مفتاح الاجتهاد

بعد أن قال ذلك فتح لنا الباب .. لكنا ما إن سرنا قليلا حتى رأيت بابا عجيبا، قد علقت عليه صورة لرجل مستغرق في التأمل، يشعر بكل ما حوله، ولكنه في تأمله يبدوا كغائب عن كل ما حوله.
فسألت المعلم عنه، فقال: هذا رمز الاجتهاد.
قلت: لا أفهم رمزية هذا الرمز .. فهل هذا يبصر كل ما حوله .. أم هو غائب عن كل ما حوله .. هل هو خليط في الواقع .. أم هو مميز عنه .. هل هو معتزل كاعتزال المفكرين، أم هو مخالط للعامة والدهماء؟
قال: هو ذلك جميعا.
قلت: إن رسامي مدينتكم يتقنون فنون المتناقضات.
قال: من لم تكن له القدرة على التنسيق بين المتناقضات وفهمها لا يعيش السلام، ولا يرى السلام، ولا يحلم بأن يرى السلام.
قلت: كيف؟
قال: لأن السلام تتناسق فيه الموجودات ولا تتناقض .. وتتسالم ولا تتصارع ..
قلت: يا معلم اسمح لي، فقد أخطأت خطأ لغويا.
قال: وما هو؟
قلت: أنت قلت:(تتسالم) لتشاكله مع قولك (تتصارع)، وهذا غير صحيح في اللغة، فيجوز أن تقول:(تتصارع)، ولا يجوز لك أن تقول (تتسالم)
قال: ولماذا أجزتموه في الصراع، ولم تجيزوه في السلام؟
قال: هكذا نطقت العرب؟
قال: أكلام العرب وحي يوحى لا يجوز خلافه، أو لا يجوز القياس فيه، أو لا يجوز استنباط الألفاظ منه؟
قلت: في ذلك خلاف.
قال: فاجتهدوا أن ترفعوا الخلاف، فاللغة الحية لا ينبغي أن تميت نفسها بالتقليد.
قلت: فقد دخلنا إلى الحديث عن الاجتهاد في الشريعة من باب الاجتهاد في اللغة.
قال: الاجتهاد في الشريعة يقتضي الاجتهاد في كل شيء.
قلت: كيف؟
قال: سلف هذه الأمة الصالح تناولوا من الحضارات الأخرى، فطبعوها بطابعهم، ولم يأخذوها كما أخذتموها أنتم بحلوها ومرها وخيرها وشرها حتى ألسنة من أخذتموها منه ترطنون بها في دوركم وأسواقكم وجامعاتكم، وتفخرون بها ولا تفخرون باللغة التي حملت كتاب ربكم.
قلت: هذا صحيح .. ولكن ما علاقة هذا بالاجتهاد التشريعي؟
قال: هذا ميدانه .. فالشريعة لا نبحث عن أحكامها فقط، بل نحاول أن نطبق أحكامها بالبحث عن الكيفيات المناسبة والبدائل الصحيحة.
قلت: ولكن المجتهد في الشريعة يشبه المراقب، فدوره يقتصر على استنباط أحكام النوازل ليبين صحتها أو بطلانها، أو موافقتها للشريعة أو مخالفتها.
قال: المجتهد في الشريعة هو الذي لا يقول عن شيء:(إنه باطل) حتى يضع له من البدائل ما يجعل في الخلق شعورا باستغنائهم عن ذلك الباطل القليل إلى الحق الكثير الذي اجتهد المجتهد في البحث عنه.
قلت: ولكن ذلك قد لا يكون ميدان اختصاصه.
قال: فكيف يتكلم في شيء لا علاقة له به.
قلت: هو مستشار في ذلك.
قال: إنكم تعبرون عن الفقهاء بأنهم أطباء، وأن الناس في التجائهم إليهم كالمرضى.
قلت: أجل.
قال: أرأيت لو ذهبت إلى طبيب، أفيكتفي بإخبارك باسم مرضك، ثم يصرفك عنه، أم يعطيك العلاج؟
قلت: إن لم يعطني ما أعالج به علتي لم يستحق مني أي أجر؟
قال: فكيف تعتبر المجتهد مجتهدا، وهو لا يبحث عن الحلول المناسبة للوقائع المختلفة.
قلت: لا أزال أتصور أن هذا ليس ميدانا للفقهاء.
قال: سأضرب لك مثالا مما نحن فيه.
قلت: بالمثال سيتضح المقال.
قال: ألا ترى الفقراء عندكم ـ على حسب الإحصائيات التي تذكرها ـ من الكثرة بحيث يحتاجون بحثا شرعيا شاملا يعالج المشكلة من أساسها؟
قلت: أجل .. هذا صحيح.
قال: فما دور الفقهاء المجتهدين في هذا؟
قلت: يطالبون الأمة بالزكاة التي أمر الله تعالى بها.
قال: ويكتفون.
قلت: وبالصدقات.
قال: وهل ينظمون كلامهم في هذا بحيث يؤتي ثماره؟
قلت: لا .. بل يتيهون في أحيان كثيرة في الخلاف وفي نصرة المذاهب عن القضية التي يريدون الحديث فيها.
قال: فهل عولج الفقر؟
قلت: بل هو يزداد كل حين مع كوننا ـ بحمد الله ـ أصحاب ثروات هائلة نحسد عليها، ونغزى بسببها.
قال: فليخرج المجتهدون من صوامعهم والأبراج العاجية التي بنوها لأنفسهم، وليتخلصوا من القيود التي ربطوا أنفسهم بها، وليحيوا دين الله ويحببوه إلى الخلق، فإنهم إن لم يفعلوا كانوا حجبا بين الله وعباده.
قلت: يا معلم .. لا يزال في نفسي شيء .. فلا أرى أن على الفقيه هذه المهمة الثقيلة التي تكلفه بها، فحسبه أن يراجع أحكام الشريعة من مصادرها المختلفة، وهي كثيرة جدا لا يفي العمر ببعضها، فكيف تكلفه مع ذلك بالبحث عن البدائل؟
قال: اسمح لي .. وليسمح فقهاؤكم أن أقول لهم: لقد ضيعتم أوقاتا كثيرة فيما لا طائل وراءه .. همكم أن تختصروا الكتب لتجعلوها متونا ثم تشرحوها، ثم تعقبوا عليها، وتجعلوا جل جهودكم أن تفسروا تلك المتون وكأنها قرآن يتلى .. فكم من الأوقات ضاعت في الحفظ .. وكم من الأوقات ضاعت في الشرح .. كان يمكنكم بدلها أن تجدوا من الحلول أضعاف ما حفظتموه وتعبتم في شرحه.
قلت: ولكن هذا المنهج العلمي ضروري.
قال: والبدائل ضرورية .. ألم تعلم لماذا طلب يوسف u من الملك أن يتولى خزائن الأرض؟
قلت: لقد آنس من نفسه القدرة على حل المشكلة التي تنتظر المصريين ومن يحيط بهم، فرأى أن حلها لا يصلح له إلا أن يتولى بنفسه أمر التموين، قال تعالى على لسانه:{ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} (يوسف:55)، فقد ذكر خصلتين يحتاجهما من يقوم بهذه الوظيفة، وهي الحفظ ليحفظ الأرزاق التي تساق إليه، والعلم بكيفية حفظها وتوزيعها.
قال: فكيف حصل هذا؟
قلت: هذا اجتهاد اجتهده.
قال: ولكن الأنبياء مهمتهم حفظ الدين لا حفظ الدنيا.
قلت: هذا خاص بيوسف u.
قال: ما أسرع ما تفرون للتخصيص، ألا تعلم أنه لا تخصيص بدون مخصص..
قلت: فما تفهم ن هذه الآيات؟
قال: الله تعالى يأمر المجتهدين أن يبحثوا عن حلول الأزمات، ولا يكتفوا بوصفها .. لقد كان يوسف u قادار على الاكتفاء بتأويل الرؤيا، ولكن همته العالية أبت عليه أن يترك أمة من الناس تموت جوعا، فظل يفكر في حل الأزمة إلى أن وجد حلها.
قلت: فما الدور الذي تأمر الفقهاء بأدائه انطلاقا مما فهمت من قصة يوسف u.
قال: سأخرج بك قليلا إلى السياسة .. ما حديث فقهائكم فيها؟
قلت: حفظك الله يا معلم .. دعنا من السياسة .. فكم ألهت أمتي وشغلتهم عن مصالحهم؟
قال: فعن الاقتصاد .. فكنوز الفقراء تستدعي اقتصادا رائدا يغني الفقراء .. فهل اجتهد فقهاؤكم على مدى الأجيال في هذا الجانب.
قلت: هناك تقصير كبير في هذا الباب ..
قال: أسببه النصوص والمصادر التي تضيق عليكم البحث في هذا الجانب؟
قلت: لا .. النصوص والمصادر تتيح لنا مساحة كبرى من التفكير .. ولكن نصرة المذاهب وشرح الأقوال والخلاف والجدل شغلنا ..
قال: فلذلك قلت لك: لا يمكن أن تنهظوا قبل أن تتعلموا علم السلام.
قلت: وما علاقة علم السلام بهذا؟
قال: علم السلام يجعلك تبحث في الحقائق لا في الألفاظ، وفي الحلول لا في الجدل، وفي نصرة الله، والمستضعفين لا في نصرة الأقوال والقائلين.
قلت: لقد قلت لك يا معلم .. ليس هناك كتب في هذا العلم.
قال: بلى، كتاب ربكم وسنة نبيكم هو الخزانة التي تختز درر هذا العلم .. ففجروها .. واخرجوا من خلافاتكم، وابحثوا عن علاج لأدوائكم.