مفتاح الورع

مفتاح الورع

بعد أن قال ذلك فتح لنا الباب .. لكنا ما إن سرنا قليلا حتى رأيت بابا عجيبا، قد علقت عليه صورة لرجل يلوح النور في وجهه، يتحرك حركات منتظمة دقيقة على صراط معتدل مستقيم، وكلما لاح له شيء يريد أن ينحرف به عن مساره فتح كتابا كان يحمله لينظر ما فيه، ثم يستمر على سيره.

وكان الصراط دقيقا جدا .. لعله أدق من الشعرة، وأحد من السيف .. فلذلك كان يسير، وفي قلبه خوف من أن يحيد قيد أنملة، فيقع أسفل ذلك الصراط .. وهو حيات وعقارب.

سألت المعلم عنه، فقال: هذا باب الورع، وهو أول باب من أبواب الشرعية .. لا يحل دخول مدائن السلام  إلا منه.

قلت: فمن هذا الرجل الذي على هذه الصورة.

قال: هذا رجل منكم امتلأ ورعا، فراح يحمل جميع حركاته على هدي الله، فلا يحيد عنه قيد أنملة.

قلت: ليت المسؤولين عن هذه المدينة يعلمون مدى إخلاصه فيرحموه من هذا السير.

قال: وأين يضعونه؟

قلت: في مكتب من المكاتب.

قال: لو كان الأمر إلي لأغلقت جميع مكاتبكم، أو حولتها مصانع ومخابر .. أو حولتها دورا للذين يفترشون الأرض في الشوارع.

قلت: والمسؤولون .. أين سيجلسون؟

قال: مع العمال .. يعاينون جهودهم، ويعينونهم فيها.

قلت: ليس الأمر بهذه السهولة يا معلم .. فهم لا يستطيعون التفكير في قاعات غير مكيفة.

قال: التكييف يخدر عقولهم.

قلت: ويريح أجسامهم.

قال: الجسم الذي لا يتعب لا يعرف الراحة .. الراحة نعمة من الله يمن بها على من يعانون ويجتهدون.

قلت: ولكن هذه مثالية.

قال: بالورع تصير واقعية.

قلت: إذن نحن دخلنا باب الحديث عن الورع من غير أن نشعر ..

قال: قل: من غير أن أشعر، فليس من الورع أن تعبر بلسانك عن مشاعر غيرك.

قلت: هذا أيضا من الورع في التعبير .. لقد قرأت بأن الورع يدخل كل باب.

قال: وبالورع ينفتح كل باب ..

قلت: فما أول الأبواب؟

قال: باب السماء .. ألم تسمع ذكره صلى الله عليه وآله وسلم:(الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء:(يا رب يا رب) ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام فأنى يستجاب لذلك)([1])، فمع أن هذا الرجل الذي ذكره صلى الله عليه وآله وسلم قد أتى بجميع ما يتطلبه من الدعاء من تواضع وتبذل ومسكنة إلا أن الله تعالى لم يستجب له، لتساهله في الحرام، وعدم تورعه عنه.

قلت: ذكرتني  بقول بعض السلف:(لا تستبطيء الإجابة وقد سددت طرقها بالمعاصي)، وقد أخذ بعض الشعراء هذا المعنى فقال:

نحن ندعو الإله في كل كرب   ثم ننساه عند كشف الكروب

كيف نرجو إجابة لدعاء           قد سددنا طريقها بالذنوب

قال: فهذا أول باب يفتحه الله على من آثر الله على المتاع الزائل.

قلت: فما الباب الثاني؟

قال: باب البركة .. ألم تعرف باب البركة؟

قلت: بلى .. مررنا سابقا على بابها.

قال: فكيف وجدته؟

قلت: بابا طيبا تجتمع الخيرات فيه، بل تتضاعف.

قال: فالورع من مفاتيحه .. ألم تسمع قوله تعالى:{ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} (لأعراف:96)

قلت: فما الباب الثالث؟

قال: باب العزة.

قلت: العزة! .. ما العزة؟

قال: الرأس الذي لا يعرف الانحناء إلا في الركوع .. والجبهة التي لا تطأ الأرض إلا في السجود.

قلت: وما علاقة الورع بالعزة.

قال: من تورع عن أموال الناس لم يضطر إلى الانحناء لهم.

قلت: ومن يدخل هذا الباب؟

قال: هذا باب العلماء الذين رأوا العلم أشرف من أن يبتذلوه أمام أبواب السلاطين.

قلت: أتقصد علماء قومي.

قال: أقصد من يفعل ذلك من علماء قومك .. أقصد الذين خاطبهم الفضيل بقوله:(كنتم معشر العلماء سرج البلاد يستضاء بكم، فصرتم ظلمة، وكنتم نجوما يهتدى بكم، فصرتم حيرة، ثم لا يستحي أحدكم أن يأخذ مال هؤلاء الظلمة، ثم يسند ظهره يقول: حدثنا فلان عن فلان)

قلت: لكنه قال:(لأن أطلب الدنيا بطبل ومزمار أحب إلي من أن أطلبها بالعبادة) فكيف يقول هذا: ألم يعلم ما قيل في الطبل والمزامير؟

قال: انصح الدجالين من متعالمي قومك بأن يشتروا طبولا ومزامير، فهي خير لهم من بيع الدين بالدنيا، أليس للطبل عندكم سوقا؟

قلت: بل أسواقا.

قال: فلأن يأتوا يوم القيامة مع الطبالين والزمارين، خير من أن يأتوا مع الأحبار والرهبان.

قلت: كيف؟

قال: ألم يقل الله تعالى:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} (التوبة: 34)

قلت: وهؤلاء هم الذين قال فيهم عبد الله بن المبارك:

وهل أفسد الدينَ إلا الملوكُ      وأحبارُ سوء ورهبانُها

قال: فهل هذه حقيقة أم دعاوى؟

قلت: لكن يا معلمي .. لقد وجد فقهاؤنا لكل ما يفعلونه مخارج من الشرع نفسه.

قال: هي مخارج كمخارج أهل السبت ..

قلت: هم أهل السبت .. لكننا أهل الجمعة .. ونحن أمة مرحومة.

قال: كف عن هذا .. فإن الله العدل لا يفرق في حسابه بين أهل السبت وأهل الجمعة .. فالخلق كلهم سواء {  لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً} (النساء:123)


([1])    رواه مسلم.

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *