عاشرا ـ الرسول

تركت دمشق.. لأسير منها إلى بلاد الهند.. وبالضبط إلى بلدة فيها يقال لها (مدراس).. ولم يكن في نيتي حين ذهبت إليها إلا السياحة المجردة عن كل غاية.. ولكن فضل الله كان يدخر لي فيها من العلوم ما لا يمكن أن أحصله بأي جهد، أو أناله بأي فكر.
في حديقة من حدائقها الغناء، جلست أستذكر ما مررت به في رحلتي إلى محمد.. لقد امتلأت به إعجابا من أخمص قدمي إلى مفرق رأسي..
ولكن خاطرا خطر على بالي في ذلك المحل قال لي: أليس من الممكن أن يكون محمد رجلا قد اكتملت له العبقرية، فلذلك اكتمل له من الإنسانية ما اكتمل.. وهو بذلك لا يعدو أن يكون إنسانا عبقريا.. نعم هو أعظم العباقرة على الإطلاق.. ولكنه مع ذلك يظل مجرد عبقري لا حظ له مما يدعيه من النبوة.
ولم تقف نفسي عند ذلك.. بل زادت.. فراحت تقول لي: إن إنسانا يدعي تلك الدعاوى العظيمة، ويبني كل ذلك البناء الضخم على مجرد دعوى لا يستحق الاحترام.. بل لا يستحق أن يوضع في سجلات العباقرة.. إن المكان الوحيد الذي يصلح له هو سجلات المخادعين والمزورين والكذابين.
ولم تقف نفسي عند ذلك.. بل زادت ما لا أستطيع التعبير عنه..
ألحت هذه الخواطر وأمثالها علي إلحاحا شديدا لم أجد منه فكاكا.. حتى امتلأت جميع لطائفي بالعذاب.. فهي لم تستطع أن توفق بين العبقرية، وبين الخداع والكذب والتزوير.
بينما أنا كذلك في عذابي إذا بي أسمع الأذان يرتفع من مئذنة من مآذن مدراس العريقة.. وكنت وكأني أسمعه لأول مرة يخاطبني أنا، ويقول لي بلسان فصيح (محمد رسول الله)..
لقد نزلت هذه الكلمة على قلبي وعقلي وروحي وسري.. وشعرت عند سماعي لها بلذة لا تدانيها لذة..
لقد صارت العبقرية بكل ما فيها من كمال قزما حقيرا أمام كلمة (رسول الله)
فكلمة (رسول الله) لا يمكن لأي كان أن يعبر عن حقيقة محتواها.. إنها أعظم من كل تعبير.. وأجل من كل تصوير.
إنها تقول بلسان فصيح: إن ما جاء به محمد ليس نتاج أفكار ذكية.. ولا مواجيد سامية.. ولا كشوف شفافة.. ولكنه الحقيقة التي عاشها ورآها وسمعها.
إن كلمة (محمد رسول الله) تعني أن هناك آخرة حقيقية.. وأن هناك جنة ونارا.. وأن هناك نعيما وعذابا مقيما.
إنها تعني أن هناك إلها هو رحمن رحيم ملك قدوس لطيف ودود..
إنها تعني أن الله الذي خلق الذرة والمجرة، ودبر العالم من العرش إلى الفرش هو الذي يخاطبنا بذلك القرآن العظيم.. وأنه هو الذي يعلمنا عن طريق ذلك الهدي الرفيع الذي اشتملت عليه سنة محمد وسيرته.
إنها تعني أن الله أمرنا أن نصلي الصبح والظهر والعصر والمغرب والعشاء.
إنها تعني أن الله أمرنا بأن نصوم رمضان، ونحج البيت.. ونزكي من أموالنا المقادير التي أمرنا أن نزكيها.
إنها تعني أن هناك حلالا يباح فعله، وأن هناك حراما يحظر فعله.. سواء تدخلت الشرطة لتنفيذ ذلك أم لم تتدخل.
إنها تعني أن حياة الإنسان ملك لله.. وأن الله الذي خلق الإنسان هو الوحيد الذي له الحق في أمره ونهيه وتحديد نوع الحياة التي ينبغي عليه أن يعيشها.
إنها تعني الإسلام جميعا بجميع حقائقه ومعانيه وسلوكياته.
نعم.. اعتقاد العبقرية يثير الإعجاب.. ولكنه إعجاب مجرد عن أي تأثير..
أما اعتقاد الرسالة.. فإنه مدرسة كاملة في العلم والحقائق والسلوك.
بينما كنت أستشعر تلك المشاعر الرقيقة.. وأنا في تلك الحديقة الغناء من حدائق مدراس.. إذا بي أرى قوما من الناس يجرون بسرعة، فسألت أحدهم عن سبب ذلك، فقال: إن محاضرة مهمة ستلقى الآن.. سيلقيها عالم مسلم يعقب بها على محاضرات ألقاها علماء من سائر الملل والنحل.
قلت: من العالم المسلم؟
قال: السيد سليمان الندوي([1]).. ألا تعرفه؟.. ذلك الذي يصيح في الدنيا جميعا بملء فيه (محمد رسول الله).. هذه هي رسالته في الحياة.. وهذه وظيفته التي نذر حياته لها.
لم أدر إلا وأنا أمسك بيد الرجل، وأقول له: خذني معك.. ما أشد شوقي للتعرف على محمد رسول الله..
دخلت قاعة المحاضرات بعد أن سخرت كل ما لدي من قوى لمزاحمة الجموع المكتظة.. والتي كان مظهرها يدل على أديان مختلفة متباينة.. وكأن الأديان جميعا قد اجتمعت لتسمع من هذا الرجل ما يقوله عن نبيه.
رأيت مدير الجامعة يحمل مكبر الصوت، ويقول: بناء على مبدأ (حرية التعبير) الذي تبنته جامعتنا الموقرة.. اسمحوا لي أن أقدم لكم اليوم شخصية مسلمة، بعد أن قدمت لكم في الأسابيع الماضية شخصيات من مختلف الأديان([2]).
إن السؤال الذي أردنا من كل محاضر أن يجيب عنه هو: من هو الإنسان الذي يمكن اعتباره وسيطا بين الخالق والإنسان، بحيث يستطيع الضمير أن يطمئن للسير خلفه، والاستنان بسنته؟
لقد أجاب كل محاضر بحسب ما لديه من قناعات..
وبناء على هذا.. وبناء على احترامنا للمسلمين باعتبارهم من الطوائف المهمة والعريقة بهذا البلد.. فإنه يسرنا اليوم أن نستمع إلى السيد سليمان الندوي.. وهو من تعرفونه في قدراته العلمية التي عمقتها خبرته بالحياة، وبالواقع الإنساني.
بعد أن انتهى مدير الجامعة من تقديمه، تقدم رجل يظهر عليه من الوقار والهيبة ما يجعلك تطمئن إليه اطمئنانا كليا.. استلم من مدير الجامعة مكبر الصوت.. وراح يقول، وهو واقف من غير أن يجلس على الكرسي الذي أعد له: اسمحوا لي أن أخاطبكم، وأنا واقف.. لأني سأتحدث عن رجل ظل طول حياته واقفا لأداء ما كلف به من مهام.. ولم يعرف الراحة إلا بعد أن قضى الله بأن يصير في الرفيق الأعلى.
إن السؤال الذي طرحه مدير الجامعة المحترم سؤال لا غنى للإنسان العاقل.. بل لا غنى للإنسانية جميعا عن الإجابة عنه.. إنه ليس ترفا من البحث.. ولا فضولا من المعرفة.. إن الحياة لا يمكن أن تستقيم للإنسان إلا بمعرفة ذلك الإنسان.. لأن الله الذي خلق هذا الكون، ورتب ما فيه أحسن ترتيب، وخلق الإنسان، وأعطاه من القوى والطاقات ما أعطاه يستحيل أن يتركه هملا من غير أن يبين له حقيقته وحقيقة ما حوله، ووظيفته وعلاقته بما حوله.
انطلاقا من هذا، فإني في محاضرتي هذه التي شرفتموني بها لن أملي عليكم أي فكرة.. ولن أفرض عليكم أي قناعة.. بل سأكتفي بأن أحدثكم عن رحلتي في البحث عن هذا الإنسان.. وسأذكر لكم قصتي من أولها([3])..
صاح رجل من الحاضرين: كيف تقول هذا.. وأنت رجل نبت في الإسلام من جذوره الأولى.. بل إن نسبك يرتفع إلى هذا الذي تريد أن تحدثنا عنه.
التفت إليه بابتسامة، وقال: كل شيء يمكن أن يورث إلا الإيمان.. فهو لا يمكن أن يورث.. لأنه وليد القناعة العقلية.. والعقل لا يقنعه إلا الغذاء الذي جعله الله له.
ولذلك فإني ما شببت عن الطوق حتى رفض عقلي كل المسلمات الموروثة.. بل رحت أمحو كل عقيدة أمليت علي، أو تلقيتها تقليدا.
وقد كان أول ما بدأت به ـ بعد أن أيقنت بأدلة كثيرة لا حصر لها.. وليس هذا محل ذكرها.. بأن الله خلق الكون، ودبره أحسن تدبير.. وأنه خلق الإنسان، ودبر له من التدبير ما يملأ حياته بالسعادة والسكينة والسلام ـ أني وجدت في الإنسان جانبين: جانب لا خيرة له فيه.. فهو فيه مضطر مكره لا حظ له من الحرية..
وجانب له فيه كل الخيرة.. فهو إن شاء سار ذات اليمين، وإن شاء سار ذات الشمال، لا يقف في طريقه شيء.
ووجدت أن الإنسان في الجانب الذي أكره فيه يعيش السلام والسكينة في أروع مظاهرها.. فقلبه يخفق بانتظام ودقة ليملأ جسده بدماء الحياة.. ورئتاه تمدانه بما شاء من هواء.. ومعدته تهضم كل ما يزورها من طعام.. وهكذا كل أجهزته.. لا يعارض بعضها بعضا، ولا يتدخل بعضها في تخصصات بعض.
ولكني في مقابل ذلك وجدت الإنسان في جانبه الاختياري يعيش فراغا مقيتا، وصراعا حادا.. فقبله يطلب ما يخالف عقله.. ونفسه تصارع روحه.. وكل لطيفة من لطائفه تشتهي أن تكون الدولة لها.. والإنسان محتار بينها جميعا لا يدري أي واد يسلك، ولا أي بحر يخوض.
ووجدت البشر يختلفون في اختياراتهم.. وينجم عن اختلافهم صراع حاد بينهم وبين أنفسهم، وصراع حاد بينهم وبين البشرية جميعا.. بل بينهم وبين الكون نفسه.
وقد قلت لنفسي حين رأيت ذلك: أيمكن أن يكون المدبر البديع الذي دبر كل شيء، وأتقن تدبيره غاية الإتقان غفل عن هذه الناحية.. فلم يدبرها، ولم يضع الحلول لها؟
وبعد تأمل طويل.. رأيت أنه من المحال أن يحصل ذلك.. فكل شيء يدل على رحمة الله وحكمته ولطفه ومودته.. ويستحيل على من هذه صفاته أن يدع عباده هملا من غير أن يبين لهم السبيل الصحيح الذي يخرجهم به من هاوية الصراع.
وقد جعلني ذلك أبحث عن السبيل التي يعلم الله بها عباده..
ووجدت بأدلة كثيرة أن الوسيلة الوحيدة الممكنة لذلك هي أن يختار إنسانا منهم ليؤدي هذه الوظيفة.. فلا يمكن أن يكون معلم الإنسان إلا إنسانا.
وقد جعلني ذلك أبحث بكل ما أوتيت من جهد ـ لا أمتطي مطية سوى مطية العقل المجرد ـ عن الإنسان الذي استحق ذلك الشرف الرفيع.. شرف الوساطة بين الله وعباده.
لقد قلت لنفسي في بداية بحثي عن هذا الإنسان الكامل الذي استحق ذلك الشرف الرفيع: لاشك أن هذا الإنسان ممتلئ بالعظمة.. وممتلئ بالشهرة.. لأن الله الحكيم يستحيل أن يبعث رجلا خاملا مغمورا لا يعرفه الناس.. وإلا كيف يهتدون إليه، وكيف يتأسون به.. وكيف يتعلمون علومه([4]).
وقد جرني ذلك إلى وضع سجل ضخم لكل العظماء الذين اشتهر بهم تاريخ الإنسانية:
وقد وضعت في ذلك السجل أسماء ملوك جبابرة، عاشوا في قصورهم الشامخة بين ندمائهم وجلسائهم، ملأوا القلوب مهابة وجلالة..
ووضعت فيه أسماء قادة جيوش: عاشوا بين ضباطهم وجنودهم يُرْهِبون الناس ويخيفونهم بشدة بأسهم وضخامة أجسامهم ورواء هندامهم.
ووضعت فيه أسماء مستعمرين دوخوا البلاد، واستولوا علَى المماليك..
ووضعت فيه أسماء حكماء وفلاسفة.. ووضعت فيه أسماء شعراء.. ووضعت فيه أسماء أغنياء..
سكت قليلا، وكأنه يسترجع ذكريات بعيدة، ثم قال: لقد وضعت في ذلك السجل أسماء: هنيبعل القرطاجني والإسكندر المقدوني وقيصر الروم ودارا الفارسي ونابليون الفرنسي.. وغيرهم ممن كان يملأ عيون بني آدم بعظمته وأحداث حياته ومختلف أعماله.
ووضعت فيه أسماء سقراط وأفلاطون وديوجنس وغيرهم من حكماء اليونان وغير اليونان ـ مثل سبنسر وأضرابه ـ ؛ وكل من تجتذب سيرتهم النفوس وتروق القلوب.
وبعد أن انتهيت من إحصاء ما استطعت من أسماء.. رحت أسأل نفسي.. بل أسأل الأسماء التي ملأت علي عقلي، كما ملأت قبل ذلك سجلي أقول لها:
من منكم لديه الترياق الذي يضمن به فلاح الإنسانية؟
من منكم لديه الطاقة التي يستطيع بها أن يضع منهج صلاح الإنسانية وسعادتها؟
مَن منكم إذا اهتدى الناس بهديه يَنجون من المهالك، ويسلكون سبيل السعادة والهناء؟
مَن منكم وقف حياته علَى حل مُعضلات البشر، وكانَ حريصًا علَى عقد أواصر الإخاء بينهم علَى الحق والتواصي في الخير؟
لقد قلت لهم: هل يوجد فيكم ما يستعين به بنو الإنسان علَى تخفيف ما يُعانونه من الغمرات في حياتهم الاجتماعية؟ أم في أخلاقكم وأعمالكم ما ييسر للإنسانية الشفاء من أمراضها الخلقية وأوصابها النفسية؟ أم في دعوتكم ما يجلو صدأ القلوب ورينها، أو يرتق فَتْقًا في الحياة الاجتماعية؟
لم أجد أي إجابة على أي سؤال طرحته..
وقد أجابني جميع الشعراء والأدباء ابتداء مِن هوميروس، إلَى امرئ القيس.. فمن بعده من شعراء الأمم: بأنه لَم يكن منهم إلَّا إثارة كامن العواطف، وتنبيه النائم من الأفكار، أو إحداث لذة أو ألم في النفوس.. أما حل معضلات الحياة الإنسانية، وعويصات مشاكلها؛ فذلك أمر بعيد المنال.. وسبب ذلك بسيط.. وهو أنهم في سيرتهم وأعمالهم لا يُقَدِّمون للناس المُثُل الَّتِي تُحتذى، والأسوة الَّتِي يُقتَدى بهم فيها.
فتركتهم، ورحت إلى الفلاسفة والحكماء الذين بهروا العقول بفلسفتهم، وحاولوا تغيير تيار الحياة البشرية؛ فلم أجد عندهم ما يشفي غليلي..
لقد وجدت أرسطو؛ الذي وضع في فلسفة الأخلاق قوانين أَسَّسَ بنيانها، ووَطَّد أركانها، ولا تزال الجامعات وأساتذتها عاكفين علَى دراستها؛ ولا زال المثنون يثنون علَى ثقوب فكره، وبُعد نظره وحَصافة رأيه ورَجاحة عقله، ولكني ـ عندما بحثت عن أثره وتأثيره ـ لم أجد رجلًا واحدا اهتدى بدراسة فلسفته، أو وصل بها إلَى السعادة المنشودة.
وهكذا رأيت في الكليات المختلفة أفاضل من العلماء وفحول الأساتذة والمدرسين يُعْجِب الطلبةَ فصيحُ كلامهم، وبراعةُ بيانهم، وبليغُ حِوارهم، وعَذْبُ حديثهم، وهم يُؤَثِّرون فيهم بذلاقة ألسنتهم، واتساق أفكارهم، وترتيب معانيهم. لكنهم؛ لا تعدوا محاضراتهم جدران كلياتهم وقاعات محاضراتهم، وإذا خرجوا منها أصبحوا كعامة الناس لا يمتازون عليهم بعمل تتخذه الإنسانية مثالًا يُحتذى، ولا بخُلُقٍ يختلفون به عن غيرهم هَدْيًا وسَمْتًا.
وقد رأيت في مقابل الفلاسفة والحكماء كثيرًا من الملوك الجبابرة الَّذِين حكموا العالَم، واستولوا علَى المماليك، واستعبدوا الأمم، كم من أرض عمروها، ومدينة دمروها، وكم وضعوا شعوبًا ورفعوا آخرين، وكم سلبوا ومنحوا، وضروا ونفعوا.. لكن سيوفهم ـ التي قدرت على كل ذلك ـ لم تستطع أن تستل الرذائل من قلوب أهلها، وأن تحسم مادة الشر في نفوسهم، وأن تطهر صدورهم من فساد السرائر، ذلك الفساد الَّذِي يحمل أهله علَى ارتكاب المعاصي واقتراف السيئات.
لقد وجدت أن أقصى ما يترتب علَى رهبة المجرمين والمُرجفين من سيف الملوك المُسَلَّط عليهم أن يَسود الأمن والسلام سبل البلاد وأسواق المدن وشوارعها وحاراتها، أما إصلاح القلوب وتهذيب النفوس فمما يخرج عن سلطان السيف وتعجز عنه إرادة الملوك.
بل وجدت فوق ذلك أنَّ رأس كل شرّ إنما نَجَمَ من قصور أكثر الملوك.. وأنَّ كل فساد نبت نابته في فناء حصونهم، بل في قصورهم نبعت عيون الفواحش والجرائم، ومن حصونهم انفجرت ينابيع الظلم والعدوان، وعلى أيديهم تفاقم كل شرّ، ومن أخلاقهم سَرَت العدوى إلَى أخلاق الناس، ولِفَساد قلوبهم وسوء أعمالهم اتسع الـخَرْق علَى الراقع حتى أعيا الأطباء داء المجتمع البشري.
وقد دعاني ذلك إلى تساؤل غيرت به منهج بحثي..
لقد قلت لنفسي: إن كل هؤلاء الذين ملأت بهم سجلك لا علاقة لهم بما تبحث عنه.. أنت كمن يبحث في قوائم المهندسين عن طبيب.. أو في قوائم الأطباء عن مهندس..
نعم.. إن هؤلاء لهم شهرتهم التي ملأت الآفاق.. ولكنهم لم يشتهروا بأنهم وسطاء بين الله وعبادهم.. ولم يقل أحد منهم: (إني رسول يوحى إلي)، ولم يزعم أحد منهم أن لديه الترياق الذي يعالج به كل ما تحتاجه البشرية من ألوان العلاج.
وقد دعاني ذلك إلى البحث عن كل من له علاقة بدين.. أو يزعم لنفسه، أو يزعم له أتباعه أن له علاقة بالمبدع الذي أبدع كل شيء.
وقد وجدت في بداية بحثي أن البشرية لم تستنر في جميع عهودها إلا بهؤلاء.. وأنه لا قيمة تذكر للملوك، ومن داناهم أو زاد عليهم بجنب هؤلاء..
لقد وجدت أن يد الأيام عبثت ـ كما يشهد التاريخ ـ بالراجا (أشوكا) ملك (ﭘاتلي ﭘاتر)، ولم تُبقِ يد البِلَى من أوامره وأحكامه إلَّا صخورًا منقوشة وحجـارة منحـوتة.. أما (بوذا)؛ فإنه لا يزال يحكم القلوب، وسُننه وقوانينه لا يزال كثير من الناس يَدينون لها ويُطأطؤون الرّؤوس لـحُرْمتها.
ووجدت أن أوامر ملوك (أجين) و(هستاﭘور) في دلهي وقنوج أَمْسَت أثرًا بعد عين، بل دَرَسَت آثارهم وعَفَت أعلامهم، وأصبحت ديارهم كأطلال خولة.. أما (دهرم شاستر) ـ وهو كتاب العقائد الَّذِي جاء به (مِنو) ـ فلا زال باقيًا نافذًا أمره.
ووجدت أن الملك (حمورابي) من ملوك بابل كان أول مَن سَنّ القوانين، ولكن أين أوامره وأحكامه؟! لقد نسجت عليها العنكبوت منذ زمان طويل، ولم تدع يد البِلَى من قوانينه وأحكامه شيئًا.. أما تعاليم نبي الله إبراهيم فما بَرِحَت غَضَّة طَرِيَّة.
ووجدت (فِرْعَون) ودعواه (أنا ربكم الأعلى) أصبـحت أُضْحُوكَة.. أمـا نبـيّ الله موسى؛ فإنَّه يسود نوازع القلوب، ويملك أهواء النفوس، ويَدين له كثير من الناس، وتُسَلِّم لآياته وبيناته طوائف غير قليلة.
ووجدت قوانين (سولون) زال العمل بها وشيكًا، بينما التوراة المنزلة من السماء لا تنفك أحكامها وقوانيها تجد من يخضع لها، وبتعبد بها.
ووجدت (القانون الروماني) الَّذِي عَدَّ المسيح جانيًا مجرمًا، واعتبره قد اجترح السوء وأتي ذنبًا؛ قد خلت القرون تسفيه برياحها؛ فأصبح هشيمًا مضمحلًا.. أما المسيح؛ فإن تعليمه لا يزال نورًا تُـجَلَّي به ظلمات القلوب، وهُدًى تَطْهُر به نفوس المذنبين، وتُزَكَّي به أرواح المجرمين.
ووجدت (أبا جهل) وكبرياءه، و(كِسْرَى)الفرس ودولته وجبروته، و(قَيْصَر) الروم وحكومته وطغيانه.. قد طوى الدهر صحائفهم، وطمست الأقدار دُوَلهم، وتهدم مجدهم، وذهبوا أدراج الرياح.. أما محمد؛ فإنَّ حُكْمه ما زال باقيًا علَى الدهر، وأوامره نافذة، وسُنَّته مُتَّبعة في كل زمان ومكان.
لكني بعد أن وصلت إلى هذه القناعة وقفت حائرا في الإنسان الذي أتبعه من هؤلاء جميعا..
لقد خيل لي في البدء: أنه يمكنني أن أعتبرهم جميعا سرجا أستضيء بها، وأسلك سلوكها.. لكني وجدت التناقض بين أتباعها حادا بحيث لا يستطيع أحد أن ينضم إلى جهة إلا إذا ترك ما عداها.
وقد جعلتني تلك الحيرة أبحث عن المنهج الذي أتعرف به على الأحق منهم جميعا بأن يكون الإنسان الكامل الذي أبحث عنه.
وقد هداني إلى بعض هذا المنهج لقاء يسره الله مع الشاعر طاغور.. ذلك أني كنت أمتطي الباخرة (كروكوديا) ـ الَّتِي ركبناها في عودتنا من مصر والحجاز، في (شباط 1924) ـ وقد اجتمعنا فيها عرضًا بالدكتور طاغور ـ الشاعر الذائع الصيت ـ وكان قافلًا من سياحته في أمريكا؛ فسأله بعض رفقته: ما بال نِحْلَة (برهمو سماج) أخفقت في مساعيها ولم تنجح، مع أنها أنصفت الأديان، وجمعت الحسنات، وسالمت جميع المِلَل، ومِن مبادئها وأصولها أن الديانات كلها علَى حق، وأن جميع المصلحين من الأنبياء والرسل والهداة هم خيار الناس وصلحاؤهم، ثم إنها ليس فيها ما يُخالف العقل، أو يعارض المدنية الحاضرة، أو يناوئ الفلسفة الحديثة، وصاحب هذِهِ النِّحْلَة قد راعى فيها الظروف الراهنة والشئون المألوفة الآن، ومع ذلك كله لم تنل من الفوز شيئًا، ولم يُتَح لها من النجاح قليل ولا كثير!؟
فأجاب الشاعر على البديهة: (إن النِّحْلَة لم يكن لها داعية يدعو الناس إليها بسيرته الكاملة وهديه العالي، ولم يكن لها لسان يدعو مُؤَيِّدًا بعمل يصدِّقه؛ فتهوي إليه أفئدة الناس وتطمح إليه أبصارهم، ويكون لهم من الدعاة أسوة يأتسون بها، وقدوة يقتدون بها)
لقد جعلني كلامه هذا أضع تصورا عن هذا الإنسان الذي هو حقيق بأن يكون واسطة بين الله وعباده.
فأول شروطه أن تجتمع فيه جميع ألوان الكمال، وأن يكون محل قدوة في جميع النواحي التي يحتاجها البشر في جميع مناحي حياتهم.. ليتقولب البشر في قالبه.. ويتحولوا إلى نسخة عنه.. فيسري إليهم من كمالهم ما يملؤهم بالكمال.
ولكن هذا الشرط يستدعي شرطا آخر.. وهو أن يحفظ الله كل ما يرتبط بهذا الإنسان.. بحيث لا تضيع منه صغيرة ولا كبيرة.. فلا يمكن للبشر أن يقتدوا إلا بمن يعرفون سيرته في جميع أحواله ومواقفه.
وقد جعلني هذا أختصر رحلتي في البحث عن هذا الإنسان، بالبحث عن البشر الذي تحقق فيهم هذان الشرطان([5]).
سكت قليلا، ثم قال: لقد بدأت أبحث في جميع مواريث البشرية عمن تحققت حياته بالشرط الأول.. فلا يمكن أن أتعرف على الثاني إلا بعد أن أتعرف على الأول.
قال رجل من الجمع: فماذا وجدت؟
قال: لقد بدأت بأقدم الأمم عهدًا.. هنادك الهند.. لقد وجدت في تاريخهم مئات مِن العظماء والنابهين.. فرحت أبحث عن تفاصيل سيرهم لأعرف كيف أصير كاملا بالاقتداء بهم..
لكني وجدت التاريخ أعجز من أن يعرفني بهم.. لقد وجدت أن الكثير منهم لا يعرف الناس مِن شؤون حياتهم وحقائق أحوالهم إلَّا أسماءهم، وهم لا يحظون في كتب التاريخ بمكانة؛ وإنما تُعَدّ سيرتهم مِن علم الأساطير وخرافات الوثنية..
لقد بحثت في أحسنهم سمعة.. رجال (فهاربتها) و(راماينا) وأبطالها.. لكني وجدت أن سيرتهم لا تُعَدّ مِن التاريخ، بل لا يعرف التاريخ زمانهم، فضلًا عن أن تتعين في الزمان قرونهم، أو تُعْرَف مِن قرونهم سنوات حياتهم.
لقد قام بنفس ما قمت به من دراسة بعض علماء أوروبا.. ذهبوا فدرسوا تاريخ الهند القديم درسًا متواليًا، وقاسوا له أقيسة، وذهبوا في ذلك شوطًا بعيدًا؛ فصاروا يُعَيِّنون عهد عظماء الهنادك وأبطالهم تعيينًا.. لكن الحقيقة ومعها علماء الهنادك أنفسهم يعرفون أن كل ذلك مجازفة ورَجْم بالغيب.. بل إن أكثر المحققين من علماء أوروبا لا يَعُدُّون ذلك من التاريخ، بل لا يعترفون بأن هؤلاء قد وُجِدُوا في العالم يومًا ما.
تركت الهند لأذهب إلى فارس حيث صادفت زرادشت ـ صاحب الديانة المجوسية ـ ووجدته مُعَظَّمًا عند كثير من أتباعه.. وبحثت في التاريخ عنه وعن تفاصيل حياته.. لكن التاريخ لم ينبئني من نبئه ما يرضي غليلي.. بل إن التاريخ لم يكشف الحجاب عن وجوده الحقيقي بعد.. فهو لا يزال سرًّا غامضًا مِن أسرار التاريخ، حتى شك بعض المؤرخين من الأمريكين والأوروبيين في نفس وجوده!
أما المستشرقون الَّذِين يعترفون بوجوده التاريخي؛ فإنهم يُثبتون بعض شؤون حــياته ـ بظنون متباينة وأوهام متباعدة ـ إثباتًا لا يَروي غِلَّة ولا يَشفي عِلَّة.
وكل ذلك صرفني عنه.. فلا يستطيع أحد أن يطمئن إلَى اتخاذ حياة من شك في حياته أسوة لنفسه في الحياة، ما دام الشك وتَضارُب الآراء يحومان حول زمانه وبلده ونَسَبه وأسرته وشريعته ودعوته وكتابه ولغته وعام وفاته ومكان موته، والروايات عن ذلك أوهام وأقيسة وظنون لا تغني من الحق شيئًا.
نعم.. إن المحبين لزرادشت يعتذرون لذلك بأن كتبهم الدينية قد ذهبت بها حروبهم مع اليونان، وأن أعداءهم أبادوها.. ولكن ذلك لم يكن يعنيني في شيء.. لأن لكل أمة عذرها في اندثار سير عظمائها.. ولكل عظيم سبب لاندثار سيرته.
ولكن عذري الذي جعلني أنفر من كل ذلك هو أني وصلت إلى قناعة لا يزعزعها الشك بأن الإنسان الذي يختاره الله لهذه الوظيفة العظيمة سيكون محفوظا في وجه كل الأعاصير.. حتى تبقى سيرته وذكراه منارة يهتدي بها الجميع.
بعد أن يئست من زرادشت سرت نحو بوذا..
وقد وجدت أن البوذية أقدم الأديان، وأوسعها نطاقًا، وأكثرها انتشارًا في سالف الأيام، فقد كان لها سلطان علَى الهند والصين وآسيا الوسطي وأفغانستان وتركستان، ولا تزال إلَى الآن في سيام والصين واليابان وتبت.. وغيرها من دول العالم.
وقد دعاني ذلك إلى البحث عن بوذا.. وكان أول سؤال سألته: هل يُقيم التاريخ وزنًا لوجود بوذا؟ وهل يَقْدِر مؤرخ علَى أن يعرض للناس صورة حقيقية لتاريخه؟ وهل يستطيع كاتب أن يصف ظروفه وأحواله الَّتِي كان عليها في حياته وصفًا كاملًا لا يغادر شيئًا ـ من تحديد زمن ميلاده، ووطنه، وأصول دينه كما دعا هو إليه، ومبادئ دعوته وأهدافها ـ؟
وبحثت في بطون التاريخ، وفي بطون الكتب المقدسة للبوذيين عن جواب علمي لهذا السؤال.. فوجدت أن الجواب عن كل ذلك محجوب عن علم الناس بظلمات كثيفة متراكمة، وكل ما أمكن للباحثين أن يعرفوه هو أنهم حاولوا تعيين زمان وجوده بحوادث راجوات بلاد (مكده)، ولم يكن لهم سبيل سوى ذلك، وتسَنَّى لمؤرخ أن يُقارِن زمن هؤلاء الراجوات بملوك اليونان الَّذِين كانت بينهم وبين راجوات مكده روابط.
وهذه المعارف.. وغيرها مما اكتنف بظلمات الأوهام والأساطير.. لم يكفني للتعرف على بوذا..
فانصرفت عنه إلى (كونفوشيوس) ـ صاحب النِّحْلَة المعروفة في الصين ـ لأبحث في حياته كما بحثت في حياة غيره.. لكني وجدت أن المعلومات الواردة عنه أقل من المعلومات الواردة عن بوذا، مع أن المنتسبين لطريقته الدينية يبلغ عددهم مئات الملايين.
فانصرفت عنهم.. وعن هذه المنطقة جميعا.. وصوبت وجهي نحو البلاد التي سميت بلاد الأنبياء..
وسمعت بها أسماء كثير من الأنبياء مما تمتلئ بذكرهم الأسفار المقدسة لليهود والمسيحيين..
ورحت أستعمل المنهج العلمي في البحث.. والذي استعملته مع كل العظماء الذين سبق ذكرهم.. فوجدت أن أسفار اليهود الَّتِي تضمنت سير هؤلاء الأنبياء قد خالج المحققين من العلماء ضروب من الشك في كل سِفْر منها([6]).
فأحوال موسى المذكورة في أسفار التوراة ـ حسبما يؤكد الباحثون ـ دُوِّنَت وجُمِعَت بعد موسى بقرون كثيرة.
وأحوال المسيح وسيرته مكتوبة في الأناجيل، والأناجيل ـ كما تعلمون ـ كثيرة، غير أن أكثرية المسيحيين اقتصرت علَى أربعة أناجيل، أما (إنجيل الطفولة) و(إنجيل برنابا) وغيرهما فلا يعتبرونهما. ومع ذلك؛ فإن الإناجيل الأربعة الَّتِي اقتصروا عليها لم يَلْقَ أحد مِن الَّذِين جمعوها المسيح.
وبحثت عَمَّن رَوَوا هذِهِ الأناجيل؛ فوجدت التاريخ يجهل ذلك كل الجهل.. ويزداد المرء شكًّا إذا توصل إلَى حقيقية أخرى؛ وهي: أن الرجال الأربعة المنسوبة إليهم هذِهِ الأناجيل الأربعة لا يمكن القطع يقينًا بأنهم هم الَّذِين جمعوها في الواقع.. فإذا كان الأشخاص المنسوبة إليهم هذِهِ الأناجيل لا يطمئن التاريخ إلَى صدورها عنهم؛ فكيف يطمئن إلَى صحتها؟
وزاد الطين بلَّة أني وجدت الجهل مطبقا باللغة الَّتِي كُتِبت بها هذِهِ الأناجيل في الأصل، وفي أي زمان كُتِبَت! فقد اختلف مُفَسِّروا الأناجيل اختلافًا شديدًا في تعيين زمان جمعها وتدوينها: فمِن قائل أنها كُتِبت سنة 60 للميلاد.. ومِن قائل أنها جمعت بعد ذلك التاريخ بكثير..
لقد نفضت يدي من كل هؤلاء بعد أن علمت أنه لا يوجد في التاريخ ما يجلي سيرتهم ويرسم حياتهم لتصير منهاجا للبشرية تهتدي به.
نعم كنت أكن لهم كل الاحترام والتقدير.. ولم يكن يعتريني الشك الذي اعترى أولئك الباحثين حول وجودهم.. ولكني كنت أقول لهم بكل تواضع: أعلم أنكم عظماء.. وأنكم خيرة الله من خلقه.. ولكن اعذروني على أني لم أنتهج نهجكم.. فليس ذلك احتقارا له ولا لكم.. وإنما لأنه ليس لدي من العلم بكم ما يمكنني من ذلك.
لقد قلت لهم ـ ولعلهم في غياهب الغيب قد سمعوني، وعذروني ـ: كيف يمكن اتخاذ الأسوة الكاملة الَّتِي تطمئن لها القلوب إن لم تكن جميع نواحي الحياة في الشخصية المُقتدَى بها معلومة، وليس فيها ما يجهله الناس، وما هو مكتوم عنهم وراء حجب التاريخ.
إن المُقتدَى به والذي يَتخذ الناس مِن حياته أسوة لا بُدَّ أن تكون حياته كلها واضحة صافية كالمرآة، ليلها كنهارها؛ لتتبين للناس المُثُل العُليا الَّتِي يحتذونها في حياتهم بجميع أطوارها ومناحيها.
لقد قلت مخاطبا بوذا..: (اعذرني يا بوذا.. فمع أن عدد المنتسبين إليك رُبع سكان المعمورة، إلا أن التاريخ لم يحفظ مِن سيرتك إلَّا عدة أقاصيص وحكايات؛ لو أننا نقدناها بمقاييس التاريخ ـ لنتخذ لأنفسنا قدوة من حياتك وسيرتك ـ لخرجنا مِن ذلك خاسرين)
وقلت مخاطبا زردشت: (إن المعلومات التي وردتنا عنك قليلة باهتة متناقضة.. فلسنا ندري أيها أنت.. هل أنت زرادشت الَّذِي عرفناه مِن أبيات شعرية في (كاثا)، أو أنك زرادشت الَّذِي نراه في (وستا) الجديدة.. وخلاصة ما نعلمه عنك ـ إن صح ـ هو أنك وُلِدت في مقاطعة أذربيجان، ونَشرت دعوتك في بلخ وأطرافها، وأن الملك (هشتاسب) دخل في دِينك، ثم ظهرت علَى يدك معجزات، وقد تزوجت ووُلِد لك أولاد، ثم تُوفيت بعد كل ذلك.. فهل يمكن لهذه المعلومات الضئيلة أن تتأسس عليها حياة أحد من الناس)
وقلت مخاطبا موسى: (اعذرني يا موسى.. لا شك أنك عظيم من العظماء، وأن الله اختارك في يوم من الأيام لتكون واسطة بينه وبين عباده.. ولاشك أنك مِن أكثر الأنبياء ذِكرًا وأوضحهم حياة.. ولكن حياتك مع وضوحها لاتكفي لتبنى عليها حياتنا.. إن الأسفار الخمسة مِن التوراة التي فصلت تفاصيل حياتك ـ بغض النظر عن ذلك الانقطاع الخطير في سندها ـ لا تكفي لاتخاذك أسوة)
نظر سليمان إلى الجمع، وقال: لا شك أن فيكم يهودا ومسيحيين.. ولا شك أنهم يعرفون أن الأمور الَّتِي كان يحتاج البشر إلَى معرفتها مِن حياة موسى الاجتماعية هي الأخلاق والعادات والهدي، وكل ذلك لا نجده في سيرته.
أما ذِكر أسماء الرجال وأنسابهم وأماكنهم وبلادهم وعددهم فمما لا يهمنا عِلْمه في مقام القدوة والأسوة والهداية، مع أنه هو الَّذِي نراه مفصلًا في التوراة.. وكذلك نرى فيها شيئًا كثيرًا مِن القوانين والمبادئ والأصول، لكن هذِهِ الأمور والتي سبقتها مهما تكن أهميتها عند علماء الجغرافيا والأنساب والحقوق؛ فإنها لا تعنينا نحن مِن جهة الأسوة والقدوة في الحياة، ولا تَسدّ الخلل الواقع في سيرة موسى مِن هذِهِ الناحية الَّتِي لا يكمل بيانها إلَّا بذِكْر أخلاقه وشؤون حياته وأحواله في معاشـرته؛ وهـو مـا لا بُدَّ منه ليتخذه البشر مِثالًا يعمل به.
سكت قليلا يستجمع أنفاسه، وقال: وهكذا سرت أبحث عن كل نبي من الأنبياء إلى أن وصلت إلى المسيح.. المسيح الَّذِي يزيد عدد المنتسبين إليه ـ بحسب إحصاءات الأوربيين ـ علَى عدد المنتسبين إلَى الديانات الأخرى.
لقد استغربت كثيرا حين علمت بعد جهد جهيد أن شؤون حياته وأحوال معيشته أخفَى من غيره وأغمض.
لقد استفرغ العلامة رينان جهده؛ ولقي من العناء والنصب مبلغًا عظيمًا ليقف علَى حياة المسيح كاملة تامة؛ ومع ذلك؛ فإن شؤون المسيح وأحواله لا تزال سرًّا مكنونًا في ضمير الزمن لم يَبُح به لسانه بعد.
أين قضى المسيح الثلاثين ـ أو الخمس والعشرين سنة (علَى الأقل) ـ من حياته؟ وفيمَ قضاها؟ وبأي الأعمال شغل هذا الفراغ الواسع من عمره؟
إن الدنيا لا تعلم عن ذلك شيئًا ولن تعلم..
وحتى السنوات الثلاث الأخيرة ماذا نجد فيها؟.. آيات ومعجزات معدودات، وبعض العِظات.. ثم قيل إنه صُلِب؛ فانطوت صحيفة حياته.
سمعت بعض الجلبة في القاعة أحس بها السيد سليمان، فراح يقول: اعذروني.. أنا لم أقل إلا ما وصلت إليه.. وإن كان فيكم من لديه من العلم ما يدلني به على مخطوطات قد تكون غابت عني.. فيها تفاصيل أكثر عن المسيح، أو عن غيره من الأنبياء.. فأنا مستعد لسماعها، بل مسرور بذلك.. ولكن ذلك لم يكن.. ولن يكون.
أنا لا أقول ما أقول جُزافًا، وادعاء مني لأجل عقيدة لي خاصة أعتقدها؛ وإنما هي حقيقة يشهد لها التاريخ، وتؤيدها البراهين والدلائل.
إن العقل السليم يدل ـ بشواهد كثيرة لا يمكن إحصاؤها ـ على أن السيرة الَّتِي يحق أن يتخذ الناس مِنها أسوة حسنة ومثلًا أعلى؛ يُشْتَرط لها قبل كل شيء أن تكون سيرة (تاريخية)، أما السيرة القائمة علَى أساطير لا تدعمها الروايات الموثوق بصحتها؛ فإن من طبيعة الإنسان أن لا يتأثر بما يُحْكَى له من سيرة لشخصية مفترضة لا يعرف لها التاريخ أصلًا صحيحًا؛ وإنما اخْتلَق لها المناقب أناسٌ أحسنوا الظن بها، ورفعوا مكانها، وقد يَخْدَعون بهذه المناقب بعض الناس أمدًا قصيرًا حين يعرضونها عليهم في حُلَّة قشيبة من الألفاظ، وثوب قشيب من العبارات، ثم لا تلبث الحقيقة أن تظهر من وراء غلائل الأوهام؛ فيُعْرِض الناس عنها إعراضًا؛ لأنها قامت علَى غير أساس من التاريخ.
لا بُدَّ لكل سيرة من سير الكمال الإنساني يدعى الناس إلَى الإقتداء بها واتخاذها أسوة؛ أن يدعمها التاريخ ويشهد لها المحققون؛ ولهذا نرى النفوس البشرية لا تتأثر بالأساطير والأوهام كتأثرها بحوادث التاريخ والروايات الثابتة عن الثقات الأثبات؛ وذلك لأن سيرة الرجل العظيم الكامل لا تُعرَض علَى الناس ليشغلوا بها أوقات فراغهم، ويروِّحوا بها عن أنفسهم في حالة المَلل أو الضجر؛ بل تُعرَض عليهم ليُدْعوا إلَى الإقتداء بها، واتخاذها نبراسًا لحياتهم.
قال رجل من الجمع: قد وعينا ما ذكرته.. ونحسب أنا لا نخالفك فيه.. ولكن هل يمكن أن يكون هناك بشر على هذه الأرض حفظ التاريخ من سيرته ما يمكن أن يكون منارة تهتدي بها البشرية؟.. ثم يكون حفظ التاريخ لسيرته خاليا من كل خرافة بعيدا عن كل أسطورة.
قال سليمان: أجل.. المنطق السليم يدل على ضرورة وجود مثل هذا الرجل.. فالخالق المدبر الذي دبر كل شيء يستحيل أن لا يدبر هذا.. فحياة البشر جميعا واستقامتهم تتوقف على هذا.
قالوا: فهل وجدته؟
قال: أجل.. بعد أن فرغت من كل من سمع بهم العالم من العظماء من رجال الدنيا والدين.. صوبت وجهي نحو محمد..
قالوا: فلم أخرته؟.. ولم لم تبدأ به؟
قال: لقد آثرت أن لا أبدأ به حتى لا يقف بي التقليد دون مواصلة البحث.. وقد كان من رحمة الله أن كان نهاية بحثي، وخاتمة المسك التي ملأتني بالطمأنينة واليقين.
قالوا: فحدثنا عن بحثك عنه..
قال: لقد كان المنهج الذي تبنيته في هذا هو أن الحياة التي يبنبغي أن تنقل لنا عن هذا الذي هو واسطة بين الله وعباده يشترط لها شرطان: الصحة، والتفصيل.
أما الصحة.. فلتفادي الخرافة والأسطورة.. فلا يمكن للعقل السليم أن يسلم لهما.
وأما التفصيل.. فإن تفاصيل الحياة وعقدها لا يكفي فيها الإجمال والغموض.
قالو: فحدثنا عن الصحة.
قال: لقد بدأت بحثي فيها.. فأخوف ما يخاف العاقل على ما يصل إليه من العلم الأسطورة والخرافة والأهواء.. فهي فيروسات خطيرة تحول من العلم جهلا، ومن المعارف دجلا.
لقد رحت أبحث في المنهج الذي نقل به المسلمون أخبار نبيهم وأحاديثه وتفاصيل حياته، فوجدت من ذلك ما لم أجده في جميع مناهج العالم..
لقد وقف العالَم كله موقف العجب والاستغراب من الذين وَقَفُوا حياتهم منذ عصر محمد علَى حفظ أقواله ورواية أحاديثه وكل ما يتعلق بحياته؛ أدَّوها إلَى من ضَبَطوها بعدهم وكتبوها، وصاروا يُسَمّون (راوة الحديث) أو (المحدِّثين) و(أصحاب السير)
فلما كملت هذِهِ الذخيرة التاريخيّة ـ جمعًا وكتابة وتدوينًا ـ جعل العلماء يكتبون سير هؤلاء الرواة من الصحابة والتابعين ومَن بعدهم مِن العلماء الَّذِين رووا شيئًا مما يتعلق بحياة محمد، فكتبوا أسماءهم وكُناهم وأنسابهم ومنشأهم وأخلاقهم وعاداتهم؛ وبالجملة؛ أحصوا شؤون حياتهم كلها؛ حتى أصبح ما كتبوا في هذا الباب عِلْمًا مستقلًّا سميَ فيما بعد (عِلْم أسماء الرجال)
لقد حفظ التاريخ أسماء عشرة آلاف من الذين رأوا محمدا مذكورة أسماؤهم وأحوالهم في كتب التاريخ الَّتِي أُفْرِدَت لتدوين أحوالهم خاصة.. والتاريخ لم يهتمّ بتدوين أحوالهم، ولم يحفظ لنا شؤونهم إلَّا لأنّ كل واحد منهم حفظ شيئًا من أقوال محمد وأفعاله وتصرّفاته وهَديه وسيرته.
لقد كان الآلاف من الناس قد انتدبوا للتبليغ عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ لأن محمدا هو الَّذِي أمرهم بذلك فقال: (بلِّغوا عني)، وقال: (لِيبلِّغ الشاهدُ الغائبَ)؛ فكانوا يعلِّمون أولادهم وإخوانهم وأصحابهم وأقرباءهم من الدِّين والعلم كل ما كانوا يعلمونه؛ فكان ذلك شُغلهم وهَمّهم آناء الليل وأطراف النهار وفي الغُدُوّ والآصال.
وكما كان محمد يحرِّض علَى أن يبلِّغوا عنه ويَفقَهوا تشريعه وينشروا دعوته وأحكامه؛ كان ينهَى الناسَ عن أن يتقوَّلوا عليه ما لم يقل، أو ينسِبُوا إليه ما لم يفعل، وكان يُنذِر مَن يتعمّد الكذب عليه بأنه سيتبوَّأ نار جهنم.
قال رجل من الجمع: فقد اعتمد المبلغون عن محمد إذن على ما اختزنته ذاكرتهم من مرويات..
قال سليمان: لقد كان ذلك من دواعي ثقتي فيما رووه.. فالذاكرة أفضل سجل يمكن أن يخزن المعلومات.. أما الكتاب، فمن السهل العبث به وتغييره والتلاعب به.
لقد عرفتم ما حصل لأسفار الأنبياء بسبب اهتمام رجال الدين بكتابتهم، وتقصيرهم في حفظها.. ولو حفظوها في صدورهم ما استطاعت قوة في الدنيا أن تسلبنها منهم.
قال الرجل: ولكن الذاكرة لا يمكنها أن تستمر طويلا في الحفاظ على ما حفظته..
قال سليمان: ذلك عندما يكون الحديث هملا لا قيمة له.. ولكن الحديث إن كان له أهمية وقيمة عند صاحبه، فإن الأيام لا تزيده إلا تثبيتا.. فإن كان له أهمية عند المجتمع جميعا، فإن ثباته يكون راسخا.. فإن توقفت قيمة الإنسان عليه لا يمكن وصف حد لرسوخه.
وهكذا المحدثون كانت قيمتهم بقدر محفوظاتهم، وبقدر دقة محفوظاتهم.. فلذلك يرعونها أتم رعاية.. ويخشون أن يقعوا في الهفوة الواحدة، فينزل عليهم من عذاب الله ما توعد به محمد من يكذب عليه.. وتنزل عليهم من لعنة المجتمع ما يجعلهم متهمين فيه بأبشع التهم وأرذلها، وهي الكذب على نبيهم.
ولذلك.. فإن من خشي منهم الخطأ أو السهو أو الغفلة سارع إلى كتابة ما يحفظه ليعين به ذاكرته.
وهكذا.. وبعد بحوث طويلة ممتدة في أساليب المحدثين في التعامل مع النصوص التي وردتهم عن نبيهم نزل على فؤادي برد اليقين بأن ذلك المنهج هو المنهج الأمثل في الابتعاد عن الأسطورة والخرافة والدجل..
لقد قال أستاذي العلامة الكبير المحقق الشيخ شبلي النعماني مقارنا ما بذله المسلمون في تمحيص ما ورد عن نبيهم بما فعله غيرهم من الأمم: (لما أرادت الأمم الأخرى من غير المسلمين أن تجمع في أطوار نهضتها أقوال رجالها ورواياتهم؛ كان قد فات عليهم زمن طويل، وانقضَى بينها وبينهم عهد بعيد؛ فحاولوا كتابة شؤون أُمّة قد خلت، ولم يميّزوا بين غث ذلك الماضي وسمينه، وصحيحه وسقيمه، بل لم يعلموا أحوال رواة تلك الأخبار ولا أسماءهم ولا تواريخ وِلادتهم؛ فاكتفوا بأن اصطَفُوا من أخبار هؤلاء الرواة المجهولين ورواياتهم ما يُوافِق هواهم، ويُلائِم بيئتهم، وينطبق علَى مقاييسهم. ثم لم يمض غير زمن يسير حتى صارت تلك الخرافات معدودة كالحقائق التاريخية المدونة في الكتب. وعلى هذا المنهاج السقيم صُنِّفت أكثر الكتب الأوربية مما يتعلق بالأمم الخوالي وشؤونها، والأقوام القديمة وأخبارها، والأديان السالفة ومذاهبها ورجالها. أما المسلمون؛ فقد جعلوا لرواية الأخبار والسير قواعد محكمة يرجعون إليها، وأصولًا مُتقنة يتمسّكون بها، وأعلاها: أن لا تُروَى واقعة من الوقائع إلَّا عن الَّذِي شهدها، وكلما بعد العهد علَى هذِهِ الواقعة؛ فمن الواجب تسمية مَن نقل ذلك الخبر عن الَّذِي نقله عمّن شهد، وهكذا بالتسلسل من وقت الاستشهاد بالواقعة والتحدّث عنها إلَى زمن وقوعها، والتثبُّت مِن أمانة هؤلاء الرواة وفِقههم وعَدالتهم وحُسن تحمّلهم للخبر الَّذِي يروونه، وإذا كانوا علَى خلاف ذلك؛ وجب تبيينه أيضًا. وهذه المهمة من أَشقِّ الأمور، ومع ذلك؛ فإن مئات من المحدثين تفرّغوا لها، ووَقَفُوا أعمارهم علَى تحرِّي ذلك واستقصائه وتدوينه، وطافوا لأجله البلاد، ورَحَلُوا بين الأقطار؛ باحثين دارسين لأحوال الرواة، وكانوا يَلْقَون المعاصرين لهم من الرواة لينقُدوا أحوالهم، وإذا اطمئنوا إلَى سيرة فريق منهم؛ سألوهم عما يعرفونه من أحوال الطبقة الَّتِي كانت قبلهم، وقد اجتمع من هذا المجهود العلمي العظيم عِلْم مستقلّ من العلوم الإسلامية؛ أُطْلِقَ علـيـه ـ فيما بَعْدُ ـ عنوان (أسماء الرِّجال)؛ فتيسَّر لمن أتَى بعدهم أن يقفوا علَى أقدار مئات الألوف من الحفاظ والعلماء الرواة وغيرهم)
قام رجل من الجمع، وقال: لا نحسبك كاذبا فيما تقول، ولا مدعيا فيما تذكر.. فنحن نعلم مدى حرصك على صدق المعلومة.. ونعلم مدى حرص المسلمين عليها.. ومدى خوفهم من الكذب.. فحدثنا عن الجانب الثاني الذي لا يمكن أن يتحقق الحفظ إلا بوجوده.
قال: الجانب الثاني هو التفصيل.. فلا يشك أحد في صدق الكثير من الأحداث التاريخية.. ولا يشك أحد في الكثير من الشخصيات العالمية.. ولكن المعلومات الواردة عنهم لا تكفي لتجعلهم أسوة لغيرهم..
فالأسوة تقتضي العلم.. والعلم يقتضي التفصيل..
قالوا: فما وجدت؟
قال: لقد تتبعت ما ورد عن كل عظماء العالم ـ بغض النظر عن صدق ما ورد ـ فلم أجد رجلا اهتم الناس بكل ما في حياته من تفاصيل كاهتمامهم بمحمد.. حتى لكأنه بيننا لا يزال حيا بكل ما في الحياة من معنى.
سأذكر لكم ـ باختصار ـ المصادر التي تناولت حياة محمد وتفاصيلها، لتعرفوا مدى الاهتمام الذي أولاه العامة والخاصة لحياة محمد.
أول المصادر ـ بعد القرآن الذي سجل الكثير مما يرتبط بحياة محمد وسلوكه ـ كتب الحديث؛ وهي كتب حَفِظَت لنا من أقوال محمد وأفعاله وأحواله ما يبلغ مائة ألف حديث، وقد امتاز الصحيح منها عن الضَّعيف والموضوع، والقويّ منها عن غير القويّ.
ومنها كتب المغازِي. ومعظم ما فيها ذِكْر الغزوات النبويّة، وقد تتضمّن أمورًا أخرى.
ومنها كتب التاريخ الإسلامي العامّ؛ الَّتِي تبتدئ بالسيرة النبوية.
ومنها الكتب الَّتِي ألفت في المعجزات؛ وتُسَمّى بكتب الدلائل.
ومنها كتب الشمائل؛ وهي مقصورة علَى ذِكْر أخلاق محمد وعاداته وفضائله، وما كان يعمل في يومه من الصباح إلَى المساء، وفي ليله من المساء إلَى الصباح.
ومنها الكتب الَّتِي صنّفها بعض العلماء المتقدِّمين في أحوال مكة والمدينة البلاد التي سكنها محمد، لقد ذكروا كل ما يرتبط بهذين البلدَين من بقاع وأماكن وأودية وجبال وخطط، وذكروا مَن تولَّى إمارتهما، بادئين بكل ما له علاقة بمحمد..
نظر إلى الجمع، والابتسامة تعلو محياه، وقال: أرأيتم ـ أيها الجمع الكريم ـ حتى الحجارة التي تشرفت بوطء محمد قدمه عليها حفظ التاريخ ذكرها.. ولا يزال يحفظه.
قال ذلك، ثم استأنف يقول: لم تكن تلك الكتابات مجرد أوراق مخزنة على الرفوف لا يلتفت لها أحد.. لقد وجدت أنها الثقافة التي كانت تسود فترات كثيرة المجتمعات الإسلامية..
أضف إلى ذلك كله اهتمام العالم كله بنشر كل ما يرتبط بمحمد.. وكأن هناك يدا خفية توجههم إلى ذلك.
لقد رأيت أن ما ألَّفه الناس في سيرة محمد من عهد الرسالة إلَى يومنا هذا ـ في مختلف الأوطان الإسلامية والأجنبية، في معظم لُغات العالم ـ يُعَدّ بالأُلُوف، واعْتبر ذلك بما صُنِّف باللَّغة الأوردية الحديثة وحدها في موضوع السيرة النبويـة ـ مع أنّ الأوردية لم تَصِر لغة تأليف إلَّا منذ قرنَين علَى الأكثر ـ ؛ وفي تقديري أن ما صُنِّف بها وحدها في السيرة النبوية يبلغ ألفًا ـ إن لم يَزِد عليه.
ولم تكن الكتابة حكرا على المسلمين.. بل هناك الكثير ممن ألَّف في سيرة محمد ممن لا يؤمِنون بنبوّته ولا يوقِنون برسالته؛ فإننا نجد في الهند نفسها علَى اختلاف مِلَلها ـ من الهنادك والسيخ والبرهمو سماج ـ كثيرًا من علمائهم قد ألَّفوا في سيرته.
أما الأوربيون ـ الَّذِين لا يدينون بالإسلام ولا يؤمِنون بالرسالة المحمدية ـ فقد صنّف منهم في سيرة محمد حتى المبشِّرون من دُعاة النصرانية والمستشرِقون عنايةً منهم بالتاريخ، وإرواءً لظمإهم العِلْميّ، ويُعَدّ ما ألَّفوه في ذلك بالمئات.
قال رجل من الجمع: عرفنا الشرط الأول.. وانفراد محمد من بين كل عظماء الدنيا بالتحقق به.. فهل تحقق الشرط الثاني؟
قال: بعد أن استيقنت بأن الحياة الوحيدة المحفوظة بكل تفاصيلها هي حياة محمد وتعاليمه، رحت أبحث عن مدى تحققها بالكمال الإنساني.
لقد كنت أدرك بأدلة لا حصر لها بأن الله لن يختار إلا الإنسان الكامل.. فالقاصر والعاجز والضعيف لا يمكن أن يكون قدوة لغيره.. ولا يمكن لغيره أن يسير سيره، أو يستن بسنته، وإلا كان حاله كحال المريض الذي يتبع سيرة مريض.. فحري بهذا المريض أن لا يزداد إلا مرضا.
ثم بحثت في نواحي الكمال التي يدعيها الكثير.. فوجدت أن الكمال نوعان: كمال نظري، وكمال عملي.
أما الكمال النظري، فهو الكمال المرتبط بالأفكار التي يحملها ذلك العظيم، أو هي المشروع الذي يحمله، ويدعو الناس إلى تحمله.
وأما الكمال العملي، فهو تطبيق العظيم لما يدعو إليه من سلوك، حتى يكون بسلوكه ترجمة عملية لكل ما يدعو له.
فيتزود الناس من خلال هذا العظيم جميع المعارف العلمية والعملية، بل يرونها أمامهم عيانا.
قال رجل من الجمع: عرفنا هذا المنهج.. ونحن نسلم بصحته.. بل لا نرى أن هناك من يخالفك فيه.. فهل طبقته على العظماء الذين بحثت في سيرهم.
قال: أجل.. لقد بدأت البحث من جديد.. فتركت كل ما وصلت إليه من تلك الثروة الضخمة التي دلتني على أن محمدا هو الإنسان الوحيد الذي حفظ الله كل ما يرتبط به.
لقد قلت لنفسي، أو قال لي عقلي: ربما يكون ما حفظ عن محمد ابتلاء للإنسان ليسير في طريق النقص والضعف والانحطاط.. وربما يكون الشيطان.. لا الله.. هو الذي حفظ جميع تعاليمه، وجميع ما يرتبط به ليكون مادته التي يتوصل من خلالها إلى الوسوسة إلى البشر، ورميهم في حظيظ جهنم.
ولذلك بدأت في البحث عن الناحية الثانية.. ناحية الكمال.. وكأني لم أبحث في الناحية السابقة.
لقد عرفت أن الكمال النظري منحصر في أربعة أركان لا مناص منها جميعا.
قالوا: فما هي؟
قال: هي الإيمان، والعبادات، والمعاملات، والأخلاق.
قالوا: فما وجه الحصر فيها.
قال: لقد رأيت أنه لا يكمل الدين حتى يشتمل على أمرين، كلاهما تتوقف عليه حاجات الإنسان المرتبطة بالدين: أمر يتعلق بقلب الإنسان؛ ويُسَمَّى (الإيمان)، وآخر يتعلق بجوارحه وبما يملكه؛ ويُدعَى (العمل)
ورأيت أن العمل ينقسم إلَى ثلاثة أقسام: أولها يتعلق بالله (وهو العبادة)، والثاني يتعلق بما يتعاطاه الناس بعضهم مع بعض (وهي المعاملات)، ومعظمها القوانين والأصول، والثالث يتعلق بآداب النفس وآداب المجتمع (وهي الأخلاق)
قالوا: فحدثنا عن الركن الأول.
قال: بما أن الإيمان هو الأصل الذي ينطلق منه العمل.. فقد بدأت البحث فيه.
بدأت البحث عن حقائق الوجود والكون والحياة والإنسان، وموقف زعماء الأديان منها.
قال رجل من الجمع: فماذا وجدت؟
قال: لقد وجدت أن الديانات التي اهتمت بهذه الجوانب نوعان:
نوع لا نجـد فيه ذكر الله البتة.. وكأنه لا وجود له إطلاقا.. ومن هذا النوع دين بوذا ودين الصين؛ فليس فيهما ذكر لله ولا لصفاته، وليس فيهما فرائض وواجبات علَى الإنسان، ومِن باب أولَى؛ ليس فيهما ذكر للحبّ لله وتوحيده والإخلاص له؛ فالذي يبحث فيهما عن هذِهِ الأمور لا يخرج من بحثه بشيء.
ونوع فيه ذكر لله.. ودعوة إلى الإيمان به.. وقد وجدت من خلال البحث المستقصي عن حقائق هذا الإيمان أن الأديان السابقة للإسلام، والَّتِي كانت تدعو إلى توحيد الله؛ قد تطرَّق إليها الفساد في أمر التوحيد؛ لوجوه ثلاثة:
الأول: التشبيه والتمثيل، أي: أنهم قد شبَّهوا الله بغيره من خلقه.
والثاني: أنهم جعلوا لله صفات منفصلة عنه ومستقلّة.
والثالث: أنهم اغتَروا بكثرة المظاهر في العالم، وخُدِعُوا بضروب من مصنوعات الله وآثار مقدوراته.
سأضرب لكم أمثلة تقرب لكم ذلك:
أما الأول، وهو التشبيه والتمثيل الذي يتعالى الله عنه، فقد وجدت أن أهل المِلَل والنِّحَل ـ من غير الإسلام ـ اختاروا طرقًا، واتخذوا وسائل لمعرفة ما لله من الصفات الجليلة، والصِّلَة الَّتِي بينه وبين خَلْقه؛ فشبَّهوه بأجسام مختلفة، ومثَّلوا صفاته في ضروب من الصور والأشكال؛ فلما طال عليهم الأمد؛ بقيت هذِهِ الصور الممثَّل بها، وزال عن قلوب الناس اسم الله الَّذِي لم يزل ولا يزال، فصارت المشبه بها أوثانًا وأصنامًا وتماثيل، وطفق الناس يعبدونها ويسجدون لها؛ ظنًّا منهم بأنها مظاهر صفات الله ومشاهد قدرته، وتفنَّنوا في تصوُّر صفات الله بهذه التماثيل المنحوتة والأوثان المصنوعة.
أنا لا أشكك في أن الله يحب عباده ويرأف بهم ويحن عليهم.. لكن الجاهلين جعلوا لحب الله عبادة، ولرأفته بهم تمثالًا من حَجَرٍ أو غيره.. وهكذا ظهر الإله عند الروم والإغريق في صورة امرأة.. أما الأمم السامية؛ فقد تمثّل الإله عندها رجلًا وأبًا؛ إذ كان ذِكْر المرأة عندها علَى ملأ من الناس مخالِفًا للآداب السامية، وكان الأب هو رأس الأسرة وأصلها؛ ويدلّ عليه: ما استُخْرِج من بطون الأرض في بابل وآثور وديار الشام من تماثيل تصوّر الإله بصور الرجال.
وهذا ما كان لبني إسرائيل، إذ يظهر أنهم في بدء أمرهم كانوا يتصوّرون الله بصورة الأب، ويحسبونه والدًا، ويحسبون الملائكة وسائر الناس أولادًا له.. ثم ضاق نطاق تفكيرهم؛ فلم يبق للإله أولاد عندهم سوَى بني إسرائيل.. ويوجد في بعض صحف بني إسرائيل ما يدل علَى أن الرابطة كانت بين الإله وبني إسرائيل كالرابطة الَّتِي تكون بين الزوج وحَلِيلته، وأن بني إسرائيل وأورشلم حلائل والإله زوجهن.
وقد حصل للمسيحيين خطأ قريب من هذا حين جعلوا ما كان بادئ بدء استعارة كأنه حقيقة ثابتة، وانقلب تشبيه الإله بالأب؛ لحنانه علَى نبيه المسيح، ورأفته به؛ فاعتبروه حقيقة، والإله الَّذِي لم يلد ولم يولد اعتبروه والدًا والمسيح ولده.
وهذا ما حصل لقدماء العرب من ظنهم بالله أنه أب، والملائكة بنات له.
هذا الأول.. وأما الثاني.. وهو من الأخطاء الكبرى التي وقع فيها الانحراف عن التوحيد، فقد رأيت أن أتباع الأديان السابقة للإسلام قد فَصَلت صفات الله عن ذاته؛ فجعلت صفاته مستقِلّة عنه؛ وبذلك تعددت الآلهة، وكثرت في جميع الفِرَق الهندوكية من الدين البرهمي.
وقد وجدت أن سبب ذلك هو أنهم اتخذوا من كل صفة إلهيّة إلهًا، وجسَّموا تلك الصفة في صورة، أو صاغوها في قالب، ثم وسَّعوا نطاق الشِّرْك، وطبَّقوه علَى جميع ما شبِّهت به صفات الإله من مختلف التشابيه ومتنوَّع التماثيل، وصاغوا هذِهِ الصفات وما شبِّهت به في صور وتماثيل وأوثان، وبعد أن كان الله إلهًا واحدًا لا إله غيره صار لهم ثلاثون وثلاثمائة مليون من الآلهة.
لقد بحثت في سر كل هذا التعدد، فرأيت أنهم عندما أرادوا ـ مثلا ـ أن يعبِّروا عن قوة الله وقدرته نَحَتُوا لله يدين قويتين من الحَجَر.. بل سوَّلت لهم أنفسهم أن ينحتُوا له كثيرًا من الأيدي.. باعتبار أن اليد مظهر من مظاهر القوة والبطش.
وهكذا عندما حاولوا أن يعبِّروا عن حِكْمته البالغة، عبروا عنها بأن جعلُوا لله رأسَين، واتَّخذوا له وثنًا ذا رأسين.
وهكذا إذا تأملنا نِحَل الهنادك الكثيرة العَدَد؛ بدا لنا أنها لم تكثر هذِهِ الكثرة الهائلة ولم تفترق إلَى فِرَق كثيرة إلَّا لأجل تجسيمهم صفات الإله؛ فإن لله عندهم ثلاث صفات عظيمات: الخَلْق، والقيام علَى المخلوق، والإماتة.. وإن شئتم فلكم أن تعبِّروا عن هذِهِ الصفات بالخالقية، والقيومية، والإماتية.. وقد جعلَت الفِرَق من الهنادك هذِهِ الصفات الثلاث أشخاصًا مستبِّدين أطلقوا عليهم أسماء: برهما، ووشنوا، وشيو؛ فبرهما رمز للخالِق، ووشنوا هو القيّوم، وشيو هو المُمِيت، ونجمت عن ذلك ثلاث نِحَل: نِحْلَة يعبد أتباعها برهما، ونِحْلَة إلهها وشنو، ونِحْلَة معبودها شيو، وقد انفصل بعض هذِهِ الفِرَق عن بعض.
وقريب من هذا ما حصل للمسيحية.. فقد مثلوا الصفات الإلهيّة الثلاث: الحياة، والعِلْم، والإرادة في ذوات سَمَّوها الأقانيم الثلاثة؛ فالأب رمز للحياة، وروح القُدُس رمز للعِلْم، والابن رمز للإرادة.
وهكذا في في عالَم الأوثان عند قدماء المصريين والإغريق والروم..
هذا الثاني.. وأما الثالث.. فهو ما حصل لهذه الأديان من التلبيس بسبب كثرة أفعال الله، وتنوِّع شؤونه.. فعندما رأوا أن الله تصدُر عنه ضروب من الأعمال؛ حَسِبُوا أنها تصدُر عن مصادر متعددة، وأن لها فاعلين كثيرين؛ فحملهم ذلك علَى أن جعلوا لكل عمل عاملًا مستقِلًّا؛ فاعتقدوا أن الَّذِي يحيي غير الَّذِي يُمِيت، ومَن يحب العباد غير الَّذِي يَبغضهم؛ فاتخذوا إلهًا للعِلْم، وإلها للثروة والرِّزق؛ فتعدَّد الواحد بذلك، وصارت الآلهة بعدد الأفعال.
قال رجل من الجمع: هذا ما حصل لسائر الأديان.. فكيف وجدت الإسلام، وهل وقي شر هذه الثلاثة؟
قال: مع طول بحثي في المسألة.. لم أجد دينا تمثل فيه التوحيد بأرفع صوره كما تمثل في الإسلام([7]).. بل لو اعتبرنا الإسلام هو الدين الوحيد الذي قال بالتوحيد، ونادى به وأفرد الله بالألوهية.. لم نكن كاذبين.. فالتوحيد فيه عقيدة وحياة ومواجيد.. وهو فيه معارف عقلية، وطمأنينة قلبية، وأذواق روحية..
قال رجل من الجمع: لقد ذكرت منابع الشرك التي بسببها انحرفت الأديان عن التوحيد.. فكيف وقي الإسلام منها؟
قال: أما الأمر الأول.. فكل النصوص المقدسة للمسلمين تنص على معنى هذه الآية:{ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } (الشورى: 11).. ومعنى هذه السورة التي لم أر لها مثيلا في كل الكتب المقدسة { قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ، الله الصَّمَدُ، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ }(الإخلاص)
لقد كانت هذه الآيات وغيرها.. والتي يرددها المسلمون كل حين هي الحصن الذي حمى المسلمين من من دَنَس الشرك، ومن كل شوائبه.
التفت إلى الجمع بحنان، وقال: إخواني وخِلَّاني.. إياكم أن تظُنّوا أن الرسالة المحمدية نفت شيئًا مما لله من عَظيم الرأفة، وواسع الرحمة بعباده، أو أبطلت ما لله في عباده من حنان؛ إنها لم تفعل ذلك؛ بل وثَّقت حبل الله الَّذِي يسَّره لعباده، وزادته قوة؛ وإنما أبطلت ما زاد على ذلك من أوهام تفضي إلَى تجسيم الله أو تمثيله بشيء من خَلْقه، ومحت وسائل كاذبة تجرّ إلَى الإشراك بالله؛ مما اتَّخذته الأمم السالفة فضَلَّت به وأضلت.
أما ما عدا ذلك؛ فإن الإسلام أشاد بما بين الله وعباده من رابطة؛ هي أشدّ وأقوى من كل ما يمت به المَخلُوقون بعضهم إلَى بعض ـ من نسب ورحم وآصرة ودم ـ فالإنسان الَّذِي يعيش في طاعة الله أقرب إلَى الله من قرابة الولد لوالده.
انظُروا كيف أراد القرآن أن يعلِّم الصالحين من عباد الله بأن الله يحبهم كما يجب الأب أولاده؛ لقد أمرهم أن يذكرو الله كما يذكرون آباءهم أو أشد ذِكْرًا.
فهو لم يشبِّه الله بالأب؛ لكنه شبَّه حبه بحب الأب، واجتنب ما يدل علَى القرابة الواشجة والرحم الماسة؛ فأبقى من هذِهِ العلاقة ما يدل علَى الحب، ثم زاد الحث علَى أن يَذكروه أشدّ وأكثر مما يذكرون آباءهم بقوله: { أو أشدّ ذِكْرًا } (البقرة: 200)، لأن الصلة بين العبد وخالقه أشدّ وأسمَى من جميع ما يمت به المرء إلَى أحد من ذوي قرابته؛ فقال: { وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لله } (البقرة: 165)
ولهذا فإن النصوص المقدسة للمسلمين لا تُسَمِّي الله أبًا للناس؛ بل تَدعوه (رَب العالَمين)؛ لأن الرب أعلى مكانًا من الأب، فالصِّلة بين الابن وأبيه عارض يفنَى، والصِّلة بين المربوب وربه أثبت وأبقَى؛ لأنها مستمرة من أول نشأة المخلوق إلَى أن تنتهي حياته بلا انقطاع؛ فالله ودود رؤوف حنَّان بأكثر مما في الرجال من الود لأودَّائهم، وما في الأب من الشفقة والرأفة نحو بَنيه، وما في الأم من الحنان علَى أولادها، ومع ذلك؛ فإنه تعالى ليس بأب ولا أم، وهو منزَّه ومقدَّس عن كل شائبة من شوائب البشرية.
هذا عن الأول.. أما الثاني.. وهو الصفات، فقد وجدت أن محمدًا انتقد انتقادا شديدا آراء الأُمَم في صفات الله؛ فأظهر خطأ تلك المذاهب وفسادها، وبيَّن أن الله واحد، وأن صفاته الكثيرة ليست أشخاصًا منفصِلَة عنه، وأن مَن جعل الله الواحد اثنين أو أكثر مغترًّا بتعدُّد أسمائه الحسنى وصفاته العُليا؛ فقد ضَلّ وغَوَى وحادَ عَن سواء السبيل؛ فالقرآن أعلمنا بأن الله (رَب العالَمين)، وأنَّ { لَه المَثَلُ الأَعْلَى }(الروم: 27)، وأنَّه {نورُ السَّماواتِ والأَرْضِ} (النور: 35)
لقد كان بعض العرب يَدْعُون الخالق بالرحمن؛ لاتِّصافه بالرحمة، أما عامة المشركين فكانوا يدعونه (الله)، ونزلَ القرآنُ تصديقًا لهما: { قُلِ ادْعُواْ الله أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَـنَ أَيًّا مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى}(الاسراء: 110)، وفيه: { فاللهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِي المَوْتَى وَهُوَ علَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (الشورى: 9).. وهكذا..
ولهذا لا يوجد انفصام في الإسلام بين الخالق والقيّوم، والمُمِيت كما هو الشأن في الأديان الهندية.. فمدلول الثلاثة كلها واحد؛ هو: الله الخالق القيّوم المُمِيت، والموصوف لا يتعدّد مهما كثُرت صفاته: { فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } (الجاثـية: 36 ـ 37)، { هُوَ الله الَّذِي لا إِلَهَ إلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ هُوَ الله الَّذِي لا إِلَهَ إلَّا هُوَ المَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ المؤمِنُ المهيمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ المتكبِّر سُبْحَانَ الله عَمَّا يُشْرِكُونَ هُوَ الله الْخَالِقُ الْبَارِئُ المصوِّر لَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } (الحشر: 22 ـ 24)
فالله ـ في الإسلام ـ واحد، وإن كثُرَت أسماؤه وتعدَّدت صفاته، وهذه الكثرة ليست في ذاته؛ بل في صفاته؛ وإنما علمنا ذاته الواحدة الموصوفة بالصفات الكثيرة بسبب رسالة محمد.
أما الأديان الأخرى؛ فقد جعل أتباعها اللهَ الواحدَ آلهةً متعدِّدة بتعدُّد صفاته؛ ولهذا بيّن الإسلام أحسن البيان بأن القُدُوس والخالق والملك والمؤمن والجبار والعزيز والمصوِّر والرحمن والرحيم هو الله.. وليس غير الله.
هذا عن الثاني.. أما الثالث.. وهو الأفعال ؛ فجميع النصوص المقدسة للمسلمين تخبر بأن الأفعال ـ وإن كانت كثيرة ـ فإن الفعَّال هو الله الواحد العزيز المُتعالِ.
قال رجل من الجمع، ويظهر من ملامحه أنه مجوسي من أتباع زرادشت، فقال: كيف تقول ذلك.. ونحن نرى الخير، والشر.. فهل يمكن للواحد أن يفعل فِعلَين متضادَّين؟
ابتسم السيد سليمان، وقال: يظهر لي أنك من أتباع زرداشت.. فأتباعه هم الذين عبدوا إلَـهَين اثنَين؛ أحدهما للخير والآخر للشرّ، وسَمَّوا مُسدي الخير (يزدان)، ومصدر الشرّ (أهرمن)، وتصوَّرا أن هذا العالم ساحة حرب يعترك فيها هذان القَرْنان المتصارِعان..
سكت الرجل، فقال سليمان: لا حرج عليك.. لقد مر في ذهني قبلك هذا السؤال.. لكني لم أستسلم لما يقتضيه مني، فأكتفي بما وصلت إليه.. بل رحت أبحث في حقيقة الخير والشر.. وهل الشر مقصود في الخلق أم أنه عارض فيه([8]).
قال الرجل: فماذا وجدت؟
قال: لقد وجدت أنه لا يوجد شيء في الدنيا يصح أن يُطلَق عليه اسم الشرّ؛ فالنار لا شك أنها تحرق، ولكن الإحراق في نفسه لا يُعَدّ خيرًا، ولا يُسَمَّى شرًّا؛ فإن أوقدتَها لتُنضج عليها غذاءك، أو لتقتبس منها قبسًا تَصطلي به من البَرد؛ فإن عملك هذا هو الَّذِي يُعَدّ إحسانًا ويُطلَق عليه اسم الخير.. وإذا أضرمتَ النار لتحرق مأوًى يأوي إليه فقير بائس لم يرتكب ذنبًا؛ فإن عملك هذا هو الَّذِي يُعَدّ سيئة وشرًّا، بينما النار نفسها ليست بنفسها خيرًا محضًا لا شرّ فيه، أو شرًّا محضًا لا خير فيه، وأنتَ الَّذِي جعلتَها بعملك خيرًا أو شرًّا.
وهكذا السيف القاطع لا يُعَدّ خيرًا ولا شرًّا؛ بل أنتَ الَّذِي تتخذ منه ذريعة للخير أو الشرّ.
والظلام لا يُعَدّ شرًّا؛ لكنك إن تستَّرتَ به في جوف الليل لترتكب فيه السوء؛ فالشرّ هو عملك لا الظلام، وإن تواريتَ فيه لتعملَ صالِـحًا، أو أويتَ فيه إلَى الراحة والدّعة؛ فهو خير.
وقد خَلَقَ الله الأرض والسماء وبث فيها ما شاء من نعمه، ثم خلق الإنسان؛ ووهبه الحكمة البالغة والبصيرة النافذة والآراء السديدة؛ فنظر هذا المخلوق في الكون، وتأمّل حُسن تقويمه، وعجيب تنسيقه، وبديع نظامه؛ فمَلَكَه الإعجاب به، وملأ نفسه الاستغراب منه؛ فلم يتمالك أن انطلق لسانه قائلًا: { فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ } المؤمنون: 14)، ثم نادَى في خشوع وخضوع لرب العالمين: { إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ } (الأنعام:79)
وبجانب هذِهِ الطائفة من البشر طوائف أخرى؛ لم يكن لهم من بليغ الحكمة وسَداد الرأي وثاقب الفكر ما يُنقِذهم من جُحُود الله والكُفْر به؛ فالتبست عليهم حقائق العالم، واشتبهت لهم خواص الأشياء والقُوَى المودَعَة فيها؛ فجعلوا المادة عِلّة العالَم وسبب خَلْقه؛ وقالوا: { مَا هِيَ إلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إلَّا الدَّهْرُ } (الجاثـية: 24)
إن العالَم لا يُضِلّ ولا يُغوي، ولا يُرْشِد ولا يَهدي؛ ولكن الإنسان هو الَّذِي يهتدي بسليم فِطْرَته وسَديد رأيه وسلامة قلبه، أو يَضِلّ بسوء تفكيره وخطل رأيه وقُبح تأمّله.. وإن شئتَ قلتَ: إن العالَم يَهدي مَن يهتدِي به، ويُضِلّ مَن يَضِلّ به.
قال رجل من الجمع: نحن نعرف أنه مع كون الإيمان بالله هو أصل أصول الإيمان إلا أن هناك فروعا تتفرع عنه تصور لنا الوجود وما فيه من أنواع الوجود.. وتصور لنا الزمن وما يختزنه لنا وللكون من أحداث.. فهل بحثت في ذلك؟
قال: أجل.. إن البحث في هذا طبع لا ينفك عنه الطبع.. وقد قلت لنفسي، أو قال لي عقلي: إن من أعظم الدلائل التي تدلني على الكمال النظري في هذا الجانب هو بحث الدين فيه وإجابته عن الأسئلة المرتبطة به.
قال الرجل: فهل بحثت في حظ الأديان منه؟
قال: أجل.. لقد ذكرت لكم أن الأديان نوعان: منها ما لا يعرف الله.. وهذا لم أبحث فيه.. لأن الأصل في مثل هذه الحقائق تفرعها عن المعرفة بالله.
وأما الثانية.. فقد بحثت في الكتاب المقدس الذي يؤمن به اليهود والمسيحيون.. فرأيت ما ملأني بالعجب..
لقد رأيت أنه مع ضخامة الكتاب المقدس، وكثرة أسفاره إلا أنه لم يولي هذا الجانب أي أهمية..
لقد قرأت في (سفر الأيام(1): 24 – 27) قائمة طويلة لوكلاء داود وولاته.. وفيه إصحاحان كاملان في وصف الهيكل وطوله وعرضه وسماكته وارتفاعه وعدد نوافذه وأبوابه.. وتفاصيل تزعم التوراة أنها المواصفات التي يريدها الرب لمسكنه الأبدي (انظر ملوك (1): 6/1 – 7/51)
وقرأت في أخبار الأيام الأول ست عشرة صفحة كلها أنساب لآدم وأحفاده وإبراهيم وذريته (انظر الأيام 1/1 – 9/44)
وقرأت في (عزرا: 2/1 – 67) قائمة كبيرة بأسماء العائدين من بابل حسب عائلاتهم، وأعداد كل عائلة إضافة لأعداد حميرهم وجمالهم.. وقوائم أخرى بأعداد الجيوش والبوابين من كل سبط، وعدد كل جيش (انظر الأيام 23/1 – 27/34).
وقرأت في سفر الخروج النبي موسى وهو يؤمر بصناعة التابوت بمواصفات دقيقة تستمر تسع صفحات..
ولكني لم أر بجانب كل هذه التفاصيل التي ملأتني بالملل والغثاء أي شيء يغني عقلي عن العوالم التي يتطلع لمعرفتها.
بل إني فوق ذلك رأيت التباسا خطيرا في هذه الأسفار بين الملائكة والله.. فمن قرأ الكتاب المقدس يلتبس عليه الأمر، بل يشق عليك أن يميز بين حديث التوراة عن الله وحديثها عن الملائكة (انظر مثلا: سِفْر التَّـكوين: 18: 1 و19: 1)
أما الجزاء علَى الأعمال، وأمر الجنة والنار، والحشر والنشر، والقيامة والحياة بعد الموت؛ فكل ذلك غامض قليل الوضوح في التوراة، ولا نقرأ عنه في الإنجيل إلَّا فقرَتين في جواب يهودي، والجنة والنار لا نرى عنهما إلَّا فقرَتين كذلك.
قال رجل من الجمع: نعرف هذا، فما حظ الإسلام ونصوصه المقدسة من هذا.
قال: إن كل تلك التفاصيل التي امتلأ بها الكتاب المقدس في الأخبار المرتبطة ببني إسرائيل وهيكلهم وتابوتهم أبقارهم وخرافهم وقرابينهم وردت أضعافها في النصوص المقدسة للمسلمين تخبر عن عوالم الغيب التي تحيط بنا أو تنتظرنا.. حتى صارت وكأنها رأي العين..
لقد صار الملائكة بسبب التفاصيل الواردة عنهم في النصوص المقدسة للمسلمين أصدقاء للبشر يعيشون معهم لحظة بلحظة..
وصار في إمكان أي إنسان ببركة النصوص المقدسة للمسلمين أن يعرف كل ما يمكن أن يمر به في رحلته من احتضاره إلى ما لا نهاية.
لقد قال القرآن واصفا لحظة الاحتضار التي هي غيب من الغيب:{ فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ (85) فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (86) تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (87) فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ (89) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (90) فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (91) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (92) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (93) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (94)} (الواقعة)
وقال مخبرا عن كيفية قبض الملائكة لأرواح بني آدم:{ الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (29) وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآَخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ (30) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ (31) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (32)} (النحل)
وهكذا أخبرت النصوص واصفة بدقة ما يحصل بعد الموت من نعيم أو عذاب.. وذكرت ما في الموقف وما في الحساب.. ثم بعد ذلك ما في الجنة من النعيم وما في النار من العذب..
ذكرت تفاصيل كل ذلك بدقة لا نجدها في أي كتاب مقدس..
وقد كان ذكرها لها من أدلة يقيني بأن هذه الحقائق يستحيل أن تكون إلا من الله.. فالله الذي أرنا مصنوعاته في الدنيا ودلائل قدرته فيها هو نفسه الذي يرينا مصنوعاته المرتبطة بالعالم الغيبي ودلائل قدرته فيها.
وهذه الحقائق التي كان محمد يصفها بكل دقة لم تكن مجرد حقائق ترضي الخيال والفضول.. بل كانت حقائق إيجابية لها تأثيرها الكبير في السلوك والحياة..
لقد ورد في الحديث: أن محمدا لقي رجلا يقال له حارثة في بعض سكك المدينة، فقال: كيف أصبحت يا حارثة قال: أصبحت مؤمناً حقاً، فقال: إن لكل إيمان حقيقة فما حقيقة إيمانك قال: (عزفت نفسي عن الدنيا فأظمأت نهاري وأسهرت ليلي، وكأني بعرش ربي بارزاً، وكأني بأهل الجنة في الجنة ينعمون فيها، وكأني بأهل النار في النار يعذبون) فقال محمد: (أصبت فالزم.. مؤمن نور الله قلبه)([9])
وهكذا استطاع محمد أن يربي في أتباعه كل خلال الإيمان التي عجز كل المربين عن تربية أتباعهم عليها، بسبب ربطهم بحقيقة العالم وحقيقة الوجود.. فإذا بهم ينطلقون من القيود الضيقة التي تربطهم بالوجود الأدنى ليترفعوا عنها إلى الوجود الأعلى.
لقد قال القرآن مقارنا بين هذه الحياة والحياة الآخرة التي تنتظر كل البشر:{ وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} (العنكبوت:64)
قال رجل من الجمع: عرفنا هذا، وقد شوقتنا للبحث فيه.. فحدثنا عن الجانب الثاني، والذي يرتبط بعلاقة الإنسان بربه.
قال: لقد وجدت أن كل الأديان لم تخلو من العبادة لله، لكن الأديان القديمة حَسِبَ أتباعُها أن الدِّين يطالبهم بإيذاء أجسامهم وتعذيبها، وأن الغرض من العبادة إدخال الألم علَى الجوارح، وأن الجسم إذا ازدادت آلامه كان في ذلك طهارة للروح ونزاهة للنفس.
وعن هذِا الفهم للعبادة نشأ التبتُّل عند الهنادك، والرهبانية عند المسيحيين، وابتدعوا من رياضات الجسم أنواعًا عجيبة، أشدها علَى الجسم أفضلها عندهم وأقربها إلَى الله في زعمهم: فمنهم مَن آل علَى نفسه ألَّا يغتسل طول حياته، وفيهم مَن يرفع إحدى يديه في الهواء ويبقَى كذلك طول عمره حتى تيبَس يده وتجفّ، وكان بعضهم يحبس نفسه ما استطاع وهو يحسَب أن ذلك من العبادة، ولا يزال في الهند مَن يتعلّق بشجرة منكِّسًا رأسه إلَى تحت.
ضحكت الجماعة المحيطة به، فقال: لا تضحكوا.. هذا واقع.. وهو ليس واقعا نشازا، بل هو واقع زاحم الحياة البشرية في كل عهودها.
قال رجل من الجمع: نحن في الهند.. ونحن لا نستغرب مثل هذا.. فحدثنا عن التشريعات التي جاء بها محمد لتبين للناس كيف يعبدون الله.
قال: لقد رأيت كل التعاليم التي جاء بها محمد، والتي امتلأت بها النصوص المقدسة التي جاء بها تركز على المعاني الروحية في العبادة دون مبالغة فيما يرتبط بها من طقوس.. لقد خاطب محمد أمته بقوله لها: (إن الله لا ينظر إلَى صوركم وأموالكم؛ بل ينظر إلَى قلوبكم وأعمالكم)([10])
ورأيته يبدأ، فينهى عن تكليف الناس بما لا تطيق، يقول القرآن:{ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا } (البقرة: 286)، ويقول:{ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا مَا آتَاهَا} (الطلاق: 7)
وقد روي أن محمدا دخل المسجد، فإذا حبل ممدود بين ساريتين، فقال: (ما هذا الحبل؟) قالوا: هذا حبل لزينب، فإذا فترت تعلقت به، فقال: (حلوه، ليصل أحدكم نشاطه، فإذا فتر فليرقد) ([11])
ولهذا أنكر الإسلام الرهبانية التي تعتبر تعذيب الجسد عبادة، واعتبرها بدعة، قال القرآن:{ ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْأِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} (الحديد:27)
وأنكر على من أراد أن يحرم ما لم يحرم الله، فقال:{ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ }(لأعراف:32)
سكت قليلا، ثم قال: لقد كان قتل المرء نفسه مما يتقرّب به الأقدمون إلَى الآلهة؛ فكانوا ينذرون لآلهتم قرابين بشرية تُذبَح كالأضاحي؛ استرضاء للآلهة، وربما أُحْرِقت لحوم الأضاحي وجمِّرت بها الأصنام وبخِّرت بدخانها؛ ولأجل ذلك كان اليهود يحرقون لحوم الأضاحي.
أما الإسلام؛ فقد بيَّن رسوله الغرضَ من الأضاحي، وحرَّم ذبح الإنسان وتقديمه قربانًا، وأحلَّ تضحية البهائم.
لقد ذكر القرآن ما في التضحية من مقاصد، فقال:{ وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (36) لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (37)} (الحج)
هذه هي العقيدة التي تمتزج فيها العبادة بالمصالح المختلفة للفقراء والمحتاجين.. لا العقيدة التي ليس لها من هم سوى القضاء على كل ما تملكه البشرية من مقومات الحياة.
لقد حدث أبو ذر قال: قلت يا رسول الله، أي الأعمال أفضل؟ قال: (الإيمان بالله، والجهاد في سبيله)، قلت: أي الرقاب أفضل؟ قال: (أنفسها عند أهلها، وأكثرها ثمنا)، قلت: فإن لم أفعل؟ قال: (تعين صانعا([12]) أو تصنع لأخرق)، قلت: يا رسول الله أرأيت إن ضعفت عن بعض العمل؟ قال: (تكف شرك عن الناس فإنها صدقة منك على نفسك)([13])
وفي حديث آخر: (يصبح على كل سلامى([14]) من أحدكم صدقة، فكل تسبيحة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وأمر بالمعروف صدقة، ونهي عن المنكر صدقة، ويجزئ من ذلك ركعتان يركعهما من الضحى)([15])
وفي حديث آخر: (عرضت علي أعمال أمتي حسنها وسيئها فوجدت في محاسن أعمالها الأذى يماط عن الطريق، ووجدت في مساوىء أعمالها النخاعة تكون في المسجد لا تدفن)([16])
سكت قليلا، ثم قال: لقد تركت الرهبان والعباد وما ابتدعوه من أصناف التعذيب لأنفسهم، والتي تصوروا بأوهامهم أنها عين عبادة الله.. تركتهم لأبحث في الكتاب المقدس للمسيحيين واليهود باعتباره من أهم الوثائق الدينية الباقية..
لقد ذهبت أبحث فيه عن تفاصيل العبادات التي ترضي الله، لكني لم أجد إلا إطنابا واسعا في ذكر القرابين وآدابها وشرائطها، وفيه ذكر الصوم والأدعية، وفيه ذكر بيت إيل ـ أو بيت الله ـ. ومع ذلك؛ فإن هذِهِ الأمور غير واضحة، ولا تسترعي أنظار الناظرين، حتى أن منهم مَن جَنَحَ إلَى إنكارها.. وفيما عدا ذلك لم أجد أنواع العبادات وأقسامها، ولا طرقها، ولا آدابها، ولا تعيين أوقاتها، وليس هنالك عناية تامة بتعليم العبادة للناس، وقد أُهمِل جانب عظيم من كيفية ذكر الله ودعائه؛ فلا نرَى ما يدلّ علَى تعليم دعاء خاص لرب العالمين، وكيف يدعو الناس ربهم ويسألونه حاجاتهم.
لقد رأيت في الزَّبور أدعية كثيرة ومناجاة للرب طويلة، لكن ليس فيه ذكر لآداب العبادات وشرائطها وأوقاتها، أما الإنجيل فقَلَّما ترى فيه ذكرًا للعبادات؛ بل ليس فيه ذكر للعبادة البتة.. نعم؛ تجد في فقرة منه (متَّى: 4: 2) ذكرًا لتقشُّف المسيح وصيامه أربعين يومًا.. وفي الإنجيل ـ أيضًا ـ اعتراض اليهود علَى المسيح بأن أصحابه لا يصومون، وفيه ذكر دعاء دعا به المسيح في الليلة الَّتِي أرادوا صَلْبه فيها، وفي ذلك الموضع دعاء آخر له، لكننا لا نجد ذكرًا لعبادات أخرى.
قال رجل من الجمع: فهل وجدت في النصوص المقدسة للمسلمين ما ترى أنه يشفي غليل الإنسان في هذه الناحية؟
قال: إن ما الإسلام من هذه الناحية يملأ النفس بالانبهار ففيه منظومة كاملة لعبادة الله، تجتمع فيها تربية النفس، مع توثيق العلائق بين أفراد المجتمع، مع تنظيم حياة الإنسان، وحياة المجتمع جميعا …
لقد وجدت فيه الصلاة والصوم والحج، مفصَّلة آداب كل منها وشرائطه، وموضَّحة طرق عبادته وسُننها.. وهو يرشد الناس إلَى كيفية ذكر الله، وبأي دعاء يدعون، وبأي كلمات بليغة يسألون رب العالمين.. وقد عيّن لهم مواقيت الصلاة والصوم والحج، وأحكام هذِهِ العبادات وسُننها، وكيف يسألون ربهم فيها ليستنزلوا رحمته ويستغفروا ذنوبهم، وكيف يتضرعون إليه ويخشعون له ويناجونه في سِرّهم، ويذكرونه في علانيتهم، وكيف يتوبون إليه معترفين بزَّلاتهم، مُنيبين إليه منها، متَوخّين تزكية نفوسهم، وتنزيه أرواحهم، وتطهير قلوبهم، والتقرّب إلَى ربهم بكل ما ينالون به مرضاته؛ لتكون روح الدين قائمة وحقيقته ملموسة.
قال رجل من الجمع: وعينا هذا.. ونحسب أنا لا نخالفك فيه.. فإنا لا نرى أمة من الأمم تهتم بعباداتها كاهتمام المسلمين.. نحن نرى بأعيننا كثرة المساجد وامتلائها بالمصلين في كل وقت من أوقات الصلاة.. بل في غير أوقات الصلاة.. فحدثنا عن الناحية الثالثة.
قال: الناحية الثالثة التي تحتاج البشرية للتعرف عليها عن طريق الدين هي المعاملات، أو ما يمكن تسميته قوانين المدنية، وأصول المعاشرة.
لقد وجدت بعض القوانين المرتبطة بهذا النوع في الكتاب المقدس الذي يدين بأحكامه اليهود.. لكني لم أجد فيها ما يشفي غليل البشرية إلى القوانين العادلة التي تنظم حياتهم بجميع نواحيها.. بل إني وجدت مثالب كثيرة تصرف الأنظار عن تبني مثل تلك القوانين.
أما المسيحية.. فقد وجدتها قاصرة تماما عن تلبية هذا النوع من الحاجات.. ولهذا اضطرت الأمم المسيحية إلَى استعارة هذِهِ القوانين من الأمم الوثنية، كالإغريق والروم.
أما الرسالة المحمدية.. فقد وجدت فيها العجب العجاب في هذا الباب.. فهي لم تترك صغيرة ولا كبيرة مما يتعلق بسياسة المال، أو سياسة المجتمع، أو سياسة الأمة إلا تناولته بتفصيل عجيب..
لقد وضع القرآن ومعه النصوص المقدسة التي تكلم بها محمد صلى الله عليه وآله وسلم قوانين حياة تجتمع فيها المثالية بأرقى صورها مع الواقعية في أدنى درجاتها.
قالوا: كيف ذلك، وحياة الناس تختلف بيئاتها وأزمانها، وما يصلح لقوم قد لا يصلح لغيرهم؟
قال: لقد نظرت الشريعة الإسلامية إلَى هذا الضَّرب من حاجات الأمم نظرًا ثاقبًا حكيمًا؛ فاستوعبته من جميع نواحيه، مستقصية جهاته كلها؛ فلم تترك ناحية منها إلَّا وقد أتمتها؛ فسَنَّت قوانين كُليّة، أقامتها علَى أصول جامعة.
وقد عمل بذلك المسلمون في مختلف بقاع الأرض وأقطارها، ولا يعرف العالم كله إلَى الآن قانونًا أعدل ولا أرحم بالإنسانية ولا أصلح لها من قوانين الإسلام([17]).
قالوا: فحدثنا عن الناحية الرابعة.
قال: لقد وجدت أن حياة البشر لا يمكن أن تنظمها القوانين وحدها.. فالقوانين يمكنها أن تنظم السلوك العام، وتمنع شر الناس عن الناس.. ولكنه لا طاقة لها بأن تلطف حياة بحيث تعمق الأخوة بينهم.. ولا يمكنها أن تهذب سلوك الفرد بحيث تملؤه بالإنسانية الراقية.. فلذلك احتاج الإنسان إلى الأخلاق.
ولأجل هذا رجت أبحث في الأديان عن موقفها من الأخلاق، وعن نوع الأخلاق التي تدعو إليها..
لقد وجدت أن في التوراة أحكامًا عديدة تتعلق بالأخلاق، منها سبعة تُعَدّ أصولًا، وليس في هذِهِ الأصول السبعة إلَّا أصل واحد إيجابي؛ وهو: الأمر بطاعة الوالِدَين والبرّ بهما، أما السِّتَّة الأخرى فكلها سلبيّة؛ وهي النواهي: لا تقتل، لا تسرق، لا تزنِ، لا تشهد علَى جارك شهادة زُور، لا تخادن حَليلة جارك، لا تطمع في مال جارك، وبعض هذِهِ الأصول داخل في بعض؛ فهي في الحقيقة أربعة.
وقد وجدت الإنجيل يردّد هذِهِ الأحكام السبعة كما هي في التوراة، ويزيد عليها: الحث علَى محبة الغير؛ فجاء بزيادة واحدة علَى ما في التوراة.
أما الإسلام فقد رأيت فيه أحكاما كثيرة في المعاشرة، وقوانين مفصَّلة في المعاملات، أفاض فيما كان نهرًا حتى جعل منه بحرًا.
سأقرأ عليكم بعض ما ورد في القرآن من هذه الناحية لتدركوا مدى السمو الأخلاقي الذي يدعو إليه الإسلام، ويربي أتباعه عليه..
لقد جاء في القرآن:{ وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (24) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا (25) وَآَتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا (26) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا (27) وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا (28) وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا (29) إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (30) وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا (31) وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا (32) وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا (33) وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا (34) وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (35) وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (36) وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا (37) كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا (38) ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا (39)} (الإسراء)
لقد ورد في هذا النص الحث على خمسة أمور إيجابيّة.. كل واحدة منها قمة من قمم الأخلاق، وأصل من أصولها: 1ـ برّ الوالدين وطاعتهما. و2ـ إيتاء كل ذي حق حقه. و3ـ الإحسان إلَى اليتامَى. و4ـ الوزن بالقِسطاس المستقيم. و5ـ إيفاء الكَيل. و6ـ الوفاء بالوعد.
وفيه خمسة أمور سلبيّة.. 1ـ لا تقتل أولادك. و2ـ لا تقتل نفسًا. و3ـ لا تقرب الزِّنا. و4ـ لا تَقْفُ ما ليس لك به عِلْم. و5ـ لا تبذِّر في النفقة واقتصد فيها.
فإذا قارنتم بين ما جاء به القرآن من الأحكام الأساسية، وما جاء به الإنجيل والتوراة؛ تتبين لكم حقيقة الرسالة المحمدية، ويتضح لكم أنها أكملت ما كان ناقصًا في الرسالات السابقة الَّتِي لم تهتم بذكر الأحكام الأساسيّة.. ولم تقتصر رسالة الإسلام علَى تكميل هذا النقص؛ بل عُنيت بحَلّ مُعضلات المجتمع البشري في الأخلاق، ووَجَّهت الإنسانية إلَى الطريق المثلى في قُواها، ونبَّهت الإنسان إلَى نقائصه وعيوبه وأمراضه النفسيّة، ووصفت له دواء من كل داء من أدواء النفوس، وأخذت بيده إلَى الجادة الوسطى في الأعمال والأخلاق والمعاملات، هذا ما أكملته الرسالة المحمدية من الناحية العملية.
سكت قليلا، ثم قال: لا تظنوا ما جاء به الإسلام في هذا الباب مجرد استدراك أو تعقيب على ما سبقه.. لا.. الأمر أعمق من ذلك بكثير..
فالإسلام بنى ما أتى به من مكارم الأخلاق على منظومة كاملة تجتمع فيها جميع نواحية..
سأضرب لكم مثالا على ذلك تتأسس عليه الأخلاق، ولا يمكن أن يقوم بنيانها على غيره.. وهو كرامة الجنس البشري، ومكانته من سائر المخلوقات.
فالإنسان لا يمكن أن تكتمل فيه الأخلاق إلا إذا شعر بإنسانيته وكرامتها، فترفع أن يهينها بأي نوع من أنواع المهانة.
لقد كان الإنسان في الأديان البدائية يرى نفسه أحطّ منزلة من معظم المخلوقات والموجودات.. لقد كان يعبد من المخلوقات كل ما يخشَى شرَّه، أو يرجو خيره؛ اتقاءً لضَرره، أو طمعًا في خيراته.
حتى الأديان التي ترقت عن هذا وقعت في عبودية رجال الدين كما نص القرآن على ذلك في قوله:{ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} (آل عمران:64)، وفي قوله في وصفهم:{ اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} (التوبة:31)
ولهذا، فإن الإسلام أعلن لجميع البشر بأن هذه المخلوقات كلها إنما خُلِقَت لهم، ولم يُخلَقوا لها، وأنها مسخَّرة لهم؛ فلا يَليق بهم أن يَسجُدوا لشيء منها، وقال لهم: أيها الناس؛ أنتم خلفاء الله في هذا العالَم، وقد سخَّر لكم كل ما فيه جميعًا، إن الدنيا لكم ولستُم لها:{ أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً } (لقمان: 20).. { اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (الجاثـية:12)
بل إن الله يعتبر الإنسان خليفة:{ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً } (البقرة: 30).. وهو بذلك كل ألوان التكريم:{ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} (الاسراء: 70).. { لَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} (التين:4)
فدَلَّت الرسالة المحمدية بذلك علَى أن موقف الإنسان من هذا العالَم موقف السيد الكريم مما سُخِّر له، وموقف المتوَّج بتاج الخلافة الإلهية من كل ما هو مُستخلَف فيه.
ولهذا فمن العجب أن يركع الإنسان لمخلوق، أو يسجد لما هو دونه، أو يعبد شيئًا خلقه الله له، وكيف يفعل الإنسان ذلك وقد كرَّمه ربُّه وشَرَّفه وفضَّله.
سكت قليلا، ثم قال: هذا مجرد مثال تنتظم فيه العقيدة بالأخلاق لتكون الإنسان المترفع الحر.. الذي لا يتوجه بالركوع والسجود وكل ألوان العبودية إلا لله.
مثال آخر.. وهو من الأخطاء التي وجدت الكثير من الديانات يقع فيها.
لقد جاءت العقيدة الإسلامية تبشر الإنسان بأنه في أصله نزَّاع إلى الخير، وأن فِطْرته بريئة في الأصل، ثم تطرأ عليها أعماله فتجعله آثمًا مذنبًا، أو تقيًّا صالحًا؛ فسيئاته التي يقترفها هي التي تؤثِّر فيه؛ فتجعله شيطانًا مَرِيدًا، كما أن حسناته التي تَصْدُر عنه هي الَّتِي تجلو نفسه وتهذِّبها؛ فيكون بها مَلَاكًا طاهرًا.
إن هذه لبُشْرَى عظيمة، هتف بها محمد رسول الإسلام في بني آدم، بعد أن كانت الأديان المنتشرة في الهند والصين من سالف الأيام تنشر الإيمان بالتناسخ وبَعث الأرواح بعد موت أصحابها في أجساد أخرى: أرفع منزلة مما قبلها إذا عملوا أعمالًا صالحة، أو في أجساد أذلّ وأحقر مما كانت فيه من قبل إذا اجترحوا السيئات.. وقد ذهب إلى هذا التناسخ بعض الحمقى ممن ينتمون إلى حكماء الإغريق، وجرَّ هذا الاعتقاد الفاسد وَبالًا عظيمًا على مُعتَقِديه؛ فأصبحت حياته حياة إكراه وإجبار، ولا اختيار له فيما يعمل؛ فكأنه آلة صغيرة تحرِّكها آلة كبيرة، وأنه وُلِدَ مُذنِبًا، بل ولادته في الدنيا نذير له بأنه مجرِم آثِم.
وجاءت المسيحية؛ فثبَّتت في الناس عقيدة أن كل مولود يحمل من ساعة وِلادته خطيئة أبيه الأول آدم؛ فالمولود يُولَد آثِمًا مخطئًا وإن لم يكن يخطئ في الواقع.. والمخطئ الآثِم بجِبِلّته يحتاج إلى المغفرة من شخص آخر لم يولد آثِمًا ولم يخطئ بجِبِلّته؛ فيفدي هذا الشخص الأخير بنفسه خطيئة بني آدم؛ ليذهب بسيئاتهم.. وهذا ما نشرته المسيحية المعروفة عند الناس؛ داعية بني آدم إلى الإيمان بالفادي.
أما محمد، فقد بشَّر الإنسان بأنه يُولَد غير آثم ولا مجبول على الخطيئة، ولا مسؤول عن خطيئة أبيه الأول آدم، وأنه يعيش عَيشة لا إكراه فيها ولا إجبار، وهو مُخيَّر في حياته بين أن يعمل صالحًا إن شاء؛ فيجني ثمرة صلاحه ونزاهته، وبين أن يعمل عملًا سيئًا؛ فيكون بعمله مذنبًا آثمًا.. اسمعوا معي هذه الآيات.. { وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1) وَطُورِ سِينِينَ (2) وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4) ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (5) إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (6)}(التين)
إنها تطلق بشارة عظيمة للإنسانية تخبرها فيها بأن قوامهم أحسن، وفِطْرتهم أفضل، وجِبِلّتهم أعدل، وأنهم بعد هذا الإعداد الإلهي إنما يفسدون أو يصلحون بأعمالهم، وبما يختارونـه لأنفسهم:{ وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10)}(الشمس)
هل مِن دليل أوضح على حُسن جِبِلَّة الإنسان ونزاهة فِطْرَته وطهارة أصله مِن قول القرآن: { إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (2) إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (3)}(الإنسان)
إن البُشْرَى الَّتِي بشّر بها محمد الإنسانية جميعا هي أن كل إنسان مختار فيما يفعله، غير مُكْرَه عليه ولا مجبَر، وليست حياته الحاضرة نتيجة لحياته الماضية؛ فمن آمن بالرسول؛ فقد تغيَّرت وجهة نظره إلى أعماله؛ فلا هو كئيب واجِم ظنًّا منه أنه مُكْرَه على عمل هو استمرار لحياة سالفة..
ولهذا، فإن كل مَن آمن بالرسالة المحمدية؛ أصبح بفضلها حُرًّا طليقًا من الأوهام الباطلة، والعقائد الفاسدة؛ الَّتِي قيَّدَت حياة البَشَر، وغَلَّت أيديهم.
سكت قليلا، ثم قال: سأضرب لكم مثالا آخر.. أو مقارنة أخرى.. بين الأصول التي بنى عليها الإسلام بنيانه الأخلاقي الرفيع، وبين أصول غيره من الديانات.
لقد رأيت خلال البحث في تواريخ سلوك الأمم قبل الإسلام أن عقائد كثيرة باطلة، وأوهاما كثيرة سخيفة تملكتهم.. صار بموجبها أهل كل دين في مملكة من الممالك يحسبون أن مملكتهم هي الدنيا كلها؛ فكان براهمة الهند ومتصوفوها يرون أن بلادهم هي أرض الله الممتازة، وما خرج عنها لا نصيب له من رحمة الله؛ لأن الله لا يريد الخير إلَّا لقُطَّان بلادهم، وأمر الرسالة الإلهية والهداية الربانية قد اختُصّ به بعض البيوتات من سدنة المعابد لا يعدوهم أبدًا.
وهكذا نطق أتباع زرادشت، حين حسبوا أن الإله إنما يُعنَى بأمر بلادهم المقدسة وحدها، وبأهل وطنهم الأخيار، ولا تعنيه بلاد أخرى ولا أُمّة أخرى.
وهكذا فعل بنو إسرائيل، حين ظنوا أن رسالات الله خاصة ببعض أسباطهم، وأنها حقهم الموروث..
أما الإسلام؛ فقد اختلف موقفه في هذا عن موقف الكل..
لقد وَسَّع علَى الإنسانية ما ضيَّقه الآخرون، وأعلن أن الناس كلهم سواسية، وأن دعوة الله غير مخصوصة ببلاد دون أخرى؛ فمشرق الدنيا ومغربها وشمالها وجنوبها وفلسطين وفارس والهند، كل قد خلا فيها رسول أو نبي، وأن الله ـ تعالى ـ تستوي عنده الأمم واللغات في بعثة الأنبياء؛ فشمس النبوة أشرقت علَى البشر جميعًا، وتلألات فيهم أنوار الرسالة:{ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيهَا نَذِيرٌ} (فاطر:24).. { إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} (الرعد: 7).. { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلاً إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} (الروم:47)
لقد رأيت اليهود لا يؤمنون بنبي ليس منهم.. ورأيت المسيحيين لا يوجبون علَى أنفسهم الإيمان بنبي من بني إسرائيل أو غيرهم، ولا يرون إذا لم يؤمنوا ببعض الأنبياء أن ذلك يخلّ بشيء من دينهم.. ورأيت الهنادك لا يعتقدون بأن الإلهام الآلهي والوحي الرباني نزل علَى بلاد غير بلادهم.. وهكذا شأن المجوس أتباع زردشت؛ فإنهم يذهبون إلَى أن الدنيا كلها مظلمة سوداء؛ فلا نور إلَّا ببلادهم بلاد النار.
أما محمد؛ فقد أعلنت أن الدنيا كلها لله وحده، وأن سكانها أجمعين من خلق الله، وأن الأقوام علَى اختلافها سواسية في نِعَمه وآلائه، وكلهم نالوا نصيبًا من دعوته وحظًّا من رحمته، وما من بلاد عمَّرتها أُمّة إلَّا وقد أضاء فيها نور من هداية الله، وبُعِثَ فيها نبي دعاها إلَى الحق، وبلَّغها أوامر الله ونواهيه.
ولهذا، فإن الإسلام فرضَ علَى كل مَن دخل فيه أن يؤمن بجميع أنبياء الله ورسله، وبالكتب السماوية الَّتِي أوحى الله بها من قديم الزمان، وليس بمسلم مَن لم يؤمن بالأنبياء كلهم، وبالكتب المنزلة علَى الرسل المبعوثين من قبل؛ فالرسل الَّذِين سماهم الله في القرآن يجب علَى المسلم أن يؤمن بهم إيمان تفصيل، والذين لم تُذكَر أسماؤهم يؤمن المسلم بهم إيمان إجمال بأنهم كانوا صادقين هداة للبشر، وكانوا ينابيع الخير والحكمة. وقد وصف المسلمون في القرآن بأنهم { َالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ } (البقرة: 4)؛ فليس للمسلم أن يؤمن ببعض الرسل ويكفر ببعض. وقد خاطب القرآن المسلمين جميعًا بقوله: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا بَعِيداً} (النساء:136)
سكت قليلا، ثم توجه برقة إلى الجمع المحيط به، وقال: سادتي.. هل تعلمون أحدًا علَّم مثل هذا التعليم؛ فسوَّى بين الهداة من جميع المِلَل والنِّحَل؛ في إعظامهم وإكرامهم، والأدب معهم، والاعتراف بجميلهم، وتصديقهم فيما دَعَوا إليه من حَقٍّ؟
وأين ترون مثل هذِهِ الروحانية العامة والإخاء الشامل؟
أجبيوني بصِدْق: أليس هذا من الرحمة العالمية التي جاء بها محمد؛ حيث علَّم الناس كيف يرعون شرف الهداة وعظمة حملة الرسالات الإلهية؛ فعمَّت دعوته واتسعت رحمته؛ حتى نال كل شَعب من شُعوب البشر وكل أسرة من أسرهم نصيبًا من ذلك؟
قال رجل من الجمع: لقد عرفت إذن بأن التعاليم التي جاء بها محمد هي أكمل التعاليم وأوفاها وأولاها بالاتباع.. فهل اكتفى عقلك بذلك، فصرت تعتقد بأن محمدا هو وسيط الهداية بين الله وبين عباده، وبأنه النموذج الأكمل للإنسان، وأن الإنسان لن يصير إنسانا إلا باتباعه.
قال: لا.. لم أكتف بذلك.. لقد بدأت البحث من جديد.. فتركت كل ما وصلت إليه من تلك الثروة الضخمة من التعاليم العظيمة التي جاء بها محمد..
لقد قلت لنفسي، أو قال لي عقلي: ربما يكون كل ما جاء به محمد نفحة من نفحات العبقرية.. أو حصاد من زرع الذكاء..
قال الرجل: فكيف تخلصت من هذا الهاجس.. وهو لا يمكن أن يتخلص منه؟
قال: لقد قال لي عقلي: ابحث في سيرة هذا الذي دعا إلى تلك التعاليم.. وانظر هل يخالف قوله فعله.. أم أن قوله وفعله يصدران من مشكاة واحدة؟
وقال لي: ليست الأفكار الصحيحة، والنظريات الشائقة، والأقوال الحسنة؛ هي الَّتِي تجعل الإنسان إنسانًا كاملًا، وتجعل من حياته أسوة للناس، ومثلًا أعلَى في الحياة؛ بل أعمال الداعي وأخلاقه هي الَّتِي تجعله كذلك.. ولولا ذلك؛ لما كان هناك فرق بين الخير والشرّ، ولما تميّز المصلِح عن غيره، ولامتلأت الدنيا بالثّرثارين والمُتفيهقين الَّذِي يقولون ما لا يفعلون.
وقال لي: إن الحياة المثالية لن تكون أسوة للناس ما لم تكن أعمال صاحبها ـ الَّذِي يؤسّس دينًا ويدعو الناس إليه ـ مثالًا وأنموذجًا لما يدعو إليه، ولا يتطرّق الشك إلَى الناس بأن ما يدعو إليه هو مما يعمل به.
قال الرجل: فما الذي فعلت حتى تقطع هذه العقبة الكؤود التي وضعك فيها عقلك؟
قال: لقد رحت أبحث من جديد في السير المتبقية لدينا عن العظماء لأرى فيها مدى اكتمال صلاحيتها لأن تكون النموذج الأكمل للإنسان.
لقد رحت أصيح من جديد في التاريخ لأقول له: مَن ذا الَّذِي تُعَدّ حياته أسوة للبشر، وفيها المثل الأعلى للبشر، مِن بين مئات الألوف من الرُّسُل والأنبياء وعظماء المُصْلِحين، ممن شرعوا للإنسانية دِياناتها، وسَنّوا السُّنَن للناس؟
قال الرجل: فقد عدت لما بدأت به.
قال: أجل.. ولكني اقتصرت على زعماء الأديان الكبرى.. أما غيرهم.. فقد عرفت أن شأنهم أحقر من أن يوزنوا في موازين هذا النوع من العظماء.. ولذلك لم يولهم البشر أي أهمية في هذا الجانب.. ولذلك لا نعرف عنهم ما يمكن اعتبارهم موضع قدوة فيه.. بالإضافة إلى أن وجدت أكثرهم تابعا لزعيم من زعماء الأديان، ولا يمكن للتابع أن يصير متبوعا.. ولا يمكن أن نترك المتبوع، ونلهث وراء التابع.
قال الرجل: فقد بدأت ببوذا إذن؟
قال: أجل.. لقد تتبعت سيرة بوذا منذ هجر أهله وعياله إلَى الصحاري والغابات؛ وتتبعت خطواته منذ ترك خَليلته الَّتِي كانت حبيبة قلبه، ولم ير ولده الوحيد مرةً أخرى، وترك خِلَّانه وأحباءه؛ فخفف عن كاهله أعباء الحُكْم، وارتضى الموت آخر وسيلة له إلَى النجاة؛ فكان الأجل المحتوم الغاية القصوَى للحياة البشرية عنده.
وعندما انتهيت من هذا البحث المستقصي قلت لنفسي، أو قال لي عقلي: مَن ذا من البشر يرضَى بأن يتخذ من حياة بوذا أسوة في هذِهِ الدنيا؛ الَّتِي لا بقاء لها ولا عمران إلَّا بالحياة الاجتماعية والروابط العمرانية والأواصر الإنسانية، ولا بُدّ فيها من رَاعٍ يرعَى رعيّته، وصديق يألف صديقه، ووالد يُشفق علَى ولده، وأُمّ تحن علَى فَلذة كبدها؟!
وهل في حياة بوذا شيء من ذلك يكون به أسوة للجميع ـ من الرهبان الَّذِين انقطعوا للآخرة، إلَى الآباء ذوي العِيال، وأصحاب الضياع والمزارع والمصانع والأموال!؟
لقد أجابتني حقائق التاريخ بلسان فصيح: كلَّا.. ليس هذا الرجل هو من تبحث عنه.. فإن سيرة بوذا لم تكن قط أسوة للهناء العائلي، ولا لأهل الصناعات والمتاجر، ولو اتَّخذ أتباع بوذا قدوة لهم من حياة بوذا؛ لما قامت لهم هذِهِ الدول في الصين واليابان وسيام وتبت وبورما، ولما عمّرت للتجارة في بلادهم سوق، ولا دبّت الحياة في صناعاتهم ومصانعهم. ولو اختار أهل تلك البلاد سيرة متبوعهم سيرة لهم وساروا عليها؛ لأقفرت الأرض العامرة، وتحوّلت إلَى صحاري قاحلة، ولأصبحت المدن خرابًا أو أرضًا جرداء!
قال رجل من الجمع: فقد عزلت بوذا إذن من أن يكون رجل هذه الناحية؟
قال: نعم.. ولكني لم أعزله، وأنا أهينه بعزلي، وإنما عزلته لأن مقاييس بحثي لم تنطبق عليه.. فلا يمكنني أن أكلف نفسي ولا الناس عنتا بأن أسير خلف من ليس لدي من سيرته ما يمكنني من السير خلفه.
قال الرجل: وحياة موسى.. ألم تر فيها ما تبحث عنه.
قال: لقد بحثت فيها بحثا طويلا مفصلا.. ولكني لم أجد في حياته ـ حسب الأسفار الخمسة من التوراة ـ إلَّا قتاله وقيادته في الحرب وبسالته فيها، أما النواحي الأخرَى من حياته ـ كالحقوق في أمور الدنيا، والفرائض والواجبات ـ ؛ فلم أرها واضحة جلية بحيث يمكن السير على منوالها..
قال الرجل: فقد عزلته إذن كما عزلت بوذا؟
قال: عزل احترام لا عزل احتقار.. لقد علمت أنه عظيم.. ولكني لم أجد في سيرته ما يكفي لأن أجعله الأنموذج الأكمل للإنسان.
صاح رجل من بعيد: لاشك أنك وجدت هذا الإنسان في المسيح.. فهو الوحيد الذي نقلت لنا سيرته بالتفصيل.. فالأناجيل لا هم لها إلا ترديد كل ما ورد عنه.
قال: لقد بحثت في سيرة المسيح لأرى مدى اكتمال هذه الناحية فيها..
فوجدت أن المسيح عاش عيشة المغلوبين المحكومين؛ فلهذا لم أجد في حياته مثالًا من واجبات الحاكم الغالِب.
ووجدت أنه لم يكن له زوجة؛ ولذلك لم أر في حياته مثالًا لما ينبغي أن يتبادله الزوج والزوجة من واجبات وحقوق، خصوصًا وأن الَّذِي بين الزوجين من الصِّلَة أوثق وأشدّ من الَّذِي بين الأولاد وآبائهم؛ كما جاء في سِفْر التَّكوين (انظر: سِفْر التكوين (1: 27 و8: 15 ـ 19)
لقد وجدت أنّ معظم سكان هذِهِ الدنيا يعيشون عيشة الأزواج.. ولذلك، فإنهم لن يجدو في حياة المسيح أي موضع أسوة في هذا الجانب.
بل إني ـ حتى في الأمور التي يستوي فيها المسيح مع سائر الناس ـ لم أجد فيها من النصوص ما أستشف منه كيف كان المسيح في حياته.
قال الرجل من القوم: ولكن المسيح هو الذي صاح بما لم يصح به أحد حين قال: (تحب الربَّ إلهك من كل قلبك، ومن كل نفسك، ومن كل فكرك. أحبب أعداءك. مَن لطمك علَى خدك الأيمن؛ فحوِّل له الآخر ِأيضًا. مَن سخَّرك ميلًا فاذهب معه ميلين. مَن أراد أن يخاصمك ويأخذ ثوبك؛ فاترك له الرِّداء أيضًا. اذهب وبِع أملاكك وأعط الفقراء. واعفُ عن أخيك سبعين مرة. يعسر أن يدخل غني إلَى ملكوت السماوات)
ابتسم السيد سليمان، وقال: إن ما تقوله وأمثاله لا شك أنه من الموعظة الحسنة المحبّبة إلَى النفوس، لكنها لا تُعَدّ سيرة ما لم يُقتَرن بها العمل.. نعم؛ إنها قول ليّن، وحديث لذيذ، ولكن الَّذِي لا يَغْلِب عدوّه؛ كيف يتسنَّى له العفو، ومَن لا يملك ومَن لا يكون له مال؛ كيف يتصدّق علَى الفقراء والمساكين واليتامَى، وكيف يقضي لهم حاجاتهم؟ ومَن لا زوج له ولا ولد ولا أهل؛ كيف تكون حياته أسوة للأزواج وذوي البنين والمتأهِّلين وهم هم الناس الَّذِي تعمّر الدنيا بهم؟ ومَن لم يتفق له أن يصفح عن أحد في حياته؛ كيف يقتدِي به مَن كان شديد الغضب سريع البادرة؟
سكت قليلا، ثم قال: الحسنات قِسمان: سلبيّة وإيجابيّة.. وأنتَ إذا اعتزلت الدنيا في غار بسفح جبل؛ تعبد فيه ربك، ولم تبرحه طول حياتك، تصرف فيه أوقاتك بالتبتّل إلَى الله؛ فإنّ أحسن ما يقال في مَدْحِك: أنك اتقيتَ الشرّ، ولم تقترف سيئة تُذَمّ عليها.. نعم إن ذلك من الحسنات.. ولكنها حسنات سلبيّة.. وهي لا تكفي وحدها.
ولذلك فإن الكمال يطالبك بالحسنات الإيجابية.. هل حملتَ كلًّا، أو نصرتَ مظلومًا، أو كسبتَ مُعْدَمًا، أو أطعمتَ جائعًا، أو كسوتَ عاريًا، أو ساعدتَ فقيرًا، أو ذُدتَ عن ضعيف، أو هديتَ ضالًّا؟
إن الأخلاق الحسنة ومكارمها.. من العفو، والسماحة، والقِرَى وبذل المال، والصَّدْع بالحق، والحميّة في قمع الباطل، والجهاد في أداء الواجب.. وغيرها.. لا تُعَدّ مكارم أخلاق لأجل ترك الدنيا والتبتّل في عُزْلَة عن المجتمع، وليست الحسنات من الأمور السلبيّة فحسب؛ بل معظم الحسنات ترجع إلَى العمل الإيجابيّ الَّذِي يقوم به المرء، ولا يكفي فيها ترك المعاصي واجتناب السوء.
ولهذا، فإن الإنسان ينشد مثالًا يقتدِي به في كل عمل يُقْدِم عليه؛ في غناه وفقره، وفي سِلْمه وحَربه، ويتحرَّى السبيل الَّذِي يسلكه إذا تزوج أو بقي عزبًا، ويريد أنموذجًا عاليًا يأتمّ به إذا عَبَدَ ربه أو عاشر الناس، ويحاول أن يلمّ بالقوانين الَّتِي ينبغي العمل بها بالنسبة إلَى الراعي والرعيّة، والحكَّام والمحكومين.. وجميع هذِهِ الأمور ينبغي للمرء أن يتَّخِذ لنفسه القدوة فيها؛ لأن الأمم قد التوَت عليها هذِهِ المسألة؛ فأهمها التماس الطريق الموصِل إلَى حلّ هذِهِ المعضلات، وتذليل هذِهِ المصاعب. ومعظم الشعوب تشعر بالحاجة الشديدة إلَى المُثُل العُلْيا في ذلك؛ لتخفِّف عن الإنسانية آلامها، وتأسو جراحها، وهي متلهِفة علَى مثال لذلك من الأعمال، لا علَى مثال عليه من الأقوال.
قال رجل من الجمع: فهل في تاريخ البشرية من اجتمعت له كل هذه الكمالات، حتى صار المنارة التي تهتدي بها جميع سفن العالم؟
قال: أجل.. لابد أن توجد مثل هذه المنارة.. وإلا تاهت جميع سفن العالم في ظلمات المحيطات.. ولالهتمتها كل الغيلان.
قالوا: فأين وجدت هذه المنارة؟
قال: في محمد.. لقد رأيت أنه الإنسان الوحيد الذي توفر له من الظروف، وكان له من المواقف ما يجعله الإنسان الكامل الذي يصح اعتباره الأنموذج الأكمل للإنسان.
قالوا: إن إثبات مثل هذا صعب.
قال: ولكنه ليس مستحيلا.. لقد وضعت منهجا للتحقق من ذلك، يقوم على ثلاث دعامات:
الأولى: الشهادات التي يبثها المخالطون، سواء كانوا من المقربين منه الموالين له، أو من المبعدين الساخطين عليه.
والثانية: السلوك الذي سلكه في حياته ومدى انطباقه على ما كان يدعو إليه.
والثالثة: الآثار التي تركها.. والتي يصح لها أن تعبر عنه.
قال رجل من الجمع: نوافقك في صحة هذا.. فما ذكرت من الدعامات كاف ليدلك على ما تريد.. فهل طبقتها على ما ورد عن محمد.
قال: أجل.. وقد بدأت بالشهادات.. وبدأت بأقرب الناس إلى محمد.. زوجه وأقاربه الأدنون.. لقد بحثت في ذلك، وأنا أعلم أن أعظم الناس وأجلهم إذا انقلب إلَى بيته كان فيه رجلًا من الرجال وواحدًا كأحد الناس، لقد قال فولتير: (إن الرجل لا يكون عظيمًا في داخل بيته، ولا بطلًا في أسرته)؛ أي أن عظمة المرء لا يعترف بها من هو أقرب الناس إليه؛ لاطلاعه علَى دخيلته في مباذله.
ولكني عندما رحت أستقصي في سيرة محمد وجدت أن أول من آمن به زوجه..
لما جاء محمد في تلك اللحظات المشرقة إلى زوجه خديجة يخبرها بما نزل عليه من الوحي كان قد مضى علَى زواجه منها خمسة عشر عامًا، وهي مُدّة تكفي المرء أن يعرف أحوال صاحبه وأخلاقه وعاداته معرفة تامة؛ فحين سمعت خديجة أن محمدًا نزل عليه الوحي؛ بادرت بتصديقه وآمنت به؛ بل قالت له: إنّ الله لا يخذُلك؛ فإنك تصل الرحم، وتحمل الكَلّ، وتُكسب المعدوم، وتنصر المظلوم، وتَقري الضيف، وتنصر علَى نوائب الحق.
وهذا الَّذِي ذَكَرَته خديجة هو الَّذِي كان يتحلّى به محمد من مكارم الأخلاق وفضائل النفس قبل أن يوحَى إليه.
انظروا.. إن أعظم الناس لا يأذن لزوجه ـ وإن كانت له زوج واحدة ـ بأن تحدِّث الناس عن جميع ما تراه من حَليلها، وأن تعلن كل ما شاهدته من أحواله، لكن محمدا كانت له في وقت واحد تسع زوجات، وكانت كل منهن في إذن منه بأن تقول عنه للناس كل ما تراه منه في خلواته، وهن في حِلّ من أن يخبرن الناس في وضح النهار كل ما رأين منه في ظلمة الليل، وأن يتحدثن في الساحات والمجامع بما يشاهدن منه في الحجرات.. فهل عرفت الدنيا رجلًا كهذا الرجل يثق بنفسه كل هذِهِ الثقة، ويعتمد عليها إلَى هذا الحد، ولا يخاف قالة السوء عنه من أحد؛ لأنه أبعد الناس عن السوء؟!
والأمر لم يتوقف عند زوجاته.. بل إن محمدا أَذِن لأصحابه ولمن يحضر مجالسه أن يبلغوا عنه لمن غاب عنها، وهذا الإذن عام لما يكون عنه في بيته وبين أهله وعياله، أو ما يصدر عنه في حلقته مع أصحابه، أو ما يقفون عليه من أعماله وأقواله: عند تعبده في مسجده، أو قيامه علَى منبره خطيبًا، أو جهاده في ساحة الحرب تجاه أعدائه وهو يسوي صفوف المجاهدين في سبيل الله، أو إذا خلا إلَى ربه في حجرة منعزلة في بيته يعبد الله ويتضرع إليه؛ فكان أزواجه وأصحابه يتحدثون جميعًا بكل ما يصدر عنه من قول أو عمل.
ثم إنه كان تجاه مسجده صُفّة يأوي إليها فقراء الصحابة الَّذِين لم تكن لهم بيوت يأوون إليها.. كانوا كأنهم جواسيس الحكومة وعيونها في نشاطهم لما يسَّرهم الله له من حفظ كل ما يستطيعون حفظه مما يدخل في موضوع الحديث، لا يفترون عن ذلك آناء الليل وأطراف النهار، وقد استمر الحال بهم علَى ذلك يوميًّا مدة عشر سنوات متوالية، وإذا ارتحل عن المدينة في غزو أو حج كانوا معه ـ وكذلك غيرهم من الصحابة ـ ؛ حتى لم تخف عنهم خافية من أمره، ولم يَغِب عنهم معنى من معاني رسالته، ولما كان فتح مكة كان معه عشرة آلاف، ولما سار إلَى تبوك كان في معسكره ثلاثون ألفا، ولما حج حَجَّة الوَدَاع حج معه في تلك السنة مائة ألف ، وما منهم إلَّا مَن يحرص علَى الوقوف علَى شيء من هديه أو أي أمر من أموره فيتحدث عنه.. بل هو الَّذِي أمرهم أن يبلغوا عنه ما يسمعون منه أو يرون من تصرفاته؛ فما ظنكم به بعد ذلك؛ هل يُخفي عن التاريخ وجه من وجوه حياته أو ناحية من نواحيها؟!
وهؤلاء جميعا لم يكتفوا بما يرتبط بمحمد من النواحي الرسالية.. بل راحوا يذكرون كل التفاصيل المرتبطة بأدق شؤونه الخاصة..
أذكر أني لقيت في فرنسا مستشرقا اسمه ماسنيون.. لعلكم تعرفونه.. لقد قال لي: (يكفي لتعرف أوربا محاسن محمد ومحامده أن يُنقَل كتاب (الشِّفا) للقاضي عياض إلَى إحدى اللغات الأوربية)
لم أكتف بما قرأت.. بل رحت أبحث وأدقق فيما ورد.. وقد أخرجت كتابا ضخما في هذه التفاصيل الكثيرة المرتبطة بمحمد.. ذكرت فيه خُلُقه وحِليته، وخاتم النبوة، وشَعْره، ومشيته، وكلامه وضحكه وتبسمه، ولباسه، وخاتمة، ومِغْفره، ودِرعه، وطعامه، وصفة أكله، وسنن طعامه، وشارته، واللون المحبب إليه، واللون الَّذِي كان يرغب عنه، وتعطره، وحبه للنظافة والطهارة، وركوبه.
وذكرتُ في أشغاله: ما كان يعمله في نهاره من الصباح إلَى المساء، ثم نومه، وتهجده، ووظائفه في الصلوات، وأسلوب خُطبته، وأعماله في السَّفَر، وأعماله في الجهاد، وسنته في عيادة المرضى، وتعزيته أهل الميت، وسنته في لقاء الناس، وعامة أشغاله.
وذكرتُ عن مجلسه مجالس الإرشاد، وآداب المجلس، وأوقات جلوسه مع الناس، ومجالسه الخاصة بالنساء، وطريقة هديه وإرشاده، ولقاؤه الناس بالبشاشة والبِّشْر، وتأثير صحبته فيمن يصحبه وأسلوب كلامه معهم، وأنواع خُطبه وأثرها في السامعين.
ومن العناوين الَّتِي وردت فيما ذكرتُه عن عبادته: دعاؤه، صلاته، صومه، زكاته وصدقاته، حَجه، مداومته ذكر الله، ذكره الله ـ عَزَّ وجَلَّ ـ في مواقف القتال، خشيته من الله، بكاؤه، محبته لله، توكله عليه، صبره، شكره لمُفيض النِّعَم ـ جل جلاله ـ.
ومما جاء فيه عن أخلاقه أخلاقه بالتفصيل، مواظبته علَى العمل، مكارم أخلاقه، حُسن معاملته للناس، عدله، جوده وكرمه، إيثاره، ضيافته وقِراه، كراهته سؤال الناس، إباؤه لأموال الصدقة، قبوله الهدية، ترفعه عن فضل الغير ومِنّته، تنزهه عن الفظاظة، وموقفه من التقشف، وكرهه للهجاء والمدح، والتزامه عدم التكلف في الحياة، وبعده عن التأنق في المشرب والمأكل، اجتنابه الرياء والخيلاء، مساواته، تواضعه، كرهه للمبالغة في التعظيم والإطراء، حياؤه، عمله بيده، عزيمته، شجاعته، صدقه في القول، وفاؤه بالوعد، زهده في الدنيا، قناعته، حِلمه، عفوه عن الناس، صفحه عن أعدائه، إحسانه إليهم، معاملته للكافرين والمشركين، معاملته لليهود والنصارى، حبه الفقراء والمساكين، عفوه عن أشد أعدائه، دعاؤه لأعدائه بالخير، شفقته علَى الصبيان، معاملته للنساء، رحمته بالحيوان، ما فُطِرَ عليه من الرحمة والمحبة بوجه عام، لين قلبه ورقته، عيادته للمرضى، سجاحة خلقه ودماثته، محبته لأولاده، معاشرته لأزواجه الطاهرات، هديه في المراسلة، معالجته لأمراض النفس وأمراض البدن.
لقد كانت الشهادات التي شهدها المعاصرون له من أعظم ما ملأ قلبي يقينا بصدق محمد.
لقد قال ـ معترفا بهذا النوع من الدلائل ـ باسورث سمث: (إن ما قيل عن العظماء في مباذلهم لا يصح ـ علَى الأقل ـ في محمد رسول الإسلام)؛ واستشهد بقول كبن: (لم يَمتحِن رسول من الرسل أصحابه كما امتحن محمد أصحابه، إنه قبل أن يتقدم إلَى الناس جميعًا تقدم إلَى الَّذِين عرفوه إنسانًا المعرفة الكاملة؛ فطلب من زوجته وغلامه وأخيه أن يؤمنوا به نبيًّا مرسلًا؛ فكل منهم صدَّق دعواه وآمن بنبوته. وإن حَليلة المرء أكثر الناس علمًا بباطن أمره ودخيلة نفسه، وألصقهم به؛ فلا يوجد مَن هو أعرف منها بهنّاته ونقائصه، أليس إن أول مَن آمن بمحمد رسول الله زوجه الكريمة الَّتِي عاشرته خمسة عشر عامًا، واطلعت علَى دخائله في جميع أموره، وأحاطت به علمًا ومعرفة، فلما ادَّعى النبوة كانت أول مَن صدَّقه في نبوته)
لقد شهد ابن عمه علي بن أبي طالب ـ والذي صَحِبَه منذ صباه إلَى أن شَبّ؛ فلم يكن أحد من أهل بيته أعلم منه بأخلاقه ـ بدماثة أخلاقه، فذكر أن محمدا كان طَلق الوجه، ليّن الجانب، خافض الجَناح، دمث الأخلاق، رحيمًا، ولم يكن فَظًّا ولا جافيًا ولا ينطق بسوء، ولا يتتبع عورات الناس، ولا يتجسّس علَى عيوبهم، فإن سأله أحد ما لا يرضَى سكت ولم يبدي له ما يسخطه؛ فيفطن مَن يعلم خُلُق محمد ماذا يريد؛ لأنه لم يكن يحب أن يكسر قلب أحد؛ بل كان يأسِر القلوب ويؤلِّفها؛ لأنه كان رؤوفًا رحيمًا.. يقول عليٌّ: إنه صلى الله عليه وآله وسلم كان كريمًا جوَّادًا، وفيّاضًا سخيًّا، صادق القول، ليّن العريكة، مَن جالسه أحبّه، ومَن رآه بديهةً هابَه. ويقول عنه ناعِتُه: لم أرَ مثله قبله ولا بعده.
هذه شهادة أقرب الناس إليه ممن خالطوه وعاشروه وعرفوا دخائله؛ وهي تدل علَى أن سيرته الطاهرة كانت أعلى ما تكون عليه سيرة أفضل البشر.
لقد كان المؤمنون برسالة محمد هم أعرف الناس بحقيقته، وأكثرهم اطلاعًا علَى أخلاقه وسُنَنه وهديه، وقد بُلي كل منهم في سبيل هذا الإيمان بلاء عظيمًا، وامتُحِن امتحانًا شديدًا؛ حتى أن زوجه خديجة قضت معه ثلاث سنوات محصورة في شِعْب أبي طالب تُقاسي معه الجوع والظمأ والفاقة المنهكة، أما علي فبات علَى فراشه الَّذِي كان المشركون قد بيّتوا الفَتْك به، وفتاه زَيد حلّ منه محل الولد بعطفه عليه ورأفته به، فلما جاء أبوه الَّذِي وُلِدَ من صُلْبه يطلب رد ابنه عليه؛ خيَّره محمد بين أن يصحب أباه أو يبقى تحت جناحين من عطف محمد ورأفته؛ فاختار صُحْبة محمد علَى الرجوع مع أبيه إلَى قبيلته.
يقول هيجنس في كتابه (الاعتذار عن محمد والقرآن): (إن أتباع المسيح ينبغي لهم أن يجعلوا علَى ذِكر منهم أن دعوة محمد أحدثت في نفوس أصحابه من الحميّة ما لم يحدُث مِثله في الأتباع الأولين للمسيح، ومَن بحث عن مِثل ذلك لا يرجع إلَّا خائبًا؛ فقد هرب الحواريون، وانفضُّوا عن عيسى حين ذهب به أعداؤه ليصلبوه؛ فخذله أصحابه، وصَحُوا من سكرتهم الدينية، وأسلموا نبيهم لأعدائه يسقونه كأس الموت! أما أصحاب محمد؛ فالتفوا حول نبيّهم المبغي عليه، ودافعوا عنه مخاطرين بأنفسهم إلَى أن تغلب بهم علَى أعدائه)
وحين كرّ مشركو قريش يوم أُحُد علَى المسلمين؛ فاختلت صفوفهم وتفرق جمعهم؛ نادى محمد: مَن يَفديني؟ فخرج من الأنصار سبعة؛ دافع كل واحد منهم عن الرسول، وما زال يقاتل دونه حتى قُتِلَ، وقد قُتِل لامرأة من الأنصار في هذِهِ الحرب ثلاثة رجال من بيتها: أبوها وأخوها وزوجها، وتتابع إليها نعي الثلاثة واحد بعد واحد؛ فكانت تسأل أولًا عن محمد.. كيف هو؟ فيقولون لها: إنه سالم، ثم لما رأت وجهه، سُرّي عنها، ولم تتمالك أن صاحت قائلة: (كل مصيبة بعدك جَلَلٌ يا رسول الله)!
إن الَّذِين دافعوا عنه وقُتِلوا دونه وفَدَوه بأنفسهم؛ قد عرفوه حق المعرفة، وعلموا سُنّته وهديه وخُلُقه، ولولا أن حياته كانت عظيمة كاملة، ونفسه كانت أحب النفوس إليهم وأعظمها في أعين أصحابه وأحبابه؛ لما فَدَوه بأنفسهم.
سكت قليلا، ثم قال: هذا شهادات أصحابه، ومن آمنوا به.. أما أعداؤه؛ فإنهم أفرغوا جهدهم واستنفذوا سعيهم ليقفوا علَى دخيلة من دخائله، وليؤاخذوه بحقيقة يعلمونها عنه؛ فلم يستطع أحد منهم أن يجد له ناحية ضعف ولا ما يندد به.
وأريد أن أَلفت أنظاركم إلَى أن محمدا لم يقض حياته كلها بين أحبابه وأصحابه؛ بل قضى أربعين سنة من عمره في مكة قبل أن يُبعث؛ فكان بين أهلها ـ مشركي قريش ـ، وكان يتعاطى فيهم التجارة، ويعاملهم في أمور الحياة ليل نهار ـ وهي الحياة اليومية وما تنطوي عليه من أخذ وعطاء ـ، ومن شأنها أن تكشف عن أخلاق المرء؛ فيتبين للناس فسادها وصلاحها، وهي عيشة طويل طريقها، كثيرة منعطفاتها، وعرة مسالكها، تعترضها وهدات مما قد يصدر عن المرء من خيانة، وإخفار عهد، وأكل مال بالباطل، وعقبات من الخديعة والخيانة، وتطفيف الكيل، وبَخس الحقوق، وإخلاف الوعد.
وقد اجتاز محمد هذِهِ السبيل الشائكة الوعرة، وخلص منها سالمًا نقيًّا، لم يصبه شيء مما يصيب عامة الناس؛ حتى لقد دَعَوه (الأمين)، وإن قريشًا بعد بعثته وادِّعائه النبوة كانوا يُودِعُون عنده ودائعهم وأموالهم؛ لعظيم ثقتهم به، ولاشك أنكم تعلمون أن محمدا لما هاجر من مكة خلَّف فيها عليًّا؛ ليرد ما كان لديه من الودائع إلَى أهلها.. فقريش خالفوه أشد الخلاف في دعوته، ولم يتركوا سبيلًا إلَى ذلك إلَّا سلكوه؛ فقاطعوه وعاندوه، وصدوه عن سبيله، وألقوا عليه سَلي جَزُور وهو يصلي، ورموه بالحجارة، وأرادوا قتله، وكادوا له كيدهم، وسَمّوه ساحرًا، ودَعَوه شاعرًا، وفنّدوا آراءه، وسخفوا حِلمه، لكنهم لم يجرؤ أحد منهم علَى أن يقول شيئًا في أخلاقه، ولا أن يرميه بالخيانة، أو يَنسب إليه الكذب في القول، أو إخلاف الوعد، أو إخفار الذّمّة، أو نقض العهد.
لقد أنفق أعداؤه أموالهم، وبذلوا نفوسهم في عداوته، وضحوا بفلذات أكبادهم في قتاله؛ حتى قُتِل منهم وجُرِح كثيرون، لكنهم لم يستطيعوا أن يدنِّسوا سمعته الطاهرة، ولا أن يَصِمُوه بشيء في عظيم أخلاقه.. لقد كانت أحواله وشئونه وهديه ظاهرة لجميع الناس معلومة لهم، استوى في ذلك أحبابه وأعداؤه، ولم يخف عليهم شيء من أمره.
لقد كان عظماء قريش مجتمعين ذات يوم في ناديهم؛ فجرى ذكر محمد، وفيهم النضر بن الحارث ـ وكان رجلًا داهية محنّـكًا وعالمًا بالأخبار ـ ؛ فقال لهم: يا معشر قريش؛ لقد أعياكم أمر محمد، وعجزتم عن أن تدبروا فيه رأيًا لما أصابكم به! إن محمدًا قد نشأ فيكم حتى بلغ مبلغ الرجال، وكان أحب الناس إليكم وأصدقهم فيكم واتخذتموه أمينًا، فلما وخطه الشيب، وعرض عليكم هذا الأمر؛ قُلتم: ساحر وكاهن وشاعر ومجنون! تالله لقد سمعتُ كلامه؛ فليس فيه شيء مما ذكرتُم!
وأبو جهل كان أشد الناس عداوة لمحمد، وقد قال له ذات يوم: يا محمد؛ إني لا أقول أنك كاذب؛ لكني أجحد الَّذِي جئتَ به وما تدعو إليه.
ولما تلقَّى محمد أمر ربه بأن يدعو ذوي قُرباه إلَى الإسلام، وينذر عشيرته الأقربين صعد الجبل ونادى: يا معشر قريش. فلما اجتمعوا قال: هل كنتم مصدقيّ إن قلتُ إنّ جيشًا قد بلغ سفح هذا الجبل؟ قالوا: ما جربنا عليك كذبًا قطّ([18]).
قال رجل من الجمع: عرفنا هذا المسلك.. وهو مسلك محترم معتبر.. فحدثنا على بحثك في المسلك الثاني.
قال: لم أكتف بتلك الشهادات.. بل رحت أبحث في سيرة محمد نفسها، محاولا المقارنة بين جانبها النظري، وجانبها التطبيقي الواقعي.
لقد رأيت النصوص المقدسة من القرآن والسنة تحث على ذكر الله ومحبته، فرحت أبحث عن حياته في هذا الجانب.. فرأيتَها ملائمة غاية الملاءمة لهذه الدعوة.. بل إني وجدته لا تمضي عليه ساعة من نهار أو ليل إلَّا وهو يذكر الله بقلبه ويحمده بلسانه؛ فكان لسانه رطبًا بذكر الله؛ لا يفتر عنه طرفة عين، حتى إن أذكاره ودعواته الَّتِي حفظها الناس عنه في مختلف الأحوال شغلت فراغا واسعًا من كتب الحديث، ومَن قرأ هذِهِ الأدعية؛ يقضي العجب ويُوقِن بأنه كان يحب الله ويخشاه ويهاب جلاله؛ فكان كما وصف القرآن عباد الله الصالحين:{ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ } (آل عمران: 191)
ورأيت النصوص المقدسة تأَمر بالصلاة، وتحضّ علَى إقامتها والمحافظة عليها أشد المحافظة.. فرحت أبحث عن حياته في هذا الجانب.. فرأيت محمدا يُقيم الصلاة ويحافظ عليها أكثر من غيره؛ كان المسلمون يقيمون الصلوات المفروضة خمسًا، بينما كان هو يتطوع بالزيادة علَى ذلك.
وكان عامة المسلمين يصلّون سبع عشرة ركعة المكتوبة عليهم، وكان هو يصلّي في اليوم والليلة خمسين إلَى ستين ركعة من المكتوبة والنوافل.. لقد سقطت عن عامَّة المسلمين فريضة التهجّد بعدما فُرِضَت عليهم الصلوات الخمس، لكن محمدا كان يقوم الليل ويصلّي صلوات لا تَسَل عن حُسنهن وطُولهن؛ حتى كانت قدماه تتورمان من طول القيام.
وكان في هذِهِ الصلوات معنى محبة الله أغلب عليه من معنى الخوف؛ فكان يطيل الركوع حتى يُخيّل إلَى مَن يراقبه أنه ربما قد نسي السجود.. وكان يُقيم صلاته من بدء الوحي في فناء بيت الله أمام المشركين الَّذِين كانوا يعادونه ويؤذونه إيذاء شديدًا، وقد هجم عليه بعض المشركين وهو في الصلاة؛ فلم يترك صلاته خوفًا منهم.
وكان جَنباه يتجافيان عن المضجع، وكان قليلًا من الليل ما يهجع، ويَبيت ساجدًا أو قائمًا والناس نيام. وأشد ما يكون إقام الصلاة حين يلتقي الجمعان في ساحة الحرب، والسيوف مصلّتة، والرماح مشرعة، والقلوب واجفة، ومع ذلك؛ فإنه إذا حان وقت الصلاة والحرب ؛ اصطف المسلمون للصلاة ونبيّهم إمامهم؛ فيتناوب بعضهم الصلاة وبعضهم الحرب، وإمامهم ثابت في الحالَين إلَى أن يؤدوا فريضة الله لا يمنعهم عنها مانع.
هذا ما كان عليه محمد من عبادة الله وذِكره، وهذا ما تركه خَلْفَه لمن يتأسّون به في عبادته وذكره لله.
سكت قليلا، ثم قال: لقد رأيت النصوص المقدسة تأمر بالصوم، وليس علَى المسلمين إلَّا صوم رمضان.. فرحت أبحث عن حياته في هذا الجانب.. فرأيت أنه قَلَّما يمر به شهر، أو أسبوع من شهر؛ إلَّا كان يصوم فيه.. ونهى المسلمين عن صوم الوصال؛ لكنه كان يواصل الصوم يومين ـ بل ثلاثة أيام متوالية ـ لا يأكل فيهن ولا يشرب.. وكان بعض الصحابة يحب أن يقتدي به في ذلك؛ فيقول: (لستُ كأحدكم؛ أيُّـكم مِثلي؛ إن ربي يُطعمني ويَسقيني)
وربما كان يصوم شهرين متواليين: شعبان ورمضان.. وكثيرًا ما كان يصوم الأيام البيض (الثالث عشر، والرابع عشر، والخامس عشر) مِن كل شهر.. وغيرها.
سكت قليلا، ثم قال: لقد رأيت النصوص المقدسة تأمر المسلمين بإيتاء الزكاة وإنفاق المال في الخير.. فرحت أبحث عن حياته في هذا الجانب.. فرأيت أنه بدأ ذلك بنفسه.. لقد سمعتم شهادة زوجه خديجة له في ذلك؛ يوم قالت له: إنك تحمل الكَلّ، وتُعين علَى نَوائب الحق، وتُكسب المعدوم.. إنه لم يأمر الناس بأن يتّبعوه في ترك الدنيا، ولم يقل لهم: ضَحُّوا بكلّ ما في أيديكم من أموال، ولم يخبرهم بأن ملكوت السماوات موصدَة أبوابه في وجوه الأغنياء؛ وإنما الَّذِي أوصاهم به أن يتصدّقوا ببعض أموالهم؛ بينما هو لم يكن يدَّخر من المال شيئًا في بيته؛ بل كان يُنفق في سبيل الله جميع ما كان يملكه، ولم يكن قليلًا ما كان يأتيه من خُمس الغانم ـ من ذهب وفضة ومتاع، وغيره من عَرَض الدنيا ـ ؛ فكان يخرج عنه كله لغيره من الفقراء والمساكين، ولم يكن يتمتع هو ولا أهل بيته بمُتَع الحياة الدنيا؛ فكان حظه وحظ أهل بيته من الدنيا الفقر والتعفّف.
وكان من سُنّته بعد أن فُتِحَت أرض خيبر أن يوزِّع علَى أزواجه من الطعام والحبوب ما يكفيهم عامًا، لكنه قبل أن ينقضي العام كان يَنفَذ ما وزَّعه علَى أزواجه؛ فيمسّهم الجوع والسغب؛ لأنه كان يُنفق علَى المحتاجين وعلى الضيوف مما يجده في بيوت أزواجه.. يقول عبدالله بن عباس: (إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان أسخانا وأجودنا، وهو أسخَى ما يكون في شهر رمضان)، ولم يقل لسائل (لا) قطّ طول حياته، ولم يأكل شيئًا وحده مهما كان قليلًا؛ بل يُشْرِك فيه أصحابه، وقد أذَّن في الناس أنّ (مَن مات وعليه دَين؛ فدَينه عليّ أقضيه عنه، وما ترك من ميراث فميراثه لوَرَثته)
جاءه يومًا أعرابيّ؛ فقال: يا محمد؛ إن هذا المال ليس لك ولا لأبيك؛ فأوقر منه جَمَلي! فحمّله محمد من الشعير والتمر، ولم يسخط عليه ما أغلظه من القول، ثم قال: إنما أنا قاسم وخازن، والله هو المُعطي.
يقول أبو ذر: كنتُ يومًا أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في حرّة المدينة؛ فاستقبلنا جبل أُحُد؛ فقال: أبا ذر! قلتُ: لبيكَ يا رسول الله. قال: ما يَسُرّني أن عِندي مثل أُحُد ذهبًا تمضي علَيّ ثلاث ليال وعندي منه دينار، إلَّا شيء أَرْصُده لدَيْن.
لا تحسبوا أن ما قاله إنما هو كلمات عذبة وألفاظ يُتجمَّل بها؛ بل قال ما قاله عن عزيمة، ولم يُظْهِر للناس إلَّا ما كان يُكِنّه صَدْره ويعمل به مدّة حياته.
جاءه مرةً من البحرين ذهب وفضة وأموال جمّة؛ فأمر بوضع ذلك كله في فناء المسجد، ثم غدا علَى الناس يصلِّي بهم الصبح دون أن تقع عينه علَى ذلك المال في الجهة الَّتِي وُضِع فيها؛ فلما انصرف من الصلاة دعا الناس وطَفِق يوزِّع المال عليهم؛ حتى فرغ منه؛ فقام ينفض يديه وثوبه؛ لئلا يكون عَلِق بثوبه الطاهر شيء من غبار ذلك المال!
وجاءه من فدَك أربعة جمال موقرة بالطعام؛ فقضَى به بعض ديونه، وآتى منه بعض الناس، ثم سأل بلالًا: هل بقي من ذلك الطعام شيء؟ فأجابه بلال: لقد بقي منه شيء وليس هاهنا مَن يأخذ! فقال: لا أدخل بيتي ما بقي منه شيء! وبات تلك الليلة في المسجد، فلما أصبح بشَّره بلال قائلًا: إن الله قد وَضَعَ عنك ـ يعني: أنّ بقية الطعام قد قُسِّمت ولم يبقَ منه شيء ـ فشكر الله.
ودخل بيتَه ذات يوم بعد صلاة العصر علَى غير عادته، ولم يلبَث أن خرج منه؛ فاستغرب الناس ذلك؛ فقال لهم: إني تذكرت في الصلاة أن في بيتي شذرَة من الذَّهَب؛ فخشيتُ أن يجيء الليل وهي في بيت محمد!
ودخل بيته ذات يوم حزينًا كئيبًا؛ فسُئِلَ عن ذلك؛ فقال: يا أُمّ سلمة؛ إن ما جاءنا من الدنانير السبعة قد بقي في الفراش وقد حان المساء!
ومما يدلّ علَى زُهْده في الدنيا ومتاعها أنه في مرضه الَّذِي تُوفيَ فيه، كان يتقلّب علَى فراشه مِن شد المرض؛ فتذكّر وهو في هذِهِ الحالة أن في بيته دنانير؛ فأمر أن يُتصدّق بها؛ وقال: أيلقى محمد رَبّه وقد خلَّف في بيته دنانير؟!
هذَا بعض ما كان عليه في حياته من إنفاق المال والصدقة.
سكت قليلا، ثم قال: لقد رأيت النصوص المقدسة ترغب في الآخرة، وتزهد في الدنيا، وتحثّ علَى القناعةِ بالقليل منها، والكفافِ من العَيْش.. فرحت أبحث عن حياته في هذا الجانب.. فرأيت من ذلك ما ملأني بالعجب..
لقد كان محمد يقول: (ما لابن آدم من دنياه غير بيت يأوي إليه، وثوب يلبسه، وخبز جاف يأكله، وماء يشربه)([19])
إن محمدا لم ينطق بهذه الكلمات في الزُّهد بالدنيا إلَّا وقد رضي لنفسه بهذا القَدْر، وعَمِلَ به طول حياته، ولم يمُدّ عينه إلَى زهرة الدنيا وزينتها؛ فكانت له حُجْرة مطيّنة غير مشيّدة جدارنها، وكان سقفها من الخوص والوبر.
جاءه مرةً سائل يشكو الجوع الشديد؛ فأرسل إلَى أزواجه يطلب للسائل طعامًا من بيوتهن؛ فلم يجد عند إحداهن شيئًا غير الماء.
وشكا إليه بعض الصحابة الجوع ذات مرة؛ وكشفوا عن بطونهم فإذا حَجَر قد شدّه كل واحد علَى بطنه، وأراهم صلى الله عليه وآله وسلم بطنه وقد شدّ عليه حجرَين!
وكان صوته يضعُف أحيانًا من شدة الجوع! وذهب مرة إلَى بيت صاحبه أبي أيوب الأنصاري وهو جائع؛ فصنع له أبو أيوب طعامًا وقطف له بعض الرُّطَب من حديقته؛ فلما قدم إليه الطعام أخذ منه خبزًا ووضع عليه شيئًا من اللحم وقال: ابعثوا به إلَى فاطمة؛ فإنها لم تأكل شيئًا منذ أيام.
وكان يحب بنته وسِبْطَيه حبًّا جمًّا، غير أن حبه لهم لم يحمله علَى أن يكسوهم لباسًا ناعمًا أو يحلِّي بنته حِلية ثمينة، ورأى فاطمة قد لبست ذات يوم قِلادة من الذهب جاءها بها زوجها عليّ؛ فقال لها: يا فاطمة؛ أتحبين أن يقال إن بنت محمد قد لبست طَوقًا من نار؟ فنزعت تلك القِلادة من عنقها؛ واشترت بثمنها عبدًا وأعتقته.
هذا قوله.. أما عمله: فيدلّ عليه ما رُوِي أن أحد الصحابة دخل عليه فرآه قد أثَّر الحصير في جسمه الشريف؛ فقال: ألَا نهدي إليك فَرْشًا وثيرًا؟ فأجابه: ما لي ولدنياكم؛ ليس لي إليها حاجة إلَّا كما يستظل الراكب في طريقه ليستريح ساعة من نهار، ثم يمضي قُدُمًا!
وفي السنة التاسعة للهجرة ـ وكانت رُقعة الدولة الإسلامية قد امتدت إلَى اليمن والشام، ولا ينفُذ فيها إلَّا أمره ـ حتى إنه لم يكن يملك إلَّا إزارًا وسريرًا خشنًا لا فَرْشَ له، ووِسادة حشوها لِيف، وقليلًا من الشَّعير، وجِلد حيوان في ناحية من البيت، وقِرْبة ماء معلّقة علَى وَتَد.
فإذا كان ذلك هو تزهيده الناس في الدنيا؛ فهذا هو عمله الَّذِي رأيتُم.
سكت قليلا، ثم قال: لقد رأيت النصوص المقدسة ترغب في الإيثار، وسمعتُ كثيرًا من الناس يخطبون في (الإيثار)، ويحثّون الناس عليه.. ولكني لم أر مثالًا عمليًّا للإيثار في صحيفة حياة واعظ.. الإنسان الوحيد الذي وجدته تحقق بالإيثار في أعلى درجاته هو محمد..
أنتُم تعلمون مبلغ حُبه لابنته فاطمة، ومع ذلك؛ فإنها كانت تطحن بيدها حتى مُجّت، وتحمل قِرْبة الماء علَى صدرها حتى اخْضَرّ؛ فجاءته ذات يوم تسأله خادمة، والإماء يومئذ كثيرة؛ فقال لها: يا فاطمة؛ لم أَفْرُغ بعدُ من حاجات أهل الصُّفّة؛ فكيف أقضي حاجتك؟
سكت قليلا، ثم قال: لقد رأيت النصوص المقدسة ترغب في الثقة في الله والتوكل عليه، وسمعتُ كثيرًا من الناس يخطبون في ذلك، ويحثون عليه.. ولكني لم أر مثالًا عمليًّا لذلك سوى في حياة محمد.
أنتم تعلمون أنه بُعِثَ في أُمّة أُمِّيّة ذات حميّة وأَنَفة تمنعها أن تسمع كلمة مخالفة لعقائدها ومزاعمها، لكن ذلك لم يمنع محمدا من أن يقوم برسالته صابرًا مُثابرًا؛ فكان يوحِّد الله في المسجد الحرام، ويصلِّي علَى أعين المشركين في فناء المسجد الَّذِي كان ناديًا لهم ومجتمعهم؛ فكان يركع لله ويسجد أمامهم غير مُبالٍ بهم. ولما نزل عليه:{ فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} (الحجر:94) صَعَدَ جبل الصَّفَا ونادى المشركين؛ فلما اجتمعوا إليه؛ بلَّغهم دعوة الله غير مبال بمواقفهم المتشددة منه.
لقد امتحنوه بضُروب من الأذى؛ حتى ألقوا عليه مرة سَلي جَزُور وهو قائم يصلِّي في فناء البيت الحرام، بل أرادوا مرةً أن يخنُقوه بالرِّدَاء، وألقوا الشوك في طريقه؛ لكنه لم يقابل ذلك إلا بصبر تندك له الجبال.
لقد حَصَرَته قريش، ومعه قومه من بني هاشم في شِعْب أبي طالب مدة ثلاثة أعوام، ومنعوهم الطعام حتى كان الصِّبيان يتضوّرون جوعًا، واضطر الرجال أن يقتاتوا بورق الشَّجَر، ثم بيّتوا قتله؛ لكن محمدا لم يُداخله الخوف ولم يتردد في تبليغ الرسالة الَّتِي بُعِثَ به.
وبعد أن نجّاه الله وخرج إلى المدينة؛ لم يأمن غوائل قريش ومكايد اليهود؛ فكان مُحاطًا بالأخطار من كل جانب؛ حتى كان المسلمون يحرسون بيته في الليل؛ فنزلت هذِهِ الآية:{ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} (المائدة:67)؛ فخرج لساعته من الخَيمة، وقال للَّذِين يحرُسونه: اذهبوا؛ فإنّ الله وعدني بعِصْمَته وتولَّى حِفظي.
ورجع من عزوة نجد؛ فاستطلّ بشجرة في ساعة الهاجرة، وتفرق عنه أصحابه ولم يبق عنده أحد، ولما غَلَبته عيناه؛ جاءه أعرابيّ من المشركين وقد سَلّ سيفه؛ فانتبه محمد؛ فقال له الأعرابيّ: (من يعصمك مني؟).. تأمّلوا حَرَجَ هذا الموقف.. فأجابه محمد ـ وجأشه رابط، وقلبه مطمئن بالإيمان ـ: (الله)، فما طرقت هذِهِ الكلمة سمع الأعرابيّ حتى تأثّر بها وأغمد سيفه.
وخرج المسلمون إلَى ساحة بدر في قِلّة من العَدد والعُدَد، وهم لا يزيدون علَى ثلاثمائة وثلاثة عشر مقاتلًا، بعضهم معه سيف بلا رُمْح، وبعضهم معه رُمْح ولا سيف معه، وعَدُوّهم نحو ألف مقاتل في سلاح تام وعَتاد كامل؛ فالتقى الجمعان وحميَ وَطيس الحرب.. ترى أين هو قائد جيش المسلمين؟ انظروا؛ ها هو قد اعتزلهم لاجئًا إلَى ربه يدعوه تارةً، ويستفتح علَى المشركين، ويسجد لله تارةً؛ وهو يقول: (اللهمّ أنشدك عهدك ووعدك، اللهمّ إن شئتَ لم تُعبد بعد اليوم)
وربما وقع الخلل في صفوف المسلمين وتفرّقوا عنه؛ فيبقَى هو ثابتًا في موضعه كالجبل الَّذِي لا يزعزعه شيء، واثقًا برَبّه، متوكِّلًا علَى تأييده، راجيًا نصره، كما وقع في سَفْح أُحُد؛ حين تفرّق عنه أكثر الصحابة؛ فثبت هو مكانه، والمشركون تارةً يحملون عليه بالسيوف، وأخرى يَشُدّون عليه الرِّماح، ويرمونه أحيانًا بالحجارة والسّهام؛ حتى انكسرت ثَنيّته، وشُرِخ رأسه، ودخلت في رأسه حلقة المِغْفر؛ ففي تلك الساعة الرهيبة كان واثقًا بنصر الله الَّذِي وَعَده بعِصْمته فلا يخذله.
وكذلك وقع في حُنين؛ حين كانت سِهام المشركين تقع علَى المجاهدين المسلمين كالمطر؛ فتفرق المسلمون، لكن محمدا لم يبرح مكانه؛ بل ظلَّ ثابتًا يدعو الناس إلَى الله؛ وهو يقول:
أنا النبـيّ لا كَـــذب أنا ابن عبــدِ المطلـب
ثم ترجَّل عن مَطِيّته؛ وقال: (أنا عَبْد الله ورسوله)، ورفع يديه يسأل الله ويدعوه.
إخواني وخلاني.. هل سمعتُم بقائد باسل لا يُبالي بقِلّة جيشه ونقص عُدّتهم، ولا ينكص علَى عَقِبيه، ولا ينسحب من ساحة القتال وإن تفرّق عنه جنده، ويستغني عن سلاحه باستنجاد ربه وطلب نصرته؟ ذلك كان مبلغ ثقته بالله، ويقينه بنصرته، واعتماده علَى مَدَده.
سكت قليلا، ثم قال: لعلكم سمعتُم بواعظ يعظ الناس بأن يحبوا أعداءهم، ويحثهم علَى مودة مُبغضيهم.. لكن هل رأيتُم مثالًا عمليًّا على ذلك؟
إن شئتم أن تروا هذا المثال فتعالَوا معي إلَى مدينة محمد؛ لنرى أمثلة رائعة للعمل بالمبادئ لا أظنكم ترون مثلها في أمكنة أخرى.. اتْرُكوا ما جرى في مكة؛ فإن محمدا لم تكن له فيها قوة؛ فلا نضرب المثل منها للحِلْم والعفو عن مَقْدِرة.
لاشك أنكم تعرفون مكانة أبي سفيان من مُشركي قريش، ونشاطه في مقاومة الإسلام؛ حتى لم يَدَع محمدا يقر قراره ويطمئن باله في المدينة، وهو الَّذِي زحف بالجيوش، وعبَّأ المشركين في بدر وأُحُد والخَندق، وكان قائدهم في معظم الحروب الَّتِي قامت بين المسلمين ومُشركي العَرَب، وكم من مسلم قُتِل، وجريح جُرِح في تلك المعارك، لكن أبا سفيان هذا ـ مع كل ما تقدَّم منه ـ جاء إلَى محمد مع عَمّه العباس قبل فتح مكة، ولو أنه قتله لكان بذلك معذورًا، لكن رحمته وسعت أبا سفيان؛ فشمله بعفوه، ولم يكتَفِ بالعَفْو؛ حتَّى أكرمه وأعزّه ونادَى في الناس يوم فتح مكة: (مَن دخل دار أبي سفيان فهو آمن)
لاشك أنكم تعرفون هندا ـ زوج أبي سفيان ـ في الحروب؛ وهي التي كانت مع لداتها من نساء المشركين ترجُز وتحرِّض على القتال، وتخطب في غزوة أُحُد، وهي التي مثَّلت بعمِّ محمد حمزةَ؛ فلما رأى محمد عمَّه حمزة بعد الحرب وقد مُثِّل به؛ جَزِع لذلك المنظر المؤلم، ومع كل هذا؛ فقد أتته هند يوم الفتح متنقبة؛ فلم يتعرَّض لها، ولم يسألها عما فعلت؛ بل عفا عنها وصَفَحَ؛ فلما رأت هذا العفو النبيل؛ أكبرته، ولم تتمالك أن صاحت قائلة: يا محمد؛ لم يكن أهل خباء أبغض إليّ من أهل خبائك قبل اليوم، وأنا اليوم ليس أهل خباء أحب إليّ من أهل خبائك.
وبعد فتح الطائف؛ خرج وَحْشيّ قاتلُ حمزة هاربًا يلتمس مكانًا آخر؛ فاختبأ به، فلما أظلّ سُلطان الإسلام هذا المخبأ الَّذِي لجأ إليه وَحْشيّ؛ قال له القائل: إنّك لا تعلم ما نعلم من أمر محمد؛ إنك لن تجد لنفسك مأمنًا إلَّا عنده؛ فحضره خائفًا؛ فلما وقع عليه نظر محمد، وغض عنه بصره؛ وتذكّر في تلك اللحظة عمّه حمزة وقتلَه بيدِ هذا الرجل؛ فذَرَفَت الدموع من عينَيه الشريفَتَين، وها هو القاتل أمامه، ولو أراد أن يقتصّ منه لكان ذلك حقًّا وعدلًا؛ لكنه عفَا عنه، واكتفي بأن صَرَفَه قائلًا: (إليكَ عنِّي؛ فإنِّي إذا رأيتُك تذكرتُ عمي حمزة وشهادتَه)
وهذا عِكْرِمَة وأبوه أبو جهل؛ كانا أعدَى عدو للإسلام والمسلـمين ولمحمد خاصة؛ فأبو جهل آذَى محمدا أذًى لم يؤذَه أحد مثله، وابنه عِكْرِمَة قاتل المسلمين؛ فلما فتحت مكة خاف علَى نفسه مما فعله هو وأهل بيته بالنبي والمسلمين؛ ففرّ ناجيًا بنفسه إلَى اليمن، وكانت زوجه قد أسلمت من قبل وعرفت محمدا حق المعرفة؛ فذهبت بنفسها إلَى اليمن وربطت علَى قلب زوجها وهدأت روعه؛ ورجعت به إلَى المدينة؛ فلما بلغ محمدا قدومه سارع إليه يرحِّب به؛ حتى سقط عنه رِداؤه؛ ثم قال لعِكْرِمَة بن أبي جهل ـ وهو فَرِح مسرور ـ: (مرحبًا بالراكب المهاجِر)
هل تعلمون بمَن يرحِّب محمد، ومَن هو هذا القادم الَّذِي فَرِح بقدومه حتى سقط عن مِنكبه رِداؤه، وشمله بعفوه وصَفْحه؟ إنّ هذا كله لرجل سَبَقَ منه قبل إسلامه أن قاتل المسلمين وآذاهم، بل هو ابن الَّذِي ألقى علَيه سَلي جَزُور، والذي هَمّ أن يهجم عليه وهو يصلِّي في المسجد الحرام، والذي هَمّ أن يخنُقه بالرِّدَاء، والذي أشار في دار النَّدْوَة بقتله، والَّذِي أوقد نار الحرب بساحة بدر، وكادَ للإسلام المكايد ولم يقبَل الصُّلْح.. هذا ابن ذلك العدوّ الألَدّ، ولم يكن هذا الولد قد اعتزل أباه؛ بل شاركه في جميع فعلاته، فلما قَدِمَ علَى محمد وهو في أوج قُوّته؛ هَشّ له وبَشّ، ورحّب به واستقبله بوجه طَلق وصَدْر رَحِب.
وعمير بن وهب تآمر على قتل محمد مع صفوان بن أمية، بعد وقعة بدر؛ فخرج إلى المدينة يترصّد محمدا، ومعه سيف مسموم؛ فوقع أسيرًا بأيدي المسلمين، وثبتَت عليه جرائمه؛ فخلَّى محمد سبيله، ولم يمسَسه بسوء.
ولما فتح محمد خَيبر ـ مَعْقِل اليهود العظيم وحِصنهم المنيع ـ ؛ صَنَعَت يهودية طعامًا ودَعَت إليه محمدا، فأجاب دعوتها؛ فقدَّمت له لحمًا مسمومًا؛ فلما تناول منه؛ أعلمه الله بذلك؛ فأمسك يده عنه، ودعا باليهودية فسألها عن الشاة المسمومة؛ فاعترفت بجريمتها، وقد بَلَغَ من حِلْم محمد أن تجاوز عنها، ولم يؤاخذها علَى ذلك بسوء مع أنه بقي مُدّة حياته يشعر بأثَر ذلك السُّمّ.
وقبص المسلمون علَى ثمانين من المشركين يوم فتح مكة، وكانوا ممن يحرصون علَى قتل محمد؛ فلما بَلَغَه أمرَهم؛ أمر بتخليَة سبيلهم، ولم يمسسهم بسوء!
سكت قليلا، ثم قال: إخواني.. لاشك أنكم تعلمون الطائف وأهلها، وكيف قابلوا محمدا بالشرّ والأذى، أيام كان في مكة يعاني صنوفًا من المصاعب والمعضلات.. إن أهل الطائف لما عرض عليهم الرسول نفسه ليجيروه؛ جبّهوه ورَدّوه أقبح رَدّ، ولم يصغُوا إلَى دعوته، وإن سيد الطائف ورئيسها عبد ياليل استهزأ به هو وعشيرته، وأغرى به طغام أهل الطائف وسَفَلَتها ليسخَرُوا منه؛ فلما مَرّ بالطريق ـ وقد اصطفوا صَفّـيـن ـ ؛ رموه بالحجارة؛ فجُرِحَت قدماه وسالت منهما الدماء علَى حِذَائه، وكان كلما جلس يستجمّ من التَّعب يمنعونه من الجلوس، وإذا مرّ بهم يرجمونه بالحجارة. وإنّ ما لقيه من أذى أهل الطائف لم ينسه طول حياته؛ ولقد سألته عائشة ـ بعد ذلك بتسع سنين ـ عن أشدّ ما لقيه من البَلَاء؛ فأخبرها بأنه يوم الطائف، وكان بعد ذلك أن زحف المسلمون علَى الطائف في السنة الثامنة للهجرة، وحاصروها فأطالوا حصارها؛ واستعصى عليهم حصنها الحصين الَّذِي قُتِل فيه كثيرون منهم؛ فهَمّ محمد أن يرجع عنهم، لكن أصحابه أبوا إلَّا الفتح، وسألوا محمدا أن يدعو علَى أهل الطائف؛ فرفع يديه إلَى السماء يدعو فقال: اللهمّ اهْد أهل الطائف، اللهمّ ألِن قلوبهم للإسلام، ومَكّنه فيها!
هذه هي رحمة محمد، وسَعة صدره، وسجاحة خُلُقه، وكرم نفسه؛ يدعو بالخير للذين آذَوه بالشرّ أشدّ الأذى، وأبَوا أن يجيروه حين استجار بهم، ثم قاتلوه أشدّ القتال، ومع كل هذا؛ لم يسأل الله لهم إلَّا أعظم ما يعلمه من الخير ـ وهو الهدى ـ! أرأيتُم رجلًا آخر في الدنيا بلغت الرحمة من قلبه هذا المبلغ؟
دارت رحَى الحرب علَى المسلمين بعد أن كانت الغَلَبَة لهم؛ وذلك لأنهم خالفوا أمر محمد، واستهوتهم أموال المشركين؛ فاشتغلوا بجمع الغنائم، وحينئذ كرّ عليهم العدو؛ فانهزموا وزُلْزِلت أقدامهم؛ فأحاط المشركون بمحمد؛ ورَمَوه بالسهام والحجارة، وقاتلوه بالسلاح؛ فانكسرت ثَنيّته، وشُجّ رأسه، ودخل فيه ثلاث حلقات من البيضة، وتضرّج بالدم؛ فلم يزد في ذلك الموقف الرهيب علَى أن قال: (كيف تفلح أمة تقتل نبيَّها؟ اللهمّ اهْدِ قومي فإنهم لا يعلمون)
إذا كان المسيح قد قال في عِظَة الجبل: (أحبب عدُوَّك)؛ فإن محمدًا لم يقتصر علَى إرشاد الناس بلسانه بأن يحبوا أعداءهم؛ بل أراهم بسيرته وعمله كيف يكون موقفهم من أعدائهم.
إن عبد ياليل ـ وأظنكم تذكرون اسمه ـ قد جبه محمدا هو وعشيرته بالمكروه وآذَوه أذًى شديدًا، فلما نزل مع قومه علَى محمد في المدينة ـ بعد ذلك ـ ؛ أنزله في مسجده، وضرب له قبّة فيه، وجعل يزوره بعد كل عشاء، ويقصّ عليه ما كان يلقَى وهو في مكة من عَناء وجهد.. ومَن هو عبد ياليل؟ هو الَّذِي استقبل محمدا في الطائف بالأذَى، ورجمه بالحجارة، وسامه الخَسف.. فهل عُهِدَ من أَحَد فيما مضَى أن يحب عدوه، ويعفو عنه بمثل هذِهِ السماحة عند المقدرة؟
ولما فتح المسلمون مكة ودخلوها أعزة ظافرين؛ اجتمع رجال قريش وأشرافها بفناء المسجد الحرام، وفيهم مَن كان قد شتم محمدا وأذاقه ضروب الأذى، وفيهم مَن كان قد ائتمر عليه بالقتل، وفيهم مَن كذَّب برسالته وافترَى عليه، وفيهم مَن قاتله وتذرَّع بكل وسيلة لمحو الإسلام، وفيهم مَن طعنه بالرُّمْح وضربه بالسيف، وفيهم مَن آذوا فقراء المسلمين وضعفاءهم وكووا صدورهم وظهورهم بالجمر الملتهب، كل أولئك من رجال قريش وساداتها كانوا يوم فتح مكة واقفين مُنكِّسي رؤوسهم صاغرين، ولعلهم كانوا يتذكرون ما سلف منهم، وتحز ذكراه في ضمائرهم، مترقِّبين أن يُوقِع بهم محمد جزاءَ ما اقترفوا، وحُقّ لهم أن يخافوا؛ فإن الَّذِي أَجْلَوه عن وطنه، وأخرجوه من داره؛ قد عاد إليهم فاتحًا عزيزًا يقود تحت راياته عشرة آلاف من الأبطال الباسلين الَّذِين ينتظرون أوامر سيدهم لينفِّذوها.
في ذلك الموقف الرهيب سألهم محمد: ماذا ترون أني فاعل بكم؟
قالوا: خيرًا؛ أخ كريم وابن أخ كريم. فقال محمد: أقول اليوم ما قال يوسف لإخوته:{ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ } (يوسف: 92).. اذهبوا فأنتم الطُّـلَقاء!
هذه هي محبة الأعداء والعفو عنهم، وهذا ما حقَّقه محمد، وضرب به المثل للسماحة الَّتِي لا عهد للدنيا بمثلها؛ فذلك هو العفو والصَّفْح، وتلك هي دماثة الخُلُق، وسعة الصدر، وكرم المعدن.
إنه لم يَدْعُ الناس إلَى فضيلة إلَّا بدأ بها بنفسه.. ولم تكن دعوته كلمات عذبة يرسلها علَى الناس؛ ولكنها كانت عملًا يتقدّم به إلَى الإنسانية، ليكون لها منه أسوة وقدوة.
سكت قليلا، ثم قال: تأمَّلُوا حياة الأنبياء، وتفكَّروا فيمَن سَلَفَ من المصلحين من الشام إلَى أقصى الهند؛ فهل تعرفون واحدًا منهم عُمِّرَت حياته بمثل هذِهِ الأعمال الجليلة المتنوعة، وبمثل هذِهِ الأفعال العظيمة الكاملة؛ الَّتِي يرى فيها الناسُ أسوة لهم، ومنهاجًا لحياتهم الشخصية والاجتماعية؟
من السهل على أي واعظ أن يذكر في مواعظه وخطبه (الحب الإلهي) بكلمات عذبة وألفاظ فصيحة رائعة، ولكن ـ كما قيل ـ إن الشجرة تُعْرَف من ثمرها؛ فماذا كان أثر الحب الإلهي الطاهر في حياته العملية؟
تعالَوا ادرسوا سيرة محمد الَّذِي كان يحب الله؛ تجدوه قائمًا في ظلمات الليل يصلِّي والناس نيام، ثم ترونه باسطًا ذراعيه إلَى السماء يسأل ربه إقامة الحق وتيسير الخير، وقلبه خاشع، وطرفه دامع، ولسانه رطب بحمد الله وتسبيحه وتمجيده. أليست هذِهِ هي صورة الحب الإلهي في أكمل حالاتها؟
إن المسيحيين يروون عن المسيح أنه لما قبَضَ عليه أعداؤه وأرادوا صَلْبَه؛ انطلق لسانه مناديًا: (إيلي، إيلي! لِـمَ شبقتني؟!)؛ أي: ربي، ربي! لماذا تركتني وخذلتني؟!
أما محمد؛ فإنه لما دنا من الموت، وأيقن أنه تارك هذِهِ الدنيا، وكادت روحه الطاهرة تفيض صاعدة إلَى ربها؛ أخذ يُناجي ربَّه قائلًا: (اللهمّ إلَى الرفيق الأعلى)! فهو في حَنين شديد إلَى لقاء ربه، وفي شوق عظيم إلَى رفيقه الأعلى.. فأيّ الجملتين أدلّ علَى الحب الإلهي، وأيهما أصرح في الحنين إلَى لقاء رب العالمين؟
قال رجل من الجمع: وعينا هذا وفهمناه، ولا يمكننا إلا أن نسلم بما ذكرت.. فهو مما تظافرت عليه الأدلة، وتواترت بنقله الأخبار.. فحدثنا عن الدعامة الثالثة التي استندت إليها في التعرف على كمال محمد العملي.
قال: الدعامة الثالثة هي الآثار العملية..
قال الرجل: ما تقصد بذلك؟
قال: لقد وجدت أن المرء قد يكون صالحا.. وقد يبلغ به الصلاح قمة درجاته.. لكن صلاحه يظل محصورا فيه لا يتعدى إلى غيره.. ولهذا فإن الكامل من الصالحين هو من يتعدى صلاحه لغيره.. فيصير أسوة كاملة يحتذى بها في كل الميادين.
قال الرجل: فهل تحقق هذا لمحمد؟
قال: لقد بحثت في سير العظماء.. فلم أجد شخصا قدم تعاليمه بشكل عملي كما قدمها محمد..
إن جميع الأديان والنِّحَل حَثَّت الناس علَى اتِّباع أصحاب هذِهِ الأديان، وأن يقتفوا آثارهم، ويعملوا (بأقوال) أنبيائهم؛ لينالوا بذلك رضاء الله ومحبته.. أما الإسلام؛ فقد اختار طريقًا آخر خيرًا من ذلك؛ وهو أنه قدم للناس (أعمال) نبيه، وعرض عليهم التأسي به في سيرته كاملة ليس فيها خَرْم، وجعل اتِّباعهم لتلك السيرة وتأسيهم بصاحبها وسيلة لهم في الحصول علَى رضاء الله ومحبته..
لأجل ذلك؛ ترى في الإسلام مرجعَين: كتاب الله، وسُنة نبيه؛ فكل الأحكام النظرية الواردة في الكتاب مؤيدة بالتطبيقات العملية الواردة في السنة.
وقد شملت السنة بتطبيقاتها العملية كل ما يحتاجه جميع البشر في جميع حالاتهم..
قال الرجل: كيف يكون هذا.. والبشر ليسو طائفة واحدة.. والدنيا قد قام بنيانها علَى التنوع في الأعمال والاختلاف في الأفعال، ولولا أن الناس مختلفون في مهنهم ومكاسبهم وأشغالهم ومعايشهم لخربت الدنيا.. فهل يمكن لكل هؤلاء أن يجدو أسوتهم في سيرة رجل واحد؟
قال: لقد بحثت في ذلك.. فوجدت لكل هؤلاء ما يكفيهم من سيرة محمد وسنته لينتهجوا نهجه، ويتحققوا بالكمال الذي تحقق به.
لقد وجدت أن السُّنَّة المحمدية تكفي جميع شعوب البشر وطوائفهم وفرقهم إذا اتخذوا منها الأسوة والقدوة.
قال الرجل: كيف ذلك، وحياة المحكوم لا تصلح لأن تكون قدوة لحياة الحاكم، كما أن حياة الحاكم لا تصلح لأن تكون قدوة لحياة المحكوم.. والفقير المعدَم لا يتسنَّى له أن يسير في معيشته علَى ضوء من حياة الغني المثري، والغني لا يتسنى له أن يسير في معيشته على ضوء من حياة الفقير؟
قال: ولهذا امتلأت عجبا عندما رأيت أن الله وفر لمحمد حياة جامعة؛ يجد فيها الناس كلهم علَى اختلاف طوائفهم الأسوة الكاملة في جميع ألوان الحياة وأطوارها.. لقد رأيت أنها تشبه الباقة الجامعة لكل أصناف الزهور والورود بجميع ألوانها؛ ففيها الأحمر القاني، والأبيض الناصع، والأخضر الناضر، والأصفر الفاقع.
لقد بحثت في حياة سائر العظماء.. فلم أجد هذه الصفة إلا عند محمد..
لقد رأيت أن حياة موسى تمثِّل القوة البشرية العظيمة والبطش الشديد، لكني لم أر في المأثور عنه ما تكون لنا فيه الأسوة من ناحية دماثة الخلق وخفض الجَناح وسجاحة النفس وسماحتها.
ورأيت في حياة المسيح نماذج لسماحة النفس ورقة الطبع ودماثة الخلق ولين الجانب؛ لكني لم أجد ـ فيما وصل إلينا من أخلاقه وأعماله ـ تفاصيل عن شؤون حياته وأسرته؛ تحرك ساكن القوى، وتثير كوامن النفس، وتنبه القوى المتراخية.
مع أن الإنسان في حياته محتاج إلَى هذا وهذا؛ فكما يحتاج إلَى ما يهدئ ثائر قواه ويسكن جائشها؛ يحتاج كذلك إلَى ما يثير الكامن من هذِهِ القوى ويهيج ساكنها وينبه المتراخي منها.
إنه في حاجة إلَى حياة يتخذها قدوة له في هاتين الحالتين المختلفتين، علَى أن يكون بيَد صاحبها ميزان العدل بالقسط تستوي كفتاه، ولن تجد الجمع بين هاتين الخصلتين المختلفتين جمعًا قويمًا عزيز الوجود إلَّا في حياة محمد؛ فإنه هو الَّذِي مَثَّلت حياته أعمالًا كثيرة متنوعة بحيث تكون فيها الأسوة الصالحة، والمنهج الأعلى للحياة الإنسانية في جميع أطوارها؛ لأنها جمعت بين الأخلاق العالية، والعادات الحسنة، والعواطف النبيلة المعتدلة، والنوازع العظيمة القويمة.
كان الواعظ الذائع الصيت الأستاذ حسن علي يُصْدِر في (بتنه) قبل خمسين عامًا مجلة (نور الإسلام)، وقد قال في جزء منها: إن صديقًا له من البراهمة قال له: إني أرى رسول الإسلام أعظم رجال العالم وأكملهم؛ فقال له الأستاذ حسن علي: وما هي منزلة المسيح عيسى ابن مريم عندك من رسول الإسلام؟ فأجابه: إن المسيح ابن مريم عندي في جانب محمد كمِثل ولد صغير يتكلم بكلام عذب، ويتحدث حديثًا حلوًا عند أعقل أهل زمانه وأكثرهم حَزْمًا.. ثم سأله حسن علي: وبماذا كان رسول الإسلام عندك أكمل رجال العالم؟ فأجاب: لأني أجد في رسول الإسلام خِلالًا مختلفة، وأخلاقًا جمّة، وخصالًا كثيرة لم أرها اجتمعت في تاريخ العالم لإنسان واحد في آن واحد؛ فقد كان مَلِكًا دانت له أوطانه كلها يصرِّف الأمر فيها كما يشاء، وهو مع ذلك؛ متواضع في نفسه يرَى أنه لا يملك من الأمر شيئًا وأن الأمر كله بيد رَبه. وتراه في غنى عظيم تأتيه الإبل موقرة بالخزائن إلَى عاصمته، ويبقى مع ذلك محتاجًا ولا توقَد في بيته نار لطعام في الأيام الطوال، وكثيرًا ما يطوي علَى الجوع! ونراه قائدًا عظيمًا يقود الجند القليل العَدَد الضعيف العُدَد؛ فيقاتل بهم ألوفًا من الجند المدجّج بالأسلحة الكاملة، ثم يهزمهم شر هزيمة، ونجده محبًّا للسلام مُؤْثِرًا للصُّلْح؛ ويوقِّع شروط الهدنة علَى القرطاس بقلب مطمئن وجأش هادئ، ومعه ألوف من أصحابه كل منهم شجاع باسل وصاحب حماسة وحميّة تملأ جوانحه، ونشاهده بطلًا شجاعًا يصمُد وحده لآلاف من أعدائه غير مكترِث بكثرتهم. وهو مع ذلك؛ رقيق القلب، رحيم رؤوف، متعفِّف عن سَفْك قطرة دم، وتراه مشغول الفكر بجزيرة العرب كلها، بينما هو لا يفوته أمر من أمور بيته وأزواجه وأولاده، ولا من أمور فقراء المسلمين ومساكينهم، ويهتم بأمر الناس الَّذِين نَسُوا خالقهم وصَدُّوا عنه؛ فيحرص علَى إصلاحهم. وبالجملة؛ إنه إنسان يهمه أمر العالم كله، وهو مع ذلك؛ مُتبتِّل إلَى الله، منقطع عن الدنيا؛ فهو في الدنيا وليس فيها، لأن قلبه لا يتعلق إلَّا بالله وبما يرضي الله. لم ينتقم من أحد قط لذات نفسه، وكان يدعو لعدُوِّه بالخير، ويريد لهم الخير، لكنه لا يعفو عن أعداء الله ولا يتركهم، ولا يزال يُنذِر الَّذِين قد صَدُّوا عن سبيل الله ويوعدهم عذاب جهنم. تراه زاهدًا في الدنيا عابدًا، يقوم الليل لذكر الله ومناجاته، كما تتصور من شمائله أنه الجندي الباسل المقاتل بالسيف، وتراه رسولًا حصيفًا ونبيًّا معصومًا في الساعة الَّتِي تتصوره فيها فاتحًا للبلاد ظافرًا بالأمم! وإنه ليضطجع علَى حصير له من خوص، ويتكئ علَى وِسادة حَشوها من لِيف، حينما يخطر علَى بالنا أن ندعوه بسلطان العرب، وننادي به مَلِكًا علَى بلاد العرب! ويكون أهل بيته في فاقَة وشدة عَقِب استقباله الأموال العظيمة آتية إليه من أنحاء الجزيرة العربية؛ فتكون في فناء مسجده أكوامًا، وتأتيه بِنته وفلذة كبده فاطمة تشكو إليه ما تكابده من حمل القِرْبة والطَّحْن بالرَّحَى؛ حتى مُجَّت يداها، وأثرت القِرْبة في جسمها، ومحمد يومئذ يقسِّم بين المسلمين ما أفاء الله عليهم من عبيد الحرب وإمائها؛ فلا تنال بِنته من ذلك إلَّا دعاؤه لها بكلمات يعلِّمها كيف تدعو بها ربها..
لقد روى الخطيب البغدادي في تاريخه ـ بإسناد ليِّن ـ أن نِداءً سُمِعَ عند مولد محمد يقول: طُوفُوا بمحمد جميع البلاد، واغطسوه في قعر البحار؛ ليعرف العالم كله، ثم اذهبوا به إلَى جميع الإنس والطير والحيوان، وأعطوه من خُلُق آدم، ومعرفة شيث، وشجاعة نوح، وخُلَّة إبراهيم، ولسان إسماعيل، ورضا إسحق، وبلاغة صالح، وحكمة لوط، وشِدّة موسى، وصبر أيوب، وطاعة يونس، وجهاد يوشع، ولحن داود، وحُبّ دانيال، ووقار إلياس، وعِفّة يحيى، وزُهْد عيسى، واغمسوه في بحر أخلاق الرسل كلهم.
مع أني لا أطمئن إلى صحة هذه الرواية.. ولكن معناها صحيح.. والعلماء الَّذِين رووا هذِهِ الرواية في كتبهم أرادوا بها أن يُعْرِبُوا عن حقيقة سيرة محمد؛ وأنها كاملة جامعة، وأن ما أُعطي الرسل جميعًا متفرقين قد أُوتيه محمد وحده، وأن ما تفرق من مكارم الأخلاق في الرُّسل قد اجتمع فيه.
تأمَّلوا سيرة محمد تجدوا فيها كلّ ما كانت به حياته المثاليّة كاملة. أليس محمد المكيّ الذي خرج من بلده مهاجرًا إلى يثرب يُشبه الرسولَ الإسرائيليّ الذي خرج من مصر يُريد مَدينَ؟
أليس الذي انزوَى في غار حِراء يعبد ربه؛ كالذي قصد جبل سيناء ليُناجِي ربَّه؟
إن المسيح في ذهابه إلَى جبل الزيتون ليلقي عِظته؛ يُشابه محمدًا وقد ارتقى جبل الصَّفا لينادي معاشر قريش.
والذي قاتل مشركي بلاد العرب في بدر وحُنين ويوم الأحزاب وتَبوك؛ يُشبه الأنبياء الَّذِي قاتلوا المؤابيين والعمونيين والآموريين.
وإنّ محمدًا دَعا على سبعة رجال من أعيان مكة؛ فهلكوا، وموسَى دَعا على فرعون ومَن التفّ حوله حين رأوا بأعينهم آية بيّنة من الله مرةً بعد أُخرى، لكنهم لجـُّوا في عُتُوٍّ ونُفور، ولم يؤمنوا به؛ فهلكوا مغرَقين في البحر الأحمر؛ فتشابهت سُنَّة محمد وسُنَّة موسَى.
إن محمدًا دعا بالخير لمن أراد قتله من المشركين يوم أُحُد، وإن المسيح لم يَدْعُ علَى أحد وما زال يبغي الخير لأعدائه.. أليس هَدي محمد يُشابه من هذِهِ الناحية هَدي المسيح؟
إن محمدًا حين تراه في فِناء المسجد يقضي بين الناس بالحق ويحكم بالعدل، أو في ساحات الحرب يقاتل الكفار والمشركين؛ فكأنك ترى موسى وهو يجاهد أعداءه ويقاتل الَّذِين يعبدون الأوثان.
وحين ترى محمدًا يعبد ربه ويتضرع إليه في خُلْوة عن الناس ـ إمّا في حُجرة منفردة، أو في مغارة الجبل وقد أرخى الليل سدوله ـ ؛ فكأنك ترى المسيح وقد خلا بنفسه يوحِّد الله ويناجيه بالعبودية له.
ولو رأيتَ نبي الإسلام وهو يذكر الله دائمًا ويحمده ويسبِّحه في البُكور والآصال وفي كل حال؛ فكأنك برؤيته ترى داود صاحب الزَّبُور في ترتيله محامد الله ونعمه.
وكأنك ترى سليمان في جنوده وعليه جلال المَلِك وأُبَّهة السلطان؛ حينما ترى محمدًا بين أصحابه وقد فتح مكة ودخلها تحت رايات المجاهدين، بأيديهم السيوف مصلَّتة لإقامة الحق، والعوالي السُّمر مشرعة لتقويض دعائم الباطل.
أما إذا رأيته وهو محصور مع ذَويه في شِعْب أبي طالب، وقد مُنِعَ دخول الطعام والشراب إليه من الخارج؛ فكأنك ترى يوسف الصِّدّيق وهو في سِجْن مِصر يعاني شدائد الظالمين ويكابدها.
إن موسى قد جاء بالأحكام، وداود امتاز بدعاء الله والتغني بمُناجاته، والمسيح بُعِثَ ليعلِّم الناس مكارم الأخلاق والزُّهد في الدنيا، وأما محمد فقد جاء بكل ذلك: بالأحكام، ودعاء الله، والتوجيه إلَى مكارم الأخلاق، والحض علَى الزُّهد في الدنيا وزينتها، وكل هذا تجده في القرآن لفظًا ومعنى، وفي السيرة المحمدية قُدْوة وعملًا.
***
ما وصل السيد سليمان من حديثه إلى هذا الموضع حتى ارتفع الآذان.. وقد شاء الله أن لا نسمع منه إلا (محمد رسول الله).. فصاح الجمع ـ بمختلف طوائفهم ـ من غير شعور (محمد رسول الله).. وصحت معهم بها.. فتنزلت علي حينها أنوار لو كانت بحار الدنيا مدادا، وأشجارها أقلاما، واجتمعن ليعبرن عنها ما أطقن.
في ذلك المساء.. رأيت مشهدا لن أنساه طول عمري.. سأذكره لكم كما شاهدته.. وليس عليكم أن تصدقوني.. فحسبي أن أقول لكم بأن حلاوته لم تغادرني مذ رأيته.
في ذلك المساء.. وبعد أن صليت أول صلاة صادقة، وتوجهت أول توجه صادق.. بعد أن استلمت مفتاح (محمد رسول الله) رأيت ذلك المشهد العجيب.
قلنا: ماذا رأيت؟
قال: رأيت جمعا كبيرا من الأولياء والقديسين والصديقين.. كلهم ترتسم على وجوههم سرج النور الخالص.. يقفون في صعيد واحد.. ثم نادى أحدهم على اسمي.. فصعدت على المنصة كما يصعد من يراد تكريمه.
في تلك المنصة رأيت رجلا له من الأنوار ما لا يمكن وصفه، تقدم مني، ثم ألبسني تلك الحلة التي كنت قد حدثتكم حديثها.. ثم قال لي: أنت من اليوم لست فلانا.. وإنما أنت محمد الوارث..
صحت فرحا: الوارث.. هل أصبحت وارثا؟
قال: أجل.. كل من سار في طريق الله.. وبحث عن أهل الله.. لم يختم له إلا بهذا.
صحت: فما حق الوراثة علي؟
قال: أن لا تسير في حياتك إلا على قدم من ورثته.. فلا يحق لمن ورث رسول الله أن يرغب عنه إلى غيره.
أفقت من ذلك
المشهد النوراني، فوجدت نفسي أرتدي تلك الحلة.. وأصيح بكل قلبي، وبجميع مشاعري:
(محمد رسول الله)
([1]) أشير به إلى العلامة السيد سليمان الندوي، وهو من أسرة علمية عريقة، حسينية النسب، شهيرة بالعلم والتقوى، ولد بقرية (ديسنة) من ولاية بيهار بالهند سنة 1302 هـ، الموافق 1884.
من أبرز أعماله العلمية وأرفعها إكماله لكتاب (سيرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم) الذي كان بدأ بتأليفه أستاذه المحقق العلامة شبلي النعماني، وهذا الكتاب هو دائرة معارف في السيرة النبوية، نُشرت منه سبعة مجلدات ضخمة، لا يقل أحدها عن سبعمائة صفحة من القطع الكبير..وكان جد حريص على البحث والتنقيب، والرد على مطاعن غير المسلمين، وله مصنفات علمية أخرى فريدة من نوعها مما يرتبط بالسيرة منها: (محاضرات مدراس): وهي التي أشرنا إليها في هذا الفصل.
قال فيه شاعر الإسلام الدكتور محمد إقبال: (يتبوأ السيد سليمان الندوي اليوم أعلى مدارج حياتنا العلمية، إنه ليس مجرد عالم، بل هو أمير للعلماء، وليس بكاتب فحسب، بل إنه إمام الكتّاب والمؤلفين إن شخصه بحرٌ للعلوم والمحاسن، تخرج منه مئات من الأنهار، وتسقي منه ألوف من المزارع اليابسة)
وقال فيه الشيخ محمد أنور شاه الكشميري: (إذا جُمع علم الغزالي والرازي إلى ورع الجنيد والشبلي تكوّن منه سليمان الندوي)
وقال الأستاذ مسعود الندوي (لقد كان رجلاً ذا مروءة غريبة، كريماً يجري الكرم في دمه، لا يغضب ولا يسخط ، يصفح عن عدوه، ويدعو لمن يتناوله بالسوء، أما التلاميذ والمخلصون فيشملهم بعطفه الأبوي، ويبسط على كل فرد منه ظلال شفقته وحنانه، كأنه قد مُنح في هذا الشأن لمحة من سيرة جده الكريم صلى الله عليه وآله وسلم)
ومن مآثره الجليلة أنه من الذين وقفوا بشدة في وجه ما قام به الوهابية من هدم للآثار في مكة والمدينة، وقد كتب مع مجموعة من العلماء رسالة في ذلك.
بعدما أمضى عمره الحافل بالعمل الدؤوب، والمآثر الخالدة، والخدمات العلمية والدينية الجليلة، وافاه الأجل بباكستان في غرة ربيع الآخر عام 1373هـ ..انظر في ترجمته كتاب الأستاذ الدكتور محمد أكرم الندوي: (السيد سليمان الندوي أمير علماء الهند في عصره وشيخ الندويين)
([2]) كانت جامعة (مدراس) قد أباحت لبعض أحبار المسيحية من الأمريكيين وغيرهم إلقاء محاضرات في البحوث التي وقفوا حياتهم عليها.. وقد سبقت محاضراتهم محاضرات السيد سليمان الندوي.
([3]) ما نذكره هنا من الدليل على نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم هو مجرد دليل واحد.. وهو مرتبط بهذا الباب الذي نحن فيه.. أما الأدلة على نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم فلا يمكن حصرها.. وهذه السلسلة ـ بجميع أجزائها ـ مجرد محاولة بسيطة لجمع ما أطقنا منها وترتيبه.
([4]) ننبه إلى أننا في هذا الفصل استفدنا من كتاب (الرسالة المحمدية) للسيد سليمان الندوي.. وقد اختلط أسلوبنا فيه بأسلوبه بناء على الضرورة الفنية.. ولذلك لم نلجأ للتوثيق كل مرة.
وقد اخترنا كتابه ذلك باعتباره من أهم ما ألف في هذا الباب.. والكتاب كما عرفه صاحبه عبارة عن (ثماني خطب في ثماني نواح من السيرة النبوية ـ علَى صاحبها الصلاة والتحية ـ، ألقيتُها سنة 1344هـ باللغة الأردية ـ لغة عامة الهند ـ علَى جماعات من شباب المسلمين وطلبة الكليات في مدينة مدراس بالهند؛ فاستمع لها الحاضرون بآذان صاغية، وتلقاها المستمعون بقلوب واعية، وقرَّظَتها الصحف والمجلات بكلمات مشجعة، وامتدحها أهل الفضل بالثناء والإطراء؛ جزاهم الله خيرًا)
وقد استعرض في محاضراته هذه كل ما نشرته أقلام الغرب من السموم لتوجيه الطعن ضد الإسلام، والنيل من نبيه الكريم محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فجاءت هذه المحاضرات لتبين أن سيرة النبي الكريم محمد صلى الله عليه وآله وسلم هي الوحيدة التي ينبغي أن يتخذ منها الناس أسوة حسنة مباركة، وهي التي تضمن لهم الفوز في الدنيا والآخرة، وأنها لا تقتصر على الكلام، وإنما تنبني دعائمها على العمل والتطبيق والتنفيذ، ولا توجد هناك أي مقارنة بين سيرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وسير زعماء العالم ومؤسسي الديانات والمذاهب الأخرى.
وقد لقيت هذه المحاضرات استحسان الكثير من العلماء، قال الأستاذ معين الدين أحمد الندوي: (هذا الكتاب يشتمل على مئة وخمسين صفحة، ولكنه يفوق المؤلفات الضخمة حول السيرة في وفرة المعلومات وندرة البحوث وشمول النفع وكفاءة مفخرة للمؤلف)
([5]) عبر السيد سليمان الندوي عن هذه الشروط بقوله: (إنّ حياة العظيم الَّتِي يجدر بالناس أن يتَّخِذوا منها قدوة لهم في الحياة؛ ينبغي أن تتوفَّر فيها أربع خصال:
1ـ أن تكون تاريخيّة؛ أي: أن التاريخ الصحيح الممحّص يصدِّقها ويشهد لها.
2ـ أن تكون جامعة؛ أي: محيطة بأطوار الحياة ومناحيها وجميع شؤونها.
3ـ أن تكون كاملة؛ أي: أن تكون متسلسِلة، لا تنقِص شيئًا من حلقات الحياة.
4ـ أن تكون عمليّة؛ أي: أن تكون الدعوة إلَى المبادئ والفضائل والواجبات بعمل الداعي وأخلاقه، وأن يكون كل ما دعا إليه بلسانه قد حقّقه بسيرته، وعَمِلَ به في حياته الشخصيّة والعائليّة والاجتماعيّة؛ فأصبحت أعماله مُثُلًا عُلْيا للناس يأتَسون بها)
وقد رأينا اختصارها في الشرطين اللذين ذكرناهما.
([6]) انظر رسالة (الكلمات المقدسة) من هذه السلسلة.
([7]) انظر التفاصيل الوافية الدالة على هذا في رسالة (الباحثون عن الله) من هذه السلسلة.
([8]) انظر تفاصيل هذه المسألة في رسالة (أسرار الأقدار)
([9]) رواه البزار.
([10]) رواه مسلم.
([11]) رواه البخاري ومسلم.
([12]) وروى (ضائعا): أي ذا ضياع من فقر أو عيال.
([13]) رواه البخاري ومسلم.
([14]) السلامى: المفصل.
([15]) رواه مسلم.
([16]) رواه مسلم.
([17]) انظر التفاصيل الوافية عن هذا في رسالة (عدالة للعالمين) من هذه السلسلة.
([18]) رواه البخاري.
([19]) رواه الترمذي.