مفتاح الواقعية

بعد أن قال ذلك فتح لنا الباب .. لكنا ما إن سرنا قليلا حتى رأيت بابا عجيبا، قد علقت عليه صورة لرجل ينظر إلى ما حوله .. ويحد البصر .. ولا يتحرك حركة حتى يحسب لها كل حساب.
فسألت المعلم عنه، فقال: هذا رمز الإنسان الواقعي الذي يعيش واقعه ولا يتيه عنه بالأحلام، ولا بالخيال، ولا بالواقع الذي قد مضى، ولا بالمستبقل الذي لا يزال في رحم العدم.
قلت: ولكن الفقهاء يستمدون علومهم من الماضي، فكيف لا ننظر إلى الماضي، وهم يتوقون لتحقيق المثل، فكيف يجمعون بين الواقع والأحلام؟
قال: ومن قال بأن ما ورد في النصوص المقدسة ماض .. إنها تخاطب الماضي والحاضر والمستقبل.. هي خطاب الله .. وخطاب الله لا يؤثر فيه الزمان.
قلت: ولكنها نزلت في الماضي.
قال: ولا تزال تتنزل .. ألم تسمع بأن الفهم الحقيقي لها يتطلب سماعها لا قراءتها .. سماعها يجعلها تأمرك وتنهاك .. وقراءتها تجعلك تفسرها بالوقائع التاريخية لتنزلها على غيرك لا على نفسك.
قلت: هذا صحيح .. فالله يخاطب الأجيال لا جيلا واحدا .. بل إنه يتحدث عن المستقبل بصيغة الماضي .. فلا معنى للزمن عند الله .. ولكن ما علاقة الواقعية بهذا الباب؟
قال: أحكام الله ثابتة، ولكن تطبيقها تتغير صوره بتغير الواقع .. فما أبيح هنا قد يحرم هناك.
قلت: لا أفهم هذا، فكيف تكون ثابتة، ثم هي في نفس الوقت متغيرة.
قال: هي ثابتة ثبات الأصول، متغيرة بتغير الحوادث ..
قلت: اشرح لي هذا، فإني لا أكاد أفهم هذا التعارض.
قال: إذا قصدت وجهة معينة، فإن طلب الوجهة مستقر في نفسك .. أليس ذلك؟
قلت: بلى.
قال: ولكن طريق الوجهة قد يحوي منعرجات ومنحدرات وعوائق، فهل تسير فيها جميعا سيرا واحدا؟
قلت: لا .. بل ألبس لكل حالة لبوسها.
قال: فكذلك أحكام الشرع، مقاصدها ثابتة لكن تطبيقاتها تختلف باختلاف مطبقيها.
قلت: أجل، بل إنهم وضعوا لذلك قاعدة فقهية تقول:(لا ينكر تغير الأحكام بتغير الأزمان)([1])
قال: ولكنكم تخطئون كثيرا في تطبيق مثل هذه القواعد، وفي تبرير الواقعية، فتجعلونها أحيانا وسيلة للإفلات من الأحكام الشرعية، ومن مقتضيات الورع.
قلت: كيف هذا؟
قال: ألم يفت متأخروكم بجواز إغلاق أبواب المساجد في غير أوقات الصلاة([2]) مع أن مكان العبادة ينبغي ألا يغلق، بل يظل مفتوحا لكل قاصد من ليل أو نهار؟
قلت: إنما جوزوا ذلك صيانة للمسجد من السرقة والعبث.
قال: أفلم يجدوا من الحلول غير إغلاقها؟
قلت: هذا أيسر الحلول .. فذلك خير من أن يتداولوا على حراستها أو يكلفوا من العمال من يقوم بحراستها.
قال: ولكني أرى أسواقكم ومحالكم تفتح ليل نهار؟
قلت: تلك معايشنا لا بد لنا منها.
قال: لو فكرت في دينكم مثل ما تفكرون لمعايشكم لضمنتم الدين والدنيا.
قلت: فما تنصحنا؟
قال: أبواب الله مفتوحة، ويده مبسوطة لخلقه كل حين، فافتحوا مساجدكم يفتح الله عليكم.
قلت: وهل نخطئ في غير هذا؟
قال: أحيانا كثيرة .. عندما جاءتكم الإشتراكية جعلتم دينكم إشتراكيا، وعندما جاءت الرأسمالية حولتموه رأسماليا، وعندما جاء من يحذركم من الجهاد ذهبتم إلى آيات الجهاد تمحونها من مقرراتكم، وأخشى إن جاءكم من يدعوكم إلى الإلحاد، أن تمحوا اسم (الله) من وجودكم.
قلت: فبم تنصحنا؟
قال: ارفعوا الواقع .. ولا تنزلوا إليه.
قلت: كيف؟
قال: أثروا فيه .. ولا تدعوه يؤثروا فيكم.
قلت: كيف .. لا أزال أحتاج توضيحا.
قال: اصنعوا واقعكم، ولا تدعوه يصنعكم.
قلت: وما الفرق بين صناعتنا له، وصناعته لنا.
قال: إذا صنعتموه تناسب مع طبائعكم
ودينكم وكمالكم، وإذا صنعكم عجنكم بالقوالب التي صنع بها، فالواقع لا بد أن يصنعه
بشر .. فإما أن تكونوا أنتم الصانعون، وإما أن تكونوا مجرد لبنات من صنع غيركم.
([1]) انظر: القواعد الفقهية للشيخ أحمد الزرقا ص227.
([2]) انظر: الوجيز في القواعد د.البورنو ص255.