مفتاح الفكر

مفتاح الفكر

بعد أن قال ذلك فتح لنا الباب .. لكنا ما إن سرنا قليلا حتى رأيت بابا عجيبا، عليه لافتة مشعة مكتوب عليها قوله تعالى:{ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء} (فاطر: 28)، وتحتها أو في أثنائها صورة لرجال بطلعات مهيبة ينظرون إلى الكون، ويقتبسون منه أنوارا كثيرة مختلفة، ثم يصبونها على الخلق، فيهتدوا بها في الفلوات، ويستنيروا بها من الظلمات.

فسألت المعلم: من هؤلاء .. فوجوههم وجوه خير، وأعمالهم أعمال خير.

قال: هؤلاء وسائط النور الإلهي.

قلت: وما وسائط النور الإلهي؟ .. وهل نور الله بحاجة إلى وسائط؟ .. وما معنى الواسطة؟ .. وما وجه الحاجة إليها؟ .. وما علاقة ذلك بالباب؟ .. وما ..؟ 

قال: رويدك، فالعلم إذا أتى جملة ذهب جملة ..

قلت: فما معنى الواسطة؟ وما وجه الحاجة إليها؟

قال: ما الفرق بين ضياء الشمس ونور القمر؟

قلت: هذا من أسرار الدقة في التعبير القرآني، فالله تعالى يعبر في القرآن الكريم عما يصدر عن الشمس من أشعة بالضياء، ويعبر عن أشعة القرم بالنور، كما قال تعالى:{ هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُوراً } (يونس: 5)

قال: وما السر في هذا التنوع في التعبير؟

قلت: ما أكده العلم الحديث من أن المراد من الضياء هو النور الذاتي، أما النور فإنه أعم من الضياء، ويـشـمل الذاتي والعرضي، وعلى هذا فان اختلاف تعبير الاية يشيرالى هذه النقطة، وهي أن اللّه سبحانه قد جعل الشمس منبعا فوارا للنور، في الوقت الذي جعل للقمر صفة الاكتساب، فهو يكتسب نوره من الشمس .

ويدل لهذا قوله تعالى:{ وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجاً} (نوح:16)، وقوله تعالى:{ تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً وَقَمَراً مُنِيراً} (الفرقان:61)، فإن نورالسراج ينبع من ذاته، فلذلك شبهت الشمس في الآيتين بالسراج.

قال: فنور القمر إذن مستمد من ضياء الشمس؟

قلت: هذا صحيح .. ولا يخالف فيه أحد.

قال: فكذلك من رحمة الله بعباده أن جعل فيهم أقمارا تستمد نورها من الشمس لتضيء به ظلمات الخلائق.

قلت: فهم وسائط الشمس.

قال: هم وسائط الهداية.

قلت: فهم الفقهاء والمفسرون ..

قال: كل العلماء .. أتحسب أن من يبحث في الذرة والخلية لا علاقة له بالله .. إنه قمر من أقمار الله يهدي به الله من شاء من عباده .. ولكن لكل ميدانه .. ولا يستغني بعضهم عن بعض.

قلت: فهمت هذا .. فلا يمكن أن تسير الحياة بدون عمل العقل.. ولكن في أي ميدان؟

قال: في كل الميادين، ابتداء بالتعرف على الله والسلوك إليه، وانتهاء بمرافق الحياة .. أرأيت لو أن البشر لم يعلموا عقولهم في مرافق الحياة، واكتفوا بالجهد العضلي، أكان يمكن أن يصلوا إلى ما وصلوا إليه؟

قلت: لو اكتفوا بذلك لكنا الآن من البدائيين .. نعيش على الصيد أو على ما تنتجه الأشجار من أنواع الثمار.

قال: هذا إن ظللتم موجودين .. ألا تعلم الأوبئة الفتاكة، وما تفعل بالبشرية .. ألم ينهض لمقاومتها أقمار الأطباء الذين اهتدوا بشموس شفاء الله!؟ 

قلت: أجل .. ألهذا إذن كان الفكر مقدمة لكل عمل؟

قال: هذا سبب .. وسبب آخر هو ما أرى عليه قومك من التقصير في حق المفكرين والمبدعين .. أقمار الهداية الربانية.

قلت: كيف نقصر في حقهم .. فلهم وظائف تدر عليهم مرتبات .. نعم هي أقل من مرتبات غيرهم .. ولكنها مع ذلك أحسن من مرتبات كثير من المستضعفين، ثم هي تكفيهم لحياة لا تجعلهم يمدون أيديهم للخلق بالسؤال.

قال: هذه الوظيفة الخطيرة .. وظيفة الفكر المنتج تتطلب أربعة حقوق لا تقوم إلا بها .. والتفريط في واحد منها قد يؤدي إلى خسوف جزئي أو كلي لهؤلاء الأقمار.

قلت: فما هي؟

قال: التفريغ، والتيسير، والتحفيز، والتأثير.

قلت: أهي محصورة كانحصار الأركان.

قال: أجل .. ولا يغني بعضها عن بعض ..

لاح لي أربعة أبواب داخل مدخل باب الفكر، فقلت: لا شك أن هذه أبوابها.

قال: أجل .. هي أبوابها، فهلم إليها.

التفريغ:

اقتربنا من الباب الأول من أبواب الفكر، وقد علقت على بابه صورة عالم جليل، قد توفر له من أسباب الرزق ما صرفه صرفا كليا لطلب العلم وتعليمه، وقد أبدع الفنان الذي رسم الصورة في التعبير عن هذا المعنى، بما لا يستطيع اللسان التعبير عنه.

قلت للمعلم: لا شك أن هذا باب التفريغ، فالراحة النفسية التي جعلت هذا العالم منصرفا انصرافا كليا للعلم سببها ما توفر لديه من انتفاء الموانع التي تحول بينه وبين البحث والطلب.

قال: أجل .. وهذا هو أول ركن من الأركان التي تسهم في النهضة العلمية، فلا بد أن يوفر للعالم ولطالب العلم من الرزق ما يجعله متفرغا لطلب العلم أو للبحث فيه، فلا يمكن للعقل المملوء بهموم المعيشة أن يتفرغ للتفكير السليم.

قلت: أتقصد أن يعطى العلماء من الأجور ما يفرغهم للبحث؟

قال: ليس العلماء فقط، بل العلماء وطلبة العلم، فلا يمكن أن يصير الشخص عالما إذا لم يبدأ طالبا.

قلت: لو أن الأمر بهذه الصورة، فإن كل الخلق سوف يتركون وظائفهم وأعمالهم ليسجلوا أنفسهم في دوائر أهل العلم .. وستتعطل بذلك الحياة.

قال: للعلم أهله، وليس كل من سجل نفسه في دائرة من الدوائر قبل فيها.

قلت: أتقصد الانتقاء؟

قال: أجل، فالعلم لا ينهض به إلا من توفرت فيه خصائص أهل العلم، فإن وجدت في المتقدم، وكان له من القدرات ما يمكن أن يصير به قمرا من أقمار الهداية قبل، ووضع له من الرزق ما يغنيه عن الانشغال عن العلم.

قلت: أتقصد أن يكون حاملا لشهادة من الشهادات العالية؟

قال: ليس بالضرورة ذلك، فكثيرمن حملة الشهادات أميون متسترون بذلك القرطاس الذي منحوه.

قلت: فكيف يعرف العالم أو طالب العلم إن لم يعرف بالشهادة؟

قال: بالعلم .. وبإنتاج العلم .. وبتحقيق العلم.

قلت: ولكن البشر توصلوا إلى الشهادة كسبيل من سبل التعرف على أهل العلم .. وقد سبق المسلمون إلى ذلك، ففرقوا ـ مثلا ـ بين المجتهد المطلق، ومجتهد المذهب، والمتبع، والمقلد، وفرقوا في الحديث بين المحدث والحافظ والحجة والحاكم وهكذا في كل العلوم نجد المراتب المختلفة.

قال: فتلك المراتب بم نالوها .. أبشهادات نالوها أم بالبحث والاجتهاد؟

قلت: بل بالبحث والاجتهاد.

قال: فلذلك إن أردتم أن تتحققوا بحقائق أهل العلم انشروا العلم بين الناس، ودعوا العباقرة يولدون في الشوارع والطرقات والأكواخ والقصور، فالعبقرية ليست حكرا على الجامعات والمعاهد.

قلت: لم أفهم إلى الآن قصدك من كل هذا.

قال: التفريغ الذي أقصده لا يتعلق إلا بمن توفرت فيه القدرة على الإنتاج العلمي، فلا يكفي فيه مجرد الانتساب للجامعات والمعاهد.

قلت: وكيف نعرف ذلك؟

قال: بالجرح والتعديل.

ضحكت، وقلت: وما علاقة الجرح والتعديل بهذا؟

قال: ألم يكن العلماء في القديم يدرسون شخصيات المحدثين ليروا مدى ورعهم، ومدى قدرتهم على الحفظ والضبط ليحكموا على حديثهم بعد ذلك بالقبول أو الرفض؟

قلت: أجل ..

قال: فكذلك فافعلوا .. فللعلم أماراته.

قلت: فإن لم نجد فيهم الأهلية؟

قال: أنواع الجهود كثيرة، فمن لم يصلح لهذا الباب صلح لغيره.

قلت: ولكن نفوسهم قد تميل لهذا النوع من الجهد.

قال: ليثبتوا ما تميل إليه نفوسهم، وإلا فإن أكلهم المال المرصد لأهل العلم حرام، ألم تقرأ ما قال الغزالي فيمن يسكن الرباطات الموقفة على الصوفية من غير تحقق بما يقتضيه هذا الوقف من صفات؟

قلت: أجل، فقد قال وهو ينكر على متصوفة عصره:(وإنما عصيانهم في التلبيس والسؤال على اسم التصوف والأكل من الأوقاف التي وقفت على الصوفية،لأن الصوفي عبارة عن رجل صالح عدل في دينه مع صفات أخر وراء الصلاح، ومن أقل صفات أحوال هؤلاء أكلهم أموال السلاطين وأكل الحرام من الكبائر، فلا تبقى معه العدالة والصلاح، ولو تصور صوفي فاسق لتصور صوفي كافر وفقيه يهودي، وكما أن الفقيه عبارة عن مسلم مخصوص، فالصوفي عبارة عن عدل مخصوص لا يقتصر في دينه على القدر الذي يحصل به العدالة، وكذلك من نظر إلى ظواهرهم ولم يعرف بواطنهم وأعطاهم من ماله على سبيل التقرب إلى الله تعالى حرم عليهم الأخذ وكان ما أكلوه سحتا)([1])

قال: فكذلك الأموال المرصدة لأهل العلم هي من أموال موقوفة على من اتصف بصفات معينة، فمن توفرت فيه جاز له أن ينالها، ومن لم تتوفر فيه كان آكلا للسحت، وتحق بحقيقة قوله تعالى:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ} (التوبة: 34)، فمن أكلهم الباطل نيلهم لأجر لا يستحقونه.

التيسير:

اقتربنا من الباب الثاني من أبواب الفكر، وقد علقت عليه صورة مكتبة ضخمة تحوي أصناف الكتب، وقد هيئت في تلك المكتبة كل الوسائل التي يحتاجها الباحث من الأقلام والأوراق .. بل حتى أصناف الحواسيب والأجهزة العلمية الحديثة .. ولا أحسب أن هناك ما يحتاجه الباحث في هذه المكتبه إلا ويجده فيها.

قلت للمعلم: لله .. ما أجمل هذه المكتبة .. لكأنها مركز ضخم من مراكز البحوث، وليست مجرد مكتبة.

قال: نعم، فهذا باب التيسير المتفرع من باب الفكر، والتيسير يستدعي توفير كل ما يحتاجه المفكر من وسائل.

قلت: ولم سمي هذا تيسيرا؟

قال المعلم: لأن الوسائل التي يحتاجها الباحث هي التي تيسر عليه الوصول إلى المعلومة التي يريدها .. قل لي: هل كان يمكن لعلماء الفلك أن يصلوا إلى ما وصلوا إليه من نتائج لولا توفر المراقب؟

قلت: كلا .. بل ستظل النظريات القديمة سواء ما بني منها على العقل أو على الوهم هي السائدة.

قال: ولو لم يخترع المجهر؟

قلت: ستظل الميكروبات وغيرها من أصناف الأحياء الدقيقة في حصون عالم الغيب لا يمتد إليها العقل، ولا تكدر صفوها الأدوية.

قال: فهكذا كل الوسائل نعم من نعم الله علينا خلقها لنا لنسخرها في البحث والاكتشاف .. فلذلك كان توفيرها للباحثين جزءا من الحقوق التي تتطلبها وظيفتهم .. فأهل العلم لا يحتاجون فقط إلى الطعام والإدام، بل هم في حاجة أكثر إلى الكتب والأقلام، وكل ما يخرجه الله لعباده من أصناف الأجهزة والوسائل.

قلت: فكيف يتحقق التيسير؟

قال: بتوفير كل ما يخدم العلم وينشره ليستفيد منه الخاصة والعامة .. فالعلم لا يعرف خاصة وعامة.

قلت: علمت احتياج الخاصة، وكيفية سده، فما احيتاج العامة، وكيف نسده؟

قال: بالتيسير.

قلت: كيف؟

قال: أنا لا أقترح، وإنما أدل .. ولكن قل لي: أنتم تتفنون فيما تسمونه بالمسلسلات والأفلام والرسوم المتحركة.

قلت: أجل .. فالعامة يحبونها حبا جما .. فلذلك نستورد منها كل جديد.

قال: تستوردون! .. أهذا ما تتقنون؟

قلت: فما عسانا نفعل، فالمطالب أكبر من طاقتنا الإنتاجية؟

قال: فوفروا المطالب بالتحفيز.

قلت: وما التحفير؟

قال: سنمر على بابه لنعرفه .. ولكن قل لي الآن: ألا يمكنكم استغلال هذا الحب الجم الذي عليه جمهوركم نحو الأفلام الهابطة في تغذيتهم بالمعارف والعلوم والسلوك الصالح!؟

قلت: يمكن ذلك .. ولكن هل سيقبل العامة ذلك؟

قال: حاولوا أن تتعرفوا على أذواقهم لتطعموهم إياها حتى يألفوها.

قلت: يا معلم .. أرى في الصورة حواسيب كثيرة .. ما الغرض منها؟

قال: هذه الحواسيب هدية الله إليكم .. وهي السيف الذي تفتحون به روما وواشنطن وبكين وباريس ..

ضحكت، وقلت: أهذه الحواسيب لنا .. ولكنها صنعت عندهم.

قال: هم صنعوها لتعمروها أنتم .. ثم تنشروا ما هداكم الله إليه من الخير بها.

قلت: أعرف يا معلم ما لبرامج هذه الحواسب من تأثير عميق .. بالإضافة إلى ما يسره الله في هذا العصر من الاتصال بالعالم أجمع بضغطة زر واحدة.

قال: فتعلموا تلك الضغطة .. فهي مفتاح كل خير .

قلت: إن بعض قومي ينظرون إلى هذه الوسائل نظرة مغايرة .. بل هم يتصورون أن مجرد كونها من الغرب يجعلها عارية من كل خير.

قال: فدعهم .. ولا تجادلهم .. فهؤلاء لا يفقهون عن الله .. ألم يسم الله ما ابتدعتموه من وسائل النقل خلقا لله؟

قلت: بلى .. فقد قال تعالى:{ وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ} (النحل:8)، ففي هذه الآية إشارة صريحة لوسائل النقل الحديثة.

قال: وهكذا .. فقد ذكر الله تعالى القلم ليشير إلى كل الوسائل التي تيسر الوصول للعلم وتنشره.. ألم يذكر الله القلم في أوائل ما أنزل؟

قلت: بلى، فقد قال تعالى في أول ما أنزل من القرآن الكريم:{ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ} (العلق:4) ..

التحفيز:

اقتربنا من الباب الثالث من أبواب الفكر، وقد علقت عليه صورة إعلان عن مسابقة لتشجيع المواهب المختلفة .. كانت المواهب كثيرة .. وكان التشجيع على المتحقق عظيما.

لم أكد أنتهي من قراءة ما فيها حتى فاجأني المعلم، وهو يقول: هذا باب التتحفيز، وهو الباب الذي يخدم الفكر وينشره متوسلا بما في طبيعة الإنسان من الرغبة والطمع.

قلت: دعني أقرأ .. فلعلي أرشح نفسي لبعض هذه الجوائز.

قال: فقد أدركت إذن تأثير الحوافز في خدمة العلم ونشره من غير أن نحتاج إلى شرح لذلك.

قلت: ومن يشك في تأثير الحوافز .. لا في النهضة العلمية وحدها .. بل في كل المجالات .. ولكن قد عرفت ـ يا معلم ـ فيم توضع الحواز عندنا .. ومن يحفزون؟

قال: عرفت .. وتأسفت ..

قلت: نحن نحفز مواهب الغناء والرقص والتمثيل .. أما أهل العلم فنتركهم في دركات النسيان.

قال: فإن أردتم أن تنهضوا .. فحفزوا الأمة على التنافس على الخير .. ودلوا من يتولى أمركم على حل بسيط لحفظ الأمن في بلده وحفظ الكراسي التي يجلسون عليها من كل شغب.

قلت: أهناك حل لذلك ..

قال: أجل .. قل لهم: ضعوا تلك الأموال التي تضعوها رشوة في أيدي الأجهزة المختلفة حوافز للأمة على البحث والعلم .. فسوف تنشغل الأمة بالعلم عنكم، وعن المكيدة لكم .. بل ستضيف إلى ذلك الدعاء لكم .. فتكسبوا الدنيا والآخرة.

قلت: هذا حل جميل .. ليتهم ينتبهون إليه .. ولكن يا معلم .. ألم يأمر الله بالإخلاص .. وهو يستدعي خلاص النفس من كل مطالب العوض، ولهذا وردت النصوص تحث على الإخلاص، وتشدد في ذلك، وقد ورد في الحديث الشريف:(صدقة السر تطفىء غضب الرب عزّ وجلّ)([2]

وورد في حديث السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله:(ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه)، ومنهم (ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه)([3])

قال: هذا صحيح .. وهو لا يتنافى مع ما ذكرنا .. لأن الغرض هنا هو نشر وعي معين .. أما الإخلاص فمن السهل تحصيله لمن صدق في طلبه.

قلت: لم أفهم .. فالإخلاص أصعب الأمور.

قال: ولكن أليس العامل هو الذي يخلص؟

قلت: أجل .. فالقاعد فيم يخلص.

قال: فلنعلمهم أولا العمل .. فإذا عملوا وأتقنوا علمناهم الإخلاص .. بل إن العلم نفسه قد يكون دليلهم على الإخلاص .. ألم تقرأ ما قال بعضهم:(طلبنا العلم لغير الله، فأبى أن يكون إلا لله)

قلت: بلى .. وقد كان هذا من الحوافز التي جعلتني أستكثر من العلم لعلي أصل إلى سر الإخلاص.

قال: ألم تعلم بأن الله تعالى يدعو عباده إلى بابه بهذه الحوافز؟

قلت: كيف؟

قال: ألم تقرأ قوله تعالى وهو يدعو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لتبشير المؤمنين بما أعد الله تعالى لهم من فضل جزاء على أعمالهم الصالحة، كما قال تعالى:{ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهاً وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (البقرة:25)

ففي هذه الآية الكريمة تبشير لمن جمع بين الإيمان والعمل الصالح بهذا الجزاء العظيم الذي سيلقونه عند الله تعالى .

التأثير:

اقتربنا من الباب الرابع من أبواب الفكر، فرأيت صورة لمنصة عالية جلس عليها رجل يظهر على ملامحه أنه من أهل العلم يخاطب أقواما كثيرين.. وقد صوبت أمامه كاميرات كثيرة تنقل كلامه لجميع الدنيا.

فقلت للمرشد: لا شك أن هذا هو الحاكم.

قال: لا .. هذا هو العالم .

قلت: أيترك للعالم أن يخاطب كل هذه الجموع؟

قال: هذا باب التأثير، وهو الباب الذي يخرج فيه العلم من المكتبات والمخابر ليملأ حياة الناس، فلا يصح أن يحجر على العلم.

قلت، وقد غلبني الضحك: أيحجر على العلم، وهل هو سفيه حتى يحجر عليه؟

قال: أنتم تعاملون العلم معاملة السفيه، فتحجرون عليه، وتحجرون على أهله.

قلت: كيف ذلك؟

قال: أرأيت لو منع الطبيب من معالجة المرضى، أيكون قد استفاد شيئا من إرهاق نفسه في البحث عن الأمراض وعلاجها؟

قلت: لا يستفيد شيئا .. فالغرض من الدواء هو المداواة.

قال: فكذلك من أغراض العلم التعليم .. فالعلم يبدأ بالنفس لينتشر إلى المجتمع.

قلت: ولكنا وضعنا لأهل العلم المدارس والجامعات.

قال: لا يكفي ذلك .. العلماء يوضعون في كل الأماكن .. ابتداء بوسائل الإعلام، وانتهاء بكل مراكز الاتصال والتأثير من المساجد وغيرها.

قلت: المساجد! .. هي للأئمة .. فهل نترك هؤلاء يزاحمونهم فيها؟

قال: ليس في العلم مزاحمة .. والمساجد ـ خصوصا ـ ليست حكرا على الأئمة وحدهم .. ألا يحتاج الناس إلى الأطباء؟

قلت: أجل.

قال: فلماذا لا يقدم الأطباء للناس دروسا في المساحد تحفظ صحتهم، وتزيد وعيهم؟

قلت: ولكن المساجد تبع لوزارة الأوقاف، والأطباء تبع لوزارة الصحة.

قال: وما علاقة الوزارت بهذا؟ أتضعون مصالح المجتمع في يد سياسات تتلاعب بها الرياح.

قلت: فما تقصد؟

قال: هذه مؤسسات المجتمع .. لا مؤسسات الساسة، وقوانينها ثابتة لا ينبغي للحكام أن يتلاعبوا بها.

قلت: ولكن للدولة في هذا الوقت تدخلها في كل الشؤون دينا ودنيا.

قال: فكيف تنهضون، وأنتم كلعبة بيد أطفال من الساسة يتحركون كما يشتهون، فتتزلزل الأرض بحركاتهم.


([1])    إحياء علوم الدين:2/251.

(1) رواه الطبراني في الكبير وإسناده حسن.

(2) رواه مالك، البخاري.

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *