عاشرا ـ الشاهد

قلت: فحدثني عن رحلتك العاشرة.
قال: خرجت من دمشق متوجها إلى المدينة المنورة.. تلك المدينة العظيمة التي شرفت بأن تكون المنارة التي امتد نورها إلى المشرق والمغرب، فمنها انطلق الدعاة إلى الله يحررون عباد الله، ويخرجونهم من الظلمات إلى النور، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام.
لا أكتمك أني بمجرد أن تنسمت أريج المدينة العطر حتى راح قلبي الذي امتلأ بحب حبيبه يشدو بما قال الشاعر الصالح:
أتيتُك
راجلاً وَوَدِدْتُ أني |
مَلَكْتُ سَوَاد عيني أَمْتَطيهِ | |
وما
لي لا أسِيرُ على المآقي |
إلى
قبرٍ رسولُ الله فيهِ |
أمام قبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. وفي ذلك المحل الذي تذوب فيه القلوب، وتنهمر العيون، وتتصل الأرض بالسماء، وينمحي الزمان والمكان.. أحسست بروحي ترفرف في الملأ الأعلى في عوالم الجمال التي لا كدورة فيها ولا شوائب.. وهناك.. وفي ظلال تلك السعادة التي ليس فوقها سعادة.. تذكرت أولئك الملايير من البشر الذين رضوا بأن يعيشوا في الظلمات تاركين هذه الأشعة العظيمة الجميلة الدافئة المنيرة التي أرسلها الله لتكون رحمة للعالمين.
تذكرتهم، فامتلأت هما وحزنا.. لا عليهم وحدهم.. بل علي وعلى جميع المسلمين الذين راحوا يكتمون ما أمر الله بنشره، ويشوهون ما أمر الله بتزيينه، فملأوا أعين العالم بالغشاوة التي تحول بينهم وبين منبع الحقائق، ومصدر النور، ومشعل الهداية، ومربع الرحمة.
في ذلك المحل تذكرت الآيات التي تخبرنا بأن هذا الدين ليس خاصا بنا، وتبشرنا بأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو رحمة للعالمين، ولا يحق لنا أن نحتكره لأنفسنا، فـ (المحتكر ملعون)([1])، و(لا يحتكر إلا خاطئ)([2])..
تذكرت قوله تعالى:{ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} (التوبة:33)، وقوله تعالى:{ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً} (الفتح:28)
وتذكرت تبشير الله لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم بدخول الناس في دين الله أفواجا:{ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً} (النصر:2)
وتذكرت تلك الأحاديث التي بشر فيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم البشرية بأنه سيأتي اليوم الذي ترمي فيه أغلال الشياطين لتتحرر من عبوديتها، ومن عبودية الأهواء والشهوات التي تنصرف بها عن حقيقتها.
تذكرت قوله صلى الله عليه وآله وسلم:(ليبلغن هذا الأمرُ ما بلغ الليلُ والنهار، ولا يترك الله بيت مَدَر ولا وَبَر إلا أدخله هذا الدين، بعِزِّ عزيز، أو بِذُلِّ ذليل، عزا يعز الله به الإسلام، وذلا يذل الله به الكفر)([3])
وصحت في نفسي من حيث لا أشعر: متى يأتي ذلك اليوم؟.. متى ترتفع الظلمات عن هذه البشرية التائهة؟.. متى تتنزل أنوار الهداية؟.. متى يدخل الناس في دين الله أفواجا؟
بينما أنا كذلك أخاطب نفسي.. شعرت بيد تربت على كتفي وتقول لي: تعال.. فقد آن لك أن تلقى من يسلك القفار، ويقطع البحار، لينشر الأنوار.
قلت: تقصد الفم العاشر.. ذلك الذي أبحث عنه.
قال: إن كان الفم العاشر هو فم (الشاهد).. فهو ما سأدلك عليه؟
قلت: عرفت الحكيم والواعظ والمحاور والمعلم والقدوة والمربي والخطيب والمفتي والمحتسب.. فما الشاهد؟
قال: ألم تقرأ قوله تعالى عن وظائف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:{ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً} (الأحزاب:45)، وقوله تعالى:{ إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شَاهِداً عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولاً} (المزمل:15)؟
قلت: بلى.. وقرأت مثلها قوله تعالى عن وظائف الأمة:{ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} (البقرة: 143)، وقوله تعالى:{ وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} (الحج:78)
قرأت هذا.. فما يعني؟
قال: هذا يعني أن الشهادة وظيفة من أعظم وظائف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ووظيفة من أعظم وظائف الأمة([4]).
قلت: أعرف الشهادة التي هي الموت في سبيل الله.. وأعرف الشهادة التي ترتبط بالقضاء.. وأعرف الشهادة التي تعني الحضور.. فما الشهادة التي ذكرت في هذا المحل؟
قال: هي جميع ذلك.. وهي غير ذلك..
قلت: لم أفهم.
قال: لقد كان الصالحون يذكرون أربع مراحل لسير السالكين: أولها السير من النفس إلى الله، وهي رحلة البحث عن الله.. وثانيها: سير الإنسان من الله في الله، بحثا عن معرفة الله.. وثالثها: سير الإنسان مع الله إلى خلق الله.. ورابعها: سير الإنسان مع الله بين خلق الله، لإنقاذ خلق الله.
قلت: فأي سير منها يحقق الشهادة التي هي وظيفة الأمة؟
قال: هي المرحلة الأخيرة من سير السالكين.. وهي رحلتهم لإنقاذ خلق الله من عبودية الشيطان.
قلت: ولكن هذه وظيفة الحاكم لا وظيفة الداعية.. فالحاكم هو الذي يسير الجيوش التي تفتح أقطار الأرض، وتجعلها بأيدي المسلمين.
قال: لا.. ليست هذه هي الشهادة.. الشهادة أخطر من هذا.. والحاكم الصالح لا يبحث عن الاستيلاء على الأراضي، وإنما يبحث عن الاستيلاء على العقول والقلوب.
قلت: أجل.. فقد نصت النصوص القطعية على حرية الاعتقاد والتعبد، فلكل ذي دين دينه ومذهبه، لا يُجبر على تركه إلى غيره، ولا يُضغط عليه ليتحول منه إلى الإسلام.
قال: أجل.. فالهداية مصلحة شخصية، والضلال مضرة شخصية، ودور المؤمن هو الدعوة للمصلحة والتنفير من المضرة، لا الإلزام بذلك، قال تعالى:{ قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيل}(يونس:108)وقال تعالى:{ إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنْ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ}(الزمر:41)
والقرآن الكريم يخبرنا أن دور المؤمن هو الدعوة لا السيطرة على من يدعوه أو إكراهه، قال تعالى:{ فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ} (عبس:21)
وهو يخبرنا أن الإيمان والكفر حرية شخصية تتبع مشيئة صاحبها لا الإلزام الخارجي، قال تعالى:{ وَقُلْ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا}(الكهف:29)
قلت: أعرف هذا.. ولكني لا أزال أتساءل عن سر الشهادة التي هي وظيفة هذه الأمة نحو سائر الأمم.
قال: الشهادة تتحقق بأن تكون الأمة نموذجا صالحا تهتدي بهديها الأمم، بل تحن لسلوك سبيلها.
قلت: فكيف تتحقق هذه الشهادة في منتهى كمالها؟
قال: تعال معي لأدلك على من يعلمك علوم ذلك.
قلت: أتريد أن تبعدني من هذا المحل الطيب الذي لا حياة للقلب إلا به؟
قال: اجعل هذا المحل في قلبك، وسر حيث شئت، أنسيت ما قال لك معلم الهداية؟
قلت: لقد قال لي:(سر في الأرض.. فلن ينال الهداية ولا علوم الهداية إلا من سار في الأرض، وخبر البشر، وتعلم لغة الطير، وسلك مسالك النحل، وسكن قرى النمل)
قال: فسر.. فبالله إن تسر تر العجائب.
***
سرت مع الرجل في بعض الأحياء العتيقة من المدينة المنورة إلى أن دخلنا دارا لم تكن تبعد كثيرا عن مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. ولكنها في ظاهرها كانت دارا غريبة.. فلم تكن تشبه أي دار من تلك الدور المحيطة بها.. لقد كانت وكأنها من عالم آخر.
قلت: أهي دار عتيقة من تلك الدور التي لا نزال نرى مثلها في الآثار؟
قال: لا.. بل هي دار عصرية حديثة.. بل هي أكثر تطورا من جميع ما رأيته من دور.. ومع ذلك، فهي تحتفظ بجميع حلل الأصالة..
قلت: دعني من الدار.. وحدثني عما رأيت داخلها.
قال: لقد رأيت سبعة رجال عليهم سيما الورثة.. جلس كل واحد منهم في ناحية من النواحي، وأمامه الكثير من الأجهزة المتطوره.. وهو يتعامل معها بانفعال عجيب حتى أنهم لم يلتفتوا إلي، بل لم يرني أحد منهم.
لقد خطر على بالي، وأنا أراهم أولئك العلماء والباحثين الذين يجلسون أمام مكاتبهم وأجهزتهم، وهم يرقبون باهتمام وحرص أي صاروخ يطلق، أو أي مركبة تريد أن تنفذ من أقطار الأرض.
قلت لصاحبي: أهذه وكالة فضاء؟
قال: لا.. هذه وكالة هداية.. وهي مختصة بالشهادة.
قلت: ومن هؤلاء؟
قال: هؤلاء مهندسو شهادة.. كل عقل منهم لا يفكر إلا فيها.. وكل فم فيهم لا ينطق إلا بها.
قلت: فهم انتحاريون إذن؟
قال: لا.. بل حياتيون.. إن أفكارهم لا تحل بموضع إلا ملأته بأنوار الهداية والإيمان والحياة.. إنهم لا ينشرون الدمار بل ينشرون الحياة.
قلت: لكأني أعرف وجوههم.. وكأني لا أعرفها.
قال: نعم هم الظاهرون الباطنون..
قلت: فعرفني بهم.
أشار إلى أحدهم، وقال: هذا القمي([5])وهو رجل لا همة له إلا توحيد المسلمين، وتحقيق التآلف بينهم، فقد رأى أن فرقتهم هي السبب في انشغال بعضهم ببعض، وترك ما طلب منهم من دعوة الأمم إلى الله، وقد رأى أنه لا يمكن أن يدخل الناس في دين الله أفواجا، وهم يرون المسلمين يتصارعون تصارع الديكة، فراح يبحث عن علل الفرقة، وعن أدوية الوحدة والتقارب.
أشار إلى آخر، وقال: ذاك الكواكبي([6]).. وهو رجل ذاق مرارة الاستبداد، فراح ينفر منه، ويدعو إلى العدالة التي جاء بها الإسلام.. فلا يمكن أن يدخل الناس في دين الله أفواجا، وهم يرون حكام المسلمين أباطرة وقياصرة وأكاسرة ونماردة.
أشار إلى آخر، وقال: ذاك محمد إقبال([7])..
قلت: أعرفه.. الشاعر المعروف.. ما الذي جاء به إلى هنا.. لقد كنت أحسبه ميتا.
قال: مثله لا يموت.. لقد جاء إلى هنا ليهندس للشهادة.. لقد رأى ما عليه المسلمون من ذلة ومهانة وعجز.. فراح يبحث عن أسباب ذلك، ويدعو إلى علاجه.. لقد علم أنه لا يمكن أن يدخل الناس في دين الله أفواجا، وهم يرون المسلمين بذلك الذل وتلك المهانة.
أشار إلى آخر، وقال: ذاك مرتضى مطهري ([8]).. وهو رجل ذاب في الشريعة، فصار مرآة لأحكامها، ومشعلا من مشاعل الدعوة إليها.. لقد رأى أن سبب انصراف الناس عن الدخول في دين الله أفواجا ما عليه الحكومات من انحراف عن شريعة الله.. فلذلك نذر حياته على الدعوة لتصحيح هذا الانحراف، وتقويم هذا الاعوجاج.
أشار إلى آخر، وقال: ذاك شكيب أرسلان([9]).. لقد رأى ما عليه المسلمون من تخلف عن ركب الحضارة.. فراح يبحث عن أسباب ذلك، ويدعو إلى علاجه.. فقد علم أنه لا يمكن أن يدخل الناس في دين الله أفواجا، وهم يرون المسلمين بذلك التخلف.
أشار إلى آخر، وقال: ذاك الشعراوي([10]).. لقد رأى أن ما عليه المسلمون من بعد عن كتاب ربهم، وعن بحار العلوم التي يبشر بها هو السبب في ذلك الجهل والتخلف الذي قعد بهم عن وظيفة الشهادة التي كلفوا بها.. فراح يبحث عن السبل التي يبلغ بها كلام ربه، ورسالة ربه ليدخل الناس من خلال أنوارها في دين الله أفواجا.
أشار إلى آخر، وقال: ذاك ديدات([11]).. لقد رأى أن ما عليه المسلمون من جهل بما يعتقده البشر من عقائد وأفكار هو السبب في قعودهم عن الدعوة إلى الله، ومواجهة الغافلين بالحجة والبرهان، ولجوئهم بدل ذلك إلى السيف والسنان.. فراح يعلمهم أسرار المسايفة بالحجة والبرهان، بدل المسايفة بالسيف والسنان.
بينما نحن كذلك، إذا بالقمي يقوم من مجلسه، وهو في غاية السعادة والسرور، ويصيح في الجمع: لقد وجدت الحل.. لن يرفضه أحد.. سيقبله الكل.. وستنحل العقدة.
استبشرت الجماعة جميعا لاستبشاره، وراحت تكبر، ثم تحاوره فيما جاء به.. سأنقل لك بعض ما ينفعك من الحوار الذي دار بين القمي وبين مهندسي الشهادة.
قال مطهري: نحن نعلم صدقك في بحثك يا سيدنا الفاضل، يا حبيب آل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ونعلم أن الله لن يضيع جهد باحث.. فاذكر لنا ما وجدت، وبشرنا عسانا نستفيد مما وصلت إليه في إزالة العواقب التي تحول بيننا وبين ما نريده.
قال القمي: لقد وجدت أن الصخرة الكؤود التي تقف بيننا وبين الشهادة التي أمرنا بها هي تفرقنا واختلافنا وانشغال بعضنا ببعض.. لقد صرنا كأولئك الأطفال الأغبياء الذين انشغلوا عن واجباتهم بالصراع بينهم.. فراح عدوهم يستغل ذلك الصراع لينشر كل فتنة، ويقتل كل إصلاح.
قال الشعراوي: صدقت في هذا.. لقد أشار القرآن الكريم إلى هذا النوع من عواقب الفرقة، فقال:{ لا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلَّا فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ} (الحشر:14)
انظروا حكمة القرآن الكريم.. لقد اعتبر كل ما حصل لهؤلاء من رعب وضعف وذلة وعدم عقل هو ما كان بينهم من خلاف..
ولهذا نرى النصوص القرآنية الكثيرة تأمرنا بالتآلف، وتحذرنا من عواقب الاختلاف قال تعالى:{ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} (آل عمران:103)
وقال تعالى:{ إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} (الأنعام:159)
وقال:{ مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} (الروم:32)
وقال:{ إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} (الانبياء:92)
وقال:{ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} (لأنفال:46)
قال شكيب([12]): صدقت.. لقد جاء محمد صلى الله عليه وآله وسلم بهذا الدين رسولا إلى الناس جميعاً، وكان من أبرز مبادئه التسوية بين جميع الشعوب، وعدم الاعتراف بالفروق التي ألف الناس أن يعترفوا بها، ويتعاملوا على أساسها، وكانت بعثته صلى الله عليه وآله وسلم في وقت بلغت فيه العصبيات أوجها، فكانت كل أمة تعتز بنفسها، وتعتد بما عندها، وتعتبر جنسها هو خير الأجناس، وكان العرب أنفسهم منقسمين قبائل وأفخاذاً وبطوناً، وكل قبيلة تعتقد أنها خير القبائل، وتحتفظ بأنسابها، ولا تختلط بغيرها، حتى كان منهم قبائل لا تُصهر إلى غيرها، ولا يصهر غيرها إليها، وسمّوا أنفسهم (بالجَمَرات) تشبيها بالنار التي تتقى، ولا يجرؤ أحد على مسها.
فلما جاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هدم ذلك كله، ونادى فيهم بقول ربه:{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (الحجرات:13)، ثم كان تصرفه صلى الله عليه وآله وسلم في سياسة المؤمنين مبنياً على هذا المبدأ السامي: مبدأ إهدار العصبيات، وهدم عوامل التفرق والتقاطع حتى ألف الله به بين جميع القلوب، وبنى من هذه اللبنات المفككة صرحاً قوياً متماسكا استندت اليه دعوة الحق، واحتمى به الإسلام وهو ناشئ غض، حتى جاء نصر الله والفتح، ودخل الناس في دين الله أفواجاً.
لقد امتن الله بذلك على رسوله صلى الله عليه وآله وسلم وعلى المؤمنين، فقال:{ وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (63)}(لأنفال)، وقال:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102) وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103)} (آل عمران)..
قاطعه الشعراوي، والسرور باد على وجهه، وهو يقول، وبيده مصحفه الصغير يقرأ منه: انظروا.. إن هذه الآية التي تبين نعمة الله على المؤمنين بالتآليف والتآخي عقبت بهذه الآية التي تأمر بأداء ما تتطلبه الشهادة من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.. اسمعوا.. قال تعالى:{ وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } (آل عمران: 104)
ثم عقبت هذه الآية بقوله تعالى:{ وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } (آل عمران:105)
وبذلك حصرت آية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بما يدل على وجوب الألفة وحرمة الفرقة.. وكأنها تقول لنا:(إن من لم يستطع أن يملأ عالمه بالسلام والألفة لا يستطيع أن يملأ عوالم غيره بها.. وإن من لم يستطع أن يرتب بيته، فهو أعجر من أن يرتب بيوت غيره)
قال ذلك، ثم التفت بأدب إلى شكيب، وقال: اعذرني.. فأنت تعلم طبعي.. واصل حديثك..
ابتسم شكيب، وقال: بورك فيك وفي هذه اللطيفة التي ذكرتها..
لقد ذكرت لكم أن النصوص المقدسة كلها تحض على الألفة وتعتبرها من نعم الله العظمى على عباده.. وهكذا ظل الأمر في حياة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم..
فلما اختار الله رسوله صلى الله عليه وآله وسلم الى جواره .. فعلت السياسة فعلها، وعادت العصبيات إلى سابق عهدها، فتعددت الأحزاب والفرق والطوائف، وكثرت الخلافات المسائل الجدلية، وترامى المسلمون بالتهم، وساءت بينهم الظنون، ومشى كل فريق في طريق، فضلّت بهم السبل عن الطريق السوي، وذاق بعضهم بأس بعض.
تلك حال المسلمين اليوم، وإن داءهم لقديم منذ تدابروا وتقاطعوا وصاروا شيعاً، يصدق عليهم قوله تعالى:{ فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} (المؤمنون:53)
ولا صلاح لهم، ولا شفاء من دائهم، إلا بأن يعودوا كما بدأهم الله أمة واحدة لا فرق بين شعوبهم، ولا تناحر بين طوائفهم، ولا جهالة تصور الشيعي للسني، أو السني للشيعي، عدوا يظن به الظنون ويخافه على دينه وعقيدتة، ويتحفظ فيما يقرأ له من كتاب، أو ينقل عنه من رأي.
قال مطهري: صدقت.. فالتنازع والتقاطع مفسد للبيوت والأسر، مهلك للشعوب والأمم، مبدد للأموال والثروات، ذلك أنه إذا دب الخلاف، واشتدت الخصومة، فسدت النيات، وتغيرت القلوب، وتدابرت الأجساد، فوقعت الحالقة التي لا تحلق الشعر، ولكن تحلق الدين، كما قال صلى الله عليه وآله وسلم:(دب إليكم داء الأمم قبلكم: الحسد والبغضاء، والبغضاء هي الحالقة، أما إني لا أقول: تحلق الشعر، ولكن تحلق الدين)([13])، وقال صلى الله عليه وآله وسلم:(والذي نفسي بيده! لا تدخلوا الجنة حتى تسلموا، ولا تسلموا حتى تحابوا، وافشو السلام تحابوا، وإياكم والبغضة ؛ فإنها هي الحالقة، لا أقول لكم: تحلق الشعر، ولكن تحلق الدين)([14])
فإذا وقع التدابر أظلمت الوجوه، وساء ظن المسلم بأخيه (والظن أكذب الحديث)، وتفوهت الأفواه بفاحش القول وألوان البهت، وربما امتدت الجوارح بالضرب والقتل وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم:(المسلم أخو المسلم لا يخونه ولا يكذبه ولا يخذله كل المسلم على المسلم حرام عرضه وماله ودمه التقوى ههنا وأشار إلى القلب بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم)([15])، وقال:(المؤمن من آمنه الناس والمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده والمهاجر من هجر السوء، والذى نفسي بيده لا يدخل الجنة عبد لا يامن جاره بوايقه)([16])
فإذا وقع ما نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عنه فسد العباد وساءت البلاد، وفشلت الأمة، وذهب ريحها، كما قال تعالى:{ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ } (الأنفال:46)
ونتيجة لهذه المفاسد العظيمة والعواقب الوخيمة كان الصلح بين المتخصامين من أجل القربات وأعظم الطاعات، حث عليه الشارع ورغب فيه، وجعله خير ما يتناجى به المتناجون، قال تعالى:{ لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً } (النساء:114)
قال الشعراوي: صدقت.. فما ورد في النصوص من الصلح لا ينطبق بكماله إلا في هذا النوع من الصلح بين المسلمين.. فما ورد في النصوص من التحذير من النميمة والغيبة والحقد والحسد لا يشمل ما يرتبط منها بالأفراد فقط، فهو يسير حقير بجنب ما يرتبط منها بالأمة جميعا.
لقد تأملت ما ورد في النصوص من التحذير من النميمة وبيان خطورتها، فعلمت أن ذلك ليس مرتبطا بالنميمة بين الأفراد فقط، بل أخطر النميمة هي التي تصدع وحدة الأمة، وتفرق صفها، وتنشر العداوة بينها.
لقد ورد في الحديث قوله صلى الله عليه وآله وسلم:(لا يدخل الجنة نمام)([17]).. وقال صلى الله عليه وآله وسلم:(النميمة والشتيمة والحمية في النار)([18])، وفي لفظ:(النميمة والحقد في النار لا يجتمعان في قلب مسلم)
انظروا.. كيف جمع صلى الله عليه وآله وسلم بين الحقد والنميمة.. وهؤلاء الذين ينشرون الفرقة بين المؤمنين لا يصدرون إلا عن حقد يسمونه دينا، وغضب للنفس يسترونه باسم الغضب لله؟
وجمع صلى الله عليه وآله وسلم بين النميمة والحسد، فقال:(ليس مني ذو حسد ولا نميمة ولا كهانة ولا أنا منه)، ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قوله تعالى:{ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً } (الأحزاب:58)([19])
ولهذا، فإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم اعتبر هؤلاء المجرمين شر عباد الله، فقال:(خيار عباد الله الذين إذا رؤوا ذكر الله، وشرار عباد الله المشاءون بالنميمة، المفرقون بين الأحبة، الباغون للبرآء العنت)([20])، وفي رواية:(المفسدون بين الأحبة)([21])، وفي رواية:(الهمازون واللمازون والمشاءون بالنميمة الباغون للبرآء العيب يحشرهم الله في وجوه الكلاب)([22])
وفي حديث آخر قال صلى الله عليه وآله وسلم:(ألا أنبئكم بشراركم؟) قالوا: بلى إن شئت يا رسول الله، قال: (شراركم الذي ينزل وحده، ويجلد عبده، ويمنع رفده، أفلا أنبئكم بشر من ذلك؟) قالوا: بلى إن شئت يا رسول الله، قال: من يبغض الناس ويبغضونه. قال:(أفلا أنبئكم بشر من ذلك؟) قالوا: بلى إن شئت يا رسول الله، قال:(الذين لا يقيلون عثرة، ولا يقبلون معذرة، ولا يغفرون ذنبا) قال:(أفلا أنبئكم بشر من ذلك؟) قالوا: بلى يا رسول الله، قال:(من لا يرجى خيره ولا يؤمن شره)([23])
صاح شكيب: بورك فيك ـ يا شيخنا ـ والله لكأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يتحدث عن أولئك الذين ندبوا أنفسهم للتفريق بين المؤمنين.. فهم لا هم لهم إلا تتبع العورات.. إن وجدوا حسنة كتموها، وإن وجدوا سيئة سارعوا إلى نشرها من غير تثبت ولا تحقيق.
قال مطهري: لقد بلغ الحقد ببعضهم أن راح ينسب لإخواننا من الشيعة القول بأن القرآن الكريم محرف، غير مدرك خطورة ما يقوله مع أن كل علمائهم وأوليائهم وعوامهم لا يقرؤون من القرآن إلا ما نقرؤه جميعا([24])، ولا يعرفون من الدين إلا ما نعرفه.
قال الشعراوي: ولهذا، فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم اعتبر إصلاح ذات بين المسلمين من أعظم أعمال الخير.. هذا إذا كان بين أفراد، فكيف إن كان بين طوائف المسلمين ومذاهبهم وفرقهم..
لقد ورد في الحديث قوله صلى الله عليه وآله وسلم:(ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة؟ قالوا: بلى، قال: (إصلاح ذات البين، فإن إفساد ذات البين هي الحالقة)([25])، وفي رواية:(هي الحالقة، لا أقول تحلق الشعر، ولكن تحلق الدين)
قال القمي: بورك فيكم جميعا.. وقد وجدت من خلال بحثي في علاج هذا أن سببه هو ذلك الفهم المحدود للدين، الممتلئ بالتعصب الذي يرى الأشياء بمنظار واحد يلغي ما عداه مع أن ما عداه قد يكون عين ما ينكر عليه.
قال إقبال: صدقت.. لقد ذكرتني بقصة ذكرها العارف الكبير مولانا جلال الدين البلخي الرومي في كتابه (المثنوى) قال: كان أربعة من الفقراء جالسين في الطريق، وكل منهم من بلد، أحدهم رومي، والثاني فارسي، والثالث عربي، والرابع تركي، ومرّ عليهم محسن، فأعطاهم قطعة من النقد غير قابلة للتجزئة، ومن هنا بدا الخلاف بينهم، يريد كل منهم أن يجعل الآخرين على اتباع رأيه في التصرف في هذا النحو، أما الرومي فقال نشترى بها (رستافيل)، والفارسي قال: أنا لا أرى من (الانگور) بديلا، وقال العربي: لا والله لا نشتري به إلاّ (عنبا)، وقال التركي متشددا في لهجة صارمة: أن الشيء الوحيد الذي أرضى به هو: (اوزوم)، أما ما سواه فاني لا أوافق عليه أبدا، وجرَّ الكلام بين الأربعة إلى الخصام، وكاد يستفحل الأمر لولا أن مرَّ عليهم رجل يعرف لغاتهم جميعاً، وتدخل للحكم بينهم.
فبعد أن سمع كلامهم جميعا، وشاهد ما أبداه كل منهم من تشدد في موقفه أخذ منهم النقد، واشترى به شيئا، وما أن عرضه عليهم حتّى رأى كل منهم فيه طلبته، قال الرومي هذا هو (رستافيل) الذي طلبته، وقال الفارسي: هذا هو (الانگور) وقال العربي: الحمد لله الذي أتاني بما طلبت، وقال التركي: هذا هو (اوزوم) الذي طلبته، وقد ظهر أن كلا منهم كان يطلب العنب من غير أن يعرف كل واحد منهم أنه هو بعينه ما يطلبه أصحابه.
قال الكواكبي: ومما ورد في الحديث مما يشير إلى ذلك ما روي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لأصحابه يوم بني قريظة: (لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة)، فأدركتهم العصر في الطريق، فقال قوم: لا نصلي إلا في بني قريظة وفاتتهم العصر، وقال قوم: لم يُرِدْ منا تأخير الصلاة، فصلوا في الطريق، فلم يعب صلى الله عليه وآله وسلم واحداً من الطائفتين([26]).
قال مطهري([27]): إن إيصال مثل هذه المفاهيم لعامة المسلمين وخاصتهم يحتاج إلى تعريفهم بحكمة الله في خلقه.. فقد اقتضت حكمة اللّه في خلقه أن جعل الناس مختلفين في ألوانهم وألسنتهم ومداركهم وتصوراتهم، ولكن اللّه جل شأنه لم يرد أن يكون هذا الاختلاف بين الناس مدعاة الى النزاع والشقاق، بل جعله دافعاً الى التآلف والوئام، وهذا ما يعبر عنه القرآن الكريم في قوله تعالى:{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (الحجرات:13)
فهذه الآية الكريمة تلفت نظر الناس جميعاً الى حقيقة ثابتة لاجدال فيها، وهي وحدة الأصل الإنساني، ثم تبين أن اللّه أراد ان يجعل من ذرية آدم شعوباً وجماعات مختلفة:{ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (119)} (هود)
ولكن هذا الاختلاف ـ الذي هو حقيقة واقعة لا شك فيها ـ ينبغي أن يكون محرّكاً للناس نحو التعارف والتآلف كما تشير الآية الكريمة { لِتَعَارَفُوا }، وهذا التعارف من شأنه أن يكون مبنيا على الاحترام المتبادل والفهم المتبادل ومؤدياً الى التعاون المشترك فيما فيه خير الجميع.
وإذا كان هذا هو الحال بالنسبة للناس على اختلاف ألسنتهم وألوانهم وأديانهم وحضاراتهم، فمن باب أولى ينبغي أن يكون ذلك شأن الأمة الإسلامية التي ينبغي عليها أن تضع ذلك في اعتبارها وفي مقدمة أولوياتها. فقد أراد اللّه لها أن تكون أمة واحدة، كما قال تعالى:{ إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} (الانبياء:92)
ومن هنا ينبغي على المسلمين أن يجتمعوا على ما اتفقوا عليه، وأن يعذر بعضهم بعضا فيما اختلفوا فيه.
واذا كان اختلاف وجهات النظر في الامور الفرعية أمراً جائزاً في إطار مبدأ الاجتهاد الإسلامي المشروع، فليس هناك مبرر على الاطلاق لان تكون هذه الاختلافات الفرعية عقبة في طريق تحقيق وحدة الأمة الإسلامية، فقد أمرنا أن نعتصم بحبل اللّه المتين، كما قال تعالى:{ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} (آل عمران: 103)، ونهينا عن أن نبدد جهودنا وطاقاتنا، لأن هذا لن يخدم الا أعداء الاسلام { وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ } (لأنفال: 46)
وليس هناك مسلم مخلص لدينه يقبل أن يكون عنصرا يخدم أعداء الدين.
قال القمي: ومن هنا ينبغي على عقلاء الأمة وعلمائها أن يعملوا على توحيد الصفوف وبذل الجهود المتواصلة في سبيل إزالة العقبات التي تعترض طريق الأمة نحو التقدم والازدهار.
ومن هذه العقبات تلك الآثار السلبية للخلافات المذهبية بين السنة والشيعة، أو بين بعض الطوائف داخل إطار كل منهما.
وقد آن الأوان لأن تختفي مظاهر هذا الخلاف التاريخي، وتزول عوامل النزاع والشقاق بين طوائف الأمة.
ولست أقصد بذلك أن يتغلب مذهب على مذهب، أو أن ينتصر فريق على فريق.. فالقضية أكبر من ذلك بكثير.. إنّها بالدرجة الأولى قضية الإسلام كدين، وقضية الأمة الإسلامية التي (تداعت عليها الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها)([28])كما أخبر بذلك رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم، وكما هو واقع أمام أعيننا في عالم اليوم، فحقوق المسلمين في كل مكان مهدورة، وأعراضهم في مناطق عديدة منتهكة، ودماؤهم تراق ليل نهار ظلما وعدوانا، وهم عاجزون عن فعل شيء غير الشجب والاستنكار والإدانة.
ومن هنا فإن المسلمين اليوم في أشد الحاجة ـ أكثر من أي وقت مضى ـ إلى توحيد صفوفهم، وتنسيق جهودهم، ودفن خلافاتهم على جميع الأصعدة، لان قضيتهم في عصرنا الحاضر قضية مصيرية، هي أن يكونوا أو لا يكونوا.
قال الشعراوي([29]): لقد ذكرني كلامك هذا بأيام جميلة عشتها في الأزهر الشريف صحبة علماء أجلاء كان التفكير في وحدة الأمة عندهم أول الأوليات، وأصل الأصول.. فلذلك نبذوا كل تعصب، وتحرروا كل قيد، وجعلوا انتماءهم للإسلام هو الانتماء الأعلى الذي لا ينافحون إلا عنه، ولا ينتصرون إلا له.
في تلك الأيام.. في الأربعينيات من هذا القرن.. شهدت القاهرة حركة تقريبية رائدة، انطلقت من دار التقريب، وجماعة التقريب في القاهرة، وضعت هذه الحركة لها خطة عمل مدروسة في حقل الأصول والفروع لنشر ثقافة التقريب، وحققت عبر مجلتها (رسالة الإسلام) نجاحا في إزالة الحواجز النفسية، وتصحيح المفاهيم لدى السنة والشيعة..
سأقص عليكم القصة من البداية.. لعلنا نجد من يحييها من جديد.. ليحيي بإحيائها وحدة الأمة وعزتها وكرامتها:
في تلك الأيام الجميلة قدم العلامة محمّد تقي القمي، الذي قدم من إيران إلى مصر لأول مرة في عام 1937 م، والتقى فيها بكبار شيوخها، خصوصا الشيخين محمّد مصطفى المراغي ـ شيخ الأزهر ـ وعبد المجيد سليم الذي كان مفتيا، ودرس في الأزهر لمدة سنتين، وشجعه اللقاء مع شيوخ الأزهر على طرح فكرة التقريب، التي خرجت إلى حيز الوجود حين عاد الشيخ القمي إلى مصر لكي يستقر بها في سنة 1946 م، ويؤسس مع نخبة ممتازة من الشخصيات المصرية (دار التقريب بين المذاهب)
لقد شكل أول مجلس إدارة لدار التقريب في عام 1947م، وضم عشرين عضواً من تلك الكوكبة التي التقت على الفكرة وتحمست لها في مصر، وكان معهم عدد آخر من العلماء يمثلون الشيعة الإمامية والزيدية.
رأس الجمعية في أول تأسيسها أحد كبار المصلحين في مصر آنذاك، هو (محمّد على علوبة باشا) الذي كان وزيراً في عدة حكومات (للأوقاف والمعارف) وعينته مصر أول سفير لها في باكستان.
وكان من بين الأعضاء الشيخ عبد المجيد سليم رئيس هيئة الفتوى بالأزهر، ثم صار شيخا للأزهر فيما بعد، والشيخ أحمد حسين مفتي وزارة الأوقاف، والشيخ محمود شلتوت الذي كان عضواً بهيئة كبار العلماء، وصار بدوره شيخا للأزهر، والشيخ محمّد عبد اللطيف دراز وكيل الأزهر، والشيخ عيسى ممنون عضو هيئة كبار العلماء ورئيس الجمعيات الشرعية، والشيخ حسن البنا رئيس الإخوان المسلمين، والشيخ عبد الوهاب خلاف والشيخ علي الخفيف، وهما من كبار أساتذة الفقه والتشريع بالجامعة، والشيخ محمّد المدني الأستاذ بالأزهر وأصبح وكيلا للأزهر فيما بعد.
وإلى جانب هؤلاء كان من بين الأعضاء الحاج أمين الحسيني مفتي فلسطين، والشيخ محمّد تقي القمي ممثلا للشيعة الإمامية، وعلي بن إسماعيل المؤيد، والقاضي محمّد بن عبدالله العمري، عن الشيعة الزيدية.
والى جانب نخبة العلماء الممتازة التي أسست جمعية التقريب وتصدرت أول مجلس إدارة لها، فقد بين النظام الأساسي للجمعية أنها تتطلع إلى ما هو أبعد من جمع كلمة المسلمين باختلاف طوائفهم ومذاهبهم إذ لم يكتف المؤسسون بذلك الهدف الجليل، وإنّما طمحوا لأن يصبح الكيان الجديد بمثابة رابطة أو جامعة للشعوب الإسلاميّة تتجاوز حدود مصر، فقد نصت المادة الخاصة بأغراض الجماعة على أن من تلك الأغراض السعي إلى إزالة ما يكون من نزاع بين شعبين أو طائفتين من المسلمين والتوفيق بينهما، وعقد مؤتمرات إسلامية عامة تجمع زعماء الشعوب الإسلاميّة في الأمور الدينية والاجتماعية، فضلاً عن ذلك فإن الجمعية أرادت أن تقوم بدور في الدعوة إلى الإسلام عن طريق نشر المبادئ الإسلاميّة باللغات المختلفة وبيان حاجة المجتمع إليها.
هؤلاء هم الورثة الحريصون على الأمة وعلى وحدة الأمة.. وهذه هي هممهم.. فما الذي فعلوه؟
لعل أهم شيء يلفت الانتباه في هذا هو تلك الفتوى الجريئة الدالة على الفهم العميق للإسلام، وعلى التخلي التام عن كل أغلال التعصب، فتوى الشيخ محمود شلتوت التي أصدرها بعدما صار شيخا للأزهر، والتي أجاز فيها التعبد على مذهب الشيعة الإمامية وغيرها من المذاهب التي تتأسس على أصول الإسلام القطعية.
لقد قال يتحدث عن إيمانه العميق بضرورة التوحيد بين هاتين الطائفتين العظيمتين من طوائف المسلمين:(إن دعوة التقريب هي دعوة التوحيد والوحدة، هي دعوة الاسلام والسلام.. لقد آمنت بفكرة التقريب كمنهج قويم وأسهمت منذ أول يوم في جماعتها وفي وجوه نشاط دارها بأمور كثيرة.. ثم تهيأ لي بعد ذلك، وقد عهد إليّ بمنصب مشيخة الازهر، أن أصدرت فتواي في جواز التعبد على المذاهب الاسلامية الثابتة الأصول، المعروفة المصادر، المتبعة لسبيل المؤمنين، ومنها مذهب الشيعة الإمامية الاثنا عشرية، وقرّت بهذه الفتوى عيون المؤمنين المخلصين الذين لاهدف لهم الا الحق والألفة ومصلحة الأمة، وظلت تتوارد عليّ الاسئلة والمشاورات والمجادلات في شأنها وأنا مؤمن بصحتها، ثابت على فكرتها، أؤيدها في الحين بعد الحين فيما أبعث به من رسائل للمستوضحين، أو أردّ به على شبه المعترضين، وفيما أنشئ من مقال ينشر أو حديث يذاع أو بيان أدعو به الى الوحدة والتماسك والالتفاف حول أصول الاسلام ونسيان الضغائن والاحقاد، حتى أصبحت ـ والحمد للّه ـ حقيقة مقررة تجري بين المسلمين مجرى القضايا المسلمة بعد أن كان المرجفون في مختلف عهود الضعف الفكري والخلاف الطائفي والنزاع السياسي، يثيرون في موضوعها الشكوك والأوهام بالباطل. وهاهو ذا الازهر الشريف ينزل على حكم هذا المبدأ، مبدأ التقريب بين أرباب المذاهب المختلفة، فيقرر دراسة فقه المذاهب الاسلامية سنيها وشيعيها دراسة تعتمد على الدليل والبرهان وتخلو من التعصب لفلان وفلان)([30])
اسمحوا لي.. إن كنت قد قرأت لكم هذا النص بطوله.. فأنا لم أفرح بفتوى كما فرحت بهذه الفتوى..
سكت الشعراوي قليلا، وكأنه يعود بذاكرته إلى أيام شبابه، ثم التفت إلى الجمع، وقال: في تلك الأيام الجميلة كانت جماعة التقريب تصدر مجلة جامعة باسم (رسالة الإسلام)، ظلت تصدر طيلة أربعة عشر عاماً..
لقد كانت تلك المجلة هي زادنا الذي منه ننهل الإسلام النقي الطاهر البعيد عن كل تعصب..
لم تكتف الجمعية بذلك بل اعتمدت تفسيراً للقرآن الكريم اجتمع عليه علماء السنة والشيعة هو تفسير (مجمع البيان لعلوم القرآن) للطبرسي، الذي استغرق تهيئته للنشر مدة عشرين عاما، وأشرف على هذه العملية ثلاثة من أكابر علماء الأزهر هم الشيوخ: عبد المجيد سليم، ومحمود شلتوت، ومحمد المدني.
وفوق ذلك شرعوا في تجميع الأحاديث النبوية المتفق عليها بين السنة والشيعة، وقطعوا شوطا طيبا في هذا الصدد، رغم أن هذا الجهد لم ير النور بعد.
قال القمي: بورك فيك يا شيخنا.. إنك تذكرني بشبابي.. بتلك الأيام الجميلة التي كنا نصيح فيها بكل قلوبنا (لا سنية لا شيعية.. إسلامية إسلامية).. في تلك الأيام لم نكن نفخر إلا بالإسلام.. كنا نحزن لكل مصاب من المسلمين مهما اختلف مذهبه، أو لونه، أو وطنه.. ونفرح لكل نصر أصاب المسلمين لا يهمنا مذهبه، أو لونه، أو وطنه..
لقد كنا نردد بكل قلوبنا قوله تعالى:{ وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً} (المائدة: 3)، فلم نرض لأنفسنا غير الإسلام.. الإسلام العظيم الواسع الذي لا يضيق بأحد، ولا يعبس في وجه أحد.
لقد كانت نتائج عمل تلك الجماعة الصالحة من ورثة النبوة عظيما ومثمرا ـ رغم العمر القصير الذي أتيح لهم أن يتحركوا فيه بحرية ـ
لقد كان من نتائج ذلك أن حيت فكرة التقريب، وجمعت من حولها كبار علماء السنة والشيعة، وكان عملها هذا أهليا محضا، حركته الغيرة على الإسلام والمسلمين، ولم تكن لهذا العمل علاقة بأي نظام سياسي أو مؤسسة رسمية.
وكان من نتائجها أنها نجحت في ضم الفقه الشيعي إلى المذاهب الإسلاميّة الأخرى التي تخضع للدراسة في منهج الفقه المقارن بالأزهر الشريف.
وكان من نتائجها أنها قطعت شوطاً كبيراً بإصدار تفسير للقرآن متفق عليه، وسعت إلى تحقيق الفكرة نفسها عن طريق تجميع الأحاديث النبوية المتفق عليها أيضاً.
وهذا يعني أن جماعة التقريب أنجزت خطى بالغة الأهمية على صعيد تحويل التقريب من حلم وفكرة، إلى عمل مشترك جاد تبلور في مجموعة من الآثار العلمية التي بقيت لأجيال المسلمين إلى يوم الدين.
قال مطهري: لقد ذكرتموني بتلك الأيام الجميلة التي كنت ـ وأنا صحفي كما تعلمون ـ أتزود من مجلة (رسالة الإسلام) التي كانت تمثل صلب المشروع، وتعكس كيفية رؤية أصحابه له، ولذلك فإنها تعد بحق صوت التقريب.
إن قارئ أعداد المجلة يلاحظ أنها ظلت طيلة الأربعة عشر عاما تتحرك على محاور عدة، في مقدمتها خمسة، هي: استنكار فرقة المسلمين.. والدفاع عن الحق في الاختلاف.. ورفض توحيد المذاهب.. والأصول المتفق عليها بين أهل السنة والشيعة، ومن ثم السعي الدءوب للتنبيه إلى مساحة المشترك بين الطرفين.. ورد الشبهات التي تتردد في أوساط أهل السنة بشأن الشيعة ومذهبهم.
قال الكواكبي: فيما يتعلق باستنكار فرقة المسلمين وتمزقهم، فإنه لا يكاد نص في المجلة يخلو من تعبير عنه.. لقد كان البيان الذي أصدره مؤسسو دار التقريب عقب أول اجتماع لهم (في 30 ربيع الثاني عام 1366 هـ) هو أوضح إعلان عن الفكرة، فبعد أن أشار البيان إلى ثراء الفقه الإسلامي، انتقد ممارسات المقلدين والمتعصبين للمذاهب الّذين كلت هممهم عن حمل ما كان يحمله سلفهم في العلم والنظر، وهو ما صادف عهود الضعف السياسي وانقسام الأمة الإسلاميّة إلى دويلات صغيرة لا تربطها رابطة ولا تجمعها جامعة ومن شأن الضعف السياسي إذا أصيبت به أمة، أن يخيل إلى أبنائها أنهم أقل من سواهم قوة وعلما وتفكيراً، وأنه تركد معه ريح العلم ويفتر نشاط العلماء.
بهذا وبغيره ـ أضاف البيان ـ تأثر أكثر المشتغلين بالفقه، فحكموا على أنفسهم وعلى جميع أهل العلم في زمانهم بأنهم ليسوا أهلاً للنظر والاستنباط، ولا لفهم كتاب الله وسنة رسوله ومن ثم حكموا بإغلاق باب الاجتهاد، وترتب على ذلك أن وقف الفقه وجمد وأن تعصب كلّ منهم لرأي إمام، وزعم أنّه الحق وأن ما سواه باطل، وأسرفوا في ذلك إسرافا بعيدا حتّى كان منهم من لا يصلى وراء إمام يخالفه في مذهبه، ومن لا يزوج اينته لفلان، أو يتردد في أكل ذبيحة فلان، أو قبول قضاء فلان،لمجرد أنّه يخالفه في المذهب ثم حصروا الأئمة الّذين أوجبوا اتباعهم في عدد معين وهكذا ضاق أفق الاتباع والأشياع مما اتسع له أفق المتبوعين.
قال شكيب: لقد توقفت عند مقالة في الموضوع نشرها الأديب البارع والعالم الفذ الشيخ محمّد الغزالي تحت عنوان (على أوائل الطريق)، استهلها بكلام للمستشرق المجري جولد تسيهر ذكر فيه أن الملك (نادر شاه) (المتوفى سنة 1747 م) سعى جادا كي يعقد مع الأتراك صلحا ينقي الجو بين الشيعة والسنة، ويضع حد للخلاف القائم بين الفريقين.
ووضع لذلك مشروعا جيداً كاد يخرج إلى حيز التنفيذ، لولا أن المنية عاجلته فمات دون أن تتحقق أمنيته وقد أشارات كتابات الفقيه السني عبد الله بن حسين السويدي، الذي كان معاصرا لتلك الفترة، إلى أن نادر شاه عقد مجمعا دينيا جمع فيه فقهاء الفريقين وقد اتفق هؤلاء الفقهاء على ضم التشيع إلى المذاهب السنية، وجعله مذهبا خامسا يقبل به المسلمون كافة، وقد صارت من السهل بعد قليل ـ بموجب هذا الاتفاق ـ أن يخصص مقام خامس للمذهب الجعفري في دائرة الحرم المكي بجوار مقامات المذاهب الأربعة السنية وصار لزاما منذ ذلك الوقت الإقرار بسنية هذا المذهب.
وقد امتدح المستشرق المجري هذه الخطوة لكنه قال: (إن حلم التوفيق بين الطرفين كان أمنية بعيدة ذلك أن الحقد المتوارث الذي يحمله كلا الفريقين للآخر والضغائن التي شرطت فقهاء المذهبين شطرت، جعلتهم بعد موت نادر شاه لايتصوبون سياسة التسامح والوفاق)
لقد علق الشيخ الغزالي على ما كتبه جولد تسهير قائلا: (لقد أحسست وخزاً في فؤادي وأنا أقرأ كلمة الإسلام الشيعي والإسلامي السني، التي ترددت على لسان المستشرق المجري مرارا، وأتساءل: ما الذي حدث حتّى نكب الإسلام بهذه الفرقة؟)، وفي رده قال: (الحقيقة أن هناك أناسا لا يتقون الله في دينهم ولا في أمتهم، أطلقوا غيوما داكنة من الإشاعات والظنون، كانت العملة الدفينة في تمزيق الشمل، وملء الرءوس بطائفة من التصورات الباطلة والمشاعر المنحرفة.. وجماهير العامة ـ للأسف الشديد ـ ضحايا لتجاذب متبادل لا أساس له، ويوم ينكشف الغطاء عن الحقيقة، سيحزن كثيرون لما أرسلوا من أحكام وأطلقوا من عبارات)
قال القمي: في هذا المعنى كتب سميي الشيخ محمّد تقي القمي يقول: (كان الوضع قبل تكوين جماعة التقريب يثير الشجن، فالشيعي والسني كلّ كان يعتزل الآخر، وكل كان يعيش على أوهام ولدتها في نفسه الظنون، أو أدخلتها عليه سياسة الحكم والحكام، أو زيفتها له الدعاية المغرضة.. كان يسود الفريقين جو من الظلام، فلا يرى أحدهما في صورة الآخر إلاّ شبحاً تحوطه الظلمة، ولا يتكلم عنه إلاّ بما توحي به الظلمة، ولا يقرأ عنه إلاّ ما تسمح به حلكة الظلام)
وأضاف يقول: (إن الفرقة بين المسلمين ظلت غذاء مناسبا للحكم والحكام قرونا عدة، دأب فيها كلّ حاكم على استغلالها لتثبيت سلطانه، وتحطيم عدوه، ثم جاءت السياسات الأجنبية فوجدت في هذه الفرقة خير وسيلة لتدخلها، وبث نفوذها ودعم سلطانها وفرض سيادتها.. الحق كلّ الحق أنّه لا ضرر على المسلمين في أن يختلفوا، فإن الاختلاف سنة من سنن الإجماع، ولكن الضرر كلّ الضرر في أن يفضي بهم الخلاف إلى القطيعة والخروج على مقتضى الأخوة التي أثبتها الله في كتابه العزيز، لا على أنها شيء يؤمر به المؤمنون، ولكن على أنها حقيقة واقعة، رضى الناس بها أم أبوا)
هكذا كتب الشيخ محمّد تقي القمي في الأعداد الأولى لمجلة رسالة الإسلام.
وقد وضح مراده بهذا في مقالة أخرى بعنوان (خلاف نرضاه وخلاف نأباه)، وفيه قال: (هناك فرق بين خلاف وخلاف: هناك خلاف تمليه طبيعة التفكير وتقتضيه سنن الاجتماع، ونحن نقبله ونرضاه وهناك خلاف يصطنع اصطناعا، ونحن نرفضه ونأباه.. إننا نقبل الخلاف الفكري ما دام في دائرة معقولة، ونرحب بالخلاف المذهبي لأنه وليد آراء اجتهادية مرجعها الكتاب والسنة أو ما أعطاه الكتاب أو السنة قوة الحجية ونرحب بما عند الشيعة وأهل السنة، لأنهما تؤمنان بما يجب على المسلم أن يؤمن به، وإن اختلفتا في مسائل فقهية، وتميزتا في مسألة الولاة والخلافة ونرحب كذلك بالمعارف الكلامية، لأنها ميدان من ميادين التفكير للمسلم أن يجول فيه.
نحن نرحب بهذه الخلافات كلها، بل نعتز كمسلمين بالكثير منها: لأنها إن دلت على شيء فإنما تدل على الحرية الفكرية، ولأنها إن أحسن النظر إليها، تسعد الأمة وتكفل رقيها وتبقى على سلامتها.
إن هذه الخلافات في جوهرها تنبئ عن معنى الوفاق فهي ترتبط بأصل واحد هو الكتاب والسنة.
وليس معنى هذا أن في السنة خلافا، بمعنى أن البعض يقبل ما صدر عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والبعض لا يقبله، معاذ الله، فالمسلمون يتفقون في وجوب الأخذ بسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولكنهم قد يختلفون في الفهم أو التفسير أو في أن هذا صدر عن الرسول الأعظم أو لم يصدر أما من لا يأخذ بما أمر به الرسول فليس بمسلم.
فالآراء الاجتهادية إذن، يجمعها الكتاب والسنة، وليس بعد هذا من وفاق.
أما الخلاف الذي لا نرحب به ولا نقبله، بل نرفضه ونقاومه، فهو الخلاف الذي يقوم على الكراهية والبغضاء، وتغذية الشبه والأوهام، ويوجد البلبلة في صفوف الأمة، ويؤدي إلى تفريق كلمة المسلمين.
ذلك خلاف لا يتفق والخلق الإسلامي، ولا يستند إلى المعارف الإسلاميّة، حمل لواءه مؤلفون كتبوا قبل التثبت تارة، وبداعي الغرض والهوى تارات، فسودوا صحيفة الشيعة في نظر أهل السنة، وسودوا صحيفة أهل السنة في نظر المتشيعين، بعضهم خلط بين أهل السنة والنواصب، وأكثرهم خلطوا بين الشيعة والغلاة، بينها وبين الفرق البائدة، وألصقوا بها آراء لا تمت إليها بصلة، بل الشيعة منها براء)
قال الكواكبي: بخصوص النقطة الثالثة التي اهتمت جماعة التقريب بإبرازها، والتي ينبغي إحياؤها من جديد.. وهي أن الوحدة الإسلامية لا تعني محو المذاهب أو إلغاؤها، وإنما تعني نشر المودة والمحبة والتآخي والاحترام بين أهلها، مع بقاء كل طرف على ما يعتقده مما وصل إليه بالاجتهاد عبر من يثق فيه من العلماء.
لقد أثارت ـ في البداية ـ جهود التقريب جدلا كبيرا؛ حيث شاع بين قطاعات ليست قليلة من المسلمين أن مقصدها في نهاية المطاف هو توحيد المذاهب، باعتبار أن هذه هي الصيغة المثلى لفض الاشتباك وإنهاء الخلافات، لذلك دأبت مجلة رسالة الإسلام على نفي هذه الفكرة، والإلحاح على أن هدف التقريب مختلف إلى حد كبير.
في البيان الأول لدار التقريب أثيرت هذه القضية، حين تلقت الجمعية تساؤلات من بعض الحجازيين عن حقيقة مهمتها، وهل تتناول إدماج المذاهب الإسلاميّة بعضها في بعض، كما يردد أهل العلم في الحجاز، واختار البيان أن يرد من خلال اقتباس نصوص من رسالة بعثت بها الجمعية إلى الملك عبد العزيز آل سعود، حين أرادت أن تقدم نفسها وتشرح أهدافها.
ومما ورد في الرسالة:(إن جماعة التقريب لا تريد المساس بالفقه الإسلامي، ولا إدماج مذاهبه بعضها في بعض، بل هي على النقيض من ذلك، ترى في هذا الاختلاف الفقهي مفخرة للمسلمين، لأنه دليل على خصوبة في التفكير، وسعة في الأفق، واستيفاء وحسن تقدير للمصالح التي ما أنزل الله شريعته إلاّ لكفالتها وصونها، وكل ما تبذله الجماعة من جهود في سبيل الفقه الإسلامي إنّما هو في دائرة خدمته وتنميته وتسليط نوره الوهاج على شؤون الحياة الإسلاميّة كلها، وبحث المشكلات التي جدت وتجد ولم يتضح للناس حكم الله فيها.
ومما جاء فيها:(ولن تمد الجماعة يدها إلاّ لأرباب المذاهب الإسلاميّة التي تعتقد العقائد الصحيحة التي يجب الإيمان بها([31])
ومما جاء فيها:(وهي ترى أن بعض المنتسبين إلى المذاهب الإسلاميّة يجعلون لبعض المعارف والآراء التي لا صلة لها بالعقائد الصحيحة أهمية طاغية تدفعهم إلى التخاصم والتقاطع والتنابز بالألقاب ونسيان ما جمع الله عليه القلوب، وألف به بين المسلمين وترى أن أعداء الإسلام والطامعين في استعمار بلاده وإذلال أهله يتخذون من هذه الخلافات أبوابا يلجون منها إلى مقاصدهم الباغية، ويعملون كلّ ما في استطاعتهم على إذكاء نيرانها ليضربوا بعض المسلمين ببعض ثم يضربوهم جميعا)
ومما جاء فيها:(وتؤمن إيمانا عميقا بأن من أهم الواجبات الدينية على كلّ ذي علم ورأي في شعوب المسلمين على اختلاف طوائفهم ومذاهبهم الإسلاميّة، العمل على تبصير المسلمين بدينهم، وقطع أسباب الخلاف والتفرقة بينهم ببيان ما هو عقيدة يجب الإيمان بها، وما هو معارف لا يضر الخلاف فيها، وأن من بين هذه المعارف ما يظن أنّه من العقائد وهو ليس منها)
ومما جاء فيها:(فالغرض من تأليف (جماعة التقريب) هو: أن تكون مركزاً إسلامياً لهذه الفكرة، تتركز فيه جهود جميع المقتنعين بها في أنحاء العامل، شرقية وغربية، وتتجاوب لديه أصواتهم وأبحاثهم وأراؤهم في رفق وحسن تقبل، فيتهيأ لها جو من البحث العلمي الخالص على ضوء القواعد الإسلاميّة الصحيحة، وحينئذ تنجلي أمام المسلمين أسباب الاختلاف فيما وراء العقائد الدينية والأحكام التشريعية فيعالجونها، ويصلون في المسائل والنظريات الخلافية نفسها إلى الرأي الصحيح الذي يهدي إليه المنطق والدليل، فإذا بقي بعد ذلك مالم تجتمع عليه القلوب أو تقطع به البراهين، كان أمره بعد ذلك هينا لا ينبغي أن يفضي إلى التقاطع والتناكر والتقاذف، وإنّما هو الخلاف في الفقه والفروع يعذر العلماء فيه بعضهم بعضا ويتبادلون الاحترام والمودة والتعاون كما هو شأن المؤمنين)
قال مطهري: ومما يؤكد ما ورد في هذه الرسالة ما جسدت به دار التقريب موقفها من المذاهب المختلفة حين طبعت ووزعت في موسم الحج جدولا مفصلا عن أحكام الحج على المذاهب المتعددة: الحنفي، والمالكي، الشافعي، والحنبلي، والإمامي، والزيدي، وقد راج هذه الجدول في البلاد المقدسة رواجا عظيما، ولفت أنظار كثير من المسلمين، إلى أن آراء فقهائهم في فروع عبادتهم ليست من التباعد والخلاف بحيث توجد الخصومة والفرقة والتباغض فيما بينهم.
قال الشعراوي: من المقالات التي استوقفتني في ذلك الحين مقالة للعلامة محمّد الحسين آل كاشف الغطاء تحمل عنوان (بيان إلى المسلمين)، ومما جاء فيها: (من المقطوع به أن ليس المراد من التقريب بين المذاهب الإسلاميّة إلاّ إزالة أصل الخلاف بينها، بل أقصى المراد وجل الغرض هو إزالة أن يكون هذا الخلاف سببا للعداء والبغضاء.. الغرض تبديل التباعد والتضارب بالإخاء والتقارب)
ومن المقالات التي استوقفتني في ذلك الحين مقالة كتبها يراع الشيخ حسنين مخلوف ـ مفتي مصر ـ يقول فيها:(إنني من المؤمنين بفكرة التقريب، العاملين على أن يدرك المسلمون جميعا مزاياها وما تؤدي إليه من جمع كلمتهم وتوحيد أهدافهم.. فالإسلام هو دين الوحدة كما هو دين التوحيد.
وقد حرصت شريعته على أن تقر في الناس أسس التضامن والتكافل الاجتماعي والتعاون على البر والتقوى، وعلى أن تنزع من بينهم أسباب العداءات والضغائن، وما ينزع به الشيطان بينهم ليفشلوا وتذهب ريحهم)
قال إقبال: ومما قرأته في بعض المقالات في ذلك الزمن الجميل ما قاله بعضهم، وهو يعبر عن جميعهم:(من العجب أن نعتبر المسلمين مختلفين، مع أن الخلاف بينهم محصور جدا.. ولا علاقة له بقضايا الدين الأساسية.. فالمسلمون جميعا ـ بمختلف فرقهم ـ يقيمون الصلاة في أوقات خمس مكتوبة، ليست ستة عند فريق ولا أربعة عند فريق وهم متفقون عليها بأعيانها، ومتفقون على أعداد ركعاتها، وعلى قبلة المصلى فيها، وقد شرعت فيه الجماعات والجمعات والصلوات العامة في المناسبات، كصلوات العيد والاستسقاء والكسوف ونحو ذلك من كلّ ما يراد به إشعار المسلمين بالوحدة والألفة واتفاق المصالح والاستواء أمام ربوبية الله جل وعلا.
وما يسرى على الصلاة يسرى بذات القدر على الشهادتين، وعلى الزكاة والصيام والحج وهذه الأركان التي لا يختلف عليها المسلم تشكل أساسا متينا للتوحيد والوحدة بين أبناء الأمة)
قال الكواكبي: ومن المقالات التي لا أزال أذكرها ما كتبه الشيخ محمّد عبد اللطيف دراز تحت عنوان (الإسلام والأزهر والتقريب)، فقد كتب في هذا المقال داعياً إلى ضرورة (العمل على جمع كلمة المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، وتصفية الخلافات بينهم بعرضها على كتاب الله وسنة رسوله)، ثم أضاف أنّه: سوف يظهر أنهم في الحقيقة متحدون غير مختلفين فالأصول واحدة والوسائل واحدة وما الخلاف إلاّ في التطبيق، ولعمري إذا جاز اختلاف المسلمين في الفقه والفروع، فكان منهم الحنفي والمالكي والحنبلي والشافعي والزيدي والإمامي، وأزال الله في هذا العصر ما كان بينهم من عداوة وبغضاء، فلم لا يجوز بينهم اختلاف هادئ عف، فيما هو وراء الأصول المتفق عليها من ألوان المعارف الفكرية التي ليست من العقائد)
قال الشعراوي: لقد ذهبت فكرة البحث عن المشترك إلى ما هو أبعد من ذلك، ففي اقتراح نشرته المجلة للشيخ عبد العزيز عيسى، أحد علماء الأزهر، ودعا فيه إلى إنشاء معهد خاص في إطار الأزهر لدراسة المذاهب والأفكار الدينية في كافة الأقطار الإسلاميّة، بحيث (يمكننا في سهولة ويسر أن نعرف أوجه الوفاق والخلاف على صورة محدودة، وأن نصلح ما أفسده الدهر، ونحقق ما زوره التاريخ، وننشر في ربوع كلّ دولة ما عند الأخرى، فيتبادل المسلمون الثقافة الصحيحة ويعرف بعضهم بعضا على حق، وتزول من بينهم الجفوة والقطيعة، ويأخذوا سبيلهم إلى الوحدة والألفة التي لا يصلح أمرهم إلاّ عليها)
قال القمي: من الحسنات التي قامت بها تلك المجلة الرائدة ما كتبته في تصحيح صورة الشيعة الإمامية في الذهن الإسلامي العام، فقد نشرت المجلة مقالات عدة لفتت الأنظار إلى ضرورة التفرقة بين مدارس الاعتدال والغلو في الساحة الشيعية.
وأذكر من ذلك مقالة للعلامة الدكتور محمّد جواد مغنية تحت عنوان (الغلاة في نظر الشيعة الإمامية).. فهو نموذج طيب لذلك.. ذكر فيها أن علماء الإمامية متفقون على عدم اعتبارهم من الشيعة، بل عدم اعتبارهم من المسلمين أصلا..
وقد سلط الشيخ محمّد الحسين آل كاشف الغطاء الضوء على بعض خلافات السنة والشيعة، فذكر أن أعظم تلك الخلافات وأهمها هو قضية (الإمامة)، حيث ذكر أن الطائفتين وقعتا منها على طرفي نقيض.. فالشيعة ترى أن الإمامة أصل من أصول الدين، وهي رديفة التوحيد والنبوة وأنها منوطة بالنص من الله ورسوله، وليس للأمة فيها من الرأي والاختيار شيء، كما لا اختيار لهم في النبوة بخلاف أهل السنة، فهم متفقون على عدم كونها من أصول الدين، ومختلفون بين قائل بوجوب نصب الإمام على الرعية بالإجماع ونحوه، وبين قائل بأنها قضية سياسية ليست من الدين في شيء لا من أصوله ولا من فروعه.
وقد أضاف الشيخ كاشف الغطاء متسائلا: (مع هذا التباعد الشاسع بين الفريقين في هذه القضية، هل تجد الشيعة تقول أن من لا يقول بالإمامة غير مسلم (كلا ومعاذ الله) أو تجد السنة تقول أن القائل بالإمامة خارج عن الإسلام ـ لا وكلا ـ إذن فالقول بالإمامة وعدمه لا علاقة له بالجماعة الإسلاميّة وأحكامها من حرمة دم المسلم وعرضه وماله ووجوب أخوته، وحفظ حرمته وعدم جواز غيبته، إلى كثير من أمثال ذلك من حقوق المسلم على أخيه.
ثم ذهب إلى أبعد في المصارحة، فقال: إن أحد أسباب المشاحنة بين السنة والشيعة، ما يتردد من أن الشيعة ترى جواز المساس بكرامة الخلفاء أو الطعن، وفند تلك المقولة بحج عدة منها: (أولاً: ليس هذا من رأي جميع الشيعة وإنّما هو رأى فردي من بعضهم، وربما لا يوافق عليه الأكثر، كيف وفي أخبار أئمة الشيعة النهي عن ذلك، فلا يصح معاداة الشيعة أجمع لإساءة بعض المتطرفين منهم.
ثانياً: أن هذا على فرضه لا يكون موجبا للكفر والخروج عن الإسلام، بل أقصى ما هناك أن يكون معصية، وما أكثر العصاة في الطائفتين، ومعصية المسلم لا تستوجب قطع رابطة الأخوة الإسلاميّة معه قطعا.
ثالثاً: قد لا يدخل هذا في المعصية أيضاً، ولا يوجب فسقا إذا كان ناشئا عن اجتهاد واعتقاد، وإن كان خطأ، فإن من المتسالم عليه عند الجميع في باب الاجتهاد أن للمخطئ أجرا وللمصيب أجرين، وقد صحح علماء السنة الحروب التي وقعت بين الصحابة في الصدر الأول كحرب الجمل وصفين وغيرهما، بأن طلحة والزبير ومعاوية اجتهدوا وهم وإن أخطئوا في اجتهادهم، ولكن لا يقدح ذلك في عدالتهم وعظيم مكانتهم، وإذا كان الاجتهاد يبرر ولا يستنكر قتل آلاف النفوس من المسلمين وإراقة دمائهم، فبالأولى أن يبرر ولا يستنكر معه ـ أي مع الاجتهاد ـ تجاوز بعض المتطرفين على تلك المقامات المحترمة)
قال الشعراوي: لقد اعتبر الشيخ محمّد المدني تدريس فقه الشيعة في كلية الشريعة بجامعة الأزهر بمثابة (رجة البعث) ـ وكانت هذه الخطوة قد أثارت لغطا في أوساط العلماء ـ فقام الشيخ المدني بتفنيد ما تردد وقال: (إن بعض الناس تساءلوا: كيف تدخلون فقه الشيعة في الأزهر، مع أن هذا المذهب هو مذهب الّذين يعتقدون أن جبريل إنّما بعث بالرسالة إلى علي فأخطأه ونزل بها على محمّد وأن عليا قد حل فيه جزء من الإله)
وقال في الرد على السؤال ما يلي:(إن كلمة (الشيعة) تطلق على عشرات المذاهب التي تنسب إلى الإسلام حقا أو باطلا، وبعض هذه المذاهب ضال منحرف عن الأصول الإسلاميّة، وبعضها مستمسك بما يجب الإيمان به، مثله في ذلك كمثل مذاهب السنة، وإن خالفهم في بعض الفروع الفقهية أو النظريات والمسائل التي هي من قبيل المعارف الكلامية.
والفريق الأول من المتسمين باسم الشيعة وهم الضالون المنحرفون، لا يعدون من أهل الإسلام وإن ادعوه ؛ لأن العبرة في ثبوت الإسلام إنّما هي بالإيمان بأصول العقائد الإسلاميّة، وعدم إنكار ما هو معلوم من الدين بالضرورة، وهؤلاء ليسوا كذلك وقد انقرضوا ولم يعدلهم أثر في العالم الإسلامي، ولو فرضنا أن لهم بقية في كهف من الكهوف أو طرف من الأطراف فليسوا منا ولسنا منهم، وهم كفار خارجون على ملة الإسلام ملعونون من أهل السنة ومن الشيعة.
أما الشيعة الّذين تقرر إدخال فقههم فهم:
1 ـ الشيعة بالإمامية الاثنا عشرية، وقد لقبوا بالإمامية؛ لأنهم يقولون بأن إمامة علي ثابتة بالنص، ولقبوا باثنا عشرية لأنهم يسوقون الإمامة إلى اثنى عشر إماما، أولهم علي بن أبي طالب، وآخرهم محمّد بن الحسن العسكري الملقب بالحجة، وهم يسكنون إيران والعراق وسوريا ولبنان والباكستان والهند، وغيرهم من البلاد العربية والإسلامية ويؤمنون بأصول الإسلام كلها ولا يستطيع أحد من أهل القبلة أن يحكم بكفرهم، وكل ما بينهم وبين السنة من اختلاف، إنّما هو فيما وراء الأصول التي يجب الإيمان بها لتحقق مفهوم الإسلام، وينسب فقههم إلى أئمتهم من أهل البيت النبوي واشتهر باسم الفقه الجعفري نسبة إلى أحد هؤلاء الأئمة، وهو جعفر الصادق بن محمّد الملقب بالباقر.
وهؤلاء الشيعة الإمامية يلعنون أهل المذاهب المنسوبة إلى الشيعة من الغلاة في شأن علي، ويتبرءون منهم، ويحكمون بكفرهم ونجاستهم.
ولهم كتبهم في العقائد والفقه والأصول وأسرار الشريعة والأخلاق والتصوف، وعلوم اللغة العربية وغيرها، وقد نبغ منهم كثير من الفقهاء، وأهل الحديث والرواية، والأدباء، والأصوليين، والمتكلمين، وغيرهم، ولهم أثر واضح في العلوم الإسلاميّة في مختلف العصور.
2 ـ الشيعة الزيدية، وهم يسكنون اليمن غالبا، ومذهبهم منسوب إلى الإمام زيد بن علي زين العابدين، وهو أقرب مذاهب الشيعة إلى مذاهب السنة، ولا ينازع أحد في شأنهم مع كونهم أيضاً ملقبين بلقب الشيعة)
ثم أضاف: (إذن، فلا يستقيم القول بأن الشيعة كلها تقول برسالة علي ألوهيته، أو تغالي في شأنه، فإن هذا القول على إطلاقه خطأ، ويجب التفريق بين الشيعة المهتدين، والشيعة الضالين أو المنحرفين، كما يجب الحذر عند سماع أي نقل عن الشيعة، والتحري عن القائل منهم بذلك حتّى لا يحمل قول ضال على فرقة مهتدية لم تقله)
قال القمي: بورك فيكم جميعا.. والله لقد أثلجتم صدري بهذه الكلمات العذبة التي انطلقت من أفواه أولئك الورثة العظام الذين أخلصوا دينهم لله، فلم يخلطوه بأي عصبية أو هوى.
قال الشعراوي: فما ترى من حل لتعود تلك الأيام الجميلة، ويعود معها الصفاء إلى القلوب.. ويعود معها المسلمون شهداء لا ينشغلون بالشحناء والبغضاء فيما بينهم، بل يلتفتوا إلى تلك البشرية الظمآنة، فيسقوها من هدي الله ما كلفوا بأن يسقوها إياه.
قال القمي: ليس من حل لذلك إلا إحياء سنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم.. النبي الهادي الذي استطاع أن يؤلف بين القلوب، ليحول منها طاقة عجز العالم جميعا عن مواجهتها.
قال الشعراوي: أجل.. فلا يمكن أن تجتمع القلوب على غير سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. لقد قال الله تعالى يذكر ذلك:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} (النساء:59)
قال مطهري: ولكن المتطرفين يزعمون أن السنة بأيديهم وأنهم يحتكرونها احتكارا؟
قال إقبال: سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أعظم من أن يحتكرها أحد من الناس.. أبلغوا هؤلاء أن أعظم السنن هي سنة الإصلاح والتوحيد والتآلف.. لقد استطاع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بحكمته أن يجمع بين المتناقضين ليحول منهم لحمة واحدة لها هم واحد، ولها قبلة واحدة.
قال القمي: لدي مشروع يخدم كل ما ذكرنا.. فأرجو أن تبحثوا فيه.. لقد أرسلته إلى جهاز كل واحد منكم، فتأملوه، ولنجتمع بعدها لنرى مدى صلاحيته للتنفيذ.
***
التفت كل واحد منهم إلى جهازه، وراح يبحث عن المشروع الذي ذكره القمي، والذي لم أتشرف بالتعرف عليه ذلك الحين.. ولكني عرفته في المستقبل.
قلت: فما هو.. أنبئني عنه؟
قال: لقد استكتمني من ذكره لي.. وقد نهينا أن نفشي ما أمرنا بكتمانه.. وإن كنت صادقا، فسيقيض الله لك في المستقبل من ينبئك عنه، لتصير جنديا من الجنود الذين نذروا أنفسهم له.
لم يلبثوا إلا قليلا حتى صاح الكواكبي قائلا: بورك فيك يا قمي.. نعم المشروع الذي وضعته.. لقد وجدت في مشروعك الحلقة المفقودة التي كنت أبحث عنها.. والتي لا يكون المسلمون شهداء إلا بتحقيقها.
قال إقبال: نحن نعلم اهتمامك يا عبد الرحمن بالعدالة والاستبداد.. فهل لذلك علاقة بهذا؟
قال الكواكبي: أجل.. بل له علاقة عظمى.. أنتم تعلمون أن الناس لا يدخلون في دين الله أفواجا، وهم يرون ديكتاتوريات المسلمين ومستبديهم.. فالفطرة البشرية تبغض الاستبداد، وتبغض المستبدين، وتبغض دين المستبدين.. فلذلك هم يبغضون الإسلام، لا لكونه دين رب العالمين، ولكن لأن الذي يمثله هم المستبدون الجائرون الذين ورثوا الحكم من غير أن يكونوا أهلا له.
ولذلك.. فأعداء الإسلام الذين يقفون كحصن منيع يحمي المستبدين لا يقصدون من ذلك أن يؤذوا الرعية من المسلمين فقط.. وإنما قصدهم أن يكون ذلك الاستبداد جدارا يقي رعاياهم من الدخول في دين الله أفواجا.
قال القمي: لقد ذكرتني بموقف لعلي يدل على ما للعدل من تأثير في دخول الناس في دين الله أفواجا.. لقد حدث الإخباريون أن أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب افتقد درعه ـ يوما من الأيام ـ فوجدها عند رجل نصراني، فاختصمه إلى شريح القاضي، فقال عليّ مدعيا: الدّرع درعي، ولم أبع ولم أهب، وسأل شريح النصراني في ذلك فقال: ما الدّرع إلاّ درعي، وما أمير المؤمنين عندي بكاذبٍ، فالتفت القاضي إلى أمير المؤمنين عليّ، فقال: يا أمير المؤمنين، إن النصراني صاحب اليد على الدّرع، وله بذلك حقٌ ظاهر عليها، فهل لديك بيّنة على خلاف ذلك تؤيد ما تقول؟ فقال أمير المؤمنين: أصاب شريح، مالي بيّنة، وقضى شريحٌ بالدرع للنصراني، وأخذ النصراني الدّرع وانصرف بضع خطوات، ثم عاد فقال: أما إني أشهد أن هذه أحكام الأنبياء، أمير المؤمنين يدنيني إلى قاضيه، فيقضي لي عليه، أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، الدّرع درعك يا أمير المؤمنين، اتبعت الجيش وأنت منطلق من صفين، فخرجت من بعيرك الأورق، فقال علي : أما وقد أسلمت فهي لك.
انظروا كيف استطاع علي وارث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يتصرف التصرف المثالي الذي جعل هذا الرجل لا يجد إلا أن يسلم.. لقد اضطره بموقفه هذا إلى الإسلام اضطرارا.
قال مطهري: وذكرني قوله هذا بحدث رواه ابن عباس قال: افتتح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خيبر، واشترط أن له الأرض وكل صفراء وبيضاء ـ يعني الذهب والفضة ـ فقال أهل خيبر: نحن أعلم بالأرض منكم، فأعطناها على أن لكم نصف الثمرة، ولنا نصف، فزعم أنه أعطاهم على ذلك، فلما كان حين يصرم النخل بعث إليهم عبد الله بن رواحة، فحرز عليهم النخل ـ وهو الذي يسميه أهل المدينة الخرص ـ فقال: في ذِه كذا وكذا، قالوا أكثرت علينا يا ابن رواحة، فقال: فأنا أَلي ـ أي أتولى ـ حزر النخل وأعطيكم نصف الذي قلت، قالوا: هذا الحق وبه تقوم السماء والأرض قد رضينا أن نأخذه بالذي قلت([32]).
وفي رواية عن سليمان بن يسار أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يبعث عبد الله بن رواحة إلى خيبر، فيخرص بينه وبين يهود خيبر، قال: فجمعوا له حليا من حلي نسائهم، فقالوا له: هذا لك ـ يعني رشوة ـ وخفف عنا وتجاوز في القسم، فقال عبد الله بن رواحة: (يا معشر اليهود! والله إنكم لمن أبغض خلق الله إليّ، وما ذاك بحاملي على أن أحيف عليكم، فأما ما عرضتم عليّ من الرشوة فإنها سحت، وإنا لا نأكلها)، فقالوا: بهذا قامت السماوات والأرض([33]).
انظروا.. كيف استطاع ابن رواحة بموقفه الأمين العادل من استلال هذه الشهادة العظيمة من أولئك اليهود القساة الذين قلما يشهدون بحق؟
قال الشعراوي: ولهذا أمرنا الله تعالى في القرآن الكريم بأن نقوم بالعدالة المطلقة العامة التي لا تستثني أحدا ولا جهة ولا موضوعا.. قال تعالى:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً} (النساء:135)
انظروا.. كيف تلح علينا هذه الآية الكريمة في الأمر بالعدل.. مهما كان الذين نعدل معهم.. فلا ينبغي أن يميل بنا الهوى إلى أي جهة من الجهات.
وفي الآية الأخرى يقول الله تعالى:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} (المائدة:8)
إن هذه الآية الكريمة تنهانا أن نلاحظ أنفسنا وأهواءنا ونحن نتخذ أي موقف.. فالمؤمن هو الذي سلم أمره لله، وعقله لله، وقلبه لله، فهو يتعامل مع عباد الله كما أمر الله.. والله هو الحكم العدل الذي لا تضيع عنده الحقوق..
قال شكيب: لقد ذكرتني بقوله تعالى:{ فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} (الشورى:15)
إن هذه الآية الكريمة ـ كما يذكر المفسرون([34]) ـ اشتملت على عشر كلمات مستقلات، كل كلمة منها منفصلة عن التي قبلها، لها حكم برأسه([35]).. وقد تأملت هذه الكلمات، فوجدت جميعا تتحدث عن العدل في صورته المطلقة الكاملة الجميلة، وهي الصورة التي تجعل الناس لا محالة يدخلون في دين الله أفواجا.
أما الكلمة الأولى، فقوله تعالى:{ فَلِذَلِكَ فَادْعُ } أي: فللذي أوحينا إليك من الدين الذي وصينا به جميع المرسلين قبلك أصحاب الشرائع الكبار المتبعة كأولي العزم وغيرهم([36])، فادعُ الناس إليه.. وفي هذا منتهى العدل، فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر بأن يحكم الناس بأصول الشرائع التي اتفقت عليها الملل، وهي لا تتفق إلا على ما يتفق مع العدل والفطرة.
أما الكلمة الثانية، فقوله تعالى:{ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ } أي: استقم أنت يا محمد ومن اتبعك على عبادة الله، كما أمركم الله عز وجل.. وفي هذا منتهى العدل.. فالعادل هو الذي يبدأ بنفسه.. وهو الذي يطبق ما يقتضيه العدل على نفسه قبل أن يطبقه على غيره.
أما الكلمة الثالثة، فقوله تعالى:{ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ } لأن العادل هو الذي جعل السلطة للقانون لا للهوى.. كما قال تعالى لداود u:{ يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} (صّ:26)، فقد أخبر الله في هذه الآية الكريمة أن الهوى لا نتيجة له إلا الإضلال عن سبيل الله.
أما الكلمة الرابعة، فقوله تعالى:{ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ } أي: صدقت بجميع الكتب المنزلة على الأنبياء، لا نفرق بين أحد منهم.. وفي هذا منتهى العدل في التعامل مع مقدسات الملل والنحل.
أما الكلمة الخامسة، فقوله تعالى:{ وَأُمِرْتُ لأعْدِلَ بَيْنَكُمُ } أي: أني لن أحكمكم إلا بما يقتضيه العدل..
أما الكلمة السادسة، فقوله تعالى:{ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ }.. وهي آية عظيمة في مدلولها المرتبط بالعدل.. فالآية تذكر المؤمنين أن رب العباد ـ كافرهم ومؤمنهم واحد ـ ولذلك لا ينبغي التعامل معهم إلا وفق ما أمر به الله.. والله لم يأمر إلا بالعدل.
أما الكلمة السابعة، فقوله تعالى:{ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ } أي لكل منا عمله الذي يحاسب عليه، ويسأل عنه.. وكل ذلك عند الله.. وفي هذا منتهى العدل.. فالعادل هو الذي يسلم الأمر لأهله، ولا يتدخل إلا فيما تطلبه العدالة من مواقف.
أو أن هذه الآية مثل قوله تعالى:{ وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ} (يونس:41).. أي أن حالي كحالكم، فأنتم لا ترضون عن عن عملي كما أني لا أرضى عن عملكم.. ولذلك لا ينبغي أن يجور أحد منا على الآخر.
أما الكلمة الثامنة، فقوله تعالى:{ لا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ } أي لا خصومة بيننا وبينكم بسبب مواقف بعضنا من بعض.. فالبراءة من العمل لا تعني الإلزام الذي يتنافى مع العدل.
أما الكلمة التاسعة، فقوله تعالى:{ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا } أي: يوم القيامة، وفي هذا توجيه للمؤمنين بتسليم الأمر لعدالة الله.. وكأنها تقول للمؤمنين المستعجلين: روديكم.. ذروا هؤلاء الذين تبرأتم من أعمالهم لله.. فالله هو الحكم العدل الذي يحكم بينكم.
أما الكلمة العاشرة، فقوله تعالى:{ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ } أي: المرجع والمآب يوم الحساب.. في هذا تذكير بالعدالة المطلقة التي تتجلى في ذلك اليوم العظيم الذي تنصب فيه الموازين فلا تضيع مثقال ذرة.. قال تعالى:{ إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً} (النساء:40)، وقال تعالى:{ وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} (الانبياء:47)
قال ديدات: لقد ذكرتني هذه الآية بقوله تعالى:{ إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا (105) وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (106) وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا (107) يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا (108) هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا (109) وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا (110) وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (111) وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (112) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا (113) } (النساء)
انظروا.. هذه الآيات جميعا.. لم تنزل في شأن تبرئة مسلم.. ولا في الدفاع عن مسلم.. بل نزلت لتبرئة يهودي.. يهودي كان مع قومه في كل حين يكيد المكايد للمسلمين.. ومع ذلك نزلت تبرئته في القرآن الكريم..
لقد اتفق المفسرون أن هذه الآية نزلت في طعمة بن أبيرق الذي سرق سلاحا، فشكاه صاحب السلاح إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فألقى السارق السلاح المسروق في بيت رجل بريء، ليبرئ نفسه ويحمل البريء إثمه، وعندما وجد السلاح في بيت الرجل البريء ثبتت ـ في الظاهر ـ براءة السارق، فأنزل الله هذه الآيات تبين وجه الحق بغض النظر عمن كان معه الحق([37]).
قارنوا هذا الموقف بما يقع في عصرنا من جور وظلم.. فما أكثر ما يرتكب ناس مثل هذه الخطيئة! ويبرئون أنفسهم مما ارتكبوه ويلطخون به البريئين.
انظروا في وسائل الإعلام لتروا العجب العجاب من الاتهامات الكاذبة من فرد لآخر، ومن جماعة أو حزب لجماعة أو حزب آخر، ومن دولة لدولة أخرى، وكثيرا ما يكون المتَّهِم غارقا في العيوب والنقائص التي اتهم بها غيره.
قال الكواكبي: للأسف نجد من المسلمين من يقع في مثل هذا.. وهو مما ينفر من الإسلام.. لقد رأيت صاحب حلة كحلة العلماء يتكلم عن المسيحية كلام جاهل.. فهو لا يفرق بين أسفار الكتاب المقدس، ولا أنبيائه.. ومع ذلك يدعي أنه يريد أن يحكم بينهم فيما اختلفوا فيه.. وكيف يحكم من لا يعرف القضية، ولا المختلفين فيها.
قال إقبال: إن ما ذكرته يستدعي الدعوة إلى ما يسمى بالعدل في المواقف.. فالموقف مسؤولية كبرى.. يدخلها العدل كما يدخلها الجور.. لقد قال الله تعالى يذكر ذلك:{ وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} (الاسراء:36)، وقال تعالى:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} (الحجرات:6)
قال مطهري: إن العدل في الموقف يستدعي أن يقف المسلمون مع جميع القضايا العادلة في العالم سواء كانت ترتبط بالمسلمين أو غير المسلمين.. إن ذلك يجعل أصحاب تلك القضايا ينظرون إلى الإسلام باحترام ورغبة، وهو ما يكون مقدمة لدخولهم في دين الله أفواجا.
لقد قال الله تعالى يذكر ذلك:{ وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً} (النساء:75)
إن هذه الآية الكريمة تشير إلى أن الإسلام رسالة تحريرية تهدف إلى نصرة المستضعفين وإخراجهم من أسر المستكبرين.
قال الكواكبي: ولكن ذلك لن يتحقق إلا إذا أحيينا قيم العدالة التي جاءنا بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فلا يمكن أن ينتصر الإسلام، ونحن منحرفون عنها.
قال الشعراوي: من السهل علينا أن نعيد لهذه القيم الحياة.. فكل ما تركه لنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في هذا من بشارات مشاعل هداية يسير بها الدعاة الصادقون ليبشروا بهذه الفضيلة، وينشروها.. فما ضاعت قيمة وجدت مبشرا وناشرا.
قال شكيب: حدثنا يا شيخنا عن نبينا.. فلا تحلو المجالس إلا بحديثه.
قال الشعراوي: من البشارات العظيمة التي ربطها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالعدل قوله:(سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة الله تعالى، ورجل قلبه معلق في المساجد، ورجلان تحابا في الله، اجتمعا عليه، وتفرقا عليه، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال، فقال: إني أخاف الله، ورجل تصدق بصدقة، فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه)([38])
انظروا البشارة العظيمة التي يحملها هذا الحديث.. إنه يبشر الإمام العادل بالظل الإلهي في اليوم الذي يحترق فيه الإمام الجائر بنار جوره.
وانظروا كيف قرن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الإمام العادل بأولئك الطيبين الكرام المنشغلين بالله.. فلا يقرن بالكرام إلا كريم.
وفي حديث آخر يحمل بشارة أخرى قال صلى الله عليه وآله وسلم:(إن المقسطين عند الله على منابر من نور: الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا)([39])
انظروا البشارة العظيمة التي يحملها هذا الحديث.. إنها منابر النور.. تلك المنابر التي تهفو لها القلوب، وتحن لذكرها النفوس.. إنها منابر لا كالمنابر.. لقد اعتبر صلى الله عليه وآله وسلم في هذا الحديث العدل هو المرقاة التي يرقى بها العبد إلى تلك المنابر النورانية.
وانظروا كيف عمم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم العدل وأطلقه.. فالعدل لا يكمل إلا بذلك، ولا يصح إلا بذلك.
وفي حديث آخر قال صلى الله عليه وآله وسلم:(خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم، وتصلون عليهم ويصلون عليكم، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم، وتلعنونهم ويلعنونكم!) قال: قلنا يا رسول الله، أفلا ننابذهم؟ قال: (لا، ما أقاموا فيكم الصلاة، لا، ما أقاموا فيكم الصلاة)([40])
إن هذا الحديث يشير إلى ثورة أهل السلام.. فأهل السلام لا يستعملون ما يعرفه الناس من سلاح يسفك الدماء، وينشر الفتنة، وإنما يستعملون أسلحة أعظم وأخطر، ولكنها مع ذلك لا تسيل دما ولا تثير فتنة.
إنها أسلحة الحب والبغض، وأسلحة الدعاء واللعنات.. وهي أسلحة لا بد أن تؤتي أكلها في يوم من الأيام.
فالحاكم الجائر الذي لا يجد اليد التي تصفق لجوره أو تبتسم لجوره أو تحييه لجوره أو تدعو له مع جوره.. فإنه لا محالة، وفي ظل هذه المقاطعة النفسية، يجد نفسه مرغما على أن يسير وفق ما تقتضيه العدالة.
ولهذا نبه صلى الله عليه وآله وسلم إلى استعمال هذه الأسلحة بدل الأسلحة التي تسفك الدماء، وتثير الفتن، ومع ذلك لا تفعل شيئا.
وفي حديث آخر قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:(أهل الجنة ثلاثة: ذو سلطان مقسط موفق، ورجل رحيم رقيق القلب لكل ذي قربى ومسلم، وعفيف متعفف ذو عيال)([41])
انظروا كيف جعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الحاكم العادل أول من ذكرهم من أهل الجنة.. وانظروا كيف قرنه بالرجل الرحيم والرجل العفيف.. وكأنه صلى الله عليه وآله وسلم يقول لنا: إن العدالة تنبني على هذين الأساسين: الرحمة والعفاف.. فلا يقف في وجه العدالة، ولا ينحرف بها إلا القسوة والطمع.
وفي حديث آخر قال صلى الله عليه وآله وسلم:(ثلاثة لا ترد دعوتهم: الصائم حتى يفطر، والإمام العادل، ودعوة المظلوم، يرفعها الله فوق الغمام، وتفتح لها أبواب السماء)، ويقول الرب:(وعزتي وجلالي لأنصرنك، ولو بعد حين)([42])
انظروا ما يحمله هذه الحديث من معان عظيمة.. لقد ضمن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للإمام العادل استجابة الدعاء.. والدعاء لا يستجاب إلا من قريب.
وانظروا كيف قرنه صلى الله عليه وآله وسلم بالصائم .. فالعدل لا يتحقق إلا لمن انتصر على نفسه، وعرف كيف يهذبها.
وانظروا ذلك التحذير الخطير الذي يحمله ربطه صلى الله عليه وآله وسلم الإمام العادل بدعوة المظلوم.. وكأنه ينبئ عن علاج يعالج به مرض الجور، وهو التحذير من دعوة المظلوم.
قال الكواكبي: حدثتنا عن الإمام العادل، فحدثنا عن الإمام الجائر.. ذلك الذي يشوه الإسلام، ويقف حجابا بين البشر والدخول في دين الله أفواجا.
قال الشعراوي: لقد ورد في الحديث قوله صلى الله عليه وآله وسلم :(إن أشد الناس عذابا يوم القيامة من قتل نبيا أو قتله نبي وإمام جائر)([43])
انظروا كيف قرن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الإمام الجائر بقاتل النبي وبمن قتله النبي.. فالأنبياء ـ عليهم السلام ـ كلهم في منتهى الرحمة، ولا يقتلهم ولا يقتلون إلا من بلغت به القسوة حدها.
وانظروا كيف أخبر صلى الله عليه وآله وسلم عن شدة العذاب التي يعانيها الإمام الجائر، وكأن كل العذاب الذي صليت به رعيته يصب عليه دفعة واحدة جزاء وفاقا.
وفي حديث آخر قال صلى الله عليه وآله وسلم:(أربعة يبغضهم الله: البياع الحلاف، والفقير المختال، والشيخ الزاني، والإمام الجائر)([44])، وفي رواية:(وملك كذاب، وعائل مستكبر)([45])
انظروا العقوبة العظيمة التي نالت الإمام الجائر ومن معه.. وانظروا كيف قرن الإمام الجائر بأصحاب الهمم الدنية من المنحطين المترفعين المخذولين.
وفي حديث آخر، قال صلى الله عليه وآله وسلم:(إني أخاف على أمتي من أعمال ثلاثة)، قالوا: وما هي يا رسول الله؟ قال: (زلة عالم، وحكم جائر، وهوى متبع)([46])
انظروا كيف قرن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين هؤلاء الثلاثة.. فالحكم الجائر لا يتأسس إلا على الزلات التي يقع فيها العالم الذي لم يتثبت في علمه، والهوى الذي يجعل الحاكم لا يختار من كلام العلماء إلا الزلات.
وفي حديث آخر، قال صلى الله عليه وآله وسلم:(اللهم من ولي من أمر أمتي شيئا فشق عليهم فاشقق عليه، ومن ولي من أمر أمتي شيئا فرفق بهم فارفق به)([47])
وفي حديث آخر، قال صلى الله عليه وآله وسلم:(ما من أمتي أحد ولي من أمر الناس شيئا لم يحفظهم بما يحفظ به نفسه إلا لم يجد رائحة الجنة)([48])
وفي حديث آخر، قال صلى الله عليه وآله وسلم:(ما من عبد يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاش رعيته إلا حرم الله تعالى عليه الجنة)([49])، وفي رواية:(فلم يحطها بنصحه لم يرح رائحة الجنة)، وفي أخرى:(ما من أمير يلي أمور المسلمين ثم لا يجهد لهم وينصح لهم إلا لم يدخل معهم الجنة)
انظروا هذه الأحاديث، وما تحمله من ترهيب من الجور الذي يتأسس من غش الوالي لم كلف برعايتهم.
وفي حديث آخر قال صلى الله عليه وآله وسلم: (كيف أنتم إذا وقع فيكم خمس وأعوذ بالله أن تكون فيكم أو تدركوهم: ما ظهرت الفاحشة في قوم قط يعمل بها فيهم علانية إلا ظهر فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم، وما منع قوم الزكاة إلا منعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا، وما بخس قوم المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين وشدة المؤنة وجور السلطان، ولا حكم أمراؤهم بغير ما أنزل الله تعالى إلا سلط الله عليهم عدوهم فاستنفذوا بعض ما في أيديهم، وما عطلوا كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم إلا جعل الله بأسهم بينهم)([50])
قال مطهري ـ مقاطعا ـ انظروا.. إن كل لفظ من هذا الحديث يدل على أمر له علاقة بالعدل الذي أمر به الحكام..
فسبب انتشار الفواحش، وما يعقبها من عقوبات هو توقف السلطان دون تطبيق نظام العفاف الذي جاء به الإسلام.. فلا يمكن أن يتحقق العفاف من دون ذلك النظام.
وسبب منع الزكاة له علاقة بالسلطان، فالسلطان هو الذي يستعمل كل الوسائل ليأخذ حق الفقراء من أيدي الأغنياء، رضوا أو لم يرضوا.
وسبب البخس في المكيال والميزان له علاقة بالسلطان، فالسلطان العادل هو الذي يهتم بشؤون الرعية، فيوظف من المحتسبين من يمنعون كل أسلوب من أساليب الغش.
وسبب هجر كتاب الله وتعطيل أحكام الله له علاقة بالسلطان، فالسلطان العادل هو الذي يبحث عن قوانين العدالة التي يحكم بها.. ولن يجد في جميع قوانين الدنيا ما هو أعدل من أحكام ربه، ذلك أن الله هو خالق الخلق، وهو الأعلم بمصالحهم.
قال الشعراواي: وفي حديث آخر، قال صلى الله عليه وآله وسلم:(لا يقدس الله أمة لا يقضى فيها بالحق، ويأخذ الضعيف حقه من القوي غير متعتع)([51])
صاح شكيب: ما شاء الله.. لو أن هذا الحديث كان في أمم اليهود والنصارى لجعلوه شعارهم، ولراحوا يفخرون به علينا..
قال إقبال: انظروا الإشارة العظيمة التي يحملها قوله صلى الله عليه وآله وسلم:(لا يقدس) إن التقديس هو التطهير والرفع والترقي.. وكل ذلك يجذب الناس لا محالة إلى دين الله أفواجا.
قال الشعراوي: وفي حديث آخر قال صلى الله عليه وآله وسلم:( عدل ساعة خير من عبادة ستين سنة، قيام ليلها، وصيام نهارها)، وفي المقابل قال:(جور ساعة في حكم أشد وأعظم عند الله عز وجل من معاصي ستين سنة)([52])، وفي رواية:(يوم من إمام عادل أفضل من عبادة ستين سنة، وحد يقام في الأرض بحقه أزكى فيها من مطر أربعين صباحا)([53])
انظروا هذه الأجور العظيمة التي بشر بها رسول الله الحاكم العادل.. لقد اعتبره ـ بقيامه بما يتطلبه العدل من مواقف ـ عابدا خاشعا يؤدي ما أمر به من شعائر العبادة.
وفي حديث آخر، قال صلى الله عليه وآله وسلم:(أحب الناس إلى الله يوم القيامة وأدناهم منه مجلسا إمام عادل، وأبغض الناس إلى الله تعالى وأبعدهم منه مجلسا إمام جائر)([54])
انظروا هذه البشاره التي يحملها هذا الحديث.. إن أقرب الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو الإمام العادل.. ذلك أن الأجناس يوم القيامة تضم إلى أجناسها، ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو سيد العادلين ولن يليق لصحبته إلا العادلون.
وفي حديث آخر، قال صلى الله عليه وآله وسلم:(أفضل الناس عند الله منزلة يوم القيامة إمام عادل رفيق، وشر عباد الله عند الله منزلة يوم القيامة إمام جائر خرق)([55])
انظروا كرامة الإمام العادل عند الله..
قال إقبال ـ مقاطعا ـ: وانظر كيف قرن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين العدل والرفق، كما قرن بين الجور والخرق.. فالأخرق الأحمق لا يزيد طين رعيته إلا بلة، ولن يصدر منه إلا ما يؤذيه ويؤذي رعيته..
قال الشعرواي: ومن الأحاديث التي تمتلئ بالرهبة من الظلم والجور قوله صلى الله عليه وآله وسلم:(يؤتى بالقاضي يوم القيامة، فيوقف للحساب على شفير جهنم، فإن أمر به دفع فهوى فيها سبعين خريفا)([56])
وقال صلى الله عليه وآله وسلم:(لا يلي أحد من أمر الناس شيئا إلا وقفه الله تعالى على جسر جهنم، فيزلزل به الجسر زلزلة فناج أو غير ناج، فلا يبقى منه عظم إلا فارق صاحبه، فإن هو لم ينج ذهب به في جب مظلم كالقبر في جهنم يبلغ قعره سبعين خريفا)([57])
وقال صلى الله عليه وآله وسلم:(إن في جهنم واديا وفي الوادي بئر يقال له هبهب حقا على الله أن يسكنه كل جبار عنيد)([58])
وقال صلى الله عليه وآله وسلم:(من ولي أمة من أمتي قلت أو كثرت فلم يعدل فيهم كبه الله تعالى على وجهه في النار)([59])
وقال صلى الله عليه وآله وسلم:(ما من أحد يكون على شيء من أمور هذه الأمة فلا يعدل فيهم إلا كبه الله في النار)([60])
وقال صلى الله عليه وآله وسلم:(ما من أمير عشرة إلا يؤتى به يوم القيامة مغلولا لا يفكه إلا العدل)([61])
وقال صلى الله عليه وآله وسلم:(ما من والي ثلاثة إلا لقي الله مغلولة يمينه فكه عدله أو غله جوره)([62])
وقال صلى الله عليه وآله وسلم:(عرض علي أول ثلاثة يدخلون النار: أمير مسلط، وذو ثروة من مال لا يؤدي حق الله فيه، وفقير فخور)([63])
قال القمي: وعينا هذه الأحاديث، وما يحدثه نشرها والتبشير بها من آثار كبيرة في ترسيخ قيم العدل التي نادى بها الإسلام.. فحدثنا عن المظلومية.. حدثنا عن الذين يقفون مع المستكبرين في وجه المستضعفين.. حدثنا عن علماء السلاطين الذين يفتون لهم بعلم وبغير علم.. حدثنا عن الذين يصورون الإسلام دينا يقف مع المستبدين، أو دينا يعطي جرعات من المخدرات للمستضعفين ليتمكن من رقابهم المستكبرون.
قال الشعراوي: لو حدثتك بكل ما ورد في ذلك سننشغل عما نحن فيه.. فأنتم تعلمون أن الوظيفة الكبرى للإسلام هي التحرير .. ومن التحرير الذي جاء به الإسلام تحرير المستضعفين من جور المستكبرين والمستبدين..
سكت قليلا، ثم قال: اسمعوا هذه الأحاديث وألقوها في وجوه من يعبدون المستبدين من دون الله ويزينون لهم ما يفعلون، ويشوهون الإسلام بذلك التزيين.. قال صلى الله عليه وآله وسلم:(ما من مسلم يخذل امرأ مسلما في موضع تنتهك فيه حرمته وينتقص فيه من عرضه إلا خذله الله في موطن يحب فيه نصرته، وما من امرئ مسلم ينصر امرأ مسلما في موضع ينتقص فيه من عرضه وينتهك فيه من حرمته إلا نصره الله في موطن يحب فيه نصرته)([64])
وقال صلى الله عليه وآله وسلم:(أمر بعبد من عباد الله تعالى يضرب في قبره مائة جلدة فلم يزل يسأل الله ويدعو حتى صارت جلدة واحدة فامتلأ قبره عليه نارا فلما ارتفع عنه وأفاق قال: علام جلدتموني؟ قالوا: إنك صليت صلاة بغير طهور، ومررت على مظلوم فلم تنصره)([65])
وقال صلى الله عليه وآله وسلم:(قال الله عز وجل: وعزتي وجلالي لأنتقمن من الظالم في عاجله وآجله، ولأنتقمن ممن رأى مظلوما فقدر أن ينصره ولم يفعل)([66])
وقال صلى الله عليه وآله وسلم:(انصر أخاك ظالما أو مظلوما، فقال رجل يا رسول الله أنصره إذا كان مظلوما أفرأيت إن كان ظالما كيف أنصره؟ قال تحجزه أو تمنعه عن الظلم فإن ذلك نصره)([67])
قال الكواكبي: فحدثنا عن شمول معنى العدل في الإسلام.
قال الشعراوي: لقد اعتبر علماء الأخلاق المسلمين العدل من الأركان الأربعة الكبرى التي تتأسس عليها الأخلاق.. وقد أشار القرآن الكريم في الآية التي تحوي أصول الأخلاق إلى هذا، بل اعتبر العدل أول الأصول، فقال:{ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } (النحل: 90)
ولهذا، فإن العدل في الإسلام ـ على حسب ما تدل النصوص المقدسة ـ يبدأ من العدل مع النفس، ويمتد إلى كل علاقات الإنسان..
فقد أمر من له عدة زوجات أن يعدل بينهن في كل شيء غير مبال بما يهواه قلبه منهن، قال تعالى:{ وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا} (النساء:3)، وفي الحديث قال صلى الله عليه وآله وسلم : (من كانت عنده امرأتان، فلم يعدل بينهما جاء يوم القيامة، وشقه ساقط)([68])
قال الكواكبي: إن هذا يدعو المسلمين إلى تبني جميع ما تطلبه النساء من حقوق.. فمن العار أن نجد من يتولى مثل هذا نساء ورجال لا علاقة لهم بالإسلام، ثم يجدون من فقهاء المسلمين المتزمتين من يمدهم بما يحاربون به الدين، ويمنعون أكثر النساء من الدخول في دين الله أفواجا.
قال القمي: فأرسلوا إلى سحنون.. وجميع المفتين من ورثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن لا يفتوا إلا بما تقتضيه العدالة فـ (الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ورحمة كلها ومصالح كلها، وحكمة كلها، فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث فليست من الشريعة وإن دخلت فيها بالتأويل)([69])
قال الشعراوي: ومن العدل الذي ورد الحض عليه في النصوص العدل بين الأولاد، وقد روي في هذا عن بعضهم أنه قال: نحلني أبي نَحْلا، فقالت أمي: لا أرضى حتى تُشْهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فجاءه ليشهده على صدقتي، فقال: (أكل ولدك نحلت مثله؟) قال: لا. قال: (اتقوا الله، واعدلوا في أولادكم)، وقال:(إني لا أشهد على جَوْر) قال: فرجع أبي، فرد تلك الصدقة([70]).
قال الكواكبي: إن هذا يدعو المسلمين إلى تبني جميع ما يطلبه الأطفال وغيرهم من المستضعفين من حقوق.. فمن العار أن نجد من يتولى مثل هذا من لا علاقة لهم بالإسلام، ثم يجدون من فقهاء المسلمين المتزمتين من يمدهم بما يحاربون به الدين، ويمنعون هؤلاء الطبقات من الدخول في دين الله أفواجا.
قال القمي: فاكتبوا إلى سحنون وجميع مفتي الأمصار الإسلامية، بأن لا يفتوا إلا بما تقتضيه العدالة التي جاء بها القرآن الكريم وبشر بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم..
قال الشعراوي: وقد ورد في النصوص الأمر بالعدالة بين الأقارب.. ولهذا ـ كان من حكمة الله ـ أن تولى قسمة المواريث بنفسه حتى لا يقع فيها أي جور أو ظلم.
***
بقيت هذه الثلة الطيبة من الورثة تستعرض أحكام الشرع وعلاقتها بالعدل، ثم تقرر القرارات المختلفة بناء على ذلك.. وأنا أتعجب كل حين يذكر فيه سحنون أو غيره ممن كنت لاقيتهم.
ولم أعلم سر ذلك إلى أن أعلمني صاحبي إلى أن لجميع من مررت بهم من الهداة علاقة بهذه الغرفة.. فهذه الغرفة هي غرفة العمليات التي تصدر منها جميع القرارات والأحكام المورورثة عن النبي الهادي.
بعد أن انتهى مهندسو الشهادة من الحديث عن العدل، وكيفية تحقيقه في الواقع الإسلامي، ليدخل الناس في دين الله أفواجا، نهض محمد إقبال، وقال: سأبث لكم الآن مشروع الشهادة الذي وصلت إليه بعد جهد جهيد، وبحث مستفيض، ومعاناة طويلة.
لقد رأيت أن سر إعراض الناس عن الإسلام هو ما عليه المسلمون من ضعف.. فالبشر تبع للقوي.. لا يدينون بغير دينه، ولا يحتمون بغير حماه.
نعم.. العقلاء من الناس، وأصحاب الهمم العالية منهم لا تؤثر فيهم قوة ولا ضعف.. ولكن عموم الناس لا يؤثر فيهم إلا القوي العزيز.
ألا ترون كيف لم يتبع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في بدء الرسالة إلا السابقون الأولون من أصحاب الهمم العالية.. ولكنه بعد ما فتح الله على المسلمين مفاتيح القوة والتمكين دخل الناس في دين الله أفواجا؟
لقد ذكر القرآن ذلك، فقال:{ إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا (3)} (النصر)
ولذلك كانت القوة ركنا من أركان الشهادة.. فلا يمكن للأمة الضعيفة التي لا تستطيع أن تنقذ نفسها أن تقوم بإنقاذ غيرها.
قال القمي: ذلك مما لا شك فيه.. فلا يمكن للمستضعف أن ينصر مستضعفا، أو يقف في وجه مستكبر.. لابد من القوة.. القوة بجميع معانيها، وبجميع وجوهها.
قال الشعراوي: بورك فيك يا قمي.. إن القوة بجميع وجوهها لم تكتمل في دين كما اكتملت في الإسلام، ولم تكتمل في هدي نبي كما اكتملت في هدي نبينا صلى الله عليه وآله وسلم..
إن الإسلام بجميع شرائعه منظومة متكاملة للقوة.. القوة بجميع مجالاتها، وبجميع وجوهها: قوة الفرد، وقوة المجتمع، وقوة الأمة.
قال مطهري: فلنتحدث عن هذه القوى الثلاث، وكيف نعيد إحياءها في الأمة، لنعيد لها وصف الشهادة الذي وصفها الله به.
قال إقبال: أنتم تعلمون أن الإسلام يؤسس دولته على الأفراد.. بل على نفوس الأفراد.. فكل فرد في الإسلام كيان قائم بذاته، له حرمته، وله سلطته، فلا يحتاج إلى أي جماعة أو حزب حتي يثبت وجوده.. بل هو بذاته حزب يمكنه أن يواجه من يشاء، وينصح من يشاء، ويعارض من يشاء.
لقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يذكر ذلك:(المسلمون تتكافا دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم ويجير عليهم اقصاهم وهم يد على من سواهم يرد مشدهم على مضعفهم ومسرعهم على قاعدهم)([71])
وقال في الحديث الآخر الذي يحمل الأمة جميعا بجميع أفرادها مسؤولية النصح والتقويم:(إن الدين النصيحة، إن الدين النصيحة، إن الدين النصيحة) قالوا: لمن يا رسول الله؟ قال: (لله، ولكتابه، ولرسوله، ولائمة المسلمين وعامتهم)([72])
قال القمي: وهذا يحوج إلى المسلم القوي، فلا يمكن أن يؤدي النصيحة بتمامها وكمالها إلا من اكتملت له جميع أسباب القوة.. فهو قوي بنفسه، قوي ببدنه، قوي بهمته، قوي بعزيمته..
قال الشعراوي: لقد جمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم كل ذلك، فقال في دعائه لربه:(اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، وأعوذ بك من العجز والكسل، وأعوذ بك من الجبن والبخل، وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال)
انظروا.. ألا ترون في هذا الدعاء كيف أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد استعاذ بالله من كل مظهر من مظاهر الضعف: ضعف الإرادة بالهم والحزن، وضعف الإنتاج بالعجز والكسل، وضعف الجيب والمال بالجبن والبخل، وضعف العزة والكرامة بالدين والقهر؟
قال شكيب: بل إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم صرح بذلك بقوله:(المؤمن القوي خيرٌ وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خيرٌ. احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز. وإن أصابك شيءٌ فلا تقل: لو أني فعلت كان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله، وما شاء فعل؛ فإن لو تفتح عمل الشيطان)([73])
انظروا.. إن هذا الحديث يدلنا على جميع أركان القوة التي يتأسس عليها بنيان المؤمن:
لقد بدأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ببيان خيرية المؤمن القوي، وهي خيرية مطلقة من كل قيد، تجعل كل مؤمن يبحث عن كل أسباب القوة لتتجلى فيه الخيرية بكمالها وشمولها.
ثم أمر صلى الله عليه وآله وسلم بالحرص على ما ينفع، وذلك لأن القوة قد تستغل فيما لا ينفع، فتكون على وبالا على ما ينفعها.. فلا يكفي أن تكون لدينا قوة، بل يجب أن نعرف أي نضعها، وكيف نستثمرها، وإلى من نوجهها.
لقد رأيت بعض الشباب في فترة من الزمن يتدربون على جميع أنواع القوى، فقرت عيني بذلك، وقلت في نفسي: هؤلاء هم ورثة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وبهؤلاء سوف يقوم دينه، وسوف يدخل الناس في دين الله أفواجا.. لكني ما لبثت حتى رأيتهم يحملون بقواهم على إخوانهم من المسلمين، فعرفت أن القوة التي لا توجه التوجيه النافع لن تزيد صاحبها إلا ضعفا.
ثم أمر صلى الله عليه وآله وسلم بالاستعانة بالله.. ذلك أن الله هو القوي.. ومن استعان به أمده بالقوة التي تنهد لها الجبال.
وذلك يدل على وجوب الاهتمام بالقوة الروحية للجيل القوي الذي نريد تأسيسه، فقوة الإيمان هي القوة الوحيدة التي لا يمكن لأحد في الدنيا قهرها.
ثم نهانا النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن نتألم لما مضى.. وهذا يدل على أن القوي هو الذي يفكر في كيفية صناعة مستقبله لا الذي يكون طريحا لماضيه.. لقد قال الله تعالى يذكر هذه المعيقات الخطيرة التي تقف في وجه القوة:{ لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} (الحديد:23)
قال مطهري: لقد مثل النبي صلى الله عليه وآله وسلم بسلوكه وفي حياته جميع القوى التي تملأ الفرد المسلم بالإيجابية.. فلذلك لن يصعب علينا بث مثل هذه الأفكار للجيل القوي الذي نريد تأسيسه.. فمن السهل أن نذكر لهم أن القوة بجميع معانيها هي سنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم.. لنجدهم جميعا بجميع ما أوتوا من الطاقات يسرعون إليها ويهرولون.
قال الشعراوي: نعم.. لقد جمع الله أنواع القوة في رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فلذلك كان السابق في كل شيء:
ففي الصلاة وعبادة الله، كان صلى الله عليه وآله وسلم هو النموذج الأكمل للعابد الذي لا يفتر ولا يمل([74]).. وذلك يدل على أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان صاحب قوة روحية عالية، لأنه لا يمكن أن تتأسس جميع القوى من دون تلك القوة الروحية العالية.
قال مطهري: وهكذا كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في جميع أنواع القوة الأخرى، ففي قوة السيطرة على دوافع الحرص التي تمتلئ بها نفس الإنسان كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يعطي عطاء من لا يخشى الفقر، وكان يقول:(لو عندي مثل أحد ذهبا ما سرني أن يأتي علي ثلاث ليال، وعندي منه شئ إلا شيئا أرصده لدين) ([75])
وقد كان أصحابه والمقربون إليه يعرفون هذه الصفة فيه، ويصفونه بها، فعن علي أنه كان إذا نعت رسول الله قال: كان أجود الناس كفا ([76]).. وعن أنس قال: كان رسول الله أجود الناس([77]).
وكان من الصفات التي عرفه من خلالها الكل هو أنه كان أبعد الناس عن رد أي سائل يسأله، مؤتمرا في ذلك بما أمره الله تعالى به، قال تعالى:{ وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ } (الضحى:10)
وكان من الصفات التي عرف بها.. عرفه بها جميع الناس.. أنه لا يسأل شيئا إلا أعطاه.
قال أنس : ما سئل رسول الله على الإسلام شيئا إلا أعطاه([78]).
وقد ذكر نموذجا لذلك، فقال: فسأله رجل غنما بين جبلين فأعطاه إياها، فأتى قومه فقال: يا قوم أسلموا، فوالله إن محمدا ليعطى عطاء من لا يخاف الفقر([79]).
قال أنس: وإن كان الرجل ليجئ إلى رسول الله وما يريد بذلك إلا الدنيا، فما يمسي حتى يكون دينه أحب إليه من الدنيا وما بينها ([80]).
وعن علي قال: كان رسول الله إذا سئل عن شئ، فأراد أن يفعله قال: (نعم) وإن أراد ألا يفعله سكت، وكان لا يقول لشئ لا ([81]).
قال ديدات: لقد ذكرتموني بحديث لأنس قال فيه: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أحسن الناس، وأجود الناس، وأشجع الناس، ولقد فزع أهل المدينة ذات ليلة، فانطلق الناس قبل الصوت، فاستقبلهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد سبق الناس إلى الصوت وهو يقول: (لم ترعوا لم ترعوا) وهو على فرس لأبي طلحة عرى، ما عليه سرج، في عنقه سيف، فقال: (لقد وجدته بحرا) أو (إنه لبحر)([82])
وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يتقدم أصحابه في الجهاد في سبيل الله، ففي غزوة حنين ثبت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين انهزم الكثير ممن معه، فعن البراء بن عازب أن رجلا قال له: يا أبا عمارة، أفررتم عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم حنين؟ فقال: لكن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يفر، إن هوازن كانوا قوماً رماة، فلما لقيناهم وحملنا عليهم انهزموا، فأقبل الناس فلقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأبا سفيان بن الحارث آخذ في لجام بغلته البيضاء، وهو يقول: (أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب)([83])
قال القمي: ما أحسن ما ذكرته من حديث أنس الذي قال فيه: (كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أحسن الناس، وأجود الناس، وأشجع الناس).. فلا يمكن أن يستعيد الإسلام مجده حتى يستن المسلمون بهذه السنة العظيمة: أن يكونوا أحسن الناس، وأجود الناس، وأشجع الناس.
قال إقبال: عرفنا قوة الفرد.. فما قوة المجتمع؟.. وكيف نحققها؟
قال مطهري: إذا اعتبرنا الأفراد هم لبنات المجتمع.. فلا شك أن المجتمع هو ذلك البناء الذي يتكون من لبنات الأفراد.. ولا يكفي في البناء أن تكون لبناته قوية، بل يجب أن يكون التماسك بينها قويا، وإلا أدى ذلك إلى خرابها، وسقوطها بأوهى الأسباب.
قال القمي: في الإسلام منظومة كاملة لذلك.. فكل ما ورد في النصوص المقدسة من الحث على التماسك والتآلف من التوجيهات والتشريعات يخدم هذا.
لقد قال الله تعالى يذكر ذلك:{ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (الحجرات:10)
انظروا.. كيف أمر الله تعالى بالإصلاح بين الإخوة، وكأنه يقول لنا: لا يمكن أن يتماسك بناؤكم الاجتماعي، وأنتم مفرقون مشتتون لا تجتمع لبناتكم.
قال الشعراوي: لقد صرح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بمثل هذا التشبيه، فقال:{ المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً وشبك بين أصابعه)([84])
وفي حديث آخر شبه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم العلاقات بين المؤمنين بأعضاء الجسد الواحد، فقال:(مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم، مثل الجسد إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)([85])
وفي حديث آخر ذكر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مثلا تقريبيا لما قد يحدثه سكوت المجتمع عن أخطاء أفراده، فقال:(مثل القائم على حدود الله ـ أي القائم على حفظ النظام العام للمجتمع وأفراده ـ والواقع فيه كمثل قوم استهموا على سفينة، فصار بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا هذا خرقا ولم نؤذ من فوقنا، فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا)([86])
قال ديدات: لقد وردت النصوص الكثيرة التي تؤسس للروابط الاجتماعية بين المسلمين، والتي أشار إليها قوله تعالى:{ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (لأنفال:63)
ففي الحديث الشريف يقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:(المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يسلمه من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلمٍ كربةً فرج الله عنه بها كربةً من كرب يوم القيامة، ومن ستر مسلماً ستره الله يوم القيامة)([87])
وفي حديث آخر، قال صلى الله عليه وآله وسلم:(المسلم أخو المسلم: لا يخونه ولا يكذبه ولا يخذله كل المسلم على المسلم حرامٌ: عرضه وماله ودمه، التقوى ههنا، بحسب امريءٍ من الشر أن يحقر أخاه المسلم)([88])
وفي حديث آخر، قال صلى الله عليه وآله وسلم:(لا تحاسدوا ولا تناجشوا ولا تباغضوا ولا تدابروا ولا يبع بعضكم على بيع بعضٍ، وكونوا عباد الله إخواناً. المسلم أخو المسلم: لا يظلمه ولا يحقره ولا يخذله. التقوى ههنا – ويشير إلى صدره ثلاث مراتٍ – بحسب امريءٍ من الشر أن يحقر أخاه المسلم. كل المسلم على المسلم حرامٌ دمه وماله وعرضه)([89])
وفي حديث آخر، قال صلى الله عليه وآله وسلم:(لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)([90])
وفي حديث آخر، قال صلى الله عليه وآله وسلم:(حق المسلم على المسلم خمسٌ: رد السلام، وعياد المريض، واتباع الجنائز وإجابة الدعوة، وتشميت العاطس)([91])
قال إقبال: لقد جمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كل ذلك وغيره في قوله الجامع:(المؤمن إلف مألوف، ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف)([92])
قال شكيب: وفي سلوك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نجده حريصا على تعميق الأخوة بين المؤمنين، ولذلك كان أول ما فعله صلى الله عليه وآله وسلم في المدينة المنورة هو قضاؤه على ذلك النزاع الطويل الذي كان ينهش جسد الأوس والخزرج، ثم إخاؤه بين المهاجرين والأنصار.. وكان صلى الله عليه وآله وسلم لا يترك سببا من أسباب الشقاق إلا سارع لسده قبل أن يتفاقم، وكان صلى الله عليه وآله وسلم يستعمل لذلك كل الأساليب، بل كان يدعو إلى استعمال جميع الأساليب لرد المسلمين إلى تآلفهم ووحدتهم، ففي الحديث أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس، فيقول خيرا أو ينمي خيرا) ([93])
قال إقبال: عرفنا قوة الفرد وقوة المجتمع، فما قوة الأمة؟.. وكيف نحققها؟
قال القمي: لا يمكن أن تتحقق الشهادة بكمالها إلا بهذا النوع من القوة.. ولا أرى أن هذا النوع من القوة يتحقق للأمة إلا إذا تحققت بالأوصاف التي وصفها بها ربها.
فقد وصفت الأمة في القرآن الكريم بأربعة أوصاف:
فقد وصفها الله تعالى بالوسطية في قوله:{ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} (البقرة: 143)
ووصفها بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإيمان بالله في قوله:{ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} (آل عمران: 110))إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} (الانبياء:92)
ووصفها بالوحدة في قوله:{ وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} (المؤمنون:52)
قال مطهري: إن هذه الأوصاف الأربعة تحوي منظومة كاملة من القيم تضع الأمة في أعلى معارج القوة.
فالأمة القوية هي التي تنطلق من الإيمان بالله بأرفع درجات الإيمان.. ثم تسير في حياتها على ما تقتضيه الفطرة النقية التي عبر عنها القرآن الكريم بالوسطية.. فإذا ما تم لها ذلك كان لها أن تنشغل بدعوة الناس إلى الله آمرة بالمعروف ناهية عن المنكر.. ولن يتم لها كل ذلك إلا بالوحدة، فالوحدة هي التي تجعل جهودها منصرفة إلى الرسالة التي أنيطت بها، لا إلى النزاعات الداخلية التي تفتك بها.
قال الكواكبي: فكيف نحقق هذه القيم الرفيعة في أمتنا التي فتكت بها الغفلة عن الله، وقتلها الغلو في دين الله، فصار بأسها بينها شديدا، { تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى} (الحشر: 14)؟
قال إقبال: ذلك يسير على من يسره الله.. فما دامت لدينا هذه المصادر المقدسة، فلن يصعب علينا بحمد الله شيء.
قال شكيب: فهل لديك خطة لذلك؟
قال إقبال: أجل.. وهي خطة طويلة الأمد.. اقتربوا مني لأبثها لكم.
اقتربوا منه، فأخذ يناجيهم بكلمات كثيرة، لم أسمع منها إلا أسماء من مررت بهم من الورثة الذين كان يردد اسمهم كل حين.
سألت صاحبي عن سبب ذكره لتلك الأسماء، فقال: لأن أصحاب تلك الأسماء هم المكلفون بتنفيذ ما يريده من خطط.
قلت: ألهذه الغرفة علاقة بهم إذن؟
قال: ألم أقل لك: إن هذه الغرفة هي المنارة التي تهتدي بها جميع منارات الهداية؟
بعد أن لبث مهندسو الشهادة مليا يدرسون خطة إقبال، قام مطهري، وقال: إن ما ذكرته ـ يا إقبال ـ ييسر ما سأذكره لكم من خطط ترتبط بإعادة الأمانة إلى الأمة.. فلا يمكن للناس أن يدخلوا في دين الله أفواجا إلا إذا رأونا أمة أمينة، تتوفر على كل ما تستدعيه الأمانة من قيم.
قال الشعراوي: صدقت.. فالقوة وحدها لا تكفي، لقد قال الله تعالى يجمع بينهما:{ قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} (القصص:26)، وقال:{ قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ} (النمل:39)
قال الكواكبي: صدق الله العظيم.. فالقوي الذي لا أمانة له لن يستعمل القوة إلا فيما استعملها فيه المتمردون الذين أذاقوا البشر ويلات نفوسهم الحاقدة الخائنة.
قال القمي: ولهذا كان من أهم أوصاف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم التي جعلته محل ثقة في مجتمعه هي أمانته، فقد كان يدعى بين قومه قبل أن يوحى إليه (الصادق الأمين)
قال الشعراوي: لقد وصف القرآن الكريم جميع الرسل ـ عليهم الصلاة والسلام ـ بالأمانة، وهو دال على ضرورتها لمن يريد أن يدخل الناس في دين الله أفواجا:
لقد قال الله تعالى عن نوح u :{ كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (105) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ (106) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (107) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (108} (الشعراء)
وقال عن هود u:{ قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (67) أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ (68)} (الأعراف)، وقال:{ كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلَا تَتَّقُونَ (124) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (125) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (126)} (الشعراء)
وقال عن صالح u:{ كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ (141) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلَا تَتَّقُونَ (142) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (143) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (144)} (الشعراء)
وقال عن لوط u:{ كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ (160) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلَا تَتَّقُونَ (161) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (162) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (163)} (الشعراء)
وقال عن شعيب u:{ إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلَا تَتَّقُونَ (177) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (178) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (179)} (الشعراء)
انظروا.. ألا ترون كيف اتحد جميع هؤلاء الأنبياء في وصف أنفسهم بالأمانة، ثم رتبوا عليها دعوة أقوامهم إلى تقوى الله وطاعته؟
قال إقبال: نعم.. وفي ذلك إشارة بليغة إلى أنه لا يمكن أن يتقبل الناس أي فكرة إلا إذا رأو علامات الأمانة متمثلة فيمن يدعو إليها.
قال القمي: لقد ذكرتموني بيوسف u، فيوسف u كان قد أعد الله له وظيفة خطيرة ترتبط بها مصالح العباد، لينقذهم من المجاعة التي تتربص بهم.
وبما أنه كان في السجن، وخشي أن يكون الملك قد سرت إليه شبهة من خبر النسوة، فراح يطلب التحقيق فيها حتى لا تكون تلك الشبهة سببا بعد ذلك لرفع الحرمة عنه.
ولما علم الملك خبر النسوة، قال:{ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ} (يوسف: 54)
قال مطهري: إن هذه الآية تحمل توجيها عظيما لهذه الأمة.. فلن تستخلصها الأمم لنفسها، ولن تكون لها مكانة عندها إلا إذا تحققت بالأمانة في أرقى درجاتها.
قال الشعراوي: لقد أخبر صلى الله عليه وآله وسلم عن رفع الأمانة عن الأمة إبان انحطاطها، وهو يدل على أنه لا يمكن للأمة أن تستعيد مجدها إلا باستعادة الأمانة التي ارتفعت عنها([94]):
لقد ورد في الحديث عن حذيفة قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حديثين، قد رأينا أحدهما وأنا انتظر الاخر، حدثنا أن الامانة نزلت في جذر قلوب الرجال، ثم نزل القرآن، فعلموا من القرآن وعلموا من السنة، ثم حدثنا عن رفع الأمانة، قال: (ينام الرجل النومة، فتقبض الأمانة من قلبه، فيظل أثرها مثل أثر الوكت، ثم ينام النومة فتقبض الأمانة من قلبه فيظل أثرها مثل المجل كجمر، دحرجته على رجلك فنفط فتراه منتبرا، وليس فيه شئ فيصبح الناس يتبايعون، فلا يكاد أحدهم يؤدي الأمانة، حتى يقال: إن في بني فلان رجلا أمينا، حتى يقال للرجل: ما أجلده، ما أكرمه ما أظرفه ما أعقله وما في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان) ([95])
وفي حديث آخر، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (أول ما تفقدون من دينكم الامانة)([96])
وفي حديث آخر، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (أول ما يرفع من الناس الأمانة، وآخر ما يبقى من دينهم الصلاة، ورب مصل لا خلاق له عند الله)([97])
وفي حديث آخر، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (أول ما يرفع من هذه الأمة الحياء والأمانة)([98])
وفي حديث آخر، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:(إذا اتخذ الفئ دولا، والأمانة مغنما، والزكاة مغرما، وتعلم لغير الدين، وأطاع الرجل امرأته وعق أمه، وأدنى صديقه، وأقصى أباه، وظهرت الأصوات في المساجد، وساد القبيلة فاسقهم، وكان زعيم القوم أرذلهم، وأكرم الرجل مخافة شره، وظهرت القينات والمعازف، وشربت الخمور، ولعن آخر هذه الأمة أولها، فليرتقبوا عند ذلك ريحا حمراء وزلزلة، وخسفا ومسخا وقذفا وآيات تتابع كنظام بال قطع سلكه، فتتابع)([99])
قال مطهري: مما يدل على أن هذه النبوءات قد تحققت في عصرنا تحققا تاما هو ما نراه من اختصار عامة الناس ـ بل خاصتهم ـ الأمانة في الودائع مع أنها الدين جميعا، فالله قد ائتمننا على هذا الدين.. على تشريعاته تشريعا تشريعا.. وعلى توجيهاته توجيها توجيها..
قال الشعراوي: صدقت.. فقد اعتبر الله تعالى الدين بجميع تكاليفه دينا، فقال:{ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْأِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً }(الأحزاب:72)، فقد قال ابن عباس في تفسيرها:(الأمانة: الفرائض، عرضها الله على السموات والأرض والجبال، إن أدوها أثابهم. وإن ضيعوها عذبهم، فكرهوا ذلك وأشفقوا من غير معصية، ولكن تعظيمًا لدين الله ألا يقوموا بها، ثم عرضها على آدم، فقبلها بما فيها)
قال القمي: لقد ورد في النصوص المقدسة ما يشير إلى شمول الأمانة جميع التكاليف الشرعية، ابتداء من الحكم وانتهاء بأبسط التكاليف، ففي الحديث، قال صلى الله عليه وآله وسلم:(إذا ضيِّعت الأمانة فانتظر الساعة)، قيل: يا رسول الله وما إضاعتها؟ قال: (إذا وسد الأمر إلى غير أهله، فانتظر الساعة)([100])
وقال صلى الله عليه وآله وسلم لأبي ذر في شأن الإمارة:(إنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة، إلا من أخذها بحقها، وأدّى الذي عليه فيها)([101])
وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (التاجر الصدوق الأمين مع النبيين والصديقين والشهداء)([102])
وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (الخازن المسلم الأمين الذي يُنفذ ما أُمِر به كاملاً موفراً طيباً به نفسُه فيدفعه إلى الذي أُمر له به أحد المتصدقين)([103])
وقال صلى الله عليه وآله وسلم ـ يصف مرور الناس على الصراط ـ:(وترسل الأمانة والرحم، فتقومان جَنَبتي الصراط يميناً وشمالاً)([104])، وقال صلى الله عليه وآله وسلم:(ثلاث متعلقات بالعرش: الرحم تقول اللهم إني بك فلا أقطع، والأمانة تقول: اللهم إني بك فلا أخان، والنعمة تقول: اللهم إني بك فلا أكفر)([105])
ومما ورد في سبب نزول قوله تعالى:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (لأنفال:27) أنها نزلت في أبي لبابة حين بعثه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى بني قريظة، لما حصرهم صلى الله عليه وآله وسلم، وكانوا يميلون إلى أبي لبابة لكون أهله وولده فيهم، فقالوا له: هل ترى أن ننزل على حكم محمد؟ فأشار بيده إلى حلقه ـ أي إنه الذبح فلا تفعلوا ـ فكانت تلك منه خيانة لله ولرسوله.
قال: فما زالت قدماي من مكانهما حتى علمت أني قد خنت الله ورسوله، ثم ذهب إلى المسجد وربط نفسه، وحلف أن لا يحلها أحد إلا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ثم لا زال كذلك حتى أنزل الله توبته، فحله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بيده الشريفة.
ولهذا كله ورد في الحديث عن علي قال: كنا جلوسا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فطلع علينا رجل من أهل العالية، فقال: يا رسول الله أخبرني بأشد شيء في هذا الدين وألينه؟ فقال: ألينه شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله، وأشده ـ يا أخا العالية ـ الأمانة، إنه لا دين لمن لا أمانة له، ولا صلاة ولا زكاة)([106])
وعن ابن مسعود قال: (القتل في سبيل الله يكفر الذنوب كلها إلا الأمانة، قال: يؤتى بالعبد يوم القيامة وإن قتل في سبيل الله، فيقال له: أد أمانتك، فيقول: أي رب، كيف وقد ذهبت الدنيا؟ فيقال: انطلقوا به إلى الهاوية، وتمثل له الأمانة كهيئتها يوم دفعت إليه، فيراها فيعرفها فيهوي في أثرها حتى يدركها، فيحملها على منكبه، حتى إذا ظن أنه خارج زلت عن منكبه فهو يهوي في أثرها أبد الآبدين، ثم قال: (الصلاة أمانة، والوضوء أمانة، والوزن أمانة، والكيل أمانة، وأشياء عددها وأشد ذلك الودائع)، قال زاذان: فأتيت زيد بن عامر فقلت: ألا ترى إلى ما قال ابن مسعود؟ قال: كذا وكذا، قال: صدق، أما سمعت الله تعالى يقول:{ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} (النساء: 58)
قال شكيب: ولهذا اعتبر صلى الله عليه وآله وسلم من علامات المنافق خيانة الأمانة، فقال:(آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان، وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم)([107])، وقال صلى الله عليه وآله وسلم:(أربع من كن فيه كان منافقا خالصا، ومن كانت فيه خصلة منهن كان فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا اؤتمن خان، وإذا حدث كذب وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر)([108])
بل كان صلى الله عليه وآله وسلم يخبر أنه لا إيمان لمن لا أمانة له، فعن أنس قال: ما خطبنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلا قال: (لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له)([109])
وكان صلى الله عليه وآله وسلم يستعيذ من الخيانة، ويقول:(اللهم إني أعوذ بك من الجوع فإنه بئس الضجيع، وأعوذ بك من الخيانة فإنها بئست البطانة)([110])
قال إقبال: علمنا كل هذا.. فكيف تستعيد الأمة هذا الوصف الذي لن تتتحقق بالشهادة من دونه؟
قال مطهري: لقد نذرت حياتي كلها للإجابة عن هذا السؤال.. وقد رأيت أن أول ما نفعله في هذا، وأحكم ما نفعله، هو أن نشعر الأمة بمسؤوليتها عن دينها، وعن أحكام ربها، نرغبها في ذلك ونرهبها، كما كان يفعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأسلوب أهل السلام، لا بأساليب أهل الصراع، إلى أن يظهر في الأمة الحاكم الأمين، والوزير الأمين.. والتاجر الأمين.. فإذا ظهرت هذه النماذج الطيبة، ومثلت الأمانة بأرقى مستوياتها، كان في ذلك تمام الدعوة للأمانة.. فالعامة لا يقتنعون بشيء كما يقتنعون بشيء يرونه بأعينهم.
قال شكيب: نعم ما ذكرت.. فلن يملأ الأرض صلاحا إلا أريج الصالحين، ولن يملأ الأرض أمانة إلا الأمناء.
قال مطهري: إن ذلك يشبه ما يتعامل به علماء الحياة مع الأصناف التي يخشون انقراضها، فهم يستعملون كل الوسائل ليكثروا ذلك النوع الذي خشوا من انقراضه.
قال ديدات: فهلم إذن.. ندرس مراتب ذلك.. لنرسل للورثة في سائر البقاع بها.
***
اجتمع الجمع، وراحوا يتحدثون.. ولم أسمع منهم إلا ما ذكرت لك من تكريرهم كل حين من عرفت من الورثة.
لم يلبثوا إلا قليلا حتى صاح إقبال قائلا: إن ما ذكرتموه نبهني إلى الطريقة المثلى التي نحيي فيها ما أمرنا الله تعالى به في قوله:{ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} (هود: 61).. فعمارة الأرض وظيفة من وظائف الإنسان، ولن تتحقق أمة بالشهادة، وهي تفرط في هذه الوظيفة.
قال ديدات: صدقت.. وقد سمعت معلم السلام في حوار له مع تلميذه (تلميذ السلام)([111])، وقد سأله عن الرفاه، فقال: كيف يكون وظيفة من وظائف الشهادة؟ فأجابه معلم السلام:(كيف يستطيع مدرب النمور والأسود أن يتسلط على قوى السبعية في النمر والأسد ليوجهها إلى اللعب واللهو.. فيجعل من ذلك الذي يخافه الناس على نفوسهم وسيلة رزقه التي يحافظ بها على حياته؟)، فقال تلميذ السلام:(ما أسهل ذلك ـ يا معلم ـ لقد عرف شهوات النمر والأسد، فراح يتلاعب به من خلالها)، فقال معلم السلام:(فكذلك من يحيط بكم من الأقوام، استعبدتهم الدنيا، ولن تجروهم إلى الله إلا بسلاسل الدنيا)
قال إقبال: لقد دلني على هذه الناحية من نواحي الشهادة قوله تعالى مخبرا عن سليمان u:{ قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} (صّ:35).. لقد طال فكري في هذه الآية، وكنت أقول في نفسي: (لقد عهدنا الأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ زاهدين في متاع الدنيا راغبين في الله مكتفين بالله، فكيف طلب سليمان u هذا الطلب الغريب؟)
لكن الله هداني إلى سر ذلك.. فعلمت ـ أولا ـ أن سليمان u طلب ذلك الملك، وبتلك الصورة التي لا ينازعه فيها أحد، ليكون حجة على من شغله ملكه عن الله، وكأن سليمان u يقول لربه:(يارب هب لي من الملك ما تشاء.. بل هب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي أن يحصل عليه.. فإن هذا الملك مهما كان عظيما.. وذلك الفضل مهما كان وفيرا لن يحجباني عنك ولن يبعدا قلبي عن الرغبة فيك.. فإني لا أرى الأشياء مهما كثرت إلا منك.. ولا أرى نفسي إلا بك.. فكيف أحجب بهداياك الواصلة إلي.. أم كيف أنشغل بفضلك عنك)
ثم ترقيت ـ بحمد الله ـ في فهم الآية، فتبينت علاقتها بالشهادة، وعرفت أن سليمان u ـ حسبما ورد في القرآن الكريم ـ كان في واقع لا يرى من حجة أعظم من حجة العمران.. فلذلك قال تعالى عن ملكة سبأ على لسان الهدهد:{ إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ} (النمل:23)
وذكر تعالى أنها أرادت أن تميز سليمان u أملك هو أم لا بإرسال هدية إليه، كما قال تعالى:{ وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ} (النمل:35)
وهذا الواقع الغارق في الدنيا، وفي متاعها، يستدعي أن يخاطب بما يتناسب معه، كما خاطب موسى u السحرة بما يتناسب مع مداركهم، فلذلك طلب سليمان u ملكا لا ينبغي لأحد من بعده.
ومما يدل على هذا ما ذكره الله تعالى من إظهار سليمان u لملكة سبأ بعض مظاهر الملك التي أعطاها الله له، فلم يكن غرضه من ذلك الفخر عليها، وإنما كان غرضه تعريفها بالله، لأنها انشغلت بالعرش العظيم([112]) الذي كان لها عن الله، فلذلك كان أول ما لاقاها به سليمان u هو عرشها الذي حجبها عن الله، وعن التسليم له، قال تعالى:{ فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ }(النمل:42)
فلما قالت ذلك، وفي غمرة انبهارها بما رأت أخبرها سليمان u بأنه مع هذا الملك كان مسلما لله، فلم يحجب به عن الله، فقال تعالى على لسانه:{ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ}
فلما رأى سليمان u حاجتها إلى المزيد من الأدلة، أحضرها إلى الصرح الممرد من القوارير، وقد كان من الجمال بحيث لا يساوي عرشها الذي شغلها عن الله شيئا بجانبه، وحينذاك لم تملك إلا أن تسلم لله، قال تعالى:{ قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (النمل:44)
ثم ترقيت.. وانتقلت من القصة إلى واقعنا.. فعلمت أننا في واقع منبهر تمام الانبهار بالدنيا، فلا يمكن أن يدخل الناس في دين الله أفواجا، وهم يروننا في ذيل القافلة، لا عمل لنا إلا استهلاك ما يصدر لنا.
قال الشعراوي: ولكن الأمم سبقتنا في هذا المجال إلى محال لا يمكن أن يلحقوا فيها، فكيف ترى أن نسبقهم في هذا؟
قال إقبال: ذاك ما ظللت طول عمري أبحث عنه.. لقد كنت أقول دائما لنفسي: نعم.. هم سبقونا.. ولكن مع ذلك يمكن أن نسبقهم..
كنت أقول ذلك ـ في البدء ـ لأملأ نفسي بالأمل.. لكن الأمل بعد ذلك اتسع، بل صار بين عيني حقيقة لا يصعب علينا بالعمل الجاد، وبالإرادة الجادة أن نحققها.
قال الشعراوي: كيف ذلك.. بشرنا.. فطالما اهتممنا لما اهتممت له.
قال إقبال: لقد كان الحجاب الأعظم الذي جعلنا نستشعر تأخرنا عن الأمم، وعدم إمكانية لحوقنا بهم هو تصورنا أننا لا بد أن نبدأ من حيث بدأوا.. أي أننا إذا أردنا أن نخترع نوعا راقيا من السيارات لابد ـ أولا ـ أن نمر بكل المراحل التي مر بها من صنعوا السيارات.
قال الشعراوي: ذلك صحيح.. كلنا يعتقد هذا.
قال إقبال: لكني عرفت بعد ذلك خطأ هذا المنهج.. فنحن لن نبدأ من حيث بدأوا.. بل نبدأ من حيث انتهوا.. فنهاياتهم هي بدايتنا.
قال شكيب: ولكنهم قد يصيحون فينا قائلين: أنتم تقتاتون من علومنا واختراعاتنا واكتشافاتنا؟
قال إقبال: ونحن نصيح فيهم: وأنتم لم تكن لكم هذه العلوم، ولا تلك الاختراعات، ولا تلك الاكتشافات إلا بما نهلتموه من علومنا.
قال الكواكبي: فسيصيحون فينا: وأنتم ـ أيضا ـ لم تتطور حضارتكم إلا بعد اقتباسها من سائر الحضارات ومزجها بينها.
قال إقبال: حينها نقول لهم: العلوم لا وطن لها.. العلوم حق البشر جميعا.. فلكل إنسان الحق في الاستفادة من كل علم.. والحق في الاستفادة من كل اختراع ما دام يشتريه بمال الحلال.
قال شكيب: صحيح ما ذكرت.. ولكن المنظومة التعليمية التي تدرس في مدارسنا تجعل بيننا وبين ما تذكره آلاف الأميال..
قال إقبال: فلنسع لتغيير منظومتنا التربوية.. ولنستن بسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في ذلك.. فقد جاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في بيئة بدوية لم يكن لها اهتمام إلا بما تفرضه حياة البداوة من انشغال بالشعر، والأنساب، وغيرها من المعارف البسيطة التي لا يمكن أن تؤسس لعمران.
قال الكواكبي: فماذا فعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليخرجها من منظومة البداوة لمنظومة الحضارة.. لتخرج بعد ذلك للناس بأعظم حضارة عرفتها البشرية.
قال إقبال: اقرأوا القرآن لتروا المعاني التي ربى عليها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم النفوس لتصبح أهلا لحمل الحضارة.
لقد بحثت في ذلك.. ورأيت في ذلك منهجا متكاملا يمكننا استثماره ليعود للأمة مجدها، ويدخل الناس في دين الله أفواجا.
لقد كان أول ما فعله القرآن الكريم هو إخراج أولئك البدو من تلك القوقعة التي سجنوا فيها أنفسهم، فدعاهم إلى النظر إلى الأشياء.. فلا يمكن أن يتطور من يغمض عينيه عن أسرار الوجود:
لقد قال لهم ـ وهم منشغلون بوصف الصحراء والإبل ـ ينبههم إلى ما أودع في كونه من كمال وجمال:{ وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِراً نُخْرِجُ مِنْهُ حَبّاً مُتَرَاكِباً وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (الأنعام:99)
ودعاهم إلى النظر إلى السماء:{ قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ} (يونس:101)
ودعاهم إلى النظر إلى الطعام:{ فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (24) أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (26) فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا (27) وَعِنَبًا وَقَضْبًا (28) وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا (29) وَحَدَائِقَ غُلْبًا (30) وَفَاكِهَةً وَأَبًّا (31) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (32)} (عبس)
ودعاهم إلى النظر إلى أسرار خلقهم:{ فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ (7)
وأخبر عن أوليائه العارفين العاقلين أنهم يمزجون بين الذكر والفكر والنظر، فقال:{ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} (البقرة:164)
ثم أمرهم بالسير لينهلوا من العلوم والمعارف ما لا يجدونه في بيئتهم المحدودة.. قال تعالى:{ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} (آل عمران:137)، وقال:{ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} (الحج:46)، وقال:{ قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (العنكبوت:20)
ثم أمرهم باستعمال كل مدراكهم لتحليل ما عرفوه ليستنبطوا منه أسرار العلوم وحقائقها، فقال:{ قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا} (سـبأ: 46)، وقال عن تحليل معاني القرآن الحاوية لجميع حقائق الوجود:{ أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} (النساء:82)، وقال:{ أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} (محمد:24)
بل إن القرآن الكريم دعا إلى بذل كل الجهود لتحصيل جميع أنواع القوى، ويدخل فيها هذا النوع من أنواع القوى، قوة الصناعة والسياسة، فقال:{ وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} (لأنفال: 60)
وقد جاءت التعاليم النبوية الكثيرة تعمق هذه المفاهيم القرآنية، وترسخها، وتربي الأجيال عليها، فقد كان صلى الله عليه وآله وسلم حريصا على أن يمارس أصحابه أي حرفة حتى لا يقعوا فريسة لأي نوع من أنواع العبودية:
جاء رجل من الأنصار إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فسأله فقال: أما في بيتك شيء؟ فقال: بلى حلس نلبس بعضه ونبسط بعضه وقعب نشرب فيه الماء، فقال: ائتني بهما، فأتاه بهما، فأخذهما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بيده فقال: من يشتري هذين؟ فقال رجل: أنا آخذهما بدرهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:(من يزيد على درهم مرتين أو ثلاثا؟)، فقال رجل: أنا أخذهما بدرهمين، فأعطاهما إياه وأخذ الدرهمين فأعطاهما الأنصاري وقال: اشتر بأحدهما طعاما فانبذه إلى أهلك واشتر بالآخر قدوما فائتني به، فلما أتاه به شد فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عودا بيده، ثم قال:(اذهب فاحتطب، وبع، ولا أرينك خمسة عشر يوما)، ففعل وجاء فأصاب عشرة دراهم، فاشترى ببعضها ثوبا وببعضها طعاما، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:(هذا خير لك من أن تجيء المسألة نكتة في وجهك يوم القيامة، إن المسألة لا تحل إلا لثلاث: لذي فقر مدقع، ولذي غرم مفظع، ولذي دم موجع)([113])
بل اعتبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم العمل والكسب نوعا من الجهاد في سبيل الله، فقال:(أبشر، فإن الجالب إلى سوقنا كالمجاهد في سبيل الله، والمحتكر في سوقنا كالملحد في كتاب الله)([114])
ورأى بعض الصحابة شاباً قوياً يسرع إلى عمله، فقالوا: لو كان هذا في سبيل الله! فرد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عليهم بقوله:(لا تقولوا هذا ؛ فإنه إن كان خرج يسعى على ولده صغاراً فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على أبوين شيخين كبيرين فهو سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على نفسه يعفُّها فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى رياء ومفاخرة فهو في سبيل الشيطان)([115])
وهكذا صار العمل عبودية خالصة لله.. بل جهاد في سبيل الله.. وهو جهاد مستمر أمرنا صلى الله عليه وآله وسلم أن نداوم عليه إلى آخر لحظة من أعمارنا، ففي الحديث قالصلى الله عليه وآله وسلم:(إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة، فإن استطاع أن لا يقوم حتى يغرسها فليغرسها)([116])
قال الكواكبي: قد وعينا جميع ما ذكرته، فكيف نعيد هذه التعاليم إلى الحياة.
قال إقبال: بما أعاد به صلى الله عليه وآله وسلم الحياة لهذه المعاني.. هلموا.. فقد وضعت خطية عملية لذلك.
اجتمعوا حوله.. وراحوا يتناجون فيما بينهم، ولم أسمع من حديثهم إلا ما سبق أن ذكرته لك من الأسماء التي كنت قد عرفتها ومررت على أهلها.
لم يلبثوا في اجتماعهم إلا قليلا، ثم انفضوا، كل إلى مجلسه الذي كان فيه، ولم يمكثوا إلا قليلا، حتى صاح الشعراوي قائلا: نعم ما ذكرتم.. فلا بد من كل ما ذكرتم.. ولكن ذلك لا يكفي..
قد نظهر بين الناس أمة موحدة تمتلئ بالعدل والأمانة، وتملئ أرضها بالعمران والحضارة.. ولكنا مع ذلك لن نكون أمة رسالة ولا أمة شهادة حتى نبلغ ما أمرنا بتبليغه.. فلن يعرف الناس رب العالمين، ولا دين رب العالمين، ولا نبي رب العالمين حتى نبلغهم ذلك.
قال إقبال: ذلك صحيح.. وهو سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. فقد كان أول ما فعله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد أن أسس أول مدينة للإسلام، وحماها من كيد أعدائها أن أرسل الكتب مع أصحابه إلى ملوك الآفاق وغيرهم يدعوهم إلى الله عزّ وجلّ، وإلى الدخول في الإِسلام.
قال الشعراوي: إن شئتم حدثتكم من ذلك ما تقر به أعينكم.
قال ديدات: حدثنا.. فلا يمكن أن نذكر خطة من غير أن نستن فيها بسنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم الهادي صلى الله عليه وآله وسلم.
قال الشعراوي: لقد ورد في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كتب قبل موته إلى كسرى، وقيصر، وإِلى النَّجاشي، وإِلى كلِّ جبَّار عنيد يدعوهم إلى الله عزّ وجلّ، وليس بالنجاشي الذي صلَّى عليه([117]).
ومما ورد في كتابه صلى الله عليه وآله وسلم إلى النجاشي ملك الحبشة ما حدث به ابن إسحاق قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عمرو بن أمية الضَّمْري إلى النجاشي في شأن جعفر بن أبي طالب وأصحابه وكتب معه كتاباً:(بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد رسول الله إِلى النجاشي الأصحم ملك الحبشة: سلام عليك، فإني أحمد إليك الله الملك القدّوس المؤمن المهيمن، وأشهد أن عيسى روح الله وكلمته ألقاها إلى مريم البتول الطاهرة الطيِّبة الحصينة، فحملت بعيسى فخلقه من روحه ونفخته كما خلق آدم بيده ونفخه، وإِني أدعوك إلى الله وحده لا شريك له، والوالاة على طاعته، وأن تتبعني فتؤمن بي وبالذي جاءني، فإنِّي رسول الله. وقد بعثت إِليك ابن عمي جعفراً ومعه نفر من المسلمين، فإذا جاؤوك فأقرَّهم ودَعِ التجبُّر، فإني أدعوك وجنودك إلى الله عزّ وجلّ؛ وقد بلَّغتُ ونَصحتُ فاقبلوا نصيحتي. والسلام على من اتبع الهدى)
ومما ورد في كتابه صلى الله عليه وآله وسلم إلى قيصر ملك الروم ما حدث به دِحْيَة الكلبي أنه قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كتاب إلى قيصر، فقدمت عليه، فأعطيته الكتاب وعنده ابن أخ له أحمر أزرق سبط الرأس، فلما قرأ الكتاب كان فيه:(من محمد رسول الله إِلى هرقل صاحب الروم)
قال: فنخر ابن أخيه نخرة، وقال: لا يُقرأ هذا اليوم. فقال له قيصر: لِمَ؟ قال: إنّه بدأ بنفسه وكتب (صاحب الروم)، ولم يكتب (ملك الروم)، فقال قيصر: لتقرأنَّه، فلما قرأ الكتاب وخرجوا من عنده أدخلني عليه وأرسل إلى الأسقُف ـ وهو صاحب أمرهم ـ فأخبروه وأخبره وأقرأه الكتاب، فقال له الأسقف: هو الذي كنا ننتظر وبشَّرنا به عيسى عليه السلام، قال له قيصر: كيف تأمرني؟ قال له الأسقف: أمَّا أنا فمصدّقه ومتبعه، فقال له قيصر: أمّا أنا إن فعلت ذلك ذهب ملكي.
ثم خرجنا من عنده، فأرسل قيصر إِلى أبي سفيان، وهو يومئذٍ عنده قال: حدثني عن هذا الذي خرج بأرضكم ما هو؟ قال: شاب، قال: فكيف حَسَبُه فيكم؟ قال: هو في حسب منا لا يفضل عليه أحد، قال: هذه آية النبوة. قال: كيف صدقه؟ قال: ما كذب قط. قال: هذه آية النبوة. قال: أرأيت من خرح من أصحابكم إليه هل يرجع إليكم؟ قال: قد قاتله قوم فهزمهم وهزموه. قال: هذه آية النبوة. قال ثم دعاني فقال: أبلغ صاحبك أني أعلم أنه نبي ولكن لا أترك ملكي.
قال: وأما الأسقُف فإنَّه كانوا يجتمعون إِليه في كل أحد، يخرج إليهم ويحدِّثهم ويذكِّرهم، فلما كان يوم الأحد لم يخرج إليهم وقعد إلى يوم الأحد الآخر، فكنت أدخل إليه فيكلمني ويسألني. فلما جاء الأحد الآخر انتظروه ليخرح إليه، فلم يخرج إِليهم واعتلَّ عليهم بالمرض وفعل ذلك مراراً. وبعثوا إليه لتخرجنَّ إلينا أو لندخلنَّ عليك فنقتلك، فإنا قد أنكرناك منذ قدم هذا العربي. فقال الأسقف: خذ هذا الكتاب واذهب إلى صاحبك فاقرأ عليه السلام، وأخبره أنِّي أشهد أن لا إله إِلا الله وأن محمداً رسول الله، وأني قد آمنت به، وصدَّقته، واتبعته، وأنهم قد أنكروا عليّ ذلك، فبلِّغه ما ترى. ثم خرج إليهم فقتلوه([118]).
ومما ورد في كتابه صلى الله عليه وآله وسلم إلى المقوقس ملك الإِسكندرية ما حدث به حاطب بن أبي بلتعة قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى المقوقس ملك الإِسكندرية، قال: فجئته بكتاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأنزلني في منزله وأقمت عنده، ثم بعث إليّ وقد جمع بطارِقَته وقال: إنِّي سائلك عن كلام فأحبُّ أن تفهم عني، قال قلت: هلُمَّ؛ قال: أخبرني عن صاحبك أهو نبي؟ قلت: بل هو رسول الله، قال: فما له حيث كان هكذا لم يدعُ على قومه حيث أخرجوه من بلده إلى غيرها؟ قال قلت: عيسى بن مريم أليس تشهد أنه رسول الله([119])؟ قال: بلى. قلت: فما له حيث أخذه قومه فأرادوا أن يصلبوه ألا يكون دعا عليهم بأن يهلكه الله حيث رفعه الله إلى السماء الدنيا؟ فقال لي: أنت حكيم قد جاء من عند حكيم([120]).
قال ديدات: بورك فيك يا شيخنا.. لقد أعدت أذهاننا إلى تلك الأيام الجميلة.. أيام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. ما أشد شوقنا إليه.
قال الكواكبي: إن شوقنا إليه يدعونا إلى أن نبذل كل جهد لتبليغ ما أمرنا بتبليغه، لا نألو في ذلك جهدا.
قال القمي: لقد رأينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يستعمل وسيلة الكتابة ليبلغ ما أمر بتبليغه، فرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يترك أحدا في زمنه له سلطة إلا كتب إليه، أو أرسل إليه من يبلغه.
قال الشعراوي: لقد كانت الكتابة هي الوسيلة المتاحة.. أما في عصرنا.. فما أكثر الوسائل التي لو أحسنا استعمالها لدخل الناس في دين الله أفواجا.
قال شكيب: فاذكر لنا من الوسائل ما ترى على الدعاة إلى الله استعماله لتبليغ رسالة الله للعالمين.
قال الشعراوي: أول ما أراه من وسائل: التمثيل..
صاح الجمع متعجبين: التمثيل !؟
قال القمي: أتقول هذا.. وأنت الشيخ الوقور؟
قال الشعراوي: وما لي لا أقوله، وأنا أرى بشر عصرنا لا يستغرقون في شيء، كما يستغرقون في مشاهدة الأفلام والتمثيليات والمسرحيات؟
قال شكيب: ولكن ذلك قد يؤلب علينا بعض المتزمتين.. لاشك أنك تعرفهم، وتعرف موقفهم من هذا ومثله.. هم لا يرضون إلا بالوسائل التي نصت عليها السنة.
قال الشعراوي: فقد نصت السنة على هذا؟
قالوا متعجبين: أين ذلك؟
قال الشعراوي: ألم تقرأوا حديث الأبرص والأقرع والأعمي؟
قالوا: بلى..
قال الشعراوي: فقد مثّل المَلَك دور الفقير حين سأل الأعمى، والأبرص، والأقرع كما هو معروف في الحديث([121]).
ليس ذلك فقط.. بل إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قام بتمثيل كيفية الصلاة، ولم يرد الصلاة ـ وقتئذ ـ لذاتها، وإنما أراد تعليم الناس، فعن سهل قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صلى عليه (أي على درجات المنبر)، وكبر وهو عليها، ثم ركع وهو عليها، ثم نزل القهقري، فسجد في أصل المنبر ثم عاد، فلما فرغ أقبل على الناس، فقال: (أيها الناس؛ إنما صنعت هذا لتأتموا بي، ولتعلّموا صلاتي)([122])
ومثل سبطا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وسيدا شباب أهل الجنة، فقد روي أنهما رأيا ـ وهما طفلان ـ رجلا لا يحسن الوضوء، فاتفقا على طريقة لطيفة لكي لا يجرحا كبرياءه، فقالا له: يا عم، يزعم هذا أنه يحسن الوضوء، وأني لا أحسن؛ فنرجوك أن تنظر إلينا، وأن تحكم بيننا؟، فتوضآ أمامه أحسن ما يكون الوضوء، وفهم الرجل وقال: يا بني أنا عمكم الجاهل لا أنتما.
قال القمي: نعم ما ذكرت.. وسأبشر أهل بلدي([123]) بهذا.. فإن فيهم من عباقرة الإخراج والتثميل ما يملؤكم بالعجب..
قال الشعراوي: ومثل ذلك أهل بلدي.. ولم يدعني إلى ذكر هذه الوسيلة والاستهلال بها إلا لأنه يأتيني بين الحين والحين من الممثلين الصادقين ما جعلني أشعر بأهمية هذه الوسيلة وضرورتها.
قال ديدات: ولكنها لا بد أن تكون في مستوى التحدي.. فنحن الآن في عالم لا يهتم لشيء كما يهتم بالمتقن من الأعمال.
قال الشعراوي: أجل.. لا ينبغي أن يعرض الجميل إلا في اللباس الذي يليق به.
قال ديدات: عرفنا هذا.. وعرفنا أهميته.. ونحن نرى الدول الكبرى تسوق أفكارها ومشاريعها عبر هذه الوسيلة.. فحدثنا عن وسيلة أخرى.
قال الشعراوي: الكتابة الأدبية من شعر وقصة ومقالة.. وغيرها.. فإن لهذه الكتابات جمهورا غفيرا.. ومن العجب أن نرى هذا النوع من الوسائل لا يهجم عليه إلا من لا علاقه له بالدين، ولا علاقة للدين به.
قال شكيب: صدقت.. لقد تركنا هذه الثغرة الخطيرة، فشوه الدين بسببها، وانحرف الناس، لأنهم لا يجدون من الروايات إلا ما يغذي غرائزهم، ويملأ نفوسهم بالشهوات.
قال الشعراوي: لقد ظللت دهرا من عمري أحلم بأن أبشر بالإسلام عن طريق رواية أكتبها.. لا يقرؤها قارئ إلا ويخرج ممتلئا بحب الإسلام، ونبي الإسلام.. ولكن الله لم ييسر ذلك لي إلى هذا الحين.. وعسى الله أن يأتي ـ بفضله ـ من الورثة من يفتح الله عليه في هذا.
قال ديدات: فحدثنا عن وسيلة أخرى.
قال الشعراوي: الأناشيد والأغاني والرسوم وكل الفنون الجميلة.. تلك التي استأثر بها أتباع الهوى لينحرفوا بالنفوس عن رب العالمين.
قال شكيب: ولكن الفقهاء.. أنت تعرف موقفهم؟
قال الشعراوي: ليس كل الفقهاء يقول ما يقول المتزمتون المنفرون.. يوشك أن ينفر الناس من أولئك الفقهاء، ومن فتاوى الضلال التي ينشرونها ليمنعوا الناس من الدخول في دين الله أفواجا.
قال ديدات: فحدثنا عن وسيلة أخرى.
قال الشعراوي: هذه التي يسمونها الشبكة العنكبوتية، تلك التي تصلنا بكل دار، بل بكل شخص.. إنها فتح من الله.. وإن الله تعالى برحمته سلم إلينا مفاتيح العالم لنفتحها بهذه الوسيلة.
قال شكيب: لقد كنت أعجب من ذكر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لفتح رومية.. وأقول: بأي سلاح تفتح رومية.. ونحن لا نأمن على أنفسنا منها.. إلى أن رأيت هذه الشبكة، وهي تدخل بنا إلى كل بيت من رومية وغيرها.. فعرفت أن هذا السيف هو أصقل سيف، وأن المسافة بيننا وبينها ليست بعيدة.
قال القمي: ولكن الفرقة والخلاف الذي دب في الأمة انحرف بهذه الوسيلة عن غاياتها، فصارت في أيدي أهل الصراع من المسلمين سيوفا مسلولة على إخوانهم من المسلمين..
قال الشعراوي: لن تؤتي هذه الوسيلة ثمارها إلا إذا أحسنا استعمالها، وعرفنا كيف ندخل إلى العالم من خلالها.
قال ديدات: فحدثنا عن وسيلة أخرى.
قال الشعراوي: القنوات الفضائية الإذاعية والتلفريونية والصحف والمجلات وجميع وسائل الإعلام.. فإن هذه الوسائل تدخل كل البيت، وتسمع كل أذن، وتري كل بصر.. ولو أحسنا استعمالها لدخل الناس في دين الله أفواجا.
قال القمي: لقد وعينا كل ما ذكرت.. واستدللنا به على غيره.. فهل لديك خطة عملية لتحقيق كل هذا.
قال الشعراوي: أجل.. لقد ظللت طول عمري أبحث عن ذلك.
اجتمعوا عليه، فراح يشرح لهم خطته.. ولم أسمع من حديثهم إلا ما ذكرته لك من الأسماء التي سبق لي أن مررت على أهلها.
بعد أن مكثوا مليا يتحدثون، ويسرون بحديثهم، قام ديدات، وقال: إن ما ذكره شيخنا الشعراوي ييسر علي أن أذكر لكم خطتي.
قالوا: أنت تحمل خطة التحدي.
قال: أجل.. التحدي بالحجة والبرهان.. لا بالسيف والسنان.
قال القمي: فهل لك من النصوص المقدسة ما يكون لك حجة فيما تقوله، فلا يحل لامرئ أن يقدم على أمره حتى يستأذن أهله؟
قال ديدات: أجل.. لدي بحمد الله الكثير.. وأولهم موسى u .. لقد كان التحدي هو السلاح الذي استعمله لدعوة قومه، ولم يؤمن السحرة إلا بعد أن ثبت لهم أن حجة موسى u أقوى من حججهم جميعا.
لقد ذكر الله تعالى ذلك في القرآن، فقال:{ فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى (60) قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى (61) فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى (62) قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى (63) فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى (64) قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى (65) قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى (66) } (طه) إلى آخر الآيات الكريمة.
ألا ترون هذا المشهد؟.. إن دلالاته العظيمة هي التي حملتني على أن أحمل سلاح التحدي لأسير به في العالم.. أخاطب كل من له حجة، وأقول له: إن كانت لديك حجة، فألقها كما ألقى السحرة عصيهم، فأنا موقن تماما بأن ما معي من الهدي لا يعدله إلا عصا موسى.
قال الشعراوي: ما تقصد بذلك؟
قال ديدات: لقد وفقني الله، فصرفت أكثر عمري أدرس الملل والنحل، والفلسفات والأفكار.. ولم أكتف بذلك، بل عشت في السند والهند، والشرق والغرب.. ولم أترك بلدة إلا دخلتها، كما لم أترك فلسفة إلا قرأتها.. وقد تبين لي من خلال كل ذلك أن كل ما تملكه تلك الشعوب هو مجرد تخييلات لا تختلف كثيرا عن تخييلات السحر.
وتبين لي أننا لو حملنا ما معنا من الحقائق المطلقة، وسرنا في العالم نتحدى بها، فإنا سنجد كثيرا من السحرة الذين يسجدون لها، ويذعنون.
قال القمي: إن ذلك يستدعي معارف كثيرة.
قال ديدات: لا بد من تلك المعارف.. فلا يمكن لمن يريد أن يخوض البحار إلا أن يكون خبيرا بالسباحة.
قال القمي: ليست المعارف فقط.. فما أكثر من لديه المعارف.. ولكنا نحتاج إلى الصحون التي توضع فيها تلك المعارف.. فقد رأينا من الجهلة من يضع أجمل المعارف وأطيب اللطائف في صحون نجسة منتنة، فينفر الناس من الدين بسببها.
قال ديدات: وهذا ما تبحث فيه خطتي.. فقد وضعت في ذلك ـ بحمد الله ـ خطة شاملة، تؤسس لجيل يحمل عصا الإسلام ليخاطب بها العالم، ولن يملك العالم إلا أن يسلم لهذه العصا.
قال شكيب: فكيف اهتديت إليها؟
قال ديدات: كنت أقرأ أحاديث الوفود التي جاءت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تريد أن تتثبت مما عنده، لتعرضه على ما عندها، وقد استوقفني منها حديث هذا الوفد الذي سأقصه عليكم، لتمتلئوا بما فيه من العبرة.. لقد جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا محمد اخرج إلينا، فلم يجبه، فقال الأقرع: يا محمد إن حمدي لزين وإن ذمي لشين، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (ذاك الله عز وجل)، فقالوا: إنا أتيناك لنفاخرك فأذن لشاعرنا وخطيبنا، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (قد أذنت لخطيبكم فليقل).
فقام عطارد بن حاجب فقال: (الحمد لله الذي له علينا الفضل وهو أهله، الذي جعلنا ملوكا ووهب لنا أموالا عظاما، نفعل فيها المعروف، وجعلنا أعز أهل المشرق وأكثره عددا وأيسره عدة، فمن مثلنا في الناس؟ ألسنا برؤوس الناس وأولي فضلهم؟ فمن فاخرنا فليعدد مثل ما عددنا، وإنا لو شئنا لأكثرنا الكلام، ولكنا نستحي من الإكثار فيما أعطانا، وإنا نعرف بذلك، أقول هذا لأن تأا توا بمثل قولنا، وأمر أفضل من أمرنا)، ثم جلس.
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لثابت بن قيس بن شماس أخي بني الحارث بن ا لخزرج: (قم فأجب الرجل في خطبته)، فقام ثابت فقال: (الحمد لله الذي السموات والأرض خلقه، قضى فيهن أمره ووسع كرسيه علمه، ولم يك شئ قط إلا من فضله، ثم كان من قدرته أن جعلنا ملوكا، واصطفى من خير خلقه رسولا أكرمه نسبا، وأصدقه حديثا، وأفضله حسبا، فأنز ل عليه كتابه وائتمنه على خلقه، فكان خيرة الله من العالمين، ثم دعا الناس الى الإيمان به، فآمن برسول الله المهاجرون من قومه وذوي رحمه، أكرم الناس أحسابا وأحسن الناس وجوها، وخير الناس فعالا، ثم كان أول الخلق إجابة، واستجاب الله حين دعاه رسول الله نحن، فنحن أنصار الله ووزراء رسوله، نقاتل الناس حتى يؤمنوا بالله ورسوله، فمن آمن بالله ورسوله منع منا ماله ودمه، ومن كفر جاهدناه في الله أبدا، وكان قتله علينا يسيرا، أقول قولي هذا وأ ستغفر الله لي وللمؤمنين والمؤمنات والسلام عليكم)
فقام الزبرقان بن بدر فقال لرجل منهم: يا فلان قم فقل أبياتا تذكر فيها فضلك وفضل قومك، فقام فقال:
نحن
الكرام فلا حي يعادلنا |
منا الملوك وفينا تنصب البيع | |
وكم
قسرنا من الاحياء كلهم |
عند
النهاب وفضل العز يتبع | |
ونحن
نطعم عند القحط مطعمنا |
من
الشواء إذا لم يؤنس القزع | |
ونطعم
الناس عند المحل كلهم |
من
السديف إذا لم يؤنس القزع | |
بما
ترى الناس تأتينا سراتهم |
من
كل أرض هويا ثم نصطنع | |
فننحر
الكوم عبطا في أروقتنا |
للنازلين
إذا ما أنزلوا شبعوا | |
فلا
ترانا الى حي نفاخرهم |
إلا
استفادوا فكانوا الرأس يقتطع | |
فمن
يفاخرنا في ذاك نعرفه |
فيرجع
القوم والاخبار تستمع | |
إنا
أبينا ولا يأبى لنا أحد |
إنا
كذلك عند الفخر نرتفع |
وكان حسان بن ثابت غائبا، فبعث إليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. فجاء، فقام وقال:
إن
الذوائب من فهر وإخوتهم |
قد بينوا سنة للناس تتبع | |
يرضى
بهم كل من كانت سريرته |
تقوى
الإله وكل الخير يصطنع | |
قوم
إذا حاربوا ضروا عدوهم |
أو
حاولوا النفع في أشياعهم نفعوا | |
سجية
تلك منهم غير محدثة |
إن
الخلائق فاعلم شرها البدع | |
إن
كان في الناس سباقون بعدهم |
فكل
سبق لأدنى سبقهم تبع | |
لا
يرقع الناس ما أوهت أكفهم |
عند
الدفاع ولا يوهون ما رقعوا | |
إن
سابقوا الناس يوما فاز سبقهم |
أو
وازنوا أهل مجد بالندى متعوا | |
أعفة
ذكرت في الوحي عفتهم |
لا
يطمعون ولا يرديهم طمع | |
لا
يبخلون على جار بفضلهم |
ولا
يمسهم من مطمع طبع | |
إذا
نصبنا لحي لم ندب لهم |
كما
يدب الى الوحشية الذرع | |
نسمو
إذا الحرب نالتنا مخالبها |
إذا
الزعانف من أظفارها خشعوا | |
لا
يفخرون إذا نالوا عدوهم |
وان
أصيبوا فلا خور ولا هلع | |
كأنهم
في الوغى والموت مكتنع |
أسد
بحلية في أرساغها فدع | |
خذ
منهم ما أتى عفوا إذا غضبوا |
ولا
يكن همك الأمر الذي منعوا | |
فإن
في حربهم فاترك عداوتهم |
شرا
يخاض عليه السم السلع | |
أكرم
بقوم رسول الله شيعتهم |
إذا
تفاوتت الأهواء والشيع | |
أهدي
لهم مدحتي قلب يوازره |
فيما
أحب لسان حائك صنع | |
فإنهم
أفضل الأحياء كلهم |
إن
جد بالناس جد القول أو سمعوا |
فلما فرغ حسان بن ثابت من قوله قال الأقرع بن حابس: (وأبي إن هذا الرجل لمؤتى له، لخطيبه أخطب من خطيبنا، ولشاعره أشعر من شاعرنا، ولأصواتهم أعلى من أصواتنا)
فلما فرغ القوم أسلموا، وجوزهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأحسن جوائزهم([124]).
قال مطهري: إن هذا حديث عظيم.. وهو يحمل دلالات عظيمة للذين يريدون أن يعرفوا الإسلام للعالم.
قال شكيب: أجل.. فلا يمكن أن نصل إلى جماهيرنا في العالم وشعراؤهم خير من شعرائنا، وخطباؤهم خير من خطبائنا، وممثلوهم خير من ممثلينا، ومخرجوهم خير من مخرجينا، وقدراتهم الإبداعية أعظم من قدراتنا الإبداعية.
قال مطهري: نعم.. ولن نستطيع أن نصل لجماهيرنا في العالم، ونحن لا نحمل أي مشروع حضاري متكامل يشمل الاقتصاد والسياسة والاجتماع.. وكل النواحي.
لابد ـ لكي ننجح في مخاطبة العالم ـ أن نقدم لهم الملموس.. فلن تفهم جماهيرنا في العالم إلا لغة الواقع المضمخة بعطر الإيمان.
قال القمي: لابد أن نشكل النموذج الإنساني المتكامل الذي يقف متحديا كل النماذج..
قال الكواكبي: لكي ننجح في ذلك لابد أن نقهر الاستبداد.. الاستبداد بكل أشكاله: الديني والسياسي والاقتصادي.. أرى أننا قد ورثنا كثيرا من أعراف الاستبداد، ولا يمكن أن نتحرك خطوة واحدة، ونحن نرزح تحت نيرها.
قال إقبال: لابد أن نثق في أنفسنا، وفي قدراتنا.. ولابد أن نعيد هذه الثقة في شعوبنا المسلمة..
التفتت الجماعة إلى ديدات، وقالت: هيا.. اذكر لنا ما لديك من الخطط في هذا، ولنسارع إلى الإرسال بها إلى كل دعاة الأرض.
اجتمعوا كاجتماعهم في المرات السابقة.. ولم أسمع منهم إلا ما سمعته منهم فيها.
***
قلت: لقد حدثتني عما دار في تلك الغرفة.. فحدثني عن الغرفة نفسها.
قال: ذلك سر لا يمكن بثه لأحد من الناس.. فلا يعرف تلك الغرفة، ولا محلها إلا من دخلها.
قلت: فمن مديرها؟
قال: الكل يذكرون أن مديرها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم..
قلت: فهل اقتصر لقاؤك بأولئك السبع؟
قال: لا.. لقد رأيت الكثيرين غيرهم.. لقد كان يدخل تلك الغرفة كل من اكتملت له وراثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في هذا الباب العظيم من أبواب الهداية.
قلت: فكيف يميزون عن غيره؟
قال: بالحرقة التي تملأ قلوبهم، والحلم الذي يملأ صدورهم، والأشواق التي تترنح لها أجسادهم..
قلت: فكيف خرجت منها بعد أن شرفت بالدخول إليها؟
قال: أنا لم أخرج منها.
قلت: ولكني أراك معي.
قال: لقد أرسلت في مهمة إلى هذه الغابات الموحشة.. فأنا أؤديها، ولا أبالي أن أموت في سبيلها.
قلت: من أرسلك؟
قال: من أرسله.
قلت: أنتم تزعمون أن الذي أرسله هو الله.
قال: وكل داعية إلى الله يسير على قدم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يشعر أنه موكل من الله بنفس المهام التي قام بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
قلت: لكأني بك تدعي النبوة.. بل تدعي الرسالة.
قال: معاذ الله أن أتخطى رقاب الصديقين.. أنا لا أقول إلا ما قال الله تعالى.. لقد قال الله تعالى يذكر رسل المسيح الذين أرسلهم لهداية الناس :{ وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (13) إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (14) قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ (15) قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (16) وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (17) قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (18) قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (19) وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ (21) وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22) أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آَلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ (23) إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24) إِنِّي آَمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (25) قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (27} (يس)
قلت: لقد ذكر المفسرون أن هؤلاء كانوا رسل المسيح.
قال: ومع ذلك اعتبرهم الله رسلا.. فالمؤمن هو الذي يحمل رسالة نبيه ليسير بها في الناس، ويكون رسول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى الناس.. فلا تكتمل الوراثة إلا بذلك.
***
ما وصل محمد الهادي من حديثه إلى هذا الموضع حتى لاح لنا العمران.. وقد دهشت إذ سمعت الترانيم العذبة تستقبلنا كما استقبلت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. وكأن الزمن عاد إلى تلك الأيام الجميلة التي دخل فيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المدينة التي ناصرته وسارت على قدمه.
مكثت في تلك المدينة من المدن المحاذية للأدغال فترة طويلة من الزمان، وقد عجبت من التغير العظيم الذي حصل لها..
لقد كنت كغيري من المبشرين والسواح نتهيب الدخول إليها.. فقد كانت الأنباء تسير إلينا بأن أهلها من أكلة لحوم البشر.. فلذلك لم يكن أحد يجرؤ على الدخول إليها.. لكن ما رأيته فيها جعلني أحتار في أمري، وفي دقة المعلومات التي كنا نحملها عنها.
وقد دعاني ذلك إلى أن أسأل محمدا الهادي عنها، فقال: لقد كانت هذه المدينة كذلك.. ولم تكذبكم الأخبار التي وصلتكم عنها.
قلت: ولكني أراها كأنعم بلاد الله، بل هي أكثر بلاد الله سلاما وإيمانا.
قال: ألم تكن الجزيرة التي جاءها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جزيرة قاحلة يأكل بعضها بعضا؟
قلت: بلى.. ولكن الذي نجح في تحويلها هو محمد.
قال: لقد ترك لنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم من مواريث الهداية ما يحول به كل جزيرة من جزائر الأرض إلى تلك الجزيرة، وكل فرد من أفرادها إلا تلك النماذج العالية التي رباها.
قلت: ولكن هؤلاء كانوا أكلة لحوم البشر.
قال: إن هداية الله لا تضيق بأحد من الناس.. فلذلك ليس علينا إلا أن ندعو إلى الله، ثم نترك الأمر بعدها لله.. وقد يجعل الله فيمن تحتقره من الهداية ما لا تحلم به..
قلت: فأي جيش من الناس استطاع أن يحول هؤلاء؟
قال: في غرفة العمليات بمدينة رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم جاءنا رجل، وأخبرنا عن هذه المدينة، وعن ضلالها، وعن السلوك الذي تسلكه في
حياتها، وقد ملأني ذلك ألما وحزنا.. فاستشرت أهل الخبرة من أهل تلك الغرفة
المباركة، فأعطوني من ترياق الهداية النبوية ما سرت به إلى هذه المدينة.. وقد يسر
الله لي أمرها، فلم أمكث فيها إلا قليلا حتى تحولت إلى ما رأيت.
([1]) جزء من حديث رواه الحاكم وابن ماجة.
([2]) رواه أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي.
([3]) رواه أحمد.
([4]) تحدثنا عن الشهادة وعلاقتها بالسياسة في رسالة (مفاتيح المدائن) من (رسائل السلام)
([5]) نشير به إلى الإمام العظيم تقي الدين القمي، وهو مؤسس دار التقريب بالقاهرة، وأبرز من سعى في التقريب بين المذاهب الإسلامية.
([6]) نشير به إلى عبد الرحمن الكواكبي (1271-1320هـ)، وهو رحالة من الكتاب الأدباء، ومن رجال الإصلاح، وُلد وتعلم في حلب، وأنشأ فيها جريدة الشهباء فأغلقتها الحكومة، وجريدة الاعتدال، فعُطِّلت.
له من الكتب أم القرى؛ طبائع الاستبداد، وكان لهما عند صدورهما ردود فعل قوية، وكان كبيرًا في عقله وهمته وعلمه ومن كبار رجال النهضة الحديثة.
تناول في كتابه أم القرى أسباب انحطاط المجتمع الإسلامي بتوسع وتفصيل، وأرجعها إلى 18 سببًا دينيًا، و12 سببًا سياسيًا، و15 سببًا أخلاقيًا وتربويًا، وقد بحث الكواكبي في هذه الأسباب على شكل حوار بين عدد من الشخصيات التي تخيَّلها، وتناولها بالتفصيل وبإيراد الحُجج والبراهين، فكانت تحليلاً علميًا لواقع المجتمع العربي الإسلامي في نهاية القرن التاسع عشر الميلادي.
([7]) أشير به إلى محمد إقبال (1288-1355هـ)، وهو عالم وفيلسوف وشاعر، كان يحث على الوحدة السياسية والروحية بين جميع الشعوب الإسلامية، وقد حاول أن يعيد صياغة الأفكار الأساسية للعقيدة الإسلامية باللغة الأكاديمية للعالم الحديث.
ظل طيلة حياته المجيدة يدافع عن الإسلام والمسلمين في المحافل الدولية والمؤتمرات الإسلامية والكتب والأشعار التي أبدعها، ويحاول قدر طاقته إيقاظ المسلمين من غفلتهم، ومساعدة الأمة الإسلامية على النهوض، وكان إقبال دائمًا يعطف على الفقراء والمساكين، يجلس معهم، ويهتم بأمرهم، ويخالطهم في الطعام والشراب.
كما كان يدعو المسلمين إلى المشاركة في حركة الحضارة والتقدم، وينبذ الفكر الذي يكتفي من الدين بالعلاقة بين العبد وربه في صورة العبادات.
لم يترك إقبال فرصة إلا نصح فيها إخوانه من المسلمين، فيخاطب المسلم ويقول له: (اقرأ مرة أخرى في سيرتك الأولى، اقرأ دروس الصدق والعدل والشجاعة، لأنك أنت المنشود؛ لتسود العالم مرة ثانية، أنت تملك العالم بالأخوة وتحكمه بالمحبة، ما الذي محا استبداد (قيصر) وشدة (كسرى)؟! أكانت هناك قوة في العالم تحارب الجبابرة سوى قوة (علي) كرم الله وجهه، وفقر (أبي ذر) وصدق (سليمان) ؟!)
([8]) أشير به إلى المفكر الإسلامي الكبير آية الله الشهيد الشيخ مرتضى مطهري (1338ﻫ ـ 1399ﻫ)، يعتبر من أوائل المؤيّدين للثورة الإسلامية التي قادها الإمام الخميني.
من مؤلّفاته : العدل الإلهي، الملحمة الحسينية، نظام حقوق المرأة في الإسلام، الحركات الإسلامية في القرن الرابع عشر الهجري، نهضة المهدي(عليه السلام) في ضوء فلسفة التاريخ، الإنسان والقضاء والقدر، إحياء الفكر في الإسلام، في رحاب نهج البلاغة، التعرّف على القرآن، الدوافع نحو المادّية، الإنسان في القرآن، المجتمع والتاريخ، الإنسان والإيمان، الإنسان الكامل، مسألة الحجاب .
استُشهد في الرابع من جمادى الثانية 1399ﻫ على يد زمرة المنافقين الذين أطلقوا النار عليه، وعلى أثر انتشار نبأ استشهاده أُعلن الحداد العام في الجمهورية الإسلامية، ودُفن بجوار مرقد السيّدة فاطمة المعصومة في قم المقدّسة .
([9]) نشير به إلى الأمير شكيب أرسلان (1286 – 1366هـ، 1869 – 1946م)، وهو شاعر وكاتب ومفكرٌ وعالمٌ موسوعي.. رأى شكيب أرسلان أن العدو الأول للإسلام والمسلمين هو الجهل، وأن ارتفاع نسبة الأمية هي السبب في تأخر المسلمين، وعليهم أن يحاربوه بكل ما يملكون، وكتب في ذلك كتابًا من أعظم الكتب تأثيرا، وهو (لماذا تأخر المسلمون ولماذا تقدم غيرهم) بأسلوب سهل ممتع؛ لكي يوقظ الأمة الإسلامية من سبات الجهل والتأخر.
بالإضافة إليه كتب كتبًا عديدة عن الإسلام والمسلمين تصل إلى خمسين كتابًا لا يزال بعضها غير مطبوع، من أهمها كتاب (حاضر العالم الإسلامي) و(تاريخ غزوات العرب) و(الحلل السندسية في الحلة الأندلسية) و(عروة الاتحاد بين أهل الجهاد)..
بالإضافة إلى مئات البحوث والمقالات المنشورة في الصحف والمجلات، وله مذكرات مخطوطة باللغة الفرنسية، تصل إلى 20،000 صفحة، وترك ما لا يقل عن 30،000 رسالة، ما زالت مخطوطة.
([10]) نشير به إلى الشيخ محمد متولي الشعراوي (1329 – 1419هـ)، العالم الفقيه المفسِّر الداعية، أحد دعائم الفكر الإسلامي الحديث بمصر، وركيزة من ركائز الدعوة الإسلامية في النصف الثاني من القرن العشرين.
كان للشيخ الشعراوي أسلوب فريد في التفسير يجمع بين أصالة التفاسير القديمة ومعاصرة الواقع العلمي المبتكر، له باع طويل في التوفيق بين الدين والعلم، وربط حقائق الإسلام بأحدث النظريات العلمية المعاصرة.
ليس للشيخ الشعراوي مؤلفات بعينها، غير أن أصحاب الأقلام ودور النشر الكبرى وهيئات علمية كثيرة أخذت أحاديثه المذاعة تليفزيونيًا وإذاعيًا، وتسجيلاته المختلفة وطبعتها في صورة مجلدات وكتب كبيرة بالإضافة إلى مئات المقالات في الصحافة العربية والإسلامية.
([11]) نشير به إلى أحمد حسين ديدات (1337هـ- 1918م)، وهو داعية إسلامي كبير من جنوب إفريقيا (أصله من مدينة سيرات بالهند، وقد هاجر والده إلى دولة جنوب أفريقيا بعد وقت قصير من ولادته)، ظلَّ يعمل في مجال الدعوة الإسلامية حوالي خمسة وثلاثين عامًا. اشترك في العديد من المؤتمرات الإسلامية الإقليمية والدولية، وألقى محاضرات كثيرة في العديد من الدول الإسلامية وغير الإسلامية مثل: المملكة العربية السعودية والبحرين والإمارات العربية وبريطانيا والولايات المتحدة، وعقد مناظرات عديدة مع خصوم الإسلام والمناوئين له.
بالإضافة إلى ذلك، قام بإنشاء معهد السلام الإسلامي لتدريب الطلاب على القيام بالدعوة الإسلامية، وأصدر العديد من الكتيبات والمنشورات التي تردّ على خصوم الإسلام، وتدحض مزاعمهم.
([12]) انظر: مقالا بعنوان (المسلمون أمة واحدة)، محمد علي علوبه باشا (رئيس جماعة التقريب) مجلة رسالة الإسلام، العدد الأول، بتصرف.
([13]) رواه أبو داود.
([14]) رواه البخاري في الأدب المفرد.
([15]) رواه الترمذي.
([16]) رواه أحمد والنسائي وابن حبان.
([17]) رواه البخاري ومسلم، وفي رواية: (قتات)، وهو النمام.
([18]) رواه الطبراني.
([19]) رواه الطبراني.
([20]) رواه أحمد.
([21]) هذه الرواية رواها ابن أبي شيبة وابن أبي الدنيا.
([22]) رواه أبو الشيخ.
([23]) رواه الطبراني وغيره.
([24]) رددنا على هذه الفرية بالنصوص الكثيرة من أئمة الشيعة في رسالة (الكلمات المقدسة) من هذه السلسلة.
([25]) رواه أبو داود والترمذي وابن حبان في صحيحه.
([26]) رواه البخاري ومسلم.
([27]) انظر: محمود حمدي زقزوق، أمة إسلامية واحدة، مجلة (رسالة التقريب)، العدد 30.
([28]) رواه أبو داود.
([29]) انظر: تجربة التقريب بين المذاهب، الأستاذ فهمي هويدي.
([30]) راجع (مشيخة الازهر منذ إنشائها حتى الآن) للاستاذ علي عبد العظيم:2/187 وما بعدها. القاهرة 1979.
([31]) وأركان العقائد التي تجمع المسلمين، هي التي ورد في النصوص المقدسة بيانها منحصرة في قوله تعالى:{ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ} (البقرة: 177)، وقوله تعالى:{ آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} (البقرة: 285)
وفي قوله صلى الله عليه وآله وسلم في حديث جبريل:( أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره} (رواه مسلم)
أما ما عداها مما دخل في العقائد، فهو في أحسن أحواله من فروع العقائد لا أصولها، ولا يرتبط بها ضلال ولا كفر، ولا سنة ولا بدعة..
([32]) رواه أبو داود واللفظ له وابن ماجه.
([33]) رواه مالك.
([34]) انظر: ابن كثير: 7/195.
([35]) قالوا: ولا نظير لها سوى آية الكرسي.
([36]) فقد قال الله تعالى في الآيات السابقة لهذه الآية:{ شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (13) وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (14)} (الشورى)
([37]) وقيل: إن هناك من وضع عنده درعاً على سبيل الوديعة ولم يكن هناك شاهد، فلما طلبها منه جحدها. وقيل: إن المودع لما طلب الوديعة زعم أن اليهودي سرق الدرع.
([38]) رواه البخاري ومسلم.
([39]) رواه مسلم.
([40]) رواه مسلم.
([41]) رواه مسلم.
([42]) رواه الترمذي.
([43]) رواه الطبراني.
([44]) رواه النسائي وابن حبان في صحيحه.
([45]) الرواية لمسلم.
([46]) رواه ابن خزيمة في صحيحه.
([47]) رواه مسلم.
([48]) رواه الطبراني.
([49]) رواه البخاري ومسلم.
([50]) رواه البيهقي واللفظ له والحاكم بنحوه وقال: صحيح على شرط مسلم.
([51]) رواه الطبراني بإسناد جيد.
([52]) رواه الأصبهاني، وفي رواية:( عدل يوم واحد أفضل من عبادة ستين سنة)
([53]) رواها الطبراني بإسناد حسن بلفظ.
([54]) رواه الطبراني وقال حسن غريب.
([55]) رواه الطبراني بسند فيه ابن لهيعة وحديثه حسن في المتابعات.
([56]) رواه ابن ماجه والبزار واللفظ له.
([57]) رواه ابن أبي الدنيا وغيره عن أبي هريرة.
([58]) رواه الطبراني بسند حسن وأبو يعلى والحاكم وصححه.
([59]) رواه الطبراني.
([60]) رواه الحاكم وصححه.
([61]) رواه وأحمد.
([62]) رواه ابن حبان في صحيحه.
([63]) رواه ابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما.
([64]) رواه أبو داود.
([65]) رواه أبو الشيخ وابن حبان.
([66]) رواه أبو الشيخ.
([67]) رواه البخاري والترمذي.
([68]) رواه الترمذي والحاكم، وقال صحيح على شرطهما.
([69]) أعلام الموقعين (3 / 3)
([70]) رواه البخاري ومسلم.
([71]) رواه أبو داود وابن ماجة.
([72]) رواه أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي.
([73]) رواه مسلم.
([74]) انظر المزيد منها في رسالة (النبي الإنسان)، فصل (العابد) من هذه السلسلة.
([75]) رواه البيهقي، وابن عساكر.
([76]) رواه ابن أبي خيثمة.
([77]) رواه ابن أبي شيبة.
([78]) رواه مسلم.
([79]) رواه مسلم.
([80]) رواه مسلم.
([81]) رواه الخرائطي، والطبراني.
([82]) رواه البخاري ومسلم.
([83]) رواه البخاري ومسلم.
([84]) رواه البخاري ومسلم.
([85]) رواه البخاري ومسلم.
([86]) رواه أحمد والبخاري والترمذي.
([87]) رواه البخاري ومسلم.
([88]) رواه الترمذي وقال: حديث حسن.
([89]) رواه مسلم.
([90]) رواه البخاري ومسلم.
([91]) رواه البخاري ومسلم.
([92]) رواه أحمد والطبراني.
([93]) رواه مسلم.
([94]) نبهنا في مواضع كثيرة إلى أن أحاديث الفتن وأشراط الساعة ونحوها لا تحمل فقط صفة النبوءة الغيبية، وإنما تحمل أيضا ـ وأهم من ذلك ـ طابع التشريع، لمن حصلت لهم تلك الفتن. (انظر: رسالة (معجزات حسية)، فصل (نبوءات) من هذه السلسلة)
([95]) رواه مسلم.
([96]) رواه الطبراني في الكبير.
([97]) رواه الحكيم الترمذي.
([98]) رواه الطبراني.
([99]) رواه الترمذي وقال: غريب.
([100]) رواه البخاري.
([101]) رواه مسلم.
([102]) رواه الترمذي.
([103]) رواه البخاري.
([104]) رواه مسلم.
([105]) رواه البزار.
([106]) رواه البزار.
([107]) رواه البخاري ومسلم.
([108]) رواه البخاري ومسلم.
([109]) رواه أحمد والبزار والطبراني في الأوسط.
([110]) رواه أبو داود.
([111]) انظر رسالة (مفاتيح المدائن) من (رسائل السلام)
(1) وقد ذكر القرآن الكريم ذلك، فقال على لسان الهدهد:{إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ ( (النمل:23)
([113]) رواه أبو داود والترمذي.
([114]) رواه الحاكم.
([115]) رواه الطبراني في الكبير.
([116]) أحمد وعبد بن حميد، والبخاري في الأدب وابن منيع وابن أبي عمر.
([117]) رواه مسلم.
([118]) رواه البزّار.
([119]) وهذا لأن من المسيحيين من يعتقد بنبوة المسيح.
([120]) رواه البيهقي.
([121]) رواه البخاري ومسلم.
([122]) رواه البخاري ومسلم.
([123]) أقصد إيران، فلها من الخبرة في هذا المجال ما يمكنها من أداء هذه الرسالة أحسن وأكمل أداء.
([124]) رواه أحمد، والترمذي وحسنه، وابن أبي حاتم، وابن المنذر.