معلم السلام

جاءني معلم السلام في ذلك اليوم المبارك، وقد رآني أشكو من بعض الآلام، فقال: هلم بنا إلى مستشفى السلام، لتعالج أدواءك، وتبتسم لأنينك.
قلت: وهل للسلام مستشفى.. وبماذا يعالج؟
قال: لا مستشفى بلا سلام.. وكل مستشفى يخلو من السلام هو بيت للداء، لا بيت للدواء..
قلت: المستشفيات ـ يا معلم ـ خاضعة لقوانين معينة لا تعدوها، فهي تعالج العلل بما توصلت إليه الكيمياء الحديثة من تركيبات.
قال: هناك كيمياؤكم، وهي قد تداوي داء، وتعجز عن أدواء، وتنشر أدواء.. وهناك كيمياء السلام.. وهي دواء لكل علة، تنشر العافية المضمخة بعطر السكينة.
قلت: فأين مستشفى السلام؟ ومن أطباؤه؟ وكيف يعالج؟
قال: هذه رحلتنا في هذه الرسالة.
قلت: هل سنرحل من هنا؟ وفي أي طائرة؟ وليس لي جواز سفر.
قال: لا تحتاج إلى طائرة.. أما جواز سفرك فهو الإرادة، ألم تعلم أن الإرادة مفتاح لكل باب.. ونافذة لكل مغلق؟
قلت: عرفت الإرادة.. ولكني لم أر في حياتي شخصا يمتطي طائرة تسمى (الإرادة) ليرحل بها.
قال: من لم يرحل بطائرة الإرادة، فهو لم يفارق مكانه.
قلت: لا ـ يا معلم ـ هم يطيرون في الأجواء، فيقطعون البحار السبعة.
قال: ولكنهم لم يغادروا الأرض.
قلت: لا ـ يا معلم ـ لقد غادروها.. ورحلوا إلى القمر، ويوشك أن يرحلوا إلى المريخ..
قال: وما القمر؟.. وما المريخ؟.. كلها حجارة كحجارة جبالكم وقلوبكم.
قلت: فكيف نرحل؟
قال: قبل أن ترحل انظر إلى أعماقك التي تملتئ بهذا الأنين الذي ينشره الألم، وقل لي: ماذا ترى؟
قلت: أنزل إلى أعماقي !؟
قال: نعم.. لن ترحل إلا بعد أن تنزل.. ولن تنبت إلا بعد أن تدفن.. ولن تنتج إلا بعد أن تغرس.. ولن يقوم بنيانك إلا إذا حفرت أساسك.
قلت: فعن أي لؤلؤة أبحث في أعماقي؟
قال: لا تحتاج إلى اللآلئ، فهي حجارة كالحجارة، بل ابحث عن الظلام لتطفئه بالنور، وابحث عن الحراب التي توجهها إلى ربك لتكسرها باليقين.
نزلت إلى أعماقي، فرأيت أناتي حرابا متوجهة إلى السماء، تقول كل أنة بلسان فصيح: (لم يا رب تتفنن في إيلامي؟.. لم تملؤني بالحزن؟.. لم تملأ مشاعري بالأسى؟.. لم تغمرني بالإحباط؟)
صحت خائفا في وجهها: كفي يا أناتي.. أتدري من تخاطبين.. إنه الذي { لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ } (الانبياء:23)
كانت الأنات تردد توشيحاتها.. ولا تبالي بي، صحت: يا معلم.. أنقذني من هذه الأنات الكافرة.. فهي تريد أن تزج بي في هاوية جهنم.. إنها لا تستحي من الله.. إنها لا تخجل من ضعفها.
قال المعلم: أناتك هي أنت.. فأنت تختفي في ظل أناتك.
قلت: ولكني أقاومها.
قال: تقاومها بلسانك، وهو مجرد جارحة من جوارحك تتقن النفاق.. أما حقيقتك، فتصيح بما صاحت به أناتك..
قلت: فكيف أنقذ حقيقتي من هذا الانحدار الذي توقعني فيه أناتي؟
قال: هيا نرحل إلى مستشفى السلام لتنقذ روحك، وتنقذ معها حقيقتك، وعسى الله أن يهبك ما تقي به جسدك، فالله شكور حليم.
قلت: هيا نرحل..
قال: امتط إرادتك.. وسر معي.
امتطيت الإرادة التي بثها في الألم، فإذا بي، وفي أقل من طرفة عين أرى بنيانا عجيبا.. لست أدري هل نبت كما تنبت الأزهار، أم شيد كما تشيد القصور.. كان يشبه زهرة من الأزهار الجميلة.. لا تفوح منه إلا عطور الشفاء.
قلت للمعلم: أهذا مستشفى، أم فندق؟
قال: بل مستشفى.
قلت: ولكني لا أشم فيه رائحة المرض.
قال: هو مستشفى، فكيف تشم فيه روائح المرض؟
قلت: المستشفيات عندنا لها روائح مميزة.. تتقزز منها أنوف الأصحاء.
قال: تلك مستشفياتكم التي تتعامل معكم كما تتعامل مع الآلات.. لا مع الإنسان.
قلت: فما سر هذه العطور الزكية؟
قال: هي عطور الحقائق، فمستشفى السلام لا يعطيك وصفات لتشتري بها أدوية تعالج بها الخلل الذي أصاب جسدك، وإنما يعطيك الوصفات التي تعالج بها روحك التي تسببت في الخلل الذي حصل لجسدك.
قلت: أهي تعالج المنبع؟
قال: هي لا تتقن فنون الطلاء التي تتقنونها.
قلت: إذن سنرى في هذا المستشفى الحصون التي تحتمي بها الروح من ألم الداء.. فتسالم الله في بلائه..
قال: أجل.. وهي حصون أربعة..
قلت: فما هي؟
قال: حصن الغيبة، وحصن الأمل، وحصن الاستعانة، وحصن الاستعاذة.
قلت: فما الغيبة؟
قال: هي الغفلة عن الآلام بالحضور مع الله، أو بالرضى عن الله، أو بالسكون لمقادير الله، أو بالنظر في نعم الله.
قلت: فما الأمل؟
قال: انتظار الفرج من الله، والتعرف عليه ليمتلئ قلبك بالأمل الصادق.
قلت: فما الاستعانة؟
قال: هي الاستعانة بالله في رفع البلاء، أو في تلطيفه.
قلت: فما الاستعاذة؟
قال: الاستعاذة من شياطين الروح الذين ينفخون آلام اليأس والحزن.
قلت: فلم كانت هذه الأقسام أربعة؟
قال: هذه هي الأسس الأربع في التعامل مع البلاء، هي الأسس الصحيحة التي دلت عليها النصوص، وهي التي عاشها أهل الله في صحبتهم لما ينزل عليهم من أمطار البلاء، لكن سوء الفهم تطرق لبعض هذه القواعد، فانخرم عقد نظامها:
فخرج الغافلون من الثورة على البلاء إلى الثورة على المبتلي، فحاربوا الله وخاصموه.
وانشغل آخرون بالبلاء عن المبتلي، فحجبوا بحياة البلاء التي أصابت بعض جوارحهم عن العافية التي تنعم بها كل لطائفهم.
واختار آخرون أن يغفلوا بالمبتلي عن البلاء، لكن سوء الفهم طرق لهم أيضا، فاعتبروا الثورة على البلاء ثورة على المبتلي، ومنازعة الأقدار بالأقدار محاربة لأقدار الله، فحجب سوء فهمهم عن مقاصد أهل الله، وأساء المعرفة بالله.
قلت: فما علامة الشفاء التي تسمح للمريض بالخروج من المستشفى؟
قال: الابتسامة.. ابتسامة الأنين.
قلت: ألا تجرون له أي تحاليل للتأكد من سلامته؟
قال: أما تحاليلكم.. فلا نجريها.. ولكن لنا تحاليلنا الخاصة.
قلت: من أطباؤكم؟
قال: لكل قسم أطباؤه، وسنمر عليهم، ونتعرف بهم، ونستفيد منهم.
قلت: فما أنواع الأمراض التي يستقبلها هذا المستشفى؟
قال: كل الأمراض أمراض.. وكل الأنات أنات.
قلت: لم تفهمني.. نحن لدينا مستشفيات تخصصية.
قال: أنتم تتعاملون مع الجسد المركب.. ونحن نتعامل مع الحقيقة الواحدة، فلذلك لم نحتج لما احتجتم إليه.
قلت: فما نسبة الشفاء في هذا المستشفى؟
قال: سمعتكم تعبرون عن الكمال بالمائة.
ضحكت، وقلت: تقصد مائة بالمائة.
قال: إن أردت الشفاء التام لكل من يدخل، فهو تعبير صحيح.
قلت: فكم من المال يدفع من يدخل المستشفى؟
قال: ما نصحك من طلب منك مالك، ألا تعلم أن العفاف شرط من شروط السلام؟
قلت: فمن أين يعيش أطباء هذا المستشفى؟
قال: من عيون الحكمة النابعة من بحار السلام.
قلت: اعذرني.. لقد نسيت.. تصورت نفسي أجري حوارا مع مستشفى من مستشفياتنا.
***
رأيت أقواما مختلفين يدخولون هذا المستشفى، والكدورات تملأ نفوسهم، والظلمة تغمر وجوههم، قلت: من هؤلاء؟
قال: أنت.
قلت: كيف.. فأنا هو أنا.
قال: كلهم رأى في أعماقه ما رأيت في أعماقك، فجاء يبحث عن شفاء.
***
رأيت آخرين يخرجون مبتسمين تشرق أسارير وجوههم بالنور، وتسري في أوصالهم العافية، قلت: من هؤلاء؟
قال: هؤلاء الذين أذن لهم بالخروج من المستشفى، بعد أن امتلأت أرواحهم بحقائق السلام.
قلت: أطال مكوثهم؟
قال: منهم من يمكث ثانية.. ومنهم من يظل عشر سنين.. ومنهم من يموت في المستشفى.
قلت: فلماذا تفاوتوا.. ألا يقدم لهم علاج واحد؟
قال: تفاوتوا بتفاوت الهمم.. فمنهم من أنس وسكن، ولم يرحل.. ومنهم من ارتفعت همته.. فراح يبحث عن دور السلام الأخرى ليصعد من خلالها إلى الله.
قلت: فما تنصحني حتى لا أقع فيما وقعوا فيه؟
قال: بالرحلة الدائمة والعبور المستمر.. ضع بين عينيك دائما:{ وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى} (النجم:42)