عاشرا ـ الأعداء

فتحت دفتر الغريب على فصله العاشر، فوجدت عنوانه (الأعداء)، فقلت: ألا ترى من التناقض أن يوضع هذا العنوان في كتاب يبحث في القلوب التي تعلقت بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم ؟
قال: لا.. ليس ذلك من التناقض.. فأكمل الناس من أجبر أعداءه على احترامه، ومحبته.. وقد كان محمد صلى الله عليه وآله وسلم أكمل من فعل ذلك.
قلت: لقد نطق القرآن بمثل هذا، فالله تعالى يقول:{ وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} (فصلت:34)
قال: وقد كانت حياة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نموذجا كاملا لهذا الخلق الرفيع.. فقد كان له صدر واسع يحول الأعداء أصدقاء.. والحاقدين محبين.. والهاجين مادحين.
قلت: صدقت.. وقد ذكرتني بما رويته لي في رحلتك التي تعرفت فيها على معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم الحسية من تحول المعادين إلى محبين مخلصين([1]).
قال: وأولهم أبو سفيان بن الحارث أخو النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الرضاع، فقد كان يألف النبي صلى الله عليه وآله وسلم أيام الصبا وكان له تربًا، فلما بُعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم عاداه أبو سفيان عداوةً لم يعادها أحدًا قط، وهجا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهجا أصحابه، ثم شاء الله أن يكفي رسوله صلى الله عليه وآله وسلم لسان أبي سفيان وهجاءه، لا بإهلاكه، وإنما بهدايته.
وحدث أبو سفيان عن نفسه، فقال: ثم إن الله ألقى في قلبي الإسلام، فسرت وزوجي وولدي حتى نزلنا بالأبواء، فتنكرت وخرجت حتى صرت تلقاء وجه النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فلما ملأ عينيه مني أعرض عنّي بوجهه إلى الناحية الأخرى، فتحولت إلى ناحية وجهه الأخرى.
قالوا: فما زال أبو سفيان يتبعُهُ، لا ينزلُ منزلاً إلا وهو على بابه ومع ابني جعفر وهو لا يكلمه، حتى قال أبو سفيان: والله ليأذنن لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أو لآخذن بيد ابني هذا حتى نموت عطشًا أو جوعًا، فلما بلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رق لهما فدخلا عليه.
***
وجدت بعض الأسماء في هذا الفصل في دفتر الغريب، فأردت أن أقرأها، فقال: حسبك بما ذكرت لك.. فلا ينبغي أن نسمي أحدا في هذا الفصل.
قلت: ومن سميناهم؟
قال: أولئك كرام طيبون.. وقد أخلدوا إلى ربهم.. ولا يشك أحد في فضلهم، وأخاف إن ذكرت بعض ما كتبته هنا أن يتأثر لذلك المتأثرون.. فينسخوا المحبة بالعداوة.
قلت: صدقت.. ففي قومنا من ينسخ جبال الحسنات بالسيئة
الواحدة.
([1]) انظر: رسالة (معجزات حسية)، فصل (حماية) من هذه السلسلة.