أسرار السنن

أسرار السنن

قلت: عرفت أسرار العداوة والصداقة.. فحدثني عن أسرار السنن.. وعلاقتها بأسرار الحياة.

قال: بعد أن كشف الله لي بفضله ومنته أسرار العداوة والصداقة.. رحت أبحث عن أسرار السنن.. فقد عرفت أنه لا يمكن أن أصادق الحياة والكون، ولا يمكن أن أنسجم في النظام الذي نظم الله به الكائنات ما لم أعرف القوانين التي بنى الله عليها الكون والحياة؛ فأراعيها وأحفظها وأسير على مقتضاها.. فمن لم يراع السنن صدمته من حيث يحتسب.. أو من حيث لا يحتسب.

وقد رزقني الله ـ أثناء ذلك البحث ـ لقيا كثير من العارفين والصالحين والعلماء المحققين الذين كشفوا لي من أسرار السنن الإلهية ما ملأني تعظيما لله.. ولقوانين الله.

وقد رأيت أن الكثير من تلك التفاصيل التي تعلمتها على أيديهم يمكنها أن تجتمع في نوعين من السنن: سنن التغيير، وسنن التمكين.

لن أقص عليك هنا كل ما رأيته وسمعته؛ فذلك يستدعي أسفارا ضخمة لا يفي هذا المجلس بها.. ولكني بدل ذلك سأقص عليك قصة رحلة من رحلاتي تعلمت منها الكثير من القوانين المرتبطة بذينك النوعين من السنن.

1 ـ سنن التغيير:

في رحلة من رحلاتي.. قدر الله للطائرة التي كنت أمتطيها أن يحدث لها بعض العطب الذي جعلها تتوقف اضطراريا في بعض المطارات المهجورة في بلدة نائية ممتلئة بالآلام، كان الاستعمار والاستعباد والاستذلال وكل أنواع القهر والظلم تسكن فيها جنبا إلى جنب مع بشرها وحجرها ووبرها ومدرها.

وقد جعلني ذلك أتألم كثيرا لهذا البلاء الذي اختير لها، واختبرت به، وقد زاد في طينة بلائي ما كنت أراه فيها من ظهور المتمردين على الله، أولئك الذين اتهموا الله بأنه سبب ما يحصل لهم، وأنه هو الذي اختارهم من دون الناس جميعا ليكونوا نماذج للقهر الإلهي.

وقد ساعد على انتشارهم أولئك الذين يحملون صورا مشوهة عن الله والوجود والكون والحياة.. لقد كانوا يسيرون بين الناس، وينشرون فيهم أن كل ما يحصل لهم ليس سوى قدر إلهي، وأن عليهم أن يستقبلوه بصدر رحب، وأن أي معترض يعترض على ذلك، إنما يعترض على الله.

وقد رأيت آخرين منهم يواجهون ذلك الاستعباد والاستعمار بطرق غريبة يختلط فيها الدين بالشعوذة.. فهم يستعملون الطلاسم والأوفاق، ويتصورون أنهم بها يمكن أن يتغلبوا على عدوهم.

ورأيت بعضهم يكتفي بالدعاء بتجميد الدماء التي تسري في عروق المستعبدين لهم، ويكتفي بذلك، ويتصور أن الدعاء وحده سهام الله التي تصيب أعداء الله، وأن من فعل ذلك فهو المجاهد الحقيقي، حتى لو لم يتحرك بأي حركة، ولم يبذل أي جهد.

وقد رأيت فوق ذلك كله أسواق الشعوذة منتشرة بكثرة، ولهذا لا يواجهون ما يحصل لهم من البلاء بما يقابله من العمل، وإنما يواجهونه بطرد الشياطين والسحرة والفرار من العين وتوابعها وأزلامها.

وقد رأيت غير ذلك.. أشياء كثيرة لا يمكن أن أصفها لك، وربما لا ينفعك وصفي لها.

أما عدوهم؛ فقد كان يجثو فوق أرضهم، ويضرب بعضهم ببعض، ويستثمر كل نقاط الضعف التي امتلأوا بها، ليجعلهم خدما وسدنة لأغراضه، ومطالبه التي لا تنتهي.

في غمرة تلك الآلام سمعت برجل صالح ممتلئ بالحكمة، وأنه انفرد دون الناس في محل محصن لا يستطيع أن يصل إليه عدوهم بما لديه من عتاد وأسلحة.

وسمعت أيضا أن شباب المدينة يتسللون إليه كل حين، ليسمعوا منه، ثم يعودوا إلى مدينتهم ليحدثوها بما سمعوه..

وقد استفزني ذلك إلى البحث عنه، والسير إليه.. وقد وفقني الله لذلك بعد المرور على إجراءات أمنية مشددة؛ فقد كان يضع الحرس والعيون في كل مكان، حتى يراقبوا الداخلين والخارجين..

عندما دخلت إليه بادرني بالتحية، والكلام الطيب اللطيف، واعتذر لي عن تلك الإجراءات الأمنية المشددة التي مررت بها، وأخبرني أن ذلك لم يكن إلا للضرورة التي تستدعيها الظروف التي يعيشها، والتي تهدد حياته كل حين.

وقد حاولت حينها أن أبدو له مثل سائر الناس الذين يسكنون المدينة، ويمتلئون بالضعف، لأعرف أسرار تأثيره فيهم..

قلت له: عجبا لك أيها الأستاذ.. عندما سمعت بك، كنت تصور أنك الشجاع الذي لا يغلب، والبطل الذي لا يقهر، لكني فوجئت بأن ذلك كله مجرد دعاوى، لا حقيقة لها.. فأنت تحتاط لنفسك، وكأنك ستخلد في الدنيا.. ألم تسمع قوله تعالى: { وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ } [الطلاق: 3]؟

قال: بلى سمعتها.. وسمعت معها قول موسى عليه السلام: {رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ } [القصص: 17]، ورأيت معها ما فعله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين هم بالهجرة إلى المدينة المنورة.. فقد اتخذ كل الاحتياطات اللازمة لذلك.

قلت: ولكن ألا ترى أنك بذلك تفر من أقدار الله.

قال: بلى.. ولكن ليس إلى أقداري، وإنما إلى أقدار الله.. لأن الله تعالى وضع لنا كل الفرص، وأتاح لنا كل الوسائل، ووضع بين أيدينا كل الاختيارات، لنمارس حياتنا بكل حرية.. ألم تسمع قوله تعالى: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} (الرعد:39)؟

قلت: بلى.. سمعتها.. فما فيها من العلم؟

قال: يخبرنا الله تعالى في الآية الكريمة بأن أقداره المرتبطة بالتكليف ليست ملزمة لنا، ويمكننا أن نمحوها إذا أردنا..

قلت: ولكن الله تعالى أخبر أنه هو الذي يتولى ذلك، وليس البشر، فالله هو سيد القدر، لا البشر.

قال: ولكن ذلك المحو والتبديل خاضع لسلوكاتنا واختياراتنا، ألم تسمع قوله تعالى: { إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ } [الرعد: 11]

قلت: بلى.. وقد سمعت معها ما ورد في بعض الأحاديث أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال ـ حاكيا عن ربه ـ: (قال الرب: وعزتي وجلالي، ما من أهل قرية ولا أهل بيت كانوا على ما كرهت من معصيتي، ثم تحولوا عنها إلى ما أحببت من طاعتي، إلا تحولت لهم عما يكرهون من عذابي إلى ما يحبون من رحمتي)([1])

قال: فهذا الحديث يخبر أن الله تعالى ينزل من الأقدار على عباده بحسب استعداداتهم؛ ولذلك كانوا هم من يصنع قدرهم.

قلت: لا تزال نفسي تنفر من هذا الذي تقوله.. فالقدر مرتبط بالله، وليس مرتبطا بالعبد.. أتريد من العباد أن يصارعوا ربهم؟

قال: معاذ الله أن أقول ذلك.. ولكن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نفسه هو الذي قال ذلك، ولم أكن أتجرأ لأذكره لولا أني سمعته منه صلى الله عليه وآله وسلم.

قلت: أهناك حديث يذكر فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هذا؟

قال: أجل.. ألم تسمع قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا يغنى حذر من قدر، والدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل، وإن البلاء لينزل فيلقاه الدعاء، فيعتلجان الى يوم القيامة)([2])

وقال في حديث آخر: (لا يرد القدر إلا الدعاء، ولا يزيد في العمر الا البر، وإن الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه)([3])

قلت: أفكل ما نزل بهذه المدينة من الاستعباد والاستذلال كان بسبب أهلها؟

قال: أجل.. ألم تسمع قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (65) وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ} [المائدة: 65، 66]؟

قلت: بلى.. وسمعت معها قوله تعالى: { وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا } [الجن: 16]

قال: فقد كان الماء الغدق مرتبطا باستقامتهم على الطريقة.

قلت: أجل.. ومثله ما قاله نوح عليه السلام لقومه، فقد كان من جملة خطابه لهم قوله: {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا (12) } [نوح: 10 – 13]

قال: ومثله ذلك الوعد الإلهي لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأن يمدهم بالجنود من الملائكة، لكن بشرط الصبر والتقوى، قال تعالى: { بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ } [آل عمران: 125]

قلت: أنا لا أتحدث عن المدد الغيبي، ولكني أتحدث عن مدد الشهادة..

قال: قوانين الغيب والشهادة واحدة.. والله يثيب عباده بالغيب والشهادة، ويعاقبهم بهما.

قلت: أترى أن ما يحصل في هذه المدينة عقاب إلهي؟

قال: أجل.. هو عقاب إلهي.. فما نزل بلاء إلا بذنب، ولا رفع إلا بتوبة.

قلت: ولكن ما ذنب هؤلاء.. وهم مسلمون وقد سلط الله عليهم الكفرة.

قال: هم مسلمون في صلاتهم وصيامهم وحجهم وذكرهم لربهم.. لكنهم ربما يكونون كفرة فيما عدا ذلك..

قلت: أمن الممكن أن يتجزأ الإسلام، فيكون الشخص نصف مسلم أو نصف كافر.

قال: أجل.. ألم تسمع قوله تعالى: { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} [البقرة: 208]، وقوله: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام: 162]؟

قلت: بلى، فما فيها من العلم؟

قال: هناك من يتمسك بالإسلام كاملا صافيا غير مشوب.. وهناك من يخلطه بالكثير من الجاهلية، أو ببعضها.. ألم تسمع قوله تعالى: {ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ } [آل عمران: 154]؟

قلت: بلى.. وقد سمعت معها قوله تعالى: { وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} [الأحزاب: 33]

قال: فقد أخبر الله تعالى أن الشخص قد يكون مسلما في بعض جوانب حياته، ويكون جاهليا في غيرها.. ولذلك يثاب فيما يكون فيه مسلما، ويعاقب فيما لا يكون فيه كذلك.

قلت: أنت تقصد بأن أهل المدينة لم يكونوا في حياتهم ملتزمين بالإسلام الصحيح، لذلك سلط عليهم من يسومهم العذاب.

قال: بل هم الذين سلطوا على أنفسهم.. فلولا تلك الأفكار الجاهلية التي سيطرت عليهم ما طمع أعداؤهم فيه..

قلت: ولكنهم يحفظون الكتاب.. ويقدسونه.. ويقبلونه.. ويقرؤونه.

قال: يقرؤون حروفه ويضيعون معانيه.. ألم تسمع قوله تعالى: { ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} [البقرة: 85]

قلت: بلى.. وقد ذكر الله تعالى بعدها العقوبة المهينة التي سلطت عليهم بسبب ذلك، فقال: {فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [البقرة: 85]

قال: فأنت ترى أن الله تعالى توعدهم بالعقوبتين: الدنيوية والأخروية.

قلت: ولكن ذلك كان وعيدا ووصفا لما وقع لبني إسرائيل.

قال: سنة الله تعالى في عباده واحدة، والله لا يفرق بين مسلم ولا يهودي، ولا مسيحي.. وإذا رمي هؤلاء جميعا في البحر لم ينجو إلا العارف منهم بالسباحة.

قلت: ألهذا استطاع أعداء هذه المدينة أن يكسبوا القوة التي يتسلطون بها عليها؟

قال: أجل.. لأن المؤمنين الذين أقاموا قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} [البقرة: 43]، هم أنفسهم الذين قصروا في قوله: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال: 60].. ولذلك جاءهم عدوهم من هذا الجانب.

قلت: ولكن لم لم تحمهم صلاتهم؟

قال: أرأيت لو كنت تسير في المطر، ثم غطيت رأسك، ولم تغط سائر بدنك.. فهل ترى رأسك يحمي سائر بدنك؟

قلت: كلا.. فالبلل سيصيب كل جزء غير مغطى..

قال: فهكذا البلاء.. قد تحتمي بعض حياتك منه، لكنها لن تحتمي جميعا.. فلكل جهة حصنها الخاص بها.

قلت: فما الغطاء الذي تراه مناسبا لأهل هذه المدينة حتى يخرجوا من ذلهم وفقرهم وحاجتهم، وكل أنواع البلاء المسلطة عليهم.

قال: أنا هنا في هذه الجبال أدعو إلى أربعة سنن من تحقق بها، رفع عنه كل بلاء، ونزلت عليه كل ألوان العافية.

قلت: هل تقصد سنن الله أم سنن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟

قال: لم يكن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلا مبلغا عن الله، ومعرفا بسننه.

قلت: ولكن الناس الآن يهتمون بسنة اللحية والقميص والعمامة وغيرها.

قال: ليس ذلك دوري هنا.. ولو كان ذلك دوري ما احتجت إلى السكن في هذه الجبال، واتخاذ هذه الحراسة.

قلت: فما السنن الأربعة التي تدعو إليها؟

قال: المجاهدة، والثبات، والشمول، والعموم.

قلت: لم أسمع بهذه السنن في حياتي مع كوني قرأت جميع الصحاح والسنن والمسانيد من جميع المدارس الإسلامية.

قال: كلها مملوءة بهذه السنن.. لكننا من قوم يؤمنون ببعض الكتاب، ويكفرون ببعض.

قلت: فهلا علمتني علومها، وكشفت لي عن أسرارها، وذكرت لي أدلتها؛ فإني لا أحب أن أتناول من ديني شيئا من غير أن يكون له سند متصل بمصدر الدين ومنبعه.

قال: لك ذلك.. لكن لن أفعل ذلك.. حتى تأكل من بعض طعامي؛ فلا يصح أن يقدم المضيف لضيفه كلاما..

أ ـ سنة المجاهدة:

بعد أن أكلت بعض الطعام الذي قدمه لي، والذي لم أذق مثله في المدينة التي كنت فيها، سألته عن سر هذا الطعام، وكيف لا يتوفر مثله في المدينة مع أن الأرض واحدة.

قال: الأرض واحدة..لكن هناك من يعرف كيف يتعامل معها، ويبذل جهده في استصلاحها؛ فلا تملك إلا أن تجود عليه بثمار جهده.. وهناك من يقصر في ذلك.. والأرض بالوحي الذي أوحي إليها، لا تخدم إلا من خدمها، ولا تهدي ثمارها إلا من بذل جهده في ذلك.

قلت: فالمجاهدة إذن هي الطريق الذي ننال به ثمار الأرض.

قال: وهي الطريق الذين ننال به ثمار السماء.. ألم تسمع قوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت: 69]

قلت: أجل.. لقد دخلنا إلى الحديث عن السنة الأولى من سنن التغيير من دون أن نشعر.

قال: أجل.. لقد دخلنا إليها من دون أن تشعر.

قلت: أأنت كنت تشعر بأننا نتحدث عنها؟

قال: أجل.. وما أريتك هذه الأصناف من الطعام التي تجود بها هذه الأرض إلا لتعرف أن سبب فقر أهلها ليس [الله]؛ فالله أكرم الأكرمين، وهو الرزاق ذو القوة المتين.. وإنما سببه تلك الأيادي العاطلة عن العمل، والتي ترفع يديها إلى السماء تسترزق الله.. ومع أن الله وفر لها كل شيء إلا أنها صارت تتهمه بتقصيره في رزقها.

قلت: أجل.. وقد ذكرني حديثك هذا بقوله تعالى: {وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} (المزمل:20)، فقد قرن الله تعالى في هذه الآية الكريمة بين الجهاد والضرب في الأرض.

قال: بل إنه قدم الضرب في الأرض على الجهاد، فلا يمكن للمجاهد أن يجاهد لولا وجود من يضرب في الأرض.

قلت: أجل.. ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يدعو إلى العمل، ويستعمل كل الوسائل في ذلك، وقد روي أن رجلا من الأنصار أتاه، فسأله فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أما في بيتك شيء؟ فقال: بلى حلس نلبس بعضه ونبسط بعضه وقعب نشرب فيه الماء فقال: ائتني بهما، فأتاه بهما، فأخذهما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بيده فقال: من يشتري هذين؟ فقال رجل: أنا آخذهما بدرهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (من يزيد على درهم مرتين أو ثلاثا؟)، فقال رجل: أنا أخذهما بدرهمين، فأعطاهما إياه وأخذ الدرهمين فأعطاهما الأنصاري وقال: اشتر بأحدهما طعاما فانبذه إلى أهلك واشتر بالآخر قدوما فائتني به، فلما أتاه به شد فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عودا بيده، ثم قال: (اذهب فاحتطب وبع ولا أرينك خمسة عشر يوما)، ففعل وجاء فأصاب عشرة دراهم، فاشترى ببعضها ثوبا وببعضها طعاما، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (هذا خير لك من أن تجيء المسألة نكتة في وجهك يوم القيامة، إن المسألة لا تحل إلا لثلاث: لذي فقر مدقع، ولذي غرم مفظع، ولذي دم موجع)([4])

قال: بل إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يعتبر العمل والكسب نوعا من الجهاد في سبيل الله، ومن أقواله في ذلك قوله لبعض أصحابه: (أبشر، فإن الجالب إلى سوقنا كالمجاهد في سبيل الله، والمحتكر في سوقنا كالملحد في كتاب الله)([5])

ورأى بعض أصحابه شاباً قوياً يسرع إلى عمله، فقالوا: لو كان هذا في سبيل الله! فرد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عليهم مصححا: (لا تقولوا هذا؛ فإنه إن كان خرج يسعى على ولده صغاراً فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على أبوين شيخين كبيرين فهو سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على نفسه يعفُّها فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى رياء ومفاخرة فهو في سبيل الشيطان)([6])

قلت: أجل.. وفوق ذلك كله نرى القرآن الكريم يقرن العمل والتكسب بالشعائر التعبدية ليدل على فضله؛ فقد قرنه بالصلاة، التي هي عمود الدين، فقال: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (الجمعة:10)

قال: لقد كان الإمام الصادق يقرأ هذه الآية الكريمة، ثم يقول ـ مبينا سنة العمل بها ـ: (إنِّي لأركب في الحاجة التي كفانيها الله، ما أركب فيها إلا لالتماس أن يراني الله أضحى في طلب الحلال)([7])

قلت: وقد روي أن رجلا جاءه، فقال: إنِّي لا أحسن أن أعمل عملاً بيدي ولا أحسن أن أتَّجر، وأنا محارف محتاج، فلم يجد له الإمام عذرا، بل قال له: (اعْمَل فاحْمِل على رأسك واستغن عن الناس، فإنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد حمل حجراً على عاتقه فوضعه في حائط له من حيطانه)([8])

قال: لقد كان كل الهداة وورثة النبوة على هذا المنهاج، وقد روي عن محمد بن المنكدر، وقد كان من العباد المشهورين أنه قال: ما كنت أرى أن علي بن الحسين يدع خلفا أفضل منه حتى رأيت ابنه محمد بن علي الباقر، فأردت أن أعظه فوعظني فقال له أصحابه: بأي شئ وعظك؟ قال: خرجت إلى بعض نواحي المدينة في ساعة حارة فلقيني، وكان رجلا بادنا ثقيلا وهو متكئ على غلامين أسودين أو موليين فقلت في نفسي: سبحان الله شيخ من أشياخ قريش في هذه الساعة على هذه الحال في طلب الدنيا أما لأعظنه فدنوت منه فسلمت عليه فرد علي السلام بنهر، وهو يتصاب عرقا، فقلت: (أصلحك الله شيخ من أشياخ قريش في هذه الساعة على هذه الحال في طلب الدنيا أرأيت لو جاء أجلك وأنت على هذه الحال ما كنت تصنع؟ فقال: (لوجاءني الموت وأنا على هذه الحال جاءني وأنافي طاعة الله عزوجل، أكف بها نفسي وعيالي عنك وعن الناس وإنما كنت أخاف أن لوجاءني الموت وأنا على معصية من معاصي الله)، فقلت: (صدقت يرحمك الله أردت أن أعظك فوعظتني)([9])

قلت: أجل.. وقد روي عن بعضهم أنه قال:استقبلت الإمام الصادق في بعض طرق المدينة في يوم صايف شديد الحر فقلت: جعلت فداك حالك عندالله عزوجل وقرابتك من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأنت تجهد لنفسك في مثل هذا اليوم؟ فقال: (يا عبدالأعلى خرجت في طلب الرزق لاستغني عن مثلك)([10])

قال: هذه سنة جميع الأنبياء وورثتهم، ومن خالف ذلك كان مبتدعا، ولذلك لن يلقى إلا جزاء المبتدعة.

قلت: أجل.. فقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (ما بعث الله نبيّا إِلا راعي غَنَمٍ)، فقال أَصحابه: وأنت؟ فقال: (نعم، كنتُ أرْعاها على قَرَارِيطَ لأهل مكة)([11])، وكان يقول: (ما أكل أحد طعاما خيرا من عمل يديه إن نبي الله داود عليه السلام كان يأكل من عمل يده)([12])

قال: وهكذا يروى في الآثار: أن آدم عليه السلام لما أهبط إلى الأرض أتاه جبريل عليه السلام بالحنطة، وأمره أن يزرعها، فزرعها وسقاها وحصدها ودرسها وطحنها وخبزها.. وأن نوحا عليه السلام كان نجارا يأكل من كسبه.. وأن إدريس عليه السلام كان خياطا.. وأن إبراهيم عليه السلام كان بزارا.. وذكر الله داود عليه السلام فقال: {وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ} (سبأ:10)، وقال: {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ} (الانبياء:80)، فكان يصنع الدرع ويبيع كل درع باثني عشر ألفا فكان يأكل من ذلك ويتصدق.. وكان سليمان عليه السلام يصنع المكاييل من الخوص فيأكل من ذلك ([13]).

قال: إن السبب الذي جعل قومك يقعدون العمل هو هذا الاستعمار الذي جثا على أرضهم، وراح يسرق خيراتهم، ويستسخرهم لذلك.

قال: فهل تعرف سبب دخول الاستعمار لأرضنا؟

قلت: سألت عن ذلك أهل المدينة، فذكروا لي أنه قدر مقدور عليهم، اختبرهم الله به.

قال: ويلهم.. ألا يزالون يتهمون الله وعدالته ورحمته..

قلت: فما سبب دخول الاستعمار؟

قال: لقد كان قومي كسالى، لا يهتمون بالعمل، ولا ببذل أي جهد، وقد كانوا لذلك يستقدمون العمال من البلاد المختلفة، وكان أكثرهم من تلك البلدة التي استعمرتهم؛ فقد كان عمالها عيونا لها؛ وعندما أخبروهم بعجزهم وكسلهم، راحوا يغزونهم، وسرعان ما انتصروا عليهم، ثم صاروا يستسخرونهم في كل الأعمال التي كانوا يأنفون من العمل فيها.

قلت: فهذه تربية إلهية لهم.

قال: وقد كان في إمكانهم تفاديها.. كان في إمكانهم أن يسيروا كما سار الأنبياء وورثتهم.. لكنهم أبوا ذلك، فسلط الله عليهم عدوهم، ليذيقهم ألوان الهوان.

ب ـ سنة الثبات:

قلت: فقد صدق قومك إذن عندما ينسبون ما حصل لهم من استعباد وإذلال وقهر لله تعالى.

قال: الأمر كله لله من قبل ومن بعد.. ولكن الله يعامل كل جهة بما تستحقه.. ألم تسمع قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْتُمْ يَامُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ } [البقرة: 61]؟

قلت: بلى.. فقد ذكر الله تعالى أن ما حصل لبني إسرائيل من الهوان والذلة والاستعباد كان عقوبة إلهية بسبب استبدالهم الذي هو أدنى بالذي هو خير.

قال: وهكذا قومي.. فقد راحوا يستبدلون شريعة الله بأهوائهم، وعدالة الله بجورهم، ورحمة الله بقسوتهم، مثلما استبدل بنو إسرائيل المن والسلوى بالثوم والبصل.. ومثلما استبدلوا إلههم القدوس بذلك العجل الذهبي.

قلت: لقد ذكر الله تعالى في القرآن الكريم كثيرا سنة الاستبدال الإلهية.

قال: أجل.. فالله تعالى بعد أن ينزل هدايته على عباده يعطيهم الفرص، لاتباعها أو الإعراض عنها لاختبارهم بذلك، ألم تسمع بقوله تعالى: { أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ } [العنكبوت: 2، 3]؟

قلت: بلى.. وقد ذكر القرآن الكريم أن أكثر المبتلين يسقطون في بلائهم، فقد قال الله تعالى عمن أساءوا خلافة الصالحين: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا } [مريم: 59]

قال: أتدري ما سر ذلك؟

قلت: ما سره؟

قال: تخلفهم عن سنة الثبات..

قلت: أتلك التي أخبرتني أنها ركن من أركان سنن التغيير؟

قال: أجل.. فقد يبذل مريد التغيير كل جهده في الإصلاح.. ولكنه إن لم يستمر على ذلك، ولم يثبت عليه، لم يتحقق له التغيير، بل قد يسقط في نيران الغفلة.. ألم تسمع ما ذكر الله تعالى عن ذلك الذي آتاه العلم.. لكنه لم يستطع الثبات والصبر والدوام.

قلت: لعلك تقصد من يقال له [بلعلم بن باعوراء]، ذلك الذي جعله الله تعالى عبرة ونموذجا للعلماء المغيرين المبدلين.

قال: أجل.. فقد ذكر الله تعالى أنه كان بمحل رفيع من العلم، وأنه كان في إمكانه أن ينال الدرجات العليا في الدنيا والآخرة.. لكنه بسبب هجره لسنة الدوام تحول إلى كلب لاهث.. قال تعالى: { وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الأعراف: 175، 176]

قلت: وهكذا كان حال السامري؛ فقد كان من أصحاب موسى عليه السلام، بل كان من المقربين السابقين.. لكنه لم يثبت ولم يواصل المسيرة، فتحول من صحابي جليل إلى شيطان رجيم.

قال: وهكذا أخبر الله تعالى أن طالوت لم يسر بقومه إلى عدوهم إلا بعد أن امتحن ثباتهم على ما عاهدوه عليه.

قلت: ولكنه امتحنهم بشيء شديد على نفوسهم، وهو شرب الماء.. فما سر ذلك؟

قال: سر ذلك أن أكبر ما يهدد الثبات تسلل الأهواء، وأكبر ما يدعو إلى تسلل الأهواء الركون إلى الدنيا.. والدنيا ليست سوى مطعم ومشرب.. فلذلك امتحنهم بالمشرب.

قلت: أجل.. ولهذا قال الثابتون: {رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [البقرة: 250]، وقد عقب الله عليها بقوله: {فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ } [البقرة: 251]

قال: وهكذا العدو؛ فهو لا يراهن على شيء كما يراهن على الملل، ولذلك كان عدوه الأكبر ثبات المجاهدين وصبرهم..

قلت: أجل.. ولهذا وصف الله تعالى المؤمنين الصادقين، فقال: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا } [الأحزاب: 23]

قال: أجل.. فعلامة الصدق الثبات.. وعلامة الصدق عدم التبديل.

قلت: ألهذا حذر الله تعالى هذه الأمة من أن تخلف وعدها لرسولها صلى الله عليه وآله وسلم، وتسقط في مهاوي الملل الذي يجرها إلى التغيير والتبديل؟

قال: أجل.. فقد قال الله تعالى: { وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران: 144]

قلت: لقد ذكر الله تعاى أن هذه السنة سارية إلى يوم القيامة، فكل من بدل وغير، بدل الله به وغير.. قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } [المائدة: 54]

قال: ولهذا كانت العبرة بالخاتمة.. وقد قال تعالى: {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (البقرة:132)

قلت: وقد ورد في الحديث ما يبين خطورة الخاتمة، فقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: (والذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها)([14])

قال: وقد أخبر صلى الله عليه وآله وسلم عن وقوع ذلك، وفي الزمن الأول، فقال: (بينا أنا قائم على الحوض، إذ زمرة، حتى إذا عرفتهم خرج رجل من بيني وبينهم، فقال: هلم، فقلت: إلى أين؟ فقال: إلى النار والله، فقلت: ما شأنهم؟ فقال: إنهم قد ارتدوا على أدبارهم القهقرى، ثم إذا زمرة أخرى، حتى إذا عرفتهم خرج رجل من بيني وبينهم، فقال لهم: هلم، قلت: إلى أين؟ قال: إلى النار والله، قلت ما شأنهم؟ قال: إنهم قد ارتدوا على أدبارهم، فلا أراه يخلص منهم إلا مثل همل النعم)([15])

ج ـ سنة الاعتدال:

قلت: وعيت هذا.. فما سنة الاعتدال، وما علاقتها بسنن التغيير؟

قال: ويمكنك أن تسأل أيضا عن علاقتها بسنة الثبات.

قلت: إن أجبتني عن علاقتها بسنة الثبات، فقد أجبتني عن الجميع.

قال: ألم تسمع قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (لكل عابد شرة، ولكل شرة فترة، فإما إلى سنة، وإما إلى بدعة، فمن كانت فترته إلى سنة، فقد اهتدى، ومن كانت فترته إلى غير ذلك فقد هلك)([16])

قلت: بلى.. فما علاقته بالاعتدال والثبات؟

قال: لقد أخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن أول الانحرافات التي يقع فيها العبّاد، ويأتيهم الشيطان من خلالها، تلك الشرة والتنطع والتطرف، والذي يجعلهم ينشئون دينا جديدا وقيما جديدة تتناسب مع تطرفهم، سماها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بدعة.

قلت: لقد ذكرتني بما فعله الرهبان، فقد وصف الله تعالى تطرفهم وتنطعهم فيها، فقال: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا } [الحديد: 27]

قال: ولذلك كان الاعتدال هو أول ركن من أركان الثبات.. فمن خرج عنه تعرض للكثير من الهزات التي قد تخرجه من الدين نفسه.

قلت: لقد ذكرني حديثك هذا بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إنّ هذا الدّين متين فأوغل فيه برفق ولا تبغّض إلى نفسك عبادة الله فإنّ المنبتّ لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى)([17])

قال: هل رأيت خطورة التنطع والتشدد، إنه يفسد كل شيء، حتى أنه يفسد تلك العلاقة بين العبد وربه، حيث يحول العبادة إلى شيء تبغضه النفس، بدل أن تقبل عليه بكل سرور.

قلت: لقد ذكرتني بما ورد في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رأى ذات يوم رجلا يصلّى، يكثر الرّكوع والسّجود، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (عليكم هديا قاصدا، عليكم هديا قاصدا، عليكم هديا قاصدا، فإنّه من يشادّ هذا الدّين يغلبه)([18])

قال: وقد ذكر لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رجال يجتهدون في العبادة اجتهادا شديدا. فقال (تلك ضراوة الإسلام وشرّته ولكلّ ضراوة شرّة، ولكلّ شرّة فترة. فمن كانت فترته إلى اقتصاد وسنّة فلا أمّ ما هو، ومن كانت فترته إلى المعاصي فذلك الهالك)([19])، وقال: (هلك المتنطّعون)([20])

قلت: صدق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقد رأينا ذلك في الواقع، فقلما يتنطع أحد أو يتشدد إلا وأصبح عرضة للأهواء، ولأصحاب الأهواء.

قال: ولذلك كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يدعو إلى الاعتدال في كل شيء، وقد قال في بعض حديثه: (إذا نعس أحدكم في الصّلاة فليرقد حتّى يذهب عنه النّوم، فإنّ أحدكم إذا صلّى وهو ناعس لعلّه يذهب يستغفر فيسبّ نفسه)([21])

وروي أنه وصفت له امرأة عابدة، تكثر من الصلاة، قال: (مه، عليكم بما تطيقون، فو الله لا يملّ الله حتّى تملّوا، وكان أحبّ الدّين إليه ما داوم عليه صاحبه)([22])

قلت: فهل لهذا الركن من أركان سنن التغير علاقة بما حصل لقومك؟

قال: أجل.. لقد بدأ انحرافهم بالتنطع والوسوسة في بعض أمور الدين؛ فاستغرقوا فيها كل جهودهم وأوقاتهم، وقد جعلهم ذلك يضيعون غيرها، وقد تسلل الأعداء من ذلك الغير.

قلت: لم أفهم.

قال: سأضرب لك مثالا على ذلك.. لقد راح قومي يقرؤون فضائل أهل العلم، وبدل أن يفهموا العلم بمفهومه الشرعي الواسع الذي يشمل كل العلوم، راحوا يقصرونه على علوم الدين، بل على علوم الفروع، باعتباره ـ كما يتوهمون أفضل العلوم ـ وقد جعلهم ذلك يقصرون في علوم الكون والحياة، وفي غمرة ذلك التقصير، صاروا يحتاجون في كل شيء إلى أعدائهم، ليكفوهم شؤون الدنيا.. واستغل الأعداء الفرصة، واستعبدوهم، وأذلوهم.

قلت: لقد ذكرتني بما قاله الغزالي يحكي عن عصره، وعن تقصير الأمة في العلوم الطبية في نفس الوقت الذي يتهافتون فيه على الفقه ونحوه، فقد قال: (كم من بلدة ليس فيها طبيب إلا من أهل الذمة، ولا يجوز قبول شهادتهم فيما يتعلق بالأطباء من أحكام الفقه، ثم لا نرى أحداً يشتغل به، ويتهاترون على علم الفقه لاسيما الخلافيات والجدليات والبلد مشحون من الفقهاء بمن يشتغل بالفتوى والجواب عن الوقائع؛ فليت شعري كيف يرخص فقهاء الدين في الاشتغال بفرض كفاية قد قام به جماعة وإهمال ما لا قائم به؟ هل لهذا سبب إلا أن الطب ليس يتيسر الوصول به إلى تولي الأوقاف والوصايا وحيازة مال الأيتام وتقلد القضاء والحكومة والتقدم به على الأقران والتسلط به على الأعداء؟)([23])

قال: وقد ورد في الحديث ما يشير إلى ذلك، فقد روي أن النّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم آخى بين سلمان وأبي الدّرداء، فزار سلمان أبا الدّرداء، فرأى أمّ الدّرداء متبذّلة فقال لها: ما شأنك؟ قالت: أخوك أبو الدّرداء ليس له حاجة في الدّنيا. فجاء أبو الدّرداء فصنع له طعاما فقال له: كل. قال: فإنّي صائم. قال: ما أنا بآكل حتّى تأكل. قال: فأكل. فلمّا كان اللّيل ذهب أبو الدّرداء يقوم. قال: نم. فنام. ثمّ ذهب يقوم. فقال: نم. فلمّا كان من آخر اللّيل قال سلمان: قم الآن، فصلّيا. فقال له سلمان: إنّ لربّك عليك حقّا، ولنفسك عليك حقّا، ولأهلك عليك حقّا، فأعط كلّ ذي حقّ حقّه. فأتى النّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فذكر ذلك له فقال له النّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: (صدق سلمان)([24])

د ـ سنة العموم:

قلت: أجل.. فما تشدد أحد في ناحية من النواحي إلا قصر في غيرها.. ولذلك كان الاعتدال صمام أمان الثبات، كما أنه صمام أمان الدخول في السلم كافة.

قال: كما أنه صمام أمان العموم.

قلت: أتقصد الركن الرابع من أركان التغيير؟

قال: أجل.. فلا يمكن أن يؤثر التغيير ما لم ينتشر بين العوام والخواص، لتصبح الغلبة له.. وحينها يتحقق نصر الله الذي وعد به عباده حين قال: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا} [النصر: 1، 2]

قلت: فما علاقة الاعتدال بالعموم؟

قال: إن أخطر وسيلة يستعملها الشيطان لصرف عوام الناس عن الدين هي ذلك التشدد الذي يظهر به المتدينون، والذي يجعل العامة ينفرون منه، خوفا على حياتهم أن تنقلب رأسا على عقب.

قلت: ولكن ألا ترى الدين والتدين شيء شخصي؛ فكل شخص يحاسب وحده، {وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164]، وقد قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } [المائدة: 105]

قال: وقد قال الله تعالى معها، وموضحا لها: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ } [المائدة: 78، 79]

قلت: فما فيها من العلم، وكيف ترى عدم تعارضها مع الآية التي ذكرتها؟

قال: القرآن الكريم { كِتَابٌ عَزِيزٌ (41) لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت: 41، 42]، ولذلك لا تفهم متشابهه إلا على ضوء محكمه.

قلت: فما المحكم بين كلا الآيتين، وكيف يفهم المتشابه على أساسها؟

قال: المحكم هو ما نصت عليه تلك الآية الكريمة التي وردت نظائرها الكثيرة في القرآن الكريم تدعو إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإصلاح المجتمع، وفي جميع المجالات.. وتعتبر القاعد عن ذلك ملعونا ومطرودا عن رحمة الله.

قلت: والمتشابه الوارد في الآية التي ذكرتها، والتي تدعو كل شخص لأن يقوم بما عليه، وأنه لا يحاسب على عمل غيره.

قال: لقد أجبت بسؤالك عن ذلك.. فالآية الكريمة لا تدعو إلى القعود عن الدعوة.. وإنما تدعو إلى عدم الاهتمام بإنكار المنكرين أو إعراض المعرضين، لأن الهداية من الله، ودور الدعاة التبليغ عن الله.. كما قال تعالى: { إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [القصص: 56]

قلت: صدقت، وهي تدعو كذلك إلى ما عبر عنه صلى الله عليه وآله وسلم عندما سئل صلى الله عليه وآله وسلم عن تلك الآية الكريمة، فقال: (بل ائتمروا بالمعروف، وتناهوا عن المنكر، حتّى إذا رأيت شحّا مطاعا، وهوى متّبعا، ودنيا مؤثرة، وإعجاب كلّ ذي رأي برأيه، فعليك بخاصّة نفسك، ودع العوامّ، فإنّ من ورائكم أيّاما الصّبر فيهنّ مثل القبض على الجمر، للعامل فيهنّ مثل أجر خمسين رجلا يعملون مثل عملكم)([25])

قال: صدق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ونصحنا؛ وهذا الحديث هو ما جعني ألجأ إلى هذه الجبال، وأفر من تلك البلدة التي امتلأت بالمعجبين برأيهم.

قلت: لكنك اجتذبت الكثير من شباب المدينة ورجالها، وكلهم صاروا يتحدثون عنك.

قال: لقد رحلت من بينهم عمدا، بعد أن أديت كل ما علي من النصيحة..

قلت: فكيف التحقوا بك.. أو كيف التحق الكثير منهم بك؟

قال: عندما علموا صدقي ونصيحتي لهم، راحوا يبحثون عني.. وقد كان ذلك فرصة لي.. لا لتوعيتهم فقط.. وإنما للدعوة لتنظيمهم، وتنظيم جهودهم لطرد الأعداء.

قلت: هل يمكن طرد الأعداء بالكلمات؟

قال: أجل.. عندما تتغلغل الكلمات في العقول والقلوب تتحول إلى معاول تهدم كل الانحرافات، وتسد كل أبواب الشيطان.

قال ذلك.. ثم طلب مني أن أسير معه في الجبل.. وبعد أن سرنا قليلا، فوجئت بشباب كثيرين يمارسون أنواعا من الرياضة العنيفة.. فسألته عنهم، فقال: هؤلاء هم الذين سيحررون بلادهم من ذاك المستعمر.. وهم الذين سيبنونها بعد ذلك.. وعندما تأتي بعد عشر سنين سترى الأمر مختلفا تماما.

قلت: أنت تريد مني إذن أن أرحل، وأعود بعد عشر سنين.

قال: أجل.. فأنت لا تزال تحتاج إلى البحث عن المزيد من أسرار الحياة.

قلت: ولكنك لم تذكر لي أسرار سنن التمكين.

قال: عندما تأتي بعد عشر سنوات.. ستجد من تلاميذي من يخبرك عنها.. فنحن الآن في طور التغيير، لا في طور التمكين، ولا يصح لي أن أتحدث عن مقام لم أبلغه.

2 ـ سنن التمكين:

بعد عشر سنين من ذلك الحديث عدت إلى تلك المدينة من غير أن أخطط لذلك، أو أتذكر وعده لي، أو وعدي له.. فقد حصل لي معه نفس ما حصل لصاحب يوسف عليه السلام عندما نسي وصيته له..

وقد كان من مقادير الله العجيبة أن تنزل بنا الطائرة إليها مثلما نزلنا أول مرة، مضطرين مكرهين، لكن الله تعالى أراد أن يريني قوله: { إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ } [الرعد: 11]، فقد رأيت هذه الآية الكريمة أمامي عيانا في تلك المدينة.

في المرة الأولى التي دخلت إليها فيها كانت أشبه بمدن الأشباح، وكانت أرضها قاحلة جدباء، وكانت وجوه أهلها تمتلئ بالذلة.. وكانت طرقها ممتلئة بالوحل..

لكني في المرة الثانية رأيتها بصورة مختلفة تماما، كانت ممتلئة بالحياة والجمال، وكانت أرضها مزهوة بأصناف الأزهار والثمار.. وكانت طرقها معبدة، وبناؤها منظما.. وكأنك تسير في مدينة من المدن العصرية.

والأجمل من ذلك كله أهلها الذين كان تبدو عليهم كل مظاهر العزة والاحترام، وقد كانوا ممتلئين بالحياة عكس ما رأيت في المرة السابقة، فقد كانوا ممتلئين بالموت، بل بكل أصناف الموت.

والأجمل من ذلك كله هو أن البلد كانت مستقلة استقلالا تاما؛ فلم يكن فيها موطئ قدم واحد لعدوهم..

وقد عجبت إذ وجدت شخصا في المطار ينتظرني، وبمجرد أن دخلت قاعة المطار الجميلة جاء إلي، وهو يقول لي: مرحبا بك.. لقد كنا في انتظارك.

قلت: كيف كنتم في انتظاري، وأنا لم أكن أقصد هذه المدينة، بل لم ننزل فيها إلا مضطرين.

قال: لقد أخبرنا حاكم هذه المدينة أنك ستفد اليوم، وقد طلب منا أن نستقبلك أحسن استقبال، وأن نسير بك في المدينة، لتراها، ثم ننقلك بعدها إليه.. ولا تقلق بشأن رحلتك؛ فلدينا بحمد الله من المهندسين الأكفاء من يمكنهم أن يصلحوا الطائرة، في أقصر مدة.. وستكمل رحلتك بعدها.

لم أجد إلا أن أسير معه، وأنا في غاية العجب من هذا الذي يحصل معي، وقد تذكرت حين ذكر لي ذلك كل شيء، وندمت على ذلك التقصير الذي بدر مني حول ذلك الرجل الصالح، والذي نسيته طول تلك المدة، مع أني كنت أعاتب كثيرا صاحب يوسف عليه السلام، ونسيانه لنبي الله.

في الطريق،ونحن نشاهد جمال تلك المدينة، قلت للذي استقبلني: لقد جئت إلى هذه المدينة قبل عشر سنين، لكنها كانت مختلفة تماما.. وكأنها كانت ميتة، لكنها الآن أصبحت حية، بل ممتلئة بالحياة؛ فما السر في ذلك؟

قال: ألم تسمع قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ } [الأعراف: 96]؟

قلت: بلى.. ولكني عندما دخلت إليها سابقا، كان هناك الأتقياء والمؤمنون.

قال: وكان هناك المستعبدون الذين كانوا يؤمنون ببعض الكتاب، ويكفرون ببعض.. وقد كان أولئك سبب بلائها.

قلت: فهل تخلصتم منهم؟

قال: بل تخلصنا من جهلهم وافترائهم على الله، وقد تعاملنا معهم بما أوصانا به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين قال: (مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم فقالوا لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا ولم نؤذ من فوقنا فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا)([26])

قلت: فهل قاتلتموهم؟

قال: بل جاهدناهم.

قلت: فقد تسببتم في قتلهم إذن.

قال: لقد قتلنا جهلهم وضلالهم واتباعهم لأهوائهم.

قلت: بم؟

قال: بالقرآن الكريم.. ألم تسمع قوله تعالى: {فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا} [الفرقان: 52]؟

قلت: بلى.. فكيف تم ذلك؟

قال: لقد كنا حينها شبابا.. وكنا نسير كل حين إلى ولي الله في الجبل، وكان يعلمنا، ويرشدنا.. فإذا عدنا إلى مدينتنا نشرنا بينها تلك التعاليم، وقد أذن الله أن يرفع ذلك الجهل، ويرفع معه كل أنواع البلاء التي كانت مرتبطة به.

قلت: لكن كان الاستعمار جاثياعلى أرضكم.

قال: لقد كان الاستعمار عقوبة لنا.. ولم يكن ليسكن بعد أن رأى عزتنا وكرامتنا وشجاعتنا ووعينا.

قلت: هل حاربتموه؟

قال: وسرعان ما انتصرنا عليه، لأنه لم يكن يملك من سلاح سوى ضعفنا وعجزنا وتهاوننا.. فعندما رأى بعض ما أبدينا له من عزتنا، راح يفر من أرضنا، فما كان للمتكبرين أن يسكنوا مع المعتزين.

قلت: فكيف تولى هذا الحاكم أمركم، وما سر تمكين الله له؟

قال: أنسيت ما وعدك به حاكمنا من سنن التمكين؟

قلت: أجل.. لقد أخبرني أن بعض تلاميذه سيذكرها لي.

قال: فأنا ذلك التلميذ.

قلت: فما هي سنن التمكين التي استطاع بها ذلك الرجل أن يخرج من كهوف الذلة إلى قصور التمكين.

قال: بأربعة سنن: الإخلاص، والتضحية، والورع، والزهد.

أ ـ سنة التضحية:

قلت: فما سنة التضحية، وما علاقتها بسنن التمكين؟

قال: ألم يخبر الله تعالى عن تمكين الله لإبراهيم عليه السلام، وجعله إماما؟

قلت: بلى.. وقد قال في ذلك: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا} [البقرة: 124]

قال: فقد اعتبر الله تعالى البلاء الذي مر به، ونجاحه فيه السر في تمكين الله له وجعله إماما.

قلت: أجل.. وما علاقة ذلك بالتضحية؟

قال: لأن كل أنواع البلاء التي اختبر بها إبراهيم عليه السلام مرتبطة بالتضحية.. ألم يقدم نفسه للنار فداء لكلمته، ولم يتزحزح، ولم يبدل، ولم يغير؟

قلت: بلى.. لقد ذكر الله تعالى ذلك، فقال: {قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (68) قُلْنَا يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ (69) وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ} [الأنبياء: 68 – 70]

قال: ألم يكلفه الله بأن يترك أهله في تلك الصحراء القاحلة، ويسلم أمره وأمرهم لله تعالى من دون أن يجادل في ذلك، ففعل، ولم يجادل، ولم يعترض، بل سلم تسليما؟

قلت: بلى.. وقد ذكر الله تعالى ذلك، فقال: { رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} [إبراهيم: 37]

قال: ألم يكلفه الله بأن يذبح ابنه بعد أن بلغ من العمر عتيا؟

قلت: بلى.. لقد ذكر الله تعالى ذلك، فقال: {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ (101) فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَابُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَاأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102) فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَاإِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ (106) وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107) } [الصافات: 101 – 108]

قال: هذه الآيات الكريمة تريك سر كون التضحية والاستعداد لبذلها في سبيل الحق ركنا من أركان التمكين.

قلت:كيف ذلك؟

قال: لأن الممكن له في الأرض تمكينا إلهيا يحتاج لأن يكون مسلما للحق تسليما مطلقا؛ فلا يتحرك إلا به، ولا يتحرك إلا من أجله.. ولذلك يستعد للتضحية بكل شيء في سبيله.

قلت: لقد ذكرتني بقوله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة: 24]

قال: أجل.. فهذه الآية الكريمة تبين سرا من أسرار التضحية، وهو التضحية بالأقارب والأموال والمساكن في سبيل الحق.. ذلك أنه لا يمكن لأحد تزاحمه أهواؤه محبة ربه أن يقدم على أي عمل، أو يقدّم أي تضحية.

قلت: لقد ذكرني حديثك هذا بتلك الشكوى التي شكا بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قومه عندما قال: (اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس، أنت أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين، وأنت ربي إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهمني، أو إلى عدو ملكته أمري؟ إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي، ولكن عافيتك هي أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن ينزل بي غضبك، أو يحل علي سخطك، لكن لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك)([27])، فقد اكتفى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم باللجوء إلى ربه، والتضرع إليه، والخوف من غضبه، مع كل تلك التضحيات التي قدمها.

قال: هكذا هم رسل الله وورثتهم عليهم الصلاة والسلام.. فكلهم اختبروا بكل ألوان البلاء، ولم يمكنوا إلا بعد مرورهم عليها، ونجاحهم فيها.

قلت: لقد ذكرتني بقوله صلى الله عليه وآله وسلم جوابا لمن سأله عن أشد الناس بلاء: (الأنبياء، ثم الصالحون، ثم الأمثل، فالأمثل من الناس، يبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه صلابة زيد في بلائه، وإن كان في دينه رقة خفف عنه، وما يزال البلاء بالعبد حتى يمشي على ظهر الأرض ليس عليه خطيئة)([28])

 قال: أجل.. ولهذا اختبر الله تعالى يوسف عليه السلام قبل التمكين له في الأرض بالدخول إلى السجن، ومعاينة آلامه.. واختبر قبل ذلك بإيذاء إخوته له واستعباده.

قلت: أجل.. وقد أشار الله تعالى إلى ذلك عند قول يوسف عليه السلام بعد مجيء إخوته، وسجودهم له: { يَاأَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (100)} [يوسف: 100]، ثم عقب على هذه البلايا التي مرت به بقوله عن تمكين الله له: {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ } [يوسف: 101]

قال: أجل.. فلولا نجاح يوسف عليه السلام في بلائه مع امرأة العزيز، وفي السجن، ما تحول إلى عزيز مصر.

قلت: ولكن من الناس من يبتلى بكل أنواع البلاء، ولكن لا يحصل له التمكين.

قال: هل تقصد الإمام الحسين، ذلك الذي مر به وبأهله أعظم بلاء في التاريخ؟

قلت: أجل.. وقد كان راضيا به أتم الرضى حتى أنه عندما قتل أمامه ابنه الرّضيع العطشان لم يجد سوى أن يمد يديه إلى السّماء ويقول: (أرضيت يا رب، خذ حتّى ترضى)

قال: وهل هناك أحد مكن له أكثر من الإمام الحسين، ألم يخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه سيد شباب أهل الجنة؟

قلت: بلى.. ولكن ذلك تمكين مرتبط بالجنة، لا بالدنيا.

قال: بل هو مرتبط بكليهما، فما كان للإمام الحسين أن يكون سيد شباب أهل الجنة لو لم يكن سيد شباب أهل الدنيا.

قلت: لم أفهم.. كيف ذلك.

قال: لم يكن قائد ثورتنا سوى نموذج لتربية الإمام الحسين، كان يحدثنا عنه كثيرا، وكان يطلق علينا لقب الحسينين.. وكان يعتبر ثورتنا على المستعمر امتدادا للثورة الحسينية.. لذلك كنا نشعر جميعا أن الحسين هو قائدنا.. ومن العجائب أن اسم حاكمنا وقائدنا يطابق اسم الحسين.

قلت: عجبا.. لم أكن أعرف أن هذا اسمه.

قال: هذا اسمه.. وهو مثال على التمكين الإلهي للعبد في كل الأجيال.. مثلما مكن لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فصارت المآذن في جميع العالم تصدح باسمه.. ومثلما مكن لإبراهيم عليه السلام حين صار نداؤه بالحج مسموعا لكل العالم.

ب ـ سنة الإخلاص:

قلت: عرفت سنة التضحية.. فما سنة الإخلاص؟

قال: لا تكفي التضحية وحدها ليمكّن الله لعبده.

قلت: لم؟

قال: لأن المضحي قد يرى نفسه، ويعجب بها، ويتصور أنه على شيء، ولذلك عندما يمكّن له يتعامل مع الخلق على أنه رب لا عبد.

قلت: فما المخرج من هذا؟

قال: المخرج منه بالتجرد والإخلاص.. فالتجرد هو الذي يجرد العبد من أنانيته، والإخلاص هو الذي يخلصه من نفسه.. حتى يصبح ربانيا يمثل الله، ولا يمثل نفسه، ويمثل الحقيقة، ولا يمثل الهوى.

قلت: ألهذا قال الله تعالى: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ} [آل عمران: 79]؟

قال: أجل.. فالعبد الرباني هو العبد الذي تخلص من كل أنانيته وأهوائه وتجرد للحق تجردا مطلقا؛ فلذلك استحق هذا الاسم، واستحق هذه النسبة الرفيعة.

قلت: ألهذا اعتبر الله الحاكم الصالح حاكما باسم الله؟

قال: أجل.. لأن الحكم الصالح لا تكفي فيه القوانين، وإنما يحتاج إلى المنفذ لها.. فالمنفذ إن كان ينفذها بأنانيته وشخصه بعيدا عن ربه، كان يحكم فيهم بنفسه، لكنه إن ترك نفسه، وخلص لربه صار حكمه بالله ولله وعلى شريعة الله.

قلت: وعيت هذا.. ولهذا فإن العلمانية ـ حسب هذا ـ ليست فقط في ترك التحاكم لشريعة الله، وإنما في ترك التحاكم لأوليائه الذين يطبقون شريعته.

قال: أجل.. فشريعة الله إن طبقها الفسقة تحولت إلى ذريعة لكل أنواع الفجور، وإن طبقها الأنانيون تحولت إلى مجال لأنانيتهم.. ولهذا لم تنفع بني إسرائيل كتبهم، ولا أحبارهم، ولا رهبانهم، لأنهم لم يطبقوا الشريعة باسم الله، وإنما طبقوها بأسمائهم، كما قال تعالى: { اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة: 31]

قلت: لقد ذكرتني بما ورد من الحديث في تفسيرها، فهو ينطبق تماما على ما ذكرت، فقد روي عن عَدِيّ بن حاتم قال: أتيتُ النبي صلى الله عليه وآله وسلم وفي عُنُقِي صَلِيبٌ من ذَهَبٍ، فقال: (ما هذا يا عدي اطرح عنك هذا الوثن)، وسمعته يقرأ في سورة براءة {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ} [التوبة: 31]، ثم قال: (أما إنهم لم يكونوا يَعبدونهم، ولكنهم كانوا إذا أحلُّوا لهم شيئًا استحلوه، وإذا حرموا عليهم شيئًا حرَّموه)([29])

قال: أجل.. فالحديث يبين سر فقدان الإخلاص.. ذلك أن أول أدوائه فقد التوجه التام لله.. والتجرد التام لمرضاته.. ولذلك يصبح ذلك المتجرد من الإخلاص عرضة لكل أصناف الهوى، فيحكم أو يفتي بحسب ما يمليه عليه هواه، لا بحسب ما يملي عليه ربه.

قلت: أجل.. بالإضافة إلى أنه لبعده عن التوجه لربه تصبح لفهومه مصادر أخرى.. فقد ذكر القرآن الكريم أن الله تعالى هو مصدر الفهم الصحيح للشريعة، ولكل شيء.. كما قال تعالى: { فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا } [الأنبياء: 79]

قال: بل أعطى قانون ذلك، فقال: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } [البقرة: 282]

قلت: ألهذا اعتبر عدم الاحتكام لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ضلالا وانحرافا، كما قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا } [الأحزاب: 36]

قال: بلى.. فقد فني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن نفسه، فصارت أحكامه أحكام الله، وأقواله أقوال الله، ورضاه رضا الله، وسخطه سخط الله.

قلت: صدقت.. وقد قال الله تعالى مشيرا إلى ذلك: { لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا } [النور: 63]، وقال: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى } [النجم: 3، 4]، وقد ورد في الحديث عندما سئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقيل له: (يا رسول الله أكتب عنك كل ما قلت في الغضب والرضا)، فقال: (اكتب فوالذي بعثني بالحق نبياً ما يخرج منه إلا حق) وأشار إلى لسانه ([30]).

قلت: فكيف طبق قائدكم وحاكمكم هذا الركن من أركان التمكين؟

قال: لقد كنا نراه مثالا للصدق والإخلاص والبعد عن كل صنوف الأنانية، حتى أنه لم يقبل أن يحكمنا إلا بعد أن فرضنا عليه ذلك فرضا.. وقد كان فوق ذلك متجردا لا نعرف شيئا من تفاصيل حياته، لأنه لم يكن يحدثنا إلا بما يفيدنا.

قلت: عجبا.. ألم يولد بينكم؟

قال: لا.. لقد وفد علينا مثلما تفد أشعة الشمس على الظلمات، فتملؤها بالأنوار.

قلت: ولكن كيف تولون أمركم من ليس منكم؟

قال: نحن نشعر أنه مخلصنا، وأنه أقرب إلينا منا، وأنه اللسان المعبر عنا.. وأنه فوق ذلك كله هبة الله لنا.. ولولاه لظللنا في ذلنا وفقرنا وعبوديتنا.

قلت: ولكن لم لم تسألوه عن شأنه؟

قال: كلما فعلنا ذلك قال لنا: وما حاجتكم لذلك.. اكتفوا بأنبيائكم وأوليائكم، وما أنا إلا خادم ضعيف من خدمهم، وغلام حقير من غلمانهم، وتلميذ بسيط من تلاميذهم.

ج ـ سنة الورع:

قلت: عرفت سنة الإخلاص.. فما سنة الورع؟

قال: لا يكفي الإخلاص وحده ليمكّن الله لعبده.

قلت: لم؟

قال: لأن العبد قد يخلص لله، ويكون صادقا في إخلاصه، صادقا في تضحيته، لكنه يعبد الله بهواه، وبالدين الذي شرعه لنفسه، وقد يقطع لذلك ما أمر الله به أن يوصل، أو يصل ما أمر الله به أن يقطع.

قلت: صدقت، فقد رأيت نفرا كثيرا من قومي لا يشك أحد في إخلاصهم، لكنهم جعلوا دينهم محاربة إخوانهم من المؤمنين الذين يخالفونهم في بعض الأصول، أو الفروع، بينما أراهم مع أعداء الله الحقيقيين من الظالمين والمستكبرين خاضعين أذلاء مستكينين.

قال: أولئك شر الناس، وإن بدوا للناس أنهم خيرهم، ذلك أن الشيطان استحوذ عليهم، واستثمر إخلاصهم وصدقهم، ليضرب دينهم.

قلت: ولكن كيف لم يخلصهم الإخلاص؟.. وكيف لم ينجهم الصدق؟

قال: الإخلاص والصدق يحتاجان إلى الاتباع.. وأولئك قد عبث الشيطان بهذا الجانب منهم، فلذلك بدل أن يتبعوا أهل الهدى اتبعوا أهل الهوى.

قلت: لقد ذكرتني بسورة الفاتحة؛ فقد اعتبر الله تعالى فيها السراط المستقيم هو اتباع أهله من الذين أنعم الله عليهم.

قال: وأولئك قد تركوا من أمروا باتباعهم، ورفضوا أن يركبوا سفينتهم، ثم لجأو بعدها لسفن شتى، كل سفينة أخذت بهم طريقا من الطرق.

قلت: لقد ذكرتني بحديث لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول فيه: (إن الله ضرب مثلا صراطا مستقيما، على كنفي الصراط، زوران لهما أبواب مفتحة، على الأبواب ستور، وداع يدعو على رأس الصراط، وداع يدعو فوقه: {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [يونس: 25]، والأبواب التي على كنفي الصراط حدود الله، فلا يقع أحد في حدود الله حتى يكشف الستر، والذي يدعو من فوقه واعظ ربه)([31])

قال: صدق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. وهذا مبدأ الورع.. فلا ورع من دون اتباع.. ولا اتباع من غير معرفة من أمرنا باتباعهم.

قلت: لقد كنت أحسب الورع ذلك الذي ذكر فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء: (يا رب يا رب) ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب لذلك)([32])

قال: لا يمكن أن يتحقق ذلك إلا بالاتباع الصحيح لأئمة الهدى، وإلا وقع ذلك الورع في الحرام شعر أو لم يشعر.

قلت: صدقت.. فقد رأيت نفرا من قومي يتورعون عن أبسط الأمور من الحلال، ويحرمون نفوسهم منها، خوفا من أن يأكلوا حراما، لكنهم يتساهلون في الدماء، وفي الأعراض، فيكفرون طوائف الأمة، ويستبيحون دماءها.. وقد اتبعوا في ذلك سلفا كثيرا لهم تصوروا أنهم أئمة الدين، وأعلام الهدى.

قال: ولذلك لم يكن الشيطان حريصا على شيء مثل حرصه على التنفير من أئمة الهدى، ليعبد الناس أئمة الهوى..

قلت: أجل.. وقد حصل ذلك في بني إسرائيل، كما قال تعالى يخبر عنهم: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} (التوبة:31)

قال: وهكذا فعل مع كل الأديان.. بما فيها الإسلام.. كما قال صلى الله عليه وآله وسلم: (لتتّبعنّ سنن من كان قبلكم شبرا شبرا، وذراعا ذراعا حتّى لو دخلوا جحر ضبّ تبعتموهم)([33])

قلت: ولكن أولئك يتورعون عن أشياء كثيرة.. في المأكل والمشرب والملبس، حتى أنهم يحرمون أنفسهم من أن يلبسوا كسائر الناس، أو يعيشوا كسائر الناس.. بل إني أرى بعضهم، وفي البرد الشديد، والثلوج تتساقط، وهو يكشف عن ساقه خشية أن يقع في الحرام، متأولا قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إزرة المسلم إلى نصف الساق، ولا حرج ـ أو لا جناح ـ فيما بينه وبين الكعبين، فما كان أسفل من ذلك ففي النار، من جر إزاره بطرا لم ينظر الله إليه)([34])، مع أن كل الأدلة لا تحرم ذلك إلا بسبب الكبر والخيلاء والبطر.. لكنهم لا يرضون بذلك، وإنما يطبقون الحديثا بحروفه خشية الوقوع في الحرام.

قال: ذلك هو الورع البارد، ذلك هو الذي أشار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى أهله، فقال: (سيخرج قوم في آخر الزمان حدثاء الأسنان، سفهاء الأحلام، يقولون من قول خير البرية، يقرؤون القرآن، لا يجاوز إيمانهم حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية)([35])

قلت: أجل.. وقد ورد في حديث آخر قال صلى الله عليه وآله وسلم يصف فيه نفرا من هؤلاء: (إن من ضئضئ هذا قوماً يقرأون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد)([36])

قال: وكل ذلك بسبب اتباع أهل الهوى، وترك أهل الهدى.. ولا يمكن لمن يسير خلف الأعمى أن يصل إلى منبع النور.

قلت: فكيف طبق إمامكم وقائدكم الحسين هذه السنة؟

قال: لقد كان مثار إعجابنا في شخصه ذلك الورع الشديد، والذي ملأ قلوبنا بحبه.. لقد كنا نذهب إليه بأصناف الطعام، وهو في الجبل، فلا يأكل شيئا منه، وإنما يوزعه علينا أو على غيرنا، فقد كان يستن بسنة الأنبياء عليهم السلام، فلا يأكل إلا من عمل يده..

وعندما فتح الله علينا به، ونصرنا على أعدائنا، طلبنا منه أن يسكن قصورهم، فقال لنا: أتريدون أن ينزل علي انتقام الله بالسكن في مساكن أعداء الله.. ألم تسمعوا قوله تعالى يعاتب ويوبخ المسرفين على أنفسهم: {وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ} (ابراهيم:45)؟

حينها قام بعضنا، يؤول له الآية.. لكنه رفض تأويلها.. ثم راح يسكن مسكنا بسيطا جدا، أمام مسجد من المساجد، كان يعظنا فيه ويعلمنا.

قلت: وما فعلتم في تلك القصور.. هل أمر بهدمها؟

قال: هو أعقل من أن يفعل ذلك؟

قلت: فما فعل بها؟

قال: لقد حولها إلى مكتبات ومراكز أبحاث، وهي بحمد الله أصبحت مأوى لطلبة العلم الذين لم يكونوا يحلمون برؤيتها؛ فأصبحوا المديرين لها، والمتصرفين فيها.

د. سنة الزهد:

قلت: وراتبه.. وكيف يعيش؟

قال: لقد كان يذكر لنا كثيرا زهد الإمام علي، ويقول لنا: لا يحسن بالحسين إلا أن يتبع أباه.. وكان يذكر لنا كثيرا رسالته الرقيقة التي كتبها إلى عامله على البصرة عثمان بن حنيف الأنصاري، بعد أن بلغه أنه دعي إلى وليمة قوم من أهلها فمضى إليها..

قلت: هل يمكنك أن تورد لي بعض ما كتب فيها؟

قال: أجل.. فقد كان قائدنا يرددها بيننا كثيرا حتى حفظناها.. لقد كتب يقول له: (أمّا بعد يا ابن حنيف، فقد بلغني أنّ رجلا من فتية أهل البصرة، دعاك إلى مأدبة فأسرعت إليها، تستطاب لك الألوان، وتنقل إليك الجفان، وما ظننت أنّك تجيب إلى طعام قوم عائلهم مجفوّ، وغنيّهم مدعوّ، فانظر إلى ما تقضمه من هذا المقضم، فما اشتبه عليك علمه فالفظه، وما أيقنت بطيب وجوهه فنل منه)([37])

ثم راح يصف له حاله، فقال: (ألا وإنّ لكلّ مأموم إماما يقتدي به، ويستضيء بنور علمه، ألا وإنّ إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه، ومن طعمه بقرصيه، ألا وإنّكم لا تقدرون على ذلك، ولكن أعينوني بورع واجتهاد، وعفّة وسداد.. فو اللّه ما كنزت من دنياكم تبرا، ولا ادّخرت من غنائمها وفرا، ولا أعددت لبالي ثوبي طمرا، ولا حزت من أرضها شبرا، ولا أخذت منه إلّا كقوت أتان دبرة، ولهي في عيني أوهى وأوهن من عفصة مقرة)

ثم ذكر له أن زهده في الدنيا ليس ناشئا من جهله بها، وإنما هو ناشئ من زهده فيها، ورغبته فيما عند الله.. وليستوي هو وأبسط مستضعف من رعيته، فقال: (و لو شئت لاهتديت الطّريق إلى مصفّى هذا العسل، ولباب هذا القمح، ونسائج هذا القزّ، ولكن هيهات أن يغلبني هواي، ويقودني جشعي إلى تخيّر الأطعمة، ولعلّ بالحجاز أو اليمامة من لا طمع له في القرص، ولا عهد له بالشّبع!! أو أبيت مبطانا وحولي بطون غرثى، وأكباد حرّى)

وكتب يقول له: (أأقنع من نفسي بأن يقال: هذا أمير المؤمنين، ولا أشاركهم في مكاره الدّهر؟ أو أكون أسوة لهم في جشوبة العيش، فما خلقت ليشغلني أكل الطّيّبات، كالبهيمة المربوطة همّها علفها، أو المرسلة شغلها تقمّمها، تكترش من أعلافها وتلهو عمّا يراد بها، أو أترك سدى أو أهمل عابثا، أو أجرّ حبل الضّلالة، أو أعتسف طريق المتاهة)

قلت: ما أعظم هذه الرسالة، وما أعظم آثارها على النفس.

قال: لقد كان إمامنا يرددها بيننا كثيرا، ليعلمنا الزهد في الدينا، والرغبة فيما عند الله، فما كان الله ليمكن الراغبين في الدنيا المستغرقين في هواها.

قلت: لم؟

قال: لأن حب الدنيا رأس كل خطيئة، ومن أحب الدنيا رغب عن الآخرة.

قلت: ولكن الدنيا لابد منها.

قال: لقد كان إمامنا وقائدنا يقول لنا كل حين: ضعوا الدنيا في أيديكم، ولا تضعوها في قلوبكم، فهي في قلوبكم داء، وفي أيديكم دواء.

قلت: عجبا.. كيف يكون الشيء داء ودواء في نفس الوقت؟

قال: ألا ترى بعض المراهم التي يكتب عليها التحذير من ابتلاعها، وبيان خطر ذلك..

قلت: أجل.. فكل المراهم تستعمل استعمالا خارجيا، لخطورتها على الأجهزة الداخلية.

قال: والدنيا من تلك المراهم.. فلذلك أمرنا بتطويعها لنا، ولم نؤمر بعبادتها والتتيم فيها.

قلت: ما تقصد بتطويعها؟

قال: بعمارتها، وإصلاحها، لتكون مأوى يصلح للإقامة المؤقتة.. فلا يمكن لأحد أن يقطع رحلته إلى الله من دون أن يكون له أدنى عيش يهنأ به.

قلت: صدقت.. ولكني سمعت بعض قومنا يزهد في الزهد، ويذكر أنه من الدنس الذي شوهت به شريعة الله، وأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن زاهدا.. وأن كل أحاديث الزهد جاءتنا من رهبان الديانات المنحرفة.

قال: ويلهم.. ألم يقرؤوا قوله تعالى: {وَلا تَمُدَّنَ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} (طه:131)، وقوله: { مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ} [الشورى: 20]؟

قلت: بلى.. ولكنهم راحوا يؤولونها بصنوف التأويلات.. وأنت تعلم أن القرآن الكريم حمال وجوه.

قال: ويلهم.. ألم يرجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وورثته في فهمها.. ألم يعلموا بأنه صلى الله عليه وآله وسلم كان أعظم داعية للزهد.. بل كان أعظم الزاهدين.. ففي الحديث أن رجلا أتى النّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: يا رسول اللّه، دلّني على عمل، إذا أنا عملته، أحبّني اللّه، وأحبّني النّاس، فقال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: (ازهد في الدّنيا يحبّك اللّه، وازهد فيما في أيدي النّاس، يحبّوك)([38])

وكان يردد مرتجزا([39]):

اللّهمّ لا عيش إلّا عيش الآخره   فاغفر للأنصار والمهاجره

وكان يعظ أصحابه وأمته كل حين بشأنه، ويقول مفسرا قوله تعالى: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1)} (التكاثر): (يقول ابن آدم: مالي، مالي.. وهل لك يا بن آدم من مالك إلّا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدّقت فأمضيت)([40])

***

ما وصل تلميذ الحسين إلى هذا الموضع من حديثه حتى وصلنا إلى بيت بسيط في حي نظيف ممتلئ بالجمال والبساطة.. وهناك دق الباب.. فخرج لنا الحسين نفسه، يرحب بنا، وقد سمعت منه من أسرار التمكين الإلهي ما لا يمكنني أن أبثه لك أو لغيرك.

قلت: فهل هناك تمكين أكبر من التمكين الذي يتاح في الدنيا؟

قال: أعظم تمكين يهبه الله لعباده، تلك الأنوار التي ينزلها الله في قلوبهم، ليروا الحقائق رأي العين..

قلت: فكيف أصل إلى تلك الأنوار.. أو كيف يمكنها الله من قلبي؟

قال: لا يمكن لأحد أن يصل إلى التمكين، ما لم يتمكن من التغيير.. فأنوار الله عزيزة، وهي لا تنزل القلوب المدنسة بأدنى دنس.

قلت: أجل.. صدقت.. فسنن التمكين لا يمكن أن تتحقق من دون سنن التغيير.


([1]) رواه ابن أبي شيبة في صفة العرش برقم (19)

([2]) رواه الحاكم (1/669 رقم 1813) وقال: صحيح الإسناد. والخطيب (8/453) والطبرانى فى الأوسط (3/66، رقم 2498)

([3]) رواه ابن أبي شيبة 10/441-442، وابن ماجه (90) و (4022) ، وابن حبان (872)

([4]) أبو داود (1641) ، وابن ماجه (2198)

([5]) الحاكم (2/15، رقم 2167)

([6]) رواه الطبراني في الأوسط، 6835.

([7]) وسائل الشيعة، ج17، ص28..

([8]) الكافي الكليني (5/ 109)

([9]) الكافي الكليني (5/ 109)

([10]) الكافي الكليني (5/ 110)

([11]) البخاري (2262)

([12]) البخارى:  (2072)

([13]) انظر: المبسوط: 30/ 246.

([14]) رواه البخاري 11/ 417، ومسلم رقم (2643)

([15]) رواه البخاري (8/ 150)

([16]) رواه أحمد (11/ 9)

([17]) البيهقي في السنن الكبرى (3/ 18)

([18]) أحمد (5/ 350) واللفظ له، والحاكم في المستدرك (1/ 312) ، السنن الكبرى للبيهقي (3/ 18)

([19]) أحمد (2/ 165) رقم (6539)

([20]) مسلم (2670) ..

([21]) مسلم (786)

([22]) البخاري- الفتح 1 (43) . ومسلم (785) ..

([23]) إحياء علوم الدين:1/ 21.

([24]) البخاري- الفتح 4 (1968)

([25]) سنن الترمذي برقم (3058) وسنن أبي داود برقم (4341) وسنن ابن ماجة برقم (4014)

([26]) البخاري 2/ 882، برقم: 2361..

([27]) سبل الهدى والرشاد، في سيرة خير العباد، (2/ 439)

([28]) رواه عبد بن حميد (146) ، والدارمي (2783) عن أبي نعيم، والحاكم 1/41.

([29]) الترمذي (3095)

([30]) أبو داود (3646)، والدارمي 1/125.

([31])  أحمد (4/183)، والترمذي (2859)، والنسائي في الكبرى (تحفة الأشراف) (9/11714)

([32])  مسلم (1015)

([33])  البخاري- الفتح (7320)

([34])  رواه أبو داود،  4093.

([35])  رواه البخاري 9/ 86.

([36])  البخاري (7432)

([37])  نهج البلاغة: الكتاب رقم (45)

([38])  رواه ابن ماجة، 4102.

([39])  رواه البخاري، 2801 ، ومسلم، 1804.

([40])  رواه مسلم، 2959.

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *