مفتاح المصلحة

بعد أن قال ذلك فتح لنا الباب .. لكنا ما إن سرنا قليلا حتى رأيت بابا عجيبا، علقت عليه لافتة مشعة مكتوب عليها قوله تعالى:{ وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا}(القصص: 77)، وقد برز منها شعاع رسم صورة جيش من العمال، له أياد كثيرة، تتوزع على الوظائف المختلفة، ولم يكن هذا غريبا في نظري، ولكن الغريب أن جميع هذا الجيش يتحرك بقلب واحد ينبض بالحياة، وقد كان لذلك القلب عينان، لا كسائر العيون، أما إحداهما، فتتوجه إلى السماء مستغرقة فيها غافلة عما حولها.. وأما الثانية، فتتوجه إلى حركات الأيدي، فتنسق بينها، وتنظم حركاتها.
سألت المعلم عن سر هذه الصورة، فقال: هذه صورة رمزية لباب المصلحة.
قلت: فما سر القلب الواحد، والأيدي الكثيرة؟
قال: القلب الواحد يدل على الهدف الواحد الذي تتوزع الوظائف والأيدي على خدمته، فالوظائف كثيرة، ولكن المصالح محدودة.
قلت: وما سر العينين الغريبتين؟
قال: العينان إشارة إلى قبلة المصالح.
قلت: أللمصالح قبلة؟
قال: للمصالح قبلتان، لكل قبلة عينها، مصالح الدنيا ومصالح الآخرة.
قلت: ولكن قومي يقصرون المصالح على مصالح الدنيا.
قال: هم كالدجال .. أليس الدجال أعور؟
قلت: ولكنهم يرون بأبصارهم.
قال: كل من اقتصر في أي جهد يبذله على مصالح دنياه غافلا عن مصالح أخراه فهو أعور.
قلت: فما مصالح الآخرة التي يتوجه جهد المؤمن لتحقيقها؟
قال: المؤمن في حياته لا يبذل جهده إلا في مصالح آخرته، فهو لا يحب الآفلين.
قلت: ولكن لا بد له من أن يتناول الدنيا .. أليس بشرا يحتاج من المرافق ما يحتاجه البشر؟
قال: أجل .. وهو يتناول من دنياه لأخراه .. فلا تحجبه دنياه عن أخراه.
قلت: لا أفهم هذا .. فالدنيا دنيا، والآخرة آخرة.
قال: مثل ذلك مثل قوم مسافرين، وليس لهم من المطايا ما يتنقلون عليه، فراحوا يخترعون صنوف الحيل ليقطعوا طريقهم، فهم في ظاهرهم يلهون ويلعبون، وهم في حقيقتهم يقطعون المفاوز التي تحول بينهم وبين أوطانهم.
قلت: لقد ذكرتني بما كنت أفعله في صغري مع رفاقي، فقد كنا نحتال على بعد المسافة بالتسابق والعدو .. فسرعان ما نقطع طريقنا من غير تعب ولا عناء.
قال: فهكذا يقطع أهل الآخرة مفازات الدنيا، فهم في ظاهرهم من أهل الدنيا، وفي حقيقتهم من أهل الأخرى.
قلت: ولكن كل الناس يعدون، ويتسابقون، فكيف أفرق بين أهل الدنيا، وأهل الآخرة؟
قال: هم لا يكادون يفترقون في حركات أيديهم، ولكنهم يفترقون في هممهم، فعيون أهل البصيرة تتوجه لكلا القبلتين، أما عيون أهل الغفلة، فهي قاصرة على الدنيا، عوراء عن الآخرة.
قلت: أتقصد أن جهود أهل الدنيا هي نفس جهود أهل الآخرة .. والفرق بينهما لا يعدو الهمم والنيات؟
قال: الأصل في الفرق بينهما هو الهمم والنيات .. وهذا الأصل ينبت لكل قوم ما يتناسب مع رغباتهم.
قلت: اضرب لي أمثلة على هذا تقرب لي ما يعز على خاطري تصوره.
قال: أكثر ما يمارسه قومك من الجهود عبث لا حاجة له .. وهم في سبيله يقضون مضاجعهم ومضاجع أهل الكون من حولهم .. ثم لا يكادون يأبهون لما يفعلون.
قلت: وضح ما تريد.
قال: أكثر مصانعكم وملاعبكم ودور لهوكم وعبثكم تحجبكم عن حقيقتكم، وتملأ الكون من حولكم بالضباب.
قلت: وأهل الآخرة، الذين جمعوا بين الدنيا والآخرة.
قال: هم بمنجاة من ذلك كله .. فحياتهم بسيطة، ولكنها تمتئ بالجمال، فالعالم من حولهم من الصفاء والرقة ما يجعلهم يستغنون عن أكثر ما تمارسونه من لهو.
قلت: ومصانع الغذاء واللباس وأصناف المراكب ..
قال: أكثرها مما يمكن الاستغناء عنه .. فقد جعل الله في دار ضيافته ما يغني عن أكثر ما يملأ حياتكم عبثا.
قلت: وعيت هذا .. فما مصالح الآخرة التي ينشغل بها عن أكثر لهو الدنيا وعبثها.
قال: أما العارفون، فقد انشغلوا بالله عن كل شيء .. فهم في حمى الله، وفي كنفه، عجلت لهم جنانهم، فهم يروحون عليها ويغدون.
قلت: هم { ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ } (الواقعة:14)، فحدثنا عن الأكثرين.
قال: لقد لاح لهم من نفحات الجنة ما جعل جميع حركاتهم تنتظم متوجهة إليها .. فلذلك امتلأت حياتهم بالراحة، كما امتلأت حياة قومك بالعناء.
قلت: كيف تقول عن قومي هذا.. وهم من هم؟
قال: إن الضنك النفسي الذي يعيشه قومك نتيجة الانشغال بالمصالح التي يوهمون أنفسهم بها لا يعوضه أي مكسب كسبوه أو دنياه استفادوها، فما الدنيا إلا لأهل الطمأنينة والسلام.
قلت: ما دام أهل الآخرة متوجهون إلى الآخرة توجها كليا، فكيف يتجهون إلى الدنيا، وهل عندهم من الفراغ ما يجعلهم يتوجهون إليها؟
قال: ألم أقل لك: إن أهل الآخرة لا يفرقون بين الدنيا والآخرة، فهم يعيشون الدنيا بأجسادهم، ويعيشون الآخرة بهممهم وأرواحهم، كما قال صلى الله عليه وآله وسلم:(ليس بخيركم من ترك دنيا لآخرته، ولا آخرته لدنياه حتى يصيب منها جميعا، فإن الدنيا بلاغ الآخرة، ولا تكونوا كلا على الناس)([1])، وقال:(إذا كان في آخر الزمان لا بد لناس فيها من الدراهم والدنانير، يقيم الرجل بها دينه ودنياه)([2])، وقال:(من استطاع منكم أن يقي دينه وعرضه بمال فليفعل)([3])
قلت: لقد قال تعالى:{ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا}(القصص: 77)، فما النصيب الذي لا ينبغي نسيانه من الدنيا؟
قال: لقد ذكر الله تعالى مجامع متاع الدنيا، فقال:{ زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} (آل عمران:14)
قلت: ولكن الله تعالى ذكر هذا بصيغة الذم بدليل قوله بعدها:{ قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ}(آل عمران:15)
قال: لا .. لم يذكر الله تعالى ذلك بقصد الذم، فالله هو الذي زين فينا محبة تلك الشهوات، وما كان الله ليذم شيئا خلقه فينا.
قلت: ولكن النص ظاهر الدلالة على ذلك.
قال: لا .. النص يدل على معان أعمق مما قد يوهمك ظاهره.
قلت: اشرح لي ذلك .. فإني لا أكاد أفهم منه غير ظاهره.
قال: إن الله تعالى
يبين في تلك الآية الكريمة ما جبل عليه عباده من حب للشهوات، وهو لم يحرم عليهم
تناولها، فما كان الأمر التشريعي ليخالف الأمر التكويني، ولكن الذم متوجه للمنشغل
بها المنحصر في أكفانها، الذي حجبته عين دنياه عن مصالح أخراه، فلذلك راحت الآية
تنبهه إلى عظم الغبن الذي يقعون فيه.
([1]) رواه الحاكم.
([2]) رواه الطبراني.
([3]) رواه أبو داود.