عاشرا ـ التوازن

في اليوم العاشر، صاح السجان بصوته المزعج قائلا: في هذا المساء.. سيساق إلى الموت (محمد باقر الصدر) ([1]).. وقد رأت إدارة السجن أن تسمح لجميع السجناء بتوديعه والجلوس إليه بشرط ألا يخترقوا قوانين السجن.. ومن يخترقها فسيتحمل مسؤولية خرقه.
ما إن قال السجان ذلك حتى أسرع جميع السجناء إلى ساحة السجن ليروا نورا متدفقا حانيا يجلس على كرسي الشهداء، ثم يقول بصوت عال، وهو يرفع يديه إلى السماء: ربنا فقهنا في كتابك.. واكشف عن قلوبنا ظلمات الذنوب لكي نتفهم آياتك.. وأزح عن بصائرنا غشاوة الدنيا وبريقها الكاذب لكي نملأ نفوسنا بهداك.. واجعلنا من حملة قرآنك وسنة نبيك والسائرين على طريق طاعتك([2])..
ثم يلتفت إلى السجناء، ويقول لهم: مرحبا بإخواني في الله.. سأحدثكم اليوم ـ على درب إخواني ـ عن ركن من أركان العدالة.. لا يمكن للعدالة أن تتم من دونه.
إنه الركن الذي أشار إليه قوله تعالى :{ وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ (7)} (الرحمن)، وقوله تعالى :{ لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ.. (25)} (الحديد)، وقوله تعالى :{ اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (17)} (الشورى)
إن هذا الركن هو الموازين.. فلا يمكن للعدالة أن تتحقق من دون يتخذ البشر موازين يزنون بها تصوراتهم وسلوكهم وعلاقاتهم حتى تنتظم مع قوانين العدالة التي أمر الله بها.
قلنا: فمن وضع هذه الموازين؟
قال: لقد قرأت لكم من القرآن ما ينبئكم بأن الله هو واضع الموازين..
قال رجل منا: لم كان الله هو واضع الموازين؟
قال: لأنه يعلم ما لا نعلم..
قال الرجل: ونحن ـ أيضا ـ لدينا كم كبير من العلوم.
قال: ولكنه كم هزيل أمام علم الله.. والموازين لا يعلمها إلا الذي يعلم حقائق جميع الأشياء.
في وسعك ـ يا أخي ـ أن تنظر إلى الكون لترى الدقة العجيبة التي وزعت بها جميع لبناته.. انظر إلى النظام الشمسي الذي ننتمي إليه.. فهو واحد من أروع الأمثلة للتوازن الجميل الذي يمكن مشاهدته.. ففيه تسعة كواكب مع أربعة وخمسين تابعاً، وعددا غير معروف من الأجسام الصغيرة.
في تركيب هذا النظام نرى أمثلة كثيرة للتوازن.. من بينها التوازن بين القوى النابذة، والتي يقابلها التجاذب الثقالي من أوليتها، وبدون ذلك التوازن سوف يقذف كل شيء في هذا النظام بعيداً في الأعماق الباردة للفضاء الخارجي.
والمدارات هي المسارات التي ترسمها الكواكب أو الأجسام أثناء دورانها حول أوليتها، فإذا تحرك جسم بسرعة بطيئة جداً فسوف يسقط على الأولية ويغوص فيها، أما إذا تحرك بسرعة أكبر، فالأولية سوف لن تتمكن من الإمساك به، وسوف يطير ذلك الجسم بعيداً في الفضاء، وبدلاً من ذلك لابد أن يتحرك كل جسم بالسرعة الصحيحة تماماً كي يحتفظ بمداره، والأكثر من ذلك هو أن التوازن يجب أن يختلف من جسم إلى آخر بسبب أن المسافة للكوكب مختلفة بحيث لا تغوص في الشمس ولا تقذف بعيداً عنها وتطير في أعماق الفضاء([3]).
تصور.. كم من العلم والقدرة يجب على البشر أن يحصلوا عليه ليحفظوا كوكبهم الجميل من أن يغتاله الفضاء من حوله.
قال الرجل: نحن لا نتحدث عن الموازين التي نظم بها الكون.. فهي موازين لا طاقة للإنسان بالتحكم فيها.. ولكني أتحدث عن موازين الحياة.
قال: نحن المؤمنين نعتقد أن موازين الحياة لا يضعها إلا صاحب موازين الكون.. فموازين الحياة فرع عن موازين الكون..
قال الرجل: لم أفهم مرادك من هذا.
قال: لقد أتيح للبشر أن يصلوا إلى معارف علمية كثيرة يسروا لأنفسهم بسببها الحياة.. ولكنهم في غمرة تيههم وكبريائهم نسوا الموازين.. فماذا حصل؟
سكت الرجل، فقال الصدر: لقد حصل ما ذكره القرآن.. لقد قال تعالى ينبئ عن هذه العاقبة المريرة للطغيان:{ ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } (الروم:41)
لقد خلخل البشر بسلوكهم الطغياني الذي لا يراعي موازين الله ما وضع الله في الأرض من نعم تحفظ جمال الأرض وحياتهم..
ولم يكتفوا بذلك بل راحوا يتلاعبون بموازين الحياة.. فأنشأوا من الحياة ما لم يلد إلا الموت.
قال الرجل: أنت تتحدث عن آثار العلوم والتكنولوجيا.. وهي آثار لابد منها.. فلا يمكن للبشر أن يتقدموا من غير أن تكون هناك تضحيات..
قال: إن البشر لم يخلخلوا الموازين المرتبطة بالعلوم والتكنولوجيا وحدها.. بل خلخلوا كل القيم التي تحكم الحياة العادلة.. فراحوا يعبثون بها كما عبثوا بالذرة والخلية والهواء الذي يتنفسونه والماء الذي يشربونه.
قلنا: دعنا من هذا.. وهيا حدثنا عن الشريعة التي جاء بها الإسلام لحفظ التوازن في حياة الناس..
نظر الصدر إلى من حوله نظرة حانية، وقال: لا يمكن أن تعتدل موازين الناس حتى تعتدل موازين تصوراتهم وموازين سلوكاتهم..
قلنا: فحدثنا عن موازين التصورات.
قال: لا تعتدل موازين الإنسان حتى تعتدل الموازين التي تحكم تصوراته وأفكاره.. فليس الإنسان سوى الفكرة التي يحملها.. والمبدأ الذي يعيش من أجله.
قلنا: فحدثنا عن موازين التصورات التي جاء بها الإسلام([4]).
قال: ليس هناك دين ولا فكره في الدنيا احترمت موازين التصورات والعقائد كما احترمها الإسلام.. ذلك أنها انطلقت من الفطرة الإنسانية السليمة.. وما تتطلبه الفطرة:
وبما أن الفطرة تطلب التوازن بين الجانب الذي تتلقاه لتدركه وتسلم به، وينتهي عملها فيه عند التسليم، والجانب الذي تتلقاه لتدركه، وتبحث حججه وبراهينه، وتحاول معرفة علله وغاياته وتفكر في مقتضياته العملية، وتطبقها في حياتها الواقعية.. فإن جميع التصورات الإسلامية راعت هاتين الناحيتين ووازنت بينهما، لأن كليهما يلبي جانباً أصيلاً، مودعاً في فطرة الإنسان.
لقد علم الله أن الإدراك البشري لن يتسع لكل أسرار هذا الوجود، ولن يقوى على إدراكها كلها، فأودع فطرته الارتياح للمجهول، والارتياح للمعلوم، والتوازن بين هذا وذاك في كيانها، كالتوازن بين هذا وذاك في صميم الوجود.
إن العقيدة التي لا غيب فيها ولا مجهول، ولا حقيقة أكبر من الإدراك البشري المحدود، ليست عقيدة، ولا تجد فيها النفس ما يلبي فطرتها، وأشواقها الخفية إلى المجهول، المستتر وراء الحجب المسدلة.. كما أن العقيدة التي لا شيء فيها إلا المعمّيات التي لا تدركها العقول ليست عقيدة! فالكينونة البشرية تحتوي على عنصر الوعي، والفكر الإنساني لا بد أن يتلقى شيئاً مفهوماً له، له فيه عمل، يملك أن يتدبره ويطبقه.. والعقيدة الشاملة هي التي تلبي هذا الجانب وذاك، وتتوازن بها الفطرة، وهي تجد في العقيدة كفاء ما هو مودع فيها من طاقات وأشواق.
فإذا كانت ماهية الذات الإلهية، وكيفية تعلق إرادة الله بالخلق، وحقيقة الروح.. من الحقائق التي لا سبيل إلى الإحاطة بها.. فهناك خصائص الذات الإلهية: من وجود، ووحدانية، وقدرة، وإرادة، وخلق، وتدبير.. وكلها مما يقدر الفكر البشري على إدراكه، ومما يستطيع أن يدرك ضرورته ومقتضياته في الوجود، والإسلام يعرض هذه الخصائص ببراهينها المقنعة.. وهناك (الكون) وحقيقته، ومصدر وجوده، وعلاقته بخالقه، وعبوديته له، واستعداده لاستقبال الحياة، وعلاقته بالإنسان وعلاقة الإنسان به.. وهناك (الحياة) بشتى أنواعها وأجناسها وأشكالها ودرجاتها، ومصدرها، وعلاقتها بطبيعة الكون، وعلاقتها بمبدعه ومبدعها.. وهناك (الإنسان) وحقيقته، وخصائصه ومصدره، وغاية وجوده، ومنهج حياته.. وكلها ترد في منطق مفهوم واضح، مريح للعقل والقلب. مدعم بالبراهين التي تتلقاها الفطرة بالقبول والتسليم:
اسمعوا إلى الله، وهو يخاطب الفطرة بقوله :{ أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (35) أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ (36) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ (37) أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (38) أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ (39) أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (40) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (41) أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ (42) أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (43) } (الطور)
واسمعوا إليه، وهو يقول :{ أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (21) لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (22) لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (23) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ (24)} (الأنبياء)
واسمعوا إليه، وهو يقول :{ أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (81) إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82) فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (83)} (يس)
واسمعوا إليه، وهو يقول :{ وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79) الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (80)} (يس)
أرأيتم هذه النصوص وكيف تتغلغل في أعماق الفطرة الإنسانية بجميع جوانبها؟
بهذا تجد الفطرة البشرية في التصور الإسلامي ما يلبي أشواقها كلها: من معلوم ومجهول، ومن غيب لا تحيط به الأفهام ولا تراه الأبصار، ومكشوف تجول فيه العقول وتتدبره القلوب، ومن مجال أوسع من إدراكها تستشعر إزاءه جلال الخالق الكبير، ومجال يعمل فيه إدراكها وتستشعر إزاءه قيمة الإنسان في الكون وكرامته على الله.
وتتوازن الكينونة الإنسانية بهذا وذلك، وهي تؤمن بالمجهول الكبير، وهي تتدبر المعلوم الكبير..
إضافة إلى هذا نجد في العقيدة الإسلامية التوازن بين طلاقة المشيئة الإلهية وثبات السنن الكونية.. فالمشيئة الإلهية طليقة، لا يرد عليها قيد ما، مما يخطر على الفكر البشري جملة.. وهي تبدع كل شيء بمجرد توجهها إلى إبداعه.. وليست هنالك قاعدة ملزمة، ولا قالب مفروض تلتزمه المشيئة الإلهية، حين تريد أن تفعل ما تريد :{ إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (40)} (النحل)
وفي الوقت ذاته شاءت الإرادة الإلهية المدبرة، أن تتبدى للناس – عادة – في صورة نواميس مطردة، وسنن جارية، يملكون أن يرقبوها، ويدركوها، ويكيفوا حياتهم وفقها، ويتعاملوا مع الكون على أساسها.. على أن يبقى في تصورهم ومشاعرهم أن مشيئة الله – مع هذا- طليقة، تبدع ما تشاء، وأن الله يفعل ما يريد، ولو لم يكن جارياً على ما اعتادوا هم أن يروا المشيئة متجلية فيه، من السنن المقررة والنواميس المطردة.. قال تعالى :{ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (258)} (البقرة)، وقال:{ لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (40)} (يس)
وبين ثبات السنن وطلاقة المشيئة، يقف الضمير البشري على أرض ثابتة مستقرة، يعمل فيها، وهو يعلم طبيعة الأرض، وطبيعة الطريق، وغاية السعي، وجزاء الحركة. ويتعرف إلى نواميس الكون، وسنن الحياة، وطاقات الأرض، وينتفع بها وبتجاربه الثابتة فيها منهج علمي ثابت.. وفي الوقت ذاته يعيش موصول الروح بالله، معلق القلب بمشيئته لا يستكثر عليها شيئاً، ولا يستبعد عليها شيئاً، ولا ييأس أمام ضغط الواقع أبداً.. يعيش طليق التصور، غير محصور في قوالب حديدية، يضع فيها نفسه، ويتصور أن مشيئة الله محصورة فيها.. وهكذا لا يتبلد حسه، ولا يضمُر رجاؤه، ولا يعيش في إلف مكرور.
والمسلم يأخذ بالأسباب، لأنه مأمور بالأخذ بها، ويعمل وفق السنة، لأنه مأمور بمراعاتها.. لا لأنه يعتقد أن الأسباب والوسائل هي المنشئة للمسببات والنتائج.. فهو يرد الأمر كله إلى خالق الأسباب، ويتعلق به وحده من وراء الأسباب، بعد أداء واجبه في الحركة والسعي والعمل واتخاذ الأسباب.. طاعة لأمر الله.
وهكذا ينتفع المسلم بثبات السنن في بناء تجاربه العلمية وطرائقه العملية، في التعامل مع الكون وأسراره وطاقاته ومدخراته، فلا يفوته شيء من مزايا العلوم التجريبية والطرائق العملية، وهو في الوقت ذاته موصول القلب بالله، حي القلب بهذا الاتصال، موصول الضمير بالمشاعر الأدبية الأخلاقية، التي ترفع العمر وتباركه وتزكيه، وتسمو بالحياة الإنسانية إلى أقصى الكمال المقدر لها في الأرض، وفي حدود طاقة الإنسان([5]).
إضافة إلى هذا نجد في العقيدة الإسلامية التوازن في النظرة للدنيا والآخرة.. فالإسلام يقول لنا: إن الدنيا دار ابتلاء وعمل.. وإن الآخرة دار حساب وجزاء.. والحياة في هذه الأرض مرحلة محدودة في الرحلة الطويلة.. وما يقع للإنسان في هذه الأرض ليس خاتمة الحساب ولا نهاية المطاف إنما هو مقدمة لها ما بعدها، واختبار تقدر له درجته هناك في دار الحساب.
وبهذا يحل الإسلام الجانب الشعوري من هذه المشكلة في الضمير البشري، ويكسب فيه الطمأنينة والاستقرار، فالألم الذي يلقاه الخيّر في هذه الأرض من جراء وجود الشر والنقص فيها، ليس هو كل نصيبه، فهناك النصيب الذي يعادل بين كفتي الميزان في شطري الرحلة، والشطران موصولان. تسيطر عليهما إرادة واحدة. ويحكم فيهما حكم واحد لا يند عن علمه شيء ولا يختل في ميزانه شيء.
ثم هو يخاطب الحقيقة الشعورية التي يجدها الإنسان في أعماق ضميره، وهي أن شعور المؤمن الخيّر الذي يحقق منهج الله في حياته، ويجاهد لتحقيقه في حياة البشر، يجد – وهو يعاني الألم من جانب الشر والأشرار – شعوراً مكافئاً من الرضى والسعادة في هذه الدنيا، قبل أن يجد جزاءه المدخر له في الآخرة. شعوراً ناشئاً عن إحساسه بأنه يرضى الله فيما يفعل، وأن الله يرضى عن جهاده الخيّر.. وهي شهادة من ذات البنية الحية، ومن طبيعة الفطرة البشرية، على أن الله جعل التكوين الفطري للإنسان، يجد جزاءه الحاضر في كفاح الشر والباطل، ونصرة الخير والحق، وأن له من التذاذة الكفاح في هذا الطريق، جزاء ذاتياً من كيانه الداخلي، في ذات اللحظة التي يتحمل فيها الألم، وهو يواجه الشر والباطل، ويكافحهما ما استطاع. وأن العوض كامن في ذات الفطرة وفي الاطمئنان إلى حسن الجزاء في الدنيا والآخرة. ولهذا الاطمئنان أثره حتى قبل يوم الحساب الختامي في دار الحساب.
قال تعالى يقرر هذا :{ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28)} (الرعد)، وقال :{ أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (22)} (الزمر)
قال رجل منا: ولكن لماذا يوجد الشر مع أن الله قادر على ألا يوجده ابتداء، ولو شاء لهدى الناس جميعاً، ولو شاء لخلق الناس كلهم مهتدين ابتداء؟
قال الصدر: إن الله قادر طبعاً على تبديل فطرة الإنسان – عن طريق هذا الدين أو عن غير طريقه – أو خلقه بفطرة أخرى.. ولكنه شاء أن يخلق الإنسان بهذه الفطرة وأن يخلق الكون على هذا النحو الذي نراه. وليس لأحد من خلقه أن يسأله لماذا شاء هذا؟ لأن أحداً من خلقه ليس إلهاً! وليس لديه العلم والإدراك – ولا إمكان العلم والإدراك -للنظام الكلي للكون. ولمقتضيات هذا النظام في طبيعة كل كائن في هذا الوجود، وللحكمة الكامنة في خلقه كل كائن بطبيعته التي خلق عليها.
والله وحده هو الذي يعلم، لأنه وحده هو الذي خلق الكون ومن فيه وما فيه، وهو وحده الذي يرى ما هو خير فينشئه ويبقيه، وهو وحده الذي يقدر أحسن وضع للخلق فينشئه فيه { فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14) } (المؤمنون).. { الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (50)} (طه).. {.. وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48)} (المائدة)
وبهذا يقطع التعطيل والإرجاء والسلبية، والإحالة على مشيئة الله في المعصية، أو الشلل والجمود والسلب.. وقد علم أن الله لا يرضى لعباده الكفر. وأنه لا يحب أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا، ولا يرضى أن يترك المنكر بلا جهاد، ولا أن يترك الحق بلا نصرة، ولا أن تترك الأرض بلا خلافة، وقد علم أن الإنسان في هذه الدنيا للابتلاء بالخير والشر، وللامتحان في كل حركة وكل حالة، وأنه مجزي على الحسنة وعلى السيئة في دار الحساب والجزاء.. وأنه كذلك مستخلف في هذه الأرض، وأن له مكانه في هذا الكون، وله دوره في ما يقع في هذه الأرض من تغيير وتطوير، وأنه إما ناهض بهذه الخلافة – وفق منهج الله- فمثاب، وإما ناكل التبعة فمعاقب. ولو كان النكول خوفاً من التبعة، وفراراً من الابتلاء!
قال الرجل: كيف تزعم أن الإسلام جاء بالتوازن التي تتطلبه الفطرة مع أن الإسلام يعتبر الإنسان مجرد عبد لله مع أن فطرته تعتبره كائنا مكرما محترما حرا؟
قال الصدر: لقد وازن الإسلام بين هذا وذاك.. وازن بين عبودية الإنسان المطلقة لله، ومقام الإنسان الكريم في الكون.. وقد سلم التصور الإسلامي في هذا الصدد من كل الهزات التي تعاورت المذاهب والمعتقدات والتصورات التي وقعت بين تأليه الإنسان في صوره الكثيرة، أو تحقير الإنسان إلى حد الزراية والمهانة.
إن الإسلام يبدأ فيفصل فصلاً تاماً كاملاً بين حقيقة الألوهية، وحقيقة العبودية.. وبين مقام الألوهية ومقام العبودية.. وبين خصائص الألوهية وخصائص العبودية.. بحيث لا تقوم شبهة أو غبش حول هذا الفصل الحاسم الجازم.
فالله { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ..(11) } (الشورى)، فلا يشاركه أحد في ماهية أو حقيقة.
والله { هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ.. (3) } (الحديد)، فلا يشاركه أحد في وجود.
و{ كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (27) } (الرحمن)، فلا يشاركه أحد في البقاء.
والله { لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (23) } (الأنبياء)، فلا يشاركه أحد في سلطان.
و{ الله خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ.. (62) } (الشورى)، فلا يشاركه أحد في خلق.
والله { اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ.. (26) } (الرعد)، فلا يشاركه أحد في رزق.
{ َاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (216) } (البقرة)، فلا يشاركه أحد في علم.
وهكذا في كل خاصية من خصائص الألوهية.
والإنسان عبد لله ككل مخلوق في هذا الوجود، وهو مستخلف في هذه الأرض، مسلط على كل ما فيها، مسخر له الأرض وما فيها ومحسوب حسابه في تصميم هذا الكون قبل أن يكون.
والإنسان يكون في أرفع مقاماته، وفي خير حالاته، حين يحقق مقام العبودية لله. إذ أنه – في هذه الحالة- يكون في أقوم حالات فطرته، وأحسن حالات كماله، وأصدق حالات وجوده.
كما أن قيام الناس في هذا المقام، هو الذي يعصمهم جميعاً من عبودية العبيد للعبيد، وهو الذي يحفظ لهم كراماتهم جميعاً، على اختلاف مراكزهم الدنيوية، وهو الذي يرفع جباههم فلا تنحني إلا لله، وهو الذي يكفيهم -في الوقت ذاته- عن الاستكبار في الأرض بغير الحق، والعلو فيها والفساد، ويستجيش في قلوبهم التقوى للمولى الواحد، الذي يتساوى أمامه العبيد. ويرفض أن يدعى أحد العبيد لنفسه خصائص الألوهية، فيشرع للناس في شؤون حياتهم بغير سلطان من الله، ويجعل ذاته مصدر السلطان، وإرادته شريعة لبني الإنسان!
ومن ثم فإنه لا تعارض -في التصور الإسلامي- بين رفعة الإنسان وعظمته وكرامته وفاعليته، وبين عبوديته لله -سبحانه- وتفرد الله بالألوهية وبخصائصها جميعاً.
ولا حاجة إذن – عندما يراد رفع الإنسان وتكريمه – أن تخلع عنه عبوديته لله، أو تضاف إلى ناسوتيته لاهوتية ليست له، كما احتاج رؤساء الكنيسة والمجامع المقدسة أن يفعلوا، ليعظموا عيسى u ويكبِّروه :{ لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (72) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73) أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (74) مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (75) قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (76) } (المائدة)
وهكذا تتوازن هذه المصادر.. كل بحسبه.. وتتناسق في إمداد الكائن الإنساني بالمعرفة.. ويتوازن التصور الإسلامي، فلا يشط ولا يضطرب ولا يتأرجح بين هذه المصادر، ولا يؤلّه ما ليس منها بإله!
قلنا: حدثتنا عن التوازن التصوري.. فحدثنا عن التوازن السلوكي.
قال: لقد عبر القرآن القرآن الكريم عن هذا التوازن، فقال :{ وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77)} (القصص)
وعبر عنه قوله تعالى :{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (9) فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (10)} (الجمعة)
وعبر عنه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين قال للنفر الذين قال أحدهم: لا أتزوج النساء، وقال آخر: لا آكل اللحم، وقال آخر: لا أنام على فراش 🙁 ما بال أقوام يقولون كذا وكذا، لكني أصلي وأنام وأصوم وأفطر وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني)([6])
وعبر عنه حين قال ـ لمن ذكر له امرأة ذكرت أنها تقوم الليل وتصوم النهار ـ 🙁 لكني أنا أنام وأصلي وأصوم وأفطر فمن اقتدى بي فهو مني ومن رغب عن سنتي فليس مني.. إن لكل عمل شدة وفترة فمن كانت فترته إلى بدعة فقد ضل ومن كانت فترته إلى سنة فقد اهتدى)([7])
قلنا: سمعنا هذه النصوص المقدسة.. لكن ما مرادك من إيرادها هنا([8])؟
قال: هذه النصوص هي التي تغرس في المؤمن التوازن السلوكي.. فلا يطغى فيه جانب على جانب.. ولا يسحق فيه جانب جانبا..
فالمؤمن يعيش الدنيا والآخرة.. ويعيش بالروح والجسد.. ويعيش لنفسه ولغيره.. ويصحب الله، ولكنه في نفس الوقت يصحب الخلق، ويتعامل معهم بما أمره الله من صنوف المعاملات..
وهو مع ذلك كله يوازن بين هذه الأشياء جميعا.. فيعطي كل واحد منها ما يطلبه من حقوق.
قارنوا هذا بالملل والنحل التي طلبت من أتباعها التفرغ للعبادة والانقطاع عن الحياة والإنتاج، كالرهبانية المسيحية.. وقارنوه بمقابلها من الأديان التي ألغت جانب العبادة والتنسك والتأله من فلسفتها وواجباتها، كالبوذية التي اقتصرت فروضها على الجانب الأخلاقي الإنساني وحده..
هذا هو شأن المسلم مع الدين والحياة حتى في يوم الجمعة.. بيع وعمل للدنيا قبل الصلاة، ثم سعي إلى ذكر الله وإلى الصلاة، وترك للبيع والشراء وما أشبهه من مشاغل الحياة، ثم انتشار في الأرض وابتغاء الرزق من جديد بعد انقضاء الصلاة، مع عدم الغفلة عن ذكر الله كثيرا في كل حال، فهو أساس الفلاح والنجاح.
ومثل الشعائر التعبدية السلوك الأخلاقي.. فالأخلاق الإسلامية وسط بين غلاة المثاليين الذين تخيلوا الإنسان ملاكا أو شبه ملاك، فوضعوا له من القيم والآداب ما لا يمكن له، وبين غلاة الواقعيين الذين حسبوه حيوانا أو كالحيوان، فأرادوا له من السلوك ما لا يليق به فأولئك أحسنوا الظن بالفطرة الإنسانية فاعتبروها خيرا محضا، وهؤلاء أساءوا بها الظن، فعدوها شرا خالصا، وكانت نظرة الإسلام وسطا بين أولئك وهؤلاء.
فالإنسان في نظر الإسلام مخلوق مركب فيه العقل، وفيه الشهوة، فيه غريزة الحيوان، وروحانية الملاك، قد هدى للنجدين، وتهيأ بفطرته لسلوك السبيلين، إما شاكرا وإما كفورا.. فيه استعداد للفجور استعداده للتقوى.. ومهمته جهاد نفسه ورياضتها حتى تتزكى :{ وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10)} (الشمس)
***
ما وصل (محمد باقر الصدر) من حديثه إلى هذا الموضع حتى جاء السجان، ومعه مجموعة من الجنود، ثم أخذوا بيده، وساروا به إلى مقصلة الإعدام.. وقد كان كإخوانه ممتلئا سرورا وسعادة، حتى أنه كان يختال في مشيته، وكأنه يساق إلى عرسه لا إلى حتفه.
عندما وصل إلى المقصلة التفت إلينا، وقال: أستودعكم الله ـ إخواني ـ لا أوصيكم في نهاية حياتي إلا أن ترعوا الموازين التي أمرنا الله برعايتها.. فلن يتحقق فلاحكم ولا نجاحكم ولا سعادتكم.. ولن تتحقق العدالة العالمية إلا برعايتها.
قال ذلك، ثم تمتم بالشهادتين.. ثم أسلم نفسه مبتسما لله.
بمجرد أن فاضت
روحه إلى باريها كبر جميع السجناء بمذاهبهم وطوائفهم وأديانهم.. وقد صحت معهم بالتكبير
دون شعور.. وقد تنزلت علي حينها أشعة جديدة اهتديت بها بعد ذلك إلى شمس محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
([1])أشير به إلى العلامة الشهيد السيد محمد باقر الصدر ( 1935 – 9 ابريل 1980 )، وهو مفكر وفيلسوف إسلامي، كان من الحريصين على وحدة المسلمين؛ واشتهر عنه قوله : ( إني قد بذلت نفسي من أجل السني قبل الشيعي)
عرف السيد الصدر بمناصرته للثورة الأسلامية في إيران وللإمام الخميني، وكان على معرفة به أيام تواجد الخميني في النجف الأشرف، وبعد قيام النظام الإسلامي في إيران أعلن ما كان يرجوه من دولة إسلامية قد تحقق فعلا.
وقد تسبب موقفه هذا في أن حكم عليه بالإقامة الجبرية، تم اعتقل في جمادي الأولى عام 1400 هـجري مع أخته بنت الهدى ونقلا إلى بغداد.. وبعد ثلاثة يوم من الاعتقال وفي مساء اليوم التاسع من إبريل لعام 1980 ميلادي، طلب من السيد محمد صادق الصدر الحضور إلى بناية محافظة النجف، وكان بانتظاره مدير أمن النجف، فقال له: هذه جنازة الصدر وأخته، قد تم إعدامهما، وطلب منه أن يذهب معهم لدفنهما، فأمر مدير الأمن بفتح التابوت، فشاهد السيد محمد صادق السيد محمد باقر الصدر مضرجاً بدمائه،و آثار التعذيب على وجهه، وكذلك كانت أخته بنت الهدى. و تم دفنهما في مقبرة وادي السلام، المجاورة لمرقد الإمام علي في النجف.. وقد أصدر الخميني حينذاك بياناًً، أعلن فيه الحداد العام في إيران.
قال فيه الدكتور زكي نجيب محمود المفكر المصري الشهير : (إن إعدام مفكر ساهم في تنمية العقل العربي تثير لدينا مشاعر التقزّز والاشمئزاز، فالدول المتقدّمة تكرّم أفذاذها، أما العراق فيعدم مفكريه)، وقال : ( يجب ترجمة الكتاب-كتاب الأسس المنطقية للإستقراء- ليطلع الانجليز على فضائحهم، ويقصد مدرسة الفلاسفة الأنجليز، بيرتراند راسل في الاستقراء..الخ)، وقال في كتابه (الأسس المنطقية للإستقراء):( إنه من الكتب التي ينبغي أن تترجم إلى اللغة الانجليزية لتعرف أوروبا أن لدينا فلاسفة أصليين يملكون العمق الفلسفي والفكر المستقل)
وقال الشيخ محمد مهدي شمس الدين عن كتاب (الأسس المنطقية للإستقراء): ( هو كتاب أعتقد انه لم يكتشف حتى الآن)
وقال عنه السيد شرف الدين- صاحب كتاب اعيان الشيعة -:( هو مؤسس مدرسة فكرية إسلامية أصيلة تماماً، اتسمت بالشمول من حيث المشكلات التي عنيت بها ميادين البحث، فكتبه عالجت البُنى الفكرية العليا للإسلام، وعنيت بطرح التصور الإسلامي لمشاكل الإنسان المعاصر… مجموعة محاضراته حول (التفسير الموضوعي) للقرآن الكريم طرح فيها منهجاً جديداً في التفسير، يتسم بعبقريته وأصالته)
ويقول الدكتور أكرم زعيتر:( إني اعتقد أن المادية الديالكتيكية لم تجابه بمناقشات فلسفية واعية فاهمة، ولم تقرع بردود علمية من قبل كتاب العرب المتفلسفين، كما جوبهت، وكما قرعت بهذا الكتاب ـ فلسفتنا ـ أجل إنه لم ينازلها منازل عربي أو مسلم عنيد حسب اطلاعي مثل محمد باقر الصدر)
من مؤلفاته: اقتصادنا.. فلسفتنا (وهذان الكتابان من أشهر كتبه وأكثرهما تأثيرا).. الأسس المنطقية للاستقراء.. غاية الفكر في علم الأصول (وهو مكون من 10 أجزاء، ولكن لم يطبع منها إلا 5 بسبب فقد الأجزاء الأخرى).. البنك اللاربوي في الإسلام.. الفتاوى الواضحة (الرسالة العملية للسيد).. المدرسة القرآنية.. بحث حول ولاية الفقيه.. بحث حول المهدي.. المدرسة الإسلامية.. المرسل الرسول الرسالة..دروس في علم الأصول.. فدك في التاريخ.. نظرة عامة في العبادات.. المعالم الجديدة لعلم لأصول.. موجز أحكام الحج.. تعليقة على منهاج الصالحين.. سلسلة أبحاث (الإسلام يقود الحياة).. وغيرها.
وقد اخترناه هنا لكونه من الدعاة إلى تشكيل دولة إسلامية تحكم بشريعه الله، وهذا واضح من خلال مؤلفاته الكثيرة، وخاصة (فلسفتنا) و(اقتصادنا)
وكان يعتقد أن قيادة العمل الإسلامي يجب أن تكون للمرجعية الواعية العارفة بالظروف والأوضاع المتحسسة لهموم الأمة وآمالها وطموحاتها، والإشراف على ما يعطيه العاملون في سبيل الإسلام في مختلف أنحاء العالم الإسلامي من مفاهيم، وهذا ما سماه السيد الشهيد بمشروع (المرجعية الصالحة) (انظر على شبكة الإنترنت: (موسوعة الإمام باقر الصدر قدس سره)، وهو موقع يحوي سيرة السيد الشهيد والشهيدة بنت الهدى، إضافة لمؤلفاته وصوره ووثائق عنه)
([2]) من مقدمة كتابه (المدرسة القرآنية)
([3]) انظر تفاصيل أكثر في هذا في رسالة (معجزات علمية) من هذه السلسلة.
([4]) استفدنا في هذا المطلب مما كتبه سيد قطب في كتابه (خصائص التصور الإسلامي) بالتصرف الذي ألفناه.
([5]) انظر تفاصيل هذا وأدلته والإجابة على الشبه المرتبطة به في رسالة (أسرار الأقدار) من هذه السلسلة .
([6]) رواه البخاري ومسلم.
([7]) رواه أحمد.
([8]) استفدنا في هذا المطلب من كتاب (مدخل لمعرفة الإسلام:مقوماته.. خصائصه.. أهدافه.. مصادره) ليوسف القرضاوي.