مفتاح التداول

بعد أن قال ذلك فتح لنا الباب .. لكنا ما إن سرنا قليلا حتى رأيت بابا عجيبا، قد علقت عليه لافتة في منتهى الجمال مكتوب عليها قوله تعالى:{ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ}(الحشر: 7)
قلت للمعلم: لا شك أن هذا هو باب التداول، فهذه آية التداول.
قال: نعم، وهي صريحة لن تستنفذ منا جهدا في إثبات معناها كما استنفذته منا آية الاستثمار.
قلت: ما الفرق بين الاستثمار والتداول؟.. إني لا أكاد أحس فرقا بينهما.
قال: الاستثمار يهتم بتنمية المال، بغض النظر عن مالكه، فلذلك لا يرى بأسا في أن يمتلك جميع أموال الدنيا رجل واحد بشرط أن يحسن استغلالها والاستفادة منها، وتعميم تلك الاستفادة.
قلت: والتداول؟
قال: ينظر إلى مقصد آخر له أهميته التي لا تقل عن أهمية الاستثمار، أو تكاد تكمل غرض الاستثمار.
قلت: وما هي؟
قال: أن لا يبقى المال في يد طائفة محدودة، بل ينتشر بين طوائف من الناس.
قلت: وما الحكمة في ذلك؟
قال: هناك حكم كثيرة وفوائد جليلة، منها ما يرتبط بسنة الاستخلاف التي مررنا على بابها، فالاستخلاف يعني الابتلاء بالأموال، ومن حكمة الشارع أن يختلف المبتلون ليكون بعضهم حجة على بعض، أو قدوة لبعض.
قلت: هذه حكمة أخروية، ونحن الآن نتحدث عن الدنيا.
قال: الدنيا والآخرة أخوان، ولا تصلح الدنيا إلا بمهمات الآخرة .. ولكني مع ذلك لن أناقشك في هذا، وسأدعه لمحل آخر نبين فيه ارتباط مصالح الآخرة بمصالح الدنيا.
قلت: فاذكر لي حكمة التداول المرتبطة بالدنيا.
قال: عندما يكون المال بيد شخص من الناس له اهتمام معين، ألا يجر جميع أنواع استثماراته إلى ذلك الاهتمام حرصا على الربح، أو لكونه يخاف مخاطر غيره من أنواع الاستثمار.
قلت: هذا صحيح، فالاستثمار ينبع عموما من شخصية المستثمر، وطموحاته، ونظرته إلى الحياة.
قال: فلنفرض مثلا أنه لم يكن من بين المستثمرين القلائل الذين اجتمعت لديهم أموال الدنيا من له علاقة بالعلم، أو بالاهتمام بنشره، أيمكن أن توجد دور نشر تنشر العلم، وقد تضحي في سبيله؟
قلت: لا .. بل ستصبح المكتبات حينها دورا لبيع الحلوى أو أصناف اللعب.
قال: ألا يتضرر حينها الناس بفقد جزء مهم من حياتهم؟
قلت: هذا صحيح .. وقد جربته، فقد يبتليني الله ببعض الأسفار إلى بعض المدن، فلا أجد مكتبة أستريح فيها، أو أنهل منها، فأعيش غربة لا تقل عن الغربة التي عناها ابن خاتمة الأندلسي بقوله:
الزمْ مكانكَ فالتغربُ ذِلَّةٌ لو لم تَنَلْ غيرَ القرارِ نجاحا
فإِذا أرادَ اللّهُ مهلِكَ نملةٍ هيا لها كيما تطيرُ جناحا
قال: فلذلك كان من رحمة الله أن يجعل المال متداولا بين الناس.
قلت: وكيف جعله كذلك، ونحن نرى المال في الدول الرأسمالية يتركز في يد طوائف محدودة.
قال: ذلك في عالمكم .. العالم الذي انهارت فيه القيم .. أما العالم الذي يحكمه الشرع، فيستحيل أن يصل المرء إلى هذه الصورة.
قلت: أيسلب الشرع أموال الناس، أم يصادرها لهم؟
قال: الشرع لا يسلب ولا يصادر .. وإنما ينظم .. لأن أكثر أرباح هؤلاء لم تأت بالطرق الشرعية.. إن الأرباح التي تجمعت لهم هي التي سببت الفقر في العالم.
قلت: كيف؟ ألم نقل بأن الاستثمار لا يهتم بمن لديه المال .. المهم أن يستثمر فيه؟
قال: ولكن فيم يستثمر؟
قلت: فيما يعود بالمنفعة على الناس؟
قال: وهل تحقق هذا؟
قلت: أحيانا.
قال: فكم ينفق هؤلاء الأغنياء على ما تسمونه (الآيس كريم)؟
قلت: ذكرت الإحصائيات أنهم ينفقون 11 بليون دولار.
قال: وعلى مرضى البدانة؟
قلت: 238 بليون دولار تنفقها الولايات المتحدة وحدها على مرضى البدانة.
قال: وعلى مستحضرات التجميل؟
قلت: ينفق الأمريكيون والأوربيون 8 مليار دولار على مستحضرات التجميل([1]).
قال: وكم عدد الفقراء الذين يعيشون على دولارين في اليوم؟
قلت: 3 ملايير إنسان.
قال: ومن يعيشون على دولار واحد؟
قلت: 1.3 مليار يعيشون على دولار واحد([2]).
قال: هذه الإحصائيات تنطق وحدها بالحقيقة .. ألم أقل لك: لو أنهم رجعوا إلى الأرقام وحدها لهدتهم إلى الحق، ودلتهم على طريق الله.
قلت: ولكن ما علاقة هذا بالتداول؟
قال: هؤلاء الذين اجتمعت لديهم هذه الأموال الضخمة صرفوها في هذه المصارف التي نشرت الفقر في المجتمع .. ولو أن أموالهم لم تكن بهذه الصفة لخافوا عليها، ولما تجرأوا على تضييعها في مثل هذه الأمور.
قال: أخبرني : ما هو حرف المعاني الذي كثر تردده في قول تعالى في آية التداول:{ مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ } (الحشر: 7)
قلت: الواو، فقد ذكرت خمس مرات.
قال: لماذا؟
قلت: لتعدد الذين يفرق عليهم المال.
قال: فالشرع إذن عدد مصارف الأموال حتى لا تجتمع في يد فئات محدودة .. اقرأ آيات المواريث، ولتسمعها من هذا الباب.
قلت: يا معلم .. أخشى لو حاولنا سماعها ألا نخرج من هذا الباب.
قرأتها عليه، فقال: ما تلاحظ في هذه الآيات التي لم يرض القرآن الكريم إلا التفصيل في ذكرها؟
قلت: الله تعالى فتت الثروة التي يتركها الميت تفتيتا، فسدسها لقوم، وثلثاها لقوم، وثلثها لقوم .. وسدسها .. ونصفها .. وربعها.
قال: فهل يجوز للميت أن يؤثر بثروته أفرادا محدودين يصب عليهم وافر كرمه، ويترك الآخرين لسوء طالعهم؟
قلت: لا .. لا حرية له في ذلك .. فالشرع هو الذي قسم المال، ولا حق لصاحب المال في تقسيمه.
قال: أرأيت لو أن شخصا ما خلف مليارا من هذه العملة التي تسمونها (دولارا)، ثم مات.
قلت: أعطني بيانات أقاربه .. فما أسرع أن أعطيك أنصبة الوارثين؟
قال: ترك زوجة طبعا .. فلا يصح أن يموت غنيا كهذا بلا زوجة.
قلت: نصيبها إن مات بلا أولاد الربع، وهو 250000 دولارا، أما إن كان له ولد، فترث 125000000دولارا.
قال: غني كهذا لا يعدم من الأولاد في العادة، فلنفرض أن له خمسة بنين، وخمس بنات.
قلت: دعني أفكر قليلا .. للزوجة الثمن .. والأنباء يرثون تعصيبا، فأصل المسألة من ثمانية، ولتصحيح المسألة فإنه ما دام للذكر مثل حظ الأنثيين، فإن عدد أسهم البنين خمسة عشر، ولتصحيح المسألة فإنا نضرب ثمانية في خمسة عشر تصبح 120، للزوجة منها الثمن وهو 15، وللأبناء الباقي، وهو 105، فإذا قسمناه بينهم أي 105 على 15 فإن نصيب كل بنت يساوي 7 ونصيب كل ذكر 14 بالضرورة.
فإذا قسمنا التركة على عدد الأسهم نجد مقدار السهم الواحد بالتقريب هو 8333333.33، فإذا ضربناه في عدد أسهم كل ولد، فإنه ينتج: لكل ذكر: 116666666.66، ولكل أنثى: 58333333.33.
قال: كيف يصبح هؤلاء الأولاد .. هل يبقون كأبيهم مليارديرات؟
قلت: سيصبحون مليونديرات.
قال: فلو أن هذا الرجل سمح لهم أن يورث من يشاء، فأعطى المال لواحد منهم عرف كيف يحتال على أبيه.
قلت: سيبدأ حينها مليارديرا، وسيوظف إخوانه عنده عمالا، وستتضاعف ثروته فلا يموت إلا بعد أن يترك عشرات المليارات.
قال: فإذا ورثها أحد أولاده أيضا؟
قلت: سيملك ولده هذا الدولة التي يعيش فيها.
قال: أرأيت إذن حكمة الشارع في تفتيت الثروة بالموت .. فالموت يعيد توزيع الثروة ليحقق التداول .. ولو أضفنا إلى هذا أن هذا الرجل لن يكون قد استكمل له من الثروة ما استكمل إلا بعد طول جهد وطول عمر، لعرفنا أن الثروة يكاد يستحيل اجتماعها في شخص بالصور التي ذكرتها سابقا..
قلت: فهمت هذا.
قال: هذا مثال واحد فقط، وتشريعات الإسلام في هذا الباب كما في غيره من الأبواب كثيرة لا يمكن حصرها .. اقرأ علي آية المصارف.
قلت: قال تعالى:{ إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (التوبة:60)
قال: كم من مصرف للزكاة تذكره هذه الآية؟
قلت: ثمانية مصارف تمتلئ بتفاصيلها كتب الفقه.
قال: مع أن الشرع قصد بالصدقات والزكوات ـ أول ما قصد ـ الفقراء، إلا أنه ذكر هذه المصارف لتكون مرجعا في الحالة التي يكثر فيها المال، وتمتلئ جيوب الفقراء.
قلت: لماذا؟
قال: حتى لا يصبح المال دولة بين الفقراء.
قلت: وكيف ذلك؟
قال: إذا لم يكن للزكاة إلا مصرف واحد .. ألم تقرأ قوله صلى الله عليه وآله وسلم:( ليأتين على الناس زمان يطوف الرجل فيه بالصدقة من الذهب فلا يجد أحداً يأخذها منه)([3])
قلت: أجعل الله سائر المصارف ملاذا في هذه الحال؟
قال: وفي كل حال مشابهة، حتى لا يصبح الفقر حرفة، يضطر الأغنياء لإيجادها ليدفعوا زكاة أموالهم.
قلت: فالشرع إذن أمر بالتداول مطلقا الأغنياء والفقراء.
قال: أجل .. فلا فرق بينهما في موازين الله .. ألا تعلم أن الله عدل حكيم؟
قلت: فهمت هذا .. فبماذا تأمرني أن أنصح قومي؟
قال: علمت أن لديكم مصارف تريد أن تحيي السنة.
قلت: أجل .. وهي تسمى بنوكا إسلامية، وهي فتح من الله على هذه الأمة.
قال: فحذرها من أن تسقط في عبودية المال.
قلت: هي تحتاج منا إلى تدعيم وتشجيع لا إلى تحذير.
قال: تحذريك لها هو تشجيعها.
قلت: هي تنقذنا من الربا.
قال: ليس الربا وحده هو الذي يهددكم .. والشرع لم يأت لمحاربة الربا وحده.
قلت: ولكن أساس هذه المصارف هو البحث عن الاستثمارات التي لا يشكل الربا جزءا منها.
قال: إن أراداوا أن يحيوا هذه الأمة ويبارك الله لهم، فليتصدقوا بجميع الأموال التي تخزن عندهم.
ضحكت، وقلت: أتريد أن يتهموني بالجنون، لو تصدقوا بها لانهارت مصارفهم، ولما قامت للإسلام سوق.
قال: ولكنها ستعود عليهم بأضعاف من الأجور.
قلت: ومن يرغب في أجور الآخرة في هذا الزمان؟
قال: ومن قال بأن هذه الأجور أجور الآخرة وحدها .. هي أجورالدنيا والآخرة.
قلت: كيف .. ألم تقل: يتصدقوا بها؟
قال: ألم تعرف أن الاستثمار صدقة؟
قلت: فهم يستثمرون.
قال: مع الكبار .. فانصحهم بأن يستثمروا مع الصغار.
قلت: كيف؟
قال: يشترون الفؤوس للحطابين، ألم تقرأ قصة السائل الذي دله النبي صلى الله عليه وآله وسلم على الفأس؟
قلت: تقصد ما روي أن رجلا من الأنصار أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فسأله فقال: أما في بيتك شيء؟ فقال بلى حلس نلبس بعضه ونبسط بعضه وقعب نشرب فيه الماء فقال: ائتني بهما، فأتاه بهما، فأخذهما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بيده فقال: من يشتري هذين؟ فقال رجل: أنا آخذهما بدرهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:(من يزيد على درهم مرتين أو ثلاثا؟)، فقال رجل: أنا أخذهما بدرهمين، فأعطاهما إياه وأخذ الدرهمين فأعطاهما الأنصاري وقال: اشتر بأحدهما طعاما فانبذه إلى أهلك واشتر بالآخر قدوما فائتني به، فلما أتاه به شد فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عودا بيده، ثم قال:(اذهب فاحتطب وبع ولا أرينك خمسة عشر يوما)، ففعل وجاء فأصاب عشرة دراهم، فاشترى ببعضها ثوبا وببعضها طعاما، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:(هذا خير لك من أن تجيء المسألة نكتة في وجهك يوم القيامة، إن المسألة لا تحل إلا لثلاث: لذي فقر مدقع، ولذي غرم مفظع، ولذي دم موجع)([4])
قال: أجل .. أليس شراء الفؤوس سنة؟
ضحكت، وقلت: لو علم بعض إخواننا بهذا لامتلأت بيوتهم بالفؤوس، ولقام سوق الفؤوس بعد ركود.
قال: أنا لا أقصد بالفؤوس الفؤوس، إنما أقصد بها وسائل الإنتاج.
قلت: تعني أن تشتري المصارف وسائل الإنتاج لتستثمر فيها.
قال: لا .. لتملكها لأكبر عدد من الناس، فلا تدع يدا عاطلة، فالبطن الخاوي ابن اليد العاطلة.
قلت: وأرباحها .. هي لم تقم إلا لتربح.
قال: ستربح .. وتربح كثيرا .. وفوق ربحها إحياءها الغنى، وقتلها الفقر.
قلت: هي تستثمر الآن.
قال: هي تهتم بالبيع والشراء لتتضخم أكثر من اهتمامها بالاستثمار، فإن اهتمت بها سقطت على الكبار، ونسيت الصغار.
قال: ولكن هذه المصارف بممووليها.
قال: فانشروا وعيا بين الناس.
قلت: بماذا؟
قال: بأن يسحبوا أموالهم من بنوك العالم، ويضعوها في هذه المصارف، فلا أرى لكم حلا أنجع من هذا.
قلت: ولكن الخبراء الاقتصاديين ..
قال: دعكم من هذ الفلسفات .. تعاملوا
مع الله، لا مع الخبراء الاقتصاديين .. وسترون بركات الله التي لا يراها هؤلاء
الخبراء.
([1]) مجلة الأسرة، عدد شوال، 1419.
([2]) مجلة الأسرة، عدد رمضان 1420.
([3]) رواه مسلم.
([4]) رواه أبو داود والترمذي.