قد يدمر سعادة البشرية كلها..  إنه يقول: إن مصدر (التشريع) هو (الله) وحده خالق الأرض والكون ؛ فالذي أحكم قوانين الطبيعة هو وحده الذي يليق أن يضع دستور حضارة الإنسان ومعيشته.. وليس هناك من أحد غيره سبحانه يمكن تخويله هذا الحق.

إن هذا الجواب معقول وبسيط لدرجة أنه يصرخ قائلا، لو استطعنا أن نسمع نداءه: هل هناك أحد غير الله سبحانه وتعالى يستطيع أن يسوى هذه المشكلة المصيرية؟

لقد وصلت بنا هذه الإجابة إلي مكانها الحقيقي من التشريع والمشرع ؛ بعد أن استحال علينا المضي خطوة ما في ظلام الضلالة عن الهدي الحقيقي.

أنه لا يمكن قبول إنسان حاكما ومشرعا للإنسان ؛ ولا يتمتع بهذا الحق إلا خالق الإنسان وحاكمه الطبيعي :الله.

قال رجل منا: وعينا هذا.. ووعينا الدور الذي يمكن أن يلعبه الدين فيها.. لكن التشريع لا يتوقف عند مصدره فقط..

قال خبيب: لقد بحثت في هذا أيضا.. وقد وجدت أن من أهم الأسئلة لدي علماء القانون تحديد عناصر التشريع.. هل هي كلها إضافية، أو أن هناك عنصرا أو عناصر أساسية في التشريع لا يمكن الاستغناء عنها في أي دستور عند تعديله، أو تجديده أو تغييره؟.

لم يستطع خبراء التشريع الوصول إلي اتفاق في هذا الصدد، رغم البحوث الطويلة التي أجريت في هذا الباب. وهم يسلمون نظريا بأنه لابد من عنصر في التشريع يتمتع بالدوام والأبدية، مع عناصر أخري تتصف بالمرونة، فيمكن الاستغناء عنها عند الضرورة.

ويرون أيضا أن افتقار الدستور إلي أحد العنصرين: (الأبدي والإضافي) سوف يكون مصدر شقاء دائم للبشرية. وقد عبر عن هذه الحالة أحد قضاة الولايات المتحدة الأمريكية، وهو القاضي كاردوزو بقوله: (من أهم ما يحتاج إليه التشريع اليوم: أن نصوغ له فلسفة للتوفيق بين الرغبات المتحاربة حول ثبات عنصر وتغير عنصر آخر)

والحق أنه لا يمكن التوصل إلي أساس يميز بين عناصر القانون الذي وضعه الإنسان بعضها وبعض، فكل عنصر يدعي أنه صالح للدوام يلزمه أن يقدم دليلا علي ذلك ؛ وهو عاجز تماما عن الإتيان بذلك الدليل ؛ فقد نري اليوم عنصرا من الدستور يصاغ بناء علي رغبات الشعب، فقد لا يعجبهم ذلك أو يرونه قد فقد صلاحيته بمضي الزمن.

قال رجل منا: فهل يوجد في التشريع الإسلامي التمييز بين العناصر الثابتة والمتطورة؟

قال: أجل.. ولا يوجد في جميع أديان الدنيا التمييز بينهما كما يوجد في الإسلام.. وسأشرح لكم هذا عند حديثنا عن سائر خصائص الشريعة الإسلامية.

قال الرجل: فحدثنا عن المزايا الأخرى للتشريع الرباني.. والتي جعلتك تفضله على التشريع البشري.

قال خبيب: هي كثيرة جدا.. لا يمكنني أن أذكرها لكم جميعا..

ابتسم، وهو يقول مشيرا إلى المشنقة: إن المشنقة تنتظرني، وهي مشتاقة لأن تلف حبلها على عنقي.. ولذلك لابد أن أختصر.. ولكن مع ذلك سأذكر لكم بعض الأمثلة مما وجدت الشريعة قد نجحت فيه في الوقت الذي أخفق فيه التشريع البشري بسبب عدم تقدس من يضعون هذا التشريع.

لقد عرف الدستور الذي وضعه الإنسان (الجريمة) بأنها (كل عمل يضر بالأمن العام أو نظام الحكم القائم)، فالتشريع الإنساني لا يجد أساسا غير هذا لاعتبار عمل ما جريمة.. وقد دفع هذا الأساس القانون البشري إلى إقرار أن جريمة (الزنا) ليست بجريمة، إلا إذا تمت جبرا أو إكراها لأحد الطرفين. فالقانون البشري ـ على هذا الاعتبار ـ لا يعتبر (الزنا) جريمة، وإنما الجريمة الحقيقية عنده هي الجبر والإكراه الذي سبق (الزنا)

وهذا مخالف لما جاء به الدين من اعتبار (الزنا) جريمة مطلقة.. وقد وجدت أن الدين أصدق في هذا الاعتبار من القانون.. فالزنا يحمل فسادا نفسيا واجتماعيا كبيرا.. فهو ينشئ مشكلات الأطفال غير الشرعيين، ويضعف روابط الزواج ؛ بالإضافة إلى كونه يصدر عن عقلية تفضل اللذات السطحية في الحياة، وتربي عقلا خائنا، وتخلق السرقة واللصوص، وتروج الاغتيالات والانتحار والخطف ؛ ومن ثم يفسد المجتمع كله.. ولكن القانون – رغم ذلك- لا يستطيع اعتباره جريمة لأنه لا يجد أساسا لتحريم (الزنا) الذي تم بالرضا المتبادل.

وهكذا بالنسبة للخمر.. لأن القانون يتصور أن الأكل والشرب حق من الحقوق الطبيعية للإنسان، وهو حر في اقتناء ما يريد أن يأكله ويشربه ؛ وليس للقانون أن يتدخل في حقوق الطبيعة، ومن ثم لم يكن شرب الخمر والسكر الذي يتبعه جريمة في الواقع، إلا إذا اعتدي شارب الخمر علي أحد المواطنين في هذه الحالة من السكر ؛ أو خرج إلي الشارع وهو سكران ؛ فالجريمة ليست هي حالة السكر بل الاعتداء علي الآخرين في تلك الحالة!

لكن الشريعة تخالف ذلك وتعتبر شرب الخمر جريمة تعاقب عليها.. وقد وجدت أنها في هذا أصلح للإنسان من القانون.. فالخمر تضر بالصحة، وتبدد أموال الناس، وتؤدي بمدمنيها إلي كوارث اقتصادية محققة، وتضعف الشعور الأخلاقي، حني إن الإنسان يتحول إلي حيوان رويدا رويدا.. والخمر خير مساعد للمجرمين، فهي تشل الإحساسات اللطيفة، حتى يستطيع الإنسان اقتراف أية جريمة من السرقة والقتل، وهدر العصمة..  ولكن القانون الإنساني رغم هذه المعايب الشنيعة لن يتمكن من تحريم الخمر، لأنه لا يجد جوابا يسوغ تدخله في حق من حقوق الإنسان الطبيعية([16])! !

التأثير:

قلنا: حدثتنا عن الركنين الأولين.. فحدثنا عن الثالث الذي جعلك تعتبر الربانية ركنا من أركان الشريعة.. وخاصة من خصائصها الأساسية.

قال: لقد عرفت من خلال أدلة واقعية كثيرة أن الشريعة الوحيدة التي تستطيع أن تؤثر في الناس هي الشريعة التي يفرضها إله قوي حاكم له سلطة على عباده، فهو يجازيهم إن أحسنوا، ويعاقبهم إن أساءوا.. وهو مع ذلك كله مطلع عليهم يعرف سرهم وعلانيتهم.

وهذا الذي عرفته يمكنكم أن تعرفوه جميعا.. وبسهولة ويسر..

فأنتم تعرفون أنه لو طرحت ـ مثلا ـ قضية أمام القانون، وتعمد الفريقان وشهودهما الكذب، فلم يتبين الصدق أمام القاضي.. فإن القاضي في هذه الحالة لن يتمكن من الحكم بالعدل مهما حاول.

ولذلك كان لابد من قانون آخر (وراء القانون) يحرك الناس، ويحملهم علي الإدلاء بالبيانات الصادقة للوصول إلي العدل.. وقد اعترفت جميع محاكم العالم بهذا المبدأ، حتى إنها تلزم كل شاهد أن يقسم بالله أن يقول الحق قبل الإدلاء بشهادته.. وهو دليل واضح علي أهمية المعتقدات الدينية، حتى أصبحت أيمان المحاكم أضحوكة، تقليدا لا يأتي بأي نفع.

ليس هذا فقط ما أريده بالركن الثالث، والذي أسميه عادة (التأثير)..

هناك شيء مهم تفتقر إليه أكثر القوانين.. وهو قناعة المتلقي بالقانون الذي يحكمه..

فمما لابد منه أن يكون أي (عمل) يعاقب عليه القانون (جريمة) في نظر المجتمع أيضا، وأي بند من قانون مكتوب لا يمكنه أن يوفر نفسية في المجتمع، ترى في عمل ما جريمة، كما يراه القانون ؛ فإن القانون يبقى قاصرا ضعيفا.. سيجد بسهولة من يحتال عليه.. ولا يعاتب نفسه في احتياله.

إذ لابد من أن يشعر مرتكب الجريمة بأنه (مذنب) ويعتبره المجتمع مذنبا..  ويقبض عليه رجال الشرطة بكل اقتناع، ثم يصدر قاضي المحكمة – وهو في غاية الاطمئنان- حكما ضد ذلك الرجل. ولذلك كان لابد أن تكون كل جريمة (ذنبا) أيضا..

وهذا الذي أقوله هو ما يراه أصحاب المدرسة التاريخية من رجال القانون، فهم ينصون على ( أن أي تشريع لن يصيب هدفه إلا إذا كان مطابقا للاعتقادات السائدة عند المجتمع الذي وضع له ذلك القانون، ولو لم يطابق التشريع اعتقادات المجتمع فلابد من فشله)

هذا الرأي الذي عبرت عنه (المدرسة التاريخية) لرجال القانون غير صائب في مغزاه الحقيقي الذي يرمي إليه إطلاقا، ولكن له مع ذلك محلا من الصدق في هذا الجانب الذي نتحدث عنه.

سكت قليلا، ثم قال: أنتم تشاهدون في الواقع مدى ضعف الروادع التي تحاول أن تحمي القانون..

ذلك أن خوف الشرطة والمحكمة لا يكفي لدرء الجرائم، وإنما لابد أن يكون هناك وازع في المجتمع يمنع الناس من ارتكاب الجرائم، لأن الرشاوى، والمحسوبيات، وخدمات المحامين البارعين، وشهود الزور.. كل هذه العوامل تكفي لحماية المجرم من أية شرطة أو محكمة إنسانية، والمجرم لا يرهب عقابا، أي عقاب، لو استطاع أن يفلت من أيدي القانون.

قال رجل منا: فكيف حلت الشريعة الربانية هذه المشكلة؟

قال: لقد توفر في الشريعة الإلهية الصحيحة كل دوافع التأثير.. فعقيدة (الآخرة)، التي يحملها الشرع الإلهي هي خير وازع عن ارتكاب الجرائم، وهي تكفي لتبقي إحساسا بالجريمة واللوم يعتمل في قرارة ضمير الإنسان لو أدلي بشهادة كاذبة أمام القاضي.

سكت قليلا، ثم قال: سأضرب لكم مثالا يقرب ذلك.. في هذا المثل صرع القانون بكل أجهزته.. لكن الشريعة انتصرت انتصارا لا تزال آثاره نشهدها إلى اليوم:

إنه الموقف من الخمر.. لاشك أن البشرية جميعا تدرك مضار الخمر.. وهي مضار لا تقل عن مضار المخدرات.. ولكنها مع ذلك لا تستطيع أن تتخذ أي موقف إيجابي تجاهها.

وسبب ذلك بسيط.. وهو أنها تعلم عجزها عن سن قوانين ترتبط بهذا..

لست أتكلم عن مسألة افتراضية.. وإنما أتكلم عن مسألة واقعية..

لقد عقد السيد الفاضل أحمد ديدات مقارنة بين انتشار الخمر بين المسلمين وانتشارها بين المسيحيين، فذكر أن جمهورية جنوب إفريقيا ذات الاقلية البيضاء، والتي تقدر بأربعة ملايين نسمة، من بين مجموع السكان البالغ عددهم أربعين مليون نسمة. بها حوالي ثلاثمائة ألف مدمن خمر، يسمونهم ( الكحوليين ).

وتظهر الاحصائيات أن عدد مدمني الخمر من الملونين في جنوب إفريقيا يوازي خمسة أضعاف عدد مدمني الخمر ضمن أي جنس آخر.

ومثله المبشر الانجليزي، جيمي سواجرت الذي كتب في كتاب له بعنوان (الخمر):( إن أمريكا بها أحد عشر مليون مدمن، وأربعة وأربعين مليون من المفرطين في شرب الخمر)

لا شك أن هذه إحصائيات قديمة.. وفي الواقع أكثر من ذلك بكثير.

قارن هذه الأعداد الضخمة بأعداد الذين يشربون الخمر من المسلمين..

فهم رغم بعدهم عن دينهم إلا أن الخمر والكثير من المحرمات لا تزال راسخة الحرمة في أذهانهم..

إنها منذ أنزل على نبيهم:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90)إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ(91)} (المائدة) وهم يجتنبون الخمر.. ويبتعدون عنها كل البعد.

أتدرون كيف فرض محمد هذا القانون.. قانون تحريم الخمر؟

لقد فرضه بالإيمان.. لم ينفق محمد صلى الله عليه وآله وسلم على ذلك درهما واحدا، بل كفاه عن كل ذلك تينك الآيتين.. لقد جعلتا كل القلوب تنفر من الخمر من غير شرطة لا قوانين ولا مصادرات.

فعن أبي سعيد قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول:( يا أيها الناس إن الله يبغض الخمر، ولعل الله سينزل فيها أمراً، فمن كان عنده شيء فليبعه ولينتفع به)، قال أبو سعيد: فما لبثنا إلا يسيراً، حتى قال:( إن الله حرم الخمر، فمن أدركته هذه الآية -يعني آية المائدة السابقة- وعنده منها شيء فلا يشرب ولا يبيع)، قال أبو سعيد: فاستقبل الناس بما كان عندهم منها طرق المدينة فسفكوها([17]).

وعن أنس قال: كنت أسقي أبا عبيدة وأبي بن كعب فجاءهم آت فقال: إن الخمر حرمت.. فقال أبو طلحة: قم يا أنس فأهرقها.. فأهرقها([18]).

قارنوا هذا بما فعلته  الولايات المتحدة الأمريكية عندما فكرت أن تحرم الخمر..

أنتم تعلمون أن الولايات المتحدة فكرت في يوم من الأيام في أن تحرم الخمر على شعبها لما رأت من أضرارها الشديدة على البناء الصحي والخلقي للمجتمع.. وقد فعلت المستحيل لأجل ذلك:

بدأت ـ أولا ـ بإصدار قانون([19]).. ولم يكن مجرد أمر ملكي أو منشور إمبراطوري، بل كان تشريعا جاء عن طريق برلمان في بلد ديمقراطي دستوري حر، فحوالي عام 1918ثارت المشكلة في الرأي العام الأمريكي. وفي عام 1919أدخل في الدستور الأمريكي تحت عنوان « التعديل الثامن عشر »، وفي نفس السنة أيد هذا التعديل بأمر حظر، أطلق عليه التاريخ قانون (فولستد).

ولم يكتفوا بالقانون، بل جيشوا كل جيوشهم لتطبيقه، فجند الأسطول كله لمراقبة الشواطئ، منعاً للتهريب، وجند الطيران لمراقبة الجو، وشغلت أجهزة الحكومة، واستخدمت كل وسائل الدعاية والإعلام لمحاربة الخمر، وبيان مضارها وجندت كذلك المجلات والصحف والكتب والنشرات والصور والسينما والأحاديث والمحاضرات وغيرها.

ويقدر ما أنفقته الدولة في الدعاية ضد الخمر بما يزيد على ستين مليوناً من الدولارات، وأن ما أصدرته من كتب ونشرات يبلغ عشرة ملايير صفحة، وما تحملته في سبيل تنفيذ قانون التحريم -في مدة أربعة عشر عاماً_ لا يقل عن مائتين وخمسين مليون جنيه، وقد أعدم في هذه المدة ثلاثمائة نفس، وسجن 532،335 نفس، وبلغت الغرامات ستة عشر مليون جنيه، وصادرت من الأملاك ما بلغ أربعمائة مليون وأربعة ملايين جنيه.

ولكن الأمريكيين لم يزدادوا إلا غراماً بالخمر، وعناداً في تعاطيها، حتى اضطرت الحكومة سنة 1933الى إلغاء هذا القانون، وإباحة الخمر إباحة مطلقة.

الشمول

قلنا: حدثتنا عن الركن الأول.. فحدثنا عن الركن الثاني.

قال: أرأيتم لو أن طباخا ماهرا.. تفنن في نوع من أنواع الأطعمة.. بحيث صرف من يأكل عنده عن كل طعام إلا عن طعامه.. وكان ذلك الطعام لا يحتوي إلا على سكريات لذيذة.. مندمجة في وسط مشبع بالدهون.. هل ترون من يقتصر على طعامه محسنا أو مسيئا؟

قال رجل منا: أنا طبيب.. وأنا أدرى الناس بجوابك..

ابتسم خبيب، وقال: الحمد لله.. فأنت أولى الناس بالحديث في هذا.

قال الرجل: إن من يقتصر على ما ذكرت من الأطعمة سيصاب لا محالة بنقص التغذية.

قال خبيب: ولكنه يأكل طعاما كثيرا..

قال الرجل: ولو أكل في جفنة كالجفنة التي قال فيها الأعشى ميمون بن قيس:

تَرُوحُ عَلَى آل المَحَلَّق جَفْنَةٌ    كَجَابِيَة الشَّيخ العِراقي تَفْهَق

أو كتلك الجفنة التي قال فيها القرآن الكريم عن ملك سليمان u :{ يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ} (سـبأ: 13)

قال خبيب: لم كان الأمر كذلك؟

قال: لأن أي شخص يفتقر غذاؤه بشدة إلى أي عنصر غذائي يقال إنه سيئ التغذية.. وقد يتوافر لبعض الناس سيئي التغذية كمية وفيرة من الغذاء، لكنهم يختارون تناول أطعمة لا تمد الجسم بجميع العناصر الضرورية.. وبعضهم يتعرض لمشاكل صحية لأنهم يأكلون بنهم، ويصبح وزنهم زائدًا على المسموح به.

قال خبيب: فما الحل الذي ينبغي لمن وقع في هذا الفقر الغذائي أن يفعل؟

قال الرجل: ينبغي لمن وقع في مثل هذا أن يبحث عن غذاء معتدل متوازن شامل لكل احتياجاته الغذائية.

قال ذلك، ثم التفت إلى خبيب، وقال: لم تسأل عن هذا؟

قال خبيب: ليت البشر الذين عرفوا حاجات الجسم.. عرفوا حاجات الروح والنفس والعقل والقلب.. وحاجات المجتمع بعد ذلك.

قلنا: لم؟

قال: حتى يتجنبوا الوقوع فيما يقع فيه الجسد إن لم يتكامل غذاؤه.. ألم تسمعوا ما ذكر الطبيب من تأثير نقص التغذية على الجسم؟

قلنا: بلى.

قال: إن كل ما ذكره هو نقص تغذية الجسم.. وليس بالجسم وحده يعيش الإنسان.

قلنا: فبم يعيش؟

قال: للإنسان لطائف كثيرة([20]).. هو كجهاز معقد تحتاج كل دارة فيه إلى نوع من أنواع الكهرباء.. ولذلك لا يمكن أن يتعامل معه إلا الخبير العارف بحاجاته جميعا.

قلنا: فمن هو ذاك؟

قال: ربه.. ربه الذي خلقه هو أدرى الناس بحاجاته.. ولذلك يسدها جميعا.

قلنا: أهذا ما تسميه الشمول؟

قال: أجل.. لقد بحثت في هذا.. فتشت جميع دواوين الدنيا من الكتب المقدسة.. والكتب التي كتبها المفكرون والفلاسفة ورجال القانون.. فلم أر في تلك الأسفار جميعا ما يغطي جميع احتياجات الإنسان الدقيق والجليل منها كما وجدته في شريعة الإسلام.. لقد رأيت جميع تلك الأديان والمذاهب في أحسن أحوالها لا تعدو أن تكون كذلك الطباخ الذي يقتل الناس بإطعامهم صنفا واحدا.

قلنا: فحدثنا عن شمولية الإسلام.

قال: إن الرسالة التي جاء بها محمد صلى الله عليه وآله وسلم هي الرسالة الوحيدة التي خاطبت العالم أجمع.. فلم تقتصر في خطابها من أول يوم على أمة من الأمم أو عرق من الأعرق أو بلد من البلدان..

لقد قال المسيح معبرا عن خصوص رسالته لشعب إسرائيل: (لم أرسل إلا إلى خراف بيت إسرائيل الضالة)(متى 15 / 24)

بينما نجد القرآن الكريم يقول عن رسالة محمد صلى الله عليه وآله وسلم :{ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ } (الانبياء:107).. إن هذه الآية صريحة في التوجه العالمي لرسالة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.

وفي القرآن :{ قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } (لأعراف:158)

وفيه :{ تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً } (الفرقان:1)

وفيه :{ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ } (الأنعام: 90)

وفيه :{  إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ } (صّ:87)

وفيه :{ وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ } (القلم:52)

ولهذا أثنى الله على أمة الإسلام في كتابه حين خاطبها فقال:{ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ }  (آل عمران: 110)

وقد وجدت بالبحث المستفيض الشامل أن رسالة الإسلام هي الرسالة الوحيدة التي استوعبت حاجات الإنسان جميعا.. فهي ليست رسالة لعقل الإنسان دون روحه، ولا لروحه دون جسمه، ولا لأفكاره دون عواطفه، ولا عكس ذلك.. إنها رسالة الإنسان كله: روحه وعقله، وجسمه، وضميره، وإرادته ووجدانه.

وقد لاحظت أن العبادة في الإسلام تستوعب الكيان البشري كله:

فقد سئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:  أي الأعمال أفضل؟ قال: الإيمان بالله، والجهاد في سبيله قلت: أي الرقاب أفضل؟ قال: أنفسها عند أهلها، وأكثرها ثمناً، قلت: فإن لم أفعل؟ قال: تعين صانعاً أو تصنع لأخرق، قلت: يا رسول الله أرأيت إن ضعفت عن بعض العمل؟ قال: تكف شرك عن الناس فإنها صدقةٌ منك على نفسك([21]).

وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (يصبح على كل سلامى من أحدكم صدقةٌ، فكل تسبيحةٍ صدقةٌ، وكل تحميدةٍ صدقةٌ، وكل تهليلةٍ صدقةٌ، وكل تكبيرةٍ صدقةٌ، وأمرٌ بالمعروف صدقةٌ، ونهيٌ عن المنكر صدقةٌ. ويجزيء من ذلك ركعتان يركعهما من الضحى)([22])

وقال: ( عرضت علي أعمال أمتي حسنها وسيئها، فوجدت في محاسن أعمالها الأذى يماط عن الطريق، ووجدت في مساويء أعمالها النخاعة تكون في المسجد لا تدفن)([23])

وقال: ( كل سلامى من الناس عليه صدقةٌ كل يومٍ تطلع فيه الشمس: تعدل بين الاثنين صدقةٌ، وتعين الرجل في دابته، فتحمله عليها، أو ترفع له عليها متاعه صدقةٌ، والكلمة الطيبة صدقةٌ، وبكل خطوةٍ تمشيها إلى الصلاة صدقةٌ، وتميط الأذى عن الطريق صدقةٌ) ([24])

وقال : ( يا نساء المسلمات لا تحقرن جارةٌ لجارتها ولو فرسن شاةٍ) ([25])

وقال: (الإيمان بضعٌ وسبعون، أو بضعٌ وستون شعبةً: فأفضلها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبةٌ من الإيمان) ([26])

وجاءه ناس، فقالوا: يا رسول الله، ذهب أهل الدثور بالأجور، يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون بفضول أموالهم قال: أو ليس قد جعل الله لكم ما تصدقون به: إن بكل تسبيحةٍ صدقةً، وكل تكبيرةٍ صدقةً، وكل تحميدةٍ صدقةً وكل تهليلةٍ صدقةً، وأمرٌ بالمعروف صدقةٌ، ونهيٌ عن المنكر صدقةٌ، وفي بضع أحدكم صدقةٌ، قالوا: يا رسول الله أيأتي أحدنا شهوته، ويكون له فيها أجرٌ؟! قال: أرأيتم لو وضعها في حرامٍ أكان عليه وزرٌ؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجرٌ([27]).

وقال: لقد رأيت رجلاً يتقلب في الجنة في شجرةٍ قطعها من ظهر الطريق كانت تؤذي المسلمين([28]).

وقال: ( كل معروفٍ صدقةٌ)([29])

وقال: ( ما من مسلمٍ يغرس غرساً إلا كان ما أكل منه له صدقةً، وما سرق منه له صدقة، ولا يرزؤه أحدٌ إلا كان له صدقةً)([30])

وقال: ( إن الله ليرضى عن العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها، أو يشرب الشربة فيحمده عليها)([31])

قال رجل منا: فكيف يتجلى شمول الإسلام في الأخلاق؟

قال: لقد لاحظت من خلال البحث المستفيض في الأديان والفلسفات والمذاهب أن الأخلاق في الإسلام هي الأخلاق الوحيدة التي لم تدع جانبا من جوانب الحياة الإنسانية: روحية أو جسمية، دينية أو دنيوية، عقلية أو عاطفية، فردية أو اجتماعية.. لذلك لخص رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رسالته بأنها رسالة أخلاقية.. فقال : (إنَّما بُعِثتُ لأُتممَ مكارمَ الأخلاق)([32])

واعتبر أن أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم أخلاقا، فقال : ( (أكمل المؤمنين إيمانا، أحسنهم خلقا)([33])

وقال: (حسن الخلق يذيب الخطايا كما تذيب الشمس الجليد)([34])

وقال: (حسن الخلق، خلق الله الأعظم)([35])

وقال: (حسن الخلق نصف الدين)([36])

وقال: ( إن الرجل ليدرك بحسن الخلق درجة القائم بالليل، والظامىء بالهواجر)([37])

وقال: ( إن الرجل المسدد ليدرك درجة الصوام القوام بآيات الله، بحسن خلقه وكرم سريرته)([38])

وقال: ( ما من شيء يوضع في الميزان أثقل من حسن الخلق، فإن صاحب الخلق ليبلغ به درجة صاحب الصوم والصلاة)([39])

وقال: ( أول ما يوضع في الميزان، الخلق الحسن)([40])

وقال: ( ليس شيء أثقل في الميزان من الخلق الحسن)([41])

وقال: (  ألا أخبركم بمن تحرم عليه النار غدا؟ على كل هين لين قريب سهل)([42])

وقال: ( خير ما أعطي الناس خلق حسن)([43])

وقال: (  أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم أخلاقا، الموطئون أكنافا، الذين يألفون ويؤلفون، لا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف)([44])

وقال: (  إن الله يحب معالي الأخلاق، ويكره سفاسفها)([45])

وقال: (  إن العبد ليبلغ بحسن خلقه أعظم درجات الآخرة وشرف المنازل، وإنه لضعيف العبادة، وإنه ليبلغ بسوء خلقه أسفل دركات جهنم وإنه لعابد)([46])

وقال: ( إن أحبكم إليّ وأقربكم مني في الآخرة مجالس محاسنكم أخلاقا، وإن أبغضكم إليّ وأبعدكم مني مساوئكم أخلاقا الثرثارون المتفيهقون المتشدقون)([47])

ولم يكتف الإسلام بالتوجيهات العامة.. بل وصف وصفا دقيقا فروع الأخلاق وتفاصيلها.. بل كيفية تحصيبلها، وضوابط كل ذلك مما لم تبلغه جميع المدارس الأخلاقية في العالم جميعا.

الواقعية

قلنا: حدثتنا عن الركن الثاني.. فحدثنا عن الركن الثالث.

التفت إلي مبتسما، وقال: لا شك أنك رجل دين..

قلت: أجل.. وهل هناك حرج من كوني كذلك؟

قال: لا حرج عليك.. لقد كنت مثلك.. كنت أعلق على رقبتي الصليب.. وكنت ألبس طيالسة الأحبار.. ولكني عندما التمست أن أدعو لتطبيق الشريعة التي جاءت في الكتاب المقدس وجدتني عاجزا تمام العجز..

قلت: وما المعجز فيها؟

قال: اقرأ على هذا الجمع المبارك ما ورد في الشريعة من الأحكام المرتبطة بالبرص.. أم أنك لا تحفظ ما ورد في ذلك؟

قلت: أنا أحفظ ذلك.. وسأردد عليك بعض ما ورد من ذلك.. لقد جاء في (سفر الللاويين: 13: 45 ):( وعلى المصاب بداء البرص أن يشق ثيابه ويكشف رأسه ويغطي شاربيه، وينادي: (نجس! نجس!). ويظل طول فترة مرضه نجسا يقيم وحده خارج المخيم معزولا )

ثم التفت إليه، وقلت: أهذا ما تريد.. أهذا ما أزعجك من الكتاب المقدس.. ما أسهل أن يطبق هذا الحكم لمن أراد أن يطبقه.

قال: ليس هذا فقط ما ورد.. هناك أشياء أخرى.. سأعفيك من قراءتها.. سأقرؤها أنا بدلك.. لقد جاء في (اللاويين: 14: 35) فيما إذ اشتبه أهل المنزل في مرض منزلهم بالبرص:( يأتي صاحب البيت ويخبر الكاهن أن داء البرص قد يكون متفشيا بالبيت، فيأمر الكاهن بإخلاء البيت قبل أن يدخل إليه لئلا يتنجس كل ما في البيت، ثم يدخل الكاهن البيت ليفحصه. فإذا عاين الإصابة ووجد أن في حيطان البيت نقرا لونها ضارب إلى الخضرة أو إلى الحمرة، وبدا منظرها غائرا في الحيطان، يغادر الكاهن البيت ويغلق بابه سبعة أيام. فإذا رجع في اليوم السابع وفحصه، ووجد أن الإصابة قد امتدت في حيطان البيت، يأمر الكاهن بقلع الحجارة المصابة وطرحها خارج المدينة في مكان نجس، وتكشط حيطان البيت الداخلية، ويطرحون التراب المكشوط خارج المدينة في مكان نجس )

التفت إلى الجمع، وقال: تصوروا لو أن الكنيسة أصدرت مثل هذا القرار.. وأن هذا الحكم طولب بتطبيقه في مدننا التي تصاب بالبرص.. ما الذي سيحصل؟

إن هذا كلام يقرؤه مئات الملايين من المسيحيين في العالم، ويترجمونه إلى لغاتهم المختلفة!؟

تصوروا لو أن هذا الكلام يقرؤه الأطباء والصيادلة والعلماء على اعتباره كلاما لله.. فأي فائدة سيجنونها من المعرفة بالله، وهم يرونه يحدثهم عن أمور يضحك منها أبسط شخص منهم!؟

ألا ترون أن في هذا الكلام استغلالا خطيرا لا يختلف عن استغلال الكهان والعرافين والسحرة.. إن هذا الأبرص المسكين مكلف بكل التكاليف الثقيلة.. بالعصافير الحية.. وبالكبشين الصحيحين.. وبالنعجة الحولية.. وبالزيت.. وبالعجين..

قلت: ولكن كل هذا منسوخ في المسيحية.. ألم تسمع بما فعل بولس؟

قال: أجل.. لقد نسخ الشريعة.. ولكنه خالف المسيح بذلك.. لأن المسيح قال:( لا تظنوا أني جئت لانقض الناموس أو الأنبياء ما جئت لانقض بل لأكمل)(متى 17:5).. ومع ذلك، فإني إبان مسيحيتي كنت أميل إلى بولس مني إلى المسيح.. أتدري لم؟

قلت: لم؟

قال: لأن بولس ـ على الأقل ـ كان واقعيا.. لقد رأى أن الشريعة التي يختزنها الكتاب المقدس.. شريعة أقرب إلى الخيال منها إلى الواقع.. إنها شريعة تجعل الإنسان يبحث عما لا يجديه نفعا.

ابتسم، وقال: لست أدري هل وجد أولئك الأغبياء البقرة الحمراء التي نص عليها الكتاب المقدس أم لا([48]).

قلت: إن لديك سوء فهم للمسيحية.. فالمسيحية التي جاء بها المسيح تعرفها من خلال العهد الجديد لا من خلال العهد القديم..

ابتسم، وقال: أما أنا فقد فهمت المسيحية من خلال العهد الأخير.. لا من خلال العهدين السابقين جميعا.. فالعهد الأخير هو الذي وضح كل الأمور.. ووضع جميع النقاط على حروفها.

قلت: لم أسمع بشيء اسمه العهد الأخير.

قال: إنه رسالة الإسلام.. إنها عهد الله الأخير والخاتم إلى عباده..

لن أحدثك في هذا.. فلعلك سمعت في حياتك من حدثك عنه.. ولكن أجبني.. هل يمكن أن يطبق واقعيا ما نصحنا به المسيح؟

قلت: أي نصيحة تريد؟

قال: لقد نصحنا بأن نحب أعداءنا، وأن نبارك لاعنينا.. لقد قال لنا المسيح:( لا تقاوموا الشر، بل من لطمك على خدك الأيمن فحوّل له الآخر أيضاً. ومن أراد أن يخاصمك ويأخذ ثوبك فاترك له الرداء أيضاً )(متى5: 38)

ألا ترى أن هذه النصيحة مثالية؟

قلت: ولكنها ممكنة التطبيق..

قال: أجل.. هي ممكنة التطبيق.. وقد جاء في الإسلام الدعوة لمثلها.. ولكن الفرق بينهما أن الإسلام جاء بها بصورة واقعية.

قلت: كيف؟

قال: لقد جاء في القرآن :{ وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ } الشورى: 40)..فهذه الآية ذكرت العدل والفضل، حتى لا يعول المجرم على الفضل، فيقدم على إجرامه.

وذكر القرآن مع ذلك الفضل المحض المصحوب بالترغيب العظيم، قال تعالى :{ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } (النور: 22)

هذا هو الدين الواقعي الذي يضع لك المراتب المختلفة.. المراتب الواقعية والمثالية لتعمل بحسب طاقتك.

التفت إلي، وقال: ماذا قال المسيح في غض البصر؟

قلت: لقد قال في (إنجيل متى: 18 / 8 ): ( فإن أعثرتك يدك أو رجلك فاقطعها وألقها عنك.. خير لك أن تدخل الحياة أعرج أو أقطع من أن تلقى في أتون النار الأبدية ولك يدان أو رجلان.. وإن أعثرتك عينك فاقلعها وألقها عنك خير لك أن تدخل الحياة أعور من أن تلقى في جهنم ولك عينان)

قال: هل ترى أنه من الممكن أن يطبق مثل هذا؟

قلت: أجل.. يمكن ذلك.. وقد حصل ذلك فعلا.. ففى تاريخ الكنيسة قصص لأناس مثل سمعان الخزاز  وأورجانيوس.. لقد قال القمص تادرس يعقوب فى تفسيره 🙁 فإن كنا بالروح القدس النارى نعرف كيف نقدم أيدينا العثرة لصليب يسوع المسيح فتبتر لا نبقى بلا يدين إنما يصير المسيح نفسه يدينا العاملتين، وكذلك الرجلين نقدمهما بالروح القدس لصليب ربنا يسوع لبترها، ونلبس السيد نفسه ذى القدمين النحاسيتين حتى نعبر إلى حضن أبيه ونحن فى أمان روحى وسلام فائق) 

قال: أنا أوافقك في كل ذلك.. لقد كان هذا.. ولكن هل هذا التشريع واقعي؟.. تصور لو أن كل البشر فعلوا ما طلبه المسيح.. هل ستبقى الحياة على الأرض؟

سكتُّ، فقال: قارن هذا بما ورد في نصوص المسلمين المقدسة.. لقد أمر بغض البصر.. ولكن لم يؤمر بقلع البصر.. لقد قال الله تعالى يدعو إلى هذا :{  قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30)} (النور)

وفي حال الوقوع في الخطيئة شرعت الشريعة التوبة.. لا قلع البصر..

فشريعة الله لم تفترض في المؤمنين المتقين أن يكونوا ملائكة لا تسول لهم أنفسهم سوءا.. كلا إن الإنسان جمع بين الطين نفخة الروح، فليس بمستنكر أن يذنب، ثم يتوب.. إنما المنكر أن يتمادى في الذنوب ويستمرئ الرذيلة.. لقد أذنب آدم ـ أبو البشر ـ وتاب فتاب الله عليه، فلا غرابة أن يكون بنوه مثله، لهذا جعل القرآن من أصناف المتقين :{ وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ } (آل عمران:135)

كما فرق القرآن بين كبائر الإثم وفواحشه، وبين صغائر السيئات ولمم الذنوب التي قلما يسلم منها أحد، فهي في دائرة المسامحة والغفران ما اجتنبت الموبقات.. قال تعالى :{ إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً } (النساء:31)

قال رجل من الجمع: وعينا كل هذا.. ولكن الذي يحيرنا هو: كيف تستطيع شريعة جاءت قبل أكثر من أربعة عشر قرنا أن تحكم البشر بعد كل هذه المدة..

إن هناك قضايا كثيرة مستجدة جعلت من إنسان هذا العصر إنسانا مختلفا عن سائر العصور.. فكيف استطاعت شريعة الإسلام أن تحتفظ بواقعيتها مع كل هذه التطوات؟

ابتسم خبيب، ثم قال: أرأيت لو أن هناك موعظة وردتك من آلاف السنين.. وكان فيها مثل هذه الأوامر : ( كل واشرب ولا تسرف.. لا تأكل ما يضر بصحتك.. نظم مواقيت أكلك.. احرص على ما ينفعك، ودع ما يضرك)

هل يمكن لشخص تخاطبه بها أن يقول لك: إن هذه الأوامر قد وضعت للبشر الذين عاشوا قبل آلاف السنين.

قال الرجل: مجنون من يقول ذلك.. فالبشر في كل أزمنهم يمكن أن يطبقوا تلك الأوامر.. فهي أوامر لا ترتبط بزمن دون زمن.. وليس هناك بشر أولى بها من بشر.

قال خبيب: ولو وردتك وصية أخرى.. من نفس ذلك الزمن.. أو بما هو أبعد منه بكثير.. تقول([49]) : (في شهر يناير تشرب شراباً شديدياً كل غداة. وفي شهر فبرير لا تأكل السلق. وفي مارس لا تأكل الحلواء كلها وتشرب الأفسنتين في الحلاوة. وفي أبريل لا تأكل شيئاً من الأصول التي تنبت في الأرض ولا الفجل. وفي مايه لا تأكل رأس شيء من الحيوان. وفي يونيه تشرب الماء البارد بعد ما تطبخه وتبرده، على الريق. وفي أغشت لا تأكل الحيتان. وفي سبتمبر تشرب اللبن البقري. وفي أكتوبر لا تأكل الكراث نيئاً ولا مطبوخاً. وفي نبنبر لا تدخل الحمام. وفي دجنبر لا تأكل الأرنب)

هل يمكن لشخص تخاطبه بمثل هذا أن يقول لك: إن هذه الأوامر قد وضعت لبشر قبلنا.. ولست ملزما بما فيها.. لأنها منطلقة من ثقافة عصرها المحدودة.. وهناك فرق كبير بيننا وبينها؟

قال الرجل: صدق هذا في قوله.. وأنا لو عرض لي ما عرض له ما عدوت ما قال.

قال خبيب: أتدري ما الفرق بين القولين؟.. ولم كان أحدهما مصحا، والآخر مخطئا؟

قال الرجل: أجل.. ذلك واضح.. فالأول تحدث عن قضايا لا تختلف فيها العصور.. وأما الثاني، فحدث عن قضايا يصيبها الخلاف ويمسها التطور.

قال خبيب: ففي حياة الإنسان إذن دائرتان: دائرة التطور.. ودائرة الثبات([50]

قال الرجل: يمكنك أن تقول ذلك..

قال خبيب: ولكل دائرة نوع الخطاب المرتبط بها؟

قال الرجل: ذلك صحيح..

قال خبيب: إن هذا هو سر خلود الشريعة الإسلامية.. وهو نفسه سر واقعيتها..

قال الرجل: كيف ذلك؟

قال خبيب: قبل أن أذكر لك كيف ميز الإسلام بين الثوابت والمتطورات أحب أن أذكر لك بأني بحثت في تعامل الأديان والفلسفات مع هذا.. فوجدت العجب العجاب..

التفت إلي، وقال: لقد رأيت الكنيسة ـ في عصر من عصورها ـ تأثرت بالفكر الإغريقي في ميادين العلم والفلسفة، لا سيما آراء أرسطو وبطليموس.. ورأيتها قد بذلت كامل جهدها في التوفيق بين معتقداتها الدينية وآرائها الفلسفية.. ونشأ عن ذلك فلسفة مركبة تسمى (الفلسفة المسيحية)، وهي خليط من نظريات الإغريق وظواهر التوراة والأناجيل وأقوال القديسين القدامى، ولما كان العلم والفلسفة في ذلك العصر شيئاً واحداً، فقد أدمج الفلاسفة المسيحيون في صرح فلسفتهم كل ما وصل إليه العلم البشري في عصرهم من النظريات الكونية والجغرافية والتاريخية، ورأت الكنيسة في هذه الفلسفة التوفيقية خير معين على الدفاع عن تعليمها ضد المارقين والناقدين، فتبنتها رسمياً وأقرتها مجامعها المقدسة حتى أضحت جزءاً من العقيدة المسيحية ذاتها وامتدت يد التحريف فأدخلت بعض هذه المعلومات في صلب الكتب الدينية المقدسة([51]).

لقد تبنت الكنيسة آراء أرسطو في الفلسفة والطب ونظرية العناصر الأربعة ونظرية بطليموس في أن الأرض مركز الكون.. وما أضاف إلى ذلك كله القديس أوغسطين وكليمان الإسكندري وتوما الاكويني.. واعتبرت هذا المزيج من الآراء البشرية أصولاً من أصول الدين المسيحي وعقائد مقدسة لا يصح أن يتطرق إليها الشك.

وقد كانت هذه العلوم المسيحية تشتمل على معلومات تفصيلية عن الكون.. تذكر بأن الله خلق العالم ابتداء من سنة 4004 ق.م، وتوج ذلك بخلق الإنسان في جنة عدن على مسيرة يومين من البصرة بالضبط، والعجيب أنها ظلت مصرة على هذا الرأي حتى مطلع القرن التاسع عشر، فقد طبع كتاب الأسقف (آشر) الذي يحمل هذه النظرية سنة 1779 م ([52]).

ومن الطريف أن مجلساً كنسياً كان قد أعلن في بداية القرن العاشر للميلاد أن القرن الأخير من حياة العالم قد استهل، لأن الله قد جعل المدة بين إنزال ابنه ونهاية العلم ألف سنة فقط([53]).

هذه بعض معلوماتها التاريخية..

أما معلوماتها الطبية، فقد كانت أفضل وأنجح الوسائل العلاجية في نظرها إقامة الطقوس لطرد الشياطين التي تجلب المرض، ورسم إشارة لصليب ووضع صور العذراء والقديسين تحت رأس المريض ليشفي.

ولم تكتف الكنيسة بأن تتبنى هذه المعلومات التي وضح خطأ أكثرها بعد النهضة العلمية.. بل إنها راحت تدافع عنها.. وتستخدم الدين في دفاعها..

وقد حصل بسبب ذلك، ذلك الفصام الذي تعرفون بين العلم والدين..

لقد راحت السلطة الكنسية في ذلك الحين تعلن حالة الطوارئ ضد العلماء والباحثين الذين هداهم علمهم وبحثهم إلى الاختلاف مع الكنيسة..

وقد شكلت لأجل ذلك محاكم التفتيش في كل مكان تتصيدهم وتذيقهم صنوف النكال.. وأصدرت منشورات بابوية جديدة تؤكد العقائد السابقة وتلعن وتحرم مخالفيها.. وبذلك قامت المعركة بين الكنيسة والعلم، وأخذت تزداد سعاراً بمرور الأيام.

أتدرون ما الذي جعل الكنيسة تصر على تلك الآراء كل ذلك الإصرار؟

لقد رأت الكنيسة أن الأرض يجب أن تكون مركز الكون الثابت لأن الأقنوم الثاني.. الذي هو المسيح.. تجسد فيها، وعليها تمت عملية الخلاص والفداء، وفوقها يتناول العشاء الرباني.

وأضافوا إلى هذا ما فهموه من قول التوراة:( الأرض قائمة إلى الأبد، والشمس تشرق والشمس تغرب وتسرع إلى موضعها حيث تشرق)  (انظر: سفر الجامعة:1/ 5-6 )

أما كروية الأرض وسكنى جانبها الآخر، فنفتها الكنيسة بحجة أن (من خطل الرأي أن يعتقد الإنسان بوجود أناس تعلو مواطئ أقدامهم على رؤوسهم وبوجود نباتات وأشجار تنمو ضاربة إلى أسفل، وقالت إنه لو صح هذا الزعم لوجب أن يمضي المسيح إلى سكان الوجه الآخر من الأرض ويموت مصلوباً هناك من أجل خلاصهم »([54]

سكت قليلا، ثم قال: لقد اصطدمت هذه الآراء التي تتنافى مع الواقع كما تصطدم نظيراتها من الآراء.. فلم يكد القرن السابع عشر يستهل حتى كان لنظرية كوبرنيق وما أضاف إليها برونو وجاليلو آثار واسعة، ظلت راسخة في الفلسفة الأوروبية عامة.

وذلك ما أحدث أثرا خطيرا في ثقة الجماهير بالكنيسة جعلتهم يشكون في سلامة معلوماتها، وهو أثر له أهميته القصوى.

لقد قدم ذلك الصراع إيحاءات فلسفية جديدة، هزت فكرة الثبات المطلق التي كانت مسيطرة على العقلية الأوربية وحطت كذلك من قيمة الإنسان ومكانته في الوجود.

والأخطر من ذلك كله هو ما حصل من ثورة العلماء على الكنيسة كما ثار العامة عليها.. وتولد من تلك الثورة جاهلية جديدة فصلت العلم عن المبادئ والمثل([55]).

التفت إلى الجمع، وقال: إن الجنوح عن الواقع لم يكن مختصا بالكنيسة.. لقد رأيت في كثير من قوانين العالم ما يملؤك بالغثاء..

سأضرب لكم مثالا على ذلك.. إنه عن معاقبة الحيوان إذا ارتكب جريمة..

ضحكنا جميعا، فقال: لم تضحكون؟

قال رجل منا: لأن الجريمة مختصة بالعقلاء المكلفين.. أما الحيوان المسكين.. فليس له عقل.. وليس أي قوانين من القوانين التي تحكمنا.

قال خبيب: ومع ذلك.. فقد بحثت في هذا في شرائع الأمم وقوانينها عندما كنت أبحث عن واقعية الشرائع.. وقد رأيت من العجائب أن أكثر الشرائع كانت تعتبر الحيوانات جناة، وكانت تقيم عليهم لذلك ما تراه لها أهواؤها من العقوبات:

فشرائع اليهود ـ مثلا ـ تقرر وجوب رجم الثور إذا نطح رجلاً فقتله.. لقد نص سفر الخروج على أنه: (إذا نطح ثور رجلا أو امرأة، وأفضى ذلك إلى موت النطيح، وجب رجم الثور، وحرم أكل لحمه) (الخروج :21).. إن هذا النص صريح في اعتبار الثور أهلاً لاحتمال المسئولية الجنائية، وفي اعتبار رجمه جزاءً بالمعنى القانوني الدقيق لكلمة الجزاء، وقد تولدت مسئوليته تلك من جرم أحدثه ووقعت نتائجه عليه وحده.

وعند اليونان وجدت محاكمات خاصة للحيوانات في شرائع اليونان القديمة، ذكر فيها أفلاطون في (القوانين) أنه إذا قتل حيوان إنسانًا كان لأسرة القتيل الحق في إقامة دعوى على الحيوان أمام القضاء، وفي حالة ثبوت الجريمة على الحيوان، يجب قتله قصاصًا.

وفي القرون الوسطى كانت فرنسا أول أمة أوروبية أخذت في القرن الثالث عشر بمبدأ مسئولية الحيوان ومعاقبته بجرمه أمام محاكم منظمة.. ثم أخذت بذلك (سردينيا)، ثم بلجيكا في أواخر القرن الخامس عشر الميلادي، وفي هولندا وألمانيا وإيطاليا في منتصف القرن السادس عشر الميلادي.. وظل العمل به قائمًا عند بعض الشعوب حتى القرن التاسع عشر الميلادي.

كانت محاكم الحيوان عند الأوروبيين تقوم على ادعاء المجني عليه أو النيابة العامة، ثم يتقدم وكلاء الدفاع عن الحيوان المجرم، وقد تقضي المحكمة بحبس الحيوان احتياطيًا، ثم يصدر الحكم بعد ذلك، وينفذ على ملأ من الجمهور، كما كان ينفذ على الإنسان. وقد يكون الحكم بإعدام الحيوان رجمًا، أو بقطع رأسه أو بحرقه، أو بقطع بعض أعضائه قبل إعدامه.

ضحكنا.. فقال: لا تظنوا أن هذه المحاكمات كانت هزلية للتسلية، بل كانت جدية تمامًا، بدليل ما يرد للأسباب الموجبة للحكم على الحيوان من مثل قولهم: (يُحكم بإعدام الحيوان تحقيقًا للعدالة)، أو(يُقضى عليه بالشنق جزاء لما ارتكبه من جرم وحشي فظيع)..

سكت قليلا، ثم قال: ليست هذه الممارسات الجائرة مع الحيوانات في تاريخهم القديم والوسيط فقط، بل ما زالت مستمرة إلى الآن في بعض أقطارهم، وليس أدل على ذلك من استمرار المسابقات الوحشية، المعروفة بمصارعة الثيران.. تلك المسابقات التي يجتهد فيها المصارع أن يقتل الثور تدريجيًا ليذيقه الموت البطيء، وذلك عن طريق رمي السهام في جسده، ورؤية دمائه تتفجر من كل مكان في جسده، لا لشيءٍ إلا لمجرد التسلية والاستمتاع.

إن هذه المصارعات تقام في حلبات كبرى يشاهدها الجمهور بكل حماس، وهو سعيد بتعذيب الثور بهذه الطريقة… ويدعون ذلك ضربًا من الحضارة.. حتى إن الإحصائيات تشير إلى أن ما يقرب من 35 ألف ثور تُعذَّب وتموت سنويًا في أسبانيا وحدها، ونحو10 آلاف ثور في حلبات أوروبا([56]).

ظهر الأسف على المستمعين، فقال: أعتذر إليكم.. لم يكن قصدي أن أسيء إليكم.. ولكني أريد أن أقول لكم بأن التطور والحضارة والتقدم لا تعني القيم..

قد تكون متطورا غاية التطور.. ولكنك فقير غاية الفقر من كل القيم الرفيعة التي تكون جبلية في الشعوب التي تحتقرها، وتسمها بالبدائية..

قلنا: فكيف وقفت الشريعة الإسلامية من مثل هذا؟

قال: لقد ذكرت لكم أن الشريعة الإسلامية عدل كلها ورحمة كلها.. ولذلك نظرت إلى الحيوان باعتباره حيوانا([57]).. وهو من جهة أخرى سخر للإنسان كما سخر له سائر الأشياء.. فلذلك لم تجز قتله إلا للضرر المتوقع منه.. والضرر هنا ليس ضررا تكليفيا.. والقتل هنا ليس عقوبة..

لقد تعاملت الشريعة معه في هذه الأحوال كما تتعامل مع السم.. فلا يمكن لعاقل أن يحاكم السم.. فالسم سم.. هذه طبيعته.. ولا يمكن لأحد أن يحاكم أحدا على ما تقتضيه طبيعته.

قال رجل منا: لقد ضربت لنا النماذج عن مدى واقعية الشرائع المختلفة.. ولكنك لم تحدثنا عن مدى واقعية الشريعة التي تريد أن تقدم روحك ضحية لنصرتها.

قال خبيب: بما أن هذه الشريعة شريعة ربانية.. والله أعلم بعباده.. أعلم بثوابتهم وأعلم بمتغيراتهم.. فقد راعت الشريعة الثوابت، فحافظت عليها، وأكدتها.. وتركت في نفس الوقت فرصة لتحرك المتغيرات حتى لا تضيق حياة أحد بالتضييق فيها.

قال الرجل: ما أسهل أن يقال هذا في أي شريعة من الشرائع!؟

قال خبيب: صدقت.. أنت تبحث عن التفاصيل.. سأذكر لك من باب الإشارة منها ما يدلك على مجامعها.

لقد وجدت من خلال بحثي في مدى واقعية الشرائع المختلفة أن الخلل دخل فيها بسببن:

أحدهما مرتبط بمصادر هذه الشرائع.. فقد وجدت أنها مصادر متشددة متزمتة لا تتيح للعقل التكيف مع الوقائع المختلفة مهما كانت خاضعة للتغير..

وأما الثاني، فهو مرتبط بالأحكام، وعدم التمييز فيها بين المتغيرات والثوابت..

المصادر:

قال رجل منا: ألا ترى أن المصادر الأصلية للإسلام تقمع التغير والتطور.. وبالتالي تحجر على العقول التفكير السليم الذي يخدمها؟

قال خبيب: لقد بحثت فيها بهذه النية.. فوجدتها على عكس ذلك تماما.. لقد وجدتها تنير للعقول الدروب السليمة التي تتيح لها التفكير السليم.. ولم أجد فيها أي قمع للعقول أو حجر عليها..

سأضرب لك أمثلة تقرب لك ما اكتشفت من ذلك:

وسأبدا بما يملأ دنيانا ضجيجا.. قومنا يسمونها الديمقراطية.. أو اشتراك الشعب في اتخاذ القرار.. والقرآن يعطي بديلا لذلك يسميه (الشورى).. لقد قال الله تعالى في وصف المجتمع المثالي للمؤمنين :{ وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ) (الشورى:38).. انظروا كيف قرن القرآن الشورى بأعظم شرائعة من الصلاة والزكاة.. بل إنه جعلها وسطا بين الصلاة والزكاة.

ولذلك فإن الأحكام الفقهية المستنبطة من هذه الآيات تنص على أنه لا يجوز لحاكم، ولا لمجتمع، أن يلغي الشورى من حياته السياسية والاجتماعية.. ولا يحل لسلطان أن يقود الناس رغم أنوفهم إلى ما يكرهون، بالتسلط والجبروت.

هذا القسم الذي فهمه الفقهاء من الآية يسمى ثابتا.. وأنتم ترون أن القيمة التي يحملها قيمة ثابتة..

أما المرونة التي رأيت أن النص يحملها.. ويحث العقل على التفكير فيها.. فهي الآلية التي تمارس بها الشورى.. فأنتم ترون أنه ليس في الآية أي تحديد لشكل معين للشورى، يلزم به الناس في كل زمان وفي كل مكان فيتضرر المجتمع بهذا التقييد الأبدي، إذا تغيرت الظروف بتغير البيئات أو الأعصار أو الأحوال.

سكت قليلا، ثم قال: مثال آخر قريب من هذا يمثله قوله تعالى :{ وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِO (النساء: 58)، وقوله :{ وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ) (المائدة:49)

لقد أوجب الله تعالى في هذه الآيات التقيد بالعدل والالتزام بكل ما أنزل الله، والحذر من اتباع الأهواء، وكل هذا من الثوابت التي لا يصح التساهل فيها.. أما المرونة التي تحملها هذه النصوص.. فهي أنها لم تنص على شكل معين للقضاء والتقاضي.

سكت قليلا، ثم قال: مثال آخر يرتبط بناحية تعبدية.. وهي تقديم القرابين للتكفير عن بعض الخطايا.. لم يرد هذا في الإسلام إلا في عبادة الحج.. والمقصد الشرعي منه واضح.. فالحجيج يأتون من كل مكان.. وفيهم الفقراء، وتلك القرابين من الصدقات التي قد تقدم لهم.. لقد نص الله تعالى على هذه القرابين المكفرة في قوله تعالى :{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَاماً لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ) (المائدة:95)

انظروا كيف نصت الآية على الحكم الثابت.. ثم تركت التفاصيل للظروف المختلفة..

قارنوا هذا بما ورد في الكتاب المقدس حول نفس الموضوع.. لا يمكنني أن أقرأ لكم ما ورد من ذلك.. إن الأحكام المرتبطة بهذا هي أكثر ما ورد في الكتاب المقدس من أحكام([58]).

التفت إلي، وقال: صحح لي بعض ما أقع فيه من أخطاء.. فلي مدة طويلة لم أراجع ما أحفظه من الكتاب المقدس..

أخذ يقرأ من ذاكرته من بداية سفر اللاويين: (ودعا الرب موسى وكلمه من خيمة الاجتماع فقال: ( قل لبني إسرائيل: إذا قرب أحد منكم قربانا للرب من البهائم، فمن البقر والضأن يقربه. إن كان قربانه محرقة من البقر، فذكرا صحيحا يقربه. يقدمه عند باب خيمة الاجتماع ليكون مقبولا أمام الرب. ويضع يده على رأس المحرقة، فيقبلها الرب منه تكفيرا عنه. ويذبح العجل أمام الرب، فيقرب بنو هرون الكهنة الدم ويرشونه على أربعة جوانب المذبح الذي عند باب الخيمة. ويسلخ الرجل المحرقة ويقطعها قطعا. ويجعل بنو هرون الكهنة نارا على المذبح ويرتبون عليها حطبا، ويرتبون فوق الحطب قطع اللحم مع الرأس والشحم. وأما الأمعاء والأكارع فيغسلها الرجل بالماء، ويوقد الكاهن هذا كله على المذبح محرقة وقيدة ترضي رائحتها الرب. وإن كان قربانه محرقة من الضأن أو المعز، فذكرا صحيحا يقربه. يذبحه على جانب المذبح جهة الشمال أمام الرب، فيرش بنو هرون الكهنة دمه على أربعة جوانب المذبح. ويقطعه قطعا ويفصل رأسه وشحمه، فيرتبها الكاهن على حطب نار المذبح. وأما الأمعاء والأكارع فيغسلها الرجل بالماء، ويوقد الكاهن هذا كله على المذبح محرقة وقيدة ترضي رائحتها الرب..) (اللاويين: 1/1-15)

سكت قليلا، ثم قال: لم أقرأ لكم إلا ما يرتبط بقرابين الحيوانات.. هناك قرابين أخرى.. وهي الأخرى لا تخلو من التفاصيل الكثيرة التي لا مبرر لها..

اسمعوا مثلا ما ورد حول قرابين الحنطة.. : ( وإذا قرب أحد قربان تقدمة للرب، فليكن قربانه دقيقا يصب عليه زيتا ويضع لبانا. ويجيء به إلى بني هرون الكهنة، فيأخذ الكاهن ملء قبضته عينة من الدقيق والزيت وكل اللبان ويوقدها على المذبح وقيدة ترضي رائحتها الرب. وتذكره بمقدمها. وما فضل من التقدمة يكون لهرون وبنيه، وهو مقدس كل التقديس لأنه من الوقائد المقربة للرب. وإن قربت قربان تقدمة مخبوزا في تنور، فليكن أقراص فطير من دقيق ملتوتة بزيت، ورقاق فطير ممسوحة بزيت. وإن كان مخبوزا على الصاج، فليكن فطيرا من دقيق ملتوتا بزيت..) (اللاويين: 1/1-16) 

قال رجل منا: نعلم ما في الكتاب المقدس من مثل هذا.. فحدثنا عن شريعة الإسلام.. لقد ذكرت لنا أن القرآن يحوي الثوابت.. لكنه يترك التفاصيل ليحكم فيها على ضوء الظروف المختلفة.

قال خبيب: ذلك صحيح..

قال الرجل: ولكنا نرى القرآن يفصل أحكام المواريث تفصيلا يكاد يكون مبالغا فيه.. إنه يعطي كل واحد من الورثة بدقة شديدة..

قال خبيب: لقد رأيت القرآن يعطي الورثة بحسب قرابتهم من الميت.. أليس كذلك؟

قال الرجل: ولكنه لا يذكر العموميات التي تتيح للفقهاء التصرف بحسب الظروف المختلفة.. إنه يقسم التركة بدقة شديدة.

قال خبيب: ذلك أن كل ما يرتبط بالمواريث من الثوابت.. فمنذ بدأ البشر والابن ابن.. والبنت بنت.. والأب أب.. والأم أم.. وهكذا..

ولهذا فإن القرآن الكريم ـ حرصا على العدل ـ يذكر الثوابت المرتبطة بهذه الثوابت حتى لا تتلاعب بها العقول والأهواء.

قال رجل: لقد ذكرت لنا القرآن.. وأنه ترك المجال للعقول لتتحرك ضمن ثوابته.. ولكنك ذكرت أن السنة تشرح القرآن.. ألا يؤدي هذا إلى تحويل المتغيرات التي تركها القرآن الكريم إلى ثوابت؟

قال خبيب: نرى في السنة كما نرى في القرآن الكريم كلا الأمرين: الثوابت والمتغيرات جميعا:

سأضرب لكم مثلا مقربا لهذا من سيرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وحياته الدعوية.. وفي كليهما تتجلى الثوابت والمتغيرات بأجلى صورة:

أنتم تعرفون أن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم كان في ثباته على مبادئه كالطود الأشم.. لقد رفض التهاون أو التنازل عن كل ما يتصل بتبليغ الوحي أو يتعلق بكليات الدين، وقيمه، وأسسه العقائدية والأخلاقية.

في مقابل هذا نجد مرونة واسعة في مواقفه السياسية في مواجهة من واجهوه بالمحاربة، بما يتطلبه الموقف دون تزمت أو تشنج أو جمود.

ففي يوم الأحزاب مثلا أخذ صلى الله عليه وآله وسلم برأي سلمان الفارسي في حفر الخندق حول المدينة.. وشاور بعض رؤساء الأنصار في إمكان إعطاء بعض المهاجمين مع قريش جزءا من ثمار المدينة، ليردهم ويفرقهم عن حلفائهم، كسبا للوقت إلى أن يتغير الموقف..وقال لنعيم بن مسعود الأشجعي ـ وقد أسلم، وأراد الانضمام إلى صفوف المسلمين ـ : ( إنما أنت رجل واحد، فخذل عنا ما استطعت)

ومثل ذلك يوم الحديبية.. لقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في ذلك اليوم: (والله لا تدعوني قريش اليوم إلى خطة يسألونني فيها صلة الرحم إلا أعطيتهم إياها)

قارنوا هذا بقوله فيما يرتبط بالثوابت : (يا عم، والله لو وضعوا الشمس في يمينى والقمر في يسارى على أن أترك هذا الأمر ـ حتى يظهره الله أو أهلك فيه ـ ما تركته )

أتدرون ما سر هذه المرونة في هذه المواقف مع ثباته في المواقف الأخرى؟

قلنا: ما سرها؟

قال: لقد كانت المواقف الأولى مرتبطة بالتنازل عن العقيدة والمبدأ، فهذا لم يقبل صلى الله عليه وآله وسلم فيها أي مساومة أو تساهل، ولم يتنازل قيد أنملة عن دعوته.. أما المواقف الأخيرة فتتعلق بأمور جزئية، وبسياسات وقتية، أو بمظاهر شكلية، فوقف فيها موقف المتساهل.

قال رجل منا: إن ما ذكرته مرتبطة بالسيرة.. والسيرة ليست إلا الحياة الشخصية للنبي صلى الله عليه وآله وسلم.. ونحن نبحث عن التشريعات..

ابتسم خبيب، وقال: إن المؤمنين لا يفرقون في استنباطاتهم بين سنة وسيرة.. فحياة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كلها موضع أسوة.. لقد قال تعالى يقرر هذا :{ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً } (الأحزاب:21)

قال الرجل: لكن هناك دائرة أخرى غير الدائرتين اللتين ذكرتهما.. قد يكون فيهما من التشديد ما يجعل حياة الناس بعيدة عن الواقع مليئة بالحرج والضيق.

قال خبيب: تقصد دائرة الاجتهادات الفقهية؟

قال الرجل: أجل.. ففي هذه الدائرة يبسط الفقهاء سلطتهم على الأمة.. فيضيقوا حياتها بما شاءوا من التشريعات.

قال خبيب: الفقهاء عندنا ليسوا كما تعرفون عن رجال الدين.. إنهم مجتهدون.. قد يصيبون، وقد يخطئون.. وهم لا يفرضون آراءهم فرضا.. بل يحثون الأمة أن لا تسلم لهم تسليما مطلقا

لقد كان ابن عباسٍ وهو الفقيه والمفسر يقول:(ليس منا إلا ويؤخذ من قوله ويدع غير النبي صلى الله عليه وآله وسلم) وكان يعاتب أصحابه يقول لهم:(يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء أقول قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتقولون قال أبو بكر وعمر)

إن الفقيه المسلم مقيد بالنصوص المحكمة الثابتة من القرآن والسنة.. وهي المجزوم بثبوتها، القاطعة في دلالتها..

لقد أراد الشارع الحكيم من تلك النصوص أن تلتقي عندها الأفهام، ويرتفع عندها الخلاف، وينعقد عليها الإجماع، فهي أساس الوحدة الفكرية والسلوكية، للمجتمع المسلم، وهي للأمة كالجبال للأرض تمسكها أن تميد، وتحميها أن تضطرب وتتزلزل.

ومع هذا التقيد الملزم، يجد الفقيه المسلم نفسه في حرية واسعة أمام المنطقة التي تركتها النصوص ـ قصدا ـ لاجتهاد أولي الأمر بما يحقق المصلحة العامة، ويرعى المقاصد الشرعية، من غير أن يقيدنا الشارع فيها بأمر أو نهي.

 لقد ورد النص على هذه المنطقة في قوله صلى الله عليه وآله وسلم : (الحلال ما أحل الله في كتابه، والحرام ما حرم الله في كتابه وما سكت عنه فهو ما عفا عنه)([59])

وفي حديث آخر قال صلى الله عليه وآله وسلم : (ما أحل الله تعالى في كتابه فهو حلال، وما حرم فهو حرام وما سكت عنه فهو عفو، فاقبلوا من الله عاقيته، فان الله لم يكن لينسى شيئا)([60])

وفي حديث آخر قال صلى الله عليه وآله وسلم : ( إن الله تعالى حد حدودا فلا تعتدوها، وفرض فرائض فلا تضيعوها، وحرم أشياء فلا تنتهكوها، وترك أشياء من غير نسيان من ربكم ولكن رحمة منه لكم فاقبلوها ولا تبحثوا عنها)([61])

فالحدود التي قدرها الشرع، لا يجوز اعتداؤها، وما عداها أمور مسكوت عنها، متروكة للاجتهاد..

قال الرجل: ألا ترى أن في هذه المنطقة تقصيرا من الشريعة؟

قال خبيب: لا.. هذا علامة كمال الشريعة.. ولهذا ورد النهي عن كثرة السؤال.. فكثرة السؤال لا تفضي إلا إلى التعقيد..

قلنا: كثرة السؤال تفضي إلى التوضيح.. لا إلى التعقيد.

قال: وقد تفضي إلى التعقيد.. لقد قص علينا القرآن الكريم نموذجا لذلك.. قال تعالى :{ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (67) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ (68) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (69) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ (70) قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الْآَنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ (71)} (البقرة)

انظروا.. لقد كان في إمكان بني إسرائيل – حسبما تنص الآية – أن يسارعوا فينفذوا الأمر في أي بقرة تأتيهم.. لكنهم أبوا إلا أن يشددوا في التفاصيل، فشدد الله عليهم.. فكانت كثرة السؤال سبب التعقيد الذي حصل لهم.

الأحكام:

قلنا: عرفنا واقعية مصادر الشريعة الإسلامية.. فحدثنا عن واقعية الأحكام الإسلامية.

قال: لقد وجدت من خلال بحثي في فروع المسائل التي ذكرها الفقهاء أنها جميعا تنقسم إلى قسمين: قسم يمثل الثبات والخلود.. وقسم يمثل المرونة والتطور.

أما القسم الأول.. فنجده في العقائد الأساسية الكبرى التي جاء الإسلام لتقريرها.. ونجده في الأركان العملية من إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت الحرام وغيرها.. ونجده في المحرمات اليقينية من قتل النفس وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات، والتولي يوم الزحف والغصب والسرقة والغيبة والنميمة وغيرها.. ونجده في أمهات الفضائل من الصدق، والأمانة، والعفة، والصبر، والوفاء بالعهد، والحياء وغيرها من مكارم الأخلاق التي اعتبرها القرآن والسنة من شعب الإيمان.

أما القسم الثاني.. فنجده في الفروع التفصيلية الكثيرة المرتبطة بهذه الجوانب وغيرها..  وهي مما اختلفت فيها الأعصر والبلدان والفقهاء..

قال ذلك.. ثم نظر إلى السماء، وقال: لا أجد مثالا يقرب هذه الشريعة في ثباتها وحركتها في نفس الوقت كمادة هذا الكون.. سواء كانت هي الذرة أو الإشعاع البسيط المنطلق عند تحطيمها، أو أية صورة أخرى.

إنها من حيث حقيقتها ثابتة الماهية.. ولكنها مع ذلك تتحرك، فتتخذ أشكالاً دائمة التغير والتحور والتطور.

فالذرة ذات نواة ثابتة تدور حولها الإلكترونات في مدار ثابت.

وكل كوكب، وكل نجم له مداره، يتحرك فيه حول محوره، حركة منتظمة، محكومة بنظام خاص.

وهكذا إنسانية هذا الإنسان، المستمدة من كونه مخلوقاً فيه نفخة من روح الله اكتسب بها إنسانيته المتميزة عن سائر طبائع المخلوقات حوله.. إنسانية هذا الإنسان ثابتة.. ولكن هذا الإنسان يمر بأطوار جسدية شتى من النطفة إلى الشيخوخة.. ويمر بأطوار اجتماعية شتى، يرتقي فيها وينحط حسب اقترابه وابتعاده من مصدر إنسانيته.. ولكن هذه الأطوار جميعا لا تخرجه من حقيقة إنسانيته الثابتة. ونوازعها وطاقاتها واستعداداتها المنبثقة من حقيقة إنسانيته.

ونزوع هذا الإنسان إلى الحركة لتغيير الواقع الأراضي وتطويره.. حقيقة ثابتة كذلك.. منبثقة أولاً من الطبيعة الكونية العامة، الممثلة في حركة المادة الكونية الأولى وحركة سائر الأجرام في الكون.. ومنبثقة ثانياً من فطرة هذا الإنسان. وهي مقتضى وظيفته في خلافة الأرض.. فهذه الخلافة تقتضي الحركة لتطوير الواقع الأرضي وترقيته.. أما أشكال هذه الحركة فتتنوع وتتغير وتتطور([62]).

المثالية

قلنا: حدثتنا عن الركن الثالث.. فحدثنا عن الركن الرابع.

قال: أرأيتم لو أن رجلا كان له ابن.. وكان مشفقا عليه.. وهو لذلك لا يحب أن يرفض لابنه أي طلب مهما كان ذلك الطلب.. وكان أبغض شيء إلى نفسه أن يبكي ولده ..

وقد عرف الولد ذلك من أبيه.. فكان يصرخ باكيا لأجل أي شيء يريد أن يفرضه عليه أبوه مما فيه مصلحته..

أجيبوني.. هل يمكن لوالد مثل هذا أن يربي ولده.. أو يعلمه.. أو يجعل منه نشئا صالحا؟

قال رجل منا: إن نسبة نجاح هذا الولد في حياته ضعيفة جدا.. فالتدليل عادة يصرف الولد عن عظائم الأمور مما لا يطيقه إلا أصحاب الهمم العالية.. فما أسهل على هذا الولد أن يصرخ باكيا رافضا للدراسة.. أو رافضا لأي مطلب من مطالب أهل الهمم.

قال خبيب: فمن ترونه سببا فيما وقع له؟

قلنا جميعا: لا شك أنه والده.

قال: أتدرون لم؟

قلنا: لأنه أعطاه هواه.. ولم يرفعه إلى المثل العالية التي يطمح لها أصحاب الهمم.

قال: لقد كان هذا هو الذي جعلني أعتقد بأن الشريعة الحقيقية لا تكفي أن تكون شريعة واقعية.. فقد تكون واقعيتها سبب انحرافها.. لأنها ستجري بذلك وراء الأهواء المختلفة تلبيها بحجة واقعيتها.

قال رجل منا: وأي حرج في أن تجري الشريعة وراء الأهواء.. ما دامت تلك الأهواء مشروعة؟

لقد شهد العالم خلال القرون الثلاثة الأخيرة([63])، تقدماً كبيراً شمل جميع مرافق الحياة، ورقياً فكرياً مذهلاً استطاع به الانسان أن يسبر أعماق البحار، ويضع قدمه على جبين الأقمار وتغيرت، تبعاً لذلك، أوضاع المجتمعات ونظم الحياة.

أفترى في هذا الرفاه حرجا مع الشريعة المثالية.. هل تتناقض الحياة المثالية مع الشريعة المثالية؟

قال خبيب: لا.. الشريعة لا تتناقض مع الحياة.. ولا مع الرفاه.. فالله تعالى يقول :{ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً } (الاسراء:70)، وقال:{ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) (لأعراف:32)، وقال :{ إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) (الكهف:7)

ولكن الشريعة المثالية تتناقض مع الانحرافات الخلقية..

لقد رأيت أنه مع ذلك التقدم الكبير في المجالات التقنية وقعت الحضارة ـ بسبب التشريعات التي وضعت لها ـ في انحرافات كبيرة..

لعل أهمها أنها حضارة مادية متنكرة للأديان مستخفة بالقيم الخلقية التي لا تستقيم بدونها مجتمعات.

لقد رأيت أن صانعي هذه الحضارة الكبار لا يفكرون إلا في المكاسب المادية والمتع البدنية ولو أضرت بالآخرين، يستوي في ذلك أفرادهم وجماعاتهم وحكوماتهم.

لقد رأيت أن تشريعات هذه الحضارة لا يخدم الكثير منها إلا نوازع البشر الشيطانية وغرائزهم البهيمية.. لقد جعلتهم يجرون وراء الملذات ويتسابقون إلى جمع الأموال وكنز الثروات، ويتفننون في صنع آلات التدمير الكامل والإهلاك الشامل..

وقد أدى ذلك إلى ما ترون من انتشار المخدرات، وترويج أفلام الانحراف والعنف، والتلوث البيئي، والتمييز العنصري، وغش الأقوياء للضعفاء وتعريضهم لأخطار محققة ببيع الأغذية والأدوية الفاسدة لهم، ودفن النفايات المشعة المضرة بأرضهم، وحظر تصدير التكنولوجيا والآلات المتطورة إليهم، وحرمان طلبتهم من تلقي العلم في كلياتهم ومعاهدهم، وإيصاد أبواب بلدانهم في وجوههم.

أما على المستوى الدولي، فترون اللامساواة في التعامل على الساحة الدولية، فدولة يباح لها أن تقيم المصانع لإنتاج السلاح النووي والجرثومي دون أن تخضع مصانعها لأية رقابة، ودولة تقام من حولها الضجات لأنها أنشأت مصنعاً لإنتاج المواد الصيدلية أو مساحيق التجميل، هبات مالية كبرى تعطى لدولة واحدة صغيرة ويعطى أقل منها لشعوب أخرى مجتمعة أكثر سكاناً وأشد احتياجاً، وشرعية دولية تطبق بقوة الحديد والنار على شعب، وشرعية دولية تقرر في حق شعب آخر ثم يتناساها مقرروها غداة تقريرها، ومناحات تقام في كل مكان حزناً على طائر تلوث جناحه بنفط سفينة جنحت للشاطئ وأصوات خافتة تستنكر ـ نفاقاً ـ كسر سواعد أطفال بالحجارة وقتل صبيان وذبح رجال وتهجير شعب بأكمله من دياره..

هذا ما جنته التشريعات الواقعية التي لا تخضع لأي قيم أخلاقية.. أو مثل إيمانية..

قال رجل منا: ليست الشريعة وحدها هي التي أنتجت هذا النتاج.

قال خبيب: للشريعة نصيبها الوافر من هذا النتاج.. لأنها هي التي قننت له.. وهي التي شرعته.. لقد جعلني هذا أبحث عن شريعة نظيفة.. تحترم الإنسان، وتحترم القيم الرفيعة التي اتفق البشر جميعا على تبنيها.. فلم أجد ذلك إلا في الإسلام..

قال رجل منا: أنت لم تقرأ إذن ما ورد في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة في 10 ديسمبر 1948م.. لقد كان ذلك الإعلان أكثر نضجًا وتوازنًا من كل ما سبقه([64]).

لقد تحدث هذا الإعلان بتفصيل عن حقوق الحرية، والمساواة، والحياة، والسلامة البدنية، والمحاكمة العادلة والعلنية، والإقامة، والتنقل، واللجوء هربًا من الاضطهاد، والتملك، وتقلد الوظائف العامة، والشغل، والأجر العادل، وحق الراحة والتمتع بأوقات الفراغ، والصحة، والرفاهية، والخدمات الاجتماعية، ومنع التعذيب والاعتقال التعسفي والنفي والمعاملة القاسية أو الوحشية.

ابتسم خبيب، وقال: إن هذا كله جيد ولا غبار عليه، ولكن الحقوق والتدابير التي تعتني بالإنسان وبجوهر الإنسان، وبالأبعاد السامية للإنسان، والتي تجعل الإنسان إنسانًا، وتجعله أكثر ارتقاءً وسموًا.. كل هذا غائب من هذا القانون..

قال الرجل: كيف تقول بغيابه.. والمادة الأولى من ذلك الإعلان حين تتحدث عن كون الناس يولدون أحرارًا متساوين في الكرامة والحقوق، تضيف : (وقد وُهبوا عقلاً وضميرًا).. ألست ترى في هذا اهتماما بضمير الإنسان وعقله؟

قال خبيب: أجل.. ولكن.. هل ترى في القوانين الموضوعة ما يحفظ العقل والضمير أو يطالب بالمحافظة عليهما أو يندد بتضييعهما وتخريبهما..

إن كل ذلك لا يوجد.. ولذلك كان ذلك الكلام مجرد جعجعة في طحين..

مثله مثل ما ورد في المادة الثانية عشرة من ذلك الإعلان، والتي تنص على أنه:( لا يتعرض أحد لتدخل تعسفي في حياته الخاصة أو مسكنه أو مراسلاته، أو لحملات على شرفه وسمعته، ولكل شخص الحق في حماية القانون من مثل هذا التدخل أو تلك الحملات)

فشيء مهم أن يُحمى الإنسان في شرفه وسمعته بمقتضى القانون، لكن ما هو الأولى بالعناية والحماية: هل هو وجود هذا الشرف وبقاؤه بقاءً حقيقيًا، أم هو مجرد ادعاء الشرف واللجوء إلى القانون لحماية هذا الادعاء.

بل أكثر من هذا: كيف نبقي فكرة الشرف والسمعة موجودة وذات اعتبار لدى الناس؟ وإلا فقد لا نجد من يعتبر أن له شرفًا وسمعة، أو أن هناك شيئًا حقيقيًا ومصلحة حقيقية اسمها الشرف والسمعة، خاصة إذا لم يكن يترتب عليهما درهم ولا دينار، ولا سجن ولا تعذيب؟

قال الرجل: لعلك لم تقرأ ما ورد في الفقرة الثانية من المادة (26) من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.. لقد جاء فيها : (يجب أن تهدف التربية إلى إنماء شخصية الإنسان إنماءً كاملاً)

ابتسم خبيب، وقال: هذا جميل.. وقد قرأته وفرحت به.. لكني صدمت بعد ذلك بالحقيقة المرة.

قال الرجل: ما هي؟

قال خبيب: لقد رأيت أن هذا الإنماء الكامل وقع مبهمًا ومفتوحًا على جميع الاحتمالات، بينما لم يكن بيانه وضبطه يتطلب أكثر من كلمتين أو ثلاث، لو أضيفت لكانت هذه الجملة -على ضآلتها- إضافة نوعية إلى ثقافة حقوق الإنسان ومواثيق حقوق الإنسان.

غير أن المشكل الأكبر والأخطر لا يكمن في الأدبيات والمواثيق الحقوقية الكلاسيكية، وإنما يكمن في الممارسات والتطورات الجارية اليوم باسم حقوق الإنسان، وإن كانت تعتبر امتدادًا طبيعيًا لتلك.

فباسم حقوق الإنسان يحاولون إلغاء ما بين الرجل والمرأة من اختلافات وتمايزات فطرية ليفرضوا عليهما المساواة التطابقية القسرية.

وباسم هذه المساواة، تحولت المرأة إلى مجال الامتهان والابتذال، تساق إليه بوتيرة وكيفية مذهلة لم يسبق لها مثيل في تاريخ الإنسان.. فالمرأة أصبحت سلعة.. والمرأة مسخرة لترويج البضائع والإعلان عنها.. والمرأة للمتعة الحرام، وللمنافسة بين القنوات التلفزيونية وجلب المشاهدين لها.. والمرأة لعرض الأزياء، أو لعرض الأشلاء باسم الأزياء…!

قال رجل منا: إن ما تقوله صحيح.. فما سبب هذا السقوط الذي تعاني منه البشرية.. وما المخرج منه؟

قال خبيب: أما السبب فواضح.. إن البشرية انطلقت في تقريرها لحقوق الإنسان من نظرتها للإنسان.. هذا هو سبب كل الأخطاء..

لقد نظرت إلى الإنسان ككائن طيني لا روح له ولا مواجيد ولا أشواق ولا سمو([65]).. ولذلك راحت تخدم ذلك الجانب.. راحت تدعو إلى الحرية الجسدية، والحاجات الجسدية، والرعاية الصحية، والرفاهية المعيشية، ومنع الاعتقال والتجويع والتعذيب، وضمان قسط مناسب من الراحة، والاشتغال في حدود الطاقة، وحماية الضعيف من القوي، والانتصاف له ممن ظلمه.. وكل هذه المعاني جميلة.. ولكنها ـ للأسف ـ قاصرة على خدمة الجسد..

إنها لا تختلف كثيرا عن تلك الحقوق التي قررتها الشريعة الإسلامية للبهائم.. والتي لخصها عز الدين بن عبد السلام في قوله : ( القسم الثالث حقوق البهائم والحيوان على الإنسان، وذلك أن ينفق عليها نفقة مثلها ولو زمنت أو مرضت بحيث لا ينتفع بها، وأن لا يحملها ما لا تطيق، ولا يجمع بينها وبين من يؤذيها من جنسها أو من غير جنسها بكسر أو نطح أو حرج، وأن يحسن ذبحها إذا ذبحها، ولا يمزق جلدها ولا يكسر عظمها حتى تبرد وتزول حياتها، وأن لا يذبح أولادها بمرأى منها، وأن يفردها ويحسن مباركها وأعطانها، وأن لا يخذف صيدها ولا يرميه بما يكسر عظمه أو يرديه بما لا يحلل لحمه)([66])

قال الرجل: هذا السبب.. فما المخرج الذي وضعته الشريعة الإسلامية؟

قال: لقد انطلقت الشريعة الإسلامية من واقع الإنسان الذي يمثل حقيقته.. لا واقعه الذي أفرزته الشياطين.. لقد سمى الله الواقع الحقيقي للإنسان فطرة.. فقال تعالى :{ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (الروم:30)

ففي هذه الآية الكريمة إشارة إلى أن الفطرة الأصلية مستعدة للخير استعدادا جبليا، وأن التغيير الطارئ عليها ليس ناشئا من طبيعتها الخلقية، وإنما نشأ من مؤثرات خارجية اقتضاها التكليف.

وفطرة الإنسان في ذلك تشبه فطر الأشياء المختلفة، فالله تعالى ـ مثلا ـ خلق الماء طاهراً مطهراً، فلو ترك على حالته التى خلقه الله عليها ولم يخالطه ما يزيل طهارته لم يزل طاهراً، ولكنه بمخالطة المؤثرات الخارجية من الأنجاس والأقذار تتغير أوصافه ويخرج عن الخلقة التى خلق عليها.

قال الرجل: فمهمة الشريعة إذن ـ على حسب ما يبدو من قولك ـ هي الحفاظ على فطرة الإنسان.

قال خبيب: بورك فيك.. وهي بالتالي تجمع بين الواقعية والمثالية.. فالواقع الحقيقي للماء هو كونه طاهرا لا ملوثا.. ولذلك فإن المشرع الحقيقي هو الذي يستعمل كل الوسائل للحفاظ على طهارة الماء.. ويضع القوانين التي تمنع تلويثه.

قال الرجل: فما القوانين التي وضعتها الشريعة لمنع تلوث الإنسان؟

قال خبيب: الشريعة كلها بجميع تفاصيلها لم توضع إلا لمنع تلوث الإنسان.. لقد نص القرآن الكريم على أن هذا من وظائف الرسل الأساسية.. فالله تعالى يقول :{ هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (الجمعة:2)

لقد تكرر هذا المعنى في مواضع من القرآن الكريم.. ففي سورة البقرة، قال الله تعالى على لسان إبراهيم وإسماعيل ـ عليهما السلام ـ :{ رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مّنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ } (البقرة:129)

وفيها أيضًا :{ كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مّنْكُمْ يَتْلُواْ عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِيكُمْ وَيُعَلّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ } (البقرة:151)

وفي سورة آل عمران :{ لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ ءايَاتِهِ وَيُزَكّيهِمْ وَيُعَلّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِى ضَلَالٍ مُّبِينٍ } (آل عمران:164)

ليس هذا فقط.. بل قد جاءت نصوص أخرى في القرآن الكريم تنبه على أن تزكية الإنسان يجب أن تكون هي الغاية القصوى والمقصد الأساسي لكل نشاط إنساني، والمعيار الذي يحدد نجاحه وفلاحه، كقوله تعالى :{ وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا(7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا(8) قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا } (الشمس)، وقوله تعالى :{ قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى } (الأعلى:14)

ولذلك فإن كل التشريعات التي جاء بها الإسلام تصب في هذا الجانب.. جانب تزكية الإنسان والحفاظ على طهارته.

***

ما وصل خبيب بن عدي من حديثه إلى هذا الموضع حتى جاء السجان، ومعه مجموعة من الجنود، ثم أخذوا بيد خبيب، وساروا به إلى مقصلة الإعدام..

نظر إليهم خبيب بابتسامة، وقال: أتأذنون لي أن أختم حياتي بركعتين أصليهما لله كما صلاهما قبلي سميي خبيب.

أشاروا إليه بالموافقة.. فصلى ركعتين أوجز فيهما، ثم التفت إلى السجان، وقال: لولا أن يروا أن ما بي من جزع من الموت لزدت.

ثم صعد المقصلة، وهو يردد تلك الأبيات التي رددها قبله سميه خبيب..

بعد أن وضع الحبل على عنقه التفت إلينا بابتسامة، وقال: أستودعكم الله أيها الإخوان الأفاضل.. لا أريد منكم، وأنا أتقدم لنيل هذه الجائزة العظيمة إلا أن تجعلوا نفوسكم جنودا في جيش العدالة الإلهية.. وأن تتحملوا مسؤوليتكم في هذا الصدد.. فـ :{ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا (16)} (الأحزاب)

قال ذلك، ثم تمتم بالشهادتين، ثم أسلم نفسه مبتسما لله.

بمجرد أن فاضت روحه إلى باريها كبر جميع السجناء بمذاهبهم وطوائفهم وأديانهم.. وقد صحت معهم بالتكبير دون شعور.. وقد تنزلت علي حينها أشعة جديدة اهتديت بها بعد ذلك إلى شمس محمد صلى الله عليه وآله وسلم.


([1]) أشير به إلى خبيب بن عديّ الصحابي الجليل.. شهد بدراً، وأسر في غزوة الرّجيع سنة ثلاثٍ، ثم صلب بالتنعيم، وهو أول من صلب في الإسلام، وأول من سنَّ صلاة ركعتين عند القتل.

وقد حدث ابن شهاب عن حادثة الأسر والصلب، فقال: مكث خبيب عندهم أسيراً حتى إذا اجتمعوا على قتله استعار موسى من إحدى بنات الحارث ليستحد بها فأعارته، قالت فغفلت عن صبي لي، فدرج إليه حتى أتاه، قالت: فأخذه فوضعه على فخذه، فلما رأيته فزعت فزعاً عرفه في، والموسى في يده، فقال: أتخشين أن أقتله؟ ما كنت لأفعل إن شاء الله، قال: فكانت تقول ما رأيت أسيراً خيراً من خبيب، لقد رأيته يأكل من قطف عنب وما بمكة يومئذ من حديقة، وإنه لموثق في الحديد، وما كان إلا رزقاً آتاه الله إياه، قال: ثم خرجوا به من الحرم ليقتلوه، فقال: دعوني أصلي ركعتين ثم قال: لولا أن يروا أن ما بي من جزع من الموت لزدت، فكان أول من صلى ركعتين عند القتل هو، ثم قال: (اللهم أحصهم عدداً وأقتلهم بدداً ولا تبق منهم أحداً) (انظر: الاستيعات لابن عبد البر)

([2]) رواه أحمد والترمذي والحاكم.. وغيرهم.

([3]) أشير به إلى قول معروف لابن القيم ، كتبه في (إعلام الموقعين)

([4])  انظر الأدلة المثبتة لهذا في رسالة (الكلمات المقدسة) من هذه السلسلة.

([5])  وهذا ما يدل على أن الحديث المروي في ذلك عن أبي هريرة وهو (لولا بنو إسرائيل لم يخبث الطعام ولم يخنز اللحم و لولا حواء لم تخن أنثى زوجها) لا يصح رفعه إلى رسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم.. بل هو على الأصح من حديث كعب الأحبار.. فقد كان أبو هريرة يروي عن كعب الأحبار، فيختلط على الرواة، فيرفعونه إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. وقد روى مسلم عن بسر بن سعيد قال: (اتقوا الله وتحفظوا من الحديث، فوالله لقد رأيتنا نجالس أبا هريرة فيحدث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ويحدثنا عن كعب الأحبار، ثم يقوم، فأسمع بعض من كان معنا يجعل حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كعب، وحديث كعب عن رسول الله)، وفي رواية: (يجعل ما قاله كعب عن رسول الله، وما قاله رسول الله عن كعب، فاتقوا الله وتحفظوا في الحديث )

وأدل دليل على ذلك هو أن في الحديث المذكور نسبة كل خيانة تقع من المرأة إلى حواء مع أن القرآن الكريم بل الشريعة جميعا تنص على أن كل شخص مسؤول على عمله وحده.

ومثل ذلك ما يصيب اللحم من خنز، فنحسب هذا من خواص اللحم التي جعلها الله فيه., وكان ذلك قبل بني إسرائيل وبعدهم.

وهذا الذي ذهبنا إليه ـ والذي قد يجد نقدا حادا عند البعض ـ هو ما ذهب إليه البخاري وابن كثير وغيرهما في نقدهما لما رواه مسلم عن أبي هريرة أنه قال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بيدي، فقال: (خلق الله التربة يوم السبت، وخلق فيها الجبال يوم الأحد، وخلق الشجر يوم الاثنين، وخلق المكروه يوم الثلاثاء، وخلق النور يوم الأربعاء، وبث فيها الدواب يوم الخميس، وخلق آدم بعد العصر من يوم الجمعة)، وقد قال البخاري وابن كثير وغيرهما ردا على هذا: إن أبا هريرة قد تلقى هذا الحديث عن كعب الأحبار، لأنه يخالف نص القرآن في أنه خلق السماوات والأرض في ستة أيام.

([6])  انظر التفاصيل المرتبطة بهذا في رسالة (رحمة للعالمين) من هذه السلسلة.

([7])  ذكرنا كثيرا من هذه المدارس في رسالة (سلام للعالمين) من هذه السلسلة.

([8])   الإنسان ذلك المجهول:  11-12.

([9])   الإنسان ذلك المجهول:  38.

([10])   الإنسان ذلك المجهول:  44-45.

([11])  هذا الكلام ملخص بتصرف من كتاب (المستقبل لهذا الدين) لسيد قطب.

([12])  ذكرنا التفاصيل الكثيرة المرتبطة بهذا في رسالة (ثمار من شجرة النبوة) من هذه السلسلة.

([13])  انظر الأدلة الكثيرة المثبتة لهذا في رسالتي  (الكلمات المقدسة)، و(ثمار من شجرة النبوة) من هذه السلسلة.

([14])  انظر التصريحات المرتبطة بهذا في كتاب (الإسلام يتحدى) لوحيد الدين خان.

([15])  هذا المثال ذكره وحيد الدين خان عن حكومة بلاده (الهند) في زمنه.

([16])  سنرى التفاصيل المرتبطة بموقف الإسلام من الجرائم المختلفة في فصل (الحزم) من هذه الرسالة.

([17]) )  مسلم.

([18]) )  البخاري ومسلم.

([19]) )  انظر: تنقيحات، أبو الأعلى المودودي، وماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين، أبو الحسن الندوي، ص 177هامش.

([20])  انظر التفاصيل الكثيرة المرتبطة بحقيقة الإنسان في رسالة (أسرار الإنسان) من هذه السلسلة.

([21])  رواه البخاري ومسلم.

([22])  رواه مسلم.

([23])  رواه مسلم.

([24])  رواه البخاري ومسلم.

([25])  رواه البخاري ومسلم.

([26])  رواه البخاري ومسلم.

([27])  رواه مسلم.

([28])  رواه مسلم.

([29])  رواه البخاري  ومسلم.

([30])  رواه مسلم.

([31])  رواه مسلم.

([32])   مالك في الموطأ.

([33])  رواه أحمد، وأبو داود، وابن حبان في صحيحه، والحاكم.

([34])  رواه الديلمي، والخرائطي، ورواه الطبراني بلفظ: (الخلق الحسن يذيب الخطايا كما يذيب الماء الجليد، والخلق السوء يفسد العمل كما يفسد الخل العسل)

([35])  رواه الطبراني.

([36])  رواه الديلمي.

([37])  رواه الطبراني.

([38])  رواه أحمد، والطبراني.

([39])  رواه الترمذي.

([40])  رواه أحمد.

([41])  رواه أحمد.

([42])  رواه أبو يعلى، والترمذي، والطبراني.

([43])  رواه أحمد، والنسائي، وابن ماجة، والحاكم.

([44])  رواه الطبراني.

([45])  رواه الحاكم.

([46])  رواه الطبراني، والضياء.

([47])  أحمد وابن حبان في صحيحه، والطبراني، والبيهقي، وكذا الترمذي وزاد قالوا: يا رسول الله: ما المتفيهقون؟ قال: (المتكبرون)

([48])   ذكرنا الحديث عن البقرة الحمراء والشرائع المرتبطة بها في رسالة (الكلمات المقدسة) من هذه السلسلة.

([49])   هذا نص رسالة كتب بها إسحاق بن عمران المعروف بسم ساعة إلى رجل من إخوانه، كما في (العقد الفريد) لابن عبد ربه (بتصرف)

([50])  انظر التفاصيل الكثيرة المرتبطة بهذا في رسالة (أسرار الحياة) من هذه السلسلة.

([51])  انظر استمداد المسيحية من الفلسفة من كتاب المشكلة الأخلاقية والفلاسفة ص101 فما بعد.

([52])  انظر معالم تاريخ الإنسانية: ج1 ص16.

([53])  انظر قصة الحضارة:14/ 379.

([54])  قصة النزاع بين الدين والفلسفة: توفيق الطويل /205.

([55]) انظر التفاصيل الكثيرة المرتبطة بهذا في رسالة ( ثمار من شجرة النبوة) من هذه السلسلة.. وانظر هناك المراجع التي اعتمدنا عليها في هذه المعلومات.

([56]) نقلا عن مقال بعنوان (حقوق الحيوان فى الحضارة الإسلامية)

([57])  انظر التفاصيل المرتبطة بهذا في رسالة (رحمة للعالمين) من هذه السلسلة.

([58])  انظر الكثير من الأمثلة عن ذلك في رسالة (الكلمات المقدسة) من هذه السلسلة.

([59]) رواه الترمذي وابن ماجة والحاكم.

([60])  رواه البزار والطبراني في الكبير والدارقطني والحاكم.

([61])  رواه الحاكم.

([62]) خصائص التصور الإسلامي ومقوماته (سيد قطب) بتصرف.

([63]) انظر في هذا مقالا جيدا بعنوان (الحضارة والأخلاق ودورنا المطلوب)

([64]) استفدنا الكثير من المعلومات الواردة هنا من كتاب (حقوق الإنسان محور مقاصد الشريعة)، للأستاذ الدكتور أحمد الريسوني، والأستاذ الدكتور محمد الزحيلي، والأستاذ الدكتور محمد عثمان شبير، تقديم بقلم :عمر عبيد حسنه.. (وهو من سلسلة (كتاب الأمة)

([65]) انظر تفاصيل هذه المعاني في رسالة (أسرار الإنسان) من هذه السلسلة..

([66]) قواعد الأحكام في مصالح الأنام: 1/141..

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *