مفتاح العلم

مفتاح العلم

بمجرد أن قال هذا شعرت بقناعة عظيمة بضرورة التشجيع والتحفيز وأنه لولاه لما استطعنا أن ننهض من أي كبوة، ولا أن نقوم بأي عمل.. بعد هذا الشعور مباشرة فتح الباب..  لكنا ما إن سرنا قليلا حتى بدا لنا باب جديد، فقال المعلم: هذا باب العلم، ولا يصح دخول سائر الأبواب إلا بعد حمل مفتاحه.

قلت: لماذا تتشدد هكذا؟

قال: هذا ليس تشددا، هذه حقيقة، فالعلم هو الباب الأول لكل شيء، ألم تسمع قوله تعالى:{ وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} (البقرة: 31)؟

قلت: أجل، وقد قرأت اختلاف المفسرين في هذه الأسماء، وقرأت كذلك وجه التفضيل لآدم u حين عرض الله تعالى تلك الأسماء على الملائكة، فلم تعلمها كما علمها آدم u، قال تعالى:{ ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} (البقرة:32)

قال: أفتستدلون بهذا على فضل آدم u على الملائكة ـ عليهم السلام؟

قلت: أجل، بل لا أحد إلا ويستدل بذلك على هذ المعنى.

قال: أخطأتم، فالله تعالى لم يعرض الأسماء على الملائكة ـ عليهم السلام ـ ليتحداهم، بل عرضها لهم ليبين لهم أن آدم u قد زود من العلوم ما يؤهله للخلافة في الأرض.

قلت: ولكنهم لم يعرفوا الأسماء التي عرضت عليهم.

قال: وما الحاجة إلى أن يعرفوها، ألم يقولوا:{  سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ}؟ 

قلت: بلى، فما وجه الاستدلال في هذا؟

قال: إن الملائكة ـ عليهم الصلاة والسلام ـ وهبوا من العلوم ما يناسب وظائفهم، كما وهب آدم u من العلوم ما يناسب وظيفته، فلا تفاضل في هذا ولا تزاحم.

قلت: هذا واضح، ولكن ..

قال: تريد مثالا على هذا؟

قلت: أجل، فبالمثال يتضح المقال.

قال: أرأيت لو أن شخصا أراد أن يدرس الطب فهل يمتحن في العلوم المرتبطة به، أم يمتحن في الفلك والجغرافيا؟

قلت: بل يمتحن في المواد المرتبطة بتخصصه.

قال: فكذلك الأمر مع آدم u والملائكة، فلها من العلم ما ليس لآدم، وله من العلم ما ليس لها، ألم تسمع حديثه صلى الله عليه وآله وسلم عن الملك الموكل بنفخ الروح؟

قلت: بلى، فقد قال صلى الله عليه وآله وسلم:(يدخُلُ الْمَلَكُ على النطفة بعد ما تستقر فى الرحم بأَربعين أَو خمس وأَربعين ليلة فيقول: يا رب، أشقى أَم سعيد؟ فيكتبان، فيقول: يا رب أَذكر أَم أُنثى؟ فيكتبان، ويكتب عمله وأَثره ورزقه، ثم تطوى الصحف ولا يزاد فيها ولا ينقص)([1]

قال: فهل يمكن لبشر أي كان أن يعلم العلوم التي علمها هذا الملك؟

قلت: لا، فقد قال تعالى:{ اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ} (الرعد:8)

قال: فالملك ـ إذن ـ أعلم من الإنسان؟

قلت: في هذا المقام فقط.

قال: بل في كل مقام له علاقة بوظيفته، فالله تعالى إذا خلق خلقا أعطاه من العلوم ما يوفر له أسباب الهداية، كما قال تعالى على لسان موسى u:{ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} (طـه: 50)

قلت: هذا صحيح .. ولكنا يا معلم تهنا عن مقصدنا.

قال: بل لم نته عنه، نحن في لبابه.

قلت: كيف؟

قال: ألا نتحدث هنا عن العلم الذي هو باب من أبواب المدائن؟

قلت: بلى.

قال: أفتظن أنا نحتاج إلى تلقين جميع العلوم لمن نريد أن نعلمهم دخول المدائن؟

قلت: ذلك أحسن.

قال: ولكن العمر لا يساعد عليه، والهمم لا تستطيع الوفاء به.

قلت: فما هي العلوم التي نحتاج إليها؟

قال: ما يفي بخدمة ما تريدونه.

قلت: فاذكر لي تلك العلوم وأقسامها.

قال: أنتم أعلم بأمور دنياكم.

قلت: فمجامعها وأصولها.

قال: علمان لا بد من كليهما، لولا معرفتي بتقصيركم في الجمع بينهما ما ذكرتهما.

قلت: ما هما؟

قال: الأصول النظرية لأي عمل، والتطبيقات العملية المرتبطة به.

قلت: فهل ترانا مقصرين في هذا؟

قال: لستم مقصرين في أفراد العلمين، ولكنكم مقصرون في الجمع بينهما، فأنتم إما أن تدرسوا علوما ترهقون فيها أنفسكم وأوقاتكم، ثم لا تجدون لها أي ثمرة واقعية، أو تتعاملون مع واقع وتطبيقات من غير أن تفهموا لها أصولا نظرية، والكمال في الجمع بينهما.

الأصول النظرية:

قلت: فماذا تريد بالأصول النظرية؟

قال: سنن الله في كونه، فهي أصل الأصول النظرية، وأنتم تقصرون فيها تقصيرا عظيما.

قلت: كيف؟

قال: إن استغلال أي سنة من سنن الله قد يوصلكم إلى مراكز من الرقي لم تكونوا لتصلوا إليها بدون تلك السنة.

قلت: اضرب لي مثالا على ذلك.

قال: قوة البخار، لقد رأيتموها ورآها أجدادكم، فاكتفيتم بالنظر إليها، أو بمد أيديكم إليها لتشعروا ببعض الدفء.

قلت: وهل لها غير الدفء؟ 

قال: نعم .. لها قوى كثيرة .. رأى بعضها رجل فتح له في فهم قوة هذا الخلق، فاستعان به على تلك المراكب الحديثة، ثم بقي التطور يتبع بعضه بعضا إلى أن وصلتم إلى ما وصلتم إليه.

قلت: وكل ذلك بنظرة ثاقبة إلى سنة من سنن الله.

قال: وكل ذلك جزء من تلك النظرة، ألم تسمع قوله تعالى عن ذي القرنين:{ إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً} (الكهف:84)، أتعلم ما السبب الذي أوتيه ذو القرنين؟

قلت: نحن لا نبحث عن الأسباب التي أو تيها ذو القرنين، بل نبحث عمن هو ذو القرنين؟

قال: وما يجديكم أن تعرفوا من هو؟

قلت: بالمناسبة، هل كان نبيا، وهل كان له قرنان، وكيف كان اسمه .. وهل حقا كان أحد ملوك اليمن، والسد الذي بناه هو سد مأرب، أو هو كورش الكبير الملك الاخميني، أم هو الاسكندر المقدوني، ولكنه لم يشتهر عليه أنه بنى أي سد .. أم هو ..!؟

قال: وما يجديك أن تعلم كل هذا؟ ألا يغنيك ما في كتاب الله؟

قلت: لقد ذكر الله قصته، فشوقنا لمعرفته.

قال: شوقكم للحقائق التي تنطوي عليها قصته، أما هو فعبد من عباد الله، ويكفيكم ذلك.

قلت: ولكن البشر يحب الفضول.

قال: فليكن فضولكم فيما ينفعكم .. لقد سألتك عن الأسباب التي أوتيها ذو القرنين.

قلت: السبب في اللغة يعني الحبل المستخدم في تسلق النخيل، كما قال تعالى:{ مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ} (الحج:15)

قال: فهل كل ما أوتي ذو القرنين هو حبل؟

قلت: لعله حبل كعصا موسى u.

قال: أنتم تبالغون في البحث عن المعجزات لتفروا بها من علاج واقعكم، بحجة أنه ليس لديكم عصا كعصا موسى u، أو خاتم كخاتم سليمان u أو حبل ..

قلت: فما الأسباب إذن؟

قال: هي استعمال كل الوسائل الممكنة المرتبطة بأي إنجاز ..

قلت: مثل ماذا؟

قال: لكل شيء أسبابه الخاصة به، وسننه التي يدخل إليه منها، وفي القرآن الكريم إشارة إلى بعض ذلك.

قلت: أين؟

قال: في قصة ذي القرنين نفسها .. ألم يقل الله تعالى:{ فَأَتْبَعَ سَبَباً} (الكهف:85) ولم يكتف بذلك، بل كررها ثلاث مرات.

قلت: فما فائدة هذا التكرير؟

قال: ليس هذا تكريرا، فلكل شيء سببه الخاص به وسنته التي ينطلق منها، ولا يمكن الدخول إليه إلا من بابها.

قلت: فهمت هذا، فهل في قصة ذي القرنين حكمة أخرى؟

قال: كلها حكم .. ما اللفظ الرابط بين هذه الآيات الثلاث التي وردت في قصة ذي القرنين، بين قوله تعالى:{ حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْماً قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً} (الكهف:86)، وقوله تعالى:{ حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْراً} (الكهف:90)، وقوله تعالى:{ حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْماً لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً} (الكهف:93)

قلت على البديهة: (وجد) .. إن هذه اللفظة هي اللفظة المتكررة في الآيات الثلاث.

قال: أتعلم ما الحكمة من تكريرها؟

قلت: لا.

قال: متى تقول عن شخص:(إنه وجد شيئا)؟

قلت: عندما يبحث عنه، أو يكون له اهتمام به.

قال: فذو القرنين لم يكن ـ كما تتصورون ـ رجل حرب يبحث عن توسيع امبراطوريته، بل كان رجلا بحاثة عالما يبحث في الأرض، ليكتشف قوانين الله وسننه فيها.

قلت: هذه دعوى تحتاج إلى دليل، فما ذكرته لا يكاد يكفي.

قال: لقد ذكر الله تعالى ما وجده ذو القرنين في الغرب والمشرق وبين السدين.

قلت: لقد قال تعالى في المغرب:{ حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْماً } (الكهف:86)، وقال عن المشرق:{ حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْراً} (الكهف:90)،وقال عن المكان الذي بين السدين:{ حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْماً لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً }  (الكهف:93) 

قال: فتأمل في جوامع الأشياء التي وجدها.

قلت: هناك التضاريس، وما يرتبط بها من مناخ، وهناك الشعوب وما يرتبط بها من طباع.

قال: والعلاقة الرابطة بين الشعوب والتضاريس والمناخ ..

قلت: نعم كل ذلك يظهر جليا في قصة ذي القرنين .. لكأني بها تتحدث عن اكتشافات جغرافية لا عن محارب يقود جيشا.

قال: بل كان أكثر من مجرد كشافة .. كان عالما مصلحا، ألم يلجأ إليه الأقوام الساكنين بين السدين؟

قلت: لا أزال أتعجب من علمه بلغتهم، فقد قال تعالى:{ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً}

قال: وهذا يصب فيما ذكرنا من اجتهاده العقلي وبحثه عن سنن الله للتعرف على أسرارها واتباعها.. سألتك عن لجوء أولئك الذين لا يكادون يفقهون قولا إليه.

قلت: نعم لجأوا إليه ليحميهم من يأجوج ومأ جوج .. بالمناسبة من هم؟

قال: دعك من هذا، فإنه جدل، وقد اشترطت عليك ألا تجادلني.

قلت:{ لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً} (الكهف: 73) .. نعم لقد نص القرآن الكريم على قصة طلبهم من ذي القرنين الحماية، فقال تعالى:{ قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدّاً قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَاراً قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْباً} (الكهف:94 ـ 97)

قال: ألا يدلك هذا على أبعاد أخرى في شخصية ذي القرنين؟

قلت: نعم إنه مهندس عظيم، عرف كيف يخطط لبناء هذا السد، وكيف يحمي أولئك القوم من شر المعتدين.

قال: بماذا فعل ذلك؟

قلت: بما أوتيه من علم الأسباب.

قال: فذاك ما سميناه بالأصول النظرية، فلا يمكن لأي عمل أن يقام إلا بتلك الأصول، وهي في مجموعها تعود إلى سنن الله التي أمرنا بالنظر إليها والتعبد بتسخيرها.

التطبيقات العملية:

قلت: فماذا تريد بالتطبيقات العملية؟

قال: لو أن ذا القرنين اكتفى بما عرفه نظريا، ولم يستقد منه عمليا أكان في إمكانه أن يبني ذلك السد؟

قلت: لا .. بل يحتاج إلى المزج بين الأمرين، فالنظر يحتاج إلى التطبيق، كما أن التطبيق يحتاج إلى النظر.

قال: فلذلك لا يمكن للتدريب أن يؤتي أكله إلا إذا مزج بين الأمرين.

قلت: هذه حقيقة، ونحن بحمد الله نطبقها، فقد أسسنا مراكز كثيرة للتدريب على المهارات المختلفة.

قال: لا، بل تقصرون فيها تقصيرا عظيما.

قلت: كيف؟

قال: أنتم تقصرون التدريب على بعض الحرف، وعلى بعض ما تحتاجه الحرف، ثم تقصرون كل ذلك على فئات محدودة.

قلت: فهل تقترح حلولا؟

قال: أنا لا أقترح .. فأنتم أعلم بأمور دنياكم، ولكني أؤصل الحقائق التي عن طريقها تقترحون ما ترونه مناسبا.

قلت: فما هي أصول الحقائق في هذا؟

قال: إشاعة التعليم وشموليته وتبسيطه ومجانيته.

قلت: هي أربعة أصول إذن.

قال: وكلها مما ورد في النصوص المقدسة الأمر به.

قلت: فاشرح لي مرادك منها ، وعلاقتها بالتدريب.

الإشاعة:

قال: أما الإشاعة.. فالعلم لا ينبغي أن يحصر في فئة محدودة من الناس، بل يترك لكل راغب.

قلت: ونحن نفعل ذلك.

قال: لا .. أنتم تعقدون الأمور كثيرا.

قلت: بل نيسرها، ولكن قل الراغبون.

قال: فهل تأذنون للشيخ الكبير في دخول المدارس.

قلت: نحن نشترط سنا معينة للدراسة.

قال: وليس ذلك من الإشاعة .. فالعلم من المهد إلى اللحد، ألم تقرأ قول أحمد، وقد دخل إلى السوق ومعه المحبرة،  وقد كان شيخا، فقيل له:(لا تزال تحمل المحبرة؟) ن فقال:(مع المحبرة إلى المقبرة)، أي لا نزال نواصل العلم إلى الموت.

قلت: بلى فقد قرأت في ترجمة العالم الفلكي الرياضي، والمؤرخ اللغوي الأديب، والعالم بالشريعة ومقارنة الأديان أبى الريحان البيروني أنه مات وهو يتعلم مسألة في الفرائض.

قال: أفكان العلماء يتقاعدون عن طلب العلم أو تعليمه كما تفعلون اليوم؟

قلت: لا، بل إن نشاطهم يزداد في أواخر أعمارهم.

قال: وذلك لما اكتسبوه من خبرة بعد أن صقلتهم الأيام.

قلت: وأرى أن تباشير شمس الاستفادة من الشيوخ بدأت تطل علينا، فقد أثبتت المؤتمرات التي جرت في نقاط متعددة من العالم أن الأفراد في السنين الأولى المشرفة على الشيخوخة إذا كانوا مستعدين لمرحلة الشيخوخة يمكنهم أن يظلوا إلى سنين مديدة من المسنين الشباب، بل نشطين منتجين، وهذا ما أدركته الأقطار المتقدمة وخططت له مما منحها نتائج جيدة.

قاطعني، وقال: أنت تتحدث عن المؤتمرات بثقة عظيمة، وكأن بيدها الحل.

قلت: لقد كان صلى الله عليه وآله وسلم يحب التفاؤل.

قال: ولكنه لا يحب الأماني.

قلت: فإن لم يأت منها الخير، فمن أين يأتي؟

قال: من الشوارع والطرقات، وتلك المساكن الضيقة التي تفوح منها روائح الجوع.

قلت: متى، وكيف؟

قال: إذا عرفت كيف تستثمر الكنوز التي تختزنها.

قلت: فهل تقصد بإشاعة العلم إشاعته للشيوخ فقط؟

قال: لا .. العلم من المهد إلى اللحد .. للمرأة والرجل .. للفقير والغني في المدارس والمستشفيات والأسواق .. في وسائل الإعلام، وفي الملاعب والطرقات .. في كل مكان.

الشمولية:

قلت: وعيت هذا .. فما تريد بالشمولية؟

قال: أنتم تدربون على بعض الصناعات فقط؟

قلت: أجل .. لأن بعضها يكاد يكون من العلم المكتوم.

قال: تقصد من أسرار المهنة.

قلت: نعم، لأن في إشاعته إضرارا بالحرفيين.

قال: تخطئون عندما تتصورون ذلك، وتفعلون ذلك، فليس في العلم كما في الدين أسرار .. ولكنه الجشع والحرص والخوف الذي يمتلك قلوبكم.

قلت: فما الحل الذي تراه لتحقيق شمولية العلم؟

قال: نشر العلوم .. كل العلوم .. فالتجارة تحتاج إلى التدريب مثلها مثل الصناعة، والحكيم هو الذي ينقل خبرته لغيره، ولا يترك غيره يتخبط بحجة حرصه على مصالحه.

التبسيط:

قلت: وعيت هذا .. فما تريد بالتبسيط؟

قال: أنتم تعقدون العلوم.

قلت: ولكن العلوم تأبى إلا أن تعقد.

قال: وأين نور البصيرة الذي وهبه الله لكم؟

قلت: نور البصيرة نكتشف به العلوم، ونفهمها به.

قال: فمن فهمها منكم يمكنه أن يبسطها لمن لم يفهمها.

قلت: قد يتحقق ذلك بجهد.

قال: فذلك الجهد واجب، ألا ترى إلى علماء أمتك كيف نشروا العلم وبسطوه حتى علمه الخاصة والعامة؟

قلت: بلى، فإني أقرأ ما كتبوا فأجد له لذة، وأجدني أستوعبه بسهولة ويسر، ولكن العلوم في هذ العصر تعقدت كثيرا.

قال: ألا ترى الكتاب الذي شرفكم الله به، فمع أنه يحوي دقائق العلوم ومجامعها إلا أنه يعبر عنها جميعا بسهولة ويسر وجمال؟

قلت: بلى، فقد قال تعالى في كتابه:{ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} (القمر:17) .. ولكن هذا كلام الله.

قال: ألم يأمرنا الله برفع الهمة والترقي للتشبه بكمالات الله.

قلت: بلى، لقد عرفنا أدلة ذلك في مواضع مختلفة.

قال: فتشبهوا بالله في التيسير والتبسيط، أليست كل صناعاتكم التي تفخرون بها تقليدا لمخلوقات الله؟

قلت: بلى، والقرآن الكريم يدل على ذلك، فقد قال تعالى:{ فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَاباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ} (المائدة:31).. ولكن كيف نبسط العلم ونيسرها؟

قال: ألم أقل لك بأنكم أعلم بأمور دنياكم؟

قلت: بلى، ولكنك تعلم ما نحن فيه، فدلنا على ما تراه من وسائل التبسيط؟

قال: أنتم تسرفون في اللهو وتستعملون وسائل الإعلام لتغذية هذا اللهو، فاجعلوا من لهوكم علما؟

قلت: كيف؟

قال: انشروا العلم وبسطوه وأشيعوه عن طريق ما نتتج وسائل إعلامكم من برامج.

قلت: نحن نفعل بعض هذا.

قال: ألا تعلم أنك لن تتعلم العلم حتى تهبه كلك!؟

قلت: بلى .. ولكن الهمم كما تعلم .. 

قال: ابدأوا فقط، أما الهمم فلها رب يتولاها، ألم يأمرنا الله بالاستعداد على حسب ما في وسعنا، فقال تعالى:{ وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ } (لأنفال: 60)؟

قلت: بلى ..

قال: اربطوا العلم بالله، وحينذاك سيرتبط العلم بالإيمان، وحينذاك يهب عليه من نسيم الإيمان ما ينشرح له الصدر، ويعيه العقل .. ألم تسمع قوله تعالى:{ وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْأِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} (الروم:56).. فالعلم لا يفهمه على حقيقته إلا من أوتي الإيمان.

المجانية:

قلت: وعيت هذا .. فما تريد بالمجانية؟

قال: أنتم تتاجرون بالعلم وتبيعونه.

قلت: نحن نبيع كل شيء، فكيف لا نبيع العلم؟ .. ولكن ما الحرج في ذلك؟..

قال: العلم لا يباع، بل ينشر .. بل يرغب في التعلم، ولا يحتكر، ألم تر الرسل، وهم ينشرون العلم متبرئين من كل أجر، قال تعالى على لسان كثير من أنبيائه ـ عليهم الصلاة والسلام ـ:{ وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ} (الشعراء:109)،  وقال مخبرا عن رسوله الخاتم صلى الله عليه وآله وسلم:{ قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً} (الفرقان:57)

قلت: ولكن هؤلاء أنبياء؟

قال: وهل أمرنا بالاقتداء بغير الأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ ألم يجمع الله بين الأمر بالاقتداء بهم وتبرئهم من الأجور، فقال تعالى:{ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ} (الأنعام:90)!؟

قلت: بلى، ولكن لو لم يبع العلماء علمهم لماتوا جوعا.

قال: ألم أخبرك أنه لم يمت أحد من الناس جوعا .. ولكن الحرص والشره والفراغ الذي يعانونه هو الذي يجعلهم يبيعون العلم ويغالون في بيعه، ولو فقهوا عن الله لباعوا علمهم لله.

قلت: كيف .. أالله العليم يشتري العلم؟

قال: كما يشتري الصدقات .. فهو يتقبلها ويجزل الثواب لأهلها.

قلت: فما تعني، أو ما تنصح؟

قال: أنصح هؤلاء العلماء ومن سواهم بأن يعلموا بأن جزاء العلم عند الله لا عند البشر، فليقنعوا بما عند الله من الأجور.

قلت: لقد رأيت ناسا من أهل العلم لا يتحركون إلا بمبالغ طائلة تغريهم، ولا ينشرون كتبهم إلا بحقوق عظيمة يطالبون بها.

قال: فهؤلاء لا يختلفون عن الذين يكتمون العلم، ألم يقل الله تعالى:{ إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} (البقرة:159)؟

قلت: ولكن هؤلاء لا يكتمونه، بل يطلبون عليه أثمانا.

قال: وما الفرق بينهما، إن علمهم سيبقى مكتوما عن الذين لا يملكون.. ثم .. ألم تسمع قوله تعالى:{ إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (البقرة:174)؟

قلت: بلى.

قال: فاقرأ هذه الآية عليهم، فقد جمع الله بين كتمان العلم وبيعه ليبين العلاقة بينهما، والتي تعيشونها في واقعكم.

قلت: ولكنهم سيقولون ..

قاطعني، وقال: أعلم أنهم سيظلون يجادلون.


([1])   رواه مسلم.

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *