عاشرا ـ الجمال

عاشرا ـ الجمال

في اليوم العاشر من رحلتي إلى الإسكندرية، جاءتني رسالة مستعجلة من كنيستنا في ألمانيا تطلب مني الحضور السريع.. دهشت لهذه الرسالة، ولهذا الاستعجال الذي لم أتعوده منها.

حزمت أمتعتي، وودعت أخي الذي واصل مكوثه في الإسكندرية لإكمال ما أوكل إلينا من مهام..

بحثت عن سيارة توصلني إلى القاهرة، لأمتطي الطائرة التي تعود بي إلى بلدي، فلم أجد.. لم أعرف السبب حينها، ولكني عرفت بعد ذلك أن الله أراد أن لا أجد أي سيارة، لأتعرض لشعاع جديد من أشعة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ولأتعرف على السور الأخير من أسوار الكلمات المقدسة..

اقترب مني أحد العمال في مطبعتنا، وقال: أراك مستعجلا.. إلى أين تريد الذهاب؟

قلت: إلى القاهرة.. لقد جاءتني رسالة مستعجلة، ولا بد أن أكون مساء هذا اليوم في القاهرة لأرحل غدا باكرا إلى بلدي.

قال: لدي حل إن كنت تقبله.

قلت: وما هو؟

قال: لدينا شاحنة تذهب كل أسبوع إلى القاهرة لتحمل نسخا من الكتاب المقدس إلى كنائسنا ومكتباتنا هناك.. وهي ستسير الآن.. فإن كان ذلك لا يضيرك، فتعال لتركب فيها، فتتشرف الشاحنة، ويتشرف صاحبها بصحبتك.

قلت: شكرا على هذا العرض الطيب.. بل الشرف لي أن أركب شاحنة تحمل نسخ الكتاب المقدس.

قال: فهيا إذن..

سرت معه إلى الشاحنة، وجلست في المقعد أمام السائق، وانتظرت برهة، فإذا بالعامل نفسه يجلس في كرسي السائق، قلت: أنت هو السائق إذن؟

قال: أجل.. لقد كنت أراك  دائما.. وكان لي شوق أن أجلس معك، وقد أتاح الله لي هذه الفرصة لتسير معي كل هذه المسافة.

قلت: ما اسمك؟

قال: لويس بشارة..

قلت: أنت مسيحي إذن؟

قال: لا شك في ذلك.. كيف أكون عاملا في مطبعة الكتاب المقدس، ثم لا أكون مسيحيا؟

قلت: لا أقصد بالمسيحية الانتماء.. بل أقصد الدين.. هل أنت متدين؟

قال: أجل.. أنا ملتزم بكل شعائر الكنيسة وطقوسها، ولولا ذلك ما اشتقت للجلوس إليك.

قلت: شكرا على هذه المجاملة.. ولكني متعب.. ولدي سفر طويل.. ولهذا ـ ربما ـ لا أستطيع أن أرضيك بما تشتهي من مواعظ.

قال: لا بأس.. يشرفني أن تجلس معي فقط.. فقد تتحادث الأرواح بما لا تتحادث به الأجساد.

أعجبت بقوله هذا.. ثم سرنا برهة لا يحدث بعضنا بعضا.. رأى في وجهي بعض الضيق، فقال: لعلك تريد أن تسمع شيئا.. لدي أشرطة كثيرة.. ما الذي تريد أن تسمع منها؟

قلت: ما تقصد؟

قال: الموسيقى.. ألست تحب الموسيقى؟

قلت: أجل.. ولكني أحب سماع الصوت البشري الممتلئ بالإيمان.. فهو أحب إلى نفسي من تلك الأجراس التي تدقها الموسيقى.. خاصة موسيقى هذه الأيام.

قال: أنت مثلي إذن.. فأنا لا أحب إلا سماع الأصوات التي أشعر بصدقها.. إنني أحلق معها في عوالم الجمال التي لا يطيق لساني التعبير عنها.

قلت: وهل لك أشرطة تحوي مثل هذه الأصوات؟

سكت قليلا، ثم قال: أجل.. ولكني أخاف منك أن تغضب إن علمت بوجودها عندي.

قلت: ما تقصد؟

قال: أنا أخفي هذه الأشرطة عن أعين زملائي خشية أن تصل أخبارها إلى مسؤول المطبعة، فيعاقبني، وقد يطردني.

قلت: ما تقول؟.. أتحمل ممنوعات في هذه الشاحنة؟.. ألست تحمل الكتاب المقدس؟

قال: أجل.. أنا أحمل الكتاب المقدس.. ولكني ـ لطول الطريق ـ أستمع إلى بعض الأشرطة التي تيسر علي قطع الطريق.

قلت: ومن يمنعك من سماعها؟

قال: أتأذن لي في سماعها؟

قلت: لا حرج عليك.. بل لعلني سأتمتع بها كما تتمتع بها أنت أيضا.

أوقف الشاحنة، ثم فتح حقيبته، وأخرج أشرطة محفوظة بعناية كما تحفظ الممنوعات، ثم قال: أنا أغامر الآن بسماع هذه الأشرطة أمامك، فأرجو أن يبقى هذا سرا بيني وبينك.

قلت: لا بأس.

وضع الشريط على القارئ، وبقيت منتظرا بلهفة سماع هذه الأشرطة التي ملأته بالأشواق والمخاوف، فإذا بي أفاجأ بالقرآن الكريم يقرأ بصوت عذب.. مملوء بالإيمان.

لقد شعرت حينها بقشعريرة لذيذة تسري في جسدي، فتملؤني بمشاعر لا أستطيع وصفها.

إلتفت إلى صاحبي، فإذا بدموعه تكاد تفيض، قلت: أهذا قرآن محمد؟

قال: أجل.. فاستر ذلك علي.

قلت: ولم تضع قرآن محمد.. وأنت تحمل الكتاب المقدس؟

قال: لقد ذكرت لك أني أشعر عند سماعه بمتعة لا تدانيها متعة، وبلذة لا تدانيها لذة.

قلت: فكيف اخترته من بين كل الأصوات الجميلة التي تنبعث من حناجر العالم؟

قال: لست أدري متى بدأ ذلك.. وكيف بدأ.. ولكني كلما سمعت القرآن يتلى كلما امتلأت بهذه المشاعر اللذيذة.. أتدري؟

قلت: ماذا؟

قال: أنا أصاحب باعة الأشرطة لسبب واحد هو سماع تلك الأصوات الجميلة التي تنبعث من حناجر قارئي القرآن.

خطرت على بالي فكرة وضع تراتيل للكتب المقدس تضارع تراتيل القرآن، فرحت أسارع بطرحها عليه، قلت: أتدري.. لقد جعلني كلامك هذا أفكر في وسيلة مهمة قد تجذب ملايين المسلمين إلى المسيحية، وفي نفس الوقت ترضي نهم المسيحيين إلى هذا الجمال الذي يتمتع به قرآن محمد.

قال: أعلم تلك الفكرة.. لقد خطرت على بالي منذ سنوات.. بل رحت أحاول تنفيذها.. لكني لم أزد طين كتابنا المقدس إلا بلة.

قلت: اسمع الفكرة أولا.. ثم ناقشها.

قال: ولماذا أسمعها منك.. وقد سمعتها من نفسي منذ سنوات؟

قلت: أي فكرة تقصد؟

قال: أنت تبحث عن وضع تراتيل للكتاب المقدس تشبه تراتيل المسلمين.. أهذه هي فكرتك؟

قلت: أجل.. فما الذي يحول بيننا وبين تنفيذها؟.. أم أنك ترى بأن المسلمين سيخرجون إلى الشوارع في انتفاضة عارمة؟

قال: لا أقصد هذا.. حتى لو خرجوا.. فما عساهم يفعلوا؟.. إنهم سرعان ما يتأقلمون وينسون.. ولكن أخشى أن توضع هذه التراتيل في المسرحيات الكوميدية لتملأ أفواه الناس بالضحك، لا قلوبهم بالخشوع.

قلت: ما تقول؟

قال: إن المرتل لقرآن المسلمين يبدأ القرآن من أوله إلى آخره.. فلا يزيد سامعيه إلا خشوعا ([1])..

قلت: فليبدأ القارئ تراتيله للكتاب المقدس من أوله إلى آخره..

قال: سأسلم لك.. بل سأطبق هذا أمامك، فقد وهبني الله صوتا لا يقل عن صوت هؤلاء القراء.. بالإضافة إلى أني أملك قدرة على التقليد لا تضاهى.. ولذلك سأقلد القارئ المعروف (عبد الباسط عبد الصمد) في قراءته للسور القصار.. فاختر أي جزء من الكتاب المقدس أقرؤه عليك.

قلت: اقرأ ما تشاء.

قال: أنا أحفظ إنجيل متى عن ظهر قلب.. ولذلك سأقرؤه عليك من أوله.

بدأ القراءة، لقد كان صاحب صوت جميل جدا.. بدأ إنجيل متى من أوله:( كتاب ميلاد يسوع المسيح ابن داود ابن ابراهيم. ابراهيم ولد اسحق. واسحق ولد يعقوب. ويعقوب ولد يهوذا واخوته. ويهوذا ولد فارص وزارح من ثامار. وفارص ولد حصرون. وحصرون ولد ارام. وارام ولد عميناداب. وعميناداب ولد نحشون. ونحشون ولد سلمون. وسلمون ولد بوعز من راحاب. وبوعز ولد عوبيد من راعوث. وعوبيد ولد يسى. ويسى ولد داود الملك. وداود الملك ولد سليمان من التي لأوريا وسليمان ولد رحبعام. ورحبعام ولد ابيا. وابيا ولد آسا. )(متى: 1/1ـ 7)

تركته يقرأ إلى أن وصل إلى قوله:( فجميع الاجيال من ابراهيم الى داود اربعة عشر جيلا. ومن داود الى سبي بابل اربعة عشر جيلا. ومن سبي بابل الى المسيح اربعة عشر جيلا )(متى: 1/17)

لست أدري كيف لم أملك نفسي من الضحك.. لقد ضحكت كما لم أضحك في حياتي، التفت إلي، وقال: ألم أقل لك: إن اقتراحك يصلح لإضحاك الناس لا لإبكائهم.

بعد أن عادت إلي نفسي، اصطنعت الجد، وقلت: أجل.. كلامك صحيح.. ولكن ما السر في اختلاف كتاب المسلمين عن كتابنا في هذه الناحية؟

قال: لقد بحثت في ذلك..

قلت: فما وجدت؟

قال: أربعة أسباب.

قلت: فما هي؟.. عسانا نوفرها لكتابنا المقدس.

قال: ذلك محال.. لقد جربت كل الوسائل.. وكانت النتيجة لا تختلف عن تلك الضحكات التي أرسلتها.. إن تلك المعاني الأربع لم تتحقق إلا في كتاب محمد.

قلت: فما هي؟

قال: التعبير الفني، والتصوير الفني، والنظم الفني، والنغم الفني.

التعبير الفني:

قلت: فما تريد بالتعبير الفني؟

قال: بإمكانك أن تقارن القرآن بأي كتاب في الدنيا، فستجد فيه من عذوبة التعبير وجماله ما يقصر دونه كل كلام.

قلت: وما أدراك أنت باللغة وشؤون البلاغة فيها.. لو كنت شاعرا قبلت قولك، ولو كنت خطيبا ربما وثقت بحكمك.. لكنك لست سوى سائق؟

قال: أجل.. أنا لست سوى سائق.. ولكني مع ذلك أتذوق الكلام، كما أتذوق الطعام.. إن للكلام الطيب حلاوة لا تحوجنا إلى مختصين ينوبون عنا في تذوقها.

ومع ذلك.. فقد عرفت أن القرآن تحدى أهل عصره بمن فيهم من البلغاء والفصحاء، فلم يملكوا إلا أن يقروا بما لم تقبله مني.

لقد استقل العرب في البدء من شأن القرآن، فراحو يقولون:{ لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ}(لأنفال: 31)، وقالوا:{ إنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ } (النحل: 103)) وقالوا:{ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ}(الأنعام: 91)

لكنهم سرعان ما تراجعوا عن هذه الأحكام المستعجلة التي أفرزها كبرهم لا عقولهم.. لقد كانوا في ذلك أشبه بطفل صغير يريد أن يواجه مصارعا خطيرا.. فلا يملك بعد حين من المواجهة إلا أن ينكص على عقبيه.

لما قالوا ذلك، رد عليهم القرآن.. وهم الفصحاء البلغاء.. الشعراء الخطباء.. طالبا منهم أن يواجهوا تحديه، لقد قال لهم بصراحة لا تعلوها أي صراحة:{ أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لا يُؤْمِنُونَ فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ}(الطور:33 ـ 34)

بل نزل.. فاكتفى بأن يحدد لهم عشر سور مثله مفتريات فيما كانوا يزعمون:{ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}(هود:13)

ثم زاد، فنزل.. واكتفى بأن يطلب منهم أن يأتوا بسورة من مثله.. بأي سورة، ولو سورة قصيرة، لقد قال لهم:{ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}(يونس:38)

فلم يجرؤوا أن يفعلوا.. لقد بقي يطالبهم أكثر من عشرين سنة بذلك، مظهراً لهم النكير، زارياً على أديانهم، مسفهاً آراءهم وأحلامهم.. ومع كل ذلك لم يجرؤوا على الاقتراب منه..

نعم لقد نابذوه وناصبوه الحرب التي هلكت فيه النفوس، وأريقت المهج، وقطعت الأرحام، وذهبت الأموال.. أترى أنهم لو كانوا قادرين على مواجهته بكلام مثل كلامه كانوا يقصرون!؟

لقد كان القرآن يقول لهم متحديا:{ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا }(البقرة: 24)، انظر..  إنه تحد ليس فوقه تحد.. بل هو يضيف فيطلب منهم أن يجتمعوا بإنسهم وجنهم على مواجهته، فيقول:{ قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً}(الاسراء:88)

قلت: لقد كان لانشغالهم بمواجهته أثر في سكوتهم عن الرد عليه.. أحيانا يجد الإنسان نفسه ـ تحت ضغط ظروف معينة ـ يتصرف بعيدا عن عقله.

قال: لا.. لقد كان قومه موصوفين برزانة الأحلام ووفارة العقول، وقد كان فيهم الخطباء المصاقع، والشعراء المفلقون.. بل إن القرآن وصفهم بالجدل واللدد، فقال:{ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ}(الزخرف: 58)، وقال:{ فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدّاً}(مريم:97)

 قلت: أحيانا ينبغ رجل من الناس بين قومه.. ولن تجد أحدا يستطيع مواجهته.. ألست ترى الملاكمين العالميين الذين يتهاوى الرجال أمامهم كما يتهاوى البنيان؟

قال: أليس عجيبا أن ينهض رجل أمي عاش بينهم أربعين عاماً لم يسمعوا منه بيتاً من الشعر، أو قولاً بليغاً، ليأتيهم بكلام يتحداهم به جميعا، بجيمع شعرائهم وبلغائهم وعلمائهم من الإنس والجن لا في زمانه فحسب، بل في كل الأزمنة؟

لقد احتاروا في سر تلك الجاذبية التي يجذبهم بها القرآن، فراحوا يقولون:{ لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ ﴾(فصلت: 26)

قلت: فأنت ترى أن سر إعجاز القرآن الذي يذكره المسلمون هو تعبيره الذي حير البلغاء.

قال: لا.. هذا جزء من إعجازه.. إعجازه لا يمكن التعبير عنه.

قلت: فكيف تسمي ما لا تستطيع التعبير عنه معجزا؟

قال: إن نواحي الإعجاز في القرآن أكثر من أن تحصرها العبارة.. وما الإعجاز البلاغي إلا ناحية من نواحيه.

قلت: أنت تتلقى كل ذلك تقليدا.. فلست تذكر سوى ما ذكر لك.

قال: لا.. نعم أنا سائق.. ولكني ابن لهذه اللغة، محب لها عشت أقرأ شعرها ونثرها، وأتنعم بقصصها ورواياتها، ولولا ذلك ما حدثتك بهذا.

قلت: فحدثني عما رفع القرآن إلى تلك الآفاق التي عجز عنها سائر الكلام.

قال: أول شيء تتذوقه من القرآن هو تلك المعاني الجميلة التي جاء بها، وكساها بثياب معجزة من البلاغة.

قلت: أي إعجاز في هذا.. إن من قدر على شيء يقدر على غيره.

قال: لا.. لا يمكن ذلك.. هل تراني ـ وأنا سائق الشاحنة ـ قادرا على أن أسوق الطائرة؟

إن قدرات البلغاء محدودة.. سل الشعراء والبلغاء ليخبروك.. وإن شئت أن تتحدى أكبر الشعراء في أن يسوغ لك قوانين المرور في قصيدة فافعل، فسيعجز عن ذلك لا محالة.

قلت: والقرآن؟

قال: لقد انتظم القرآن كل المعاني.. ومع ذلك لم يخل في معنى من المعاني بما أودع فيه من أسرار الإعجاز..

لقد كانت بلاغة العرب ـ الذين هم قوم محمد ـ لا تعدو وصفا لمشاهداتهم، مثل وصف بعير أو فرس أو جارية أو ملك أو ضربة أو طعنة أو حرب أو غارة.. أو لغو كثير لأجل أمر حقير.. وليس في القرآن ـ الذي جاء به محمد في تلك البيئة ـ أي شيء من هذه الأشياء.

وهذا وحده معجز.. أليس للبيئة والعصر آثارا في نفوس البلغاء.. ألستم تتعرفون من خلال الكتاب المقدس على البيئة التي كتب فيها.. لكن القرآن يخلو من كل ذلك، وكأن الذي كتبه ليس في الأرض.. إنه من عالم آخر!؟

صمت قليلا، ثم قال: بالإضافة إلى هذا ألست ترى الشعراء والبلغاء قد يحسنون في فن، ويسيئون في غيره؟

قلت: بلى.. ولهذا قالوا في شعر امرئ القيس: يحسن عند الطرب وذكر النساء وصفة الخيل.. وقالوا: شعر النابغة عند الخوف، وشعر الأعشى عند الطلب ووصف الخمر، وشعر زهير عند الرغبة والرجاء.. وهكذا كل شاعر يحسن كلامه في فنّ، فإنه يضعف كلامه في غير ذلك الفن.

قال: إلا القرآن([2]).. فإنه جاء فصيحاً في كل الفنون على أعلى طبقات الفصاحة:

اسمع ما يقول في الترغيب:{ فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}(السجدة:17).. ويقول:{ يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}(الزخرف:71) أترى كلاما يمكن أن يرغبك في شيء كما يرغبك هذا الكلام.. إنه يجعل لنفسك الحرية في اختيار ما تشتهي، كما يجعل لبصرك الحرية في اختيار ما يرى.. إنك لو جمعت جميع أصناف النعيم في قصيدة ألفية ما استطاعت أن تعبر بمثل هذا المختصر الوجيز.

ثم اسمع ما يقول في الترهيب:{ أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلاً}(الاسراء:68).. ويقول:{ وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ} (إبراهيم:15ـ17) انظر المخاوف التي تحملها هذه الآيات.

وقال في الزجر ما لا يبلغه وهم البشر:{ وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (العنكبوت: 39 ـ 40)

وقال في الوعظ:{ أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ }(الشعراء: 205 ـ 207) هل ترى وعظا أعظم تأثيرا في النفس من هذا الوعظ؟

وقال في وصف الله:{ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ}(البقرة:255)

وهكذا الشأن في كل المواضيع التي طرقها القرآن، وهي مواضيع لا تعد كثرة.

وفوق هذا كله.. لقد التزم القرآن الصدق في كل ذلك، مع أن البلاغة أحيانا قد تتطلب من التعابير ما يحوجها إلى الكذب والزيادة والنقصان.. ألست ترى كل شاعر ترك الكذب، والتزم الصدق نزل شعره ولم يكن جيداً، ألا ترى أن لبيد بن ربيعة وحسان بن ثابت لما أسلما نزل شعرهما ولم يكن شعرهما الإسلامي في الجودة كشعرهما الجاهلي؟

لكن القرآن ـ مع التزامه الصدق التام ـ جاء في قمة قمم البلاغة.

قلت: إلى الآن.. لم أفهم سر حرصك على هذه القمم التي تتحدث عنها بثقة عجيبة.. لو كنت مسلما، لقلت: إن الرجل مسلم.. ويجب عليه أن يقول هذا وإلا طرد من ساحة المسلمين، فتطلق زوجته، ويرمى في غير مقابر المسلمين، ولكني أراك مسيحيا، فكيف تصر على هذا؟

قال: إن كوني مسيحيا لا يحول بيني وبين الاعتراف بالحق لأهله.. لقد رأيت كثيرا من إخواننا المسيحيين يعلمون أولادهم القرآن حرصا على تنمية قدراتهم البلاغية.. وقد فعل والدي ذلك.. فلذا تراني أحفظ القرآن.. لقد حفظته في الكتاب مع أولاد المسلمين.

قلت: فما الذي جعلك تصر على اعتباره أبلغ كلام وأفصحه؟

قال: أنت تعرف أن الكلام من حيث بلاغته ثلاثة أنواع: فمنه البليغ الرصين الجزل.. ومنه الفصيح القريب السهل.. ومنه الجائز الطلق الرسل.

كل الكلام البليغ لا يخرج عن هذه الأنواع.. فالقسم الأول أعلى طبقات الكلام وأرفعه.. والقسم الثاني أوسطه وأقصه.. والقسم الثالث أدناه وأقربه ([3]).

قلت: فأنت ترى أن القسم الأول هو الذي ينتمي إليه القرآن؟

قال: لو كان كذلك لما كان معجزا.. أو لكان معجزا بالنسبة للقسم الذي ينتمي إليه..

قلت: فإلى أي قسم ينتمي إذن؟

قال: إلى الأقسام الثلاثة.. لقد حازت بلاغات القرآن من كل قسم من هذه الأقسام حصة، وأخذت من كل نوع من أنواعها شعبة، فانتظم لها بامتزاج هذه الأوصاف نمط من الكلام يجمع صفتي الفخامة والعذوبة.. وما أصعب أن تجمع بين الفخامة والعذوبة.

قلت: لم؟

قال: لأنهما عند الإنفراد في نعوتهما كالمتضادين، فالعذوبة نتاج السهولة، والجزالة والمتانة تعالجان نوعاً من الوعورة.. فلهذا كان اجتماع الأمرين في نظمه، مع بعد كل واحد منهما على الآخر فضيلة خص بها القرآن.

قلت: فلم عجز البشر عن الإتيان بمثل هذا؟

قال: إن كل كلام لابد له من ثلاثة أمور: لفظ حامل، ومعنى قائم به، ورباط لهما ينظمهما.. وقد حاز القرآن كل هذه الأمور في منتهى كمالها، فلذلك لا ترى شيئاً من الألفاظ أفصح ولا أجزل ولا أعذب من ألفاظه.. ولا ترى نظماً أحسن تأليفاً وأشد تلاؤماً وتشاكلاً من نظمه..

أما المعاني، فأنت تعرف المعاني السامية التي جاء القرآن لتقريرها وتأكيدها وتربية النفوس عليها.. إنها المعاني التي تشهد لها العقول بالتقدم في أبوابها، والترقي إلى أعلى درجات الفضل من نوعتها وصفاتها.

قلت: ولكن مثل هذا قد يوجد في كلام البلغاء؟

قال: يوجد مفرقا لا مجموعا.. ولهم العذر في ذلك.. لأن من رام ذلك يجب أن يكون محيطا بجميع العربية وألفاظها ثم يحيط بجميع دلالاتها.. والبشر جميعا لا تدرك أفهامهم جميع معاني الأشياء المحمولة على تلك الألفاظ، ولا تكمل معرفتهم لاستيفاء جميع وجوه النظوم التي بها يكون ائتلافها وارتباط بعضها ببعض، فيتوصلوا باختيار الأفضل عن الأحسن من وجوهها، إلى أن يأتو بكلام مثله.

قلت: فأنت ترى أن القرآن إنما صار معجزاً، لأنه جاء بأفصح الألفاظ في أحسن نظوم التأليف، مضمناً أصح المعاني.

قال: أجل.. ولا يمكننا ـ ولو طفنا على الأرض بهذه الشاحنة ـ أن نستوفي ما يتطلبه هذا الإجمال من تفصيل، وهذه القواعد من أمثلة.

ولكني أكتفي بأن أذكر لك بأن الكتاب الذي يحتوي على كل هذه المعاني السامية، من وصف لله، ودعاء إلى طاعته، وبيان منهاج عبادته، من تحليل وتحريم، ومن وعط وتقويم، وأمر بمعروف ونهي عن منكر، وإرشاد إلى محاسن الأخلاق، وزجر عن مساوئها، مودعاً أخبار القرون الماضية، وما نزل من مثلات الله بمن عصى وعاند منهم، منبئاً عن الكوائن المستقبلة في الأعصار الباقية من الزمان، جامعاً في ذلك بين الحجة والمحتج له، والدليل والمدلول عليه، ليكون ذلك أوكد للزوم ما دعا إليه، وإنباء عن وجوب ما أمر به ونهى عنه.. كتاب يعجز جميع البشر.. بل تعجز جميع الكائنات أن تأتي بمثله.

صمت قليلا، وكأنه يسترجع أنفاسه، ثم قال: ناحية أخرى جديرة بالاهتمام.. وهي أن الكلام الفصيح والشعر الفصيح، يتفق ـ عادة ـ في القصيدة في البيت والبيتين والباقي لا يكون كذلك.. فتكتفي القصيدة بالتزين ببيتها أو بيتيها، وتظل عاطلة في سائر أبياتها.. أما القرآن، فإنه كله فصيح يعجز الخلق عن آحاده كما يعجزون عن جملته.

ثم إن من قال كلاما فصيحا في وصف شيء فإنه إذا كرره لم يكن كلامه الثاني في وصف ذلك الشيء بمنزلة كلامه الأول.. بينما نجد في القرآن تكرار كثير، ومع ذلك، كل واحد منها في نهاية الفصاحة ولا يظهر التفاوت أصلاً.

زيادة على هذا فإن في مواضيع القرآن ما قد يوجب اختلال فصاحة أي فصيح، ولكن القرآن يطرقها طرقا جميلا، فلا تؤثر فيه المواضيع مهما تبادعت أغراضها، اسمع إليه، وهو يعبر عن أركان طهارة المسلمين وأنواعها في إيجاز بليغ:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}(المائدة:6)

ولهذا تجد القرآن أصلا للعلوم كلها، فعلم لاهوت المسلمين كله في القرآن، وعلم الفقه كله مأخوذ من القرآن، وعلم أصول الفقه وعلم النحو واللغة، وعلم الزهد في الدنيا وأخبار الآخرة، واستعمال مكارم الأخلاق كلها مستنبطة من القرآن مأخوذة منه.

فالقرآن لا يقصد الكلام البليغ لذات الكلام البليغ، بل يقصده ليستخدمه وسيلة لتبليغ أغراضه.. وهذا خلاف سائر الكلام.. فالشعراء الذين اهتموا بتزويق الكلام والحرص على زينته تاهوا فيما لا حاجة فيه من وصف النساء أو الخيل أو الخمر، أو في مدح شخص معين أو فرس أو ناقة أو حرب أو كائنة أو مخافة أو سبع، أو شيء من المشاهدات المتعينة التي لا تفيد شيئًا إلا قدرة المتكلم المعبر على التعبير على الشيء الخفي أو الدقيق أو إبرازه إلى الشيء الواضح، ثم تجد له فيها بيتًا أو بيتين أو أكثر هي بيوت القصيد وسائرها هذر لا طائل تحته.

وأما القرآن فجميعه فصيح في غاية نهايات البلاغة.. إن تأملت أخباره وجدتها في غاية الحلاوة، سواء كانت مبسوطة أو وجيزة، وسواء تكررت أم لا، وكلما تكرر حلا وعلا لا يَخلق عن كثرة الرد، ولا يمل منه العلماء، وإن أخذ في الوعيد والتهديد جاء منه ما تقشعر منه الجبال الصم الراسيات، فما ظنك بالقلوب الفاهمات، وإن وعد أتى بما يفتح القلوب والآذان، ويشوقها بحيث تتحرك إلى ما طلبه منها عن رضا وطيبة نفس.

قلت: لقد ساعدت اللغة العربية القرآن على اقتحام هذه المجاهيل.. فهي لغة ثرية غنية بمفرداتها وتراكيبها.. ولولاها ما كان للقرآن هذا الجمال، وهذه القوة.

قال: نعم.. اللغة العربية كما ذكرت.. وأكثر مما ذكرت.. ولكنها في نفس الوقت كان فيها كلاما كثيرا من الغريب والألفاظ الحوشية الثقيلة على السمع.. وهو ما لجأ إليه مضطرا الكثير من البلغاء والشعراء.. ولكن القرآن تجنب ذلك كله، ولم يختر من اللغة إلا ما اجتمع فيه المعنى الرفيع مع اللفظ الجميل.

اسمع ما يقول الشنفرى:

وَلي دونَكُم أَهلَونَ سيدٌ عَمَلَّسٌ             وَأَرقَطُ زُهلولٌ وَعَرفاءُ جَيأَلُ

وفيها يقول:

دَعَستُ عَلى غَطشٍ وَبَغشٍ وَصُحبَتي       سُعارٌ وَإِرزيزٌ وَوَجرٌ وَأَفكُلُ

فَأَيَّمتُ نِسواناً وَأَيتَمتُ آلَدَةً             وَعُدتُ كَما أَبدَأتُ وَاللَيلُ أَليَلُ

لقد تجنب القرآن أكثر الألفاظ الغريبة التي استعملها هذا الشاعر وغيره.. فلا تجد في القرآن مع سعة حجمه مقارنة بقصائد الشعراء ألفاظا مثل مسشزرات، وجحلنجح،  والبخصات، والملطاط، وغير ذلك كثير.

ولا تجد تعابير مثل هذه التعابير التي قالها بعض المتقعرين:( دنها، فإذا همت تأتدن، فلا تخلها تمرخد، وقبل أن تقفعل، فإذا ائتدنت فامسحها بخرقة غير وكيلة، ولا جشيّة، ثم امعسها معساً رقيقاً، ثم سن شفرتك، وأمهها فإذا رأيت عليها مثل الهبوة فسن رأس الأزميل )([4]

ولا تجد القرآن واقعيا يعبر بالألفاظ السوقية التي يأبى معانيها، فلا تجد فيه كلمة المرباع التي تعني ربع الغنيمة إلى الذي كان يأخذه الرئيس في الجاهلية، ولا تجد النشيطة وهي ما أصاب الرئيس قبل أن يصير إلى القوم، أو ما يغنمه الغزاة في الطريق قبل بلوغ الموضع المقصود، ولا تجد المكس، وهو دراهم كانت تؤخذ من بائعي السلع في الأسواق الجاهلية، ولا تجد قولهم للملوك:( أبيت اللعن ) وغير ذلك مما اتفق على التعبير به المجتمعات الجاهلية التي عاش بينها محمد.

قلت: فالقرآن يتخير ألفاظه اختيارا إذن؟

قال: أجل.. وسأذكر لك بعض الأمثلة التي تقرب لك هذا([5]):

لقد جاء في القرآن:{ مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً) (النساء:85)

أتدري لم قال عن الشفاعة الحسنة (يكن له نصيب منها) وعن الشفاعة السيئة (يكن له كفل منها)؟

قلت: هو مجرد تنوع في الألفاط ليتخلص من التكرار.

قال: لا.. لقد وضع القرآن كل لفظة في محلها الخاص.. فمن معاني (الكِفل) في اللغة: النصيب المساوي، والمثل، والكفيل يضمن بقدر ما كفل ليس أكثر.. أما (النصيب) فمطلق غير محدد بشيء معين.

ولهذا جاء التعبير عن السيئة بقوله:{ يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا }؛ لأن السيئة تجازى بقدرها، كما ورد في الآية الأخرى:{ مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا )(غافر: 40)

أما الحَسَنة فتضاعف، فلهذا عبر عنها بقوله { يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا }، وقد جاء في القرآن الإخبار بهذا، ففيه { مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا }(الأنعام: 160)، وفيه:{ مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا }( القصص: 84)، وفيه:{ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ)(غافر: 40)

ولهذا قال عن حامل السيئة أن له الكفل أي المثل، أما صاحب الشفاعة الحسنة فله نصيب منها، والنصيب لا تشترط فيه المماثلة.

سكت قليلا، ثم قال: سأضرب لك مثلا آخر.. لقد جاء في قصة خلق آدم في سورة الأعراف هذا النص:{ قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) (لأعراف:12)

لقد أثبت القرآن (لا) في هذا الموضع، ولكنه لم يُثبتها في سورة (ص) { قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ} (صّ:75)

أتدري سر ذلك؟

قلت: أرى فرقا بين التعبيرين.. ولكني لست أدري سره.. أليست (لا) في الأعراف زائدة؟

قال: لا.. ليس في القرآن حرف واحد زائد.. إنه محكم غاية الإحكام.

لقد كان السؤال في سورة ( ص ) عن المانع لإبليس من السجود.. أي: لماذا لم تسجد؟ هل كنت متكبراً أم متعالياً؟ فقد ذكرت الآية سببان قد يكونان مانعين للسجود، هما الاستكبار والاستعلاء.

أما السؤال في سورة الأعراف فإنه عن شيء آخر.. ويكون معنى السؤال: ما الذي دعاك إلى ألا تسجد؟

والدليل على ذلك وجود ( لا ) النافية في الآية التي تدل على وجود فعل محذوف تقديره: أَلجأك، أحوَجَك..

فالسؤال هنا عن الدافع له لعدم السجود، وليس عن المانع له من السجود.

والجمع بينهما أن السؤال جاء على مرحليتين: في الأولى سئل عن السبب المانع من السجود.. وامتناع إبليس عن السجود قاده إلى عدم السجود.

وفي الثانية: السؤال عن السبب الحامل له على عدم السجود بعد أن أمره بذلك.

والحكمة من السؤال الثاني هو أنه من الممكن عقلا أن يكون هنالك سببان: سبب يمنع عن فعل شيء، وسبب يحمل على ترك شيء.

فقولك لأحدهم: لماذا لم تفعل كذا؟ يختلف عن سؤالك للآخر: ما الذي حملك على ترك كذا؟

سكت قليلا، ثم قال: سأضرب لك مثالا آخر.. لقد جاء في القرآن:{ مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) (العنكبوت:41)

قلت: إن قومي يتعلقون بهذه الآية.. ويرمون بها المسلمين.

قال: أعلم ذلك.. هم يقولون: إن هذه الآية تخالف الحقيقة العلمية الثابتة بأن خيط العنكبوت أقوى من مثيله من الفولاذ.

قلت: أجل.. أليس ذلك صححيا؟

قال: يكون ذلك صحيحا لو قال القرآن:( إن أوهن الخيوط خيط العنكبوت )

قلت: وما الفرق بينهما؟

قال: عظيم.. الخيوط هي مادة البناء.. والبناء لا يحتاج إلى مادة فقط.. بل يحتاج قبل ذلك إلى اختيار محل، وتأسيس قاعدة، ونواح هندسية كثيرة ليستقيم البناء.

أرأيت لو رصفنا طوبا كثيرا من أقوى أنواع الطوب من غير أن يكون ذلك على حسب القواعد الهندسية.. هل يمكن أن يستمر البنيان قائما؟

قلت: لا.. لعل أضعف ريح يمكنها أن ترديه أرضا.

قال: ولهذا عبر القرآن عن وهن البنيان، ولم يعبر عن وهن مادة البنيان.

سكت قليلا، ثم قال: أتدري لم نكرت كلمة (أحد) في سورة الإخلاص، بينما عرفت (الصمد).. فقد جاءت هذه السورة هكذا:{ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ(1)اللَّهُ الصَّمَدُ(2)لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ(3)وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ(4)(الإخلاص)

قلت: لا.. ولكني أشعر أنه لابد أن تكون كذلك.

قال: نعم.. لابد أن تكون كذلك.. ولكن العلماء حاولوا أن يعرفوا سر ذلك.

قلت: فما وجدوا.

قال: إن كلمة (أحد) مسبوقة بكلمتين معرفتين (هو الله)، وهما مبتدأ وخبر.. وبما أن المبتدأ والخبر معرفتان ودلالتهما على الحصر.. فقد استغني بتعريفهما ودلالتهما على الحصر عن تعريف (أحد)

فجاء لفظ (أحد) نكرة على أصله.. لأن الأصل في الكلمة هو التنكير.. فهو نكرة ويعرب خبرا ثانيا.

كما أن لفظ (أحد) جاء على التنكير للتعظيم والتفخيم والتشريف، وللإشارة إلى أن الله تعالى فرد أحد لا يمكن تعريف كيفيته ولا الإحاطة به سبحانه وتعالى.

أما (الصمد)، فقد جاء معرفة في الآية الثانية لأن (الله الصمد) مبتدأ وخبر.. وجاءا معرفتين ليطابقا (هو الله ) في الآية الأولى.. وقد جاء تعريف (الله الصمد) ليدل على الحصر أيضاً.

فقوله (هو الله أحد) يدل على الحصر لتعريف المبتدأ والخبر.. أي أن الأحدية محصورة بالله.

وقوله (الله الصمد) يدل على الحصر أيضا لتعريف المبتدأ والخبر.. وذلك ليدل على أن الصمدانية محصورة بالله.

سكت قليلا، ثم قال: أتدري الفرق بين تعبير القرآن عن السلام ليحي والسلام للمسيح؟

قلت: أجل.. أعرف ذلك.. فقد جاء السلام على يحي منكرا:{ يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَءَاتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا(12)وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا(13)وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا(14)وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا(15)(مريم)

بينما جاء على المسيح معرفا:{ قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ ءَاتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا(30)وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ ‎وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا(31)وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلنِي جَبَّارًا شَقِيًّا(32)وَالسَّلَامُ عَليَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا(33)(مريم)

قال: أتدري ما سر هذا التفريق؟

قلت: ما سره؟

قال: لقد جاءت كلمة (السلام) نكرة في قصة يحيى، لأن ذلك جاء في سياق تعداد نعم الله عليه، وفيها إخبار من الله بأنه قد منح يحيى ( سلاما ) كريما في مواطن ثلاثة: يوم ولادته، ويوم موته، ويوم بعثه حيا في الآخرة.

أما ( السلام ) في قصة المسيح، فقد جاء معرفة، لأن لفظ ( السلام ) هو كلام من المسيح، حيث دعا ربه أن يمنحه السلام في ثلاثة مواطن: يوم ولادته، ويوم موته، ويوم بعثه حيا في الآخرة.

فبما أن المسيح هو الذي دعا، فمن المؤكد أنه سيُلح في الدعاء، فيطلب المعالي.. فلذلك عرّف السلام دلالة على أنه يريد السلام الكثير العام الشامل الغزير.

وفي هذا إشارة كذلك إلى أن السلام الذي حصل عليه المسيح كان أخص من السلام الذي حصل عليه يحيى، وأن المسيح أفضل من يحيى.

سكت قليلا، ثم قال: لقد وردت آيتان تتحدثان عن أمر واحد في سورة واحدة.. ومع ذلك اختلف التعبير في كل منها..

أما أولاهما، فقد ذكر فيها القرآن أن الله سيرى العمل هو ورسوله واكتفى بهما:{ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}(التوبة:94)

وأما الثانية، وهي في نفس السورة، فقد ذكر بأنه سيرى الله عملهم هو ورسوله والمؤمنون:{ وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}(التوبة:105)

أتدري ما سر ذلك؟

تأملت قليلا، ثم قلت: ما سر ذلك؟

قال: لقد وردت الآية الأولى في سياق الحديث عن المنافقين.. وهم كفار اتخذوا وسيلة إظهار الإسلام وإبطان الكفر محاولة لنقض الإسلام من داخله.. أما الثانية فقد جاءت في سياق الحديث عن المؤمنين الصالحين ودعوتهم إلى العمل الصالح وخاصة دفع الزكاة.

فلهذا حذفت كلمة (والمؤمنون) في سياق الآية الأولى، لأن الكلام فيها عن المنافقين.. ولطبيعة النفاق فإن المسلمين لا يعلمون ما يخفي المنافق في قلبه، لأنهم لا يعلمون الغيب، والله عالم السر وأخفى، وهو أخبر محمدا بأسمائهم كلهم.. ولهذا كان الله ورسوله يعلمان كذبهم، لكن باقي المؤمنين لا يعلمون ذلك.

أما في الآية الثاني فهي في سياق الحديث عن أعمال المسلمين الظاهرة المكشوفة من صلاة وزكاة.. والتي يراها إخوانهم المسلمون ويطلعون عليها.

سكت قليلا، ثم قال: لقد تكررت كلمة واحدة ثلاث مرات، ومع ذلك أفادت معاني ثلاثة لا معنى واحدا.. أتدري ما هي؟

تأملت قليلا، ثم قلت: لا أدري.

قال: لقد ورد في سورة الروم:{ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ}(الروم:54)

فلكمة ( ضعف ) نكرة تكررت في نفس الموضع ثلاث مرات، وذلك يفيد أن الضعف الأول غير الثاني وغير الثالث.

قلت: كيف عرفت ذلك؟

قال: هناك قاعدة بيانية متفق عليها عند علماء العربية تذكر أن النكرة إذا تكررت، فإنها في كل مرة تفيد معنى جديداً.

ولهذا، فإن المراد من الضعف الأول هو النطفة، وهي ضعيفة، لأنها من ماء مهين.

والمراد من الضعف الثاني الطفولة، لأن الطفل بحاجة إلى رعاية أمه في مرحلة الرضاع، وعناية خاصة حتى يجتاز مرحلة المراهقة ويصل البلوغ.

والمراد من الضعف الثالث: الشيخوخة، لأن الإنسان يتحول في مرحلة الشيخوخة ضعيفا عاجزا.. ضعيف الفكر.. ضعيف الحركة والسعي والنشاط.

واللطيف في الآية أن ( قوة ) وردت نكرة وكررت مرتين، وبذلك تختلف دلالتهما كذلك.. فالقوة الأولى، تعبر عن قوة فترة الصبا، فالصبي قوي مندفع كثير الحركة، والقوة الثانية تعبر عن قوة الشباب، وهي قوة الجسم والمشاعر والأحاسيس والهمة والعزيمة والانطلاق في الفكر والأحلام والطموح.

فهذه الآية بهذا الفهم تلخص حياة الإنسان على الأرض وأنها تقوم على خمس مراحل: ثلاثة منها ضعف، وهي: كونه جنينا في بطن أمه، وكونه رضيعا في حضن أمه، وكونه شيخا عجوز هرم.

واثنان منها قوة: وهي كونه صبيا نشيطا مندفعا، وكونه شيخا عجوزا هرما.

لقد عبر القرآن عن كل هذه المعاني بأدق الألفاظ وأرقها وأوجزها.

سكت قليلا، ثم قال: القرآن لا يختار الكلمات فقط.. بل يختار وجوه بنائها ليضعها في المواضع المناسبة لها.

سأذكر لك مثالا مقربا لذلك.

أنت تعلم الفرق بين صيغ المبالغة.. لاشك في ذلك؟

قلت: ما الذي تريد منها؟

قال: أخبرني عن الفرق بين صيغة مبالغة على وزن (فعّال)، وصيغة المبالغة على وزن (فعلة)

قلت: صيغة مبالغة على وزن (فعّال) ـ كما يقول أهل اللغة ـ تدل على الحِرفة والصنعة، فيقال لمحترف النجارة نجّار، ولمحترف الحِدادة حدّاد، وتشتهر عندهم أسماء  المهن على هذا الوزن كالفتال والزراد والخراط والصفار والنحاس والبزاز. فكلمة (كذاب) عندما تطلق على أحد فإنها تدل على أن الكذب صار حرفته التي يحترفها كما أن حرفة ذاك هي النجارة أو الحدادة. وهذه الصيغة تقتضي المزاولة، لأن صاحب الصنعة يداوم على صنعته.

قال: ووزن (فعلة)؟

قلت: له دلالتان: ما أصله غير مبالغة، ثم بولغ بالتاء، كالراوي، فنقول عند المبالغة (راوية).. والثاني ما أصله صيغة مبالغة، ثم تأتي التاء لتأكيد المبالغة وزيادتها، مثل: (هُمزة) فأصلها (هُمَز) وهي من صيغ المبالغة مثل (حُطَم ـ لُكَع ـ غُدَر ـ فُسق)، فنأتي بالتاء لزيادة  المبالغة.

ويقول أهل اللغة:ما بولغ بالتاء يدل على النهاية في الوصف، والغاية فيه، فليس كل (نازل) يسمى (نازلة)، ولا كل (قارع) يسمى (قارعة) حتى يكون مستطيرا عاما قاهرا كالجائحة، ومثلها القيامة والصاخة والطامة.

قال: فنحن أمام صيغتين للمبالغة إحداها تدل على المزاولة، والأخرى على النهاية في الوصف.

قلت: أجل.. هذا هو الفرق بينهما.

قال: لهذا ترى القرآن يستعمل كل صيغة في محلها الخاص، فقد جاء في سورة نوح مثلا:{ إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِراً كَفَّاراً) (نوح:27)، فالآية تشير إلى أن الكفر صار ديدنهم ومهنتهم اللازمة لهم، وأنهم لن يخرجوا عنه.

وفي نفس السورة نقرأ:{ فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً) (نوح:10)، أي أن الله غفار، وكلما أحدث العبد ذنبا أحدث الله له مغفرة.

ليس هذا فقط.. بل إن القرآن قد يذكر الكلمة الواحدة في موضع ببناء خاص، ثم يذكرها في موضع آخر ببناء آخر لاقتضاء السياق ذلك.

سأضرب لك مثلا على ذلك بكلمة ( الهمز)، فقد جاءت مرة على صيغة (فُعَلَة) في قوله:{ وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ) (الهمزة:1)، وجاءت مرة على صيغة (فَعّـال) في قوله:{ هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ) (القلم:11)

سر ذلك يرجع إلى السياق الذي وردت فيه.. فمن استقراء سورة القلم التي جاءت فيها الكلمة على صيغة (فَعّـال) نلاحظ أنها تتحدث عن التعامل مع الخلق  بين الناس، فكل مشاهد السورة أو أغلبها تدور حول هذا الأمر.. حتى أن فيها هذه الآية:{ وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) (القلم:4).. فهي تتناول السلوكيات، ولا تذكر العاقبة إلا قليلا([6]).

أما في سورة الهمزة، فقد ذكر النتيجة وتعرض للعاقبة، لذلك ناسب أن يذكر بلوغه النهاية في الاتصاف بهذه الصفة، وناسب أيضا أن يذكر في الجزاء صيغة مماثلة فقال:{ كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ) (الهمزة:4)، والنبذ إذلال، والحُطَمة صيغة مبالغة بالتاء تدل على النهاية في الحطم، وهي تفيد أن الجزاء من جنس العمل فكما أنه يبالغ في الهمز، فسيكون مصيره مماثلا في الشدة.

سكت قليلا، ثم قال: أتدري لم قال القرآن على لسان الشيطان:{ ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ) (لأعراف:17)، فقد ذكر الجهات الأربع.. ولم يذكر من فوقهم ومن تحتهم؟

قلت: لا أعرف.. ما سر ذلك؟

قال: لقد ورد في القرآن الإخبار بأن هاتين الجهتين مختصتان برحمة الله وعذابه.. ففي الرحمة جاء في القرآن:{ وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْأِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ) (المائدة:66)

وجاء في العذاب:{ قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ) (الأنعام:65)

سكت قليلا، ثم قال: أتدري لم قال القرآن:{ وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً )(مريم: 4).. أتدري ما الحكمة من لفظ (اشتعل ) في الآية؟

قلت: ما الحكمة من ذلك؟

قال: الاشتعال هو عملية تحول المادة المشتعلة من حالة إلى حالة أخرى مع استحالة رجوعها للحالة الأولى أي حالة ما قبل الاشتعال.. وهذا التصور والوصف ينطبق على سواد الشعر وبياضه، أي أن البياض يستحيل أن يتحول إلى سواد.

سكت قليلا، ثم قال: أتدري لم أضاف القرآن الإنارة إلى السراج مع أن السراح لا يكون إلا منيرا في قوله:{ وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُنِيراً) (الأحزاب:46)؟

قلت: لا أدري.. وأنا أتعجب من ذلك، وأتصوره إطنابا لا مبرر له.

قال: ليس في القرآن إطناب.. كل ما في القرآن له دلالته الخاصة..

أنت تعلم أن الضوء هو امتزاج الحرارة بالنور كما جاء في القرآن عن الشمس:{ هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً)(يونس: 5)، والنور هو تجريد الضوء من الحرارة كما جاء في القرآن عن القمر:{ وَالْقَمَرَ نُوراً )(يونس: 5)، والحرارة سلب والنور إيجاب لذلك جاء تعالى بلفظ (منيرا ) لاشتمال مضيئاً على جانب سلبي، وهو النار، وهو لا يليق بوصف يمدح به محمد.

سكت قليلا، ثم قال: حرف واحد قد يؤثر في المعنى تأثيرا عظيما.. اسمع هذه الآية التي تصف سوق الكفار إلى جهنم:{ وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ) (الزمر:71)

واسمع هذه الآية التي تصف سوق المؤمنين إلى الجنة:{ وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ) (الزمر:73)

لقد ذكر الفتح في كلا الموضعين.. لكنه بفارق حرف واحد، فقد دخلت (الواو) (وفتحت)عند ذكر أصحاب الجنة، ولم تدخل (فتحت) عند ذكر أصحاب النار.

أتدري ما سر ذلك؟

قلت: ما سر ذلك.. أليس هي مجرد زيادة؟

قال: تستحيل الزيادة في القرآن.. كل حرف له دلالته الخاصة، وعمله الخاص.

أما هنا، فقد عملت (الواو) عملا بالغ الضرورة، إذ أن أصحاب النار قد سيقوا إلى جهنم، وهي بعد لم تفتح، حتى إذا وقفوا على أبوابها فتحت عن جملة عذابها، فكان هذا عذابا ضعفا عليهم.

أما أصحاب الجنة فقد سيقوا إلى الجنة وأبوابها قد فتحت لهم قبل مجيئهم أي أن تقدير الآية:( حتى إذا جاءوها وقد فتحت أبوابها )، وهذا من زيادة الترحيب بأهل الجنة وتعجيل البشارة لهم.

سكت قليلا، ثم قال: وهكذا فإن القرآن معجز من حيث اختيار الكلمات التي يعبر بها عن أغراضه، وقد سمعت كثيرا من المختصين في العلوم المختلفة يبينون دقة القرآن في استعمال كلماته:

فأهل التشريع والقانون يبيّنون إعجاز القرآن التشريعي، ويبينون اختيارات الألفاظ التشريعية في القرآن ودقتها في الدلالة على دقة التشريع ورفعته ما لا يصح استبدال غيرها بها، وأن اختيار هذه الألفاظ في بابها أدق وأعلى مما نبيّن نحن من اختيارات لغوية وفنية وجمالية.

وأهل الطب يذكرون أسرار التعبير القرآني من الناحية الطبية التشريحية ودقتها.. ومن ذلك أن ما ذكره القرآن من مراحل تطور الجنين في الرحم هي التي انتهى إليها العلم مما لم يكن معروفاً قبل هذا العصر، فاختيار تعبير (العلقة) و (المضغة) أعجب اختيار علمي:

فاختيار التعبير بـ (العلقة) اختيار له دلالته، فإن المخلوق في هذه المرحلة أشبه شيء بالعلقة وهي الطفيلية المعروفة. وكذلك التعبير بـ (المضغة)، فالمضغة هي القطعة من اللحم قدر ما يمضغ الماضغ. ولكن لاختيار كلمة (مضغة) سبب آخر، ذلك أن المضغة هي قطعة اللحم الممضوغة أي التي مضغتها الأسنان، وقد أثبت العلم الحديث أن الجنين في هذه المرحلة ليس قطعة لحم عادية بل هو كقطعة اللحم التي مضغتها الأسنان، فاختيار لفظ (المضغة) اختيار علمي دقيق، فالقرآن لم يقل (قطعة لحم صغيرة)، ولو قال ذلك لكان صواباً ولكن قال (مضغة)

وهكذا في كل تخصص([7])..

وقد قرأت فيما توصل إليه علم التاريخ وما دلت عليه الحفريات الحديثة من أخبار ذي القرنين أدق الكلام وأدق الأخبار ما لم يكن يعرفه جميع مفسري القرآن فيما مضى من الزمان. وأن الذي اكتشفه المؤرخون والآثاريون وما توصلوا إليه في هذا القرن منطبق على ما جاء في القرآن الكريم كلمة كلمة ولم يكن ذلك معلوماً قبل هذا القرن.

وقرأت في اختيار التعبير القرآني لبعض الكلمات التاريخية كـ (العزيز) في قصة يوسف، وكاختيار تعبير (الملك) في القصة نفسها، واختيار كلمة (فرعون) في قصة موسى، فعرفت أن هذه ترجمات دقيقة لما كان يُستعمل في تلك الأزمان السحيقة فـ (العزيز) أدق ترجمة لمن يقوم بذلك المنصب في حينه، وأن المصريين القدامى كانوا يفرقون بين الملوك الذين يحكمونهم فيما إذا كانوا مصريين أو غير مصريين، فالملك غير المصري الأصل كانوا يسمونه (الملك)، والمصري الأصل يسمونه (فرعون)، وأن الذي كان يحكم مصر في زمن يوسف غير مصري، وهو من الهكسوس فسماه (الملك)، وأن الذي كان يحكمها في زمن موسى هو مصري فسماه (فرعون)، فسمى كل واحد بما كان يُسمى في الأزمنة السحيقة.

إن التعبير القرآني الواحد قد ترى فيه إعجازاً لغوياً جمالياً، وترى فيه في الوقت نفسه إعجازاً علمياً، أوإعجازاً تاريخياً، أو إعجازاً نفسياً، أو إعجازاً تربوياً، أو إعجازاً تشريعياً، أو غير ذلك.

قلت: ولكن مع ذلك.. ففي القرآن الكثير من الكلمات الغريبة، والتي تؤثر فيما ذكرته من بلاغة القرآن ([8]) ..

قال: اذكر لي أمثلة لذلك.. فكل دعوى لابد لها من دليل يدل عليها، أو مثال ينبه إليها.

قلت: لست بحاجة إلى ذكر أمثلة لذلك، فوجود الغريب فى القرآن من المشهور الذي لا شك فيه.. لقد ألف العلماء في هذا الفن.. فالإمام محمد بن مسلم بن قتيبة وضع كتاباً فى (غريب القرآن)، وأورده على وفق ما جاء فى سور القرآن سورة سورة.. ومثله فعل السجستانى، وتفسيره لغريب القرآن مشهور، ومثلهما الراغب الأصفهانى فى كتابه (المفردات) فى شرح غريب القرآن.. ومثلهم جميعا جلال الدين السيوطى، الذي له كتاب يحمل اسم (مبهمات القرآن)

ألا يُعد كل ذلك اعترافاً صريحاً من هؤلاء الأئمة بورود الغريب فى القرآن؟

بالإضافة إلى ذلك.. فإن جميع مفسرى القرآن قاموا بشرح ما رأوه غريباً فى القرآن.. فكيف يسوغ القول بإنكار وجود الغريب فى القرآن أمام هذه الحقائق التى لا تغيب عن أحد؟

وإن أردت أمثلة على ذلك.. ففي القرآن مثلا هذه الكلمات (فاكهةً وأبًّا، غسلين، حنانا، أوَّاه، الرقيم، كلالة، مبلسون، أخبتوا، حنين، حصحص، يتفيؤا، سربا، المسجور، قمطرير، عسعس، سجيل، الناقور، فاقرة، استبرق، مدهامتان.. وغيرها من الألفاظ الغريبة المخالفة لما تقتضيه البلاغة من يسر الألفاظ وقربها.

قال: الغريب غريبان، غريب مطلق، وهو ما كان غريبا في تركيبه، وهو الذى يعد عيباً فى الكلام، وإذا وجد فيه سلب عنه وصف الفصاحة والبلاغة.. ولا وجود لهذا النوع فى القرآن.

ومنه غريب نسبي، وهو ما اختلف الناس في التعرف عليه بحسب مستوياتهم اللغوية.. ألا ترى أن ألفاظا كثيرة هي ألفاظ سلسة طبيعية عند الأدباء أو الشعراء.. ولكنها قد تكون غريبة على من لم يحترف حرفتتهم، ولم يتعلم علومهم؟

بل إن هذا النوع من الغريب لا يخلو منه أحد من الناس، فاللغة واسعة، وكل كلمة جديدة على الذهن تبدأ غربية، ثم تزول غرابتها بالإدمان على استعمالها.

ولتفسير هذا النوع من الكلمات جاءت المؤلفات التي ذكرتها مما يسمى بـ (غريب القرآن )، وأول مؤلف وضع فى ذلك هو كتاب (غريب القرآن) لابن قتيبة فى القرن الثالث الهجرى، وكونه في هذا القرن دليل على أنه لم يكتب للمسلمين العرب، بل كان القصد منه هو أبناء الشعوب غير العربية التى دخلت فى الإسلام، وكانت جديدة المعرفة بالعربية.

وكل المؤلفات التي ألفت في هذا الباب تحت هذا الاسم أو غيره ألفت لهذا الغرض.

فما يطلق عليه (غريب القرآن) فى المؤلفات التراثية أو كتب علوم القرآن، وما تناوله مفسرو القرآن فى تفاسيرهم، هو غريب نسبى لا غريب مطلق.

والغريب النسبى بكل الاعتبارات غريب فصيح سائغ، وليس غريباً عديم المعنى، أو لا وجود له فى معاجم اللغة ومصادرها، بل هو موضع إجماع بين علماء اللغة والبيان فى كل عصر ومصر.

قلت: فقد وردت قصة عن ابن عباس تدل على غرابة كلمات قرآنية كثيرة على العرب.

قال: تقصد ما يسمى بـ (مسائل ابن الأزرق)؟

قلت: أجل.. فهي مسطورة فى كثير من كتب التراث مثل ابن الأنبارى فى كتابه (الوقف)، والطبرانى فى كتابه (المعجم الكبير)، والمبرد فى كتابه (الكامل)، وجلال الدين السيوطى فى كتابه (الإتقان فى علوم القرآن)، وغيرهم.

وإن كنت لا تذكر القصة، فهي تنص على أن عبد الله بن عباس كان جالساً بجوار الكعبة يفسر القرآن، فأبصره رجلان هما: نافع بن الأزرق، ونجدة بن عويمر، فقال نافع لنجدة:( قم بنا إلى هذا الذى يجترئ على القرآن ويفسره بما لا علم له به)، فقاما إليه فقالا له:( إنَّا نريد أن نسألك عن أشياء فى كتاب الله، فتفسرها لنا، وتأتينا بما يصادقه من كلام العرب، فإن الله أنزل القرآن بلسان عربى مبين )، فقال ابن عباس: سلانى عما بدا لكما. ثم أخذا يسألانه وهو يجيب بلا توقف، مستشهداً فى إجاباته على كل كلمة، قرآنية سألاه عنها بما يحفظه من الشعر العربى المأثور عن شعراء الجاهلية، ليبين للسائلين أن القرآن نزل بلسان عربى مبين.

قلت: فما في هذا من الشبهة؟

قال: لولا أن في القرآن غريبا لما احتاج هذان الرجلان إلى تفسيره.

قال: هذا مما يدلك على قوة لغة القرآن لا على ضعفها.

قلت: كيف ذلك.. وقد استعمل غريبا لا يعرفه هؤلاء العرب الخلص.

قال: لقد احتوى القرآن على معان كثيرة جليلة لا تستطيع الوفاء بها الكلمات القليلة التي يتداولها الناس فيما بينهم، فلذلك لم يكتف بها، بل استعمل خزان العربية الثري، لينهل منه الألفاظ الدالة على المعاني بدقة.

وإن شئت دليلا على هذا.. فاذهب إلى القواميس الخاصة بالمصطلحات المرتبطة بكل فن من الفنون.. فأنت تجد في كل يوم مصطلحات جديدة للدلالة على المعاني الجديدة.

قلت: وما علاقة ذلك بالقرآن؟

قال: لقد جاء القرآن بعلوم كثيرة، ومواضيع كثيرة لم تعهدها العرب في كلامها، فلذلك اختار التعابير المناسبة لتلك المعارف العميقة..

بل إنه لم يكتف بذلك.. بل وضع مصطلحات دالة على هذه المعاني.. كالصلاة والزكاة والذكر.. ومثلها كثير من المصطلحات لا نجدها إلا في القرآن.. ولكنا نجد أصولا لها في اللغة العربي.

وهذا ما فسره ابن عباس لذلك الرجل..

فالقرآن لم يبتدع ألفاظا لا يعرفها أحد من الناس، وإنما استعمل ما يعرفه الناس ليعبر عن المعاني التي يريد.

وفي هذا يدخل ما ذكرته من الكلمات التي تصورت غرابتها ككلمة (غسلين) التي تعني الصديد، أى صديد أهل النار، وما يسيل من أجسادهم من أثر الحريق، ولما كان يسيل من كل أجسامهم شبه بالماء الذى يُغسَل به الأدران.

فهذه الكلمة تدل على معنى غير موجود في لغة العرب.. ولكن القرآن استخدم اللفظ القريب المؤدي للمعنى.

بل قد قد يستعمل القرآن أحيانا ألفاظا أعجمية عربتها العرب وجعلتها على موازينها..وذلك مثل إستبرق، وسندس، واليم، فهذه الألفاظ كانت مأنوسة الاستعمال عند العرب حتى قبل نزول القرآن، بل كانت شائعة شيوعاً ظاهراً فى محادثاتهم اليومية.

وهى مفردات وليست تراكيب، بل هي أسماء مفردة لأشخاص أو أماكن أو معادن أو آلات.

ثم إنها وإن لم تكن عربية الأصل، فهى ـ بالإجماع ـ عربية الاستعمال. ومعانيها كانت ـ وما تزال ـ معروفة فى القرآن، وفى الاستعمال العام.

وهذه الظاهرة ليست خاصة بالعربية.. فاستعارة اللغات من بعضها من سنن المجتمعات البشرية، وهي دليل على حيوية اللغة.

بل نجد هذه الظاهرة فاشية فى العصر الحديث، ويسميها اللغويون بـ (التقارض) بين اللغات.. تستوي في ذلك اللغات جميعا.. سامية أو غيرها كالإنجليزية والألمانية والفرنسية وفى اللغة الأسبانية كلمات مستعملة الآن من اللغة العربية.

أما مااقترضته اللغة العربية من غيرها من اللغات القديمة أو ما له وجود حتى الآن فقد اهتم به العلماء المسلمون ونصوا عليه كلمة كلمة، وأسموه بـ (المعرَّب)، مثل كتاب العلامة الجواليقى، وقد يسمونه بـ (الدخيل)

قلت: فكيف يستقيم هذا مع ما نص عليه القرآن في مواضع متفرقة من أنه أنزل بلسان عربي مبين.. ألم تقرأ فيه:{ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (يوسف:2).. {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} (النحل:103)..{ وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً) (طـه:113).. {كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) (فصلت:3).. { وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أَعْجَمِيّاً لَقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمىً أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ) (فصلت:44).. {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (الزخرف:3)

فكيف يمكن أن يكون عربيا، وفيه هذه الألفاظ الأعجمية([9]

كيف يكون القرآن عربيًّا مبينًا، وبه كلمات أعجمية كثيرة: من فارسية، وآشورية، وسريانية، وعبرية، ويونانية، ومصرية، وحبشية، وغيرها؟

وإن شئت التمثيل لذلك.. فكل هذه الكلمات كلمات أعجمية (آدم أباريق إبراهيم أرائك استبرق إنجيل تابوت توراة جهنم حبر حور زكاة زنجبيل سبت سجيل سرادق سكينة سورة صراط طاغوت عدن فرعون فردوس ماعون مشكاة مقاليد ماروت هاروت.. )

صمت قليلا، وكأنه يستجمع أفكاره ليجيبني، ثم قال: هل قرأت دائرة المعارف الإسلامية؟

قلت: أجل.. اطلعت على الكثير منها، فهل فيها الإجابة على هذه الشبهة؟

قال: أجل.. ولكن في نسختها العربية فقط.

قلت: لقد قرأتها.. وقرأت مادة القرآن فيها، ولكني لم أجد الجواب عن هذه الشبهة.

قلت: هل أنت متأكد من أنك قرأت النسخة العربية منها؟

قلت: أجل.. مثلما أنا متأكد من وجودك معي.

قال: لعلك قرأت نسخة مختلطة.. ليست عربية محضة.

قلت: بل قرأت نسخة عربية محضة.

قال مبتسما: بلسان عربي مبين.

قلت: أجل.. بلسان عربي مبين.. فقد أشرف عليها لغويون كبار.

قال: لقد أجبت نفسك عن شبهتك.

قلت: كيف ذلك؟

قال: ألا توجد في تلك النسخة كلمات أعجمية؟

قلت: أجل.. يوجد الكثير منها.. وهو ضرورة.. فأحيانا يحتاج الكاتب إلى نقل النص بلغته الأصلية، بالإضافة إلى أن هناك أعلاما لابد أن تكتب بتلك الصيغة.

قال: وهكذا القرآن.. فهو بلسان عربي مبين.. وكونه كذلك لا يمنع من وجود بعض الألفاظ القليلة التي تأتي على سبيل الندرة من الكلمات الأعجمية.

فوجود مفردات أجنبية فى أى لغة سواء كانت اللغة العربية أو غير العربية لا يخرج تلك اللغة عن أصالتها، ومن المعروف أن الأسماء لا تترجم إلى اللغة التى تستعملها حتى الآن.. فالمتحدث بالإنجليزية إذا احتاج إلى ذكر اسم من لغة غير لغته، يذكره برسمه ونطقه فى لغته الأصلية.

ومن هذا ما نسمعه فى نشرات الأخبار باللغات الأجنبية فى بلادنا، فإنها تنطق الأسماء العربية نُطقاً عربيَّا، ولا يقال: إن نشرة الأخبار ليست باللغة الفرنسية أو الإنجليزية مثلاً، لمجرد أن بعض المفردات فيها نطقت بلغة أخرى.

والمؤلفات العلمية والأدبية الحديثة التى تكتب باللغة العربية ويكثر فيها مؤلفوها من ذكر الأسماء الأجنبية والمصادر التى نقلوا عنها ويرسمونها بالأحرف الأجنبية والنطق الأجنبى لا يقال: إنها مكتوبة بغير اللغة العربية، لمجرد أن بعض الكلمات الأجنبية وردت فيها، وهكذا.

ولهذا، فإن كل ما فى القرآن من كلمات غير عربية الأصل إنما هى كلمات مفردات، وهي في معظمها  أسماء أعلام مثل ( إبراهيم، يعقوب، إسحاق، فرعون)

زيادة على ذلك، فإن القرآن يخلو تمامًا من تراكيب غير عربية، فليس فيه جملة واحدة اسمية، أو فعلية من غير اللغة العربية.

قلت: ليست الخطورة في هذا.. ولكن الخطورة في مصطلحات كثيرة ورد بها القرآن.. وهي دليل على تأثره بمصادر أجنبية.

قال: ما أمثلة ذلك؟

قلت: هي كلمات كثيرة لها دلالاتها الخاصة، كالزكاة، والسكينة، والحور، والسبت، والسورة، وعدن.. بل حتى كلمة (الله) التي هي علم على إله المسلمين.

قال: من أخبرهم بأن هذه كلمات أعجمية.. هذه كلمات عربية أصيلة لها جذور لغُوية عريقة فى اللغة العربية، وقد ورد فى المعاجم العربية وكتب فقه اللغة وغيرها تأصيل هذه الكلمات عربيَّا، فالزكاة ـ مثلا ـ من زكا يزكو فهو زاكٍ، وأصل هذه المادة هى الطهر والنماء.. والسكينة، بمعنى الثبات والقرار، ضد الاضطراب لها جذر لغوى عميق فى اللغة العربية، يقال: سكن بمعنى أقام، ويتفرع عنه: يسكن، ساكن، مسكن، أسكن.. وهكذا سائر الكلمات..

ومن أكذب الادعاءات أن يقال: إن لفظ الجلالة (الله) عبرى أو سريانى، وأن القرآن أخذه عن هاتين اللغتين، إذ ليس لهذا اللفظ (الله) وجود فى غير العربية.

فالعبرية مثلاً تطلق على (الله) عدة إطلاقات، مثل ايل، الوهيم، وأدوناى، ويهوا أو يهوفا.. فأين هذه الألفاظ من كلمة (الله) فى اللغة العربية؟

ومثلها في اللغة اليونانية التى ترجمت منها الأناجيل إلى اللغة العربية حيث نجد الله فيها (الوى) وقد وردت فى بعض الأناجيل يذكرها المسيح مستغيثاً بربه هكذا (الوى الوى )، وترجمتها إلهى إلهى.

بالإضافة إلى هذا كله.. فإن هذه المفردات ـ التي وصفت بأنها غير عربية ـ وإن لم تكن عربية فى أصل الوضع اللغوى، فهى عربية باستعمال العرب لها قبل عصر نزول القرآن.. وبهذا الاستعمال فارقت أصلها غير العربى، وعُدَّتْ عربية نطقاً واستعمالاً وخطاًّ.

صمت قليلا، سمعنا خلالها سورة الضحى بصوت الشيخ عبد الباسط عبد الصمد..كانت قراءة خاشعة تحلق بالروح لسموات جميلة مملوءة بفضل الله ورحمته وقربه من عباده.

بعد أن انتهى القارئ من قراءته، قال: لا شك أن هذه القراءة هزت أعماقك.. هي تفعل ذلك معي.. وهي لا تفعل ذلك بسبب أداء القارئ فقط.. بل بمعانيها.. وبالكسوة التي كسيت بها معانيها.

التصوير الفني:

قلت: وعيت مرادك من التعبير الفني، وأشهد صادقا أن القرآن يحوي من جمال التعبير ما يسلب الألباب.. فما مرادك من التصوير الفني؟

قال: هي ناحية أخرى من نواحي المتعة فيه.. إن القرآن لا يصف لك الأحادث كما يصفها البلغاء، فتتيه بألفاظهم وجمال تعابيرهم عن الأحداث التي يريدون وصفها لك.. بل إنه ينقل لك الأحداث لتراها بعينيك، وتسمعها بأذنيك، وتشمها بأنفك.

إنه يختصر مسافات المكان والزمان لينقلك لترى الحقائق بصورة مشاهد تعيشها، وتنفعل لها..

وهذا التصوير الجميل لم يكتمل إلا في القرآن.. فالقارئ فيه لا يقرأ، وإنما يشاهد ويعيش ويتحقق.. ولذلك كان تأثير القرآن أعظم من كل تأثير.

إنني أقرأ في الكتاب المقدس قصة موسى.. وأرى الأحداث التي مر بها، فلا تختلف قراءتي فيه عن قراءتي لأي كتاب في التاريخ.. بينما أرجع إلى القرآن.. فأجد قصة موسى حية، تنبعث الحياة في كل جزء من أجزائها..

إنني أقرأ التواراة.. فلا أجد فيها مثل هذا النص الجميل:{ وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ}(القصص:7)

إن هذا النص يصور أم موسى، وهي خائفة وجلة على ابنها، فيأتيها الأمر الإلهي الحي بأن تلقيه في اليم، وبأن لا تخاف عليه ولا تحزن، بل تستبشر لأن الله سيرده إليها، وسيجعله من المرسلين.

إنك في هذا الحادث الذي تكاد تبصره بعينيك لا ترى أم موسى فقط.. بل ترى رحمة الله وفضله على عباده.. فالله لا يعبر في هذه الآية بصيغة الغائب، وإنما يعبر بصيغة المتكلم الحاضر.

وأقرأ في القرآن قصة رحيل موسى إلى مدين، فأمتلئ بمعاني سامية أكاد أبصرها بعيني، وألمسها بيدي.. اسمع إلى هذا النص الجميل:{ وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنْ النَّاصِحِينَ فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفاً يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنْ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنْ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمْ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنْ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنْ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَةَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ الصَّالِحِينَ قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ }(القصص: 20 ـ 28)

إن هذا المشهد لا يروي مخيلتك فقط بالمشاهد، بل ينقل لك معها نفس موسى الطيبة وروحانيته، وتقواه، ومروءته، إنها صور كثيرة، لا لأشياء محسوسة فقط.. بل لأشياء لا يمكن أن تلمسها، ولا أن تراها.

قلت: إن أي قصة في الدنيا يمكن أن تتحول إلى مشاهد في ذهن المستمع.. وليس للقرآن مزية في ذلك.

قال: إن المشاهد القرآنية مختلفة تماما، إن حياتها لا تنبعث من تصويرها للأحداث المحسوسة، بل تنبعث من تصويرها لما وراء الأحداث، ولما قبلها، ولما بعدها.

ومع ذلك.. فاسمع أي موضوع في القرآن تجده يصور لك أي شيء مهما غمض وخفي..

إنه يصور النفوس في اضطرابها وحيرتها وقلقها وخوفها، فيقول:{ أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (البقرة:19 ـ 20)

إن هذا مشهد عجيب، حافل بالحركة، مشوب بالاضطراب، فيه تيه وضلال، وفيه هول ورعب، وفيه فزع وحيرة، وفيه أضواء وأصداء.. صيب من السماء هاطل غزير فيه ظلمات ورعد وبرق.. كلما أضاء لهم مشوا فيه.. وإذا أظلم عليهم قاموا حائرين لا يدرون أين يذهبون، وهم مفزعون يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت.

إن الحركة التي تغمر المشهد كله من الصيب الهاطل، إلى الظلمات والرعد والبرق، إلى الحائرين المفزعين فيه، إلى الخطوات المروعة الوجلة التي تقف عندما يخيم الظلام.. إن هذه الحركة في المشهد لترسم – عن طريق التأثر الإيحائي – حركة التيه والاضطراب والقلق والأرجحة التي تعيش فيها نفوس أولئك المنافقون بين لقائهم للمؤمنين، وعودتهم للشياطين.. بين ما يقولونه لحظة، ثم ينكصون عنه فجأة.. بين ما يطلبونه من هدى ونور، وما يفيئون إليه من ضلال وظلام.. فهو مشهد حسي يرمز لحالة نفسية؛ ويجسم صورة شعورية([10]).

قلت: هو تصوير بارع.. نعم.. ولكن ما تأثير هذا على الأهداف التي جاء القرآن ليقررها، ويربي النفوس عليها؟

قال: لا يمكن أن تتحقق أي أهداف في الدنيا حتى تصبح صورا ومشاهد تملأ نفوس أصحابها.

لقد اعتمد القرآن هذا الأسلوب التصويري ليملأ التفوس بالطهارة، والأرواح بالسمو.

صمت قليلا، قرأ القارئ خلالها بصوته الجميل قوله تعالى:{  وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ وَأَشْرَقَتْ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنْ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (الزمر: 68 ـ 75)

أغلق الجهاز، ثم قال: هل رأيت هذا المشهد؟

قلت: ما تقصد؟

قال: هذا المشهد العظيم الذي ذكره القرآن.. إني أسمعه كلما قطعت هذه الطريق، ومع ذلك لا أمل من سماعه.. إن القرآن ينقل لي أحداثا كثيرة لا تزال لم تحدث بعد.. ليجعل عيناي تريانها بكل دقة.

إن هذا المشهد يملأ النفوس طهارة.. والأرواح رفعة..

إنه برفعك إلى آفاق سامية لا يستطيع أي جدل عقلي، ولا منطق حسي، ولا قصيدة وجدانية أن ترفعك إليها.

وهو لا يكلف عقلك أي عنت لتفهم ما تقول.. بل يكفي أن تسرح لمخيلتك العنان لتعيش ما تسمع.. ثم تملأ النفس بعدها بالحقائق التي لا يستطيع الجدل أن يبلغها.

إنه ( مشهد رائع حافل، يبدأ متحركاً، ثم يسير وئيداً، حتى تهدأ كل حركة، وتسكن كل نأمة، ويخيم على ساحة العرض جلال الصمت، ورهبة الخشوع، بين يدي الله )

إنك ترى فيه الأرض، وقد طوي بساطها، والسماء وقد التحفت بإشراقة النور، إنك ترى فيه العالم بصورة مختلفة.. صورة تملأ النفس بالمواجيد الصادقة.

قلت: هي مشاهد جميلة.. نعم.. وتروي الخيال.. نعم.. ولكن ما علاقة كل ذلك بالسلوك؟

قال: كل سلوك صالح ينطلق من هذه المشاهد.. ألم تسمع ذلك الوصف لسوق أهل الجنة.. إنهم يقادون إلى الجنة كالملوك.. وهم يوصفون بالأتقياء لتتحرك في همة كل من يرى هذا المشهد إلى التحقق بالتقوى.

وهو يصف أهل جهنم الذين يقادون إليها أذلاء بأنهم من الكفار لتمتلئ النفوس خوفا من الكفر الذي يوردها هذا المورد..

إنه ليس مشهدا فقط.. إنه مدرسة تربوية كاملة.

ولهذا لما امتلأ أصحاب محمد بمثل هذه المشاهد امتلأت نفوسهم بحب الجنة.. ولما امتلأت بحب الجنة امتلأت بما يقربهم إليها.

اسمع الحارث بن مالك الانصاري، وهو أحد أصحاب محمد، وهو يصف تأثير هذه المشاهد على نفسه، قال: مررت بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: كيف أصبحت يا حارث؟ قلت: أصبحت مؤمنا حقا، فقال: انظر ما تقول! فان لكل شئ حقيقة فما حقيقة إيمانك؟ قلت: قد عزفت نفسي عن الدنيا، وأسهرت لذلك ليلى وأظمأت نهاري، وكأني أنظر إلى عرش ربي بارزا، وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون فيها، وكأني أنظر إلى أهل النار يتضاغون فيها، فقال:( يا حارث! عرفت فالزم ) – قالها ثلاثا([11]).

ومما يروى من ذلك عن جبير بن مطعم أنه قال:( سمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقرأ في المغرب بالطور، فلما بلغ هذه الآية:{ أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (35) أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ (36) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُسَيْطِرُونَ (37)}(الطور) كاد قلبي أن يطير ).

صمت قليلا، ثم قال: بهذا الأسلوب يصور لك القرآن كل المشاهد.. الحسية والمعنوية.. وكل الحقائق.. العلوية والسفلية.. إنه يتكلم عن كل شيء.. ويصور كل شيء.

سأضرب لك مثالا على كيفية تصوير القرآن لمعنى النفور الشديد من دعوة الإيمان.. اسمع هذه الآيات:{ فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (49) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (50) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (51)}(المدثر)

ففي هذا النص تشترك مع الذهن حاسة النظر وملكة الخيال وانفعال السخرية وشعور الجمال.. السخرية من هؤلاء الذين يفرون كما تفر حمر الوحش من الأسد لا لشيء إلا لأنهم يدعون إلى الإيمان، والجمال الذي يرتسم في حركة الصورة حينما يتملاّها الخيال في إطار من الطبيعة تشرد فيه الحمر تيبعها قسورة، فالتعبير هنا يحرك مشاعر القارئ، وتنفعل نفسه مع الصورة التي نُقلت إليه وفي ثناياها الاستهزاء بالمعرضين.

واسمع إلى القرآن كيف يصور عجز الآلهة التي يعبدها المشركون من دون الله:{ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَّا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ}(الحج: 73)

فالصورة الفنية هنا هي الربط بين قدسية الآلهة المزعومة حيث وُضعت في أذهان معتنقيها في أقدس صورة، والربط بينها وبين مخلوق حقير.. ولم يكتف بهذا الربط بل حشد لهذا المخلوق جموعأً ضخمة، فعجزوا عن خلقه، ثم في الصورة التي تنطبع في الذهن من طيرانهم خلف الذباب لاستنقاذ ما يسلبه، وفشلهم مع اتباعهم عن هذا الاستنقاذ.

النظم الفني:

قلت: فما تريد بالنظم الفني؟

قال: لقد تميز القرآن بنظم خاص لا يشاكل فيه أي نظم في الدنيا.

قلت: ما تقصد؟

قال: ارجع إلى كل ما كتب في الدنيا من شعر ونثر وقارن بينه وبين القرآن، فستجد للقرآن أسلوبه الخاص الذي جمع بين محاسن الشعر ومحاسن النثر، ووقي في نفس الوقت من مساوئهما.

لقد ذكر أبو العلاء المعري الشاعر الأديب المتهم بمعارضة القرآن هذه الخاصية فقال:( وأجمع ملحد ومهتد أن هذا الكتاب الذي جاء به محمد كتاب بهر بالاعجاز، ولقى عدوه بالارجاز، مـا حذى على مثال ، ولا أشبه غريب الأمثال ،.. ما هو من القصيد الموزون ، ولا الرجز، ولا شاكل خطابة العرب ولا سجع الكهنة، وجاءكالشمس ، لو فهمه الهضب لتصدع ، وإن الآية منه أوبعض الآية لتعرض في أفصح كلم يقدر عليه المخلوقون، فتكون فيه كالشهاب المتلالىء في جنح غسق، والظهرة البادية في جدوب )

والتفت إليها قبله الوليد بن المغيرة المخزومي، وهو عدو من أعداء محمد الأولين، وقد عرف بين عرب الجاهلية بكياسته وحسن تدبيره ، حتى سمي ريحانة قريش.. سمع آيات من سورة غافر فرجع الى قومه، فقال لهم:( واللّه لقد سمعت من محمد آنفا كلاما ما هو من كلام الانس ولا من كلام الجن ، وإن له لحلاوة ، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق ، وإنه ليعلو وما يعلى عليه)([12]

وقد حجب الكثير من المتنبئين بهذا النوع من جمال الأسلوب عن حقائق القرآن التي تلبس تلك الثياب الجميلة، فرحوا يحاولون تقليد القرآن.. فضحكوا، واضحكوا عليهم الناس.

التفت إلي، فرآني واجما، فقال: سأذكر لك منها ما يغسل صدرك غسلا.. ستضحك كما لم تضحك من قبل.

لا شك أنك تعرف مسيلمة.. ذلك المتنبئ الكاذب.. قال ـ فيما يزعم أنه نزل عليه من السماء ـ:( والليل الأضخم، والذئب الأدلم، والجذع الأزلم، ما انتهكت أسيد من محرم ) ذكر ذلك في خلاف وقع بين قوم أتوه من أصحابه.

وقال فيهم:( والليل الدامس، والذئب الهامس، ما قطعت أسيد من رطب ولا يابس)

وكان معجبا بأنواع من الحيوانات، فلذلك ضم قرآنه بعض أوصافها، فهو يقول في الغنم:( والشاء وألوانها، وأعجبها السود، وألبانها، والشاة السوداء، واللبن الابيض، إنه لعجب محض، وقد حرم المذق، فما لكم لا تجتمعون)

التفت إلي، وقد غلبني الضحك عن نفسي، فراح يكمل: وكان يقول:( ضفدع بنت ضفدعين، نقى ما تنقين، أعلاك في الماء وأسفلك في الطين، لا الشارب تمنعين، ولا الماء تكدرين، لنا نصف الارض ولقريش نصفها، ولكن قريشا قوم يعتدون!)

وكان يقول:( والمبديات زرعا، والحاصدات حصدا، والذاريات قمحا، والطاحنات طحنا، والخابزات خبزا، والثاردات ثردا، واللاقمات لقما، إهالة وسمنا، لقد فضلتم على أهل الوبر، وما سبقكم أهل المدر، ريفكم فامنعوه، والمعتر فآووه، والباغى فناوئوه )

وبمثل ذلك نطق أكثر المتنبئين.

اصطنعت الجد، وقلت له: أتصدق أن مثل أولئك قالوا مثل هذا.

قال: قد كنت أكذبه.. حتى ظفرت بأدلة تصدق ذلك.

قلت: وما ظفرت.. أرأيت مخطوطا تركه مسيلمة عليه بصمات يده فيه هذا الهذر.

قال: لا.. لقد كتب قومي وقومك مثل قول مسيلمة، فاستدللت به على صدق ما ورد عن مسيلمة.

قلت: ما تقول؟.. لم أسمع أن قومنا فكروا في تقليد القرآن.

قال: لا.. بل فعلوا.. لقد كان هذا آخر اختراع اخترعوه في حربهم التي يشنونها على القرآن.

قلت: ومن أين لهم الأدباء الفضلاء الذين انتدبوهم لهذا الغرض؟

قال: لقد اشتروا بعض الألسن الفارغة، والعقول السخيفة، فراحت تهذر بنظم لا يختلف عن نظم مسيلمة([13]).

قلت: فأسمعني بعض ما قالوا.

قال: سأسمعك قرآنا جديدا.. لم تمض مدة طويلة على تأليفه.. سماه مؤلفه، أو مؤلفوه (الفرقان الحق).. وهو محاولة عصرية لتقليد النص القرآني لفظاً ومعنىً وأسلوباً وصياغة([14]).

لا يمكنني أن أقرأ عليك هذا الفرقان جميعا.. فلن تطيق سماعه.. ولهذا سأقتصر على بعض سوره.. أو أربع منها.. ربما كانت أفضلها.

أما السورة الأولى.. فهي (سورة الحق)، وأول آية منها تقول:( وأنزلنا الفرقان الحقَّ نوراً على نور محقاً للحقّ ومزهقاً للباطل وإن كره المبطلون)

ابتسمت استغرابا لهذا التقليد العجيب، فقال: هذه آية واحدة من هذه السورة.. ولكنها مع ذلك تمتلئ أخطاء في الحروف والكلمات والأفعال والأسماء:

فهذا النص يبدأ بـ (بالواو )  وهي على تعدد أنواعها لا تأتي في هذا الموضع إلا على احتمالين:إما أن تكون استئنافية، أو تكون عاطفة.. وفي كلا الحالين لابد من كلام قبلها، لنستأنف بالواو ما بدأناه، أو نعطف بها على جملة  سبقتها.

فلابدّ إذاً من تقدير  جملة محذوفة قبل الواو، غير أنه لا بد للمحذوف من كلام يدلّ عليه أو يشير إليه، وليس فيما يلي الواو ما يدلّ على معنى سابق مقدّر، فما الحاجة إليها إذاً وهي لم تُفِدْ شيئاً، ولم تضف معنى؟ بل يمكن الاستغناء عنها، أو إبدالها حرف توكيد، حيث تتأتى من ذلك فائدة ليست في وجود الواو في هذا الموضع.

ثم جاء الفعل (أنزلنا).. وهو تعبير مقتبس من القرآن كسائر الكلمات.. فلم اقتبسوه، ولم لم يقولوا قدّمنا أو كتبنا أو أرسلنا أو ألّفنا.

ثم لماذا وصفوا الفرقان بكونه حقا، مع أن الفرقان اسم معرف بأل وهذه الـ ( أل) تفيد في أحد أمرين فإما أن يكون المتكلم والمخاطب متفقين على المعرّف بحيث تدل هذه الـ (أل) على ما تعارفا عليه كقولك لمن وضعت عنده كتاباً ( أين الكتاب؟ ) فيناولك إياه.

أو تفيد الكمال أي تقول ( هذا الكلام ) أو ( هذا الرجل) وتقصد الكلام الكامل كما يجب أن يكون والرجولة الكاملة كما يجب أن تكون.

والفرقان بذكره معرّفاً بأل يفيد الكمال أي كمال التفريق بين الحق والباطل ومن هنا فلا يضيف وصفه بـ ( الحقّ ) إلى معنى الفرقان جديداً،  فتنعدم بذلك الفائدة من الصفة.

فلو قيل ( الفرقان ) دون وصفه لكان المعنى الفرقان الذي يفرق بين الحق والباطل بشكله الكامل الذي لا نقص فيه فهو ( الحقّ ) 

وثمة احتمال آخر وهو أن يكون ثمة فرقان آخر، هو الباطل وهذا الفرقان هو الحق فالصفة تفرّق بين اسمين مشتركين في اللفظ فتقول (مررت بزيد القائم )  وهذا يقتضي وجود رجل اسمه زيد وهو غير قائم.

لكن كلمة الفرقان وحدها تكفي لتفند دعاوى من يدّعي باطلاً بأنه فرقان، ومن يكون حقاً فرقاناً، فلو ادّعى مجموعة  أشخاص بأن كلاً منهم هو حكم أو عادل، ثم أشرت إلى رجل وقلت (هذا الحكم ) أو ( هذا العادل )، لكفاك ذلك في دحض دعاوى غيره بأنهم الحكام أو العادلون.

قلت: دعني من مناقشة ما قالوا.. واذكر لي ما قالوا.. فلا أحسبني جاهلا باللغة إلى درجة أن يؤثر في أي كلام.

قال: بعد تلك الآية تأتي هاتين الآيتين:( ففضحَ مكر الشيطان الرجيم، ولو تنزّل بوحي ملك رحيم، وأبطل فرية رسله الضالين، ولو نطقوا بما أعجز الأميين )

غلبني الضحك، فقلت: هل قال:( ولو نطقوا بما أعجز الأميين )

قال: أجل.. هل رأيت حمقه وكذبه وتحامله على القرآن.. إن القرآن تحدى أصحاب البلاغة والفصاحة والعلم والمعرفة.

قلت: حدثني عن سورة أخرى من هذه السور العجيبة.

قال: سأذكر لك الآية الأولى من سورة الفاتحة التي استهل بها مسيلمة الجديد فرقانه الحق.. إن هذه السورة تستدعي براعة الاستهلال ـ كما يسميها البلاغيون، وهي تقتضي أن تحوي عبارات موجزة وإشارات دالة يستطيع القارئ بواسطتها أن يفهم مضمون الكتاب المقدم على قراءته ـ اسمع ما قال في هذا:( هو ذا الفرقان الحق نوحيه فبلغه للضالين من عبادنا وللناس كافة ولا تخش القوم المعتدين )

غلبني الضحك، وقلت: لماذا قال:( للضَّالين من عبادنا وللناس كافة ).. هل الضالون من العباد لا يندرجون تحت اسم (الناس كافة )؟

زدني سورة أخرى..

قلت: سأقرأ عليك بعض سورة حملت اسم (سورة الضّالين )

ضحكت، فقال: سأقرأ عليك الآية الأولى منها، وهي:( وألبس الشيطان الباطلَ ثوب الحقّ وأضفى على الظلم جلباب العدل، وقال لأوليائه أنا ربكم الأحد لم ألد ولم  أولد ولم  يكن لي منكم كفواً أحد)

قلت: هذا كتبه حاقد.. ولم يكتبه متحد صادق.. وإلا فكيف يختار تعابير القرآن بل كلمات القرآن وأسلوب القرآن؟

قال: أجل.. إنه لم يفعل سوى أن غير رصف كلمات القرآن لينشئ منها ما توهمه تحديا.. اسمع الآية الثانية من هذه السورة:( فأنا الملك الجبار المتكبر القهار القابض المذل المميت المنتقم الضّار المغني فإياي تعبدون وإياي تستعينون )

قلت: ما الذي جاء به من عنده؟ كل ما ذكره ألفاظ قرآنية ومعاني قرآنية أعاد رصفها وصياغتها.

قال: سأكمل لك الآيات المتبقية من هذه السورة.. اسمع:( ( 2 ) مهيمن يحطم سيف الظلم بكف العدل ويهدي الظالمين ( 3 ) ويهدم صرح الكفر بيد الإيمان ويشيد موئلاً للتائبين ( 4 ) وينزع غلَّ الصدر شذى المحبة ويشفي نفوس الحاقدين ( 5 ) ويطهّر نجس الزنى بماء العفة ويبرئ المسافحين ( 6 ) ويفضح قول الإفك بصوت الحق ويكشف مكر المفترين( 7 ) فيا أيها الذين ضلّوا من عبادنا توبوا وآمنوا فأبواب الجنة مفتوحة للتائبين )

بهذه الآيات السبعة التي تتفق مع سورة الفاتحة في عددها تنتهي هذه السورة العجيبة التي تصور صاحبها أنه يعارض بها القرآن.

قلت: دعنا من هذا الجنون.. وعد بنا إلى القرآن.. ما سر جمال النظم القرآني؟

قال: إن القرآن ليس كلمات مرصوفة تبحث عن فاصلة تنتهي بها، بل هو حقائق تنساب كما ينساب الماء العذب في المنحدرات.. فلذلك كان له الجمال الذي لا يمكن وصفه.

قلت: فكيف يفهم الغير سر إعجازه إذا لم تقدر على وصفه؟

قال: الأشياء التي ينتهي فيها الجمال إلى مراتب لا تطاق لا يمكن وصفها.. لقد عبر عن ذلك ابن أبى الحديد، وهو عالم من علماء المسلمين، وأديب من أدبائهم، فقال:( اعلم أن معرفة الفصيح والأفصح، والرشيق والأرشق، والجلى والأجلى، والعلى والأعلى من الكلام أمر لا يدرك إلا بالذوق، ولا يمكن إقامة الدلالة المنطقية عليه، وهو بمنزلة جاريتين: إحداهما بيضاء مشربة حمرة، ودقيقة الشفتين، نقية الشعر، كحلاء العين، أسيلة الخد، دقيقة الأنف، معتدلة القامة، والأخرى دونها في هذه الصفات والمحاسن، لكنها أحلى في العيون والقلوب منها، وأليق وأملح، ولا يدرى لأي سبب كان ذلك، لكنه بالذوق والمشاهدة يعرف، ولا يمكن تعليله.. وهكذا الكلام.. نعم، يبقى الفرق بين الوصفين أن حسن الوجوه وملاحتها وتفضيل بعضها يدركه كل من له عين صحيحة، وأما الكلام فلا يعرفه إلا بالذوق، وليس كل من اشتغل بالنحو أو باللغة أو بالفقه كان من أهل الذوق، وممن يصلح لاتنقاد الكلام، وإنما أهل الذوق هم الذين اشتغلوا بعلم البيان وراضوا أنفسهم بالرسائل والخطب والكتابة والشعر، وصارت لهم بذلك دربة وملكة تامة، فإلى أولئك ينبغى أن يرجع في معرفة الكلام وفضل بعضه على بعض )([15])

سكت قليلا، ثم قال: لقد حاول بعض المحللين معرفة بعض سر ذلك، فذكر أن كون النظم معجزاً يتوقف على بيان نظم الكلام، ثم بيان أن هذا النظم مخالف لنظم ما عداه.

ثم ذكر ان مراتب تأليف الكلام خمس.. تبدأ بضم الحروف المبسوطة بعضها إلى بعض لتحصل الكلمات الثلاث الاسم والفعل والحرف.. والثانية: تأليف هذه الكلمات بعضها إلى بعض لتحصل الجمل المفيدة، وهو النوع الذي يتداوله الناس جميعاً في مخاطباتهم وقضاء حوائجهم، ويقال له المنثور من الكلام.. والثالثة: يضم بعض ذلك إلى بعض ضماً له مباد ومقاطع ومداخل ومخارج، ويقال له المنظوم.. والرابعة: أن يعتبر في أواخر الكلام مع ذلك تسجيع، ويقال له المسجع.. والخامسة: أن يجعل مع ذلك وزن، ويقال له الشعر والمنظوم، إما محاورة ويقال له الخطابة، وإما مكاتبة ويقال له الرسالة.

فأنواع الكلام لا تخرج عن هذه الأقسام، ولكل من ذلك نظم مخصوص، والقرآن جامع لمحاسن الجميع على نظم غير نظم شيء منها يدل على ذلك، لأنه لا يصح أن يقال له رسالة أوخطابة أو شعرا أوسجعا، كما يصح أن يقال هوكلام، والبليغ إذا قرع سمعه فصل بينه وبين ما عداه من النظم، ولها ورد في القرآن:{ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ }(فصلت:42) تنبيهاً على أن تأليفه ليس على هيئة نظم يتعاطاه البشر، فيمكن أن يغير بالزيادة والنقصان كحالة الكتب الأخر([16]).

سكت قليلا، ثم قال: لا شك أنك ترى القرآن مختلفا عن الشعر.. لقد ذكر القرآن ذلك، فقد جاء فيه:{ وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ}(يّـس:69)

ومع أن العرب كانوا يدركون أن القرآن ليس كالشعر إلا أنهم في خصومتهم شبهوه بالشعر.. وقد جاء في القرآن حكاية عن كفار العرب:{ بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ}(الانبياء:5)

وصدق القرآن، فليس هذا النسق شعراً.. ولكن العرب كذلك لم يكونوا مجانين ولا جاهلين بخصائص الشعر، يوم قالوا عن هذا النسق العالي: إنه شعر!

لقد راع خيالهم بما فيه من تصوير بارع، وسحر وجدانهم بما فيه من منطق ساحر، وأخذ أسماعهم بما فيه من إيقاع جميل.. وتلك خصائص الشعر الأساسية، إذا نحن أغفلنا القافية والتفاعيل.

على أن النسق القرآني قد جمع بين مزايا النثر والشعر جميعاً، فقد أعفى التعبير من قيود القافية الموحدة والتفعيلات التامة، فنال بذلك حرية التعبير الكاملة عن جميع أغراضه العامة.. وأخذ في الوقت ذاته من خصائص الشعر، الموسيقي الداخلية، والفواصل المتقاربة في الوزن التي تغني عن التفاعيل، والتقفية التي تغني عن القوافي([17]).

النغم الفني:

قلت: فما تريد بالنغم الفني.. هل القرآن أغنية لها نغماتها المطربة.

قال: القرآن أجمل أغنية لمن كان له سمع وذوق.. ألم ترنا نطرب لسماع ترتيله، بل نحلق في الأجواء العالية مع كلماته التي تترنم بها الحناجر الخاشعة.

لقد ذكر القرآن كل ذلك، فقال عن تاثر القلوب المؤمنة لدى سماعه:{ اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ}( الزمر:23)

وأخبر عن أثره في القلوب التي تحن إلى الحق عندما تسمعه، فقال:{ وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} (المائدة:83)

بل أخبر عن أثره في الجبال لو أنزل عليها:{ لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}(الحشر:21)

إن هذا التأثير العجيب الذي يحدثه سماع القرآن في النفوس إعجاز قائم بذاته.. لقد ذكر بعض القدماء من علماء المسلمين ذلك، فقال:( في إعجاز القرآن وجه آخر ذهب عنه الناس، فلا يكاد يعرفه إلا الشاذ من آحادهم، وذلك صنيعه بالقلوب وتأثيره في النفوس، فإنك لا تسمع كلاماً غير القرآن منظوماً ولا منثوراً، إذا قرع السمع خلص له إلى القلب من اللذة والحلاوة في الحال، ومن الروعة والمهابة في أخرى ما يخلص منه إليه، تستبشر به النفوس وتنشرح له الصدور، حتى إذا أخذت حظها منه عادت مرتاعة قد عراها الوجيب والقلق، وتغشاها الخوف والفرق.. تقشعر منه الجلود، وتنزعج له القلوب، يحول بين النفس وبين مضمراتها وعقائدها الراسخة فيها، فكم من عدو للرسول من رجال العرب وفتاكها أقبلوا يريدون اغتياله وقتله فسمعوا آيات من القرآن، فلم يلبثوا حين وقعت في مسامعهم أن يتحولوا عن رأيهم الأول، وأن يركنوا إلى مسالمته ويدخلوا في دينه، وصارت عداوتهم موالاة، وكفرهم إيماناً )([18]

لم يكن هذا اكتشاف الأقدمين فقط.. بل إن المحدثين بما طوروه من علم الموسيقى اكتشفوا كثيرا من هذه الأنظمة الصوتية الدقيقة التي كسي بها القرآن.. إنه أنغام تبهر العقول، وتذهل النفوس، رصفت ألفاظه وعباراته على ترصيفات موسيقية رقيقة، متناسبات الأجراس، متناسقات التواقيع، في تقاسيم وتراكيب سهلة سلسة، عذبة سائغة، ذات رنّة وجذبة شعرية عجيبة، واستهواء سحريّ غريب.

لقد ذكر سيد قطب([19]) هذا النوع من الجمال القرآني، فقال:( إن هذا الإيقاع متعدد الأنواع، ويتناسق مع الجو، ويؤدي وظيفة أساسية في البيان )

وذكر أن هذه الموسيقي القرآنية إشعاع للنظم الخاص في كل موضع، فهي تابعة لقصر الفواصل وطولها، كما هي تابعة لانسجام الحروف في الكلمة المفردة، ولانسجام الألفاظ في الفاصلة الواحدة..

وحيثما تلا الإنسان القرآن أحس بذلك الإيقاع الداخلي في سياقه، يبرز بروزاً واضحاً في السور القصار، والفواصل السريعة، ومواضع التصوير والتشخيص بصفة عامة، ويتوارى قليلاً أو كثيراً في السور الطوال، ولكنه ـ على كل حال ـ ملحوظ دائماً في بناء النظم القرآني.

وذكر مصطفى محمود الأديب الذواقة هذا الإحساس الذي يجده سامع القرآن وقارئه، فقال يحدث عن تجربته: لقد اكتشفت منذ الطفولة دون أن أدري، حكاية الموسيقى الداخلية الباطنة في العبارة القرآنية، وهذا سر من أعمق الأسرار في التركيب القرآني.. إنه ليس بالشعر وبالنثر، ولا بالكلام المسجوع.. وإنما هو معمار خاص من الألفاظ صفت بطريقة تكشف عن الموسيقي الباطنة فيها.

ويذكر الفرق بين النوعين من الموسيقى، الموسيقى الباطنة والموسيقى الظاهرة، فيضرب مثالا على ذلك ببيت للشاعر عمر بن أبي ربيعة، اشتهر بالموسيقي في شعره.. وهو البيت الذي ينشد فيه:

قال لي صاحبي ليعلم ما بي أتحب القتول أخت الرباب؟

ثم قال: أنت تسمع وتطرب وتهتز على الموسيقي.. ولكن الموسيقي هنا خارجية صنعها الشاعر بتشطير الكلام في أشطار متساوية، ثم تقفيل كل عبارة تقفيلاً واحداً على الباء الممدودة.

الموسيقي تصل إلى أذنك من خارج العبارة وليس من داخلها، من التقفيلات (القافية)، ومن البحر والوزن.

ثم قارن ذلك بأسلوب القرآن، فقال: أما حينما تتلو:{ وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى} (الضحى:2)، فأنت أمام شطرة واحدة.. وهي بالتالي تخلو من التقفية والوزن والتشطير، ومع ذلك، فالموسيقي تقطر من كل حرف فيها، من أين، وكيف؟

هذه هي الموسيقى الداخلية، والموسيقى الباطنة، سر من أسرار المعمار القرآني، لا يشاركه فيه أي تركيب أدبي.

وضرب مثالا آخر على ذلك بما ورد في القرآن حينما يقول:{ الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى}(طـه:5) وحينما يتلو كلمات زكريا لربه:{ قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيّاً}(مريم:4)، أو كلمة الله لموسى:{ إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى}(طـه:15) أو كلمة الله وهو يتوعد المجرمين:{ إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَى} (طـه:74)

ثم يقول: كل عبارة بنيان موسيقي قائم بذاته تنبع فيه الموسيقي من داخل الكلمات ومن ورائها ومن بينها، بطريقة محيرة لا تدري كيف تتم؟!

وحينما يروي القرآن حكاية موسى بذلك الأسلوب السيمفوني المذهل:{ وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً لا تَخَافُ دَرَكاً وَلا تَخْشَى فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنْ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى (طه: 77 – 79)

كلمات في غاية الرقة مثل (يبسا) أو لا تخاف (دركاً) بمعنى لا تخاف ادراكاً.. إن الكلمات لتذوب في يد خالقها وتصطف وتتراص في معمار ورصف موسيقي فريد، هو نسيج وحده بين كل ما كتب بالعربية سابقاً ولا حقاً لا شبيه بينه وبين الشعر الجاهلي، ولا بينه وبين الشعر والنثر المتأخر، ولا محاولة واحدة للتقليد حفظها لنا التأريخ، برغم كثرة الأعداء الذين أرادوا الكيد للقرآن.

في كل هذا الزحام تبرز العبارة القرآنية منفردة بخصائصها تماماً، وكأنها ظاهرة بلا تبرير ولا تفسير، سوى أن لها مصدراً آخر غير ما نعرف.

***

 ما وصل صاحبي من حديثه إلى هذا الموضع حتى لاحت لنا القاهرة بمآذنها وعماراتها، فكف عن الحديث، ثم أخذ تلك الأشرطة، وخزنها في الموضع الذي أخرجها منه، والتفت إلي، وقال: هل تستر علي ما حدثتك به ؟

قلت: لا حرج عليك.. ولكني محتار فيك.. إن لك علما واسعا باللغة العربية، وبالقرآن، فكيف آثرت العمل في مطبعة الكتاب المقدس على أن تكون معلما من معلمي المسلمين، أو أستاذا من أساتذتهم.. أم أنهم يرفضون أن يدرسهم مسيحي؟

قال: لذلك قصة طويلة لا يكفي ما بقي من طريق لأحدثك عنها.. ولكن هذه القصة لن تستمر طويلا.. سيأتي اليوم الذي ترتفع فيه تلك الحجب التي تحول بيني وبين الشمس..

أنا الآن في شتاء تتجمع فيها الغيوم لتحجب أشعة الشمس.. لكن الربيع قادم.. وستشرق الشمس علي كما أشرقت على الملايين من مثلي..

أنا مشتاق لذلك اليوم.. ومتلهف لوصوله..

قلت: لم تفهم ما الذي تقصد.

قال: ستفهم حين يحصل لك ما يحصل لي.. كل من تعرض لشعاع من أشعة شمس تلك الحقيقة لابد أن يحن إليها، فإذا اجتمع الحنين، وامتلأ القلب بالأشواق ضمته الشمس إليها، فصار شعاعا من أشعتها.

لست أدري هل فهمت ما كان يقصد، أم لم أفهم، ولكن نبرة صوته أوحت إلي أن الرجل قريب جدا من شمس محمد، وأنه يوشك أن تضمه إليها كما ضمت الملايين من أمثاله.

عندما وصلنا إلى المطار مد يده إلي، وصافحني بحرارة، ثم قال: لقد أعجبني إنصاتك.. فاستمر عليه.. فمن أنصت، فقد أذن للحقائق أن تصل إلى قلبه وعقله، ومن أذن للحقائق أن تصل إلى عقله وقلبه، فقد أذن لعقله وقلبه أن يتقبلها.

قال ذلك، ثم مد يده إلى جيبه، وأخرج مصحفا صغيرا، وقال: خذ هذا المصحف معك.. واقرأة.. وقارن بينه وبين الكتاب المقدس.. فبالمقارنة تتميز الحقائق.

ثم ركب شاحنته، وسار.. مددت يدي إلى محفظتي لأضع المصحف، فامتدت يدي إلى الورقة التي سلمها لي صاحبك، فعدت أقرأ فيها..

لقد أيقنت حينها أن السور الأخير من أسوار الكلمات المقدسة لم يتحقق به أي كتاب في الدنيا غير القرآن الكريم.


([1])   ذكرنا رأيا في كتاب (الأبعاد الشرعية لتربية الأولاد) من سلسلة (فقه الأسرة برؤية مقاصدية) هذا نصه:« بل نرى رأيا لا نجد المقام للاستدلال عليه هنا، وهو  أن تسجل التلاوات للقرآن المترجم باللغات المختلفة، مرتلة بالأصوات الرخيمة الجذابة المؤثرة، على أن تكون الترجمة نفسها في قمة البلاغة الممكنة، ثم تشاع في البلاد التي لا تعرف العربية، ليكون ذلك طريقا من طرق إيصال هداية الله إليها.

ولا مانع من ذلك، فيما نرى، إلا أعراف تعارفناها جعلتنا نحتكر القرآن الكريم مع كونه كلام الله تعالى الموجه للبشرية جميعا، فصرنا نتصور أن حرمته تكون بكتابته كتابة مزخرفة، ثم يوضع في لوح مكنون لا يمسه أحد، ولا يسمع به أحد، ليبقى طاهرا مقدسا، غافلين عما أمرنا به من الجهاد بالقرآن الكريم.

وإنما ذكرنا هذا، لأن في الإنسان ميلا إلى الكلام المؤثر سواء في بلاغته أو طريقة أدائه، ولذلك كان القرآن الكريم في قمة البلاغة، وقد أمرنا بتزيين الأصوات به، ومن احتكار القرآن الكريم اعتبار ذلك خاصا بالعربية لا بغيرها من اللغات مع أن أكثر هذه الأمة ـ أمة الإجابة أو أمة الدعوة ـ من غير العرب.

([2])   الاستثناء هنا منقطع بلا شك .. فالقرآن ليس شعرا.

([3])   ذكر هذا النوع من الإعجاز البلاغي القرآني أبو سليمان حمد بن محمد بن إبرهيم الخطابي البستي (توفي سنة 388) في رسالته الوجيزة التي وضعها في بيان إعجاز القرآن، وهو من السابقين الباحثين في هذا الباب.

([4])  رواه القالي في أماليه لأبي محلم الشيباني في أواخر القرن الثاني من كتاب إلى بعض الحذائين في نعل.

([5])  انظر في هذا ما كتب في الإعجاز البياني في القرآن الكريم، وهي كثيرة، ومن الكتب المعاصرة الميسرة:

  1. خصائص التعبير القرآني وسماته البلاغية للدكتور عبد العظيم المطعني. حصل من خلالها على مرتبة الدكتوراه مع مرتبة الشرف الأولى من كلية اللغة العربية / الأزهر سنة1974م. وهي مطبوعة في مجلدين سنة 1992م مكتبة وهبة / مصر.
  2. سر الإعجاز في تنوع الصيغ المشتقة من أصل لغوي واحد في القرآن للدكتور عودة الله منيع القيسي. وحصل بها على درجة الدكتوراة من كلية الآداب الجامعة الأردنية. ونشرتها دار البشير في عمان سنة 1996م.
  3. الترادف والاشتراك والتضاد في القرآن لمحمد نور الدين المنجد. وحصل بها على شهادة الماجستير من جامعة دمشق بتقدير ممتاز . طبعته دار الفكر سنة 1999م.
  4. إعجاز القرآن الكريم البياني ودلائل مصدره الرباني، د. صلاح الخالدي، دار عمار، عمان، ط2، 2004م.
  5. بلاغة الكلمة في التعبير القرآني، د. فاضل السامرائي، دار عمار، عمان، ط2، 2001م.
  6. التعبير القرآني، د. فاضل السامرائي، دار عمار، عمان، ط2، 2002م.
  7. لمسات بيانية في نصوص التنزيل، د. فاضل السامرائي، دار عمار، عمان، ط2، 2001م.

ومن هذه المراجع استقينا بعض هذه الأمثلة.

([6])  وهي التي وردت في قوله تعالى:) سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ) (القلم:16)

([7])   انظر الأمثلة الكثيرة المثبتة لهذا في رسالة (معجزات علمية) من هذه السلسلة.

([8])   هنا نرد على شبهة وجود الغريب في القرآن الكريم، وهو ما يمنع من فهمه، وهي من الشبه المشتهرة لدى المبشرين وغيرهم. انظر في الرد عليها (شبهات المشككين)

([9])   هنا نرد على شبهة وجود الكلمات الأعجمية في القرآن .. انظر المصادر السابقة.

([10])    من الظلال بتصرف.

([11])  رواه الطبراني في الكبير وأبو نعيم.

([12])  روى هذا الحاكم، وصححه عن ابن عباس.

([13])   انظر التفاصيل المرتبطة بهذا في رسالة (النبي المعصوم) من هذه السلسلة.

([14]) انظر: أكذوبة الفرقان الحق، للباحث: ياسر الأقرع، من موقع الإعجاز العملي في القرآن والسنة.

([15])   نقلا عن الإتقان للسيوطي.

([16])  الإتقان للسيوطي.

([17])   التصوير الفني في القرآن لسيد قطب.

([18])   انظر: الإتقان للسيوطي.

([19])   وذلك في كتابه (التصوير الفني) في فصل خاص عن الإيقاع الموسيقي في القرآن، وذكر أن الموسيقيّ المبدع الأستاذ (محمد حسن الشجاعي) تفضل بمراجعته وضبط بعض المصطلحات الفنية الموسيقية عليه.

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *