عاشرا ـ إكرامات

في اليوم العاشر..
جاءني بولس ربما بآخر ذرة من النشاط الذي تعودته منه.. ليلقي آخر قنبلة في جعبته.
قال لي، وفي فمه ابتسامة ذابلة: سنخرج اليوم لنبشر بالتكريمات التي لم ينلها أحد في هذا الكون عدا المسيح..
قلت: إلى أين نسير؟
قال: لقد أعد لنا البعض تكريما خاصا، وسنحضر إليه، لننال ما أراد هؤلاء الأفاضل أن يتحفونا به من صنوف التكريمات، وسنستغل ذلك للتبشير بالتكريمات العظمى التي نالها المسيح.
قلت: ألا تخاف أن يظهر ذانك الرجلان اللذان لا هم لهما إلا التبشير بمحمد؟
قال: فليظهرا كما يشاءان، وليتكلما بما يريدان..
لاح لي من كلامه شوقا كبيرا لحضورهما، ولو أنه حاول أن يظهر ذلك على أنه من ثقته بنفسه، وبما عنده.
قلت: ولكن ألا تخاف أن ينغصا علينا جلساتنا التدريبية كما تعودا؟
قال: أنا واثق جدا مما عندي، ولا يرهبني أحد من الناس، والحقيقة التي أمتلئ بها تجعلني أحن للعواصف التي تريد أن تقاومها، لأن لدي من الحصون ما أتحصن به منها.
قلت: لقد كنت تذكر لي هذا كل مرة.. ولكنا نرجع من غير أن نفعل شيئا، بينما هما يفعلان كل شيء.
لم يجد إلا أن يقول: هذه المرة تختلف عن كل المرات.. في هذه المرة سنلقي قنبلة التكريمات التي لم يحظ بها أحد في العالم كما حظي بها المسيح.
***
بعد انقضاء حفل التكريم، واستلام القس للجائزة التي أهدتها له بعض الجمعيات الخيرية عرفانا له بما قدم من أعمال خيرية في تلك القرية، أذن لأهل القاعة أن يتحدثوا بما يشاءون، ويسألوا عما يشاءون، كما جرت عادتهم في مثل هذه الأحوال.
استغل أجير بولس ذلك، فقام وقال: نطلب من القس الكريم الذي نال هذا التكريم أن يحدثنا عن التكريمات التي نالها المسيح.. فلا أحسب تكريمه إلا نوعا من تكريما المسيح.
قام بولس مطأطئ الرأس يبدي تواضعا عظيما، وقال: أشكر هذا السائل الذي أتاح لي الحديث عن المسيح.. فأنا وكل إخواني ذائبون في المسيح فانون فيه، فلذلك نحسب أن يدنا التي امتدت لهذا التكريم هي يد المسيح لا يدنا.. وأن الخير الذي نال هذه القرية خير نالها من المسيح لا منا.
أول تكريم للمسيح هو أنه الشفيع الوحيد للبشرية، فالقديس يوحنا بالروح، يقول: (يا أولادي، أكتب إليكم هذا لكي لا تخطئوا، وإن أخطأ أحد فلنا شفيع عند الآب، يسوع المسيح البار. وهو كفارة لخطايانا. ليس لخطايانا فقط، بل لخطايا كل العالم أيضا) (رسالة يوحنا الأولى:2/1ـ2)
المسيح هو الشفيع الوحيد للبشرية، لأنه البار الوحيد الذي بلا خطيئة، والحي الوحيد الجالس عن يمين العظمة في الأعالي: (من هو الذي يدين؟ المسيح هو الذي مات بل بالحري قام أيضا الذي هو أيضا عن يمين الله الذي أيضا يشفع فينا)(رومية: 8/34)
هناك إجماع علي أنه لا يستطيع مخلوق علي الإطلاق مهما كان أن يشفع في البشرية أمام الله، لأنه لا يوجد مخلوق واحد لم يخطئ، عدا شخص المسيح وحده الذي لم يجرؤ أحد، ولن يجرؤ علي أن يقول أنه فعل خطيئة، فقد أجمع الكل علي أنه الوحيد الذي لم يفعل الخطيئة، بل والوحيد الذي كانت تصرخ منه الشياطين قائلة: (ما لنا ولك يا يسوع ابن الله؟ أجئت إلى هنا قبل الوقت لتعذبنا؟)(متى:8/29)، ويقولون: (آه! ما لنا ولك يا يسوع الناصري! أتيت لتهلكنا! أنا أعرفك من أنت قدوس الله!) (مرقس:1/24).
ولأن المسيح هو الوحيد الذي لم يفعل خطيئة والوحيد الذي كان يرتعب منه الشيطان، كما أنه الوحيد الذي كان في إمكانه أن يدفع ثمن خطايا كل العالم، لذا فهو الشفيع الوحيد والوسيط الوحيد بين الله والناس: (لأنه يوجد إله واحد ووسيط واحد بين الله والناس: الإنسان يسوع المسيح)(1تي:2/5)
والتكريم الثاني للمسيح أنه الوحيد الذي شهد له الآب علانية من السماء، فبالرغم من كل الأعمال التي عملها المسيح أمام الجموع، والتي تميز بها وحده دون سائر الكائنات في الكون كله، وكانت تشهد لحقيقة شخصه كالمسيح ابن الله الحي الآتي من السماء إلي العالم، فقد شهد له الله الآب علانية أمام الكثيرين من الناس:
لقد شهد له في العماد، فلما أعتمد الرب يسوع المسيح انفتحت السماء، يقول الكتاب: (وإذا السماوات قد انفتحت)(متى:3/16)، (ونزل عليه الروح القدس بهيئة جسمية مثل حمامة)(لوقا: 3/22)، (وصوت من السماوات قائلا: (هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت)(متى: 3/17)
فهنا حدثت ثلاثة أمور: السماء انفتحت أو انشقت، ونزل الروح القدس ظاهرا بهيئة جسمية مثل حمامة، وجاء صوت الله الآب يعلن من السماء: (هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت)
وشهد له في التجلي، ففي حادثة التجلي يذكر الكتاب المقدس أن المسيح أظهر شيئا من مجده ولاهوته أمام ثلاثة من تلاميذه (أخذ يسوع بطرس ويعقوب ويوحنا أخاه وصعد بهم إلى جبل عال منفردين. وتغيرت هيئته قدامهم وأضاء وجهه كالشمس وصارت ثيابه بيضاء كالنور)(متى:17/1-2)، (وصارت ثيابه تلمع بيضاء جدا كالثلج لا يقدر قصار على الأرض أن يبيض مثل ذلك)(مرقس: 9/3)، (وإذا رجلان يتكلمان معه وهما موسى وإيليا اللذان ظهرا بمجد وتكلما عن خروجه الذي كان عتيدا أن يكمله في أورشليم)(لوقا: 9/30-31)
وعندما شاهد التلاميذ الرب والسيد في هذا المشهد السمائي الروحاني الإلهي المهيب صاروا في حالة ذهول روحي، دهش، وراحوا في غيبوبة روحية، يقول الكتاب المقدس: (فجعل بطرس يقول ليسوع: (يا سيدي جيد أن نكون ههنا، فلنصنع ثلاث مظال لك واحدة ولموسى واحدة ولإيليا واحدة). لأنه لم يكن يعلم ما يتكلم به إذ كانوا مرتعبين)(مرقس:9/5-6)
وهنا يقول الكتاب المقدس: (وفيما هو يتكلم إذا سحابة نيرة ظللتهم وصوت من السحابة قائلا: (هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت) (متى:5:17)
هذا المشهد الإلهي المهيب يقول عنه القديس بطرس بالروح: (لأننا لم نتبع خرافات مصنعة إذ عرفناكم بقوة ربنا يسوع المسيح ومجيئه، بل قد كنا معاينين عظمته. لأنه أخذ من الله الآب كرامة ومجدا، إذ أقبل عليه صوت كهذا من المجد الأسنى: (هذا هو ابني الحبيب الذي أنا سررت به). ونحن سمعنا هذا الصوت مقبلا من السماء إذ كنا معه في الجبل المقدس)(2بط1/16-18)
وشهد له أمام الجموع في أورشليم، ففي الأسبوع الأخير طلب أناس يونانيون من تلميذه فيلبس أن يروا الرب يسوع المسيح، وهنا قال هو (قد أتت الساعة ليتمجد ابن الإنسان)، ثم خاطب الآب مناجيا: (أيها الآب مجد اسمك)
فجاء صوت من السماء: (مجدت وأمجد أيضا)، يقول الكتاب المقدس: (فالجمع الذي كان واقفا وسمع قال: (قد حدث رعد)، وآخرون قالوا: (قد كلمه ملاك)، أجاب يسوع: (ليس من أجلي صار هذا الصوت بل من أجلكم)(يوحنا:121/23 و 28-30)
لقد شهد الآب للابن علانية أمام الجموع في العماد، وفي الأسبوع الأخير، وفي حادثة التجلي، فهل حدث مثل هذا لأحد غير المسيح؟
والإجابة؛ كلا. فهل يقول أحد بعد ذلك أن هناك أحدا ما أو مخلوقا ما في السماء وعلى الأرض أعظم من المسيح؟
قال ذلك، ثم أجاب نفسه بنفسه: والإجابة؛ كلا وحاشا!!
لست أدري كيف اقتصر بولس على هذا فقط، مع أنه كان يمكن أن يقول كلاما كثيرا تعود قومنا أن يقولوه في مثل هذه المحافل.
جلس، فقام أجيره ببلاهته المعهودة، وكأنه يستفز المسلمين، وقال: هذا هو المسيح.. وهذه هي منزلته كما ذكرها لنا حضرة القس الفاضل.. وفي ذلك رد عظيم على أولئك المسلمين البسطاء الذي يتصورون أن نبيهم نال من التكريمات ما لم ينله أحد.
لم أكن أتصور أن عبد الحكيم أو عبد القادر في القاعة، فقد كانت قاعة مغلقة، وكان المدعوون فيها محدودين، ولكن تصوري كان خاطئا، وقد فرحت لخطئه، ولا أظن صاحبي بولس إلا مثلي في ذلك، فقد ظهرت علامات السرور على وجهه عندما لاحظ عبد الحكيم، وهو يقوم قائلا: إن أذنتم لي، فإن لي بعض التعقيببات على ما ذكره هذا القس الفاضل، وعلى ما ذكره بعده هذا الرجل الكريم.
سكت الجمع، وقال رئيس الجلسة: لا بأس.. يسرنا أن نسمع لك، ولا أظن حضرة القس إلا مسرورا بذلك.
أجاب القس بالإيجاب، فتقدم عبد الحكيم، وقال: قبل أن أتحدث بما قد تسيئون فهمه، أحب أن أذكر لكم أن الله تعالى الذي خلق هذا الكون الواسع بمنتهى العدل والرحمة والحكمة ميز بعض خلقه بميزات خاصة، تجعلهم يستحقون رئاسة معينة على سائر البشر، فهم من جسم البشر كالدماغ والقلب بالنسبة لجسم الإنسان.
لقد ذكر الله تعالى ذلك، فقال:{ وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} (القصص:68)
وهؤلاء المختارون لهم من الأسباب العادلة ما تفضل الله به عليهم بذلك الاختيار، فهم في طيبتهم وسلامة نفوسهم وصفاء جواهرهم ما جعلهم أهلا لحلول ذلك الفضل الإلهي، فهم مثل التربة الطيببة عندما تسقى بالماء الزلال، فتنتج من كل خير، وتنبت من كل طيب.
لقد ذكر الله تعالى ذلك، فقالك:{ وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ } (الأنعام: 124)
لقد قال الله ذلك لمن أنكروا أن يتفضل الله على محمد صلى الله عليه وآله وسلم كما تفضل على إخوانه من المرسلين.
لقد كان هؤلاء الكفار ينظرون باحتقار إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، لأنهم كانوا يتصورون أن الرسول عندما يختاره الله سيختاره من تلك الفئة المستكبرة الغنية الوجيهة، كما قال تعالى:{ وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} (الزخرف:31)، أو كما يتصور اليهود أن الله تعالى لابد أن يختار رسولا من بني إسرائيل، وكأن بني إسرائيل وحدهم خلق الله، وغيرهم خلق الشيطان.
لقد رد الله على هذا الاحتقار، فقال:{ أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} (الزخرف:32)([1])
وقد قوبل بهذا النوع من الاحتقار جميع الأنبياء ـ عليهم السلام ـ بما فيهم المسيح نفسه، وأخونا القس الفاضل يقر بما لا نقر به نحن المسلمين من الإهانة الشديدة التي وجهها اليهود للمسيح حين صلبوه، ووضعوا تاج الشوك على رأسه.
انطلاقا من هذا، فإن الله الشكور المتفضل على عباده يكرم هؤلاء الأنبياء بمزيد فضله، ليقابل به ما قابلهم به أقوامهم من الاحتقار.
بالإضافة إلى أن هؤلاء الأنبياء نجحوا في أنواع البلاء التي ابتلوا بها، لذلك كان جزاؤهم أن ينالوا تكريمات الله، كما قال تعالى عن إبراهيم u:{ وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} (البقرة:124)
ولذلك، نحن المسلمين لا نخالف القس في كون الله كرم المسيح u تكريما عظيما، ولكنا نخالفه في قصر ذلك على المسيح، وفي سوء فهم المراد بذلك التكريم.
قام أجير بولس ببلاهته، وقال: لا.. ذلك التكريم خاص بالمسيح.. وذلك التكريم لا يعني إلا بنوة المسيح لله.
ابتسم عبد القادر، وقال: أرأيت لو أدخلتك داري، وكلت لك من أنواع الثناء، ومثلها من أنواع الفضل ما كلت لك.. أتراك تخرج للناس، لتزعم لهم أنك ابن لمن كال لك ذلك الثناء، وأن تلك الدار التي آوتك هي دارك وملكك، وأنت صاحبها.
سكت الأجير، فقال بولس: يحدث هذا كثيرا.. بعض الناس يسيئون فهم التكريمات.. فيتصورونها بخلاف مقصودها.
ونحن المسلمين بحمد الله وقينا هذا، فمع ما ورد في فضل نبينا من نصوص إلا أنا نهينا أن نخرج به عن كونه عبدا لله، بل نحن لا نرى لنبينا مقاما أرفع من مقام عبوديته لله.
هذا فيما يخص سوء فهم التكريمات.
أما كونها عامة غير خاصة، فهذا مما لا شك فيه عندنا، ولا عندكم، فالله تعالى أكرم كثيرا من عباده، فالله تعالى يصطفي من يشاء من عباده، قال تعالى:{ وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآَخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130) إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (131) وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132)}(البقرة)
وقال تعالى:{ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آَدَمَ وَنُوحًا وَآَلَ إِبْرَاهِيمَ وَآَلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (33) ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (34)}(آل عمران)
وقال تعالى:{ قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آَتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (144)}(الأعراف)
وقال تعالى:{ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آَللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (59)}(النمل)
هذا بعض ما ورد في كتابنا عن اصطفاء الله لمن يشاء من عباده، وهو اصطفاء مفتوح غير مغلق، مفتوح على كل البشر.. لا على عنصر من الناس، فالله رب البشر جميعا.
وفي الكتاب المقدس مثل ما في القرآن الكريم من هذا، فقد ذكر كثيرا ممن اصطفاهم الله، وليس فيه قصر للاصطفاء بالمسيح u:
هنا قام أجير بولس، وقال بطريقته المعهودة في الاستفزاز: كل كلامك هذا مجرد كلام.. ونحن ـ كما يقال ـ نريد أفعالا لا أقوالا.
لقد ذكر ـ حضرة القس الفاضل ـ الجوائز العظيمة التي نالها المسيح.. ولكن محمدا الذي تفتخرون به لم ينل حتى فتات الموائد.
هنا قام عبد القادر، وقد احمر وجهه، وقال: إن أذنتم لي أن أجيب هذا الرجل فعلت، فقد تكلم بكلام لا يليق بي ـ وأنا مسلم ـ أن أسكت عنه.
أذن له رئيس الجلسة، بعد أن التفت إلى بولس، وأشار له بالإيجاب.
قام عبد القادر إلى المنصة، وقال: لقد بدأ حضرة القس الفاضل ذكره لتكريمات المسيح بذكره لسر مجيئه، وهو الشفاعة، وأنا أطلب منه أن يوضح لنا معناها عنده، لأشرح له معناها عندنا، لنرى جميعا إمكانبة تحققها في المسيح أو في محمد صلى الله عليه وآله وسلم؟
بولس: نحن نعتقد أن المسيح صلب ليكفر الخطيئة الأزلية التي ارتكبها آدم تحت تأثير زوجته بإغواء من الحية حينما أكل من الشجرة، وانتقلت هذه الخطيئة بطريق الوراثة إلى جميع نسله، وكانت ستظل عالقة بهم إلى يوم القيامة، لولا أن افتداهم المسيح بدمه كفارة عن خطاياهم.
وسر ذلك يرجع إلى أن من صفات الله العدل والرحمة، فبمقتضى صفة العدل كان على الله أن يعاقب ذرية آدم بسبب الخطيئة التي ارتكبها أبوهم، وطرد بها من الجنة، واستحق هو وأبناؤه البعد عن الله بسببها.
وبمقتضى صفة الرحمة كان على الله أن يغفر سيئات البشر.
ولم يكن هناك من طريق للجمع بين العدل والرحمة إلا بتوسط ابن الله الوحيد، ليموت على الصليب كفارة ونيابة عنهم، وبهذا العمل يكون الله قد جمع بين عدله ورحمته مع الانسان وأخذ العدل حقه، وظهرت رحمة الله.
سكت بولس، فقال عبد القادر: وأنتم لم تكتفوا بصلب المسيح ليكفر خطايا البشر، بل أضفتم إلى ذلك تكريمين عظيمين لا يعلمهما كثير من الناس:
أما أولهما، فتكريمه بدخوله إلى جهنم وعذابه فيها.. وأما الثاني، فاعتباره لكم ملعونا، كما جاء في رسالة بولس إلى أهل غلاطية (3/13): (المسيح افتدانا من لعنة الناموس إذ صار لعنة لأجلنا لأنه مكتوب ملعون كل من علق على خشبة)
قال ذلك، ثم التفت إلى بولس، وقال: أليس كذلك حضرة القس؟
بولس: نحن نقول الثانية، ولا نقول الأولى.
عبد القادر: بل تقولون بكليهما، أو على الأحرى يقول كثير من قومك بكليهما، وبما أنك سلمت للثانية، فسأذكر لك أدلة الأولى([2]).
لقد ذكر جواد بن ساباط هذه العقيدة من كتاب الصلاة المطبوع سنة 1506 هكذا: (كما أن المسيح مات لأجلنا ودفن، فكذا لا بد أن نعتقد أنه دخل جهنم)
وفيلبس كوادنولس الراهب كتب في رد رسالة أحمد الشريف بن زين العابدين الأصفهاني كتاباً بالعربية سماه بـ (خيالات فيلبس)([3])قال فيه: (الذي تألم لخلاصنا وهبط إلى الجحيم ثم في اليوم الثالث قام من بين الأموات)
وفي بريئربوك في بيان عقيدة أتهانييش التي تؤمن بها المسيحيون لفظ (هل) موجود ومعناه الجحيم.
وقد ذكر جواد بن ساباط أن القسيس مارطيروس قال له في توجيه هذه العقيدة: (إن المسيح لما قبل الجسم الإنساني فلا بد عليه أن يتحمل جميع العوارض الإنسانية فدخل جهنم وعُذب أيضاً ولما خرج من جهنم أخرج منها كل من كان معذباً فيها قبل دخوله)
قال جواد: فسألته هل لهذه العقيدة دليل نقلي، فقال: إنها غير محتاجة إلى الدليل، فقال رجل مسيحي من أهل ذلك المحفل على وجه الطرافة: إن الأب كان قاسي القلب وإلا لما ترك الابن في الجحيم، فغضب القسيس، وطرده من المحفل، فجاء هذا الرجل عندي وأسلم، لكن أخذ العهد مني ألا أظهر حال إسلامه ما دام حياً.
وذكر رحمة الله الهندي أن يوسف ولف دخل بلدة لكهنو سنة 1833 من الميلاد وكان من القسيسين المشهورين، وكان يدعي الإلهام لنفسه، وكان يدعي أن نزول المسيح يكون في سنة 1847 من الميلاد، ووقعت المناظرة فيما بينه وبين مجتهد الشيعة تحريراً وتقريراً في هذا الباب، فسأله مجتهد الشيعة عن هذه العقيدة أيضاً، فقال: نعم دخل المسيح الجحيم وعذب، لكن لا بأس فيه، لأن هذا الدخول كان لنجاة أمته([4]).
قال ذلك، ثم التفت إلى بولس ينتظر تعقيبا منه، فلم يفعل بولس، فقال: لا بأس، فأنا لم أرد أن أذكر لكم ما يهين به الكثير من المسيحيين المسيح u، بل أردت ـ فقط ـ أن أذكر لكم مفهومنا للتكريم الإلهي لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم ولإخوانه من المرسلين بما فيهم المسيح u.
وقبل أن أذكر بعض ما ورد في نصوصنا المقدسة من هذا التكريم أحب أن أناقش ما طرحه ـ حضرة القس ـ على ضوء العقل والنقل.. على ضوء العقل المجرد الذي هو البرنامج الذي وضعه الله لنا لنعرف به الحقائق، وعلى ضوء النقل الذي يعتمده حضرة القس الفاضل، وهو الكتاب المقدس ([5]).
ولنبدأ بالعقل..
من الواضح ـ حسب الكتاب المقدس ـ أن المخطئ هو آدم وزوجته، وليس الأولاد، ومن العجيب أنه يصف الله بالعدل، ثم يدعي أن خطيئة آدم تتعداه إلى نسله، لأنهم ورثة لطبيعته الساقطة.. فأي عدل في هذا!؟
ثم أي عدل، وأي رحمة في تعذيب وصلب إنسان غير مذنب؟ إن معاقبة وتعذيب شخص بريىء لم يقترف آثاماً من أجل خطايا الآخرين إنما هو ذروة الظلم.
ثم من الذي قيد الله، وجعل عليه أن يلزم العدل، وأن يلزم الرحمة، وأن يسعى للتوفيق بينهما؟
ثم أين كان عدل الله ورحمته منذ خطيئة آدم وحتى قصة الصلب؟
وإذا كان الله سبحانه عادل، وفي نفس الوقت محب ورحيم، فأين كانت رحمته وابنه الوحيد يلاقي ـ دون ذنب ـ ألوان التعذيب والسخرية، ثم الصلب، مع دق المسامير في يديه؟
وإذا كان الله عادلا، وفي كل الشرائع أن العقوبة تناسب الذنب، فهل تم التوازن بين صلب المسيح على هذا النحو، وبين الخطية التي ارتكها آدم؟
ولماذا ترك إله العدل والمحبة الانسانية تتوالد تحت ناموس اللعنة والخطية، وأن يعم الفساد وينتشر!؟
وأين عدل الله في رجل يحمل خطايا أناس ظلمة قتلة فجرة، وهو قد تعذب وقتل، واخرون يسكرون ويرقصون مستمتعين بحياتهم؟
بولس: لقد قدم يسوع المسيح نفسه طوعاً، وباختياره قاسى عذاب الموت على الصليب ليدفع الثمن من أجل خطايا الناس.
عبد القادر: لا.. إن الأمر ليس صحيحا تاريخيا، فنحن نقرأ في الأناجيل أنه لم تكن إرادته أن يموت على الصليب، نحن نقرأ في متى (ثم ذهب يسوع وتلاميذه إلى بستان يدعى جثسيماني، وقال لهم: اجلسوا هنا ريثما أذهب إلى هناك وأصلي. وقد أخذ معه بطرس وابني زبدي وبدأ يشعر بالحزن والكآبة. فقال لهم: نفسي حزينة جدا حتى الموت! ابقوا هنا واسهروا معي! وابتعد عنهم قليلا وارتمى على وجهه يصلي، قائلا: يا أبي، إن كان ممكنا، فلتعبر عني هذه الكأس ولكن، لا كما أريد أنا، بل كما تريد أنت)(متى 26: 39)
ونحن نقرأ في الأناجيل أنه عندما أيقن أن أعداءه قد تآمروا على قتله وإزهاق حياته قال لهم كما في (يوحنا 8: 40): (لو كنتم أولاد إبراهيم لعملتم أعمال إبراهيم. ولكنكم تسعون إلى قتلي وأنا إنسان كلمتكم بالحق الذي سمعته من الله)
وقد أعلن يسوع لتلاميذه قائلا: (نفسي حزينة جدا حتى الموت. ابقوا هنا واسهروا. ثم ابتعد قليلا، وخر على الأرض، وأخذ يصلي لكي تعبر عنه الساعة إن كان ممكنا. وقال أبا، ياأبي، كل شيء مستطاع لديك. فأبعد عني هذه الكأس، ولكن ليكن لا ما أريد أنا، بل ما تريد أنت)(مرقس 14: 34)
فأنتم ترون أنه يطلب من تلاميذه أن يسهروا على سلامته وحمايته من أعدائه مع جسارته هذه وإيمانه الوطيد بالله حافظه ومنجيه.
ومع هذا احتاط لنفسه لمواجهة سافرة مع أعدائه فقال لتلاميذه: (من له كيس فليأخذه ومزود كذلك، ومن ليس له فليبع ثوبه ويشتر سيفا) (لوقا:22/ 36 – 38)
ثم تقدم قليلا، وخر على الأرض، وكان يصلي قائلا: (ياأبي، كل شيء مستطاع لديك. فأبعد عني هذه الكأس، ولكن ليكن لا ما أريد أنا، بل ما تريد أنت!)) لقد وكل المسيح أمره إلي الله بقوله: (لا ما أريد أنا، بل ما تريد أنت!) [ مرقس 14: 36 ]. فأي عاقل بعد هذا يدعي ان المسيح جاء ليقدم نفسه ويقاسي العذاب طوعا واختيارا؟
بالإضافة إلى هذا كله، فإن ما تعتقدونه ـ حضرة القس ـ من أن المسيح مات مصلوبا فداءا للبشرية وكفارة للخطيئة الموروثة هو اعتقاد مخالف للقواعد والنصوص الأساسية التي اشتمل عليها كتابهم المقدس، والتي تثبت أن كل إنسان يتحمل نتيجة فعله:
ففي سفر التثنية (24: 16): (لا يقتل الآباء عن الأولاد ولا يقتل الأولاد عن الآباء. كل إنسان بخطيته يقتل)
وفي حزقيال (18: 20): (الابن لا يحمل من إثم الأب والأب لا يحمل من إثم الابن. بر البار عليه يكون وشر الشرير عليه يكون. فإذا رجع الشرير عن جميع خطاياه التي فعلها وحفظ كل فرائضي وفعل حقا وعدلا فحياة يحيا. لا يموت. كل معاصيه التي فعلها لا تذكر عليه)
وقد قال موسى وهارون للرب: (اللهم إله أرواح جميع البشر هل يخطئ رجل واحد فتسخط على كل الجماعة؟)(العدد 16: 22)
وقال الرب في (إشعيا: 55: 7): (ليترك الشرير طريقه والأثيم أفكاره، وليتب إلى الرب فيرحمه، وليرجع إلى إلهنا لأنه يكثر الغفران)
وقال الرب في (حزقيال:33: 11): (حي أنا يقول السيد الرب، إني لا أبتهج بموت الشرير بل بأن يرتدع عن غيه ويحيا)
وفيه (حزقيال: 18: 21، 22) قال الرب: (ولكن إن رجع الشرير عن خطاياه كلها التي ارتكبها، ومارس جميع فرائضي وصنع ما هو عدل وحق فإنه حتما يحيا، لا يموت. ولا تذكر له جميع آثامه التي ارتكبها. إنما يحيا ببره الذي عمله)
وفي (سفر الخروج: 40: 12) نجد الرب يغفر لهارون خطأه([6])، ويأمر بجعله وذريته كهنة على بني اسرائيل.
وفي سفر (أخبار الايام الثاني: 7: 14): (فإذا تواضع شعبي الذين دعي اسمي عليهم وصلوا وطلبوا وجهي ورجعوا عن طرقهم الرديئة فإني أسمع من السماء وأغفر خطيتهم وأبرئ أرضهم)
بالإضافة إلى هذا كله، فقد علمكم المسيح أن تصلوا إلى الله قائلين: (واغفر لنا ذنوبنا، كما نغفر نحن للمذنبين إلينا)(متى 6: 12)
ويقول: (فإن غفرتم للناس زلاتهم، يغفر لكم أبوكم السماوي زلاتكم. وإن لم تغفروا للناس، لا يغفر لكم أبوكم السماوي زلاتكم)(متى 6: 14، 15)
إن هذه العقيدة التي تنسجم مع العدل والرحمة هي العقيدة التي جاء بها القرآن الكريم، فالله لا يعاقب إلا من استحق العقوبة بسبب الجرائم التي ارتكبها، والله القادر على المعاقبة قادر كذلك على التجاوز والمغفرة من دون أن يحتاج إلى أي وساطة.
قام مستأجر بولس، وقال: دعنا من هذا الحديث، وحدثنا عما تزعمه من تكريمات، فلا أراك تذكر ما تذكر إلا لتفر منها.
عبد القادر: لا.. كل ما ذكرته يصب في هذه التكريمات، بل يصب في تكريمات المسيح u، فنحن نعتقد أن فكرة الاستعاضة أو التضحية النيابية فكرة غير منطقية عقلا، وغير مقبولة نصا.. بالإضافة إلى أنه لا معنى لها، وهي أشبه ما تكون بطبيب يحطم رأسه ليشفي صداع المرضى لديه، فهل يغني ذلك عن مرضاه شيئا؟
ضحك الجمع، فقال: إن مبدأ الكفارة أو التضحية تجعل الأقنوم الأول في الثالوث المقدس المكذوب متعطشا لسفك الدم من أجل إظهار التضحية بالذات محبة للأقنوم الثاني.
لقد عقب آرثر ويجال على مبدأ الكفارة كما يؤمن بها حضرة القس، فقال: (نحن لا نقدر أن نقبل المبدأ اللاهوتي الذي من أجل بعض البواعث الغامضة أوجب تضحية استرضائية، إن هذا انتهاك إما لتصوراتنا عن الله بأنه الكلي القدرة وإلا ما نتصوره عنه ككلي المحبة، إن الدكتور كرودن الشهير يعتقد أنه من أجل مآرب لهذه التضحية فإن يسوع المسيح قاسى أشد العذاب أوقعها الله قصاصا عليه، وهذا بالطبع وجهة نظر يتقزز منها العقل العصري، والتي قد تكون شرطا لعقيدة بشعة ليست منفصلة عن ميول التلذذ بالقسوة للطبيعة البشرية البدائية، وفي الواقع إن هذه العقيدة دخيلة من مصدر وثني وهي حقا من آثار الوثنية([7]) في الإيمان.
إن المنهج المسيحي للخلاص ليس فقط لا أخلاقيا ولا منطقيا ومعتلا، بل أيضا لا سند له في كلمات يسوع المسيح، ربما قال يسوع أنه يتعذب من أجل خطايا الناس، بمعنى أنه من أجل أن يخرجهم من الظلمات إلى النور تجشم النقمة الإلهية على فاعلي الشر، وكانوا سبب تعذيبه ولكن لا يعني هذا أن موته كان تضحية من أجل خطايا الآخرين، وأن أولئك الذين يؤمنون فقط بدمه المسفوك عنهم ينالون غفران الخطايا.
لقد جاء يسوع المسيح لينقذ الناس من خطاياهم بتعاليمه وحياته المثالية في تقوى الله وليس بالموت عمدا من أجلهم على الصليب ومنحهم دمه كفارة لخطاياهم.
وعندما جاء شاب إليه يسأله: (أيها المعلم الصالح، ماذا أعمل لأرث الحياة الأبدية؟ ولكن يسوع قال له: لماذا تدعوني الصالح؟ ليس أحد صالحا إلا واحد، وهو الله. أنت تعرف الوصايا: لا تقتل؛ لا تزن؛ لا تسرق؛ لا تشهد بالزور؛ لا تظلم؛ أكرم أباك وأمك)(مرقس 10: 17)
إن المسيح لم يذكر للسائل شيئا عن تضحيته كفارة وقوة فداءه بسفك دمه، وكان جواب يسوع هو نفس جواب كل نبي قبله: (قال له: لماذا تدعوني الصالح؟ ليس أحد صالحا إلا واحد، وهو الله) (مرقس 10: 18)
فحفظ الوصايا ـ وفقا لكلام يسوع المسيح ـ هي الطريق إلى الحياة الأبدية، فالخلاص يمكن الحصول عليه بالإيمان بالله، والتنحي عن الشر وفعل الخير وليس بقبول يسوع المسيح ملعونا على الخشبة والإيمان بدمه المسفوك كفارة لخطايا الجنس البشري)
قام رجل من الجمع، يظهر أنه مسيحي مخلص، فقال: فكيف يكفر الإنسان عن الخطايا التي كتبت في جبينه؟
عبد القادر: نحن نعتقد بأن الله العادل الرحيم لم يكتب أي خطيئة في أي جبين، ونعتقد أن كل إنسان مسؤول عن عمله وحده، فربنا يقول لنا:{ ألا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاء الْأَوْفَى}(النجم: 38-41)
بل إن الله تعالى يخبرنا بأن هذه الحقيقة موجودة في كل الكتب التي جاء بها الأنبياء ـ عليهم السلام ـ فهو يقول لنا:{ أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى (33) وَأَعْطَى قَلِيلًا وَأَكْدَى (34) أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى (35) أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى (36) وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37) أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى (38) وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى (40) ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى (41)} (النجم)
ويقول لنا ـ مخبرا عن يوم القيامة ـ:{ يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ (6) فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)}(الزلزلة)
ولهذا، فإن الله تعالى يضع عن كواهلنا جميع الأواز التي لم ترتكبها أيدينا، فيقول:{ قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ}(النور:54)
ويقول:{ تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (البقرة:134)، ويقول:{ قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ} (البقرة:139)، ويقول:{ وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} (القصص:55)، ويقول:{فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} (الشورى:15)، ويقول:{ قُلْ لا تُسْأَلونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ} (سـبأ:25)
قام الرجل، وقال: فلنسلم لما ذكرت، ولكن كيف تكفر الخطايا؟
عبد القادر: لقد وضع الله تعالى للخطايا قوانين كثيرة:
أما الخطايا الكبرى التي تتعدى جميع الحدود، فتكفر بالعذاب.. بالعذاب الشديد الذي يحرق أسباب تلك الخطايا، ويكون كالداء العضال الذي لا يجدي معه إلا العملية الجراحية.
ومن هذا النوع من الخطايا الشرك بالله باعتباره أساس كل الانحرافات، فالله تعالى يقول:{ إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً} (النساء:48)
ومن هذا النوع الظلم والتعدي وسفك الدم بغير حق، كما قال تعالى:{ وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً} (النساء:93)
ومن الخطايا ما هو دون ذلك بكثير، فيكفر بأسباب كثيرة وضعها الشرع لتطهر القلب من أوزار الغفلة والمعصية.
قام مستأجر بولس، وقال: والشفاعة.. لا أراك تتحدث عنها.
عبد القادر: الشفاعة التي وردت بها نصوصنا المقدسة نوعان:
أولها ما يسمى بالشفاعة العظمى، وهي الشفاعة في ذلك الموقف العظيم الذي يقفه العباد ينتظرون أن يحاسبوا على أعمالهم، ويجازوا عليها.
فقد أخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن قصة تلك الشفاعة في حديث طويل، فقال: (أنا سيّد النّاس يوم القيـامة، وهـل تدرون ممّ ذلك؟ يجمع الله النّـاس الأوّلـين والآخرين في صعيـد واحد يسـمعهم الدّاعي وينفـذهم البصر، وتدنو الشّمس، فيبلغ النّاس من الغمّ والكرب ما لا يطيقون ولا يحتملون، فيقول النّاس: ألا ترون ما قد بلغكم؟ ألا تنظرون من يشفع لكم إلى ربّكم؟ فيقول بعض النّاس لبعض: عليكم بآدم. فيأتون آدم عليه السّلام فيقولون له: أنت أبوالبشر، خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأمر المـلائكة فسجدوا لك، اشفع لنا إلى ربّك، ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ ألا ترى إلى ما قد بلغنا؟ فيـقول آدم: إنّ ربّي قد غضب اليـوم غضبـًا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإنّه قد نهاني عن الشّجرة فعصيته، نفسي نفسي نفسي اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى نوح.
فيأتون نوحًا فيقولون: يا نوح إنّك أنت أوّل الرّسل إلى أهل الأرض، وقد سمّاك الله عبدًا شكورًا، اشفع لنا إلى ربّك، ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ فيقول: إنّ ربّي عزّ وجلّ قد غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإنّه قد كانت لي دعوة دعوتـها على قومي، نفسي نفسي نفسي، اذهبـوا إلى غيري اذهبـوا إلى إبراهيم.
فيأتون إبراهيم فيقولون: يا إبراهيم أنت نبيّ الله وخليـله من أهل الأرض، اشفع لنا إلى ربّك، ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ فيقول لهم: إنّ ربّي قد غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، نفسي نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى موسى.
فيـأتون موسى فيـقولون: يا موسى أنت رسول الله، فضّلك الله برسالته وبكلامه على النّاس، اشفع لنا إلى ربّك، ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ فيقول: إنّ ربّي قد غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، نفسي نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى عيسى.
فيـأتون عيسى فيقولون: يا عيسى أنت رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريـم وروح منه، وكلّمت النّاس في المهد صبيًّا، اشفع لنا إلى ربّك ألا ترى إلى ما نحن فيه، فيقول عيسى إنّ ربّي قد غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبـله مثله، ولن يغضب بعده مثله ـ نفسي نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري اذهبـوا إلى محمّد صلى الله عليه وآله وسلم.
فيـأتون محمّـدًا، فيقولون: يا محمّد أنت رسول الله وخـاتم الأنبيـاء، وقد غفر الله لك ما تقـدّم من ذنبك وما تأخّر، اشفع لنا إلى ربّك، ألا ترى إلى ما نحن فيه؟
فأنطلق فآتي تحت العرش فأقع سـاجدًا لربّي عزّ وجلّ، ثمّ يفتح الله عليّ من محـامده وحسن الثّناء عليه شيئًا لم يفتحه على أحد قبلي، ثمّ يقـال: يا محمّد ارفع رأسك، سل تعطه، واشفعْ تشـفّعْ.
فأرفع رأسي فـأقول: أمّتي يا ربّ، أمّتي يا ربّ([8]). فيقال: يا محمّـد أدخل من أمّتـك من لا حسـاب عليهم من الباب الأيمن من أبواب الجنّة، وهم شركاء النّـاس فيما سوى ذلك من الأبـواب. -ثم قـال- والّذي نفسي بيده إنّ ما بين المصراعين من مصـاريع الجنّـة كما بين مكّة وحمير، أو كما بين مكّة وبصرى)([9])
التفت عبد القادر إلى أجير بولس، وقال: هذه هي الشفاعة الأولى.. وهي الشفاعة العظمى، وهي تبين لك بعض التكريم الذي كرم الله به نبيه صلى الله عليه وآله وسلم.
لقد وعد الله نبيه صلى الله عليه وآله وسلم بهذا المقام الرفيع ([10])، فقال:{ أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآَنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآَنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا (78) وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا (79)}(الإسراء)
أما الشفاعة الثانية، فهي شفاعته صلى الله عليه وآله وسلم في بعض المخطئين من أمته بأن يغفر لهم، ويدخلوا الجنة، أو يخفف لهم من النار.
قاطعه بولس، وقال: ألا ترى أن كلامك هذا يتناقض مع ما ذكرته سابقا من مسؤولية الإنسان على عمله.
قام رجل آخر، وقال: بل إن كلامه هذا يتناقض مع القرآن، ففي آيات كثيرة يخبر القرآن أنه لا شفاعة عند الله:
ففي القرآن نجد هذه الآيات المخبرة عن عدم جدوى الشفاعة:{ وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ} (البقرة:48).. { وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ} (البقرة:123).. { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (البقرة:254).. { قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} (الزمر:44).. { فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} (المدثر:48)
وفيه نجد هذه الآية المخبرة عن عدم وجود الشفعاء:{ وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} (الأنعام:51).. {وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْهَا أُولَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ} (الأنعام:70).. { اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ} (السجدة:4).. { وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ} (غافر:18)
وبمثل هذا نادى محمد في قومه وأهل بيته، فقال: (يا معشر قريش! اشتروا أنفسكم من الله، لا أغني عنكم من الله شيئا، يا بني عبد مناف اشتروا انفسكم من الله، لا أغني عنكم من الله شيئا، يا عباس بن عبد المطلب! لا أغني عنك من الله شيئا، يا صفية عمة رسول الله! لا أغني عنك من الله شيئا، يا فاطمة بنت محمد! سليني من مالي ما شئت، لا أغني عنك من الله شيئا)([11])
وقال لعمه العباس: (يا عباس أنت عمى، وإنى لا أغني عنك من الله شيئا، ولكن سل ربك العفو والعافية في الدنيا والاخرة)([12])
بل أخبر عن بعض أصحابه، بأنه لا يتمكن من الشفاعة لهم يوم القيامة، ففي الحديث: (يا أيها الناس! إنكم محشورون إلى الله تعالى حفاة عراة غرلا، { كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ } (الانبياء: 104) ألا وإن أول الخلائق يكسى يوم القيامة إبراهيم، ألا وإنه يجاء برجال من أمتي فيؤخذ بهم ذات الشمال، فأقول: يا رب أصحابي أصحابي، فقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فأقول كما قال العبد الصالح :{ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ} (المائدة: 117)، فيقال: إن هؤلاء لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم)([13])
عبد القادر: صدقت.. إن كل ما ذكرته صحيح..
قام أجير بولس مقاطعا عبد القادر، وهو يقول بسخرية متوجها للجمع: انظروا أيها الناس إلى تناقضات هذا الرجل.. هو يتحدث عن الشفاعة، ويدافع عنها، ثم سرعان ما ينفيها..
ابتسم عبد القادر، وقال: لا.. لست متناقضا، وليس في الحقائق الأزلية أي تناقض.
لقد ذكر هذا الرجل الفاضل الأصل والقاعدة العامة التي ينبني على أساسها التكليف، فالتكليف مبني على الجزاء.. والجزاء لا يكون إلا على العمل.
بولس: ولكن هذا يتناقض مع الشفاعة التي تعني الجزاء الخالي من العمل.
عبد القادر: هذا ما يفهمه العامة الذين لم يدققوا في النصوص، وهؤلاء هم الذين ينبغي أن يخاطبوا بما أورد ذلك الرجل الفاضل من النصوص.
أما الشفاعة في حد ذاتها فهي نوع من الجزاء على أنواع دقيقة من العمل.
سأضرب لكم مثالا يقرب هذا.
لو أن شخصا من الناس كان يحب وجيها من الوجهاء حبا جما، ويخلص في حبه والمنافحة له ما قدر عليه قلبه من الإخلاص، ثم وقع في بعض الإساءات التي لم ترتبط بمصالح الناس، فهل ترون ذلك الوجيه يقعد عن نصرته أو الشفاعة له؟
قالوا: لا..
عبد القادر: فهكذا الأمر.. فالشفاعة في حقيقتها التي تدل عليها النصوص هي جزاء كسائر أنواع الجزاء التي ينالها الخلق في الآخرة لأعمال عملوها أو صفات اتصفوا بها، وليست كما يتوهم من أنها وساطة ينجو على أساسها قوم في الوقت الذي يحرم منها غيرهم مع تساوي الاستحقاق، لأن ذلك لا يتناسب مع العدل المطلق الذي بنيت عليه قوانين الآخرة([14]).
ونرى بناء على هذا، وبناء على أدلة كثيرة لا يمكن ذكرها هنا أن الشفاعة خاصة بالمقصرين من محبي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذين قعدت بهم أعمالهم عن النجاة، فرفعتهم محبتهم إلى محل الشفاعة.
ولهذا ورد في الحديث: قيل: يا رسول الله من أسعد النّاس بشفاعتك يوم القيامة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (أسعد النّاس بشفاعتي يوم القيامة من قال: لا إله إلاّ الله خالصًا من قلبه أو نفسه)([15])
وهذا النوع من الشفاعة ليس خاصا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، بل قد ورد في النصوص ما يدل على أن الأنبياء يشفعون في أقوامهم، بل إن المؤمنين يفتح لهم باب الشفاعة، فيشفعوا في أهاليهم وغيرهم بشرطين ذكرتهما النصوص.
أما الأول، فهو إذن الله تعالى للشافع: قال تعالى:{ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ } (البقرة: 255)، وقال تعالى:{ إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} (يونس:3)
وأما الثاني، فهو الرضى، رضى الله تعالى عن المشفوع، قال تعالى:{ وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (26) لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (28)}(مريم)
قام أجير بولس، وقال: أهذا كل ما كرم به نبيكم؟
عبد القادر: هناك تكريمات إلهية كثيرة لنبينا صلى الله عليه وآله وسلم إن شئتم ذكرت لكم منها ما تعلمون به المكانة العظيمة التي هيأها الله لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم.
أجاب الجمع بالإيجاب، فقال: من أعظم التكريمات التي كرم الله بها نبيه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قرن طاعته بطاعة رسوله، ولهذا قال تعالى:{ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (النساء:13)، وقال تعالى:{ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً} (النساء:69)، وقال:{ مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً} (النساء:80)، وقال:{ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} (النور:52)، وقال:{ يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} (الأحزاب:71)
وغيرها من الآيات الكثيرة التي تقرن بين طاعة الله وطاعة رسوله.
قام رجل من الجمع، وقال: أليس ذلك من الشرك الذي نراكم تنفرون منه؟
عبد القادر: لا.. الشرك أن نعبد محمدا، أو نجعله لله ندا.. أما أن نتخذه أستاذا ومعلما ومرشدا إلى الله، فليس في ذلك أي شرك، فنحن في حياتنا نستعمل الوسائط الكثيرة للبلوغ لأي مأرب.
ولهذا، فإن الله تعالى دل من يزعم محبة الله بالبحث عن مراضي الله، ومراضي الله لا نعرفها إلا عن طريق رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، قال تعالى:{ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (آل عمران:31)
قام رجل من الجمع، وقال: ولكن الله أرسل رسلا آخرين غير محمد.. لقد ذكر القرآن الكريم ذلك.
عبد القادر: نعم.. وتجب طاعتهم على أقوامهم الذين أرسلوا إليهم.
الرجل: فنحن مسيحيون.. ولهذا يجب علينا أن نطيع المسيح لا محمد؟
عبد القادر: أنت لست من أمة المسيح.. لقد أرسل المسيح u إلى بني إسرائيل..
لقد كا يصيح في أتباعه قائلا: (إلى طريق أمم لاتمضوا وإلى مدينة للسامريين لا تدخلوا، بل اذهبوا بالحرى إلى خراف بني إسرائيل الضالة)(متى:10/ 5، 6)
قال رجل آخر: فأنا إسرائيلي النسب، وأدين بدين المسيح.
عبد القادر: لو كنت قبل محمد صلى الله عليه وآله وسلم كان يمكنك أن تدين بدين المسيح، ولكنك اليوم تبع لأمة محمد لا أمة المسيح.
الرجل:أنتم تحتكرون الدين بذلك؟
عبد القادر: سأضرب لك مثالا يبين لك هذه الحقيقة.. فكن معي وأجبني.
ألم تظهر أمراض كثيرة لم تعرفها البشرية من قبل؟
الرجل:بلى.. أمراض كثيرة ربما مرض بها من قبلنا من غير أن يعرفوها.
عبد القادر: فإذا مرض أحد الناس بهذا المرض هل نرشده إلى ما كتبه الأطباء في القرون الوسطى، أم نرشده إلى الأطباء الذين عايشوا المرض، واكتشفوا علاجه؟
الرجل:بل نرسله إلى الأطباء الذين عايشوا المرض، واكتشفوا علاجه.
عبد القادر: فهكذا الأمر مع الأنبياء ـ عليهم السلام ـ كل منهم جاء لوظيفة خاصة.. وقد أكملهم الله بخاتمهم محمد صلى الله عليه وآله وسلم الذي جاء بالشريعة الخاتمة التي تكفي احتياجات البشرية في جميع أزمانها الباقية إلى يوم القيامة.
ولهذا فإن الله تعالى جعل شريعة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هي الشريعة المهيمنة على سائر الشرائع والناسخة لها، قال تعالى:{ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} (المائدة:48)
ولهذا أخبر أنه لا يقبل إلا الإسلام، فقال تعالى:{ وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (آل عمران:85)
وهذا ليس خاصا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقد أمر الله كل رسول سابق بأن يؤمن وينصر من تلاه من الرسل، قال تعالى:{ وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آَتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (81) فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (82)}(آل عمران)
ففي هذه الآية يخبر الله تعالى أنه أخذ ميثاق كل نبي بعثه من لدن آدم u إلى عيسى u لَمَهْمَا آتى الله أحدَهم من كتاب وحكمة، وبلغ أيّ مبلَغ، ثم جاءه رسول من بعده، ليؤمنَنَّ به ولينصرَنَّه، ولا يمنعه ما هو فيه من العلم والنبوة من اتباع من بعث بعده ونصرته، كما قال طاووس، والحسن البصري، وقتادة: أخذ الله ميثاق النبيين أن يصدق بعضهم بعضا.
وقد ذكر علي بن أبي طالب وعبد الله بن عباس تفسير هذه الآية، فقالا: ما بعث الله نبيا من الأنبياء إلا أخذ عليه الميثاق، لئن بَعَث محمدًا وهو حَيّ ليؤمنن به ولينصرنه، وأمَرَه أن يأخذ الميثاق على أمته: لئن بعث محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وهم أحياء ليؤمِنُنَّ به ولينصرُنَّه.
ولهذا ورد في الحديث أن عمر جاء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا رسول الله، إني مررتُ بأخٍ لي من قُرَيْظَة، فكتب لي جَوَامعَ من التوراة، ألا أعرضها عليك؟ قال: فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال عبد الله بن ثابت ([16]): قلت له: ألا ترى ما بوجه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ فقال عمر: رضينا بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد رسولا، فسري عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقال: (والذي نفس محمد بيده لو أصبح فيكم موسى عليه السلام، ثم اتبعتموه وتركتموني لضللتم، إنكم حظي من الأمم، وأنا حظكم من النبيين)([17])
وفي حديث آخر قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء، فإنهم لن يهدوكم وقد ضلوا، وإنكم إما أن تصدقوا بباطل وإما أن تكذبوا بحق، وإنه -والله-لو كان موسى حيا بين أظهركم ما حل له إلا أن يتبعني)([18])
فبمقتضى هذه النصوص، فإن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم هو خاتم الأنبياء دائما إلى يوم الدين، وهو الإمام الأعظم الذي لو وجد في أي عصر كان هو الواجب الطاعة المقدَّم على الأنبياء كلهم؛ ولهذا كان إمامهم ليلة الإسراء لما اجتمعوا ببيت المقدس، وكذلك هو الشفيع في يوم الحشر في إتيان الرب لِفَصْل القضاء.
الرجل:فهل تميز هذا الدين عما جاءت به سائر الأديان؟
عبد القادر: بأشياء كثيرة لا يمكن حصرها، فقد تميزت رسالته صلى الله عليه وآله وسلم بأمور ثلاثة تفوق بها على الرسالات التي قبلها وتؤهلها لأن تكون خاتمة:
العموم: بمعنى أن رسالة الإسلام ليست محددة بزمن من الأزمان ولا بمكان من الأمكنة ولا بأمة دون الأمم منذ نزولها إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
يقول تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [سبأ:28].
ويقول تعالى أيضًا: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107].
ويقول تعالى أيضًا آمرًا إعلان هذا الأمر: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الأعراف:158] وهذه النصوص كلها تدل على عمومية رسالة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهي من إحدى خصائصه كما يدل عليه قوله صلى الله عليه وآله وسلم: “أعطيت خمسًا لم يعطهن أحد قبلي.. ثم ذكر من بينها وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يبعث إلى قومه وبعثت إلى الناس كافة”[52].
ويؤيد خصوصية الرسالات السابقة قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خلا فِيهَا نَذِيرٌ} [فاطر:24].
ثانيًا: الحفظ: حيث تكفل الله بحفظها باقية كما نزلت إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها دون تغيير شيء منها بالنقص منها أو الزيادة عليها.
يقول تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9] وهذا أمر مشاهد اليوم لا ينكره أحد بحيث لم يتغير منها شيء بعد أربعة عشر قرنًا وستبقى كذلك إلى حين يشاء الله تعالى، بخلاف الكتب السابقة التي تعرضت للتحريف والتبديل من قبل أصحابها كالتوراة والإنجيل.
ثالثًا: الكمال والتمام: ولقد أكملها سبحانه وتعالى لرسوله صلى الله عليه وآله وسلم كما يدل عليه قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3].
وقد نزلت هذه الآية في حجة الوداع في العام العاشر من الهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة والتسليم كما ورد في الحديث الصحيح.
عبد القادر: ومن التكريمات التي كرم الله بها نبيه صلى الله عليه وآله وسلم صلاته عليه، وأمر المؤمنين بأن يصلوا عليه، قال تعالى:{ إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} (الأحزاب:56)
قام أجير بولس، وقال ببلاهته المعهودة: ها أنتم تشاركوننا في عبادة محمد.. أليست الصلاة نوعا من العبادة، بل من أهم أنواعها.
عبد القادر: نعم الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عبادة، ولكنها عبادة لله، لا عبادة لمحمد.
قال رجل من الحاضرين: كيف ذلك؟
عبد القادر: لأنا نمارسها طاعة لله، واستجابة لأمره، إن الأمر فيها يشبه أمر الله للملائكة بالسجود لآدم u، فهل ترى الله في ذلك المحل أمرهم بعبادة آدم؟
سكت الرجل، فقال عبد القادر: أساس الإشكال الذي حصل لكم هو في كون لفظ الصلاة يطلق على معنيين:
أولهما العبادة المعروفة، والتي لا يتوجه بها إلا لله.
وثانيهما الدعاء والتبريك، ولهذا قال تعالى:{ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (التوبة:103)
وقال تعالى في حق المنافقين:{ وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ} (التوبة:84)
وقد ورد في الحديث: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا أتى بصدقة قال: (اللهم صل على آل فلان) ([19])، وعن جابر بن عبد الله قال: أتانا النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقالت له امرأتي: يا رسول الله صل علي وعلى زوجي، فقال: (صلى الله عليك وعلى زوجك)([20])
فالصلاة في كل هذه المحال تعني طلب الرحمة والمغفرة والتقريب وغيرها من أفضال الله وبركاته.
الرجل:فرسولكم يحتاج إلى دعواتكم إذن؟
عبد القادر: لا أحد من الناس يستغني عن الدعوات.. ولكن مع ذلك، فحاجتنا إلى الصلاة عليه تفضل كل حاجة، لأننا بالصلاة عليه نذكره، وبذكره نتعرف عليه، وبالتعرف عليه نحبه، وبحبه نصل إليه، وبالوصول إليه ننال كل خير في الدنيا والآخرة.
إن المكروب منا يصلي عليه، فيجد من لذة الأنس به ما يشغله عن كربه.
وإن صاحب الحاجة منا تنسد في طريقه الأبواب، فإذا صلى عليه فتح الله عليه مغاليقها.
لقد عرفنا هذا بالتجربة، وعرفنا به قبل ذلك نبينا صلى الله عليه وآله وسلم، فقد ساق من فضائل الصلاة عليه ما بين عظم المكانة التي جعلها الله له:
فقد أخبر صلى الله عليه وآله وسلم أن أول جزاء يناله من صلى على محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن يصلي الله عليه، وقد ورد ذلك في أحاديث كثيرة ترغب في هذا الجزاء العظيم:
ففي الحديث: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (من صلى علي صلاة واحدة صلى الله عليه عشر صلوات، وحط عنه عشر خطيئات)([21])
وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (إنه أتاني الملك فقال: يا محمد أما يرضيك أن ربك عز وجل يقول إنه لا يصلي عليك أحد من أمتك إلا صليت عليه عشرًا، ولا يسلم عليك أحد من أمتك إلا سلمت عليه عشرًا؟ قلت: بلى)([22])
بل ورد في حديث آخر ما هو أعظم من ذلك كله، فقد قال صلى الله عليه وآله وسلم يحكي عن الله تعالى: (من صلى عليك صليت عليه، ومن سلم عليك سلمت عليه)([23])
التفت إلى الجمع، وقال: هل ترون ـ أيها الجمع الفاضل ـ تكريما أعظم من هذا التكريم.. الله خالق كل شيء، ومالك كل شيء، وملك كل شيء يقول لنا هذا، ويربط صلاته وسلامه علينا بصلاتنا وسلامنا على محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
سكت قليلا، ثم قال: وبعد هذا، فقد ورد في النصوص تكريمات أخرى ترتبط بالذين يصلون على محمد صلى الله عليه وآله وسلم:
فقد أخبر صلى الله عليه وآله وسلم أن الملائكة لا تزال تصلي علي الذي يصلي علي النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (من صلى علي صلاة لم تزل الملائكة تصلي عليه ما صلى علي، فليقل عبد من ذلك أو ليكثر)([24])
وأخبر صلى الله عليه وآله وسلم أن الذين يصلون عليه هم أولى الناس به، وبشفاعته يوم القيامة، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن أولى الناس بي يوم القيامة أكثرهم علي صلاة)([25])
وفي حديث آخر قال صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا سمعتم المؤذن، فقولوا مثل ما يقول ثم صلوا علي، فإنه من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشرا، ثم سلوا لي الوسيلة فإنها منزلة من الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله وأرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل الله لي الوسيلة حلت له الشفاعة)([26])
وفي حديث آخر قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (من قال: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم، وترحم على محمد وعلى آل محمد كما ترحمت على إبراهيم وآل إبراهيم، شهدت له يوم القيامة بالشهادة وشفعت له)([27])
وأخبر صلى الله عليه وآله وسلم عن الأجور الكثيرة بأنواعها المختلفة التي أعدها الله لمن يصلون على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: (من صلى علي من أمتي صلاة مخلصًا من قلبه صلى الله عليه بها عشر صلوات، ورفعه بها عشر درجات، وكتب له بها عشر حسنات، ومحا عنه بها عشر سيئات)([28])
هذا في الأجور.. والتي هي رأسمال المؤمن الذي يرجو الدار الآخرة.
وبما أن الله رب الدنيا والآخرة، فإنه جعل لمن صلى على حبيبه صلى الله عليه وآله وسلم أجورا دنيوية بالإضافة إلى الأجور الأخروية:
فقد أخبر صلى الله عليه وآله وسلم أن الذي يجعل صلاته كلها للنبي صلى الله عليه وآله وسلم يكفيه الله همه ويغفر له ذنبه، فقد سأل أبي بن كعب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:كم أجعل لك من صلاتي؟ قال: (ما شئت)، قلت: الربع؟ قال: (ما شئت، فإن زدت فهو خير لك)، فقلت: النصف؟ قال: (ما شئت وإن زدت فهو خير لك)، قلت: أجعل لك صلاتي كلها؟ قال: (إذا يُكفي همك ويغفر ذنبك)([29])
وفي حديث آخر قال رجل: يا رسول الله أرأيت إن جعلت صلاتي كلها عليك؟ قال: (إذا يكفيك الله تبارك وتعالى ما أهمك من دنياك وآخرتك)([30])
ولهذا ربط السلف الصالح بين الدعاء والصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فعن علي قال: (كل دعاء محجوب حتى يصلى على محمد صلى الله عليه وآله وسلم)([31])
ولهذا علمنا صلى الله عليه وآله وسلم كيف نمزج في دعائنا بين مطالبنا الشخصية وبين الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فعن فضالة بن عبيد قال: سمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رجلا يدعو في صلاته لم يمجد الله تعالى ولم يصل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (عجل هذا)، ثم دعاه فقال له أو لغيره: (إذا صلى أحدكم، فليبدأ بتمجيد ربه سبحانه والثناء عليه، ثم يصلي علي، ثم يدعو بعد بما شاء)([32])
وعن عبد الله بن مسعود قال: كنت أصلي والنبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فلما جلست بدأت بالثناء على الله ثم الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثم دعوت لنفسي، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (سل تعطه، سل تعطه)([33])
قام أجير بولس: لقد كرم المسيح برفعه إلى السماء.. ولكن محمدا لم يكرم بهذا النوع من التكريم.
ابتسم عبد القادر، وقال: لكأني بك تريد أن تستفزني لأحدثك عن تكريم من أعظم تكريمات الله لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم، وهو تكريمه بالإسراء والمعراج، فإن أذنتم لي حدثتكم عن ذلك.
أشار إليه الجميع بالإيجاب، فقال: لقد اختار الله تعالى لذلك التكريم زمنا بلغ فيه البلاء قمته برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكأن الله تعالى ـ برحمته ولطفه ـ أراد أن ينفس عن رسوله ما يمر به من أزمات.
أو كأنه يقول له: يا محمد إن كان الخلق قد قلوك وآذوك، فإن السماء، بل إن السموات السبع وما فوقها، كلها بما فيها من الملائكة والأنبياء والأولياء يعظمك ويكن لك كل المودة والاحترام.
ولتعرفوا هذا سأقص عليكم قصة الإسراء والمعراج ([34]) كما رويت بالأسانيد الكثيرة التي لا يشك عاقل في صحتها.
فالقصة هي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أتي بالبراق.. فساروا حتى بلغوا أرضا ذات نخل، فقال له جبريل: انزل، فصل ههنا، ففعل، ثم ركب، فقال له جبريل: أتدري أين صليت؟ قال: لا، قال: صليت بطيبة وإليها المهاجر.
فانطلق البراق يهوي به، يضع حافره حيث أدرك طرفه، فقال جبريل: انزل فصل، ففعل، ثم ركب، فقال جبريل: أتدري أين صليت؟ قال: لا، قال: صليت بمدين عند شجرة موسى.
ثم ركب، فانطلق البراق يهوي، ثم قال: انزل فصل، ففعل، ثم ركب، فقال: أتدري أين صليت؟ قال: لا، قال: صليت بطور سينا حيث كلم الله موسى.
ثم بلغ أرضا بدت له قصورا، فقال له جبريل: انزل فصل، ففعل، ثم ركب وانطلق البراق يهوي، فقال له جبريل: أتدري أين صليت؟ قال: لا، قال: صليت ببيت لحم، حيث ولد عيسى.
وبينا هو يسير على البراق إذ رأى عفريتا من الجن، يطلبه بشعلة من نار، كلما التفت رآه، فقال له جبريل: ألا أعلمك كلمات تقولهن، فإذا قلتهن طفئت شعلته وخر لفيه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: بلى، فقال جبريل: (قل أعوذ بوجه الله الكريم، وبكلمات الله التامات التي لا يجاوزهن برو ولا فاجر، من شر ما ينزل من السماء، ومن شر ما يعرج فيها، ومن شر ما ذرأ في الأرض، ومن شر ما يخرج منها، ومن شر فتن الليل والنهار، ومن طوارق الليل والنهار إلا طارقا يطرق بخير يا رحمن)، فانكب لفيه وانطفأت شعلته.
فساروا حتى أتوا على قوم يزرعون في يوم ويحصدون في يوم، كلما حصدوا عاد كما كان فقال: يا جبريل ما هذا؟ قال: هؤلاء المجاهدون في سبيل الله تضاعف لهم الحسنة بسبعمائة ضعف، وما أتفقوا من شئ فهو يخلفه.
ووجد ريحا طيبة، فقال: يا جبريل ما هذه الرائحة؟ قال: هذه رائحة ماشطة بنت فرعون وأولادها، بينا هي تمشط بنت فرعون إذ سقط المشط، فقالت: بسم الله، تعس فرعون، فقالت ابنة فرعون: أو لك رب غير أبي؟ قلت: نعم، ربي وربك الله.
وكان للمرأة ابنان، فأرسل إليهم فراود المرأة وزوجها إن يرجعا عن دينهما، فقال: إني قاتلكما، فقالت: إن لي إليك حاجة، قال: وما هي؟ قالت: تجمع عظامي وعظام ولدي، فتدفنا جميعا.
قال: ذلك لك بما لك علينا من الحق، فأمر بنقرة من نحاس فأحميت، ثم أمر بها لتلقى فيها هي وأولادها، فألقوا واحدا واحدا، حتى بلغوا أصغر رضيع فيهم، فقال: يا أمه قعي ولا تقاعسي، فإنك على الحق.
قال: وتكلم أربعة وهم صغار: هذا وشاهد يوسف وصاحب جريح وعيسى ابن مريم عليه السلام.
ثم أتى على قوم ترضخ رؤوسهم، كلما رضخت عادت كما كانت، ولا يفتر عنهم من ذلك شئ، فقال: يا جبريل من هؤلاء؟ فقال: هؤلاء الذين تتشاغل رؤوسهم عن الصلاة المكتوبة.
ثم أتى على قوم أقبالهم رقاع وعلى أدبارهم رقاع، يسرحون كما تسرح الإبل والغنم، ويأكلون الضريع والزقوم ورضف جهنم وحجارتها، فقال: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الذين لا يؤدون صدقات أموالهم، وما ظلمهم الله شيئا.
ثم أتى على قوم بين أيديهم لحم نضيج في قدور، ولحم آخر نيئ خبيث، فجعلوا يأكلون من النيئ الخبيث ويدعون النضيج، فقال: ما هذا يا جبريل؟ قال: هذا الرجل من أمتك تكون عنده المرأة الحلال الطيب، فيأتي امرأة خبيثة، فيبيت عندها حتى يصبح، والمرأة تقوم من عند زوجها حلالا طيبا، فتأتي رجلا خبيثا فتبيت معه حتى تصبح.
ثم أتى على خشبة على الطريق لا يمر بها ثوب ولا شئ إلا خرفته، فقال: ما هذا يا جبريل؟ فقال: هذا مثل أقوام من أمتك يقعدون على الطريق فيقطعونه، وتلا:{ وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ}(لأعراف: 86)
ورأى رجلا يسبح في نهر من دم، يلقم الحجارة، فقال: من هذا؟ قال: آكل الربا.
وأتى على قوم قد جمع الرجل منهم حزمة عظيمة لا يستطيع حملها، وهو يزيد عليها، فقال: ما هذا يا جبريل؟ قال: هذا الرجل من أمتك تكون عنده أمانات الناس لا يقدر على أدائها، ويريد أن يتحمل عليها.
ثم أتى على قوم تقرض ألسنتهم وشفاههم بمقاريض من حديد كلما قرضت عاد، لا يفتر عنهم من ذلك شئ، فقال: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء خطباء الفتنة من أمتك يقولون ما لا يفعلون.
ومر بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون وجوههم وصدورهم، فقال: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم.
وأتى على حجر صغير يخرج منه ثور عظيم، فجعل الثور يريد أن يرجع من حيث خرج، فلا يتسطيع، فقال: ما هذا يا جبريل؟ قال: هذا الرجل يتكلم بالكلمة العظيمة ثم يندم عليها فلا يستطيع أن يردها.
وأتى على واد فوجد ريحا طيبة باردة كريح المسك، وسمع صوتا، فقال: يا جبريل ما هذا؟ قال: هذا صوت الجنة تقول: يا رب إيتني بما وعدتني، فقد كثرت غرفي واستبرقي وحريري وسندسي، وعبقري ولؤلؤي ومرجاني وفضتي وذهبي، وأكوابي وصحافي وأباريقي ومراكبي وعسلي ومائي، ولبني وخمري.
قال: لك كل مسلم ومسلمة ومؤمن ومؤمنة، ومن آمن بي وبرسلي، وعمل صالحا، ولم يشرك بي، ولم يتخذ من دوني أندادا، ومن خشيني فهو آمن، ومن سألني أعطيته، ومن أقرضني جزيته، ومن توكل علي كفيته، إني أنا الله لا إله إلا أنا، لا أخلف الميعاد، وقد أفلح المؤمنون، وتبارك الله أحسن الخالقين، قالت: قد رضيت.
وأتى على واد فسمع صوتا منكرا ووجد ريحا منتنة، فقال: ما هذا يا جبريل؟ قال: هذا صوت جهنم تقول: يا رب إيتني بما وعدتني فقد كثرت سلاسلي وأغلالي وسعيري وحميمي وضريعي وغساقي وعذابي، وقد بعد قعري واشتد حري، فأتني بما وعدتني.
فقال: لك كل مشرك ومشركة، وكافر وكافرة، وخبيث وخبيثة، وكل جبار لا يؤمن بيوم الحساب: قالت: قد رضيت.
ورأى الدجال في صورته رؤية عين لا رؤيا منام، فقيل: يا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كيف رأيته؟ فقال: (رأيته فيلمانيا أقمر هجان إحدى عينيه قائمة كأنها كوكب دري، كأن شعر رأسه أغصان شجرة، أشبهه بعبد العزى بن قطن)
وبينا يسير إذ دعاه داع عن يمينه: يا محمد، أنظرني أسألك، فلم يجبه، فقال: ما هذا يا جبريل؟ قال: هذا داعي اليهود، أما إنك لو أجبته لتهودت أمتك.
وبينا هو يسير إذ دعاه عن شماله: يا محمد أنظرني أسألك، فلم يجبه، فقال: ما هذا يا جبريل؟ قال: هذا داعي النصارى، أما إنك لو أجبته لتنصرت أمتك.
وبينا هو يسير، إذا بامرأة حاسرة عن ذراعها وعليها من كل زينة خلقها الله تعالى، فقالت: يا محمد أنظرني أسألك، فلم يلتفت إليها، فقال: ما هذه يا جبريل؟ قال: تلك الدنيا، أما إنك لو أجبتها لاختارت أمتك الدنيا على الآخرة.
وبينا هو يسير، فإذا هو بشئ يدعوه متنحيا عن الطريق، يقول: هلم يا محمد، فقال جبريل: سر يا محمد، فقال: من هذا؟ هذا عدو الله إبليس، أراد أن تميل إليه.
وسار، فإذا هو بعجوز على جانب الطريق، فقالت: يا محمد أنظرني أسألك، فلم يلتفت إليها، فقال: من هذه يا جبريل؟ قال: إنه لم يبق من الدنيا إلا ما بقي من عمر هذه العجوز.
وبينا هو يسير إذ لقيه خلق من خلق الله، فقالوا: السلام عليك يا أول، السلام عليك يا آخر، السلام عليك يا حاشر، فقال جبريل: اردد السلام، فرد، ثم لقيه الثانية فقال له مثل ذلك، ثم لقيه الثالثة فقال له مثل ذلك.
فقال: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: إبراهيم وموسى وعيسى.
ومر على، موسى، وهو يصلي في قبره الكثيب الأحمر، رجل طوال سبط آدم كأنه من رجال شنوءة، وهو يقول يرفع صوته: أكرمته وفضلته، فدفع إليه، فسلم عليه فرد عليه السلام، وقال: من هذا معك يا جبريل؟ فقال: هذا أحمد، فقل: مرحبا بالنبي العربي الذي نصح لأمته ودعا له بالبركة وقال: سل لأمتك اليسر.
فساروا فقال: يا جبريل من هذا؟ قال: هذا موسى بن عمران.
ثم مر برجل قائم يصلي قال: من هذا معك يا جبريل قال جبريل: هذا أخوك محمد، فرحب به ودعا له ببركة فقال: سل لأمتك اليسر، فقال: من هذا يا جبريل: قال هذا أخوك عيسى.
ومر على شجرة كان ثمرها السلاح، تحتها شيخ وعياله، فرأى مصابيح وضوءا، فقال: من هذا يا جبريل؟ قال: هذا أبوك إبراهيم، فسلم عليه فرد عليه السلام، وقال: من هذا معك يا جبريل؟ قال: هذا: ابنك أحمد، فقال: مرحبا بالنبي العربي الذي بلغ رسالة ربه ونصخ لأمته، يا بني إنك لاق ربك الليلة، وإن أمتك آخر الأمم وأضعفها، فإن استطعت أن تكون حاجتك أو جلها في أمتك فافعل، ودعا له بالبركة.
فسار حتى أتى الوادي الذي في المدينة يعني بيت المقدس، فإذا جهنم تنكشف عن مثل الروابي، فقيل: يا رسول الله كيف وجدتها؟ قال: (مثل الحمم)
ثم سار حتى انتهى إلى المدينة، فدخلها من بابها اليماني، وإذا عن يمين المسجد وعن يساره نوران ساطعان، فقال: يا جبريل ما هذان النوران؟ قال: أما الذي عن يمينك فإنه محراب أخيك داود، وأما الذي عن يسارك فعلى قبر أختك مريم.
فدخل المسجد، فأتى جبريل الصخرة التي ببيت المقدس، فوضع أصبعه فيها فخرقها، فشد بها البراق([35]).
فلما استوى بها النبي صلى الله عليه وآله وسلم في صخرة المسجد، قال جبريل: يا محمد هل سألت ربك أن يريك الحور العين؟ قال: نعم، قال جبريل: فأنطلق إلى أولئك النسوة فسلم عليهن، وهن جلوس عن يسار الصخرة، فانتهى إليهن، فسلم عليهن، فرددن عليه السلام، فقال: من أنتن؟ فقلن: (خيرات حسان نساء قوم أبرار، نقوا فلم يدرنوا، وأقاموا فلم يظعنوا، وخلدوا فلم يموتوا)
ثم صلى هو وجبريل كل واحد ركعتين فلم يلبث إلا يسيرا حنى اجتمع ناس كثيرون، فعرف النبيين من بين قائم وراكع وساجد، ثم أذن مؤذن وأقيمت الصلاة، فقاموا ينتظرون من يؤمهم، فأخذ جبريل بيده فقدمه فصلى بهم ركعتين([36]).
وأخذ النبي صلى الله عليه وآله وسلم من العطش أشد ما أخذه، فعرض عليه الماء والخمر واللبن ـ وفي رواية العسل بدل الماء ـ فشرب من العسل قليلا، وتناول اللبن فشرب منه حتى روي، فضرب جبريل منكبيه وقال: (أصبت الفطرة ولو شربت الخمر لغوت أمتك ولم يتبعك منهم إلا القليل، ولو شربت الماء لغرقت أمتك)
ثم أتي بالمعراج الذي تعرج عليه أرواح بني آدم، فلم ير الخلق أحسن من المعراج، فصعد هو وجبريل حتى انتهيا إلى باب من أبواب السماء الدنيا يقال له باب الحفظة وعليه ملك يقال له إسماعيل، وهو صاحب السماء الدنيا، وبين يديه سبعون ألف ملك مع كل ملك جنده مائة ألف.
فاستفتح جبريل باب السماء: قيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: أو قد أرسل إليه؟ قال: نعم، قيل: مرحبا به وأهلا، حياه الله من أخ ومن خليفة، فنعم الأخ ونعم الخليفة، ونعم المجئ جاء ففتح لهما.
فلما خلصا إلى السماء، فإذا فيها آدم كهيئته يوم خلقه ا لله على صورته، تعرض عليه أرواح ذريته الكفار، فيقول: روح خبيثة ونفس خبيثة، اجعلوها في سجين وعن يمينه أسودة وباب تخرج منه ريح طيبة وعن شماله أسودة وباب تخرج منه ريح خبيثة، فإذا نظر عن يمينه ضحك واستبشر، وإذا نظر عن شماله حزن وبكى.
فسلم عليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فرد عليه السلام، ثم قال: مرحبا بالابن الصالح والنبي الصالح فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: يا جبريل من هذا؟ قال: هذا أبوك آدم، وهذه الأسودة نسم بنيه، فأهل اليمين منهم أهل الجنة، وأهل الشمال منهم أهل النار، فإذا نظر عن يمينه ضحك، وإذا نظر عن شماله بكى، وهذا الباب الذي عن يمينه باب الجنة، إذا نظر من يدخله من ذريته ضحك واستبشر، والباب الذي عن شماله باب جهنم، إذا نظر من يدخله من ذريته بكى وحزن.
ثم مضى صلى الله عليه وآله وسلم هنيهة، فإذا هو بأخونة عليها لحم مشرح ليس يقربه أحد، وإذا بأخونة عليها لحم قد أروح وأنتن، عنده ناس يأكلون منه.
فقال: يا جبريل من هؤلاء؟ قال: هؤلاء من أمتك يتركون الحلال ويأتون الحرام([37]).
ثم مضى هنيهة فإذا هو بأقوام بطونهم أمثال البيوت فيها الحياة ترى من خارج بطونهم، كلما نهض أحدهم خر، فيقول: اللهم لا تقم الساعة، قال: وهم على سابلة آل فرعون، فتجئ السابلة فتطؤهم فسمعتهم يضجون إلى الله تعالى.
فقال: يا جبريل من هؤلاء؟ قال: هؤلاء من أمتك:{ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} (البقرة: 275)
ثم مضى هنيهة، فإذا هو بأقوام مشافرهم كمشافر الابل، فتفتح أفواههم ويلقمون حجرا، وفي رواية: يجعل في أفواههم صخر من جهنم، ثم يخرج من أسافلهم، فسمعهم يضجون إلى الله تعالى، فقال: يا جبريل من هؤلاء؟ قال: هؤلاء:{ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً} (النساء: 10)
ثم مضى هنيهة، فإذا هو بنساء معلقات بثديهن ونساء منكسات بأرجلهن، فسمعهن يضججن إلى الله تعالى، فقال: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء اللاتي يزنين ويقتلن أولادهن.
ثم مضى هنيهة إذا هو بأقوام يقطع من جنوبهم اللحم فيلقمونه، فيقال له: كل كما كنت تأكل من لحم أخيك، فقال: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الهمازون من أمتك اللمازون.
ثم صعدا إلى السماء الثانية، فاستفتح جبريل، قيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: أوقد أرسل إليه؟ قال: نعم، قيل: مرحبا به وأهلا، حياه الله من أخ ومن خليفة، فنعم الأخ ونعم الخليفة ونعم المجئ جاء، ففتح لهما.
فلما خلصا فإذا هو بابني الخالة: عيسى بن مريم، ويحيى بن زكريا، شبيه أحدهما بصاحبه: ثيابهما وشعرهما ومعهما نفر من قومهما.
وإذا بعيسى جعد مربوع الخلق إلى الحمرة والبياض سبط الشعر كأنما أخرج من ديماس أي حمام، شبهه بعروة بن مسعود الثقفي.
فسلم عليهما فردا عليه السلام، ثم قالا: مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح ودعوا له بخير.
ثم صعدا إلى السماء الثالثة، فاستفتح جبريل، فقيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: أوقد أرسل إليه؟ قال: نعم، قيل: مرحبا به وأهلا، حياه الله من أخ ومن خليفة، فنعم الأخ ونعم الخليفة ونعم المجئ جاء.
ففتح لهما، فلما خلصا، فإذا هو بيوسف ومعه نفر من قومه فسلم عليه، فرد عليه السلام، ثم قال: مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح ودعا له بخير، وإذا هو قد أعطي شطر الحسن([38])، قال: من هذا يا جبريل؟ قال: أخوك يوسف.
ثم صعدا إلى السماء الرابعة، فاستفتح جبريل، فقيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: أوقد أرسل إليه؟ قال: نعم، قيل: مرحبا به وأهلا حياه الله من أخ ومن خليفة، فنعم الأخ ونعم الخليفة ونعم المجئ جاء.
فلما خلصا فإذا هو بإدريس فقد رفعه الله مكانا عليا، فسلم عليه فرد عليه السلام ثم قال: مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح ثم دعا له بخير.
ثم صعدا إلى السماء الخامسة، فاستفتح جبريل، فقيل: من هذا؟ فقال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: أوقد أرسل إليه؟ قال: نعم، قيل: مرحبا به وأهلا، حياه الله من أخ ومن خليفة، فنعم الأخ ونعم الخليفة ونعم المجئ جاء.
ففتح لهما، فلما خلصا فإذا هو بهارون، ونصف لحيته بيضاء ونصف لحيته سوداء، تكاد تضرب إلى سرته من طولها، وحوله قوم من بني إسرائيل، وهو يقص عليهم فسلم عليه فرد عليه السلام، ثم قال: مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح، ثم دعا له.
فقال: يا جبريل من هذا؟ فقال: الرجل المحبب في قومه هارون بن عمران.
ثم صعد إلى السماء السادسة، فاستفتح جبريل، قيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: أوقد أرسل إليه؟ قال: نعم، قيل: مرحبا به وأهلا، حياه الله من أخ ومن خليفة، فنعم الأخ ونعم الخليفة ونعم المجئ جاء، ففتح لهما، فجعل يمر بالنبي والنبيين معهم الرهط، والنبي والنبيين معهم القوم، والنبي والنبيين ليس معهم أحد.
ثم مر بسواد عظيم، فقال: من هذا؟ قيل له: موسى وقومه ولكن ارفع رأسك فإذا بسواد عظيم قد سد الافق من ذا الجانب ومن ذا الجانب فقيل له: هؤلاء أمتك وسوى هؤلاء سبعون ألفا يدخلون الجنة بغير حساب.
فلما خلصا فإذا بموسى بن عمران، رجل آدم طوال كأنه من رجال شنوءة، كثير الشعر، فسلم عليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم فرد عليه السلام، ثم قال: مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح، ثم دعا له بخير، وقال: يزعم الناس أني أكرم على الله من هذا، بل هذا أكرم على الله مني.
ثم صعد، فلما انتهينا إلى السماء السابعة رأى فوقه رعدا وبرقا وصواعق، فاستفتح جبريل، قيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: أوقد أرسل إليه؟ قال: نعم، قيل: مرحبا به وأهلا، حياه الله من أخ ومن خليفة، فنعم الأخ ونعم الخليفة ونعم المجئ جاء.
ففتح لهما فسمع تسبيحا في السموات العلا مع تسبيح كثير.
فلما خلصا فإذا النبي صلى الله عليه وآله وسلم بإبراهيم رجل أشمط، جالس عند باب الجنة، على كرسي مسندا ظهره إلى البيت المعمور، ومعه نفر من قومه، فسلم عليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فرد عليه السلام، فقال: مرحبا بالنبي الصالح والابن الصالح وقال: مر أمتك فليكثروا من غراس الجنة، فإن تربتها طيبة وأرضها واسعة، فقال له: وما غراس الجنة؟ قال: (لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم)([39])
وهو أشبه ولده به، وعنده قوم جلوس بيض الوجوه أمثال القراطيس، وقوم في ألوانهم شئ، فقام هؤلاء الذين في ألوانهم شئ، فدخلوا نهرا، فاغتسلوا فيه فخرجوا وقد خلصت ألوانهم، وصارت مثل ألوان أصحابهم.
فجاءوا فجلسوا إلى أصحابهم فقال: يا جبريل من هؤلاء البيض الوجوه ومن هؤلاء الذين في ألوانهم شئ، وما هذه الأنهار التي دخلوها؟ فقال: أما هؤلاء البيض الوجوه فقوم لم يلبسوا إيمانهم بظلم، وأما هؤلاء الذين في ألوانهم شئ فقوم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا فتابوا فتاب الله عليهم، وأما هذه الانهار فأولها رحمة الله، والثاني نعمة الله، والثالث:{ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً} (الانسان: 21)، وقيل له: هذا مكانك ومكان أمتك.
وإذا هو بأمته شطرين: شطر عليهم ثياب كأنها القراطيس، وشطر عليه ثياب رمد، فدخل البيت المعمور، ودخل معه الآخرون الذين عليهم الثياب البيض وحجب الآخرون الذين عليهم الثياب الرمد وهم على خير، فصلى ومن معه من المؤمنين في البيت المعمور، وإذا هو يدخله كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه إلى يوم القيامة، آخر ما عليهم، ثم خرج ومن معه ([40]).
ثم رفع إلى سدرة المنتهى، وإليها ينتهي ما يعرض من الأرض فيقبض منها، وإليها ينتهي ما يهبط من فوق فيقبض منها، وإذا هي شجرة يخرج من أصلها أنهار من ماء غير آسن، وأنهار من خمر لذة للشاربين، وأنهار من عسل مصفى، يسير الراكب في ظلها سبعين عاما لا يقطعها، وإذا نبقها مثل قلال هجر، وإذا ورقها كآذان الفيلة، تكاد الورقة تغطي هذه الأمة، تغشاها ألوان لا يدري ما هي، فلما غشيها من أمر الله تعالى ما غشيها تغيرت، فما يستطيع أحد أن ينعتها من حسنها([41]).
ثم أخذ على الكوثر حتى إذا دخل الجنة فإذا فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، فرأى على بابها مكتوبا: الصدقة بعشر أمثالها، والقرض بثمانية عشر.
فقال: يا جبريل ما بال القرض أفضل من الصدقة؟ قال: لان السائل يسأل وعنده، والمستقرض لا يسأل إلا من حاجة.
ورأى الجنة من درة بيضاء وإذا فيها جنابذ اللؤلؤ، فقال: يا جبريل، إنهم يسألوني عن الجنة، فقال: أخبرهم أنها قيعان ترابها المسك.
وبينا هو يسير بنهر على حافيته الدر المجوف، وإذا طينة مسك أذفر، فقال: ما هذا يا جبريل؟ قال: هو الكوثر.
ثم عرضت عليه النار، فإذا فيها غضب الله وزجره ونقمته، ولو طرح فيها الحجارة والحديد لاكلتها، فإذا بقوم يأكلون الجيف، فقال: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس.
ورأى رجلا أحمر أزرق فقال: من هذا يا جبريل؟ قال: هذا عاقر الناقة.
ورأى مالك خازن النار، فإذا رجل عابس يعرف الغضب في وجهه، فبدأ النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالسلام، ثم أغلقت دونه، ثم رفع إلى سدرة المنتهى، فغشيها من أنوار الخلائق ومن أنوار الملائكة أمثال الغربان حين يقض على الشجرة وينزل على كل ورقة ملك من الملائكة فغشيها سحابة من كل لون.
ثم عرج به حتى ظهر لمستوى سمع فيه صريف الأقلام([42]).
ورأى رجلا مغببا في نور العرش، فقال: من هذا؟ ملك، قيل: لا، قال: نبي، قيل: لا، قال: من هو؟ قيل: هذا رجل كان في الدنيا لسانه رطب من ذكر الله، وقلبه معلق بالمساجد، ولم ينتسب لوالديه قط.
ثم نزل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى الأرض، فلما أصبح أخبر الناس بما رآه فصدقه كل من آمن به ايمانا قويا، وكذبه الكفار واستوصفوه مسجد بيت المقدس، فوصفه لهم وسألوه عن أشياء في المسجد فمثل بين يديه، فجعل ينظر إليه ويصفه ويعد أبوابه لهم بابا بابا فيطابق ما عندهم، وسألوه عن عير لهم فأخبرهم بها وبوقت قدومها فكان كما أخبر.
هنا قام بولس، وقال: أليس عجيبا ما تخبر به من هذه الرحلة العجيبة.. إن العقل السليم لا يكاد يصدق ما تقول.
التفت إليه عبد القادر، وقال: أي عقل تقصد؟ هل عقل علماء الدنيا، أم عقل علماء بالدين؟
بولس: العقل عقل واحد.. سواء كان لأهل الدين، أم لأهل الدنيا، وكلاهما يشتركان في إنكار ما تقول.
عبد القادر: نعم العقل عقل واحد، ولكني أرى أن عقل أهل الدين يتسع لما لا يتسع له عقل أهل الدنيا.
فأهل الدين يعرفون أن قدرة الله التي لا يحدها شيء لا يمتنع عليها ما حصل لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من خوارق، فلا يعجز خالق السموات أن يرفع إليها من يشاء، أو يخفض من يشاء.
بولس: ولكن العادة الكونية جرت باستحالة ذلك.
عبد القادر: هل هي استحالة مطلقة، أم أنها مستحيلة لأن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم هو الذي عرج به؟
سكت بولس، فقال: أرأيت لو ذكر لك أن المسيح u حصل له هذا، أكنت تنكره؟
بولس: أنا لا أنكره، لأني أعتقد أن المسيح إله، وللإله أن يتصرف في ملكه بما يشاء([43]).
عبد القادر: فأنت تريد منا إذن أن نزعم لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم الإلهية حتى نعطيه القدرة على القيام بالخوارق.
سكت بولس، فقال عبد القادر: على مقتضى مذهبك هذا، فإن هناك كثيرين ممن ذكروا في الكتاب المقدس ينبغي أن يكونوا أقانيم جديدة في الاتحاد الإلهي الذي تقيمونه.
فأخنوخ u (إدريس) صعد إلى السماء، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى:{ وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً} (مريم:57)
وقد ذكر القسيس وليم إسمت في كتابه (طريق الأولياء) أنه رفع إلى السماء بجسده حياً، وقد ورد في قصة أخنوخ في سفر التكوين (5/24) هذا النص المشير إلى ذلك: (وسار أخنوخ مع الله، ولم يوجد لأن الله أخذه)
ومثله إيليا الذي صعد إلى السماء وقصته وارده في سفر الملوك الثاني (2/10- 12)ففيه: (وفيما هما يسيران ويتكلمان اذا مركبة من نار وخيل من نار ففصلت بينهما فصعد ايليا في العاصفة الى السماء)
وقد قال آدم كلارك في تفسيره: لا شك أن إيليا رفع إلى السماء حياً.
ومثلهما المسيح u الذي صعد إلى السماء كما يشير إلى ذلك قوله تعالى:{ وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا (157) بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (158)}(النساء)
وقد جاء في إنجيل مرقس (16/19): (ثم إن الرب بعدما كلمهم ارتفع الى السماء، وجلس عن يمين الله)
ولا شك أن كل طوائف المسيحيين يعتقدون أن المسيح ارتفع بجسده كما هو.
ليس هؤلاء فقط، بل إن بولس يدعي أنه صعد إلى السماء، وأنت تعرف قصته الواردة في الرسالة الثانية إلى أهل كرونثوس (12/2-4) هكذا: (أعرف إنسانا في المسيح قبل اربع عشرة سنة أفي الجسد لست اعلم ام خارج الجسد لست اعلم. الله يعلم. اختطف هذا إلى السماء الثالثة. وأعرف هذا الانسان أفي الجسد أم خارج الجسد لست اعلم.الله يعلم. أنه اختطف الى الفردوس وسمع كلمات لا ينطق بها ولا يسوغ لإنسان أن يتكلم بها)
ومع هؤلاء جميعا أنت وطائفتك جميعا تعتقدون أن يوحنا صعد إلى السماء كما يُفهم من كلامه في سفر الرؤيا (4/1-2)، فقد جاء فيه: (بعد هذا نظرت، واذا باب مفتوح في السماء والصوت الاول الذي سمعته كبوق يتكلم معي قائلا: اصعد إلى هنا فأريك ما لا بدّ أن يصير بعد هذا. وللوقت صرت في الروح واذا عرش موضوع في السماء وعلى العرش جالس)
فلماذا تعتقدون أن كل هؤلاء رفعوا إلى السماء، ثم تحيل ذلك على محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
قام رجل من الجمع، وقال: أجبت عقل الدين، فأجب عقل الدنيا([44]).
عبد القادر: ليس هناك عصر من العصور يسهل عليه أن يوقن بصدق ما حصل لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم من هذا العصر.
الرجل:كيف ذلك؟
عبد القادر: لأن الكثير من المفاهيم الخاطئة عن الزمان والمكان لم تصحح إلا في عصرنا.
ثم التفت إلى الجمع، وقال: لاشك أنكم تعرفون نظرية النسبية.
قالوا: أجل..
عبد القادر: لقد أدمج إينشتين المكان والزمان في نظرية النسبية الخاصة عام 1905م، وأعلن أنه (ليس لنا أن نتحدث عن الزمان دون المكان، ولا عن المكان دون الزمان، ومادام كل شيء يتحرك فلابد أن يحمل زمنه معه، وكلما تحرك الشيء أسرع فإن زمنه سينكمش بالنسبة لما حوله من أزمنة مرتبطة بحركات أخرى أبطأ منه)
وقد تحققت ظاهرة انكماش الزمن علميا في معامل الفيزياء، حيث لوحظ أن الجسيمات الذرية تطول أعمارها في نظر راصدها إذا ما تحركت بسرعة قريبة من سرعة الضوء.
وعلى سبيل المثال، يزداد نصف العمر لجسيم البيون (نصف العمر هو الزمن اللازم لينحل هذا الجسيم إشعاعيا حتى يصل إلى نصف كميته) في الساعة المعملية الأرضية إلى سبعة أمثال قيمته المعروفة إذا تحرك بسرعة قدرها 99 بالمائة من سرعة الضوء.
وطبقا لنظرية إينشتين، فإننا إذا تخيلنا أن صاروخا اقتربت سرعته من سرعة الضوء اقترابا شديدا، فإنه يقطع رحلة تستغرق خمسين ألف سنة (حسب الساعة الأرضية) في يوم واحد فقط (بالنسبة لطاقم الصاروخ)
فإذا فكرت في زيارة أطراف الكون فإنك ستعود إلى الكرة الأرضية لتجد أجيالا أخرى وتغيرات كبيرة حدثت على هذا الكوكب الذي سيكون قد مر عليه حينئذ آلاف أو ملايين أو بلايين السنين بحساب أهل الأرض الذين لم يخوضوا معك هذه الرحلة المذهلة، وذلك إذا كنت قد تحركت في رحلتك بسرعة قريبة من سرعة الضوء.. وذلك لأن الزمن ينكمش مع ازدياد السرعة، وتزداد السرعة مع ازدياد القدرة على ذلك.
وهكذا أصبح من المقنع للماديين أن السرعة والزمن والقدرة أشياء مترابطة.
الرجل: ولكن نظرية النسبية تعتبر أن أكبر سرعة هي سرعة الضوء، وبناء على معلوماتنا الفلكية البسيطة، فإن الأبعاد الهائلة للكون تحوجنا إلى ملايين السنين الضوئية لنصل إلى بعض ما في الكون من نجوم وأشباه نجوم.
ففي أغسطس سنة 1988 تم اكتشاف مجرة راديوية تبعد عنا خمسة عشر بليونا من السنين الضوئية، وفي نهاية سنة1989 تم اكتشاف شبيه نجم يبعد عنا بمسافة (17400) مليون سنة ضوئية، ويعتبر بعده أقصي حد وصل إليه علماء الفلك في الجزء المدرك من الكون الذي يتسع باستمرار.
وفوق هذا، فإن قرآنكم يعتبر كل ما نراه سماء دنيا، فيقول:{ وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ} (فصلت: 12)
وكل هذا يعني أن محمدا لو ركب مركبة ضوئية، فإنه سيحتاج كل تلك الملايين من السنين ليقطع هذه المسافات التي لا تخرج به عن السماء الدنيا.
عبد القادر: ومن ذكر لك أن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم ركب مركبة ضوئية، أو سار بسرعة الضوء..
ومن قال لك بعد ذلك بأن سرعة الضوء هي أكبر سرعة ممكنة.
نعم.. سرعة الضوء في الفراغ (أو الهواء) هي أعلى سرعة معروفة حتى الآن، ولكن العلم الحديث لا ينكر وجود سرعة أكبر من سرعة الضوء في الفراغ، وإن لم يصل إليها حتى الآن، رغم سريان دقائق بيتا في الماء بسرعة أكبر من سرعة الضوء فيه، لأن هذه الدقائق اخترقت حاجز الضوء في الماء فقط، وليس في الهواء أو الفراغ، فتسببت في صدور إشعاع يدعى إشعاع كيرنكوف.
الرجل:فنظرية النسبية لا تفسر هذه الرحلة إذن؟
ابتسم عبد القادر، وقال: لا.. نظرية النسبية أعجز من أن تفسر هذه الرحلة.. إن هذه النظرية تبين القوانين التي تحكم ما نراه من عالم مادي، ولكنها لا تجرؤ على تفسير كل شيء.
ولهذا، فنحن لا نفسر بنظرية النسبية هذه الرحلة العجيبة، ولكنا نقرب بها إمكانها فقط.
ويوشك أن تظهر نظريات في المستقبل تجلي الحقائق التي انطوت عليها هذه الرحلة العجيبة، نحن نوقن بذلك، فربنا يقول:{ سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} (فصلت:53)
وكما حصل هذا مع سائر الأنبياء ـ عليهم السلام ـ فقد حصل مثله لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم.
فليس هناك من البشر من نال الاحترام الذي ناله محمد صلى الله عليه وآله وسلم سواء من أصحابه، أو من غيرهم، فالكل حتى أعداؤه الذي لا يزالون يشتدون في عداوته يعترفون في قرارة نفوسهم بالمكانة السامية التي يحتلها محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وكل ذلك تصديق لقوله تعالى:{ وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} (الشرح:4) ([45])
وائتمارا بقوله تعالى:{ قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) (التوبة:24)
وبقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا يؤمن أحد كم حتى أكون أحب إليه من والده وولده)([46])
فمحبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم أصل كل خير، كما أن محبة النفس والسعي في هواها أصل كل شر، ولهذا اعتبر صلى الله عليه وآله وسلم كمال الإيمان في كمال محبته.
ولهذا كان الزاد الأكبر للمؤمنين هو محبة رسولهم صلى الله عليه وآله وسلم، فعن أنس أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال له: متى الساعة؟ قال: (ما أعددت لها؟)، قال: ما أعددت لها من كثير صلاة ولا صيام ولا صدقة، ولكني أحب الله ورسوله، فقال: (أنت مع من أحببت)([47])
وعن ابن عباس أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: لأنت أحب إلي من أهلي ومالي، وإني لأذكرك، فما أصبر عنك حتى أنظر إليك، وإني ذكرت موتي وموتك فعرفت أنك إذا دخلت الجنة رفعت مع النبيين وإن دخلتها لا أراك، فأنزل الله تعالى:{ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً) (النساء:69)([48])
وعن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (من أحبني كان معي في الجنة)([49])
وقد روي أن امرأة من الأنصار قتل أبوها وأخوها وزوجها يوم أحد مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقالت: ما فعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قالوا: خيرا هو بحمد الله تعالى كما تحبين، قالت: أرونيه، فلما رأته قالت: كل مصيبة بعدك جلل([50]).
وعن عروة أن أهل مكة أخرجوا زيد بن الدثنة من الحرم ليقتلوه، فقال له أبو سفيان: أنشدك بالله يا زيد، أتحب أن محمدا عندنا بمقامك تضرب عنقه، وأنت في أهلك، فقال زيد : والله ما أحب أن محمدا الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه، وأنا جالس في أهلي، فقال أبو سفيان: والله ما رأيت أحدا يحب أحدا كحب أصحاب محمد محمدا ([51]).
وقد قادت هذه المحبة ـ التي امتلأت بها قلوب المؤمنين ـ إلى تحقيق ما أمر الله به من تعظيم نبيه صلى الله عليه وآله وسلم وتوقيره وبره، كما قال تعالى:{ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} (الفتح:8- 9)، وقوله تعالى:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (الحجرات:1)، وقوله تعالى:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ) (الحجرات:2)، وقوله تعالى:{ لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذاً فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (النور:63)
هذه بعض مواقف التكريم من أهل دينه، أما من غيرهم.. فكل المنصفين يشهدون لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم بأنه الرجل الوحيد الذي لا يسبقه رجل في العالم صدقا وإخلاصا وإيجابية.
لقد ذكر مايكل هارت في كتابه (العظماء مائة وأعظمهم محمد صلى الله عليه وآله وسلم) سبب اختياره لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم، وكونه الأعظم فقال: (إن اختياري لمحمد ليقود قائمة أكثر أشخاص العالم تأثيراً في البشرية قد يدهش بعض القراء، وقد يعترض عليه البعض.. ولكنه كان (أي محمد) الرجل الوحيد في التاريخ الذي حقق نجاحاً بارزاً في كل من المستوى الديني والدنيوي)
ويقول: (كان محمد الرجل الوحيد في التاريخ الذي نجح في مهمته إلى أقصى حد، سواء على المستوى الديني أم على المستوي الزمني)([52])
وفي ديوانه الرائع (الديوان الشرقي للشاعر الغربي) يخاطب شاعر الألمان غوته، أستاذه الروحي الشاعر حافظ شيرازي فيقول: (أي حافظ! إن أغانيك لتبعث السكون… وإنني مهاجر إليك بأجناس البشرية المحطمة، لتحملنا في طريق الهجرة إلى المهاجر الأعظم محمد بن عبد الله)([53])
ويقول غوته: (إننا أهل أوربة بجميع مفاهيمنا، لم نصل بعد إلى ما وصل إليه محمد، وسوف لا يتقدم عليه أحد، ولقد بحثت في التاريخ عن مثل أعلى لهذا الإنسان، فوجدته في النبي محمد، وهكذا وجب أن يظهر الحق ويعلو، كما نجح محمد الذي أخضع العالم كله بكلمة التوحيد)
ويقول الأديب الروسي (ليو تولستوي) والذي حرمته الكنيسة بسبب آرائه: (أنا واحد من المبهورين بالنبي محمد الذي اختاره الله الواحد لتكون آخر الرسالات على يديه، وليكون هو أيضاً آخر الأنبياء … ويكفيه فخراً أنه هدى أمة برمتها إلى نور الحق، وجعلها تجنح للسكينة والسلام، وفتح لها طريق الرقي والمدينة)
ويقول الشاعر الفرنسي الشهير (لا مارتين): (أعظم حدث في حياتي هو أنني درست حياة رسول الله محمد دراسة واعية، وأدركت ما فيها من عظمة وخلود، ومن ذا الذي يجرؤ على تشبيه رجل من رجال التاريخ بمحمد؟! ومن هو الرجل الذي ظهر أعظم منه، عند النظر إلى جميع المقاييس التي تُقاس بها عظمة الإنسان؟! إن سلوكه عند النصر وطموحه الذي كان مكرساً لتبليغ الرسالة وصلواته الطويلة وحواره السماوي هذه كلها تدل على إيمان كامل مكّنه من إرساء أركان العقيدة. إن الرسول والخطيب والمشرع والفاتح ومصلح العقائد الأخرى الذي أسس عبادة غير قائمة على تقديس الصور هو محمد، لقد هدم الرسول المعتقدات التي تتخذ واسطة بين الخالق والمخلوق)([54])
ويقول الفيلسوف الإنجليزي جورج برناردشو: (لقد درست محمداً باعتباره رجلاً مدهشاً، فرأيته بعيداً عن مخاصمة المسيح، بل يجب أن يدعى منقذ الإنسانية، وأوربة بدأت في العصر الراهن تفهم عقيدة التوحيد، وربما ذهبت إلى أبعد من ذلك، فتعترف بقدرة هذه العقيدة على حل مشكلاتها بطريقة تجلب السلام والسعادة! فبهذه الروح يجب أن تفهموا نبوءتي)([55])
ويقول المؤرخ ول ديورانت في موسوعته (قصة الحضارة): (إذا حكمنا على العظمة بما كان للعظيم من أثر في الناس، قلنا إن محمداً رسول المسلمين أعظم عظماء التاريخ، فقد كبح جماح التعصب والخرافات، وأقام فوق اليهودية والمسيحية ودين بلاده القديم ديناً واضحاً قوياً، استطاع أن يبقى إلى يومنا هذا قوة ذات خطر عظيم)
ويقول المؤرخ فيليب حتّي: (لم يسجل التاريخ أن رجلاً واحداً، سوى محمد، كان صاحب رسالة وباني أمة، ومؤسس دولة … هذه الثلاثة التي قام بها محمد، كانت وحدة متلاحمة، وكان الدين هو القوة التي توحدها على مدى التاريخ)
أما عالم اللاهوت السويسري المعاصر د. هانز كونج والذي يعتقد أن المسيح إنسان ورسول اختاره الله لا غير، فيقول: (محمد نبي حقيقي بمعنى الكلمة، ولا يمكننا بعد إنكار أن محمداً هو المرشد القائد على طريق النجاة)([56])
ويقول المؤرخ البريطاني الشهير (أرنولد توينبي): (الذين يريدون أن يدرسوا السيرة النبوية العطرة يجدون أمامهم من الأسفار مما لا يتوافر مثله للباحثين في حياة أي نبي من أنبياء الله الكرام)
ويقول الكونت كاتياني في كتابه (تاريخ الإسلام): (أليس الرسول جديراً بأن تقدَّم للعالم سيرته حتى لا يطمسها الحاقدون عليه وعلى دعوته التي جاء بها لينشر في العالم الحب والسلام؟! وإن الوثائق الحقيقية التي بين أيدينا عن رسول الإسلام ندر أن نجد مثلها، فتاريخ عيسى وما ورد في شأنه في الإنجيل لا يشفي الغليل)
ويقول المستشرق المعروف غوستاف لوبون: (نعرف ما فيه الكفاية عن حياة محمد، أما حياة المسيح فمجهولة تقريباً، وإنك لن تطمع أن تبحث عن حياته في الأناجيل)
ويذكر ر. ف. بودلي نفس هذا المعنى فيقول: (لا نعرف إلا شذرات عن حياة المسيح، أما في سيرة محمد فنعرف الشيء الكثير، ونجد التاريخ بدل الظلال والغموض)
ويقول المستشرق هيل في كتابه (حضارة العرب): (لقد أخرج محمد للوجود أمة، ومكن لعبادة الله في الأرض، ووضع أسس العدالة والمساواة الاجتماعية، وأحل النظام والتناسق والطاعة والعزة في أقوام لا تعرف غير الفوضى)
ويقول بسمارك: (يا محمد أنا متأثر جداً إذ لم أكن معاصراً لك! إن البشرية رأت قدوة ممتازة مثلك مرة واحدة، وأنا أعظمك بكمال الاحترام)
ويقول المؤرخ كريستوفر دارسون في كتابه (قواعد الحركة في تاريخ العالم): (إن الأوضاع العالمية تغيرت تغيراً مفاجئاً بفعل فرد واحد ظهر في التاريخ هو محمد)
ويقول العلامة شيريل، عميد كلية الحقوق بفيينا: (إن البشرية لتفتخر بانتساب رجل كمحمد إليها)
ويقول الباحث الفرنسي كليمان هوارت عن (محمد في الآداب العالمية المنصفة): (لم يكن محمداً نبياً عادياً، بل استحق بجدارة أن يكون خاتم الأنبياء، لأنه قابل كل الصعاب التي قابلت كل الأنبياء الذين سبقوه مضاعفة من بني قومه … نبي ليس عادياً من يقسم أنه (لو سرقت فاطمة ابنته لقطع يدها)! ولو أن المسلمين اتخذوا رسولهم قدوة في نشر الدعوة لأصبح العالم مسلماً)
حتى الذين ناصبوا محمدا صلى الله عليه وآله وسلم العداء عادوا يعتذرون إليه، فهذا الفيلسوف (فولتير) الذي أعلن توبته عن مواقفه من الإسلام، ومن محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولكن الأضواء لا تسلط إلا على أقواله الأولى، أما أقواله الأخيرة فقد طُمست.
فهو يعترف بأنه كان ضحية الأفكار السائدة الخاطئة: (قد هدم محمد الضلال السائد في العالم لبلوغ الحقيقة، ولكن يبدو أنه يوجد دائماً من يعملون على استبقاء الباطل وحماية الخطأ)
ثم يقول في قاموسه الفلسفي: (أيها الأساقفة والرهبان والقسيسون إذا فُرض عليكم قانون يحرم عليكم الطعام والشراب طوال النهار في شهر الصيام.. إذا فرض عليكم الحج في صحراء محرقة.. إذا فُرض عليكم إعطاء 2،5 بالمائة من مالكم للفقراء.. إذا حُرِّم عليكم شرب الخمور ولعب الميسر.. إذا كنتم تتمتعون بزوجات تبلغ ثماني عشرة زوجة أحياناً، فجاء من يحذف أربع عشرة من هذا العدد، هل يمكنكم الإدعاء مخلصين بأن هذه الشريعة شريعة لذّات؟!)
ويقول: (لقد قام الرسول بأعظم دور يمكن لإنســان أن يقوم به على الأرض… إن أقل ما يقال عن محمد أنه قـــد جاء بكتاب وجاهد، والإسلام لم يتغير قط، أما أنتم ورجال دينكم فقد غيرتم دينكم عشرين مرة)
عبد القادر: بل إن تكريم محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومعرفة قدره العظيم لم يقتصر على البشر، فقد شهدت له الأرض بحجارتها وأشجارها وحيواناتها، فقد كانت تظهر له من المودة والحنين والحب ما تنافس به البشر أنفسهم، وقد كان صلى الله عليه وآله وسلم يبادل هذه الكائنات مشاعرها، فكان يقول عن أحد: (هذا جبل يحبنا ونحبه)([57])
وروي بأسانيد كثيرة([58]) أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يخطب إلى جذع نخلة، فاتخذ له منبر، فلما فارق الجذع، وغدا إلى المنبر الذي صنع له حن له كما تحن الناقة([59])، فنزل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فضمه إليه،فسكن، فأمر به أن يحفر له ويدفن)
ومن ذلك ازدلاف البدنات لما أراد نحرهن إليه صلى الله عليه وآله وسلم، فعن عبد الله بن قرط قال: قرب لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خمس أو ست بدنات ينحرهن يوم عيد فطفقن يزدلفن إليه بأيتهن يبدأ، فلما وجبت جنوبها، قال: فتكلم بكلمة لم أفهمها، فسألت الذي يليه فقال: قال: (من شاء فليقتطع)([60])
وفي الوقت الذي كذب فيه صلى الله عليه وآله وسلم كانت هذه الكائنات تقف شاهدة له:
ففي الحديث عن جابر قال: أقبلنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من سفر حتى إذا دفعنا إلى حائط بني النجار إذا فيه جمل لا يدخل أحد إلا شد عليه، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فجاء حتى أتى الحائط فدعا البعير، فجاء واضعا مشفره إلى الأرض حتى برك بين يديه، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (هاتوا خطامه)، ودفعه إلى صاحبه ثم التفت إلى الناس، فقال: (إنه ليس شئ بين السماء والارض إلا يعلم أني رسول الله إلا عاصي الانس والجن)([61])
وقد روي بأسانيد مختلفة ([62]) بينما أعرابي ببعض نواحي المدينة في غنم له إذ عدا ذئب على شاة، فأخذها، فطلبها الراعي، فاستنقذها منه، فصعد الذئب على تل فاقع واستقر، وقال: ألا تتقي الله عز وجل، تنزع مني رزقا ساقه الله عز وجل إلي؟ فقال: يا عجبا لذئب يقع على ذئبه مستذفر ذنبه يتكلم، فقال الذئب: والله إنك تصادف أعجب من هذا قال: وماذا أعجب من هذا؟ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في النخلات بين الحرتين يحدث الناس عن نبأ ما سبق وما يكون بعد ذلك([63])، فأقبل الراعي يسوق حتى دخل المدينة، فزواها إلى زاوية من زوايا المدينة، ثم أتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأخبره.
ومن ذلك استجارة الغزالة به صلى الله عليه وآله وسلم وشهادتها له بالرسالة، فقد روي بأسانيد مختلفة([64])، أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مر على قوم قد اصطادوا ظبية فشدوها على عمود فشطاط فقالت: يا رسول الله أخذت ولي خشفان في البرية، وقد انعقد اللبن في أخلافي، فلا هو يذبحني فأستريح، ولا يدعني، فأرجع إلى خشفي في البرية)([65])، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن تركتك ترجعين؟)، قالت: نعم، وإلا عذبني الله عذابا أليما)
فقال: (أين صاحب هذه؟)، فقال القوم: نحن يا رسول الله، قال: (خلوا عنها حتى تأتي خشفها ترضعها وترجع إليكم)، فقالوا: من لنا بذلك؟ قال: (أنا)، فأطلقوها فذهبت فأرضعت ثم رجعت إليهم فأوثقوها، فمر بهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: (أين صاحب هذه؟)، قالوا: هوذا نحن يا رسول الله، قال: (تبيعونها؟)، فقالوا: هي لك يا رسول الله، فقال: (خلوا عنها)، وأطلقوها، فذهبت، وهي تضرب برجلها فرحا وتقول: أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله.
قال زيد بن أرقم: فأنا والله رأيتها تسبح في البرية وهي تقول: لا إله إلا الله محمد رسول الله.
ومما يدخل في هذا الباب ما روي من تسبيح الأشياء بين يديه:
وعن ابن عباس قال: قدم ملوك حضرموت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وفيهم الاشعث بن قيس، فقالوا إنا قد خبأنا لك خبأ فما هو؟ قال: (سبحان الله إنما يفعل هذا الكاهن والكهانة في النار)، فقالوا: فكيف نعلم أنك رسول الله عز وجل فأخذ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كفا من حصى، فقال: (هذا يشهد أني رسول الله)، فسبح الحصى في يده، فقالوا: نشهد أنك رسول الله عز وجل([66]).
وعن ابن مسعود قال: كنا نأكل مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فنسمع تسبيح الطعام، وهو يؤكل([67]).
وعن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أتي بطعام ثريد، فقال: (إن هذا الطعام يسبح)، قالوا: يا رسول الله، وتفقه تسبيحه، قال: (نعم)، ثم قال لرجل: (ادن هذه القصعة من هذا الرجل)، فأدناها منه فقال: نعم، يا رسول الله، هذا الطعام يسبح فقال: (ادنها من آخر) وأدناها منه فقال: هذا الطعام يسبح ثم قال: (ردها) فقال رجل: يا رسول الله، لو أمرت على القوم جميعا، فقال: (لا إنها لو سكتت عند رجل لقالوا: من ذنب ردها)، فردها([68]).
وكانت هذه الكائنا بأنواعها المختلفة تهدي لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أصناف التحيات باللغات التي تعرفها:
فعن علي قال: كنت مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بمكة فخرجنا في بعض نواحيها، فما استقبله جبل ولا شجر إلا قال: السلام عليك، يا رسول الله([69]).
وعن برة بنت أبي تجراة قالت: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين أراد الله كرامته وابتدأه بالنبوة كان إذا خرج لحاجته أبعد حتى لا يرى بيتا ويفضي إلى الشعاب وبطون الأودية، فلا يمر بحجر ولا شجر إلا قال: السلام عليك يا رسول الله، وكان يلتفت عن يمينه وشماله وخلفه فلا يرى أحدا([70]).
ومن ذلك تحية السجود التي مارسها هذا الجمل العارف بفضل محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فعن جابر بن عبد الله أن جملا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فلما كان قريبا منه خر الجمل ساجدا فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (يا أيها الناس، من صاحب هذا الجمل؟)، فقال فتية من الأنصار: هو لنا يا رسول الله، قال: (فما شأنه؟)، قالو: سنونا عليه عشرين سنة، فلما كبرت سنه، أردنا نحره، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (تبيعونه؟)، فقالوا: هو لك يا رسول الله فقال: (أحسنوا إليه حتى يأتيه أجله)، فقالوا: يا رسول الله، نحن أحق أن نسجد لك من البهائم، فقال: (لا ينبغي لبشر أن يسجد لبشر ولو كان النساء لأزواجهن)([71])
***
ما وصل عبد القادر من حديثه إلى هذا الموضع حتى التفت إلى بولس، فوجدت عينيه تكادان تغرقان في دموع يحاول حبسها، ولكنه لم يستطع، فأخرج منديلا، وتظاهر بأن بعينيه شيئا يريد إزالته.
ولما لم يجد معه ذلك شيئا، وغلبته عيناه، وقف منصرفا.
ولم أجد إلا أن أنصرف معه، ومعي بصيص جديد من
النور اهتديت به بعد إلى شمس محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
([1]) ومثل ذلك قوله تعالى مخبرًا عنهم:﴿ وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ﴾(الأنبياء: 36)، وقال تعالى:﴿ وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولا ﴾(الفرقان: 41)
([2]) انظر:إظهار الحق لرحمة الله الهندي.
([3]) ذكر رحمة الله الهندي أن هذا الكتاب طبع سنة 1669 في الرومية الكبرى في بسلوقيت وأنه حصل له بطريق العارية نسخة قديمة من هذا الكتاب من كتبخانة إنكليز في بلدة دهلي.
([4]) بالإضافة إلى هذا، فقد ذكر رحمة الله الهندي أن بعض الفرق المسيحية تعتقد أن عيسى u بعد ما مات دخل جهنم ونجى أرواح قابيل وأهل سدوم لأنهم حضروا عنده وكانوا غير مطيعين لإله خالق الشر وأبقى أرواح هابيل ونوح وإبراهيم والصلحاء الآخرين من القدماء في جهنم لأنهم خالفوا الفرقة الأولى.
وهذه الفرقة كانت تعتقد أن خالق العالم ليس منحصراً في الإله الذي أرسل عيسى ولذلك ما كانت تسلم كون كتب العهد العتيق إلهامية.
([5]) هناك تفاصيل كثيرة مرتبطة بالرد على هذه المسألة الجوهرية في العقيدة المسيحية في رسالة (الإنسان) من هذه السلسلة.
([6]) بناء على ما في الكتاب المقدس أما القرآن الكريم، فهو يبرئ هارون u من ذلك الإثم، انظر (الكلمات المقدسة) من هذه السلسلة.
([7]) انظر التأثيرات الوثنية في المسيحية في رسالة (الباحثون عن الله) من هذه السلسلة.
([8]) في الحديث ـ كما نرى ـ شفاعتان: شفاعة عامة وهي في أهل الموقفـ وشفاعة خاصة، في أمته.
([9]) رواه البخاري ومسلم وغيرهما.
([10]) قال ابن جرير في تفسير الآية: قال أكثر أهل التأويل: ذلك هو المقام الذي يقومه r يوم القيامة للشفاعة للناس، ليريحهم ربهم من عظيم ما هم فيه من شدة ذلك اليوم.
([11]) رواه البخاري ومسلم.
([12]) رواه أحمد وابن سعد والطبراني في الكبير.
([13]) رواه البخاري ومسلم.
([14]) انظر الأدلة الكثيرة لهذا الرأي في رسالة (أسرار الأقدار) من هذه السلسلة.
([15]) رواه البخاري.
([16]) راوي الحديث.
([17]) رواه أحمد، قال الهيثمي في المجمع (1/173):رجاله رجال الصحيح إلا أن فيه جابر الجعفي وهو ضعيف.
([18]) رواه البزار وأحمد وأبو يعلى.
([19]) رواه البخاري ومسلم، وأبو داود والنسائي وابن ماجة.
([20]) رواه ابن أبي شيبة.
([21]) رواه أحمد.
([22]) رواه أحمد وابن حبان، وفي رواية أخرى رواها أحمد والنسائي عن أبي طلحة الأنصاري قال: أصبح رسول الله r يومًا طيب النفس يرى في وجهه البشر، قالوا: يا رسول الله أصبحت اليوم طيب النفس يرى في وجهك البشر، قال:« أجل، أتاني آت من ربي عز وجل فقال: من صلى عليك من أمتك صلاة كتب الله له بها عشر حسنات، ومحا عنه عشر سيئات، ورفع له عشر درجات، ورد عليه مثلها»
([23]) رواه أحمد والحاكم..
([24]) رواه أحمد وابن أبي شيبة وابن ماجه.
([25]) رواه الترمذي وابن حبان.
([26]) رواه مسلم وأبو داود والترمذي.
([27]) رواه البخاري.
([28]) رواه النسائي والطبراني والبزار.
([29]) رواه أحمد والترمذي والحاكم.
([30]) رواه أحمد.
([31]) رواه الطبراني موقوفا ورفعه بعضهم.
([32]) رواه أبو داود والترمذي أحمد والنسائي والحاكم، وفي رواية: فليبدأ بتحميد ربه عز وجل.
([33]) رواه الترمذي.
([34]) القصة التي اخترنا سردها هنا مجموعة من أحاديث مختلفة، جمعها علامة السيرة الجليل شمس الدين أبو عبد الله محمد بن يوسف الصالحي الشامي، في كتابه القيم ( سبل الهدى والرشاد في سير خير العباد)
وقد ذكر في مقدمة جمعه لها ما قد يعترض عليه، وهو مهم جدا لمن قد يعترض على هذا السرد، فقال:اعلم رحمني الله وإياك أن في حديث كل من الصحابة السابق ذكرهم في الباب السابع ما ليس في الآخر، فاستخرت الله تعالى وأدخلت حديث بعضهم في بعض ورتبت القصة على نسق واحد، لتكون أحلى في الآذان الواعيات، وليعم النفع بها في جميع الحالات.
وقد نقل عن ابن كثير في تاريخه، سر اختلاف الرواة، فقال:« وكان بعض الرواة يحذف بعض الخبر للعلم به، أو ينساه، أو يذكر ما هو الأهم عنده، أو ينشط تارة فيسوقه كله، وتارة يحدث مخاطبه بما هو الأنفع له.. ومن جعل كل رواية خالفت الأخرى مرة على حدة، فأثبت إسراءات متعددة فقد أبعد وأغرب وهرب إلى غير مهرب ولم يحصل على مطلب.. وذلك أن كل السياقات فيها تعريفه بالأنبياء، وفي كلها تفرض عليه الصلوات، فكيف يدعى تعدد ذلك؟ هذا في غاية البعد.. ولم ينقل ذلك عن أحد من السلف ولو تعدد هذا التعدد لأخبر النبي r به أمته ولنقله الناس على التكرار ».
ومثل ذلك قال ابن حجر في الفتح نحوه وزاد:« ويلزم أيضا وقوع التعدد في سؤاله r عن كل نبي وسؤال أهل كل باب: هل بعث إليه؟ وفرض الصلوات الخمس وغير ذلك، فإن تعدد مثل ذلك في القصة لا يتجه، فيتعين رد بعض الروايات المختلفة إلى بعض أو الترجيح إلا أنه لا يعد وقوع مثل ذلك في المنام توطئة ثم وقوعه يقظة » انظر: سيبل الهدى:3/79، فما بعدها.
([35]) وفي رواية مسلم: فربطه بالحلقة التي تربط بها الأنبياء.
([36]) وفي رواية: ثم أقيمت الصلاة، فتدافعوا حتى قدموا محمدا، وعند الواسطي عن كعب: فأذن جبريل ونزلت الملائكة من السماء وحشر الله له المرسلين، فصلى النبي r بالملائكة والمرسلين، فلما انصرف، قال جبريل: يا محمد، أتدري من صلى خلفك؟ قال: لا، قال: كل نبي بعثه الله تعالى.
وفي حديث أبي هريرة عند الحاكم وصححه البيهقي: فلقي أرواح الأنبياء، فأثنوا على ربهم.
فقال إبراهيم:« الحمد لله الذي اتخذني خليلا وأعطاني ملكا عظيما وجعلني أمة قانتا يؤتم بي، وأنقذني من النار، وجعلها علي بردا وسلاما، ثم إن موسى أثنى على ربه تبارك وتعالى فقال:« الحمد لله الذي كلمني تكليما وجعل هلاك فرعون ونجاة بني اسرائيل على يدي، وجعل من أمتي قوما يهدون بالحق وبه يعدلون »
ثم إن داود أثنى على ربه فقال:« الحمد لله الذي جعل لي ملكا عظيما، وعلمني الزبور، وألان لي الحديد، وسخر لي الجبال يسبحن والطير، وأعطاني الحكمة وفصل الخطاب »
ثم إن سليمان أثنى على ربه فقال:« الحمد لله الذي سخر لي الرياح وسخر لي الشياطين والإنس يعملون لي ما شئت من محاريب وتماثيل وجفان كالجوابي وقدور راسيات، وعلمني منطق الطير وأتاني من كل شئ فضلا، وسخر لي جنود الشياطين والإنس والجن والطير، وفضلني على كثير من عباده المؤمنين، وأتاني ملكا عظيما لا ينبغي لأحد من بعدي وجعل ملكي مكلا طيبا ليس فيه حساب ولا عقاب »
ثم إن عيسى بن مريم أثنى على ربه تبارك وتعال فقال:« الحمد لله الذي جعلني كلمته وجعل مثلي مثل آدم خلقه من تراب، ثم قال له: كن فيكون، وعلمني الكتاب والحكمة، والتوراة والإنجيل، وجعلني أبرئ الأكمه والأبرص وأحيي الموتى بإذن الله، ورفعني وطهرني. وأعاذني وأمي من الشيطان الرجيم، فلم يكن للشيطان علينا سبيل »
فقال النبي r:« كلكم أثنى على ربه وإني مثن على ربي »، فقال:« الحمد لله الذي أرسلني رحمة للعالمين وكافة للناس بشيرا ونذيرا، وأنزل علي الفرقان فيه تبيان كل شئ، وجعل أمتي خير أمة أخرجت للناس، وجعل أمتي وسطا، وجعل أمتي هم الأولون والآخرون، وشرح لي صدري ووضع عني وزري ورفع لي ذكري وجعلني فاتحا وخاتما»
فقال إبراهيم صلى الله عليه وسلم:« بهذا فضلكم محمد r »
ثم تذاكروا أمر الساعة، فردوا أمرهم إلى إبراهيم فقال:« لا علم لي بها »
فردوا أمرهم إلى موسى فقال:« لا علم لي بها »
فردوا أمرهم إلى عيسى فقال:« أما وجبتها فلا يعلمها إلا الله، وفيما عهد إلي ربي أن الدجال خارج، ومعي قضيبان، فإذا رآني ذاب كما يذوب الرصاص، فيهلكم الله ثم يرجع الناس إلى بلادهم وأوطانهم فعند ذلك يخرج يأجوج ومأجوج، وهم من كل حدب ينسلون فيطأون بلادهم لا يأتون على شئ إلا أهلكوه، ولا يمرون على ماء إلا شربوه، ثم يرجع الناس فيشكونهم إلي، فأدعو الله تعالى عليهم، فيهلكهم ويميتهم حتى تحوي الأرض من ريحهم، فينزل الله تعالى المطر، فيجرف أجسادهم حتى يقذفهم في البحر ففيما عهد إلي ربي أن ذلك إذا كان كذلك فإن الساعة كالحامل المتم لا يدري أهلها متى تفجأهم بولادتها ليلا أو نهارا »
([37]) وفي رواية: وإذا هو بأقوام على مائدة عليها لحم مشوي كأحسن ما روي من اللحم، وإذا حوله جيف، فجعلوا يقبلون على الجيف يأكلون منها ويدعون اللحم.
فقال، من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الزناة يحلون ما حرم الله عليهم ويتركون ما أحل الله لهم.
([38]) وفي رواية أحسن ما خلق الله، قد فضل الناس بالحسن كالقمر ليلة البدر على سائر الكواكب.
([39]) وفي رواية:« أقرئ على أمتك مني السلام، وأخبرهم أن الجنة طيبة التربة عذبة الماء وأن غراسها؟ سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر »
([40]) وفي حديث عند الطبراني بسند صحيح:« مررت ليلة أسري بي على الملأ الأعلى فإذا جبريل كالحلس البالي من خشية الله »، وفي رواية عند البزار:« كأنه حلس لاطئ »، والحلس هو الكساء الذي بلي ظهر البعير تحت القتب، شبهها به للزومها ودوامها.
([41]) وفي رواية: فإذا في أصلها عين تجري يقال لها السلسبيل، ينشق منها نهران: أحدهما الكوثر، يطرد عجاحا مثل السهم، عليه خيام اللؤلؤ والياقوت والزبرجد، وعليه طيور خضر أنعم طير، رأى فيه آنية الذهب والفضة، تجري على رضراض من الياقوت والزمرد، ماؤه أشد بياضا من اللبن، فأخذ من آنية، فاغترف من ذلك الماء، فشرب فإذا هو أحلى من العسل، وأشد ريحا من المسك، فقاله جبريل: هذا هو النهر الذي حباك به ربك، والنهر الاخر نهر الرحمة فاغتسل فيه، فغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر.
وفي حديث عبد الله بن مسعود : أنه r رأى جبريل عند السدرة له ستمائة جناح، جناح منها قد سد الافق، تتناثر من أجنحته التهاويل: الدر والياقوت مما لا يعلمه إلا الله تعالى.
([42]) أسمع صريف الاقلام: أي صوت جريانها بما تكتبه من أقضية الله تعالى ووحيه، وما ينسخونه من اللوح المحفوظ..
([43]) نقل رحمة الله الهندي عن جواد بن ساباط في البرهان السادس عشر من المقالة الثانية من كتابه أن القسيس كياروس سألني في حضور المترجمين: ماذا يعتقد المسلمون في معراج محمد r؟ قلت: إنهم يعتقدون أنه من مكة إلى أورشليم ومنه إلى السماء، قال: لا يمكن صعود الجسم إلى السماء. قلت: سألت بعض المسلمين عنه فأجاب أنه يمكن كما أمكن لجسم عيسى عليه السلام.
قال القسيس: لِمَ لَمْ تستدل بامتناع الخرق والالتئام على الأفلاك؟ قلت: استدللت به لكنه أجاب أنهما ممكنان لمحمد r كما كانا ممكنين لعيسى عليه السلام.
قال القسيس: لِمَ لَمْ تقل أن عيسى إله له أن يتصرف ما يشاء في مخلوقاته؟ قلت: قد قلت ذلك لكنه قال أن ألوهية عيسى باطلة لأنه يستحيل أن يطرأ على اللّه علامات العجز كالمضروبية والمصلوبية والموت والدفن.
ونقل أن قسيساً في بلد بنارس من بلاد الهند كان يقول في بعض المجامع تغليطاً لجهال المسلمين البدويين: كيف تعتقدون المعراج وهو أمر مستبعد، فأجابه مجوسي من مجوس الهند أن المعراج ليس بأشد استبعاداً من كون العذراء حاملة من غير زوج، فلو كان مطلق الأمر المستبعد كاذباً، فهذا أيضاً يكون كاذباً فكيف تعتقدونه فبهت القسيس.
([44]) انظر: معجزة الإسـراء والمعراج من منظـور علـمي، أ.د/ كارم السيد غنيم، أستاذ بكلية العلوم جامعة الأزهر، أمين جمعية الإعجاز العلمي للقرآن والسنة.
([45]) خصصنا لهذا النوع من الاستدلال رسالة خاصة هي (قلوب مع محمد صلى الله عليه وآله وسلم) من هذه السلسلة.
([46]) رواه البخاري.
([47]) رواه البخاري ومسلم.
([48]) رواه الطبراني، وابن مردويه.
([49]) رواه الاصبهاني في الترغيب.
([50]) رواه ابن إسحاق والبيهقي.
([51]) رواه البيهقي.
([52]) (المائة الأوائل) مايكل هارت (33)..
([53]) (الديوان الشرقي للشاعر الغربي) غوته ص(31)
([54]) (السفر إلى الشرق) ص(277).
([55]) عن (موسوعة مقدمات المناهج والعلوم) أنور الجندي ( 8 / 211 )
([56]) عن (الإسلام نهر يبحث عن مجرى) الدكتور شوقي أبو خليل (15).
([57]) رواه البخاري ومسلم.
([58]) روى القصة جمع من الصحابة، منهم أبي بن كعب رواه الشافعي وأحمد وابن ماجه والبغوي وابن عساكر،ومنهم أنس بن مالك رواه أحمد والترمذي وصححه وأبو يعلى والبزار وابن ماجه وأبو نعيم من طرق على شرط مسلم، ومنهم بريدة، رواه الدارمي، وجابر بن عبد الله، رواه أحمد والبخاري والترمذي، والمطلب بن أبي وداعة، رواه الزبير بن بكار، وأبو سعيد الخدري، رواه عبد بن حميد وابن أبي شيبة، وأبو يعلى وأبو نعيم بسند على شرط مسلم، وعائشة رواه الطبراني والبيهقي، وأم سلمة رواه أبو نعيم والبيهقي بإسناد جيد.
كلها روي بألفاظ متقاربة المعنى وهو بذلك حديث متواتر المعنى.
([59]) وفي لفظ: فخار كخوار الثور، وفي لفظ: فصاحت النخلة صياح الصبي حتى تصدع وانشق.
([60]) رواه أبو داود والنسائي.
([61]) رواه مسلم.
([62]) رواه أحمد والترمذي والحاكم وصححاه عن أبي سعيد والبيهقي عن ابن عمر، وأبو نعيم عن أنس وابن مسعود، وأحمد عن أبي هريرة.
([63]) وفي لفظ: يدعو الناس إلى الهدى، وإلى دين الحق وهم يكذبونه.
([64]) رواه الطبراني والبيهقي وأبو نعيم عن أنس بن مالك عن زيد بن أرقم والبيهقي من طريق علي بن قادم وأبو العلاء خالد بن طهمان بن عطية عن أبي سعيد الخدري، والطبراني وأبو نعيم عن أم سلمة، وأبو نعيم عن أنس بن مالك وهو غريب، ورجاله خرج لهم في الكتب الستة.
قال القطب الحضرمي في خصائصه: هذا الحديث ضعفه بعض الحفاظ لكن طرقه يتقوى بعضها ببعض، وقال الشيخ: لهذا الحديث طرق كثيرة تشهد أن للقصة أصلا.
([65]) وفي رواية أنس: كنا مع رسول الله r في بعض سكك المدينة فمررن ا بخبأ أعرابي وإذا بظبية مشدودة إلى الخباء، فقالت: يا رسول الله، إن هذا الاعرابي اصطادني.
([66]) رواه أبو نعيم والحكيم الترمذي.
([67]) رواه البخاري ومسلم.
([68]) رواه أبو الشيخ.
([69]) رواه الترمذي، وحسنه.
([70]) رواه ابن سعد.
([71]) رواه أحمد والبيهقي واللفظ له، ورجاله ثقات.