سادسا ـ سلام

في اليوم السادس من تلك الأيام العشرة المباركة التقيت المستشرق الذي قطفت على يده ثمرة السلام من شجرة النبوة..
وهي الثمرة التي عرفت بها سر قوله تعالى:{ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} (البقرة:30)
وسر قوله تعالى:{ لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} (المائدة:28)
وسر قوله تعالى:{ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} (الحج:40).. وقوله تعالى:{ وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} (فصلت:34)
وعرفت بها سر قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (: (لا يزال العبد في فسحة من دينه ما لم يصب دما حراما)([1])
وسر قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (يأتي القاتل متعلقا رأسه بأحدى يديه متلببا قاتله بيده الاخرى تشخب أوداجه دما حتى يأتي به تحت العرش فيقول المقتول لله: رب هذا قتلني! فيقول الله للقاتل: تعست! ويذهب به إلى النار)([2])
فهذه النصوص المقدسة تخبر عن عظم قدسية الروح الإنسانية.. وعظم جرم القتل.. وأنه لا يباح إلا للضرورات الشديدة، وبالحدود التي تحفظ المصالح.
***
كان من ضمن الأسماء الموجودة بالدفتر الذي سلمني إياه المرشد اسم (مكسيم رودنسون)([3]).. وقد تعجبت كثيرا من وضعه في القائمة مع كونه مفكرا ماركسيا، وهو في ذات الوقت يرجع إلى أصل يهودي.. وهو بذلك قد اجتمعت فيه جميع أسباب العداوة للإسلام من ماركسية تعادي الأديان، ومن يهودية تعادي الإنسان.
لكني عندما رأيته، وسمعت حديثه زال عجبي من ذلك، وعرفت أن ماركسيته نوع من الهروب من يهوديته..
في ذلك اليوم سرت إلى الجبل الذي كان يجثم بجلال في ضاحية باريس.. وكان بهذا الجبل غابة زيتون كأنها ولدت مع ميلاد الإنسان.
وقد احترت إذ رأيت جزءا مهما من تلك الغابة قد طوق بأسوار من حديد مكهرب ليمنع أي داخل، ورأيت خارج تلك الغابة شابا يافعا ممتلئا شبابا جالسا ينظر إلى تلك الأشجار المقيدة بقيود الحديد والكهرباء..
اقتربت منه، وسألته عن سر حزنه، وسر أشجار الزيتون المطوقة بتلك الأغلال القاسية.
قال لي: هذه الأشجار لي.. ورثتها عن سلسلة طويلة من الجدود.. ولم يشك أحد في يوم من الأيام أنها لي.. ولم يخطر على بال أحد في يوم من الأيام أن تنزع مني.
قلت: فمن الذي نزعها منك؟.. وما الذي جعله ينزعها منك؟
قال: رجل يهودي قاسي القلب محجر الفؤاد.. له مال عريض.. وجاه مكين، اشترى به ذمم القضاة والمحاكم والشرطة والجيش.. ولم يترك أحدا إلا رشاه.. وزور لأجل ذلك كتبا سماها كتبا مقدسة تعده بأرضي وبزيتوني.
قلت: فمن الذي أغراه بأرضك دون الأراضي!؟
قال: قوم من الحاقدين.
قلت: عليك أم عليه!؟
قال: علي وعليه..
قلت: كيف يستقيم هذا؟
قال: لقد كره الحاقدون مقامه بينهم، فأرادوا نفيه عنهم، فلم يجدوا غير أرضي..
قلت: ولم اختاروك أنت؟
قال: لعلمهم بإبائي ورسوخي في أرضي، وتضحيتي بكل شيء في سبيلها.
قلت: فهل ستقاومه؟
قال: جبان أنا إن لم أقاومه.. مقاومته واجب إنساني، وخلق رفيع.
قلت: ولكنك تملك الزيتون الذي هو رمز السلام.
قال: ولكني لو تركت له زيتوني فسيحرقه ويدمره.. ويؤسس في أرض الزيتون مصانع سلاح يدمر بها العالم.
قلت: ولكنك ـ إن قاومته ـ سيرمونك بالإرهاب.
قال: قد فعلوا ذلك.. ويوشك أن يرموني في سجونهم.. ولكني مع ذلك لم أيأس، ولن أيأس.. فسيخلفني من يقوم في وجوههم، ومن ينتزع منهم أرضي، ويحمي زيتوني.
في ذلك الموقف.. التقيت (مكسيم رودنسون)
جاء، ومعه محفظته التي يحمل فيها كتبه، ومعها قفة يحمل فيها طعاما إلى ذلك الشاب، وما إن رآه الشاب حتى راح يصافحه بحرارة.
سألت الشاب أن يعرفني بهذا الرجل الطيب، فقال لي: هذا (مكسيم رودنسون)..هو ابن عم لذلك المغتصب الظالم.. ولكنه يبغضه أشد البغض، ويحاربه أعنف حرب.
ملأ السرور قلبي في تلك اللحظة، فقد كنت محتارا في الطريقة التي أدخل بها عالم هذا الرجل.
ابتدأته بقولي: أنت الأستاذ (مكسيم رودنسون) المستشرق والمفكر..
قاطعني، وقال: والباحث عن السلام.. البحث عن السلام هو وظيفتي الكبرى التي لا تراها العيون.
قلت: ما تقصد؟
قال: إن حياتي كلها بحث عن السلام.. لقد ولدت في بيئة تمتلئ حربا وبغضا وأحقادا.. ولذلك تراني أفر من موضع إلى موضع.. ومن بلد إلى بلد.. ومن مذهب إلى مذهب.. لا لشيء إلا لأجل البحث عن السلام.
قلت: فلم تبحث عن السلام؟
قال: لأنه لا حياة بلا سلام.. السلام هو الوسط الصحيح الذي تنمو فيه شجرة الإنسانية.. فلا يمكن لشجرة الإنسانية أن تؤتي ثمارا طيبة، وهي مختنقة بنيران الحرب.
انظر إلى هذا الزيتون المسكين المحاصر.. ألا ترى إلى دموعه، وهي تنحدر كما تنحدر السيول!؟
إن هذا الزيتون الذي يمثل السلام يريد الحاقدون خنقه ليؤسسوا على أنقاضه شجرة الدمار التي لا تثمر غير سفك الدماء.
قلت: فهل وجدت السلام؟
قال: وجدته..
قلت: كيف وجدته؟
قال: وجدته محاصرا كما يحاصر هذا الزيتون.
قلت: أين وجدته؟.. ومن غرس شجرته؟
قال: وجدته في الإسلام.. وقد غرس شجرته محمد.
تعجبت كثيرا من قوله هذا، فقلت: لقد علمت أنك شيوعي يهودي.. فكيف تقول هذا؟
قال: أقول الحقيقة التي يمتلئ بها قلبي، ولكن لساني يعجز عن التعبير عنها.
قلت: ولكني أرى الناس جميعا مجمعون على أن الإسلام دين الإرهاب، وأن المسلمين هم ممثلو الإرهاب في العالم.
قال: ألم تر إلى هذا الشاب المسكين الممتلئ حزنا؟
قلت: بلى.. لقد كنت أتحدث معه الساعة.
قال: إنهم يسمونه (إرهابيا)
قلت: لقد أخبرني بذلك.
قال: لو أن هذه الشاب المسكين لم يطوق حقله، ولم يخرج من أرضه، أتراه يحمل السلاح على عدوه؟
قلت: لا أراه يفعل ذلك.. فبراءة السلام بين عينيه.
قال: وهكذا المسلمون المساكين.. احتلوا أرضهم.. وقتلوا أطفالهم.. ونهبوا خيراتهم.. ومنعوهم من كل شيء حتى من الكلام.. فإذا قام أحدهم ورمى حجرا ليعبر عن إبائه سموه إرهابيا..
قلت: لقد ذكرت لي أنك لم تجد السلام إلا في الإسلام، وعند محمد.
قال: ذلك بحث طويل.. لقد فتشت الأديان والمذاهب والفلسفات والأفكار أبحث عن السلام الشامل.. فلم أجده إلا في دين محمد.
قلت: فهل تحدثني بخلاصة أبحاثك؟
قال: أجل.. يسرني ذلك كل السرور.. فأنا لا هم لي إلا التبشير بهذا.
قلت: بم نبدأ حديثنا عن السلام؟
قال: بالجاهلية.
قلت: بجاهلية العرب!؟
قال: بجاهلية العالم.. فلا يعرف فضل الجمال إلا بمقارنته بالدمامة.. ولا يعرف فضل السلام إلا بمقارنته بالصراع.. ولا يعرف فضل الإسلام إلا بمقارنته بالجاهلية.. كما لا تعرف الثمرة الطيبة إلا بمقارنتها بالثمرة الخبيثة.
قلت: فبأي ثمرة خبيثة نبدأ؟
قال: باليهودية.
قلت: هي دينك الذي ينتمي إليه أبوك وجدك.
قال: من أراد أن يبحث عن الحقيقة فعليه أن يقطع جذوره، ويطلق أباه وجده.
قلت: إن اليهود شعب مضطهد، وقد عانى في حياته الأمرين.. فكيف تعتبره عدوا للسلام؟
قال: إن عداوته للسلام تنطلق من دينه ومعتقداته.. فهو يمارس الإرهاب عبادة لا عادة..
قلت: ما تقول؟
قال: ألا تعرف سفر حزقيال؟
قلت: هو سفر من أسفار كتابنا المقدس في عهده القديم.
قال: نعم.. وهو قاسم مشترك بينكم وبيننا.. ولذلك، فإن لكم شبها عظيما بنا.. أتدري بماذا يوصينا الرب في هذا السفر الغالي الذي اشتركنا في وراثته؟
قلت: بم؟
أخرج الكتاب المقدس من محفظته، وفتحها على هذا السفر، وقال: الرب ـ في هذا السفر المقدس ـ يأمر بقتل النساء والاطفال والشيوخ والبهائم، فيقول: (اعبروا في المدينة خلفه واقتلوا. لا تترأف عيونكم ولا تعفوا. أهلكوا الشيخ والشاب والعذراء والطفل والنساء. ولكن لا تقربوا من أي إنسان عليه السمة، وابتدئوا من قدسي). فابتدأوا يهلكون الرجال والشيوخ الموجودين أمام الهيكل. وقال لهم: (نجسوا الهيكل واملأوا ساحاته بالقتلى، ثم اخرجوا). فاندفعوا إلى المدينة وشرعوا يقتلون) (حزقيال9: 5-7)
التفت إلي، وقال: هل سمعت.. إن الكتاب المقدس هو الكتاب الوحيد في الدنيا.. الذي يأمر بقتل الأطفال؟
ليس هذا فقط.. اسمع ما يقول سفر العدد (31: 1-18): (وقال الرب لموسى: انتقم من المديانيين لبني إسرائيل، وبعدها تموت وتنضم إلى قومك. فقال موسى للشعب: (جهزوا منكم رجالا مجندين لمحاربة المديانيين والانتقام للرب منهم…. فحاربوا المديانيين كما أمر الرب وقتلوا كل ذكر؛ وقتلوا معهم ملوكهم الخمسة: أوي وراقم وصور وحور ورابع، كما قتلوا بلعام بن بعور بحد السيف. وأسر بنو إسرائيل نساء المديانيين وأطفالهم، وغنموا جميع بهائمهم ومواشيهم وسائر أملاكهم، وأحرقوا مدنهم كلها بمساكنها وحصونها، واستولوا على كل الغنائم والأسلاب من الناس والحيوان،…. فخرج موسى وألعازار وكل قادة إسرائيل لاستقبالهم إلى خارج المخيم، فأبدى موسى سخطه على قادة الجيش من رؤساء الألوف ورؤساء المئات القادمين من الحرب، وقال لهم: لماذا استحييتم النساء؟ إنهن باتباعهن نصيحة بلعام أغوين بني إسرائيل لعبادة فغور، وكن سبب خيانة للرب، فتفشى الوبأ في جماعة الرب. فالآن اقتلوا كل ذكر من الأطفال، واقتلوا أيضا كل امرأة ضاجعت رجلا، ولكن استحيوا لكم كل عذراء لم تضاجع رجلا)
ليس هذا فقط.. لقد جاء في سفر يشوع (6: 16): (قال يشوع للشعب: اهتفوا، لأن الرب قد وهبكم المدينة. واجعلوا المدينة وكل ما فيها محرما للرب.. أما كل غنائم الفضة والذهب وآنية النحاس والحديد، فتخصص للرب وتحفظ فى خزانته. فهتف الشعب، ونفخ الكهنة في الأبواق. وكان هتاف الشعب لدى سماعهم صوت نفخ الأبواق عظيما، فانهار السور في موضعه. فاندفع الشعب نحو المدينة كل إلى وجهته، واستولوا عليها. ودمروا المدينة وقضوا بحد السيف على كل من فيها من رجال ونساء وأطفال وشيوخ حتى البقر والغنم والحمير)
ليس هذا فقط.. لقد جاء في سفر هوشع (13: 16) يقول الرب: (تجازى السامرة لأنها تمردت على إلهها. بالسيف يسقطون. تحطم أطفالهم، والحوامل تشق)
وفي سفر إشعيا (13: 16) يقول الرب: (وتحطم أطفالهم أمام عيونهم وتنهب بيوتهم وتفضح نساؤهم)
التفت إلي، وقال: اسمع هذه التشريعات الإرهابية القاسية التي يأمبر بها الكتاب المقدس.. لقد جاء في سفر التثنية (20: 10-15) قول الرب: (حين تقرب من مدينة لكي تحاربها استدعها الى الصلح، فإن أجابتك الى الصلح وفتحت لك فكل الشعب الموجود فيها يكون لك للتسخير ويستعبد لك. وان لم تسالمك بل عملت معك حربا فحاصرها. واذا دفعها الرب الهك الى يدك فاضرب جميع ذكورها بحد السيف. واما النساء والاطفال والبهائم وكل ما في المدينة كل غنيمتها فتغتنمها لنفسك وتأكل غنيمة اعدائك التي اعطاك الرب الهك. هكذا تفعل بجميع المدن البعيدة منك جدا التي ليست من مدن هؤلاء الامم هنا)
ليس هذا فقط.. اسمع إلى تشريعات الإبادة التي يأمر بها إله الكتاب المقدس..
لقد جاء في سفر التثنية (20: 16): (أما مدن الشعوب التي يهبها الرب إلهكم لكم ميراثا فلا تستبقوا فيها نسمة حية، بل دمروها عن بكرة أبيها، كمدن الحثيين والأموريين والكنعانيين والفرزيين والحويين واليبوسيين كما أمركم الرب إلهكم)
التفت إلي، وقال: لا أظن هتلر قام بفعلته الشنيعة ـ إن كان فعلها ـ إلا بعد قراءة هذا النص.. لقد خشي على قومه أن يضموا إلى هذه الأجناس التي أمر اليهود بإبادتهم، فراح يتغذى بهم قبل أن يتعشوا بقومه([4]).
ليس هذا فقط.. فأوامر الرب بالقيام بالمذابح والمجازر في الكتاب المقدس لا تنتهي.. لقد جاء في سفر صموئيل الأول (15: 3 -5): (وقال صموئيل لشاول: (أنا الذي أرسلني الرب لأنصبك ملكا على إسرائيل، فاسمع الآن كلام الرب. هذا ما يقوله رب الجنود: إني مزمع أن أعاقب عماليق جزاء ما ارتكبه في حق الإسرائيليين حين تصدى لهم في الطريق عند خروجهم من مصر. فاذهب الآن وهاجم عماليق واقض على كل ماله. لا تعف عن أحد منهم بل اقتلهم جميعا رجالا ونساء، وأطفالا ورضعا، بقرا وغنما، جمالا وحميرا)
ولهذا.. فإن من أهم أوصاف الرب أنه إله النقمات.. لقد جاء في مزمور(94: 1): (يا إله النقمات.. يا رب.. يا إله النقمات).. وفي (تثنية: 4:24): (لأن الرب الهك هو نار آكلة اله غيور).. وفي (أشعياء:66: 16): (لأن الرب بالنار يعاقب وبسيفه على كل بشر ويكثر قتلى الرب).. وفي (ارميا 48:10): (ملعون من يعمل عمل الرب برخاء وملعون من يمنع سيفه عن الدم).. لقد قال مثل هذا بولس في رسالته إلى العبرانيين (12: 29): (لأن إلهنا نارا آكلة)
قلت: إن كل ما ذكرته من نصوص أحفظه عن ظهر قلب..
قال: تصور معي عندما يلقن الطفل الصغير هذه النصوص.. وغيرها من النصوص الكثيرة التي تمتلئ بها الأسفار المقدسة..
ثم يلقن بعدها عقدة التفوق العنصري الموهوم لما يسمى بـ (الشعب المختار).. ويلقن معها شدة الاستهانة بدماء الآخرين من (الأمميين) أو (الأغيار) أو (الجوييم) أو (العامة) أو (الكوفريم) والتي تعني كلها الأصناف البشرية الأخرى غير اليهود.
فإذا وجد هذا الطفل تطلعا للبطولة حكيت له قصة شمشون.. وبطولات شمشون([5]).
فإذا بلغ هذا الطفل لم يجد أمامه إلا العصابات الإرهابية..
قلت: إن اليهود يشكون الإرهاب ويخافون منه.
قال: اللص لا يخاف إلا اللصوص.. ولو لم يكونوا لصوصا لما خافوا أحدا..
الإرهاب ليس حدثا عابرا عرضيا في أولئك القساة إنما هو أمر كامن في مشروعهم الصهيوني الاستيطاني الإحلالي، وفي الصيغة الصهيونية الأساسـية الشـاملة.
كما أن حـلقات وآليات هذا الإرهاب مترابطة متلاحقة، فالهجمات الإرهابية التي شنت ضد بعـض القرى العربية أدت إلى اسـتسلام بقية سكان الأراضي المحتلة، أي أن المذابح والاعتقالات والإبعادات إن هي إلا آلية من آليات الاستيطان الصهيوني الإحلالي، ولا يمكن تخيل إمكانية تحقق المشـروع الصهيـوني بدونها.
والإرهاب الصهيوني هو الآلية التي تم بها تفريغ جزء من فلسطين من سكانها وفرض المستوطنين الصهاينة ودولتهم الصهيونية على شعب فلسطين وأرضها.
وقد تم هذا من خلال الإرهاب المباشر، غير المنظم وغير المؤسسي، الذي تقوم به المنظمات الإرهابية غير الرسمية (المذابح ـ ميليشيات المستوطنين ـ التخريب ـ التمييز العنصري) والإرهاب المباشر، المنظم والمؤسسي، الذي تقوم به الدولة الصهيونية (التهجير ـ الهيكل القانوني للدولة الصهيونية ـ التفرقة العنصرية من خـلال القانون ـ الجـيش الإسـرائيلي ـ الشرطة الإسرائيلية ـ هدم القرى).
وكلا هذين النوعين من الإرهاب (الإرهاب المؤسسي وغير المؤسسي) مرتبطان تمام الارتباط، ويتم التنسيق بينهما ويجمع بينهما الهدف النهائي، وهو إفراغ فلسطين من سكانها أو إخضاعهم وحصارهم ([6]).
لعلك سمعت بواقعة دير ياسين (قبل عام 1948)
قلت: أجل.. ولكنها من فعل بعض الرعاع.. ولا يصح أن ننسبها لشعب كامل.
قال: لقد راح ضحية تلك المذبحة زهاء 260 فلسطينياً من اهالي القرية العزل.. وكانت هذه المذبحة، وغيرها من اعمال الارهاب والتنكيل، احدى الوسائل التي انتهجتها المنظمات الصهيونية المسلحة من اجل السيطرة على الاوضاع في فلسطين تمهيداً لاقامة الدولة الصهيونية.
لقد أرسل مناحم بيجين برقية تهنئة الى رعنان قائد الارجون المحلي قال فيها: (تهنئتي لكم لهذا الانتصار العظيم، وقل لجنودك انهم صنعوا التاريخ في اسرائيل)
وفي كتابه المعنون الثورة كتب بيجين يقول: (إن مذبحة دير ياسين اسهمت مع غيرها من المجازر الاخرى في تفريغ البلاد من 650 الف عربي)، واضاف قائلاً: (لولا دير ياسين لما قامت اسرائيل)
قلت: ألا يمكن أن يكون ما حصل من اليهود من إرهاب مجرد رد فعل لما حصل لهم من إذلال؟
قال: رد الفعل يكون لمن فعل الفعل لا لغيره.. هكذا يقول المنطق.. وهكذا تقول القيم النبيلة..
وفي هذه الحالة ينبغي لقومنا أن يوجهوا رد فعلهم للمسيحيين.. لأنه ـ على مدار التاريخ ـ لم يذل اليهود أحد كما أذلهم المسيحيون..
لقد ظل اليهود في نظر العالم المسيحي بأسره (أمة ملعونة) لمدة ألف وخمسمائة عام، لأنهم ـ في اعتقاد المسيحيين ـ قتلة السيد المسيح.
وقد عانى اليهود صنوفا من الاضطهاد والازدارء بناء على هذا التصور الذي ترسخ في العقل المسيحي وصمد على مر القرون، مدعوما بنصوص كثيرة من الإنجيل، وظروف اجتماعية وسياسية خاصة([7]).
أما حياتهم مع المسلمين، فقد كانت لا تختلف عن حياة المسلمين أنفسهم.. بل إن العصر الذهبي لليهود لم يعيشوه إلا في ظلال المسلمين..
فقد كان اليهود ـ الذين يعيشون في بلاد المسلمين ـ يشاركون في معظم مجالات الحياة وفي كل المهن والحرف تقريباً، وكانت ملكية الأراضي مفتوحة أمامهم، كما أنهم تملكوا العقارات في كل أنحاء البلاد وتناقلوها عن طريق الوراثة أو عمليات البيع والشراء فيما بينهم وبين المسلمين دون أية مضايقات ([8]).
وكان لهم مطلق الحرية في العمل التجاري بلا حدود، وكانت نقابات الحرفيين والمهنيين مفتوحة للجميع بغض النظر عن أي دين أو مذهب أو أصل.
قلت: أنت تنسى ما قدم قومنا لليهود؟
قال: لقد قدموا لهم المذابح الكثيرة التي لا تنتهي.. وآخرها هي إرسالهم إلى المسلمين.. لعلمهم أن المسلمين مع كونهم مسالمين إلا أنهم لا يسكتون عن ضيم ولا يخضعون عن ذلة.
قلت: عرفت ما فعل المجرمون من اليهود.. ولم أكن أحتاج لمعرفة تفاصيل ذلك، فما تبرزه لنا الأخبار الموضوعية كل يوم لا يزيدنا إلا يقينا بالأحقاد التي تمتلئ بها قلوبهم.. فحدثني عن قومي من المسيحيين.
قال: قومك من المسيحيين على امتداد تاريخهم لا يقلون دموية عن هؤلاء.
قلت: احذر من الحديث عن المسيحية بشيء من أحاديث العوام.. فالمسيحية لا يمثلها إلا رجال الدين.
قال: سأحدثك عما فعله أكبر رجال الدين في المسيحية.. سأحدثك عن البابوات المعصومين.. ألستم تعتبرون البابوات معصومين؟
سكت، فقال: إن كل الجرائم التي حدثت باسم الحروب الصليبية أول من يتحمل وزرها هم البابوات..
ففكرة الحروب ذات الطابع الديني الخالص ترجع لكرسي البابوية التي أضفت على الصراع الخالد بين المسلمين والمسيحيين صفة الصليبية المتعصبة.
وخلال هذا الصراع الطويل برز العديد من الباباوات الذين كان لهم دور بارز في تأجيج المشاعر العدائية ضد الإسلام والمسلمين تمثلت في حملات صليبية عالمية على الأمة الإسلامية.
فالبابا إسكندر الثاني (1061-1073) يعتبر أول من استخدم فكرة صكوك الغفران كورقة لتحميس الأوروبيين على حرب المسلمين، وذلك عندما دعاهم سنة 1063م لنجدة إخوانهم الإسبان في الأندلس من نير المسلمين، مع العلم أن المسلمين كانوا وقتها في أضعف حالاتهم تحت حكم ملوك الطوائف، وقد أسفرت هذه الدعوة عن واحدة من أشد المجازر البشرية روعة عندما شن نصارى أوروبا حربا صليبية بقيادة قائد فرسان البابوية على مدينة بربشتر في شرق الأندلس سنة 1064م راح ضحيتها أربعون ألف مسلم غير آلاف الأسارى من البنات والصبيان.
يليه البابا جريجوري السابع الذي يعتبر أكبر من تولى منصب البابوية في التاريخ الكنسي كله، وهو مؤسس فكرة الحملات الصليبية الشهيرة على العالم الإسلامي بالشام ومصر، وقد تولى البابوية خلفا لإسكندر الثاني سنة 1073م، وهو ألماني الأصل، وكانت ولايته للبابوية نقطة تحول فاصلة في حياة البابوية، إذ أصبح البابا من عهده هو سيد العالم النصراني وسيد أوروبا المطلق وصاحب السلطة الأكبر والأهم على نصارى العالم القديم، وقد أثبت ذلك في صراعه ضد الإمبراطور هنري الرابع الذي اضطر للتوجه إلي قلعة كانوسا حيث مقر إقامة البابا جريجوري السابع طلبًا لمغفرة البابا وصفحه بعد أن ثار عليه شعبه وقواده.. وإمعانًا في إظهار السيادة والقوة تركه جريجوري ثلاثة أيام حافيًا عاري الرأس على الجليد حتى يرضي عنه.
هذا البابا أول من أشعل الحملات الصليبية على الأمة الإسلامية، ولكن العمر لم يطل ليشهد انطلاق هذه الحملات حيث هلك سنة 1088م وترك ذلك لتلميذه النجيب أوربان الثاني الذي أخذ على عاتقه إدخال الحملات الصليبية موضع التنفيذ، وقد قام بجولة أوروبية واسعة لحشد الرأي العام واستثارة الهمم الصليبية من أجل ذلك، ثم دعا لمؤتمر مصيري في كليرمونت بفرنسا في 27 نوفمبر سنة 1095م، وفيه أطلق صيحته الشهيرة (إنها إرادة الرب)، وأمر كل مسيحي ومسيحية بالخروج لنجدة القبر المقدس من أيدي الكفرة (يعني المسلمين)، ثم أفاض في حديث مليء بالكذب والأباطيل عن الاضطهادات التي يتعرض لها المسيحيين والحجيج ببلاد المسلمين، فأدى ذلك لاشتعال روح حماسية عارمة بأوروبا نحو حرب المسلمين والخروج إلى بلادهم..
قاطعته قائلا: أعلم تلك المواقف وغيرها كثير.. لكنها جميعا لا تعدو مواقف رجال دين.. لا مواقف أهل دين.. فلا يمكن أن نحمل المسيحيين ذنب بابواتهم.
قال: صدقت.. ولكن العوام المساكين أصحاب القلوب الطيبة ملأهم رجال دينهم أحقادا.. لقد كان الجندى الإيطالى الذاهب لاحتلال ليبيا ينشد قائلا: (يا أماه صلاتك و لا تبكى بل اضحكى و تأملى ألا تعلمين أن إيطاليا تدعونى وأنا ذاهب إلى طرابلس فرحا مسرورا لأبذل دمى فى سبيل سحق الأمة الملعونة ولأحارب الأمة الإسلامية سأقاتل لمحو القرأن وإن لم أرجع فلا تبكى على ولدك وإن سألك أحد عن عدم حزنك على فأجيبيه إنه مات فى محاربة الإسلام)
لقد ذكر (فيدهام) أن الحروب قادها البابوات كانت مليئة بالفظائع، لأن رجال اللاهوت (الطيبين) كانوا مستعدين دائمًا أن يضعوا الزيت على النار، وأن يحيوا وحشية الجنود عندما يساورهم أي تردد أو ضعف، فقد يكون الجنود قساة، ولكنهم كانوا يميلون في بعض الأحيان إلى الرحمة، أما رجال اللاهوت فاعتبروا الاعتدال والرحمة نوعًا من الخيانة([9]).
قلت: ولكن لم لا ننظر إلى تلك الحروب على أنها حروب تحرير.
قال: نعم.. لقد كانت حروب تحرير.. ولكن بمعنى واحد لا غير.. هو تحرير الأرواح من الأجساد..
لقد روى ابن الاثير في تاريخه ([10]) عن دخول الصليبين القدس في الحروب الصليبية فقال: (ملك الفرنج القدس نهار يوم الجمعة لسبع بقين من شعبان، وركب الناس السيف، ولبث الفرنج في البلدة أسبوعا يقتلون فيه المسلمين، واحتمى جماعة من المسلمين بمحراب داود، فاعتصموا به، وقاتلوا فيه ثلاثة أيام، وقتل الفرنج بالمسجد الاقصى ما يزيد على سبعين ألفا، منهم جماعة كبيرة من أئمة المسلمين وعلمائهم وعبادهم وزهادهم ممن فارق الاوطان وجاور بذلك الموضع الشريف)
ووصف ستيفن رنسيمان في كتابه (تاريخ الحروب الصليبية)([11]) ما حدث في القدس يوم دخلها الصليبيون فقال: (وفي الصباح الباكر من اليوم التالي اقتحم باب المسجد ثلة من الصليبيين، فأجهزت على جميع اللاجئين إليه وحينما توجه قائد القوة ريموند اجيل في الضحى لزيارة ساحة المعبد اخذ يتلمس طريقه بين الجثث والدماء التي بلغت ركبتيه وتركت مذبحة بيت المقدس أثرا عميقا في جميع العالم، وليس معروفا بالضبط عدد ضحاياها غير أنها أدت الى خلو المدينة من سكانها المسلمين واليهود، بل إن كثير من المسيحيين اشتد جزعهم لما حدث)
وقد وصف كثير من المؤرخين احداث المذبحة التي حدثت في القدس يوم دخول الصليبيين أليها وكيف أنهم كانوا يزهون بانفسهم لأن ركب خيولهم كانت تخوض في دماء المسلمين التي سالت في الشوارع.. وقد كان من وسائل الترفيه لدى الصليبيين أن يشووا أطفال المسلمين كما تشوى النعاج.
ويذكر الكثيرون ما فعل ريتشارد قلب الاسد في الحملة الصليبية الثالثة عند احتلاله لعكا بأسرى المسلمين فقد ذبح 2700 أسير من أسرى المسلمين الذين كانوا في حامية عكا، وقد لقيت زوجات واطفال الاسرى مصرعهم الى جوارهم.
أهؤلاء المجرمون محررون..
سكت قليلا، ثم قال: إن هذه الحملات الصليبية التي قادها البابوات لم تتوجه ضد المسلمين فقط، بل اتجهت في أوروبا ضد كل من حدثته نفسه بالخروج أو بالانحراف عن الكنيسة، ففي الحملة ضد الألبيجنس والوالدنس والكثاريين مثلاً ـ في القرنين الثاني عشر والثالث عشر ـ كانت الكنيسة تحاول إفناءهم إفناءً تامًا.. وهذا ما حققته فعلاً، فقتلت وحرقت وشنقت الرجال والنساء والأطفال بشكل جماعي.
لا شك أنك سمعت بـ (ملحمة سان بارتلمى)، وهى مذبحة أمر بها سنة 572م شارل التاسع وكاترينا دوميديسيس حينما قتلت كاترينا خمسة آلاف من زعماء البروتستانت فى باريس وظنت أنهم يتآمرون بها و بالملك، ولم يكد ينتشر الخبر فى باريس حتى شاع أنه شرع فى قتل البروتستانت فانقض أشراف الكاثوليك والحرس الملكى والنبالة والجمهور على البروتستانت وقتلوا عشرة آلاف نسمة فى مختلف المدن بعد باريس.
وقد باركت الكنيسة الكاثوليكية هذه المجزرة وما بدا السرور على أحد كما بدا على البابا غريغوري الثالث عشر، وقد أكر بضرب أوسمة خاصة تخليدا لذكرى هذه المذبحة، ورسمت على هذه الأوسمة صورة غريغوري و بجانبه ملك يضرب بالسيف أعناق البروتستانت.
وقد كانت هذه الظاهرة سببا في جعل (وليم جيمس) يقرر أن العالم لم يعرف الاضطهاد الديني على نطاق واسع، قبل ظهور الأديان الموحدة، فقد كانت المسيحية في الواقع أول مذهب ديني في العالم وجد خاصته في التعصب والذي كان يقضي بإفناء خصومه.
وقصة مذابح الصرب ضد المسلميين فى البوسنة ليست عنا ببعيدةٍ، ففى أربعة أعوام ذبح المسيحيون 200،000 مسلم و مسلمة واغتصبوا النساء وشقو بطون الحوامل ودفنو الناس أحياء.. وقصة سربينيتشا تلك القرية الصغيرة التى أعلنتها الأمم المتحدة منطقة آمنة إلا أن الصرب الصليبيين تعاونوا مع إخوانهم الهولنديين وغدرو بالقرية الآمنة، وقتلوا عشرة آلاف مسلم فى ليلةٍ واحدة.
نعم إن قومنا يتشدقون ـ كعادتهم ـ ويقولون بأن الحرب كانت عرقية لا دينية، مع أنهم يعلمون أن عرقية المسلمين هي نفس عرقيتهم.
لقد كان العالم كله يعلم أن الحرب بين الصرب والكروات حرب بين المسيحيين والمسلميين.. وكان ذنب المسلميين الوحيد فيها هو أنهم مسلمون.
لم أملك نفسي، فسالت دموع حارة من عيني، فقال: هذه مجرد أمثلة عن الجرائم التي ارتكبها أولئك الذين يحملون الصليب، ويرتلون الكتاب المقدس، ويغنون للسلام.
التفت إلي، وقال: لا تتعجب من ذلك.. فهم لا ينفذون إلا إرادة الرب.. لقد قال لهم يسوع: (لا تظنوا أني جئت لأرسي سلاما على الأرض. ما جئت لأرسي سلاما، بل سيفا. فإني جئت لأجعل الإنسان على خلاف مع أبيه، والبنت مع أمها، والكنة مع حماتها. وهكذا يصير أعداء الإنسان أهل بيته) (إنجيل متى:10:34-36)
فلذلك هم ينفذون هذه الأوامر بدقة متناهية..
أما تفاصيل تطيبقها فقد شرحها لهم العهد القديم بما لا مزيد عليه..
قلت: ولكن الكتاب المقدس يقول: (من ضربك على خدك الايمن فأدر له خدك الايسر)
قال: أتدري المعنى الرمزي الذي تحمله (فأدر له خدك الأيسر)؟
قلت: ألهذه الكلمة معنى رمزي؟
قال: أجل.. يختص به فقهاء المسيحية..
قلت: فما هو؟
قال: إن إدارة خدك الأيسر له لا تعني أن تمكنه من ضربه، ولكن تعني أن تحاول اجتثاثه وقلعه وإبادته.. فالخد الأيسر في معناه الرمزي هو الإبادة بكل ما شرح الكتاب المقدس من طرق الإبادة.
قلت: لقد اقشعر قلبي مما ذكرت مما فعله أهل ديني.. فحدثني عن أهل حضارتنا.. هذه الحضارة الممتلئة بالفلسفات والمذاهب والأفكار.
قال: لو ذهبت أحدثك عن جرائمها لما انتهينا.. ولذلك سأكتفي بتحديثك عن الجرائم التي أسست لتلك الدولة العظمى التي لا تزال تنشر الخراب في العالم.. في نفس الوقت الذي تصم كل من يخالفها بالإرهاب.
قلت: تقصد أمريكا؟
قال: أجل.. فأمريكا ثمرة خبيثة من ثمار اليهودية والمسيحية والأفكار الرومانية التي لبست لباس الفلسفة الحديثة.
قلت: فما فعلت أمريكا؟.. تلك التي تحن لها القلوب.
قال: وترجف من ذكرها القلوب.
قلت: ما فعلت ([12])؟
قال: في عام 1664م، صدر كتاب بعنوان (العملاق) كتبه (يوردجاك) تضمن نصائح للقيادات الأنجلوساكسونية المتزعمة للمهاجرين البروتستانت إلى القارة الأمريكية الجديدة، جاء فيه: (إن إبادة الهنود الحمر والخلاص منهم أرخص بكثير من أي محاولة لتنصيرهم أو تمدينهم ؛ فهم همج، برابرة، عراة، وهذا يجعل تمدينهم صعباً، إن النصر عليهم سهل، أما محاولة تمدينهم فسوف تأخذ وقتاً طويلاً، وأما الإبادة فإنها تختصر هذا الوقت، ووسائل تحقيق الانتصار عليهم كثيرة: بالقوة، بالمفاجأة، بالتجويع، بحرق المحاصيل، بتدمير القوارب والبيوت، بتمزيق شباك الصيد، وفي المرحلة الأخيرة: المطاردة بالجياد السريعة والكلاب المدربة التي تخيفهم ؛ لأنها تنهش أجسادهم العارية)
وفي عام 1730 م، أصدرت الجمعية التشريعية (البرلمان) لمن يسمون أنفسهم (البروتستانت الأطهار) تشريعاً يقنن عملية الإبادة لمن تبقى من الهنود الحمر، فأصدرت قراراً بتقديم مكافأة مقدارها 40 جنيهاً مقابل كل فروة مسلوخة من رأس هندي أحمر، و40 جينهاً مقابل أسر كل واحد منهم، وبعد خمسة عشر عاماً ارتفعت المكافأة إلى 100 جنيه، ثم وضع البرلمان البروتستانتي (تسعيرة) جديدة بعد عشرين عاماً من صدور القرارات الأولى: فروة رأس ذكر عمره 12 عاماً فما فوق: 100 جنيه، أسير من الرجال: 105 جنيهات، أسيرة من النساء أو طفل: 55 جنيهاً، فروة رأس امرأة أو فروة رأس طفل: 50 جنيهاً.
وفي عام 1763 م أمر القائد الأمريكي، البريطاني الأصل (جفري آهرست) برمي بطانيات كانت تستخدم في مصحات علاج الجدري في أماكن تجمعات الهنود الحمر، لنقل مرض الجدري إليهم بهدف نشر المرض بينهم ؛ مما أدى إلى انتشار الوباء الذي نتج عنه موت عشرات الألوف منهم.
وبعد عقود قليلة انتهى أمر السكان الأصليين في القارة الأمريكية إلى ما يشبه الفناء، بعد الإبادة المنظمة لهم على أيدي المبشرين بالمحبة، والسلام للبشرية جمعاء.
وبعد فراغ القارة الأمريكية من العبيد (الحمر) قرر الأمريكيون استيراد عدة ملايين من العبيد (السمر) لخدمة (الشعب المختار) فتحول رعاة البقر إلى بحارة يجوبون السواحل الإفريقية لاصطياد العبيد وحشرهم في سفن الشحن، في عمليات إجرام أخرى يعالجون بها آثار الجريمة الأولى في حق الهنود الحمر، حيث لم يبق لديهم ما يكفي من الأيدي العاملة لبناء صرح الحضارة الجديدة.
وقد جلب الأوربيون والأمريكيون في أول الأمر ما لا يقل عن 12 مليوناً من الأفارقة المسترقين، جاءوا بأفواجهم في الأصفاد، وكانت البرتغال أكثر الدول الأوروبية توسعاً في جلب هؤلاء إلى أراضي العالم الجديد في أمريكا، دون توفير أدنى الضمانات لتلك (المخلوقات) الإفريقية التي لم يَرْق التعامل معهم إلى مستوى التعامل مع فئران المعامل ؛ فقد صدر عن منظمة اليونسكو عام 7891م تقرير يحكي فظاعة ما حصل للأفارقة وهول الكارثة الإنسانية التي حلت بهم لهم من أجل تعمير أمريكا ؛ فقد جاء فيه أن إفريقيا فقدت من أبنائها في تجارة الرقيق نحو 210 مليون نسمة، وذكرت التقارير أن ما لا يقل عن خمسة وعشرين مليوناً من الأفارقة الذين تم شحنهم من أنحاء القارة في أفواج من (جزيرة جور) الواقعة في مواجهة العاصمة السنغالية (داكار) قد هلك أكثرهم قبل أن يصلوا إلى العالم الجديد مما لقوا في رحلات العذاب داخل سفن شحن المواشي.
ويذكر هنا أن أمريكا، وأمريكا بالذات.. هي التي أحبطت في مؤتمر (دوربان) عام 2000م مطالب الأفارقة بالتعويض عما حدث لهم، بل رفضت أن يقدم لهم مجرد اعتذار، ومع كل هذا لا يزال كثير من المغفلين أو المغرضين يرفعون عقيرتهم قائلين: إن أمريكا محررة العبيد.
وقد بقي الأمريكيون مشغولين عن التدخل في شؤون العالم ثلاثة قرون، تاركين ذلك للجزء الأصلي من الشعب الساكسوني المختار (بريطانيا) ثم قرروا بعد نشوب الحرب العالمية الثانية أن ينفتحوا على العالم، وكانت بداية ذلك الانفتاح دموية قاتلة.
ليست هذه فقط هي جرائم الأمريكان..
هناك جرائم أخرى كثيرة.. سأذكر لك واحدة منها:
بالرغم من أن الحرب العالمية الثانية أفقدت العالم ما لا يقل عن خمسين مليوناً من البشر، فإن خسارة الأمريكيين لخمسة آلاف جندي، بعد الهجمات اليابانية بطائرات (الكاميكازا) على (ميناء هاربر) الأمريكي عام 1945م أفقدت الأمريكيين عقلهم؛ فلأول مرة يخسر الشعب الأمريكي (المختار) هذا الكم الهائل من الدماء في معركة واحدة، فكان لا بد أن يكون الرد حقداً يصب على رؤوس اليابانيين المدنيين منهم قبل العسكريين، وهذا ما حدث.
فمقابل دماء الخمسة آلاف جندي أمريكي، أقبل الأمريكيون الأنجلو ساكسون على الانتقام المجنون، فأمر الجنرال (جورج مارشال) رئيس الأركان الأمريكي في ذلك الوقت، بتنفيذ عمليات قصف تدميري واسع النطاق للمدن اليابانية الكثيفة السكان، فتم إطلاق 334 طائرة أمريكية لإلقاء القنابل الحارقة لتدمر ما مساحته 16 ميلاً مربعاً، ولتقتل في ساعات نحو 100 ألف شخص، وتشرد نحو مليون آخرين، في عمليات جحيم مستعر شمل طوكيو و64 مدينة يابانية أخرى.
ثم ختم ذلك المشهد الدموي بمشهد آخر أكثر دموية لم يكن للبشرية به عهد قبل مجيء العهد الأمريكي ؛ فقد أقدم الأمريكيون وهم القوة المتظاهرة اليوم بالدعوة إلى التعقل في استعمال أسلحة الدمار الشامل إلى استعمال هذا السلاح، وكانوا أسبق البشر إلى استعماله عندما أسقطوا قنبلتين نوويتين فوق مدينتي هيروشيما وناجازاكي، حصدت بسببها عشرات الآلاف من الأرواح بلا أدنى تفريق بين مدني وعسكري، أو رجل وامرأة وطفل.
وبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية وقعت أزمة بين أمريكا وكوريا الشمالية بسبب خوف الأمريكيين من انتشار النفوذ السوفييتي في جنوب شرق آسيا، فتدخلوا بسبب ذلك في الأراضي الكورية، وعزل الأمريكيون الحكومة الشعبية، وأغرقوا البلاد في حروب طاحنة أشاعت ناراً ودماراً، ولكنها بعثت في الوقت نفسه نوعاً من الارتياح النفسي في قلوب زعماء (الشعب المختار)
يقول ناعوم تشومسكي، الكاتب الأمريكي المعروف، واصفاً نتائج تلك الحرب: (أشعلنا حرباً ضروساً، سقط خلالها 100 ألف قتيل.. وفي إقليم واحد صغير سقط 30 ألفاً إلى 40 ألفاً من القتلى أثناء ثورة قام بها الفلاحون)
ويصف ذلك الكاتب كيف أن حكومة بلاده تدوس على (القيم) الديمقراطية إذا ما تبين أنها تحول بين أمريكا وبين مصالحها الذاتية، فيقول: (لم يُثر انقلاب فاشي في كولولمبيا إلا قليلاً من احتجاج حكومة الولايات المتحدة، بينما لم تهتم بانقلاب عسكري في فنزويلا، ولا بعودة السلطة للمعجب بالفاشية في بنما، ولكن المرارة والعداوة التهبت في حكومتنا عندما صعدت للسلطة أول حكومة ديمقراطية في تاريخ جواتيمالا)
وبينما لم تأبه أمريكا بقيام أنظمة ديكتاتورية معادية للديمقراطية ما دامت تخدم الأغراض الغربية، فقد أطاح الأمريكيون ـ كما قال تشومسكي ـ بالعديد من الحكومات (الديمقراطية) عندما ظهر لهم أن تلك الأنظمة الديمقراطية لا تخدم مصالحهم الإجرامية.. يقول: (أعاقت حكومتنا بعض الحكومات البرلمانية، وأسقطت بعضها، كما حدث في إيران عام 1953م، وجواتيمالا عام 1945م، وتشيلي عام 1972م، ولم تكن أساليب الإسقاط طبيعية جداً، فلم يكن القتل العادي هو عمل القوات التي حركناها في نيكاراجوا، أو عمل وكلائنا الإرهابيين في السلفادور أو جواتيمالا، ولكنه كان بصفة واضحة قتل القسوة والتعذيب السادي: تعليق النساء من أقدامهن، بعد قطع أثدائهن، وفض بكارتهن، وقطع الرؤوس وتعليقها على خوازيق، ورطم الأطفال بالجدران حتى يموتوا..)
سكت قليلا، ثم قال: هل تعرف القتل بالوكالة.. والعمالة؟
قلت: لا.. هذه أول مرة أتشرف بسماع هذا النوع من الجرائم.
قال: هذا ما مارسته أمريكا منذ ولدت أمريكا.. ولا زالت تمارسه ببشاعة لا نظير لها.
فبتواطؤ أمريكي شبه فعلي، قُتل مئات الآلاف من الأشخاص في مجازر عديدة في أندونيسيا ونيكاراجوا والسلفادور وهندرواس، وقتْل هؤلاء وإن كان بأيد غير أمريكية، إلا أنه كان بأسلحة أمريكية، ومشورة أمريكية وتدريب أمريكي مثلما يحدث الآن في فلسطين وأفغانستان والفلبين وغيرها.
وقد تكررت المجازر في أنجولا وموزمبيق وناميبيا وغيرها من دول القارة الإفريقية، وعرف العالم في السنوات الأخيرة عدداً من الطغاة الملفوظين من شعوبهم، والمدعومين من (الشعب المختار) من أمثال: (سوموزا) في نيكاراجوا، و(بينوشيه) في تشيلي، و(ماركوس) في الفلبين، و(باتيسيتا) في كوبا و(دييم) في فيتنام و(دوفاليه) في هايتي و(سوهارتو) في إندونيسيا، و(فرانكو) في إسبانيا.
وهناك زعماء آخرون رفضهم العالم واحتضنهم الأمريكيون، وهم زعماء المافيا الإسرائيليون من بن جوريون إلى شارون حيث لم يعدّ (أحرار) أمريكا واحداً من هؤلاء السفاحين إرهابياً، ولم يطالب شعبها باعتقال أي منهم لتقديمه للعدالة كي يحاكم عن جرائمه ضد الإنسانية، أو يحاسب على سجلاته الإرهابية.
سكت قليلا، ثم قال: أتعرف محور الشر؟
قلت: هم يقصدون بها بلاد المسلمين.. وهم في هذه الأيام يطلقونه على إيران وحلفائها..
قال: عند ما كانت إيران إحدى العِزَب الأمريكية في آسيا في عهود الإمبراطورية البهلوية، كانت محورا للخيرا.. ولكنها بعد قيام الثورة الإسلامية التي خلصت المستضعفين من نير المستكبرين، وحطمت الطغاة بمعاول الحق، عام 1979م، اعتبر الأمريكان هذا التطور ضاراً بمصالحهم.
فخططوا له أن يضرب بسيوف إخوانه.. وهنا حدث ما يسمى حرب الخليج الأولى، حيث نشبت هذه الحرب بتواطؤ أمريكي أمدت أمريكا فيها العراق بكل ما تحتاجه من أسلحة التقتيل والتدمير، بل إنها أظهرت ميلاً سياسياً نحو مساندته لضمان مساعدته من الدول الصديقة لها.
ولكنها في الوقت ذاته، كانت تضمر الشر للعراق كما كانت تضمره لإيران، وكان جوهر الموقف الأمريكي من تلك الحرب هو ما كان يردده اليهودي الأمريكي المخضرم (هنري كيسنجر): (سياستنا تجاه تلك الحرب أن لا تهزم العراق، وألا تنتصر إيران)
قلت: إن كل ما ذكرته من جرائم من فعل أمريكا.. والحضارة الغربية لا تمثلها أمريكا وحدها..
قال: تريد أن أحدثك عن أوروبا..
قلت: تاريخ أوروبا أنظف من تاريخ أمريكا..
قال: كلاهما يصدر من قلب حقود واحد.. لقد تداعت دول أوروبا على البلدان الإفريقية، في شمالها وجنوبها وشرقها وغربها ووسطها، وتقاسموها فيما بينهم ـ على شدة الاختلافات السائدة بينهم ـ وأنزلوا بسكانها من الدمار والهلاك، ما تتورع عنه الوحوش في غاباتها، قضوا في كل بلد على زعمائه وقادته وسفكوا دماء الآلاف من أبنائه، بدون تفرقة بين الرجال والنساء، والشيوخ والكهول والشباب والأطفال، وشردوا الآلاف المؤلفة، وحرموا من بقي في البلاد من أقل حقوق الإنسان التي يتشدقون بالدعوة إليها، فأذلوا بذلك سكان البلدان الإفريقية كلهم واستعبدوهم ونهبوا خيراتهم، كل ذلك باسم الاستعمار والتحرير.
لقد نقل الأمير شكيب أرسلان عن بعض المراسلين الأوروبيين الذين رافقوا الجيوش الإيطالية عندما اغتصبت ليبيا شيئا، يسيرا مما ذكره أولئك المراسلون وشاهدوه من أعمال غزاة النصارى الوحشية، فقال: (وليس المسلمون وحدهم هم الذين شاهدوا أعمال الطليان وضجوا منها، بل ثمة كثير من الإفرنج شاهدوها وأنكروها، ومن ذلك المستر (فرانسس ماكولا) الإنجليزي الذي كان مرافقا للجيش الإيطالي في طرابلس عند الاحتلال وشاهد تلك الفظائع بعينه، فقد قال: (أبيت البقاء مع جيش لا هم له إلا ارتكاب جرائم القتل، وإن ما رأيته من المذابح، وترك النساء المريضات العربيات وأولادهن يعالجون سكرات الموت على قارعة الطريق جعلني أكتب للجنرال (كانيفا) كتابا شديد اللهجة، قلت له: إني أرفض البقاء مع جيش لا أعده جيشا، بل عصابة من قطاع الطرق والقتلة)
ومن ذلك شهادة الكاتب الألماني (فون غوتبرغ) الذي قال: (إنه لم يفعل جيش بعدوه من أنواع الغدر ما فعله الطليان في طرابلس، فقد كان الجنرال كانيفا يستهين بكل قانون حربي، ويأمر بقتل جميع الأسرى، سواء أقبض عليهم في الحرب أو في بيوتهم، وفي سيراكوزه الآن كثير من الأسرى الذين لم يؤسر واحد منهم في الحرب، وأكثرهم من الجنود الذين تركوا في مستشفى طرابلس.
وقد قبض الطليان على ألوف من أهل طرابلس في بيوتهم ونفوهم، بدون أدنى مسوغ إلى جزر إيطاليا حيث مات أكثرهم من سوء المعاملة.
وأقر ما قاله (هرمان رنولوف) المراسل النمساوي الحربي فقد وجد في الباخرة التي نقلت جانبا من هؤلاء الأسرى فوصف تلك الحالة، فقال: (في الساعة السادسة من مساء كل يوم يكبل هؤلاء المرضى بالحديد في اليد اليمنى والرجل اليسرى، حقا إن موسيقى هذه السلاسل تتفق مع المدنية التي نقلتها إيطاليا إلى إفريقيا، لا ريب أن الطليان قد أهانوا كثيرا، فلم يكف أنهم أسقطوا منزلة أوروبا العسكرية في نظر إفريقيا، حتى شوهوا اسم النصرانية أمام الإسلام)
ثم قال: (وقد قتل الطليان في غير ميدان الحرب كل عربي زاد عمره على أربع عشرة سنة، ومنهم من اكتفوا بنفيه)
وأحرق الطليان في 26 أكتوبر سنة 1911م حيا خلف بنك روما، بعد أن ذبحوا أكثر سكانه بينهم النساء والشيوخ والأطفال قال: (ورجوت طبيبين عسكريين من أطباء المستشفى، أن ينقلوا بعض المرضى والمصابين المطروحين على الأرض تحت حرارة الشمس فلم يفعلا، فلجأت إلى راهب من كبار جمعية الصليب الأحمر، هو الأب (يوسف بافيلاكو) وعرضت عليه الأمر، وأخبرت شابا فرنسيا أيضا، لكن الأب (بافيلاكو) حول نظره عني ونصح الشاب بأن لا يزعج نفسه بشأن عربي في سكرات الموت، وقال: (دعه يموت)
ثم قال هذا المراسل النمساوي: (ورأيت على مسافة قريبة جنديا إيطاليا يرفس جثة عربي برجله، وصباح اليوم التالي وجدت الجرحى والمرضى الذين رجوت الراهب من أجلهم قد ماتوا..)
ثم قال: (رأينا طائفة من الجنود تطوف الشوارع مفرغة رصاص مسدساتها في قلب كل عربي تجده في طريقها، قد نزع أكثرهم معاطفهم، ورفعوا أكمام قمصانهم كأنهم جزارون)
وقال المسي كسيرا مراسل جريدة (إكسليسيور) الباريسية: (لا يخطر ببال أحد ما رأيناه بأعيننا من مشاهد القتل العام ومن أكوام جثث الشيوخ والنساء والأطفال، يتصاعد منها الدخان تحت ملابسهم الصوفية كالبخور يحرق أمام مذبح من مذابح النصر الباهر، ومررت بمائة جثة بجانب حائط قضي عليهم بأشكال مختلفة.
وما فررت من هذا المنظر حتى تمثلت أمام عيني عائلة عربية قتلت عن آخرها، وهي تستعد للطعام، ورأيت طفلة صغيرة أدخلت رأسها في صندوق حتى لا ترى ما يحل بها وبأهلها. إن الإيطاليين فقدوا عقولهم وإنسانيتهم من كل وجه)([13])
هذه نصوص مختزلة لبعض المراسلين الأوروبيين عن وحشية الإيطاليين وقساوة قلوبهم وخلوها من الرحمة، في بلد واحد وهو ليبيا ومن جيش بلد أوروبي واحد، هو الجيش الإيطالي برضا الدول الأخرى في أوروبا، وهو مثال ينطبق على كل البلدان التي اغتصبها الأوروبيون في إفريقيا وغيرها.
وضعت يدي على فمه، وقلت: بالله عليك إلا كففت من حديثك هذا.. فقد ملأتني غيظا وحقدا ورعبا.
قال: لم أذكر لك شيئا.. إن الحقيقة لا يمكن تصويرها ولا تصورها.. لعل الملائكة الذين ذكرهم القرآن في قوله:{ قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ } (البقرة:30) كانوا يقصدون هذه الحضارة.. وهذا الإنسان المتربي في كنفها المتعطش للدماء.
قلت: حدثني عن سلام الإسلام.
قال: ذاك حديث وطويل وعذب لا يمكنه أن نوفيه حقه في هذه الجلسة([14]).. ولكني سأحدثك عن السلام الذي اشتهر الحديث عنه.. السلام المرتبط بالحرب.
قلت: لقد أمر الإسلام بالحرب.. فكيف يستقيم السلام مع الحرب.
نظر إلى الشاب الجالس أمامنا.. وقد علته الهموم، فقال: أرأيت لو أن هذا الشاب كان يملك قوة يحمي بها حقل زيتونه.. هل يجرؤ أحد على الاقتراب منه؟
قلت: لا.. لن يجرؤ أحد على الاقتراب منه.
قال: ولهذا أمر الإسلام بالقوة وبالإعداد الذي يرهب الأعداء الظالمين، فلا يطمعون في المستضعفين.. لقد جاء في القرآن:{ وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ } (لأنفال:60)
قلت: القرآن يستعمل مصطلح الإرهاب.
قال: الإرهاب لا يعني القتل.. بل يعني وضع الروادع للظالمين حتى لا يفكروا في القتل.. ولهذا، فإن نظام الحرب في الإسلام يعتمد هذا المنهج.. ولهذا كانت الحروب التي خاضها الإسلام من أنظف الحروب على الإطلاق..
قلت: فحدثني عن ذلك.
قال: لا يمكنك أن تفهم موقف الإسلام من الحرب، وتشريعاته المرتبطة بها حتى تعلم موقفه من السلام.
قلت: فحدثني عنه.
قال: لقد قرأت الكتب المقدسة للأديان جميعا.. وقرأت خلاصات الأفكار والمذاهب والفلسفات، فلم أجد دينا حوت نصوصه المقدسة ذلك الحض على السلام مثلما حمله الإسلام.
لقد تناول القرآن لفظ (السلم) و(السلام) في عشراتٍ الآيات؛ ليس ذلك فحسب، بل إنَّ السلام ـ عند المسلمين ـ اسمٌ من أسماء الله، وقد جعله تحيَّته إلى عباده، وأمرهم بأن يجعلوا السلام تحيَّتهم.. يلقيها بعضهم على بعض، باعتبارها شعارهم في جميع مجالات الحياة.
وقد قامت الدولة الإسلاميَّة الأولى في ظلِّ قيادة محمد على أساس توافر هذه المقوّمات التي لم ينقص من أهمِّيَّتها وأثرها في تكوين الوحدة الوطنيَّة أن يكون لأبنائه يومئذ أكثر من دينٍ واحد.
لقد قامت دولة الإسلام الأولى ودستورها المثالي ـ كما تقرِّره صحيفة الموادعة بين المسلمين واليهود ـ بسط جناح الأمن والسلام والإخاء على أهل المدينة جميعها بدرجةٍ واحدة، مساواةً تامَّةً في الحقوق والواجبات، لا يلمح فيها ظلاً للتفريق بين المسلم صاحب الأكثريَّة والرياسة، وبين اليهودي الذي يمثِّل الأقليَّة التابعة، فضلاً عن المسيحي الذي تشدّه إلى المسلم روابط وثيقة، لا يمكن لإنسانٍ أن ينال منها فيظفر بفكاكها، فهي باقيةٌ خالدةٌ على الأيام والدهر، لا تزعزعها الحوادث، ولا تنال منها الأحداث.
وقد كان للإسلام مع إخوانه من أتباع الشرائع السماويَّة الأخرى قصصًا يرويها التاريخ بإعجابٍ وإكبارٍ وتقدير؛ فلم يُسمَع عن محمد أنَّه قَتل مسيحيا لأنَّه لم يُسلم؛ ولم يُسمَع عن المسلمين أنَّهم عذبوا كتابيًّا أو سجنوه أو منعوه من التعبُّد وإقامة شعائر دينه؛ ولم يُنقل عنهم أنَّهم هدموا كنيسةً أو قوَّضوا بيعةً.. وإنّما قال التاريخ: إنَّ محمدا صالح نصارى نجران فكتب لهم عهدًا جاء فيه: (ولنجران وحاميتها جوار الله وذمة محمدٍ على أموالهم وأنفسهم وملَّتهم وبيعهم وغائبهم وشاهدهم وكل ما تحت أيديهم من قليلٍ أو كثير، لا يُغيَّر أسقفٌ من أسقفيَّته، ولا راهبٌ من رهبانيَّته، ولا كاهنٌ من كهانته، ولا يحشرون ولا يعشرون، ولا يطأ أرضهم جيش)
التفت إلي، وقال: ميزة أخرى في سلام الإسلام.. لم أجدها في كل ما بحثت فيه من أديان.
قلت: ما هي؟
قال: تشريع أخلاق السلام.
قلت: ما تقصد بذلك؟
قال: في الوقت الذي تصور فيه الرجولة والشجاعة ـ كما نرى في الأفلام التي تنتجها عقليتنا السادية ـ في القتل والتدمير.. في ذلك الوقت يرى الإسلام أن الشجاعة والقوة في امتلاك النفس، والسيطرة على الأعصاب، والتغلب على دواعي الانتقام.. لقد قال محمد يصور هذا، ويعمقه في نفوس أمته: (ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب)([15])، وفي رواية أخرى: (أتحسبون أن الشدة في حمل الحجارة؟ إنما الشدة في أن يمتلئ أحدكم غيظا ثم يغلبه)([16])، وفي رواية: (ألا أدلكم على أشدكم؟ أملككم لنفسه عند الغضب)([17])
فالحلم والعفو وسعة الصدر التي هي أركان السلام تعتبر في الإسلام فروضا تشريعية وخلقية.. لقد قال القرآن يجمع محاسن الأخلاق:{ خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ((لأعراف:199)
وقد نص علماء المسلمين على أن هذه الآية من أجمع الآيات لمكارم الأخلاق، قال جعفر بن محمد: (أمر الله نبيه بمكارم الأخلاق وليس في القرآن آية أجمع لمكارم الأخلاق من هذه الآية)
بل قد وردت أحاديث محمد الدالة على احتواء هذه الآية على أصول الأخلاق، مفسرة لها بما يقتضي انحصار الأخلاق فيها، فعن جابر قال: لما نزلت هذه الآية { خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ((لأعراف:199) قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ( يا جبريل ما تأويل هذه الآية؟ قال: حتى أسأل، فصعد ثم نزل فقال: يا محمد إن الله يأمرك أن تصفح عمن ظلمك، وتعطي من حرمك، وتصل من قطعك. فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (ألا أدلكم على أشرف أخلاق الدنيا والآخرة؟ قالوا: وما ذاك يا رسول الله؟ قال: تعفو عمن ظلمك، وتعطي من حرمك، وتصل من قطعك)([18])
ويدل على هذا ما ورد في نصوص أخرى من أن هذه الأخلاق المذكورة في الآية هي من أمهات الأخلاق وخيرها، كما روي ذلك في أحدايث مختلفة، فعن علي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ( ألا أدلك على خير أخلاق الأولين والآخرين؟ قال: قلت يا رسول الله، نعم. قال: تعطي من حرمك، وتعفو عمن ظلمك، وتصل من قطعك)([19])
ولهذا كانت هذه الآية ـ بما تحمله من المعاني الجليلة ـ شعارا لأمة محمد، وضياء يهتدون به في تعاملهم مع الخلق مسلمهم وكافرهم عاقلهم وجاهلهم.
وانطلاقا من هذا.. فقد نبذ الإسلام العنف، واعتبره من سوء الخلق.. ورتب عليه العقوبات التشريعية الرادعة.
ففي القرآن:{ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ} (المؤمنون:96).. وفيه { وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} (فصلت:34)
وفي أحاديث محمد وصايا كثيرة ترتبط بهذا.. فقد قال: (إنَّ الله رفيقٌ يحبُّ الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف، وما لا يعطي على ما سواه)([20])
وقال: (إنَّ الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا يُنزع من شيءٍ إلا شانه)([21])
وقال: (إنَّ الله عزَّ وجلَّ يحبُّ الرفق في الأمر كله)([22])
وقال: (من يحرم الرفق يحرم الخير)([23])
وقد سار أتباعه على هذا الهدي.. فصار الحلم وسعة الصدر عندهم هي المثال على الكمال الأخلاقي، فعن علي قال: (ليس الخير أن يكثر مالك وولدك، ولكن الخير أن يكثر علمك ويعظم حلمك، وأن لا تباهي الناس بعبادة الله، وإذا أحسنت حمدت الله تعالى، وإذا أسأت استغفرت الله تعالى)
وقال: (إن أول ما عوض الحليم عن حلمه جهله وصبره وشهوته، ولا يبلغ ذلك إلا بقوة العلم)
وعن علي بن الحسين بن علي أنه سبه رجل فرمى إليه بخميصة كانت عليه وأمر له بألف درهم، فقال بعضهم: جمع له خمس خصال محمودة: الحلم وإسقاط الأذى وتخليص الرجل مما يبعد من الله عز وجل وحمله على الندم والتوبة ورجوعه إلى مدح بعد الذم اشترى جميع ذلك بشيء من الدنيا يسير.
وقال رجل لجعفر بن محمد: إنه قد وقع بيني وبين قوم منازعة في أمر وإني أريد أن أتركه فأخشى أن يقال لي: إن تركك له ذل، فقال جعفر: إنما الذليل الظالم.
والإسلام لم يكتف بهذه التوجيهات.. بل وضع نظاما تشريعيا صارما يحمي فيه السلام النفسي والاجتماعي من أن يدمره المصارعون.
قلت: ربما تجد مثل هذه الأخلاق عند شعوب كثيرة.. ونحن لا نتحدث عن هذا، وإنما نتحدث عن أخلاق الحرب.. فقد زعم بعضهم أن الحرب لا تحتاج إلى أخلاق([24]).
قال: وهذه ميزة أخرى من مزايا الإسلام.. فهو لا يفرق في الأخلاق بين حرب وسلم، وبين مسلم وكافر، وبين لون ولون..
سأحدثك عن مجامع أخلاق الإسلام في الحرب، وهي ثلاثة لا توجد إلا في الإسلام: الضرورة، والوفاء، والرحمة.
قلت: فحدثني عن الضرورة.
قال: الإسلام يجعل مبدأ السلام هو المبدأ الذي يحكم العلاقات بين الأفراد والمجتمعات والشعوب، فالقرآن يقول:{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (الحجرات:13)
فالغرض من التنوع في الخلق ليس الصراع كما تفهم فلسفاتنا المادية المؤيدة بالأديان المنحرفة.. ولكنها ـ بحسب القرآن ـ هي التعارف والتكامل والسلام.
ولهذا.. فإن (الحرب)، ومثله (القتال) في النصوص المقدسة عند المسلمين لا يلجأ إليها إلا كما يلجأ للعمليات الجراحية للضرورة، وبدون اعتداء.
فقد يلجأ إليها لردع العصاة والمتمردين وقطاع الطرق والعابثين بالأمن.. { إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (المائدة:33)
وقد يلجأ إليها لردع البغاة الذين يفرقون المجتمع، ويثيرون الفتنة فيه، ومع ذلك لا يلجأ لها إلا بعد محاولة الصلح.. { وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} (الحجرات:9)
وقد يلجأ إليها لردع المرابين وأمثالهم من المستغلين لجهود الفقراء والعمال.. { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ} (البقرة:178-279)
وقد يلجأ إليها لردع المعتدين على حقوق الإنسان الأساسية كالنفس والمال والعرض.
وقد يلجأ إليها لردع الطامعين، وتأمين السلام الداخلي.. فمن الناس من لا تردعهم التربية ولا القانون عن العدوان والطغيان.. وفي الأمم من تغريها قوتها وضعف جيرانها بالعدوان والاستعمار، فلا جرم إن كان من الخير أن يشرع استعمال القوة حينئذ لحملة السلام من أعدائه في الداخل والخارج.. وهذا هو ما رمى إليه الإسلام حين أقر استعمال القوة.
وقد يلجأ إليها لتأمين السلام العالمي..
قلت: هذه هي الحرب التي يسميها قومنا إرهابا.
قال: لا.. المجرمون دائما يقلبون الحقائق، فيتصورون أصحاب الدكاكين الذين يتصدون لمنعهم من سرقة دكاكينهم بخلاء ومجرمين..
هذا هو منطق الإجرام.. ولا ينبغي للعاقل أن يخضع لمنطق الإجرام.
قلت: فما منطق العقل في هذا؟
قال: إن الحرب التي يعلنها الإسلام لتأمين السلام العالمي هي التي يعبر عنها القرآن بالجهاد في سبيل الله، وهو لا يعني بذلك حرباً دينية لإكراه الناس على الإسلام.. وإنما يعني بها المعارك التي يخوضها الإسلام لتحرير الأمة من العدوان الخارجي، ولتأمين الحرية الدينية والعدالة الإجتماعية لجميع الشعوب..
وهاتان الغايتان هما اللتان عبَّرت عنهما الآية بصريح العبارة:{ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } (لأنفال:39).. فدفع الفتنة وهو العدوان، وخلاص الدين كله لله أي الحرية الدينية لجميع الناس هما الغاية التي ينتهي عندها القتال في الإسلام.
فإذا كف العدو عن العدوان وعن فتنة الأمة في دينها وعقيدتها لم يجز القتال { فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ }.. وفي الآية الأخرى:{ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ } (البقرة:193)
اسمع هذه الآيات لترى المقاصد الشريفة التي أمر الإسلام فيها بالجهاد:{ وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا (75)} (النساء)
{ أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40)} (الحج)
{ الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً } (النساء:76)
هذه أربع آيات من القرآن تتحدث عن الجهاد في سبيل الله، فلننظر ما هو هذا الجهاد في هذه الآيات؟
أما في الآية الأولى فتحث على الجهاد لتحرير المضطهدين المظلومين الذين ضاقت حيلتهم في دفع الظلم والطغيان عن أنفسهم، فاستنجدوا بالله أن يخرجهم من الأرض التي طغى الظالمون فيها، وسألوه أن يجعل لهم أولياء ينصرونهم ويخرجونهم من هذه المحنة، فحرّض الله المؤمنين على تحرير هؤلاء المضطهدين بعد أن وصف حالهم بما يثير الحمية في النفوس الأبية الكريمة.
أما الآيتان الثانية والثالثة فتدلان على أن الجهاد في سبيل الله حرب دفاعية، ولذلك جاء تبريرها بأنهم قوتلوا وظلموا وأخرجوا من ديارهم وطوردوا في عقيدتهم، وعلى أن هذا الجهاد لتأمين الحرية الدينية وحماية أماكن العبادة لجميع الأديان المنزلة من عدوان الملحدين والمتعصبين عليها:{ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا } والصوامع هي أديرة الرهبان، والبيع أماكن العبادة للنصارى، والصلوات أماكن العبادة لليهود، والمساجد أماكن العبادة للمسلمين.
فالغرض من الجهاد في سبيل الله – كما ترى – صيانة الكنيسة وأماكن العبادة وفيها المساجد من عدوان المتعصبين، وليس الغرض منه ما يقوله قومنا من أن يقوم المسجد على أنقاض الكنيسة، بل أن يقوم المسجد بجانب الكنيسة رمزاً لعبادة الله في مختلف طرق العبادة، ودليلاً على وحدة الأهداف العامة بين ديانات السماء، ومصداراً للإشعاع الروحي والسمو الخلقي في الأمة.
أما الآية الرابعة.. فقد وضعت الحد الفاصل بين الحرب التي يعلنها الإسلام وبين الحرب التي يعلنها أعداؤه عليه.. فالحرب التي يعلنها الإسلام حرب في سبيل الحق والحرية والعدالة والسمو الروحي والخلقي.. أما الحرب التي يعلنها أعداؤه فهي حرب طغيان وظلم واضطهاد، وما أبعد دلالة (الطاغوت) على أهداف الحرب العدوانية التي يقف الإسلام في وجهها.
قلت: فلم ارتبطت هذه الحروب بالله؟
قال: تنبيها للغاية الشريفة التي نهضت لها.. فالجهاد في سبيل الله جهاد في سبيل الغايات الكريمة التي قامت من أجلها الشرائع، وتسعى إليها الإنسانية الكريمة في كل عصر.. هو في سبيل الله.. أي لا في سبيل المال ولا التهديم ولا الاستعلاء ولا الغلبة ولا الأمجاد القومية أو الطائفية.. فمن سعى إلى شيء من هذا لم يكن مجاهداً في نظر الإسلام يستحق أجر المجاهدين وكرامة الشهداء.
سكت قليلا، ثم قال: اقرأ تاريخ محمد في حروبه لترى الأدلة الواضحة القوية التي تثبت لك المعنى النبيل الذي خاض من أجله محمد حروبه ومعاركه، فما أعلن محمد الحرب إلا بعد أن اضطهد هو وجماعته في عقيدتهم، وأخرجوا من أوطانهم، فجاءت معركة بدر وما تلاها من معارك في سبيل الحرية الدينية وإقرار السلام والأمن في ربوع الجزيرة العربية، ذلك السلام الذي حاربه الوثنيون من العرب فأحالوا بطاح مكة ورمالها إلى ميادين لتذبيح المؤمنين وتعذيبهم ومطاردتهم في أرزاقهم وأوطانهم وأموالهم.
لقد ظل محمد ثلاثة عشر عاماً يصبر ويدعو إلى الله بالحكمة، حتى إذا لجت قريش في طغيانها، وصممت على وأد الدعوة الجديدة في مهدها بقتل محمد وصحابته، وهاجر المسلمون إلى المدينة مستقر الدعوة والدين الجديد، بدأ الصراع بين القوة الجديدة التي تمثل الحق والتسامح والفضيلة والكمال في أروع صوره، وبين القوة الوثنية الطاغية التي تمثل العتو والكبرياء والطغيان في أبشع صوره ومظاهره..
قلت: عرفت الخلق الأول من أخلاق الحرب في الإسلام.. فما الخلق الثاني؟
قال: الوفاء.. الوفاء هو الخلق الذي أمر الإسلام به في السلم والحرب، واعتبره نقطة فاصلة بين المؤمنين والمنافقين.
فمن أول سمات المؤمن الوفاء..
قلت: ما علاقة الوفاء بالسلام؟
قال: لو تأملت أكثر حروب العالم تجد سببها نقض العهود والمواثيق وعدم احترام الكلمة..
قلت: فهل حافظ الإسلام على هذا الخلق؟
قال: سأذكر لك النظام الذي فرضه الإسلام للحرب.. لتعرف من خلاله المدى الذي تقيد فيه المسلمون بالوفاء.. وتعرف من خلاله النظافة التي مارس بها المسلمون حروبهم.
فالحرب تبدأ حين تتأكد الأمة من نية العدوان والغدر لدى أمة من الأمم ضدها، وحينذاك يجب عليها أن تستعد بكل ما تملك من قوة لإرهاب هذا العدو الذي يتربص بها:{ وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ } (لأنفال:60) فهو استعداد للإرهاب لا للاعتداء، ولإرهاب أعداء الأمة لا أصدقاءها ومسالميها.
فإن كف العدو عن فكرة العدوان، وعدل عن الحرب وجب على الأمة أن تجنح للسلم وتدخل فيه:{ وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } (لأنفال:61)
فإن أبى العدو إلا الحرب والعدوان، فـ { وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40) وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (41) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (42)} (الشورى).. { فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ)(البقرة:194)
فإذا بدأت الحرب، فلتخفف ويلاتها بقدر ما يمكن، ولذلك جازت الخديعة في الحرب (الحرب خدعة)
قلت: كيف يجتمع الوفاء مع الخداع؟
قال: الخدعة المرادة هنا إحباط مناورات العدو وخططه وتثبيط عزيمته، فإن في ذلك إنهاء للحرب وإقرارا للسلام بأقل ما يمكن من الزمن، وأقل ما يقع من الضحايا.
فإذا لم تجد الخديعة والأساليب السياسية واضطر إلى الحرب.. فالإسلام يأمر المقاتلين بالثبات ليستمدوا عونهم من الله، وليذكروا الله كثيراً:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } (لأنفال:45)
ألا ترى كيف يأمر القرآن بذكر الله في حال القتال ليذكر المقاتلون أنهم لا يقاتلون رياء ولا حمية ولا ثأراً ولا استعلاءً وإنما يحاربون في سبيل الله..
وحين تشتعل نار الحرب يجب أن يذكر الجيش المحارب أنه يخوض حرباً دفاعية لتحرير الضعفاء والمضطهدين، فليضيق حدودها حتى لا يصطلي بنارها إلا من حمل السيف وبدأ العدوان، فلا تؤخذ أمة العدو كلها بجريرة جيشها أو فريق منها اعتدوا على أمتنا:{ وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ } (البقرة:190)
وهنا يسمو الإسلام إلى منتهى ذروة الإنسانية حين يحرم قتل الشيخ الكبير والعاجز والمرأة والصبي ورجل الدين المنقطع للعبادة والفلاح والمسالم الذي لم يشترك في القتال.
فإذا رغب المحاربون في الصلح عند اشتداد المعركة أمر الإسلام المسلمين بأن يقبلوا الصلح منهم ولو أشرفوا على النصر، ثم الوفاء بما تم عليه العهد:{ وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ } (النحل:91)
فإذا بدا منهم بعد ذلك نية الغدر والخيانة فإن الإسلام ينهى عن مفاجأتهم بالقتال، بل لا بد من إخبارهم بانتهاء العهد بين المسلمين وبينهم وفسح المجال لهم ليستعدوا للحرب والقتال، وهذا هو النبذ الوارد في الآية:{ وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ } (لأنفال:58)
وإذا انتهت المعركة باستسلام العدو وانتصار الأمة، فلا عدوان على الأعراض، ولا تخريب للمدن، ولا استلاب للأموال ولا إذلال للكرامات، ولا اندفاع وراء الثأر والانتقام، وإنما هو الإصلاح والتحرير والعدالة ونشر الخير ومكافحة الشر:{ الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ } (الحج:41)
فهذه الآية نص على ما يجب أن تفعله الأمة المنتصرة بعد انتهاء الحرب وهي أمور أربعة: إقامة الصلاة، وهي رمز لإشاعة السمو الروحي في العالم.. وإيتاء الزكاة، وهي رمز لتحقيق العدالة الاجتماعية في الشعوب.. والأمر بالمعروف، وهو رمز للتعاون على كل ما فيه خير الناس وأمنهم وسعادتهم.. والنهي عن المنكر، وهو رمز للوقوف في وجه الشر الذي يعجل بالحرب ويفوت على الناس السلام والأمان.
التفت إلي، وقال: هل رأيت في الكتب المقدسة تعاليم سامية مثل هذه التعاليم.. وهل رأيت في الأمم أخلاقا مثل هذه الأخلاق.
قلت: عرفت الضرورة والوفاء.. فحدثني عن الرحمة.. وهل يمكن أن تجتمع الحرب والقتال مع الرحمة؟
قال: تتجلى الرحمة في الحروب التي شرعها الإسلام انطلاقا من الدوافع التي تدفع لها.. فالإسلام لم يشرع الحرب من أجل المال ولا الجاه ولا السلطان.. بل شرعها من أجل تحرير المستضعفين من نير المستكبرين.. ولهذا يخاطب القرآن وجدان الرحمة في الإنسان، فيقول:{ وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً } (النساء:75)
ولا تقف الرحمة الإسلامية عند هذا الحد.. بل تتعداه إلى المواقف المختلفة التي تتطلبها الحرب..
فعن الأسرى يقول القرآن:{ وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً } (الانسان:8)
وفي الحديث يوصي محمد بالأسرى خيرا، فيقول: (استوصوا بهم (أي الأسرى) خيراً)
وقد أمر محمد المسلمين الذين أسروا ثمامة بن أثال قائلاً: (أحسنوا أساره، اجمعوا ما عندكم من طعام فابعثوا به إليه)
وقد وضع القرآن قانونا للتعامل مع الأسرى جاء فيه:{ فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ } (محمد:4)
إن هذه الآية تحوي رحمات عظيمة لا يمكن حصرها.. فهي تأمر بضرب الرقاب.. وهو حث على القتل المريح.. بدل إصابة المقتول بجراحات تظل تعذبه.
وهي تخير ولي الأمر في معاملة الأسرى بين المن (اطلاق السراح) أو أخذ العوض إما بالمال أو تبادل الأسرى وهو (الفداء)
ولا تقف الرحمة الإسلامية هنا.. بل إن الإسلام يحرم تحريما شديدا قتل الضعفاء وغير المقاتلين ويحرم التخريب.. فمحمد يقول للجيش: (لا تقتلوا شيخاً فانياً ولا طفلاً ولا امرأة ولا تغلو ولا تقتلوا أصحاب الصوامع)
وهو ينهى عن التمثيل بجثث القتلى أو تعذيب الجرحى.. ففي الحديث: (إياكم والمثلة)
وقد أمر محمد بوضع جثث قتلى المشركين في بدر في القليب وهو بئر جاف، ونهى عن تعذيب الجرحى وقال: (لا تعذبوا عباد الله)
وهو بعد ذلك كله يتعامل بسماحة لا نظير لها مع المغلوب.. فبعد فتح مكة قال محمد لقريش: (أقول لكم ما قال أخي يوسف لإخوته، لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين، اذهبوا فأنتم الطلقاء)
وهو ـ فوق هذا ـ يلتزم بكل حقوق الفقراء والعاجزين وذوي العاهات، من الأمم التي يسيطر عليها.
فنصوص القرآن التي تحتم إعالة البائسين والمحتاجين هي عامة شاملة لم تقيد بالمسلمين فحسب:{ وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً } (الاسراء:26).. { وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ } (الذريات:19)
لقد ذكر جوستاف لوبون في كتابه (حضارة العرب) تلك الرحمة العظيمة التي امتلأت بها حروب المسلمين، فقال: (إن العرب تركوا المغلوبين أحراراً في أديانهم فإذا كان بعض النصارى قد أسلموا واتخذوا العربية لغة لهم فذلك لما كان يتصف به العرب الغالبون من ضروب العدل الذي لم يكن للناس بمثله عهد.. وقد عاملوا أهل سورية ومصر وأسبانية وكل قطر استولوا عليه بلطف عظيم تاركين لهم قوانينهم ونظمهم ومعتقداتهم غير فارضين سوى جزية زهيدة في مقابل حمايتهم لهم وحفظ الأمن بهم.. والحق إن الأمم لم تعرف فاتحين رحماء متسامحين مثل العرب)
وقال مونتجمري في كتابه (الحرب عبر التاريخ): (إن المسلمين كانوا يستقبلون في كل مكان يصلون اليه كمحررين للشعوب من العبودية، وذلك لما اتسموا به من تسامح وإنسانية وحضارة فزاد إيمان الشعوب بهم)
قلت: هناك شبهة يثيرها الكثير في هذا المجال..
قال: اطرح ما تشاء من شبه.. فلن تعدو الشبه التي طالما رددتها.. ثم سرعان ما لاح لي الحق، فتراجعت عنها.
قلت: لقد قرأت لبعض الفقهاء من يذكر أنّ على الدولة المسلمة أن تخيّر الدول الأخرى بين الإسلام أو الجزية أو القتال.
قال: لقد بحثت في هذا.. وقد حاول هؤلاء أن يلووا أعناق بعض النصوص ليلزموها هذا الفهم الخاطئ..
لقد كتب محمد بعد أن استقرّ له الأمر في المدينة، رسائل إلى الملوك من حوله يدعوهم إلى الإسلام، وإلى الإيمان بالله وحده.. فكتب إلى قيصر ملك الروم، وإلى كسرى ملك الفرس، وإلى النجاشي ملك الحبشة، وإلى المقوقس عظيم القبط، وإلى الحارث ملك تخوم الشام.. وطلب من هؤلاء الملوك أن يبلّغوا دعوته إلى شعوبهم، وإلاّ فإنّهم يتحمّلون إثم هؤلاء الناس.. وذلك بسبب ما كان معروفاً أنّ الملوك يمنعون شعوبهم أن يدينوا بغير دينهم.
ولم يرد في أي رسالة من تلك الرسائل أي تهديد بالقتال.. أو أي طلب للجزية.
***
ما وصل مكسيم رودنسون من حديثه إلى هذا الموضع حتى سمعنا أصواتا لمدافع كثيرة تصم لها الآذان، ثم لم نلبث حتى رأينا جيشا عرمرما يحيط بنا من كل جانب.. وهو يشهر أسلحته نحونا.
أمرنا بنزع ثيابنا، فنزعناها.. ثم أمرنا بالانبطاح أرضا، فانبطحنا.. ثم جاء بعض قساة القلوب، فطوقوا أيدينا، حتى كاد الدم يجمد في عروقنا.. ثم أمرونا بالسير معهم.. فسرنا..
كان الشاب المسكين ينظر ببراءة حزينة إلى حقل الزيتون.. وكأنه يودعه بدموعه.
أما صاحبي مكسيم، فكان يقذف في وجوههم كل ما حفظه في صغره من لعنات اليهود.
وأما أنا.. فكنت ألتفت خلفي لأرى ما سيحصل لحقل الزيتون..
ما إن وصلنا إلى الشاحنة التي حملنا فيها كما تحمل البضائع حتى دخل رجل ضخم، هو أشبه بضفدعة عملاقة لبست لباس الإنسان.. كان يحمل في فمه سيجارة هي أشبه بالقنبلة.. ما دخل إلى حقل الزيتون حتى رماها.. فإذا بالنيران تشتعل من كل جانب..
في ذلك الحين الذي اجتمعت فيه الأحقاد على حقل الزيتون تذكرت محمدا.. وزيتون محمد.. فبكيت بكاء حارا على افتقاد البشرية لتلك المعاني الجميلة التي عاشها محمد، وبشر بها..
ومع تلك الدموع الحارة تنزلت علي أشعة جديدة اهتديت بها بعد ذلك
إلى شمس محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
([1]) رواه البخاري.
([2]) رواه الطبراني في الكبير.
([3]) هو مكسيم رودنسون (1915- )Maxime Rodinson مفكر ماركسي ومستشرق فرنسي من أصل يهودي، وُلد في باريس عام 1915، وكان أبوه أحد مؤسسي اتحاد نقابات العمال اليهود في باريس، تلقَّى تعليمه الابتدائي في باريس ثم عمل كصبي تشهيلات قبل التحاقه بقسم اللغات الشرقية الحية في السوربون حيث درس اللغات السامية والإثنوجرافيا وعلم الاجتماع.
اخترناه هنا لأنه كان يرى أن الغربيين يتأثرون كثيراً بما يحدث في إسرائيل أكثر مما يحدث في الدول العربية حيث لا يأبهون بما يحـدث في هذه البـلاد كثيراً أو لا يأبـهون بها على الإطلاق، فلا تزال المشاعر العنصرية وآثارها السياسية تطغى على حياة الغربيين. ويضرب رودنسون مثالاً لذلك بتزايد نمو الأحزاب العنصرية والنازية في الغرب الأوربي، ولذا فهو لا يعتقد في أطروحات غياب الإعلام العربي وتغيير الحالة الذهنية الغربية، لأنه يرى أن المسألة أعقد كثيراً من ذلك وترجع إلى الطبيعة العنصرية الأساسية في بنية الحضارة الغربية. (انظر: الموسوعة اليهودية، المسيري، وانظر فيها فصلا مهما حول [شخصيات ومنظمات يهودية معادية للصهيونية]
([4]) هناك من يذهب إلى أن هتلر يهودي العرق..
([5]) شـمشون، هو اسم لشخص يُشار إليه أحياناً بأنه آخر القضاة، فقد كان قاضياً من قبيلة دان مدة عشرين سنة، وقد اشتهر بقوته الجسدية الخارقة، تدور حياته حول مجموعة من المغامرات مع ثلاث نساء.. انظر القصة وتحليلها في (الكلمات المقدسة) من هذه السلسلة.
([6]) انظر: الصهيونية والعنف…من بداية الاستيطان الى انتفاضة الاقصى، د. عبد الوهاب المسيري.
([7]) لكن القرن الخامس عشر الميلادي أظهر تحولات عميقة في النفس المسيحية ـ الغربية على الأقل ـ مع بزوغ ما عرف بحركة الإصلاح، وما استتبعه ذلك من انشقاق سياسي وعقائدي داخل الديانة المسيحية بشكل عام، والكاثولوكية الغربية بشكل خاص كان من نتائج هذه التحولات أن أصبحت المسيحية الجديدة التي عرفت باسم البروتستانتية ربيبة لليهودية.
فقد أصبح للعهد القديم أهمية أكبر في نظر البروتستانت من العهد الجديد، وبدأت صورة الأمة اليهودية تتغير تبعا لذلك في أذهان المسيحيين الجدد وقد ظهر هذا التحول في النظرة المسيحية إلى اليهود في كتابات رائد الإصلاح البروتستانتي، القس الفيلسوف (مارتن لوثر). فقد كتب لوثر عام 1523 كتابا عنوانه (المسيح ولد يهوديا) قدم فيه رؤية تأصيلية للعلاقات اليهودية المسيحية من منظور مغاير تماما لما اعتاده المسيحيون من قبل، فكان مما قال في كتابه:( إن الروح القدس شاءت أن تنزل كل أسفار الكتاب المقدس عن طريق اليهود وحدهم. إن اليهود هم أبناء الرب، ونحن الضيوف الغرباء، وعلينا أن نرضى بأن نكون كالكلاب التي تأكل من فتات مائدة أسيادها )
([8]) انظر: الموسوعة اليهودية للمسيري.
([9]) الأيديولوجية الانقلابية، ص716.
([10]) تاريخ ابن الأثير: 8/189-190.
([11]) تاريخ الحروب الصليبية: 1/404/406.
([12]) انظر هذه التفاصيل وغيرها في: أمريكا واسرائيل وعقدة الدم، د. عبد العزيز بن مصطفى كامل.
([13]) انظر: حاضر العالم الإسلامي للأمير شكيب أرسلان.
([14]) انظر تفاصيل هذا في رسالة (سلام للعالمين) من هذه السلسلة.
([15]) أحمد والبيهقي عن أبي هريرة.
([16]) ابن أبي الدنيا في ذم الغضب عن عامر بن سعد بن أبي وقاص.
([17]) الطبراني في الكبير عن أنس.
([18]) ابن مردويه.
([19]) البيهقي في شعب الإيمان.
([20]) رواه مسلم.
([21]) رواه مسلم.
([22]) رواه البخاري ومسلم.
([23]) رواه مسلم.
([24]) انظر في هذا: (نظام السلم والحرب فى الاسلام) وهي محاضرة- القاها الدكتور السباعى فى ندوة دار الايتام الاسلامية فى بيروت، بدعوة من اللجنة النسائية للهيئة العليا لدار الايتام، مساء الجمعة الواقع فى 3 من شعبان سنة 1372 الموافق 17 من نيسان 1953، وقد كان لها اثر بالغ فى جمهور المستعين، حتى ان فريقا كبيرا منهم وبعضهم اساتذة فى الجامعات العليا، رغبوا بطبعها وتوزيعها لما تضمنته من حقائق يجهلها كثير من المثقفين، عدا عما تضمنته من تصحيح لكثير من الأخطاء الشائعة فى البيئات العلمية والدينية البعيدة عن الاسلام.