مفتاح الحفظ

بعد أن قال ذلك فتح لنا الباب .. لكنا ما إن سرنا قليلا حتى رأيت بابا عجيبا، قد علقت عليه لافتة في منتهى الجمال مكتوب عليها قوله تعالى:{ وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً } (النساء: 5)
قلت: أي باب هذا .. أهذا باب الحجر؟
قال: تقريبا .. ولكنا نسميه هنا (باب الحفظ)
قلت: فماذا تريدون منه؟
قال: أليس المال نعمة من نعم الله على عباده؟
قلت: بلى، فقد قال صلى الله عليه وآله وسلم:(نعم المال الصالح للرجل الصالح)([1])
قال: أفلم يأمر الشرع بحفظ النعم.
قلت: بلى، وقد أحسن الشاعر حين قال:
إِذا كنتَ في نعمةٍ فارعَها فإِن المعاصي تزيلُ النعمْ
وحافظْ عليها بتقوى الإِلهِ فإِن الإِلهَ سريعُ النقمْ
قال: ومن هذا الباب أمر الله تعالى بحفظ الأموال؟
قلت: أليست أحسن طرق حفظ الأموال هي كنزها .. فلا يراها إلا صاحبها الفينة بعد الفينة؟
قال: لا .. كنزها إماتتها .. وقد حرم الشرع قتل الأموال.
قلت: كيف؟ لا أرى نصا يقول:(ولا تقتلوا أموالكم)
قال: أنسيت ما ذكرناه في الباب السابق.
قلت: اعذرني، فإني آدمي، وقد نسي أبي، فنسيت.
قال: فاعزم حتى لا تنسى، ألم يقل الله تعالى:{ وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً} (طـه:115)
قلت: لقد ذكرت بأن حفظ الأموال مقصد من مقاصد الشارع .. ومقاصد الشارع لا تستنبط بالعقل .. بل تستنبط من النصوص.
قال: ما أكثر النصوص الدالة على ذلك، وما أكثر التشريعات المحققة لذلك.
قلت: فلنبدأ بالنصوص.
قال: ألم ينه النبي r عن إضاعة المال؟
قلت: بلى، فقد قال:(إنّ اللّه كره لكم ثلاثاً: قيل وقال، وإضاعة المال، وكثرة السّؤال)([2])
قال: وما قال صلى الله عليه وآله وسلم لسعد عندما عاده؟
قلت: قال له:(إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس)([3])
قال: فقد أمره بحفظ أمواله مع كونه طلب أن يتصدق بها جميعا في سبيل الله..
قلت: ومثله ما قال صلى الله عليه وآله وسلم لكعب لما قال:(يا رسول الله، إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله وإلى رسوله)، فقد قال له صلى الله عليه وآله وسلم:(أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك)([4])
قال: ألم يبح صلى الله عليه وآله وسلم القتال دون المال؟
قلت: بلى، فقد قال صلى الله عليه وآله وسلم:( من قتل دون ماله فهو شهيد)([5])
قال: فهذه النصوص وغيرها كثير يدل على أن من أهم مقاصد الشرع حفظ الأموال .. وهناك ناحية أخرى قد لا نحتاج معها إلى كل هذا الاستدلال.
قلت: وما هي؟
قال: أيمكن أن تتحقق مقاصد الشرع من الاستثمار والتداول دون الحرص على حفظ الأموال؟
قلت: لا يمكن ذلك، فلا يمكن أن نتداول الخراب، ولا أن نستثمر السراب.
قال: ألا تقولون دائما:(ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب)؟
قلت: بلى.
قال: فقولوها في هذا الموضع.
لاح لي أربعة أبواب داخل مدخل باب الحفظ، فسألت معلم السلام عنها، فقال: هذه أبواب التشريعات التي تحفظ الأموال؟
قلت: فما هو التشريع الأول؟
قال: حفظ المال من المختلسين والسارقين .. وكل من يروم أخذه من غير حله.
قلت: والثاني؟
قال: حفظه من السفهاء، ألم تقرأ الآية التي كتبت على لافتة الباب؟
قلت: بلى .. فما الثالث؟
قال: حفظه من المترفين.
قلت: والرابع؟
قال: حفظه من الاستغلال.
قلت: أليس الاستغلال هو الاستثمار؟
قال: لا .. الاستثمار أن تستثمر فيما هو لك، والاستغلال أن تستثمر فيما ليس لك.
قلت: فاشرحها لي.
قال: هلم إلى أبوابها.
تقدمت من الباب الأول من أبواب الحفظ، فرأيت صورة هي أشبه بصور المحاكم، ولكنه ينتشر منها نور مضيء ونسيم عليل يمتلئ سلاما.
سألت المعلم عن هذا الباب، فقال: هذا باب حفظ المال من اختلاس المختلسين .. أتدري من المختلسون؟
قلت: ومن لا يدري؟ إنهم الذين يمدون أيدهم إلى الجيوب بخفة ومهارة .. وويل لمن وقع فيهم.
قال: أولئك بعض المختلسين .. أو هم ـ بعبارة أصح ـ صغار المختلسين.
قلت: أفيهم الصغار والكبار؟
قال: أجل .. كبارهم يختلسون ويحكمون .. وصغارهم يختلسون ويسجنون.
قلت: أرجو يا معلم أن لا تزج بي في متاهات السياسة.
قال: أنا لا أزج بك، ولكنها الحقيقة .. ألم تسمع عن الملايير التي تختلس؟
قلت: بلى ..
قال: فأين أصحابها؟
قلت: أنت أدرى .. فدعنا منهم.
قال: أتعلم أن أخطر مخاطر الاختلاس أن تحمل أموال الأمة إلى البنوك الأجنبية عنها؟
قلت: لم أسمع أحدا يحرم هذا .. فإن حرموه نظروا إلى كونه ربا .. أو خشوا أن يكون للبنك علاقة باليهود؟
قال: ما أضعف تفكيركم .. لقد رفعتم هؤلاء الحثالة فوق ما تستحق .. حتى حصرتم العداوة فيهم.
قلت: ومن نعادي إن لم نعادهم؟ ألم يقل الله تعالى:{ لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا } (المائدة: 82)
قال: وهو الذي يقول:{ إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} (فاطر:6)، ويقول:{ وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ} (يوسف:53)
قلت: ولكن اليهود هم الذين اغتصبوا أرضنا.
قال: ولكنكم أنتم بأنفسكم تحملون أموالكم وتضعوها في مصارف غيركم طالبين منهم أن يغتصبوكم بها.
قلت: اشرح لي هذا.
قال: الأصل في المال أن يخدم المجتمع .. ألم تعلم أن صاحب المال مستخلف في المال لا مالك له؟
قلت: أجل هذا صحيح، وقد برهنا عليه في باب الاستخلاف.
قال: فهل يصح لمن كلف بإدارة مصنع يحوي آلاف العمال أن يسرحهم، ثم يحمل ذلك المصنع لبلد آخر، وبعمال جدد، يطلبون أجورا أعلى .. ويدع عمال قومه يلتهمهم الفقر ..
قلت: هذا لا يصح .. ولا أرى أنه واقع.
قال: بل هو الواقع .. ثم لا تعالجون هذا الواقع إلا أن تطلبوا من هذا المختلس الكبير أن يدفع بعض ماله زكاة .. مع أن الشرع طالبه بأن يخرج كل ماله.
قلت: ولكنه يخشى أن يخسر في بلاده.
قال: ألا يقدم مثل هذا المستثمر على مشاريع قد يخاف الخسارة فيها؟
قلت: أجل.
قال: فليكن هذا من مشروعاته .. فإنه إن يخسر ماله في بلاده، فيغتني به بعض فقراء قومه، خير من أن يخسر في غير بلاده فيغتني به أعداؤه.
قلت: ولكن بلداننا صغيرة، والاستثمار فيها ضعيف .. ألا تعلم أنا في عهد ملوك الطوائف؟
قال: ولكن بلادكم كبيرة .. ألستم تنشرون في أكثر بقاع الأرض؟
قلت: بلى ..
قال: فأنا لا أقصد الوطن الضيق الذي عبدتموه من دون الله.
قلت: فما تقصد؟
قال: أقصد الوطن الأكبر: وطن المسلمين، أو الوطن الأكبر منه: وطن المستضعفين.
قلت: وما علاقة المستضعفين بهذا؟
قال: أليست هناك شعوب يفتك بها الجوع والمرض من غير المسلمين؟
قلت: بلى.. وما أكثرها.
قال: فهؤلاء المختلسون الكبار يتركون هؤلاء يموتون بلا رحمة، ويذهبون إلى السمان غلاظ القلوب ليسلموهم أموالهم ونفوسهم ليستعبدوهم بها.
قلت: هذا صحيح، فكثير من هؤلاء لا يملكون التصرف في أموالهم .. بل يخافون أن تجمد أرصدتهم في كل لحظة.
قال: هذا جزاء وفاق على جرائمهم ..
قلت: ولكنهم مع ذلك يخافون؟
قال: لو خافوا من الله لأمنهم.
قلت: لا .. هم يخافون من فشل استثماراتهم في تلك البلاد.
قال: فلذلك خسف الله بهم، فجاءهم الخوف من حيث أمنوا، ألم تسمع قوله تعالى:{ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} (لأنفال: 30)؟
قلت: بلى.
قال: فهؤلاء مكروا، فمكر الله بهم .. واسمع الأخبار فستأتيك بالعجائب .. فإنهم إن نجوا بجلودهم، ورضوا من الغنيمة بالإياب، فقد أفلحوا.
قلت: ألديك شيء من أخبارهم .. فإن لي شوقا لاستكناه المستقبل لا أختلف فيه عن بني قومي.
قال: لا يعلم المستقبل إلا الله .. ولكني أقول لك: إن صراخ كل طفل جائع، وبكاء كل امرأة عليلة، وعطالة كل يد قادرة على العمل والكسب، لن تذهب هدرا .. فقوانين الله السارية في الوجود لن يعجزها أن تطبق على هذه الثلة التي عبثت بمال الله، وحولته إلى أرصدة الشياطين.
قلت: دعنا من الكبار .. ولنرجع إلى الصغار.
قال: لقد وضع الله تعالى من التشريعات ما يحفظ الأموال من النهب والسلب والسرقة، وفي ذلك دليل على أهمية حفظ الأموال من عبث العابثين.
قلت: تقصد حد السرقة.
قال: نعم .. هو حد وضعه الشرع لدرء النفس الأمارة بالسوء، ليكون عبرة لمن يعتبر.
قلت: ولكنه حد خطير تتقزز النفس من مرآه.
قال: ولكنه علاج.
قلت: كيف يكون علاجا، وهو قطع؟
قال: ألا يتعامل جراحوكم بهذا المنطق مع الأمراض المستعصية، فلم يكتفوا باستئصال الأيدي والأرجل، بل يجاوزونها إلا الكلى والرئات والمصارين .. حتى المخ لم يسلم من سكاكينهم!؟
قلت: أجل.
قال: فهم يجرون العمليات على مستوى الأفراد حماية لبعض أعضائهم من بعض، والشرع يأمر بإجراء العمليات لحماية أفراد المجتمع بعضهم من بعض.
قلت: ولكنهم ينشرون تحذيرات شديدة من الإسلام بسببب هذا.
قال: دعوهم ولا تجادلوهم، فإن قصدهم أن تجادلوهم.
قلت: إلى متى نسكت؟
قال: إلى الوقت الذي يطلبون فيه منكم أن تعلموهم أحكام الله في هذا الباب ليطبقوها.
قلت: عجبا .. أذلك حاصل؟
قال: قريبا .. قريبا جدا .
قلت: كيف .. لا أمارة تدل على ذلك.
قال: ألم يكونوا ينكرون الطلاق .. ويسبونكم به، ويشهرون بدينكم بسببه؟
قلت: بلى، ولكنهم الآن شرعوه ..
قال: ألم يكونوا يتعاملون بالربا .. ويبالغون في التعامل به.
قلت: ولا زالوا.
قال: ألا زالوا؟
قلت: أجل .
قال: سيظهر لهم عواره، وسيتوبون منه، كما يتوبون من التثليب عليكم.
قلت: فما تأمرنا قبل ذلك؟
قال: أن تثبتوا على ما أنتم عليه حتى إذا بحثوا عن الحق وجدوكم.
قلت: وما تخشى علينا؟
قال: أن تسمعوا لهم، وتلغوا عقولكم باستماعكم .. وحين يبحثون عنكم لا يجدوكم ..
قلت: وأين نكون حينئذ؟
قال: حينها ستبحثون عن أنفسكم فلا تجدوها ..
تقدمت من الباب الثاني من أبواب الحفظ، فرأيت صورة هي أشبه بصور المعتوهين، يريد أحدهم أن يبعثر أمواله، فتأتي يد من السماء تمسكها، وتحول بينه وبين ذلك.
سألت المعلم عن هذا الباب، فقال: هذا باب حفظ المال من تصرفات السفهاء .. هذا باب قوله تعالى:{ وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً } (النساء:5)، وقوله تعالى:{ وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَنْ يَكْبَرُوا } (النساء: 6)
قلت: ومن السفهاء؟
قال: الذين لا يستخدمون عقولهم في صرف أموالهم.
قلت: ألمرض عارض؟
قال: لا .. لو كان مرضا لكانوا مجانين، ولما جاز تسليم الأموال لهم إطلاقا.. ولكن هؤلاء لم يتدربوا التدريب الكافي على صرف الأموال، فيحتاجون لمن يقومهم، ويعدل سلوكهم، فإن اعتدلوا سلمت إليهم أموالهم، الم يقل الله تعالى:{ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ }
قلت: إلى متى يستمر هذا الحجر؟
قال: إلى أن يتدربوا التدريب الكافي على الصرف الحسن للمال.
قلت: ولو أن أحدهم استمر على سفهه، ولم يستطع أن يتدرب.
قال: يستمر الحجر عليه، ما دام اسم السفه عالقا به.
قلت: ألم يخبر صلى الله عليه وآله وسلم أن الرجل يسأل عن ماله فيما أنفقه، فكيف يسأل هذا، وقد حجر عليه؟
قال: وقد أخبر صلى الله عليه وآله وسلم أن الرجل يسأل عن عمره فيما أفناه، فهل يحرم عليك أن تمنع شخصا أراد إفناء عمره بالانتحار؟
قلت: لا .. بل أمسك على يده، وأمنعه.
قال: فهذا، كذاك.
قلت: وحرية التصرف في المال، أليست الحرية هي منهج الشارع في التعامل مع الخلق، فهو يهبهم حريتهم لينظر كيف يعملون؟
قال: ولكنا عرفنا في الاستخلاف أن المال مال الله، وهو بالتالي مال الجماعة، فلا يجوز للجماعة أن تفرط في مالها بحجة اختباره.
تقدمت من الباب الثالث من أبواب الحفظ، فرأيت صورا لطعام كثير، شكله يكاد يقول: (كلوني) لكن تنبعث منه رائحة دونها كلها الروائح المنتنة، تنفر النفس منه، وقد علقت لافتة على الباب مكتوب عليها:{ وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً } (الاسراء:16)
فسألت المعلم عن هذه الصورة، فقال: هذا باب الترف، وهو باب قد تحمده العين، ولكن آثاره تظل تلاحقك لتود بعدها لو أن الله رحمك بزكام لا ينقطع.
قلت: قد عرفنا سر الصورة، فما سر الآية؟
قال: هذه آية سنة الله في المترفين.
قلت: ففسرها لي، فإن بعض قومي يتخذها مطية لهجاء القرآن الكريم.
قال: وماذا يقولون؟
قلت: هم يفهمون منها بأن الله إذا أراد هلاك قرية بعث رسالة إلى مترفيها، أو بعث فيهم نبيا يطلب منهم أن يفسقوا فيها لينزل عليهم العذاب، فيدمرهم.
قال: وما جرهم إلى هذه الأغلوطة؟
قلت: قوله تعالى:{ أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا }
قال: فهلا سألوا عن معناها، فإنما شفاء العي السؤال.
قلت: هم بين أمرين: إما أن يكونوا قد سألوا، فوقعوا في محرف زاد الطين بلة، وإما أنهم عرفوا الحق، فستروه، وعمدوا إلى الباطل يظهرونه.
قال: فانشروا الحق الذي أرادوا ستره.
قلت: بالرد عليهم .. فقد رددنا.
قال: الرد جدل، والجدل صراع، انصروا الحق بإخراجه ليراه الناس.
قلت: كيف، لم أتصور أن الرد صراع.
قال: أرأيت لو اتهم بعض الناس امرأة هي في قمة الجمال الذي حباه الله عباده، بالدمامة، فانبرى خطيب يصف جمالها، ويبالغ بالأشعار في وصفه، أكان يغني من الأمر شيئا؟
قلت: لو أنه بدل ذلك أسفرت المرأة عن بعض محاسنها، فرآه الذي اتهمها لتاب من اتهامه، ولعله يتقدم لطلب يدها، أو لعله يموت كالمجنون شوقا إليها.
قال: فكذلك فافعلوا .. لا تضيعوا أوقاتكم في الجدل والصراع .. ودعوا الحقيقة لتخرج للناس حقيقة لا أوهاما .. وسترون كيف يقبل عليها الناس يقبلون يدها، وينحنون أمامها.
قلت: أرانا ـ يا معلم ـ قد تهنا على هذا الباب وحقائقه.
قال: لم نته .. أرأيت لو كنت سائرا في طريق، فاعترضك شوك، أكنت تنزعه، أم تخاف أن يشغلك عن طريقك؟
قلت: بل أنزعه، لأني لو دست عليه لانقطعت عن سيري.
قال: فكذلك ما نفعله، ألم تقولوا:(السكوت عن البيان وقت الحاجة لا يجوز)
قلت: بلى، نحن نردد هذا كثيرا.
قال: فهذا من السكوت الذي لا يجوز.
قلت: فما معنى قوله تعالى:{ أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا }
قال: فماذا قال المفسرون في معنى:(الأمر)
قلت: ذكروا أقوالا كثيرة، تعود إلى هذه الأقوال الثلاثة:
الأول: أنه من الأمر، وفي الكلام إضمار، تقديره: أمرنا مترفيها بالطاعة، ففسقوا.. والثاني: كثَّرنا يقال: أمرت الشيء وآمرته، أي: كثَّرته.. والثالث: أنَّ معنى أَمرنا أمّرنا، يقال: أَمرت الرجل، بمعنى، أمّرته.. هذا هو مجمل الخلاف الوارد في الآية .. فما ترجح يا معلم؟
قال: أرجح الأقوال الثلاثة.
قلت: تقصد التوقف .. لأن الأدلة متكافئة .. هذا صحيح، فكل ينصر دعواه بما ورد في اللغة.
قال: بل أرجح الأقوال الثلاثة .. لأن الأقوال الثلاثة تفسر الآية، أو تحاول أن تسمع بعض معاني الآية.
قلت: كيف، فقد اعتدت على أن الترجيح يكون لبعض الأقوال لا لجميعها.
قال: الأصل في الترجيح أن تجمع بين الأقوال لا أن تفرق بينها، لأن كل قول نتاج جهد، ولا ينبغي أن نرمي الجهد دون أن نستفيد منه.
قلت: فما وجه ترجيحك للأقوال الثلاثة؟
قال: هو الصيغة التي وردت بها الآية .. فلو أن الله تعالى شاء أن لا يفهم من القرآن الكريم إلا القول الأول، لأتى بالمضمر، فقال:(أمرنا مترفيها بالطاعة)، ولو شاء القول الثاني لقال بدل أمرنا:(كثرنا)، ولو شاء القول الثالث لقال بدلها:(جعلناهم أمراء)
قلت: فما الفائدة في الجمع بين هذه الأقوال؟
قال: هذه الآية تبين ثلاثة مواقف إذا وقفها المترفون حاق بهم الهلاك، فهي تبين قانون الله تعالى في عقاب المترفين، وهذا القانون يستند إلى ثلاثة أمور، وتكون العقوبة بحسب اجتماع هذه الأمور او افتراقها.
قلت: فما الأمر الأول؟
قال: القانون الأول هو أن الترف يؤدي إلى الفسوق عن أمر الله، ألم يؤمر المترفون بالطاعة، فجنحوا إلى المعصية؟
قلت: بلى.
قال: فهل كان ذلك بإرادتهم؟
قلت: لو كانوا مكرهين لارتفع عنهم التكليف، ألم يقل صلى الله عليه وآله وسلم:(إن الله تعالى تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه)([6])
قال: بل كانوا مكرهين .. ومع ذلك لم يرفع عنهم القلم.
قلت: أنت تخالف النص بذلك .. بل تخالف الإجماع .. فقد انعقد إجماع الأمة على عدم تكليف المكره .. بل تخالف القرآن الكريم، ألم يقل الله تعالى:{ مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (النحل:106)
قال: معاذ الله أن اخالف واحدا مما ذكرت .. ولكن نوع الإكراه الذي وقع فيه هؤلاء من الجنس الذي لا يرفع عن صاحبه العقوبة.
قلت: لقد تحدث الفقهاء عن شيء من هذا، فذكروا الإكراه الملجئ والإكراه غير الملجئ .. فما نوع هذا الإكراه؟
قال: هذا إكراه الترف لصاحبه .. فإن الشهوات إذا تغلغلت في كيان صاحبها تحكم سيطرتها عليه، فلا يستطيع منها انفكاكا.
قلت: هذا صحيح، ونحن نرى الرجل عندنا يدخن ويسرف في التدخين، فإذا نصحه الطبيب بالإقلاع لم يستجب، فإذا أخبره أن في تدخينه تلفه، لم يكد يسمع لقول الطبيب.
قال: فهذا واقع تحت عبودية ما وقع إدمانه عليه.
قلت: أللترف من القوة في نفس صاحبه ما للتدخين؟
قال: بل الأمر أخطر مما تتصور .. ألم تسمع قوله تعالى:{ فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ} (هود:116)، فقد اتبع المترفون ما أترفوا فيه ولم يتبعوا الرسل.
قلت: لكأن الله تعالى يعتبر المترفين عبادا وقفوا بموازاة الرسل يعارضون دعوتهم.
قال: ذلك صحيح، فللترف من التسلط على أتباعه ما يمنع من رؤية الحق أو الإذعان له.
قلت: لماذا؟
قال: لأن المترف لا يرى من الحياة إلا جانبها الجسدي.. ولا يرى من جانبها الجسدي إلا ما يملأ عليه شهواته التي لا تنتهي، فهو في شغل عن عبادة الله أو الاستماع لأوليائه، ألم تسمع قوله تعالى:{ وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ} (المؤمنون:33) .. أتعلم السر المودع في قوله تعالى:{ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ }؟
قلت: لعلهم لم يكونوا يرون من نبيهم إلا الطعام الذي يأكله، والشراب الذي يشربه.
قال: نعم .. هو ذاك، فقد كانوا يتصورون أن معجزة النبي ينبغي أن تكون طعاما فارها.
قلت: ويكون كتابه كتاب طبخ يدلهم على أجمل الوصفات التي ترضي شهواتهم.
ضحك، وقال: هذه هي الحقيقة .. فلذلك تجد خشوعهم أمام من يصف لهم المطاعم والمشارب أعظم من خشوعهم أمام من يؤدبهم بآداب الله، ويهديهم إلى سبيله.
قلت: ألا تعلم أن أغلى المنشورات عندنا هي كتب الطبخ .. وأنها مع ذلك أكثر الكتب انتشارا.
قال: فهل يمكن أن يسمع شيئا من استعبدته شهواته، فصرفته عن الله؟
قلت: ولكن الترف عندنا ـ يا معلم ـ تجاوز الأكل والشرب .. فنحن الآن في مراحل متقدمة من الترف.
قال: وما هي؟
قلت: ترف الأكل والشرب أصبح عادة قديمة، وهو على الأقل ترف له معنى، ولكنه نشأ الآن ترف يطلق عليه (الدلال) أو (الترف للترف)
قال: وما هو الترف للترف؟
قلت: الترف الذي لا يرضي أي شهوة إلا شهوة الترف.
قال: لم أفهم.
قلت: سأضرب لك أمثلة مما تورده الصحف عندنا، وهو قليل من كثير.
لقد أوردت بعض الصحف([7]) أن:(6000 دولار تنفقها أمريكية لتغسيل ملابسها في مرة واحدة .. وذلك بإرسالها برسالة خاصة إلى باريس إلى مغسلة تعتني بتغسيلها، وذلك في كل مرة تغسل ثيابها بها ..) .. وذكرت هذه الصحيفة أن (أمريكية غيرت رخام منزلها ليتوافق مع لون جلد كلبيها)
وذكرت صحيفة أخرى([8]) أن 17 مليار دولار ينفقها الأوربيون وحدهم سنويا لشراء غذاء الحيوانات المنزلية.. في نفس الوقت الذي ذكرت فيه هذه الصحيفة أن 6 مليار دولار تكفي لتغطية نفقات التعليم الأساسي لكل شخص يحتاج إليه في شتى بقاع العالم.
قال: ما سر هذا الغرام الغريب بالحيوانات؟
قلت: لعلهم قرأوا قوله تعالى:{ أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ } (لأعراف: 179)، فراحوا يرحمون بني جنسهم.
قال: أهم يطبقون القرآن الكريم إذن؟
قلت: بل القرآن الكريم هو الذي يطبق عليهم.
قلت: وعيت هذا .. فما الأمر الثاني؟
قال: الترف أشبه ما يكون بالفيروس الذي ينشر العدوى بين الناس، فلا يكتفي بالأغنياء يستل ما في خزائنهم من ثروات، بل يلجأ إلى الفقراء يستل ما في جيوبهم منها.
قلت: هذا صحيح، فما إن يقدم غني من الأغنياء عندنا على عرف من الأعراف يستحدثه حتى يسرع الفقراء إلى كتب أولادهم ودفارتهم يبيعونها ليشتروا بدلها الترف الذي ابتدعه الغني.
قال: وما سبب ذلك؟
قلت: التقليد الأعمى .. أو الانبهار ..
قال: هو الترف .. هذا أثر من آثار الترف .. أليس لكل مرض أعراضه؟
قلت: بلى.
قال: فهذا من أعراض مرض الترف.
قلت: لكنه سبب مشاكل عظيمة في حياة الناس حتى أن الصحف نشرت أن 13 مليون شاب في مصر بلغوا سن الزواج ولا يستطيعون تدبير نفقاته، وأن مليون ونصف المليون شاب عقد قرانه ولا يستطيعون البناء في مصر.
قال: وما سبب ذلك؟
قلت: هو ما نشرته الصحيفة نفسها، فقد ذكرت أنه من 100 -250 ألف جنيه تكلفة بعض الأعراس في مصر، وذكرت أن 60 ألف درهم تكلفة بطاقات دعوة (في دبي).
ألا تعلم يا معلم: أن 1.5 مليار دولار تنفقها المرأة الخليجية على مستحضرات التجميل([9])؟
قال: ولماذا لم تنشروا معاني الزهد لتقضوا على مظاهر الترف؟
قلت: ولكن المجادلين سيملأون الدنيا ضجيجا بتجريم الزهد، ليودعوه بعدها السجون والزنازن.
قال: ولماذا لا يودعون الترف هذه السجون؟
قلت: لأن النص يدل على استحبابه.
قال: أي نص .. ألا ترى النصوص تحرمه؟
قلت: إيجاد النصوص والتلاعب بها ليس صعبا، ألم تسمع قوله تعالى:{ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا } (القصص: 77)،وقوله:{ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} (لأعراف: 32)، وقوله:{ إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا } (الكهف: 7) .. وقوله:{ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } (الكهف: 28) .. وقوله:{ الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} (الكهف: 46) .. وقوله:{ مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ} (طـه: 87)
قال: ما بالك تقطع القرآن الكريم تقطيعا يحرف معناه، ويغير حقائقه.
قلت: يا معلم لا تلمني، فأنا أحكي ما يفعلون وما يفهمون، وليس على من روى ذنب.
قال: أتعلم النصوص القرآنية الدالة على هذه السنة الاجتماعية: سنة تقليد الصغار للكبار، والمعوزين للمترفين؟
قلت: لعلك تقصد قوله تعالى:{ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادا ً} (سـبأ: 31 ـ 33)
قال: نعم .. وآيات كثيرة .
قلت: ولكن المستكبرين يتبرأون من التأثير في المستضعفين؟
قال: هذا صحيح.
قلت: ولكن .. لماذا يرمي المستكبرون المستضعفين؟
قال: هم لا يرمونهم في الحقيقة، وإنما يرمون استضعفاهم وتقليدهم واتباعهم الأعمى، وبيعهم دينهم بدنيا غيرهم .. ألا تعلم أن الشعور بالضعف هو أخطر الأمراض، بل هو الأرضية التي على أساسها تقبل الأمراض؟
قلت: كيف؟
قال: ألم يقل الله تعالى:{ إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً} (النساء:97)
قلت: لقد سماهم الله تعالى ظالمي أنفسهم، وسموا أنفسهم مستضعفين.
قال: ولو سموا أنفسهم:(ظالمي أنفسهم) لسماهم الله تعالى:(مستضعفين)
قلت: كيف؟ وما الفرق؟
قال: المستضعف الحقيقي يبحث عن كل أرض، ويمارس كل سبب، لكن الظالم لنفسه يقعد به كسله وشعوره بضعفه عن عن أي سبب ولا يعتل لذلك إلا بضعفه.
قلت: وعيت هذا .. فما الأمر الثالث؟
قال: التسلط.
قلت: هذا صحيح، فمن معاني (أمرنا) أمَّرنا.
قال: هذه الآية تبين سنة اجتماعية أخرى يفرزها الترف، وهي تسلط المترفين على المستضعفين.
قلت: بالسيف؟
قال: لا بالترف.
قلت: كيف ذلك، لم أسمع أن حاكما تربع على العرش، وجعل وسيلته إلى ذلك ترفه.
قال: هو لم يجعل .. ولكن الاستضعاف الذي امتلأت به نفوس العامة، أو انتشار فكر الترف بين العامة أعماهم عن الصالحين، فلم يروا صالحا للحكم غير المترفين، ألم تسمع قوله تعالى عن الطريقة التي تربع بها فرعون على العرش:{ فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ} (الزخرف:54)؟
قلت: لقد ربط تعالى بين استخفافه وفسقهم.
قال: لولا فسقهم، ما استخفهم.
قلت: ولكن لماذا يتسلط المترفون على أموال الشعب .. ألا يكفيهم ما هم فيه من ترف؟
قال: المترف يرى كل شيء ملكا له، ولذلك إذا استبدوا بالحكم جعلوا من أموال الشعب اموالا لهم يهبونها لمن شاءوا، ويبنون بها ما شاءوا، ألم تسمع الصلات الضخمة التي كانت توهب للشعراء من الخلفاء والوزراء؟
قلت: بلى، ونحن نستدل على ذلك بكرم الخليفة والوزير، ولا نزال نروي أن المعتصم بن صمادح وهب قرية بأكملها للشاعر أبي الفضل جعفر بن أبي عبد الله بن مشرف حينما أنشده قصيدته التي مطلعها:
قامت تجر ذيول العَصْبِ والحِبَرِ ضعيفة الخصر والميثاق والنظر
ولما بلغ منها قوله:
لم يبق للجور في أيامهم أثر إلا الذي في عيون الغيد من حَوَرِ
قال المعتصم:(لقد أعطيتك هذه القرية نظير هذا البيت الواحد) ووقع له بها، وعزل عنها نظر كل وال([10]).
قال: وتغفلون عن الرعية الجائعة.
قلت: إلا من كان منها من له القدرة على نظم الشعر، أو امتلك من البيان ما يسحر به الخلفاء والوزراء والقادة.. ولكن مع ذلك، فقد أنكر العلماء ما وقع فيه الحكام، فهذا ابن حزم يقول:(اللهم إننا نشكو إليك تشاغل أهل الممالك من أهل ملتنا بدنياهم عن إقامة دينهم، وبعمارة قصور يتركونها عما قريب، عن عمارة شريعتهم اللازمة لهم في معادهم ودار قرارهم، وبجمع أموال ربما كانت سبباً في انقراض أعمارهم وعوناً لأعدائنا عليهم عن حاجة ملتهم حتى استشرف لذلك أهل القلة والذمة، وانطقت ألسنة أهل الكفر والشرك)([11])
قال: ألا تخافون أن يحيق بكم ما حاق بالمترفين من هلاك؟
قلت: ولكنا من الأمة المرحومة.
قال: سنة الله مع خلقه واحدة، ألا تعلم أن الله (عدل)
قلت: ولكن النصوص وردت برحمة هذه الأمة.
قال: لماذا تأخذون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض، ألم يكن صلى الله عليه وآله وسلم يخشى على أمته عواقب الترف، فقد قال صلى الله عليه وآله وسلم:(والله ما الفقر أخشى عليكم، ولكني أخشى أن تبسط الدنيا عليكم كما بسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، فتهلككم كما أهلكتهم)([12])
قلت: ولكنا لم نهلك، مع أن الترف منتشر عندنا، ويحكمنا المترفون ..
قال: أتستعجل عقوبة الله؟
قلت: بل أبحث عن مصاديق سنن الله.
قال: فسر في الأرض .. لترى سنن الله.
قلت: وعيت هذا.. لكن أيحجر على المترفين، لقد ورد في القرآن الكريم الحجر على السفهاء، ولم أجد الحجر على المترفين؟
قال: وهل تتصور هذا الذي يبحث عن حتفه بظلفه رشيدا.
قلت: لا .. الرشيد يبحث عن حياته لا عن حتفه.
قال: فهؤلاء بسبب غرقهم في الترف، يبحثون عن حتفهم.
قلت: فبم تنصحنا؟
قال: احجروا على مترفيكم كما تحجرون على سفهائكم.
قلت: كيف؟ أتريدنا أن نحجر على شعوبنا؟
قال: إن وقعت جميع شعوبكم في الترف، فاحجروا عليها تشريعا قبل أن يحجر عليها الله تعالى تقديرا.
قلت: فكيف نحجر عليها؟
قال: غيروا صياغة كل طلب يرسل لطلب سلعة بسلعة أخرى؟
قلت: كيف ذلك؟
قال: سمعت أنكم تبالغون في استيراد السجائر.
قلت: أجل، فالسعودية وحدها تستورد ما قيمته 1.1 مليار ريال، وهي تعادل 14.4 ألف طن من السجائر، منها 10 آلاف طن تستورده من أمريكا، بقيمة 895 مليون ريال، ومنها 3 آلاف طن بقيمة 173.5 مليون ريال من بريطانيا([13]) حتى قال سعد الدوسري:(كنا ندخن سبعة آلاف طن، وصرنا ندخن 14 ألف طن بزيادة قدرها 100 % والمستفيد الأكبر أمريكا وبريطانيا)([14])
قال: فهذه المبالغ الضخمة التي ترسل إلى هذه الشركات الآثمة غيروا اتجاهها.
قلت: إلى أين؟
قال: إلى مصانع الفؤوس والمعاول.
قلت: لم؟ .. وما الحاجة إليها؟
قال: لتعمروا بلادكم، فبلادكم لا يعمرها الدخان، وإنما تعمرها الفؤوس والمعاول .. وصحراؤكم لا يحييها اللهيب الذي تنفخه سجائركم، وإنما يحييها النشاط الذي تبعثه فؤوسكم.
تقدمت من الباب الرابع من أبواب الحفظ، فرأيت صورة لرجل جلد قوي يجري وراء صبية صغار يحبون ليسرق حليبهم، وهم يتضاغون من الجوع، فلا يرحمهم .. ثم يغسل بالحليب الذي سرقه منهم يديه ورجليه ويرمي الباقي منه في بركة صغيرة .. ثم يرمي نفسه يسبح فيها.
فقلت للمعلم: ما هذه الصورة؟
قال: هذه صوركم.
قلت: معاذ الله أن تكون هذ صورنا .. كيف هذا؟
قال: هذه صورتكم التي تسترونها، وتلحون في سترها، ولكن الحقيقة تأبى إلا أن تفضحكم.
قلت: كيف تكون هذه صورتنا، ونحن الذين نهتم بالطفولة، ونرعاها، ونؤسس لها دور الحضانة ونخترع لها كل يوم من الألعاب ما يجعلها تعيش جنة الدنيا قبل جنة الآخرة.
قال: أنتم تكذبون عليها، وتكذبون على أنفسكم، وتكذبون على كل الأجيال التي تأتي بعدكم، ولا تكتفون بالكذب، بل تضمون إليه السرقة والغصب.
قلت: كيف؟
قال: لقد أودع الله ثروات في الأرض تكفي لكل فرد فيها إلى قيام الساعة.
قلت: هذا صحيح .. خاصة إن حددنا نسلنا.
قال: الله أكرم من أن يأمركم بحد نسلكم، فرزقه وفير، وخيره كثير.
قلت: فكيف نغتصب إذن ما ليس لنا؟
قال: أنتم تغتصبون ثروات الاجيال التي تأتي من بعدكم، لتجعلوا منها بركا ترضي غرامكم بالسباحة.
قلت: فسر لي يا معلم، فإني لا أكاد أفهم.
قال: هذا النفط الذي ظهر بأرضكم .. أهو ممدود لا حد له .. أم مصيره إلى النفاذ؟
قلت: بل هو محدود .. ومحدود جدا .. ولذلك نسمعهم يتحدثون عن احتياطي البترول.
قال: فكونه محدودا يعني أن له نهاية ينتهي إليها.
قلت: أجل .. فلا فرق بينه في ذلك وبين ما يخزن من طعام، بل إنه في هذه الناحية أقل من الطعام قدرا.
قال: لم؟
قلت: لأن الطعام يمكن استنباته وزرعه ليعطينا أضعافا مضاعفة .. أما البترول، فلو زرعناه لأنبت لنا التلوث، ولم يعطنا قطرة بترول واحدة.
قال: أهذا البترول الذي وجد على أرضكم لكم خاصة، أم لكل من يسكن هذه الأرض التي تسكنونها؟
قلت: ما تقصد؟
قال: هل هو لكم خاصة .. أم هو لأحفادكم وأحفاد أحفادكم؟
قلت: هو لنا ولأحفادنا .. لا ينبغي أن نستأثر به دونهم.
قال: فأنتم تستأثرون به .. ألستم تبالغون في الإنفاق من هذا الكنز؟
قلت: كيف؟
قال: أنتم تنفقون منه مئات أضعاف ما تحتاجونه، ثم تنفقون ما تنفقونه منه في تنمية تخلفكم.
قلت: هذا صحيح، فنحن نتعامل مع البترول بإسراف.
قال: أنتم تتعاملون معه كما يتعامل ذلك الأبله الذي يسرق حليب الرضع ويتركهم يتضاغون من الجوع.
قلت: ولكن البترول ليس حليبا .. أتتصور أنه يمكن أن نصنع من البترول حليبا!؟ .. هذ فكرة جيدة.. سأطرحها على قومي.
قال: دعك من هذا .. فالغذاء ما خلقه الله، لا ما تصنعونه من سموم.
قلت: ففسر لي ما تقول؟
قال: الحليب رزق الله لهؤلاء الرضع .. وأنتم تعتدون عليه من غير حاجة.
قلت: ولكنه وجد في أرضنا.
قال: ولكل من وجد في أرضكم.
قلت: أليس من قتل قتيلا استحق سلبه، ومن أحيا أرضا مواتا فهي له.
قال: لا .. هي له يستغلها وينتفع بها لا ليستأثر بها دون غيره من خلق الله، ألم تعلم حقيقة الاستخلاف؟
قلت: تعني أن ننتفع دون أن نتملك.
قال: نتملك تملكا مجازيا .. لا حقيقيا .. فالمال مال الله.
قلت: ولكن لا نستطيع أن نفرض على أي شخص أن لا يتمتع بماله، بحجة تركه لعياله.
قال: فسجلوا هذا في كتب فقهكم.
قلت: ولكن كتب الفقه التي ندرسها وندرسها لا تتحدث عن البترول.
قال: فاكتبوا كتبا جديدة عن فقه البترول.
قلت: ولكن البترول بيدهم؟
قال: ولكن الأقلام بأيديكم .. اكتبوا فلعل الله يخرج من أصلابهم من يقرأ ما تكتبون .. أو لعل لله يبارك في المداد الذي تكتبون به، فيرسل نفحات عطر تجذبهم إلى قراءة ما تكتبون.
قلت: هذه فكرة جيدة .. فللمترفين غرام عجيب بالعطور .. فلنصطدهم بها.
قال: اصطادوهم بثباتكم وعفافكم وزهدكم، أما العطور، فالشياطين
أبرع في صناعتها منكم.
([1]) رواه أحمد والحاكم وابن سعد.
([2]) رواه مسلم.
([3]) رواه البخاري ومسلم.
([4]) رواه البخاري ومسلم.
([5]) رواه ابن عساكر.
([6]) رواه ابن ماجة والطبراني في الكبير والحاكم.
([7]) المجلة الاقتصادية: 10/4/2000.
([8]) مجلة الأسرة، عدد صفر 1420.
([9]) مجلة الوطن 5/4/1422..
([10]) ابن بسام، الذخيرة: 4 1/192.
([11]) ابن حزم، رسائل ابن حزم 3/14 .
([12]) رواه البخاري ومسلم.
([13]) المجلة الاقتصادية 26/7/1422.
([14]) المجلة الاقتصادية 26/7/1422.