مفتاح الاستثمار

مفتاح الاستثمار

بعد أن قال ذلك فتح لنا الباب .. فرأينا ما لا يمكن وصفه.. لكنا ما إن سرنا قليلا حتى رأيت بابا عجيبا، قد علقت عليه لافتة في منتهى الجمال مكتوب عليها قوله تعالى:{ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}(التوبة: 34) ا

فسألت المعلم: ما محل هذه الآية الكريمة من هذا الباب؟

قال: هذه آية هذا الباب، فهذا باب الاستثمار، والكنز يناقض الاستثمار، ويحاربه ويمنع منه، فلذلك توجهت هذه الآية للتحذير من الكنز.

قلت: ولكن النصوص التفسيرية قد لا تسمح لك بهذا النوع من الاستدلال.

قال: فما قالوا؟

قلت: منهم من ذهب إلى أن هذه الآية الكريمة مختصة بأهل الكتاب، واستدلوا على ذلك بأن الله تعالى ذكر الكنز بعد قوله:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} (التوبة: 34)

قال: أخطأ من ذهب إلى هذا .. القرآن الكريم منزل على هذه الأمة، ولهذه الأمة، .. حتى ما ذكرته من الحديث عن الأحبار والرهبان لا يعني الأحبار والرهبان فقط، بل يشمل من زعم لنفسه التصدر في شؤون الدين للناس من العلماء والعباد سواء كان من بني إسرائيل أو من هذه الأمة أو من غيرهما من الأمم، فسنة الله في خلقه واحدة.

قلت: صدقت في هذا.. ولكن مع ذلك هناك من يحمل الآية محملا آخر قد يكون صحيحا، وهو يخرجها أيضا عن صحة الاستدلال بها في هذا الموضع.

قال: وما يقولون؟

قلت: يقولون بأن الكنز هو المال الذي لم تؤد زكاته، فإذا أديت الزكاة خرج عن كونه كنزا حتى لو كان ما كان،  وقد رووا في ذلك عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قوله:(من آتاه الله مالا فلم يؤد زكاته مثل له يوم القيامة شجاعا أقرع له زبيبتان يطوقه يوم القيامة ثم يأخذ بلهزمتيه – يعني شدقيه – ثم يقول أنا مالك أنا كنزك) ثم تلا:{ وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} (آل عمران:180)

ورووا في ذلك أيضا قوله صلى الله عليه وآله وسلم:( والذي نفسي بيده – أو والذي لا إله غيره أو كما حلف – ما من رجل تكون له إبل أو بقر أو غنم لا يؤدي حقها إلا أتي بها يوم القيامة أعظم ما تكون وأسمنه تطؤه بأخفافها وتنطحه بقرونها كلما جازت أخراها ردت عليه أولاها حتى يقضى بين الناس)([1])

قال: أنا لا أنفي أن لهذه الآية علاقة بالزكاة والصدقات .. ولكن لها علاقة بناحية أهم من ذلك كله.

قلت: وما هي؟

قال: الاستثمار .. هذه آية تحض على الاستثمار .. وهو أهم من إنفاق الصدقات والزكوات؟

قلت: هذا قول خطير .. كيف هذا؟

قال: المستثمر الصالح يخرج كل ما فضل على حاجته من ماله في مصلحة المسلمين، ولا يخرج ربع العشر فقط.

قلت: كيف؟

قال: سأضرب لك مثالا على ذلك .. أجبني: هل يمكن أن يمتلك الغني مالا يكفي مائة شخص من الناس؟

قلت: بل من الأغنياء من له من المال ما يكفي مائة مليون من الناس.

قال: فلو أن هذا الغني، ومثله من الأغنياء خبأوا أموالهم وكنزوها ولم يتجروا فيها، ولم يؤسسوا بها المعامل والمصانع، ولم يضربوا بها في الأرض، واكتفوا بطقطقة المسابح، وإخراج ربع العشر كل حول، أيكفي ذلك الناس؟

قلت: سيموت الناس حينها جوعا، قويهم وضعيفهم، بل إن الأغنياء أنفسهم قد لا تنفعهم أموالهم.

قال: فقوله تعالى:{ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} (التوبة: 34) لا يعني فقط عدم إنفاقها في الزكاة والصدقات، وإنما يعني أيضا، عدم الاتجار فيها واستثمارها، وهو ما عبرت عنه صيغة الكنز في القرآن الكريم.

قلت: أنت تفسر الإنفاق هنا بالاستثمار.

قال: الاستثمار نوع من أنواع الإنفاق، وهو إن وافق محله لا يختلف عن إنفاق الصدقات.

قلت: كيف .. ومال الصدقات يذهب عن صاحبه ولا يرجع، ومال الاستثمار يرجع مضاعفا.

قال: ألم تسمع قوله صلى الله عليه وآله وسلم:(رأيت ليلة أسري بي مكتوباً على باب الجنة الصدقة بعشر أمثالها والقرض بثمانية عشر)  فقلت لجبريل:(ما بال القرض أفضل من الصدقة؟) قال:(لأن السائل يسأل وعنده شيء، والمستقرض لا يستقرض إلا من حاجة)([2])

قلت: بلى، لقد أخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم في هذا الحديث بفضل القرض على الصدقة.

قال: وما سبب ذلك؟

قلت: أخبر صلى الله عليه وآله وسلم بأن القرض يغطي الحاجة بخلاف الصدقة التي قد لا تقع في محلها.

قال: ولكن .. أليس القرض يرجع إلى أصحابه؟

قلت: بلى.

قال: فكذلك الاسثمار.

قلت: وما محل القياس؟

قال: الاسثمار والقرض كلاهما يغطي حاجة، بل إن المستثمر أكثر تضحية من المقرض، لأنه قد يخسر في استثماره بخلاف المستقرض الذي ضمن عودة ماله.. وزيادة على ذلك كله، فإن الاستثمار يفيد أكثر الناس بخلاف القرض الذي لا يفيد إلا الفقراء .. وزيادة على ذلك ..

قاطعته قائلا: .. فإذن مال الفرد يصبح مالا للمجموع .. هو يملكه، وهم ينتفعون به.

قال: صدقت، وذلك ما تحدثنا عنه في الاستخلاف .. هو يملك المال، ولكن لا يستطيع التصرف فيه إلا بما تتطلبه مصلحة الجماعة.

قلت: فيمكن تفسير قوله تعالى:{ وَيَسْأَلونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ} (البقرة: 219) بهذا، فيعتبر الأمر بالإنفاق أمرا بالاستثمار، وبذلك ينتفي الخلاف في المسألة، وينتفي القول بنسخها.

قال: ذلك صحيح، وقد رويت أحاديث تكاد تكون صريحة في الدلالة على هذا المعنى، منها ما روي أنه مات رجل من أهل الصفة فوجد في بردته دينار. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:(كية)، ثم مات آخر فوجد له ديناران، فقال رسول الله r:(كيتان)([3])

قلت: ولكن ذلك علل بأنه إنما كان ذلك في صدر الإسلام، قبل أن يقرر الشرع ضبط المال وأداء حقه.

قال: لماذا تحرفون النصوص، من قال بأن هذا في صدر الإسلام، أو في آخر الإسلام؟ وأي فرق بين الأمرين؟

قلت: أأنت تحرم ادخار الأموال واكتنازها؟

قال: أنا لست مشرعا حتى أحلل أو حرم .. ولكني أنقل لك ما يقول القرآن الكريم، وهو صريح في الأمر بعدم ادخار الأموال .. لأنه لا يجوز لشخص أن يدخر ما ليس له .. أنسيت أن المال مال الله.. وأنه خلقه لعباده لتستقيم حياتهم به، فإذا خبأوه فقد منعوا عباده من تحقيق مقاصده .. سأضرب لك مثالا على هذا ..

أرأيت لو أن شخصا آتاه الله من الأدوية التي قال عنها النبي صلى الله عليه وآله وسلم:(لكل داء دواء فإذا أصيب دواء الداء برأ بإذن الله)([4]) فخبأه في سراديب له، ومنع الناس من استعماله، بحجة أن هذا الدواء مدخر لحاجته المستقبلية .. ثم إن الناس تضرروا بذلك .. أفيكون عمله هذا مباحا؟

قلت: لا .. هذا من أعظم المحرمات، ومن أدراه أنه سيمرض مرضا يحتاج معه إلى ذلك الدواء..

قال: فقس هذا على ذاك.

قلت: كيف ..

قال: أليس المال نوعا من أنواع الدواء؟

قلت: هذا يحتاج إلى برهان.

قال: أليس الدواء هو الذي يقاوم المرض فيعالجه؟

قلت: بلى.

قال: أليس الجوع نوعا من المرض، فالجسم بالجوع لا يقوم، والعقل لا يفكر؟

قلت: صحيح، وهم الآن يعتبرون سوء التغذية من أخطر أسباب الأمراض.

قال: وكيف يداوى سوء التغذية؟

قلت: بالمال.

قال: إذن .. أنت تقول بأن المال دواء.

قلت: بهذا الاعتبار هذا كلام صحيح.


([1])    رواه ابن حبان والنسائي وابن ماجة.

([2])    رواه الطبراني في الكبير.

([3])    رواه الطبري.

([4])    رواه مسلم.

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *