مفتاح الشهادة

مفتاح الشهادة

بعد أن قال ذلك فتح لنا الباب .. لكنا ما إن سرنا قليلا حتى رأيت بابا عجيبا، علقت عليه لافتة مشعة مكتوب عليها قوله تعالى:{ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} (البقرة: 143)

ورأيت تحتها صورة رجل يتربع على قمة السمو الأخلاقي، والترقي الإيماني، والسلوك الرفيع .. ورأيت خلفه أمة من الناس تسلك سبيله، وتهتدي بهديه، ورأيت خلفهم أمما كثيرة من الناس تنظر إليهم، وتحن لأن تسلك سبيلهم، وتهتدي بهديهم.

سألت المعلم عن سر الصورة، وسر الآية التي وضعت على الباب، فقال: هذا باب الشهادة، وهو وظيفة من وظائف الأمة.. ومسؤولية من مسؤوليات الساسة.

قلت: ما علاقته بالسياسة؟

قال: لأن الساسة هم المكلفون بتحقيق المقاصد الكبرى للأمة.

قلت: فإن قصروا؟

قال: وجب على الأمة أن تنوب عنهم في تحقيق مقاصدها، ووجب عليها أن تبحث عن الساسة الذين يحققون مقاصدها.

قلت: لم أفهم إلى الآن المراد من الشهادة.

قال: الشهادة من أخطر وظائف هذه الأمة.

قلت: أجل .. فقد قال تعالى:{ وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} (الحج:78)

قال: هذه الآية تبين سر الشهادة وشروطها وكيفية تحقيقها.

قلت: فما سر الشهادة؟

قال: لقد كان الصالحون يذكرون أربع مراحل لسير السالكين: أولها السير من النفس إلى الله، وهي رحلة البحث عن الله.. وثانيها: سير الإنسان من الله في الله، بحثا عن  معرفة الله .. وثالثها:  سير الإنسان مع الله إلى خلق الله .. ورابعها:  سير الإنسان مع الله بين خلق الله، لإنقاذ خلق الله .

قلت: فأي سير منها يحقق الشهادة التي هي وظيفة الأمة ووظيفة ساستها.

قال: هي المرحلة الأخيرة من سير السالكين .. وهي رحلتهم لإنقاذ خلق الله من عبودية الشيطان.

قلت: فهمت الآن علاقة ذلك بالسياسة.

قال: فما فهمت؟

قلت: الحاكم هو الذي يسير الجيوش التي تفتح أقطار الأرض، وتجعلها بأيدي المسلمين.

قال: لا .. ليست هذه هي الشهادة .. الشهادة أخطر من هذا .. والحاكم الصالح لا يبحث عن الاستيلاء على الأراضي، وإنما يبحث عن الاستيلاء على العقول والقلوب.

قلت: عرفت هذا ووعيته .. ولكني لا أزال أتساءل عن سر الشهادة التي هي وظيفة هذه الأمة نحو سائر الأمم.

قال: الشهادة تتحقق بأن تكون الأمة نموذجا صالحا تهتدي بهديها الأمم، بل تحن لسلوك سبيلها.

قلت: فكيف تتحقق هذه الشهادة في منتهى كمالها؟

قال: بأربع وظائف كبرى تشترك الأمة مع أولي أمرها في تحقيقها.

القوة:

قلت: فما أولها؟

قال: القوة.

قلت: تقصد امتلاك الأمة لأنواع أسلحة الدمار الشامل.

قال: أقصد امتلاك الأمة لأنواع ما يتطلبه السلام الشامل.

قلت: فما يتطلب السلام الشامل؟

قال: يتطلب تحقق الإنسان والمجتمع والأمة بأرفع مراتب الكمال الممكن.

قلت: في أي مجال؟

قال: في كل المجالات: المعرفية، والخلقية، والمرافقية.

قلت: ولكن النصوص تذم القوة، وتعتبرها من مظاهر الطغيان .. بل إن القرآن الكريم يعتبر الفرح بالقوة هو الحائل بين كل قوة عظمى أو صغرى ـ من الحضارات الكبرى أو القبائل البدوية البدائية البسيطة ـ وبين قبول الحق، كما قال تعالى ضاربا المثل بعاد: { فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ}(فصلت:15)

وهو الذي حال بين أكثر القرى وبين طاعة أنبيائها والإسلام لله، فكان فرحهم حائلا بينهم وبين كل خير، كما قال تعالى:{كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ}(التوبة:69)

قال: صدقت في كل ما ذكرت، وبورك فيك .. ولكن قوة أهل الله تختلف عن هذا الطغيان الذي سميتموه قوة، كما سميتم الخمر مشروبات روحية.

قلت: ولكن هذا المصطلح واضح في دلالته على هذا المعنى.

قال: مصطلحات أهل الله تختلف عن مصطلحاتكم، ألم تسمع قوله صلى الله عليه وآله وسلم:(ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد الذى يملك نفسه عند الغضب)([1])، فقد بين صلى الله عليه وآله وسلم أن المصارع الحقيقي الذي يتمتع بأعلى درجات القوة هو من أوتي من الحلم ما يجعله يقهر غضبه، كما وضح ذلك الحديث الآخر، فقال صلى الله عليه وآله وسلم:(أتحسبون أن الشدة في حمل الحجارة؟ إنما الشدة في أن يمتلئ أحدكم غيظا ثم يغلبه)([2])

قلت: تقصد أن نحمي تعاظم القوة بالتخلق.

قال: لا قوة بلا خلق .. فالتردي الخلقي أعظم ضعف.

قلت: أجل .. ولهذا ربط الله تعالى بين القوة والأمانة، فقال تعالى في قصة موسى u:{ قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَاأَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنْ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ}(القصص:26)

قال: ذلك صحيح .. فالقوة وحدها بدون أمانة ظلم وعتو،كما أن القوة بدون رأي وحكمة عجز وخور، كما قال تعالى مخبرا عن المجلس الاستشاري لبلقيس مبينا أن القوة الجسمية وحدها لا تكفي بدون قوة الرأي والتدبير:{ قَالُوا نَحْنُ أُوْلُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ}(النمل:33)

لأن أي عمل يستدعي نوعا من القوة مناسبا لأدائه حتى أن ذا القرنين طلب عند بنائه السد أن يمدوه بقوة، كما قال تعالى:{ قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً} (الكهف:95)

قلت: أجل .. انظر ما أجمل أدب ذي القرنين حين قدم فضل ربه على طلب المعونة.

قال: لقد جعل القرآن الكريم ذا القرنين نموذجا للمؤمن القائد القوي.

قلت: لقد رأيت الله تعالى يربط في القرآن الكريم بين الكتاب والقوة، فقد قال تعالى عن موسى عليه السلام عندما أعطاه ألواح التوراة: { وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ}(الأعراف:145).. وأمر يحي عليه السلام بنفس الأمر، كما قال تعالى:{ يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ}(مريم:12) .. فما سر ذلك؟

قال: إن الله تعالى يأمر بتوجيه القوى المترفعة نحو الأخذ بالتكاليف والتقيد بها والتمسك بحبلها لأنها علامة القوة الحقيقية،ولا يمكن أن تؤدى أداء مثاليا إلا بالقوة.

قلت: فلم خص موسى ويحي ـ عليهما السلام ـ بالأمر بأخذ الكتاب بقوة وشدة وحزم؟

قال: ليس في الأمر تخصيص .. فالله تعالى يخاطب كل فرد منكم باعتباره يحي وموسى.

قلت: لقد لاح لي أن سر ذلك يرتبط ببني إسرائيل، فأسلوب تعاملهم مع أنبيائهم وأوامر ربهم، وهو أسلوب الاستهزاء والهزل والتلاعب ومحاولة الاحتيال على أحكام الله، وهو أسلوب صادر عن تصورهم لله الذي يمتزج فيه الدين بالعنصرية والذهب والأهواء، ولذلك وردت الآيات الكثيرة تخبر عن أمر الله تعالى لهم بالأخذ بالكتاب بقوة حتى أن الجبل رفع فوقهم كأنه ظلة،قال تعالى:{ وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}(الأعراف:171).. ولكنهم مع ذلك لم يرتدعوا ولم ينزجروا لأن شراب العجل الذي يسري في قلوبهم ويغذيهم بحب الذهب يحول بينهم وبين الطاعة ولو أرادوا الطاعة، قال تعالى:{ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمْ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمْ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ}(البقرة:93)

قال: هذا بعض الحق.

قلت: فما كل الحق؟

قال: كل الحق أن يعتقد كل فرد منكم أنه المخاطب الأول بالقرآن الكريم، فموازين الله لا تفرق بين جنس وجنس، ولا لون ولون.

قلت: عرفت القوة، فما علاقتها بالشهادة؟

قال: الناس تبع للأقوى .. فإن أردتم من الأمم أن تهتدي بهديكم، وتسير مسيرتكم، وتحلم بأن تستظل بلوائكم، فاستظلوا بظل القوة التي لا ترهب الأمم منكم، وإنما تجعلهم ينحنون محبة لكم، وشوقا إليكم.

العدل:

قلت: فما الوظيفة الثانية التي تتطلبها الشهادة؟

قال: العدل.

قلت: العدل مع الرعية؟

قال: لا .. العدل مع العالم .. فالعدل الحقيقي لا يعرف تنوع المكاييل، ولا يفرق بين الأمم.

قلت: أجل .. فقد قال تعالى:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} (المائدة:8)، أي لا يحملنكم بُغْض قوم على ترك العدل فيهم، بل استعملوا العدل في كل أحد، صديقا كان أو عدوًا.. ولكن كيف نؤمر بهذا، ونحن نؤمر في نفس الوقت ببغض الكافر؟

قال: لقد أمرتم ببغض كفره، لا ببغض لحمه ودمه وروحه.

قلت: فما الفرق بينهما؟

قال: الفرق بينهما عظيم .. هو كالفرق بين بغض الطبيب لمريضه، وبغضه لمرضه .. فهل ترى من فرق بينهما؟

قلت: لا شك في ذلك .. فالطبيب إن أبغض المريض منعه نصحه، بل لعله يحب استمرار المرض به .. أما إن أبغض مرضه، فإنه يتوسل بكل ما لديه من صنوف العلاج ليريحه من علته.

قال: فكذلك أمرتم أن تفعلوا .. وبذلك يكون العدل .. فالعدل ينطلق من منابع النفس الطاهرة، وليس مجرد طلاء يتلاعب به القضاة والمحامون في محاكمكم.

قلت: ولكن قومي الذين طبعوا على البغض في الله قد يأنفون من كثير مما ذكرت.

قال: فادعهم إلى إحياء السنة.

قلت: هم يتصورون أنهم يحيون السنة بذلك.

قال: سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أم سنة اليهود والنصارى؟

قلت: وهل هناك سنة لليهود والنصارى حتى تتبع؟

قال: أجل .. فهم الذين يكيلون بالمكاييل المختلفة، أما أهل الله من المؤمنين، فإنهم لعبوديتهم لله، يتعاملون مع خلق الله بما أمرهم الله لا بما تأمرهم أهواؤهم .. ألم تسمع قوله صلى الله عليه وآله وسلم:(دعوة المظلوم ـ وإن كان كافرًا ـ ليس دونها حجاب)([3])

قلت: أجل .. فما فيه مما نحن فيه؟

قال: النبي صلى الله عليه وآله وسلم يدلنا على تحقيق العبودية لله، بتسليم خلق الله لله .. فمن أعظم الشرك أن نعتبر أنفسنا ديانين مع الله.

قلت: لا أرى في الحديث ما ذكرت .. كل ما فيه هو أن دعوة المظلوم مستجابة حتى لو كان كافرا.

قال: والظلم بمعناه الشامل يدل على ما ذكرت .. أرأيت لو أن بعض الأبناء عق والده، فرحت أنت تسبه وتلعنه .. أيرضي ذلك والده؟

قلت: كلا .. فإن الأب مع بغضه لسلوك ابنه إلا أنه لا يحب أن يمس بسوء، أو يتعدى عليه من أي جهة.

قال: فنزه ربك عن شبه التشبيه .. وطبق هذا المثال على ما نحن فيه.

قلت: إن ما تذكره خطير يا معلم.

قال: هو شعاع من قوله تعالى:{ وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ}(سورة الحج: 68-69)، وقوله وهو يخاطب رسوله ـ ومعه كل مؤمن ـ في شأن أهل الكتاب:{ فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} (الشورى:15)

قلت: هذه الآية تحتوي على سبع كلمات مستقلات، كل منها منفصلة عن التي قبلها، لها حكم برأسه.

قال: وكل كلمة منها تنبه إلى المعنى الذي تاه عنه قومك بالبغض الذي أساءوا فهمه.

قلت: فبم تأمرنا الكلمة الأولى؟

قال: بالدعوة .. فأنتم مكلفون بدعوة الناس، لا بالحكم عليهم، أنتم دعاة لا قضاة، معلمون لا محامون، مربون لا مدعون.

قلت: وبم تأمرنا الثانية؟

قال: بالاستقامة التامة الشاملة ..

قلت: فلم لم تذكر في هذا الموقف الاستقامة المطاقة، كما قال تعالى:{ فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (التغابن: 16)؟

قال: لأنك في موقف الدعوة إلى الله ينبغي أن تمثل ما تدعو إليه بأحسن صورة .. وهكذا الأمة لا يمكن أن تدعو الأمم إلى العدل، وهي ترزح تحت نيران الجور، ولا يمكن أن تدعو إلى رحمة المستضعفين، وفقراؤها يتقوتون من المزابل، وينامون على الطرقات.

قلت: وبم تأمرنا الكلمة الثالثة؟

قال: بعدم اتباع الهوى .. فلا تبيعوا الحق بإرضاء بعضكم لبعض.

قلت: لقد رأيت بعض قومي يوزع درجات الجنة على اليهود والنصارى والمنافقين والفاسقين تأليفا لقلوبهم.

قال: فما دام قد ضمن لهم الجنة، فلأي شيء يؤلف قلوبهم؟.. هو يخونهم ويخدعهم ويغرهم عن أنفسهم .. لا ينبغي أن نبيع الحق بالأهواء .. فالحق أحق أن يتبع .. والعدل يتحقق بالصدق، لا بالخداع والكذب.

قلت: وبم تأمرنا الكلمة الرابعة، والتي نص عليها قوله تعالى:{ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ}؟

قال: تأمر بما تسمونه بالموضوعية العلمية .. فالعدل يقتضي البعد عن الذاتية، وكل ما يؤدي إليها.. فقد أمرتم بالإيمان بكل ما يأتيكم من الله، ولذلك لا تتعاملوا مع المخالفين من منطق أنكم أصحاب الحق المحتكرين له، وإنما من منطق الباحثين عن الحق.

قلت: ولكنننا أصحاب الحق.

قال: فرق بين أن تكون صاحب حق، وبين أن تحتكره .. صاحب الحق هو الذي يرجع الأمر لأهله .. أما المحتكر، فهو لا ينظر إلا إلى نفسه، وما يتطلبه هواه.

قلت: فما الكلمة الخامسة التي هي واسطة العقد؟

قال: قوله تعالى:{ وَأُمِرْتُ لأعْدِلَ بَيْنَكُمُ }، فالعدل ينطلق من النفس المؤدبة بآداب العبودية، ولهذا جاء الأمر فيها بهذه الصيغة، صيغة الإلزام الألهي الذي لا يترك للنفس أي خيار.

قلت: فما الكلمة السادسة التي هي قوله تعالى:{ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ }؟

قال: هذا ما ذكرته لك في المثال الذي ناقشتني فيه.. فالله رب جميع الوجود، ومن الأدب مع الله ألا نتعامل مع خلق الله من واقع استعبادنا لهم؟

قلت: كيف نستعبدهم، وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا.

قال: الاستعباد لا يعني فقط ما تتصورونه من الرق .. أعظم استعباد أن تعتقد الله ربا لك وحدك، بل تتأمر على ربك، فتأمره وتنهاه.

قلت: أنحن نفعل هذا؟

قال: ولكنكم لا تجسرون على قوله.

قلت: فما الكلمة الخامسة؟

قال: هي التي نص عليها قوله تعالى:{ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ }، وهي نتيجة لما سبق.. فالعاقل من انشغل بصحيفته عن صحائف غيره.

قلت: أجل .. فقد قال تعالى مبينا الموقف الصحيح للتعامل مع المخالفين:{  وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ } (يونس:41)

قال: لو رأى غيركم منكم هذا التواضع لجلسوا يتعلمون على أيديكم، ولكنكم أبيتم إلا أن تصيروا حجبا بين الله وخلقه.

قلت: فما الكلمة السادسة؟

قال: هي التي نص عليها قوله تعالى:{ لا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ }

قلت: لقد قال مجاهد في معناها: أي لا خصومة بيننا وبينكم، وقال السدي: وذلك قبل نزول آية السيف، وقد رجح ابن كثير هذا، فقال: وهذا مُتَّجَهٌ لأن هذه الآية مكية، وآية السيف بعد الهجرة.

قال: أراكم تضربون الكتاب بعضه ببعض .. فتنسخون ما تشاءون بما تشاءون .. كلام الله كله محكم { لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} (فصلت:42)

قلت: فما الكلمة السابعة؟

قال: هي التي نص عليها قوله تعالى:{ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ }

قلت: لقد ورد هذا في مواضع من القرآن الكريم، فالله تعالى  يقول في آية أخرى:{ قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ } (سبأ:26)

قال: هذا أكبر ما يملأ قلوب العارفين حزنا وأسفا.

قلت: كيف ذلك؟

قال: الله يجمع بين خلقه جميعا ليقتص للمظلوم من ظالمه.

قلت: أجل .. فقد ورد في الحديث قوله صلى الله عليه وآله وسلم:(لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة الجماء من الشاة القرناء تنطحها)([4])

قال: وأعظم ظلم لهم أن تحجبوهم عن الحق الذي زين الله به الوجود، فيدخلوا جهنم الدنيا وجهنم الآخرة بسببكم.

قلت: أجل .. لقد وردت النصوص بحفظ حقوق غير المحاربين، فالرسول صلى الله عليه وآله وسلم يقول:(من ظلم معاهدًا أو انتقصه حقًا أو كلفه فوق طاقته أو أخذ منه شيئًا بغير طيب نفس منه، فأنا حجيجه يوم القيامة)([5])، وفي عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأهل نجران أنه (لا يؤخذ منهم رجل بظلمِ آخر)([6])

قال: بل ورد ما هو أعظم من ذلك، فقد قال صلى الله عليه وآله وسلم:(من آذى ذِمِّياً فأنا خصمه، ومن كنت خصمه خصمته يوم القيامة)([7]) .. بل ورد ما هو أعظم من ذلك، فقد قال صلى الله عليه وآله وسلم:(من آذى ذميًا فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله)([8])

الرخاء:

قلت: فما الوظيفة الثالثة التي تجعلنا شهودا عدولا على الأمم من حولنا؟

قال: الرخاء.

قلت: أراك تذم الترف .. فكيف تجعل الرخاء ركنا من أركان الشهادة؟

قال: الترف رخاء الطغاة المتجبرين.. والرخاء ترف العبيد المتواضعين.

قلت: فكيف يكون وظيفة من وظائف الشهادة؟

قال: كيف يستطيع مدرب النمور والأسود أن يتسلط على قوى السبعية في النمر والأسد ليوجهها إلى اللعب واللهو .. فيجعل من ذلك الذي يخافه الناس على نفوسهم وسيلة رزقه التي يحافظ بها على حياته؟

قلت: ما أسهل ذلك ـ يا معلم ـ لقد عرف شهوات النمر والأسد، فراح يتلاعب به من خلالها.

قال: فكذلك من يحيط بكم من الأقوام، استعبدتهم الدنيا، ولن تجروهم إلى الله إلا بسلاسل الدنيا.

قلت: ولكن كيف يكون ذلك، وقد نهينا عن إكراه الناس على الدين.

قال: السلاسل لا تعني الإكراه .. وإنما تعني ما رأيته من أسلوب التعامل مع النمر والأسد.

قلت: فما علاقة ذلك بالرخاء؟

قال: أكبر حجاب يحول بين أعدائكم، وتبصر الحق الذي جعله الله لكم ما تقعون فيه من تخلف وفقر وضعف .. فلذلك كان تقدمكم وغناكم وقوتكم هي السلاسل التي تجعلهم يلتفتون لكم، ويدرسون سر الرخاء الطيب الذي وهبه الله لكم.

قلت: ولكن الرخاء هو الذي وضعنا في هاوية التخلف.

قال: ذلك الترف .. لا الرخاء .. والترف عبودية للمال .. أما الرخاء فإنه لا يزيد صاحبه الفاهم عن الله إلا عبودية لله .. أليس أهل الجنة في رخاء؟

قلت: أجل ..

قال: فهل حال ذلك بينهم وبين الله؟

قلت: كلا.

قال: فحضارة أهل الجنة حضارة الرخاء المؤمن، فتشبهوا بها.

قلت: في نفسي شيء مما تقول .. فلا ينبغي أن يقاد الناس إلى الله بمثل هذا.

قال: ألم يجعل الله من سهام الزكاة سهما للمؤلفة قلوبهم؟

قلت: أجل، فقد قال تعالى:{ إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (التوبة:60)

قال: أتدري ما سره؟

قلت: حتى يكفوا شرهم عن المسلمين.

قال: وحتى يعلموا من غنى المسلمين، وحسن أحوالهم ما يجعلهم يحنون لسلوك سبيلهم .. أليس فقراؤكم يحاولون تقليد أغنيائكم؟

قلت: أجل .. وقد عرفنا بعض ذلك.

قال: فاعتبروا بهذا .. لتضعوا المال الصالح في أيدي الرجال الصالحين الذين يمثلون عبودية الرخاء لله، كما مثلها سليمان وحضارة سليمان.

السماحة:

قلت: فما الوظيفة الرابعة من وظائف الشهادة التي يتوجب على أولي الأمر القيام بها ليكونوا أمثلة صالحة عن الإيمان وأهل الإيمان؟

قال: السماحة.

قلت: أحسبنا تكلمنا عنها في العدالة.

قال: السماحة خلق .. والعدالة شرائع .. وبالسماحة الخلقية يمكنك أن تجر من تشاء لما تشاء ..


([1])    رواه البخاري ومسلم.

([2])    رواه ابن أبي الدنيا في ذم الغضب.

([3])    رواه أحمد.

([4])    رواه مسلم وغيره.

([5])   رواه أبو داود والبيهقي .

([6])   أبو يوسف في الخراج:72.

([7])   رواه الخطيب بإسناد حسن.

([8])   رواه الطبراني في الأوسط بإسناد حسن.

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *