مفتاح الاستخلاف

بعد أن قال ذلك فتح لنا الباب .. فرأينا ما لا يمكن وصفه.. لكنا ما إن سرنا قليلا حتى رأيت بابا عجيبا، سألت المعلم عنه، فقال: هذا باب الاستخلاف، ولا يصح دخول سائر الأبواب إلا بعد حمل ترخيص منه.
قلت للمعلم: لماذا تتشدد هكذا؟
قال: هذا ليس تشددا .. هذه حقيقة، فالاستخلاف هو التصور الذي ينطلق منه المؤمن في تعامله مع كل شيء، والتصور أساس التصرف.
قلت: فما حقيقته؟
قال: أن يعلم المؤمن أن كل شيء عنده لله، وأنه مجرد خليفة عليه، لا مالك له.
قلت: أجل، فالقرآن الكريم يقرر ملكية الله لكل شيء في آيات كثيرة جدا، كقوله تعالى:{ وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ} (آل عمران:109)، وقوله:{ أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَلا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} (يونس:55)
قال: والمال الذي تتصورون أنه لكم ، ويعادي بعضكم بعضا لأجله هو لله، فقد قال تعالى:{ وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ } (النور: 33) ..
قلت: صدقت .. فقد صرح القرآن الكريم بأن الله تعالى جعل الإنسان خليفة على هذا المال، فقال:{ آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ} (الحديد:7).. وأخبر أن المال الواصل لخلقه هو من الله، فقال:{ وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} (آل عمران:180).. ولكن يا معلم لقد نسب الله تعالى الأموال للعباد في أكثر مواضع القرآن الكريم، كقوله تعالى عن المنفقين:{ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } (البقرة: 262)
قال: لا تعارض بين النسبتين.
قلت: كيف؟
قال: أرأيت لو وهبت لك هبة .. أليست الهبة هبتي.. وهي مع ذلك ملك لك تستطيع أن تنسبها لنفسك.
قلت: فإذن أستطيع أن أتصرف بها كما أشاء.
قال: لا .. لأن الواهب شرط عليك أن لا تتصرف في هبته إلا بما فيه المصلحة.
قلت: ولكن الله غني عنا.
قال: بما فيه مصلحتك ومصلحة المجموع لا مصلحتك وحدك.
قلت: اشرح لي هذا .. فإني لا أكاد أفهم.
قال: قبل أن أشرح لك أريد أن أسألك عن موقف قومك من ملكية المال .. فهي أصل مواقفهم من كسبه وصرفه وأصل أخطائهم في ذلك.
قلت: قومي يختلفون .. هناك من يرى الملكية الفردية، ولا يحد لها أي حدود، ويجعل صاحبها حرا في التعامل مع ماله يوجهه حيث يشاء، وهناك من يرى عكس ذلك، وهناك من يحاول التوسط.
قال: فما تقول الطائفة الأولى؟
قلت: هذه الطائفة تعظم المال وتجعله عصب الحياة أو ركنا من أركان الحياة، وقد قال أحد مؤسسيها:(يوجد في العالم ثلاثة اختراعات عظيمة هي الكتابة والنقود والجدول الاقتصادي)
قال: هذا كلام صحيح، فالنقود من نعم الله على عباده، وهي قوام المعيشة، وعصب الحياة، ألم تقرأ قوله تعالى:{ وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً } (النساء: 5) ؟
قلت: ولكنهم يبالغون في طلبه والإكثار منه.
قال: لا حجر في الإكثار وفي الطلب إن كان بالطرق الشرعية، ألم تسمع قول إخوة يوسف u:{ مَا نَبْغِي هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ} (يوسف: 65)؟
صحت، وقد اشتد علي ما أسمعه من المعلم: لقد أدى بهم الجشع والحرص على الاستكثار من المال إلى أمور خطيرة.
قال: وماهي؟
قلت: لقد جرهم لهثهم وراء المال إلى أنانية مفرطة، حيث يتحكم فرد أو أفراد قلائل بالأسواق تحقيقاً لمصالحهم الذاتية دون تقدير لحاجة المجتمع أو احترام للمصلحة العامة.. وهم في سبيل كسب المال لا يبالون بالطرق التي يحصلون بها عليه، فهم محتكرون خبيرون بالاحتكار، يقومون باحتكار البضائع وتخزينها حتى إذا ما فقدت من الأسواق نزلوا بها ليبيعوها بسعر مضاعف يبتزون به المستهلكين الضعفاء..
قال: ما هي تصوراتهم التي جعلتهم يتطرفون كل هذا التطرف؟
قلت: هم يتصورون بأن المال مالهم، كسبوه بعرقهم وجهدهم أو ورثوه عن أهلهم وأقاربهم .. ولا يحق لغيرهم أن يشاركهم فيه.
قال: أتقصد (القارونية) التي قال مؤسسها، أو المعبر عنها:{ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي} (القصص: 78) جوابا لمن ذكره بأن المال مال الله، وينبغي أن يسير فيه بما أراد الله، فقال له:{ وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} (القصص:77)
أو تقصد ما قال قوم شعيب u:{ يَا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} (هود: 87)
قلت: بل أقصد طائفة عصرية هي أكبر الطوائف عددا وأكثرها أموالا تسمى (الرأسمالية)
قال: وما تقول هذه الطائفة .. لم أرها مذكورة في كتب (الملل والنحل)
قلت: هذه الطائفة لا علاقة لها بالدين، ولا تهتم له، ولا تهتم به، إنما تحصر اهتمامها في المال.
قال: إذن هي من طائفة (عبدة المال) التي نص عليها قوله صلى الله عليه وآله وسلم:(تعس عبد الدينار)
قلت: لقد ذكرتني بما روى سيد قطب عن نفسه أنه أثناء زيارته لأمريكا كان ذات مرة جالساً في حديقة فاقترب منه رجل أبيض، وسأله: من أين أنت؟ فأجاب سيد: من مصر، فرد عليه قائلاً: إذن أنت مسلم، قال: نعم، قال: إذن حدثني عن الإسلام، فأخذ سيد يحدثه عن الإسلام، والرجل منصت باهتمام حتى أنهى سيد حديثه، عندها قال الرجل: جميل ما قُلته، ولكن الدولار هو الإله الوحيد الذي أعرفه!!
قال: أمثل هؤلاء لا زالوا يحملون صفة (الإنسان) .. لقد محى الله هذه الصفة على من لا يعرفه، فقال:{ أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} (الفرقان:44).. بل فضل الحجارة عليهم، فقال:{ ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} (البقرة:74)
قلت: نعم .. لقد تحولوا إلى مسخ لا علاقة له بالإنسان، فهم لم يتحرجوا من إبادة شعوب وأمم بأكملها، كما فعل الأمريكان بالهنود الحمر بحثاً عن الذهب ، وكما فعل مع سكان مستعمراته في إفريقيا حيث اقتاد منهم الألوف – بعد أن نهب خيرات أوطانهم – مكبلين بالأغلال في الأعناق والأيدي والأقدام استغلالاً لسواعدهم وقوة أجسامهم في استثمار اقتصادي لا يعود نفعه إلا إلى الرأسمالي ذاته.
قال: أتعلم أن كل ما ذكرته من هذه الطائفة نص عليه القرآن الكريم عند حديثه عن قارون.
قلت: إذن لقارون السبق في تأسيس هذه الطائفة .. فكيف ذلك؟
قال: لقد ذكر الله تعالى أربعة انحرافات لقارون، كل انحراف منها كاف لإدانته.
قلت: فما الانحراف الأول؟
قال: الظلم، وهو أول انحرفاته، ولعله نال ماله بسببه، فقد قال تعالى:{ إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ } (القصص: 76)
قلت: وهو يمثل ما فعلته الرأسمالية من ظلم وتسلط ونهب واستعمار واستعباد.
قال: لقد بدأ قارون بقومه.
قلت: وهم يبتز بعضهم بعضا وينهب بعضهم بعضا إن لم يجدوا من ينهبون.
قال: والانحراف الثاني هو الفرح، كما قال تعالى:{ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} (القصص: 76)، والفرح ـ هنا كما في أكثر مواضع القرآن الكريم ـ يعني البطر والكبر والتعاظم واحتقار المستضعفين.
قلت: وهم يفعلون ذلك معنا، فيسمون أنفسهم العالم الأول، ونحن العالم الثالث، وهم العالم المتقدم، ونحن العالم المتخلف .. ولأفرادهم من القيمة ما ليس للآلاف عندنا، فلا حرج عندهم أن يفتكوا بالآلاف منا في سبيل واحد منهم.
قال: والانحراف الثالث، هو الاستغراق في الدنيا، ونسيان الله والدار الآخرة، وهو ما يدل عليه قوله تعالى على لسان المصلحين من قومه:{ وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا } (القصص: 77)
قلت: وهو ما وقعوا فيه من الغفلة عن الله، واعتبار الدين نوعا من القضايا التي لا ينبغي البحث فيها ولا الاهتمام بها إلا الاهتمام الشكلي الذي يعبر عن الاحتقار أكثر من تعبيره عن الإيمان.
قال: والانحراف الرابع، هو الإفساد في الأرض، كما قال تعالى على لسان المصلحين من قومه:{ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} (القصص: 77)
قلت: وهو ما وقعوا فيه من إفساد للأفراد والمجتمعات والأكوان من أجل مكاسب بسيطة لا تتجاوز خزائنهم.
قال: أتدري مصير قارونيتكم؟
قلت: لعل مصيرها هو مصير قارونية قارون، كما قال تعالى:{ فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ} (القصص:81)، أحادث ذلك يا معلم؟ أتحصل معجزة مثل هذه؟
قال: ولماذا تبحث عن هلاكهم؟
قلت: وعن ماذا أبحث؟
قال: عن توبتهم .. ألم ينصح أولو العلم قارون ويوجهوه؟
قلت: أجل .. لكنه لم يستجب.
قال: فوجهوهم .. وارحموهم بتوجيهكم .. فإن لم يستجيبوا .. فاسألوا لله لهم ..
قلت: بل نسأل الله عليهم.
قال: إن أردتم السنة فاسألوا الله لهم، فعسى الله أن يخرج من أصلابهم من يتوب من عبادة الدينار والدرهم .. ويسلم وجهه إلى الله، وما ذلك على الله بعزيز.
قال: فما الطائفة الثانية؟
قلت: الشيوعية .. وهي طائفة ذات مذاهب متعددة، وهم على عكس الطائفة الأولى، يحاربون الملكية الفردية، ويقولون بشيوعية الأموال.
قال: هناك أموال ينبغي أن تبقى مشاعة حتى لا يستأثر بها الأغنياء، فيستولوا على حقوق الفقراء، وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم مشيرا إلى هذا النوع:(المسلمون شركاء في ثلاث: في الماء والكلأ والنار، وثمنه حرام)([1])
قلت: هم لا يقولون هذا فقط .. بل ينطلقون من هذا إلى أفكار خطيرة تدور كلها حول الصراع.
قال: الصراع! .. ما أفلح من صارع! .. من يصارعون؟
قلت: أول من صارعوه الله، فهم ينكرون وجود الله تعالى وكل الغيبيات ويقولون بأن المادة هي أساس كل شيء.. وهم لذلك يحاربون الأديان، ويعتبرونها وسيلة لتخدير الشعوب .. وهم في أحسن الأحوال لا ينشغلون عن الدين نفيا أو إثباتا فمركز اهتماماتهم المادة وأساليب الإنتاج.
قال: فإذا حاربوا الله، وحاربوا دين الله فسيقعون في عبودية غيره.
قلت: أجل .. لقد حصل ذلك، فقد وقعوا في عبودية الحزب الشيوعي وقادته، فقد كان شعارهم: نؤمن بثلاثة: ماركس ولينين وستالين، ونكفر بثلاثة: الله، والدين، الملكية الخاصة.
قال: ومن وقع في عبودية غير الله، فسيقع في كل أنواع الصراع.
قلت: أجل .. لقد وقعوا في ذلك، فتميز كل تاريخهم بالصراع، بل إنهم فسروا تاريخ البشرية بالصراع بين الرأسماليين والفقراء.. وينتهي هذا الصراع حسب زعمهم بدكتاتورية الفقراء. . وقد فسروا كل أحداث التاريخ بأنها نتيجة حتمية لتغير وسائل الإنتاج، وفسروا الفكر والحضارة والثقافة بأنها وليدة التطور الاقتصادي. . حتى الأخلاق يقولون عنها بأنها نسبية وهي انعكاس لآلة الإنتاج.
قال: وعلاقتهم بالمستضعفين؟
قلت: هم يزعمون أنهم يعملون في مصلحتهم، ولكنهم في الحقيقة لم يحكموا الشعوب التي أتيح لهم حكمها إلا بالحديد والنار.
قال: أتحسبون أن هؤلاء بشرا؟
قلت: { إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ }
قال: { بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} (الفرقان: 44)
قلت: ولكن الله تعالى نجانا منهم، فقد انتهت دولتهم.. فانهارت في معاقلها بعد قرابة سبعين عاماً من قيام الحكم الشيوعي وبعد أربعين عاماً من تطبيق أفكارها في أوروبا الشرقية.
قال: أهؤلاء قومك؟
قلت: هؤلاء من قومي، ومنهم من يقول غير هذا، أو يحاول أن يجمع بين هذا وهذا.
قال: فدعنا منهم، فإن للشياطين سبلا، وللشر ظلمات، ألم تر أن الله تعالى عبر عن النور بالإفراد وعن الظلام بالظلمات؟
قلت: بلى، فقد قال تعالى:{ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (المائدة:16)
قال: فلنرجع إلى النور نطفئ به جميع الظلمات.
قلت: فما هو مصدر النور؟
قال: الله..ألم تقرأ قوله تعالى:{ اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } (النور: 35) .. فإن كان هؤلاء وأولئك اشنغلوا عن الله بالدينار والدرهم، فإن المؤمنين المستنيرين بنور الله يبدأون علاقتم بالدينار والدرهم من الله، فهم يشعرون بفقرهم التام وعجزهم المطلق وفنائهم المحض، ثم يشعرون بأن الله بجوده من عليهم بأرزاق كثيرة منها ما تناولوه، ومنها ما اختبروا به.
قلت: فما هي الأرزاق التي تناولوها؟
قال: هي ما يشترك فيه الناس جميعا من المآكل والمشارب والملابس والمساكن .. فهي أرزاق، الغرض منها حياة الإنسان، فلولاها ما صلح بقاؤه على هذه الأرض.
قلت: وما أرزاق الاختبار؟
قال: هي ما فاض على ذلك وزاد عن الحاجة، ألم تقرأ قوله تعالى:{ وَيَسْأَلونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ } (البقرة: 219)
قلت: فما العفو؟
قال: هو ما زاد عن الحاجة، فليس للإنسان فيه من حق التملك إلا حق التسيير والإنفاق فيما أمر الله بالإنفاق فيه.
قلت: لكأني بك تعود بي إلى منطق الشيوعية.
قال: لا .. أنت تزعم أن الشيوعية تريد تساوي الناس في التملك، وتحد من حرية الأغنياء في التملك.
قلت: أجل.
قال: أما الإسلام شريعة السلام .. فيعتبر مثل هذا النوع من المصادرة سرقة .. فلذلك يترك للأغنياء حرية التملك كما شاء لهم جهدهم بشرطين: أن يكون من حله، وأن يوضع في محله.
قلت: كيف هذا؟
قال: يجوز لأي شخص أوتي ذكاء وأموالا أن يتاجر في أمواله ـ محفوفا بحماية الأمة ـ بشرط أن يكون ذلك في خدمتها، فهي أمواله من جهة تملكها، وهي أموال الأمة من جهة الانتفاع بها.
قلت: اذكر لي مثالا يوضح لي هذا.
قال: من أوتي مالا بحيث استطاع أن يجلب أنواعا من الرزق تحتاجها الأمة، سواء بالاتجار فيها، أو بصناعتها، فإنه يكون بذلك قد تخلق باسم الله:(الرزاق) ويكون له من الأجر إذا نوى ذلك ما لا يخطر له على بال.
قلت: ولكنه ينتفع بذلك، وهو يخدم مصالحه.
قال: وما يهمنا إذا كانت مصالحه لا تتعارض مع مصالح الأمة، بل تتوافق معها، أليس السلام هو توافق المصالح، والصراع هو تضادها؟
قلت: بلى.
قال: فلذلك ينظر المؤمن الفقير إلى الغني نظرة احترام لا نظرة حسد، لأنه يعتبره واسطة من وسائط الرزق لا تختلف عن الأمطار الهاطلة والأرض الطيبة .. ألم تسمع قوله صلى الله عليه وآله وسلم:( الجالب مرزوق، والمحتكر ملعون)([2])
قلت: بل روي في رواية أخرى:(الجالب إلى سوقنا كالمجاهد في سبيل الله، والمحتكر في سوقنا كالملحد في كتاب الله)([3])
قال: ولهذا قرن الله تعالى الضاربين في الأرض بالمجاهدين في سبيل الله، فقال:{ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } (المزمل: 20)
قلت: لقد فهمت ما قلت، فلولا الغني ما بنيت المصانع التي تشغل العمال، ولا أحضرت السلع التي تحتاجها الأمة، ولا نشط السوق الذي تتم به معايش الناس .. ولكن كيف يكون الغني مجرد مالك.
قال: الشرع أذن له في أن يملك، ولكنه حجر عليه في الإنفاق، بحيث لا ينفق ولا يتصرف في ماله إلا ما فيه المصلحة العامة بالإضافة إلى مصلحته الشخصية، ألم تسمع قوله تعالى:{ وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً} (النساء:5)؟
قلت: بلى.
قال: فهذه الآية تضع نظام العلاقة مع المال، فالذي لا يعرف كيف يتصرف في ماله لا يمنع من الانتفاع به، بل يرزق منه ويكسى، ولكنه لا يباح له التصرف فيه بما يتناقض مع المصلحة العامة، وقد علل تعالى ذلك بأنه قوام المجتمع، أي أن المال في الحقيقة، وإن كان بيد الغني إلا أن مصلحته تنزل للمجتمع، فهو كالمطر تختزنه السحب، وتنتفع به الأرض.
قلت: فهذا هو الفارق إذن بين الشيوعية والإسلام، فالشيوعية تريد أن تجعل من كل فرد سحابة تهطل على نفسها.
قال: وهو الفارق بين الإسلام والرأسمالية القارونية، فهي تريد أن تجمع مياه الدنيا جميعا في يد ثلة من الناس ترفعهم إلى أعالي السماء، ولا ترضى أن تنزل قطرة عليهم إلا بعد أن تستعبدهم وتستذلهم.
قلت: والإسلام؟
قال: الإسلام يرضى ببقاء السحاب في الأعالي، ولكنه يشترط عليه إنزال غيثه على الأسافل .. شرطا لا تفضلا ..
قلت: لقد ذكرتني بقوله صلى الله عليه وآله وسلم:(مثل القائم في حدود اللَّه والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة فصار بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم؛ فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً ولم نؤذ من فوقنا. فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً)([4])
قال: هذا مثال عظيم فيه دلالات عظيمة، فليس كل من امتلك شيئا جاز له التصرف فيه.
قلت: وكيف عبر الإسلام على هذا؟
قال: عبر عنه بالاستخلاف، ألسنا أمام باب الاستخلاف؟
قلت: ولم سمي كذلك؟
قال: لأنه التصور الذي يحمل حقيقة موقف الإسلام من المال وتملكه، وهذه الحقيقة هي التي تجر المالك إلى تصرفه في ماله وفق ما يطلبه المالك الأصلي للمال، ألا تعلم أن المالك الأصلي هو الله، وأن العبد مجرد وكيل لله؟
قلت: قد علمنا ذلك.
قال: وهل يجوز للوكيل أن يخالف تعليمات الموكل.
قلت: الوكيل الصالح لا يفعل ذلك.
قال: والإسلام يفرض هذا الصلاح على
الوكيل، فإن أبى حجر عليه، ومنعه من التصرف إلا وفق ما يرتضيه صاحب المال.
([1]) رواه أحمد وابن ماجة وغيرهما.
([2]) رواه ابن ماجه.
([3]) رواه الزبير بن بكار في أخبار المدينة والحاكم مرسلا.
([4]) رواه البخاري.