مفتاح النفس

مفتاح النفس

بعد أن قال ذلك فتح لنا الباب .. فرأينا من الحدائق الغناء ما لا يمكن وصفه.. لكنا ما إن سرنا قليلا حتى لمحت صورتي على باب اعترضنا، فقلت للمعلم: أهذا باب أم مرآة؟

قال: بل هو باب.

قلت: ولكني أرى صورتي تتجلى فيه.

قال: نعم، وهو باب تتجلى فيه صور النفوس، هذا الباب هو باب نفسك.

قلت: نفسي! .. إذن هو باب قبيح كقبحها.

قال المعلم: ومن قال لك بأن نفسك قبيحة؟

قلت: أليست النفوس هي مرتع الخبث، وهي مرعى الشيطان، وهي مصيدة الدنيا؟ .. أليست النفس هي التي نازعت الله ملكه، ونازعت الروح سلطانها، وسلمت كل الأكوان لكل أنواع الصراع؟

قال: ولكنه لولا النفس ما تحقق سير السائرين.

قلت: لكأني بك تذكرني بحكمة ابن عطاء الله:(لولا ميادين النفوس ما تحقق سير السائرين، إذ لا مسافة بينك وبينه حتى تطويها رحلتك، ولا قطعة بينك وبينه حتى تمحوها وصلتك)

قال: أجل، فلولا شهوات النفوس ومألوفاتها التي تخوض فيها وتتعشقها، كما تخوض الفرسان في الميادين الواسعة التي تجول فيها الخيل، ما تحقق سير السائرين، ولا تحققت بالمعارف التي تنتشر عليك من مجاهدتك لنفسك.

قلت: فالتخلق مع نفسي أن أجيعها وأذيقها ألوان الموت التي ذكرها العارفون، كما قال ناطقهم:

فأوردتها ما الموت ليس بعضه  وأتعبتها كي ما تكون مريحتي

ولم يبق هول دونها ما ركبته   وأسهد نفسي فيه غير زكيتي

قال: ذاك مقام المجاهدة، وسترى أغراضه وحقيقته عند:(مكابدات العارفين)، ولكن هذا مقام التخلق مع النفس، وهو يستدعي التأدب معها.

قلت: وأي أدب لي مع نفسي وهي مهينتي وحجابي عن ربي.

قال: أدبك معها أن تسلمها الذي لها، فلا يمكن أن تصل إليه بدونها.

قلت: وما أسلمها؟

قال: حقوقها .. تعامل معها كما تتعامل مع الأجانب، ألست تعطيهم حقوقهم؟

قلت: بلى، ولو أني قصرت لكنت ظالما.

قال: فتقصيرك في حق نفسك ظلم لها.

قلت: قد زهدني في نفسي ما رأيت من رغبة قومي في نفوسهم، وحرصهم عليها، وتضييعهم حقوق الناس بسببها.

قال: ولكنهم ضيعوا حقوق نفوسهم مع أول تضييع لحقوق غيرهم.

قلت: كيف؟

قال: ألم يعتبر الله تعالى الغافلين المخادعين المضلين الظالمين الخائنين الهالكين الخاسرين لم يجاوزا أنفسهم بذلك؟

قلت: بلى، ففي القرآن الكريم إخبار بذلك، فهو يقول في المخادعين:{ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} (البقرة:9).. ويقول في الظالمين:{ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} (البقرة:57).. ويقول في المضلين:{ وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} (آل عمران:69).. ويقول في الخائنين:{ وَلا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّاناً أَثِيماً} (النساء:107) .. ويقول في الهالكين:{ وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} (الأنعام:26)

قال: ولهذا، فإن أول حق يطلب من المؤمن أداؤه بعد حق الله حق النفس، ألم تسمع قوله صلى الله عليه وآله وسلم:(إن لأهلك عليك حقا، وإن لضيفك عليك حقا، وإن لنفسك عليك حقا، فصم وأفطر وصل ونم)([1])

قلت: فكيف أؤدي حق نفسي؟

قال: لكل باب من الأبواب حق من حقوق النفس.

قلت: فحقها في هذا الباب.

قال: أربعة: الطاقة، والراحة، والصحة، وحقها الاجتماعي.

قلت: ستجدنا في عصرنا ـ في عصر حقوق الإنسان ـ من أعظم الموفين بهذه الحقوق.

قال: بل من أعظم المقصرين فيها.

حق الطاقة:

قلت: فما حق الطاقة؟

قال: أن لا تجاوز بنفسك وسعها، ألم تسمع قوله صلى الله عليه وآله وسلم:(إياكم والوصال)، قيل: إنك تواصل؟ قال:(إنكم لستم في ذلك مثلي، إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني، فاكلفوا من العمل ما تطيقون)([2])

قلت: بلى، وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم:(عليكم من العمل ما تطيقون فإن الله تعالى لا يمل حتى تملوا)([3]) .. ولكن هذا خاص بالتعبدات.

قال: ومن قال هذا؟ أليس العمل عبادة؟ أولم يقل صلى الله عليه وآله وسلم:(أيها الناس اتقوا الله وأجملوا في الطلب، فإن نفسا لن تموت حتى تستوفي رزقها، وإن أبطأ عنها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب، خذوا ما حل ودعوا ما حرم)([4]) .. وقال:(للمملوك طعامه وكسوته ولا يكلف إلا ما يطيق فإن كلفتموهم فأعينوهم ولا تعذبوا عباد الله خلقا أمثالكم)([5])، فقد ربط صلى الله عليه وآله وسلم بين تكليفهم ما يطيقون والعذاب.

قلت: ولكن ألسنا في حاجة إلى بذل جهود مضاعفة لكي نحقق النهضة التي نحلم بها، والتي تجعل غيرنا تبعا لنا.

قال: اكتفوا بجهودكم وطاقتكم، ألم تسمع قوله صلى الله عليه وآله وسلم:(إن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق فإن المنبت لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى)

قلت: ولكن هذا في الدين.

قال: ألم أقل لك: إن أحكام الدين لا تختلف عن أحكام الدنيا، فرب الدنيا هو رب الدين .. قل لي: لو أن سيارتك لا تتحمل إلا ثقلا معينا، ثم حملت عليها أو حملتها ثقلا يفوق طاقتها.

قلت: ستهلك إن عاجلا أو آجلا.

قال: وحينذاك لن تستفيد منها شيئا.

قلت: لقد ذكرتني بقوله صلى الله عليه وآله وسلم:(اكلفوا من العمل ما تطيقون، فإن الله لا يمل حتى تملوا، وإن أحب العمل إلى الله أدومه، وإن قل)

قال: فقد ربط صلى الله عليه وآله وسلم بين عدم مجاوزة الطاقة في العمل، وبين الملل، فالملل سبيل كل من جاوز نفسه حدها من الطاقة.

قلت: لقد ذكرتني بكثير من الجهود التي تفرزها الحماسة، ثم يميتها الاستعجال.

قال: ويميتها قبل ذلك عدم فهم أسرار نفس الإنسان، فخالق النفس هو الذي قال لنا:{ لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا } (البقرة: 233)، وقال:{ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ } (البقرة: 286)

قلت: وكأنه يضع لنا بذلك ما يضعه صانعو الأجهزة الحديثة من مقاييس لمدى تحملها، وأنواع الطاقة التي تحتاجها.

قال: نعم، ذلك تشبيه صحيح، مع فارق بسيط هو أن الله تعالى زود الإنسان بطاقة تعجز جميع أجهزة الدنيا أن تضارعها.

قلت: كيف، لكأني بك ترتد على ما قلت.

قال: لا أرتد على ما قلت، ولكني أقول: إن في وسع الإنسان إذا ما توفرت الإرادة والعزيمة والتخطيط أن ينقل الجبال من مواضعها ..

قلت: إذن نحن لا نستخدم طاقتنا.

قال: لا .. أنتم تستخدمونها، ولكنكم تبعثرون جهودكم.

قلت: كيف؟

قال: لو طلب منكم حفر خندق كما طلب النبي صلى الله عليه وآله وسلم من أصحابه، فحفروه في أقل مدة، وحموا به مدينة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ماذا تتصور قومك يفعلون؟

قلت: سيبدأون أولا بتشكيل لجان تقسم المهام.

قال: ثم ماذا؟

قلت: سيختلفون فيمن يرأس اللجان.

قال: ثم ماذا؟

قلت: سيضطرون إلى إجراء انتخابات.

قال: ثم ماذا؟

قلت: سيضطر أصحاب تلك اللجان إلى الاتصال بالعمال لإقناع كل طرف العمال بانتخابه مقابل التخفيف عنهم من أعباء الحفر، أو استيراد وسائل جديدة للحفر، أو استحضار عمالة أجنبية لتقوم بالحفر.

قال: ثم ماذا؟

قلت: ستجرى الانتخابات .. وسيطعن فيها .. وستظهر المعارضة .. وقد تسفك الدماء .. وقد تحصل اعتقالات.

قال: والخندق الذي يحمي مدينة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من كيد الأحزاب وبني قريضة؟

قلت: سيطلبون من الأحزاب ومن بني قريضة حفره مقابل تسليمهم المدينة بدون حرب.

قال: وما فائدة الخندق إذن؟

قلت: سيؤمنون لأنفسهم بذلك مقابر محترمة قريبة من مدينة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. 

قال: أرأيت .. أنتم تبذلون جهودا كثيرة وتبعثرونها، فتتعبون وتنصبون ثم لا تنالون شيئا.

قلت: يا معلم لكأنك تقرأ علينا قوله تعالى:{ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ} (الغاشية:2 ـ 3)، أي أن هذه الوجوه قد عملت عملاً كثيراً ونصبت فيه، وصليت يوم القيامة ناراً حامية.

قال: بل أنتم كما قال تعالى:{ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} (النور:39)

قلت: فبم توجهنا؟

قال: استجمعوا أنفاسكم أولا لتعرفوا ما تفعلوا .. فإذا استجمعتموها فانظروا إلى ما عندكم من الطاقات الفردية والجماعية، ثم خططوا لأنفسكم بحسب طاقاتكم، ألم يقل الله تعالى:{ وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ } (الأنفال: 60)؟

حق الراحة

قلت: فما حق الراحة؟

قال: هو حق النفس في استرداد أنفاسها، ألم يجعل الله النوم سباتا؟

قلت: بلى، فالقرآن الكريم تحدث عن هذا كثيرا من باب تعداد نعم الله على عباده، فقال تعالى:{ وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتاً} (النبأ:9)، أي قطعاً للحركة لتحصل الراحة من كثرة الترداد، والسعي في المعايش في عرض النهار.

قال: والراحة تستدعي توفير الجو الملائم لها.

قلت: ذلك صحيح، ولهذا خلق الله تعالى الليل، وجعله لباسا، كما قال تعالى:{ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاساً وَالنَّوْمَ سُبَاتاً وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُوراً} (الفرقان:47)

قال: بل إن الله تعالى في تعداده نعمه على خلقه يجعل الليل من النعم العظمى، وهو دليل على ما للراحة من أثر كبير في حفظ قوى الإنسان، قال تعالى:{ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ } (القصص:71)

قلت: ولكن الأعمال في عصرنا تستدعي في أحيان كثيرة مواصلة الليل بالنهار.

قال: إن دعت الضرورة إلى ذلك، فلتنظموا ذلك تنظيما تراعى فيه الراحة وتحفظ فيه الصحة، فلا ينبغي أن تداووا داء بأدواء.

قلت: ولكن الضرورات تستدعي ذلك.

قال: والضرورات تستدعي أن تؤدى الأعمال متقنة، ولا يمكن أن يؤدي المرهق عمله بإتقان، ألم تعلم أن الله تعالى من رحمته بأهكل بدر أن رزقهم النعاس والنوم في وقت تنخلع فيه القلوب، واعتبر الله تعالى ذلك من أسباب ربط قلوبهم وتثبيتها وتقويتها، قال تعالى:{ إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطنَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ} (لأنفال:11)

قلت: بلى، ولأجل هذا نهى صلى الله عليه وآله وسلم أنيقضي القاضي بين اثنين وهو غضبان.

 قال: ويلحق بهذا ما تعيشونه من ضجر من كلفوا بخدماتكم نتيجة الإرهاق الذي يعانونه.

قلت: فما الحل، والضرورات كثيرة؟

قال: أنتم الذين تفكرون في الحلول .. أم أنكم تتقنون فقط التفكير في تكثير الضرورات.

قلت: لقد أرشدنا صلى الله عليه وآله وسلم إلى القيلولة كحل من حلول الراحة، فقال:(قيلوا، فإن الشياطين لا تقيل)([6])، وقد أكد العلم الحديث دور القيلولة في زيادة إنتاج الفرد، وتحسين قدرته على متابعة نشاطه اليومي.

قال: فوفروا الفرصة لعمالكم بأن يطبقوا هذه السنة العظيمة.

قلت: كيف ذلك .. إن العامل بالكاد يجد موضعا لقدمه، فكيف يجده لنومه؟

قال: ابحثوا .. فستجدون من الحلول ما يجعل في عمله من الراحة ما يفوق راحة كسله.

قلت: لو اتبعنا هذا، فسنجد من يدعو العمال إلى التقاعد المبكر.. وقد حصل ذلك.

قال: لهم الحق في ذلك.. وذلك ما يجب أن يفعله كل عامل.

قلت: بعد أي مدة؟

قال: عند بدايته العمل .. وفي اليوم الأول منه.

قلت: أنت تدعوا إلى تفريغ المصانع من العمال.

قال: أنا أدعو إلى تفريغ العمل من التعب والإجهاد الذي يستهلك قواهم، ويضر صحتهم.

قلت: فإذا تقاعدوا من ينوبهم في المعامل والمصانع والمؤسسات.

قال: هم ينوبون أنفسهم.

قلت: كيف ذلك؟

قال: ألم نتحدث عن القيلولة؟

قلت: بلى .. وما علاقتها بهذا؟

قال: هي نوع من التقاعد.

قلت: كيف ذلك؟

قال: إن راحة العامل بعد عمله يجدد نشاطه ويملؤه بالحيوية التي يفقدها بتقاعده.

قلت: أتنصح بالقيلولة وحدها؟

قال: وأنصح بالاحتساب .. فمن احتسب عمله لله رزقه الله من القوة ما يزعزع الجبال.

قلت: هي أجورنا .. وليس لنا منها بد.

قال: الاحتساب لا يتنافى مع طلب الأجر.

قلت: فكيف يكون احتسابا؟

قال: إذا كان العمل لوجه الله لا يضره شيء.

قلت: فدلني على أمر آخر أنصح به قومي.

قال: سأدلك على وصفة نبوية تملأكم بالقوة.

قلت: فما هي؟

قال: قوله صلى الله عليه وآله وسلم  لبضعته الطاهرة فاطمة :(ألا أدلك على ما هو خير لك من خادم! تسبحين الله ثلاثا وثلاثين، وتحمدين ثلاثا وثلاثين، وتكبرين أربعا وثلاثين حين تأخذين مضجعك)([7])

قال: فكيف عرفت أن هذه الوصفة لما وصفت؟

قال: لقد أخبر صلى الله عليه وآله وسلم أن هذه الوصفة خير لها من الخادم، وهو دليل على أنها تعطيها من القوة ما يغنيها عن الخادم.

حق الصحة

قلت: فما حق الصحة؟

قال: هو حق النفس في الاحتفاظ بقواها التي حباها الله إياها، ألم يأمر الشرع بحفظ الصحة، ونهى عما يجلب العلل؟ 

قلت: بلى، وقد عرفنا تفاصيل ذلك في (ابتسامة الأنين)

قال: ألم ينه الله تعالى المريض عن الصيام مرتين متتاليتين في الآيات القليلة التي جاء فيها الأمر بركن من أركان الإسلام؟

قلت: أجل، فمع أن الآيات المختصة بالصوم قليلة إلا أن الله تعالى ذكر رفع الحرج عن المريض مرتين في آيتين متتاليتين، فقال:{ أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (البقرة:184 ـ 185)

قال: ومثل ذلك الحج .. ألم يذكر الله فيه أحكام المريض، ورفع الحرج عنه؟

قلت: بلى، فالله تعالى لم يذكر أركان الحج بأسمائها وتفاصيلها، ولكنه مع ذلك ذكر الحلول التي يلجأ إليها المريض للتمكن من أدائه، فقال تعالى:{ وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلا تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (البقرة:196)

قال: ومثل ذلك غير ذلك من المسائل.

قلت: نعم، النصوص واضحة في رفع الحرج عن المريض، وقد قال تعالى:{ لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَاباً أَلِيماً} (الفتح:17) .. ولكن، يا معلم ما علاقة هذا بما نحن فيه، فنحن نتحدث عن أعمال الدنيا؟

قال: أعمال الدنيا هي أعمال الآخرة، وما فائدة عمل نجلب به قوتا، ونقتل به عضوا، وإذا كان الله تعالى مع خلقه لنا لعبادته رخص لنا في ترك صور من العبادة لأجل الحفاظ على صحتنا، أفلا يصح لنا نحن أن نستغني عن بعض الأعمال إذا ما رأينا خطرها على صحتنا؟

قلت: لكأني بك تريد أن تقعد الناس عن أعمالهم.

قال: لماذا .. الأعمال كثيرة ومباركة، فمن قال بأن الدعوة للحفاظ على صحة العمال أمر لهم بالقعود؟

قلت: إن الدراسات الحديثة كلها تقول هذا، فلا نستطيع أن نجمع بين الرقي الحضاري وبين الحفاظ على صحتنا .. الرقي الحضاري يا معلم يحتاج إلى تضحيات لا تقل عن تضحيات الشهداء.

قال: الحق أقول لك: إنكم تبتعدون كثيرا عن الإنسان بقدر اقترابكم من هذا الرقي الجشع الذي تحلمون به .. إنكم تحطمون أنفسكم من أجل لعب تافهة تحلمون بها، وعندما تصلون إليها تجدونها سرابا لا يختلف عن أي سراب.

قلت: فبم تنصحنا؟

قال: عندما يفكر أحدكم في أي مشروع لا ينس أن يضع في خطته حق العمال في الصحة والعافية، فلا ينبغي أن يستل صحتهم، ليملأ جيوبهم، فهذه مقايضة خاطئة.

قلت: وما المقايضة الصحيحة؟

قال: أن يشتري جهدهم بماله، لا صحتهم بماله.

قلت: لكأني بك تقول: إن الضمان عليه في حال حصول أي ضرر.. فنحن نفعل ذلك.

قال: أنتم تسخرون على عقول العمال بذلك، فما فائدة الضمان الذي تضمنونه أو العلاج الذي تقدمونه، وأنتم تخرجون أجسادا متهالكة ونفوسا محطمة لا يجدي فيها ضمان، ولا يشفيها علاج.

الحق الاجتماعي

قلت: فما الحق الاجتماعي؟

قال: هو حق النفس في الحفاظ على علاقتها الأسرية التي جعلها الله من الحقوق الطبيعية للإنسان المتناسبة مع فطرته.

قلت: لم أفهم يا معلم.

قال: إن الله تعالى جعل للإنسان سكنا يسكن إليه، فقال تعالى:{ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (الروم:21)

قلت: ما معنى هذا؟

قال: إن الإنسان يرجع إلى أهله دائما ليمسح ما تراكم على نفسه من هموم وآلام، وهو معنى السكن الذي عبر عنه القرآن الكريم.

قلت: ففائدة الأهل إذن هي السكن والراحة النفسية، وهي بذلك تخفف عن العامل ما يجده من ثقل العمل، وقد يساعد ذلك على وفرة الإنتاج.

قال: ليس ذلك فحسب، بل هناك ما هو أهم من ذلك، وهو رعاية العامل لشؤون أهله المادية والمعنوية، كما قال تعالى:{ وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} (طـه:132)، وقال تعالى مثنيا على إسماعيل u:{ وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيّاً} (مريم:55).. فكلا الأمرين: السكن والرعاية من حقوق النفس، والتقصير فيهما له آثاره النفسية والاجتماعية الخطيرة.

قلت: ولكنا نفعل ذلك، فلا نحرم الأب من أبنائه، ولا الأم عنهم.

قال: بل تفعلون ذلك، وتبالغون في ذلك، فترسلون العمال إلى أماكن بعيدة عن أهلهم يذوقون فيها آلام الغربة، ويذوق أهلهم آلام الحرمان.

قلت: فما نفعل؟

قال: ألم أقل لك: ينبغي التفكير في العمال قبل التفكير في العمل، فلا عمل بلا عمال؟

قلت: بلى، ولكن .. أنت تطلب أشياء قد تضر برأس المال نفسه، فكيف بفوائده؟

قال: ألا تفكرون إلا في رأس المال والفوائد؟

قلت: هكذا يفكر أرباب الاقتصاد.

قال: وأين علماء النفس؟

قلت: في عياداتهم ينتظرون وفود المرضى.

قال: لماذا لا يطالبون بحق العمال في السكن النفسي؟

قلت: لو طالبوا بذلك لأغلقوا عياداتهم .. ألم أقل لك يا معلم إن كل شيء أصبح تجارة في عصرنا؟

قال: فلنضرب صفحا عن هذا .. أنتم لم تكتفوا بإبعاد الأب عن أولاده حتى ألحقتم به الأم.

قلت: نعم، وعجلة الاقتصاد المتطور هي التي استدعت ذلك، ثم إن الشريعة لا تنفي ذلك، فقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم:(إن النساء شقائق الرجال)([8])

قال: نعم هذا حديث صحيح الثبوت والمعنى، فالمرأة شقيقة الرجل في الأصل والخلقة، وشقيقته في أصل التكليف، وشقيقته في جزاء الآخرة .. ولكن ما علاقة هذا الحديث بما نحن فيه؟

قلت: بما أن الرجل يحق له العمل، ويجب عليه العمل، فيحق للمرأة ويجب عليها.

قال: ما هذا القياس البديع؟ لكأني بك تقيس الأذن على العين.

قلت: كيف؟

قال: الأذن والعين كلاهما شقيقان، فكلاهما من حواس الإنسان التي يطلع بها على العالم الخارجي، وكلاهما يؤثر في علاقة الإنسان بمحيطه.

قلت: أجل، ولكن العين تبصر، والأذن تسمع.

قال: فكذلك المرأة والرجل، لكل منهما طاقته ووظيفته الخاصة به، فخروج أحدهما عن وظيفته كطلب الأذن أن تبصر، وطلب العين أن تسمع.

قلت: أنا أترك هذا القياس، فما رأيت في القياس خيرا قط، ولكني ألجأ إلى النص الذي لا كلام معه.

قال: ومن يتجرأ على معارضة الله أو معارضة رسوله؟!

 قلت: فقد قال تعالى:{ وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ} (القصص:23)، فقد أخبر تعالى عن ممارسة هاتين المرأتين لمهنة الرعي.

قال: ألم تقرأ ما تعللتا به؟

قلت: بلى، فقد ذكرا أن أباهما شيخ كبير.

قال: وهو اعتذار عما دعاهما إلي الخروج وسقي أغنامهما، دون وليهما الذي يتولى ذلك عادة إذ كان عاجزا عن ذلك .. ثم ما ترى في ذكر القرآن الكريم، هل ذكره كنموذ ج يحتذى، أو ذكره كموقف من مواقف الاضطرار؟

قلت: لم أفهم.

قال: هل أثنى الله تعالى على هذا المجتمع الذي وجدت فيه المرأتان؟

قلت: لا أظن ذلك، فهذا مجتمع يظهر عليه الوقاحة وسوء الأدب، بدليل قوله تعالى على لسانهما:{ لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ} (القصص:23)

قال: وهو مجتمع لا ينحني إلا للقوي، ولهذا لما جاء موسى u سقى لهما بمجرد حضوره مع كونه غريبا.

قلت: أجل، ذلك صحيح.

قال: فلماذا تجعلون هذا المجتمع الغارق في هذه الوضاعة نموذجا تحتذون به، ألم تطالبوا بالاقتداء بالمجتمعات الكاملة الصحيحة؟

قلت: بلى، ولكن قد ورد في النصوص ما يدل على عمل المرأة في هذه المجتمعات، ألم يقل الله تعالى:{ وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ } (البقرة: 233)، ففي الآية دليل على جواز استئجار المرأة للرضاعة، وأنه يجب على ولى الطفل أن يقدم لها أجرها.

قال: لا إشكال في هذا النص، ولا دليل فيه على ما ذكرت.

قلت: كيف؟

قال: هل رأيت رجلا يرضع صبيا؟

ضحكت، وقلت: في أي كوكب هذا؟ أو في أي فيلم خيالي شاهدته؟ لكأني بك تطلب من العين أن تسمع، ومن الأذن أن ترى.

قال: فهذا إذن من وظائف المرأة التي لا يطيقها الرجل، والتي لا يصلح لها إلا المرأة.

قلت: أجل، هذا صحيح،  ولكن قد ورد في النصوص ما يدل على عمل المرأة، بل عمل المرأة لتنفق على زوجها، فكيف تنكر هذا؟

قال: ومن قال لك: إني أنكر هذا!؟ .. أنا  أتكلم عن حق العمال الاجتماعي، فهل ترك هؤلاء أبناءهم للخوادم، أم لدور الحضانة؟

قلت: لا .. لم يفعلوا ذلك.

قال: ولو أنكم فعلتم ذلك ما أنكر عليكم أحد، ولكنكم تسلبون المرأة أولادها، وهي أغلى ما تملك، وهي أغلى ما يملكون، لتزجوا بها فيما تتصورونه من حضارة.

قلت: لكأني بك تريد حبس المرأة في بيتها.

قال: ومن قال بأن المرأة في بيتها محبوسة، أليست تؤدي أعظم وظيفة، وظيفة بناء الإنسان؟

قلت: صدقت، فإن العناء الذي تعانيه في هذه الوظيفة أعظم من العناء الذي تعانيه خارجها.

قال: لقد سمعت بعضكم يستشهد بحكمة تقول:(الأم التي تهز سرير الطفل بيد، تهز العالم باليد الأخرى)

ضحكت، وقلت: أي حكمة هذه يا معلم، إن هذا كلام نابليون بونابرت.

قال: وما يهمني من هو، المهم أن ما قاله حكمة، وقد قلتم:(خذوا الحكمة من أفواه المجانين)

قلت: نعم، كل هذا صحيح، ولكن مع ذلك، فإني لا أتصور المراكز الكثيرة، وقد خلت من النساء .. الحضارة يا معلم تستدعي هذا النوع من التضحية.

قال: أي حضارة هذه التي لا تكتفي بتدمير صحتكم والقضاء على راحتكم، بل تتعدى ذلك إلى القضاء على طبيعتكم الاجتماعية ..


([1])    أبو داود.

([2])    البخاري ومسلم.

([3])    ابن حبان.

([4])    ابن ماجة.

([5])    ابن حبان.

([6])    الطبراني في الأوسط و أبو نعيم في الطب.

([7])     رواه مسلم.

([8])    رواه الترمذي وأبو داود والدارمي وابن ماجه.

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *