مفتاح الهمة

مفتاح الهمة

بعد أن فتح لنا باب الحركة سرنا مدة من الزمن إلى أن صادفنا باب آخر كتب عليه: {رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ} (التحريم: 11)، فتعجبت من هذه الكتابة، فقلت للمعلم: ما محل هذه الآية هنا؟

فقال: هذه الآية آية الهمم العالية.

قلت: وما الهمم العالية؟

قال: هي الهمم التي لا تتوقف عندها المطالب، ولا تنقضي عندها الحاجات، ولا تسكن إلى شيء، ألم تقرأ ما قال ابن عطاء الله في حكمه؟

قلت: تقصد قوله:(لا ترحل من كون إلى كون، فتكون كحمار الرحى يسير، والذي ارتحل إليه هو الذي ارتحل منه، ولكن ارحل من الأكوان إلى المكون)

قال: نعم، فهذه حكمة جليلة تبين غاية الحركات ومنهجها، وقد كانت تتمثل في صدر امرأة فرعون عندما رفعت يديها بهذا الدعاء.

قلت: لقد قال العلماء: إنها اختارت الجار قبل الدار، فلم تقل:(ابن لي بينا في الجنة)، بل قالت: {رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ} (التحريم: 11)

قال: وتلك هي الهمة العالية، فلا يكفي أن تتحرك، فكل شيء يتحرك، وإنما اجعل حركتك منتظمة كحركة الوجود، لتصل إلى حقائق الوجود، وتسخر ما تحتاجه من الوجود.

قلت: فالحركة ليست مقصودة لذاتها إذن.

قال: وحركة كل شيء ليس مقصودة لذاتها، ألم تسمع قوله تعالى:{ وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى} (لنجم:42).. ألم تسمع قوله تعالى:{ وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} (يّـس:38)

قلت: فما المقصد إذن؟

قال: المقصد هو الترقي، فمن رضي بحالته وسكن لها، ولم يتحرك في سبيل تغييرها لا يحق له دخول هذه العوالم، ألم تسمع ما روي عن عمر بن عبد العزيز عندما تغير حاله بعد توليه الحكم، فقد كان قبلها تشترى له الحلة بألف دينار، فيقول:(ما أجودها لولا خشونة فيها!) فلما صار حاكما كان يشترى له الثوب بخمسة دراهم فيقول:(ما أجوده لولا لينه) فقيل له:(أين لباسك ومركبك وعطرك يا أمير المؤمنين؟)، فقال:(إن لي نفسا ذواقة، وإنها لم تذق من الدنيا طبقة إلا تاقت إلى الطبقة التي فوقها حتى إذا ذاقت الخلافة، وهي أرفع الطباق، تاقت إلى ما عند الله عز وجل)

قلت: رحمه الله، ليت من ولي أمرنا يرتقي إلى هذا، أو يتوق إليه.

قال: وبم يحلم من ولي أمركم، ولم يطمح؟

قلت: من ولته الأمة أمرها عاما يود لو أضاف أعواما، فإن استقر به المقام طمحت همته لأن يولي ولده، فإن استقر له كل ذلك قام بنزع كل شوكة قد تؤذي من يستخلفه من المعارضين والمخالفين.

قال: ثم تتساءلون عن أسباب فقركم .. فكيف يتفرغ الحاكم لإصلاح الرعية إن انشغل بنفسه!؟

قلت: فالطريق إذن هي الثورة .. لا حل غيرها.

قال: أنسيت أنك تتعلم السلام .. ثم قل لي ماذا تجدي الثورة، سيقتل بعضكم بعضا، وسترتد بلادكم والقهقرى، وسيتضاعف عدد الفقراء، وسينتقل الحاكم بعدها من حاكم له مجلس شورى إلى دكتاتور يقمعكم بقوانين الطوارئ.

قلت: فالحل البسيط إذن أن نسأل الحاكم في أول يوم يتولاه عن طموحاته جميعا، ونعاهده على السمع والطاعة لها، ونشترط عليه أن يتفرغ لنا.

قال: انصحهم بذلك، فذلك أصلح لكم، ولكن لا أراهم يستجيبون.

قلت: لم، وقد تحقق لهم كل ما يريدون من غير أي عناء.

قال: وأين لذة النصر التي يذوقونها يوم يقضون على أعدائهم واحدا واحدا، ويتم لهم الأمر؟

قلت: وما الحاجة إلى ذلك؟

قال: ألم أقل لك: إن الصراع لا يشتهي السلام، وإن النفس المريضة المظلمة لا ترضى لبصيص النور أن يشع في جوانبها.

قلت: فما الحل؟

قال: الهمة، فهي مبدأ السلام، كما أنها مبدأ الترقي.

قلت: وما الهمة، وكيف أتحقق بها؟

قال: الهمة هي أن تكون مطالبك من الله بقدر جوده، ومن الكون بقدر سعته، ومن الحقيقة بقدر جمالها .. فلا تقنع بما يقنع به الكسالى المخلدون إلى الأرض.

قلت: لكأني بك تشير إلى قوله تعالى:{ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُون} (لأعراف:176)

قال: نعم، فهذا الأحمق المغفل باع رضوان الله، والرفعة التي أوتيها بالعلم ببعض الدنيا لا ينفعه وجوده ولا يضره فقده، فصار بعد أن كان في علياء العلماء يشبه بالكلب، بل يشبه بالكلب اللاهث وراء السراب.

قلت: يا معلم، لكأنك تذكرني بنفر من قومي صرفت عليهم أموال الشعب الطائلة، فلما ارتووا من علم بلدهم، أرسلهم الشعب إلى بلدان أخرى ينهلون من علمها، فلما ذهبوا وأنسوا بأجوائها سكنوا فيها وإليها، وعافوا أن يعودوا إلى بلادهم.

قال: فذكرهم بما فعل (تاكيو أو ساهيرا)

قلت: ما هذا الاسم الغريب، وفي أي أمة من الأمم .. وأخيرا سنسمع أخبار الأمم السوالف، وسنرتوي من تواريخهم .. هات ..  يا معلم .. حدثنا..

قال: ما أغربكم، وما أغرب ولعكم بالأساطير .. إن (تاكيو أو ساهيرا) رجل منكم معاصر لكم.

قلت: فكيف علمت به؟

قال: علمت به لهمته العالية، ولولا همته العالية ما شغلت نفسي به كما لم أشغلها بكثير من أبناء جلدتك.

قلت: فحدثني عن خبره.

قال: هذا رجل كتب له أن يغير تاريخ أمته، ويجعلها في مقدمة الأمم، إنه رجل ابتعثته اليابان إلى هامبورغ بألمانيا لدراسة أصول الميكانيك العلمية، وكانت كل أمنيته أن يتمكن من صناعة محرك صغير، ولكنه فوجئ بأن أساتذته في الجامعة يكتفون بتدريس الأمور النظرية فقط، وكان على وشك أن ينال شهادة الدكتوراه، ولكنه لهمته العالية لم يقتنع بتلك الدرجة العلمية..لقد كان طموحه أعظم من أن يحصره في ورقة مزخرفة يعلقها على جدار بيته، أو يتغير لقبه الاجتماعي بدلها.

قلت: مثل هذا قد ينعته قومي بالأحمق .. كيف يرضى أن يترك الانشغال بهذه الشهادة التي تقدم صاحبها في المحافل؟، بل تحول من نهيقه صوت عنادل، ومن زئيره سلام غزلان.

قال: لكنه كان في منتهى الذكاء والفطنة، لقد رأى زملاءه المستغرقين في ملء ما تتطلبه تلك الدرجة من صفحات كما يرى الكبير انشغال الأطفال بما تتطلبه ألعابهم من تصرفات.

قلت: فما الذي فعله، بدل انشغاله بالدكتوراه؟

قال: لقد ظل يبحث عن حل للغز المحرك .. وفي يوم من الأيام طالع خبراً في إحدى الصحف يتحدث عن معرض لمحركات إيطالية الصنع، وبسرعة توجه للمعرض، وهناك اشترى محركاً بكل راتبه.

قلت: وهذه هي التضحية، وهي عندنا قد تكون مرادفة للغباء.

قال: وعندما وضعه على المنضدة بحجرته أخذ يقول لنفسه:(هذا هو سر قوة أوروبا لو استطعت أن أصنع محركاً كهذا، لغيرت اتجاه تاريخ اليابان)

قلت: فهو لم يفكر في نفسه إذن، بل كان يفكر في قومه.

قال: وهذا من الهمة العالية أيضا، فصاحب الهمة العالية لا يرضى بأن ينجح هو ويرسب غيره، ولا أن يحيا هو ويموت غيره.

قلت: ثم ماذا؟

قال: بعد أن اشترى  (تاكيو أو ساهيرا) المحرك بدأ العمل الدؤوب، وكان عليه أن يفك كل أجزاء المحرك، ويرسمها، ثم يعيد تركيبه من جديد بحيث يعمل مرة ثانية ..

وبعد ثلاثة أيام من الجهد المضني كان له ما أراد، واشتغل المحرك، فكاد قلبه يقف من الفرح، وأبلغ رئيس بعثته بالنبأ السار، فطلب منه إصلاح محرك متعطل، وقد استطاع بعد عشرة أيام من العمل المتواصل أن يصلح المحرك، وكان عليه بعد ذلك أن يصنع أجزاء المحرك بنفسه، ولهذا التحق بمصانع لصهر الحديد والنحاس والألومنيوم.

قلت: أرضي لنفسه أن يلتحق بهذه المصانع بدل التدريس في مدرجات الجامعات.

قال:  لقد ارتدى البدلة الزرقاء، وراح يخدم عامل صهر المعادن الذي يعلمه رغم أنه من أسرة يابانية عريقة (أسرة ساموراي)، لقد ظل أو ساهيرا في عمله وتعلمه هذا لمدة ثماني سنوات، كان يعمل خلالها ما بين عشر وخمس عشرة ساعة في اليوم.

قلت: فهل كوفئ على هذا الجهد المتواصل العظيم.

قال: صاحب الهمة العالية لا ينتظر المكافآت، ولا تحركه المكافآت، ومع ذلك، فقد علم إمبراطور اليابان بأمره، فأرسل له من ماله الخاص خمسة آلاف جنيه إنجليزي ذهباً.

قلت: هذه مكافأة عظيمة تكفيه لشراء سيارة وبناء بيت.

قال: أهذه كل أحلامكم، وهذا منتهى همتكم، لقد اشترى (تاكيو أوساهيرا) بها أدوات مصنع محركات كاملة وآلات وشحنها لليابان من راتبه ومن كل ما ادخره، وعند وصوله إلى ناغازاكي أخبر بأن الإمبراطور يريد مقابلته، فاعتذر قائلاً:( لن أستحق مقابلته إلا بعد أن أنشئ مصنع محركات كامل)

قلت: لقد ذكرتني بقول يوسف u عندما طلبه الملك:{ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ} (يوسف: 50)

قال: لقد كان يوسف u يطمح لأن يولى خزانة مصر لينقذها وينقذ البلاد المحيطة بها من شر المجاعة المتوقعة، فلذلك طلب أن تبرأ ساحته، حتى لا يصير عرضة لانتقادات الخصوم، ولولا ذلك ما رضي أن تفضح المرأة، ولا أن تستدعى للمحاكمة.

قلت: ألهذا إذن قال صلى الله عليه وآله وسلم:(.. ولو لبثت في السجن ما لبث يوسف لأجبت الداعي)([1])، وفي رواية:(لو كنت أنا لأسرعت الإجابة وما ابتغيت العذر)([2])

قال: أجل، فالضرورة التي استدعتها المصلحة العامة هي التي ألحت على يوسف u في طلب العذر، ولولاها ما طلبه.

قلت: فواصل حديثك عن صاحب الهمة الياباني.

قال: كان لهذا الشاب ما أراد بعد تسع سنوات من العمل المتواصل والجهد الجبار، وعندما سمع الإمبراطور أصوات أول محركات من صنع اليابان فقط تبسم قائلاً:(هذه أعذب موسيقي سمعتها في حياتي، صوت محركات يابانية خالصة)

وهكذا استطاع تاكيو أو ساهيرا أن يحقق حلم حياته، وأن ينقل قوة الغرب إلى موطنه الغالي([3]).

قلت: فما السبيل إلى الهمة .. ألسنا نتعلم السلام العملي؟

قال: أربعة أركان لا تقوم الهمة ولا تتحقق إلا بها.

قلت: فما هي؟

قال: ستعرفها عندما نرحل إلى القوى العظمى، فإن لحديثها شؤونا.

قلت: ومتى نرحل إلى القوى العظمى .. فإني مشتاق لزيارة مدن أميركا وأوروبا.

قال: ماذا تقصد؟

قلت: القوى العظمى.

قال: أنت لا تفهم ما القوى العظمى.

قلت: فاشرحها لي.

قال: عندما يحين حينها.

قلت: ومتى يحين حينها؟

قال: عندما تقهر أسباب الضعف من نفسك.

قلت: لقد قهرت تنين الألم، وقهرت غول الفقر، وأنا الآن أحاول أن أقهر شبح التخلف.

قال: ولا زالت غيلان أخرى في انتظارك، ولا يمكنك أن تصل إلى القوى العظمى قبل قهرها.


([1])    رواه البخاري ومسلم.

([2])    رواه أحمد.

([3])    وردت هذه القصة اللطيفة في كتاب “كيف نجح هؤلاء” للمحامي محمد مسعود العجمي.

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *