سادسا ـ ثبات

في اليوم السادس..
جاءني بولس بهيئة لم أره عليها من قبل.. وكأني به تقمص صورة قديس من القرون الغابرة بصليبه وهيئته وسمته.. وفوق ذلك بفقره وزهده وسمالة ثيابه.
قلت، لما رأيته بتلك الصورة: ما هذا ـ يا حضرة القس الفاضل ـ أتراك تريد الذهاب إلى دير لتعيش مع الرهبان، أم تراك تريد الانعزال في جبل من الجبال كما فعل القديسون؟
قال بجد صارم: لا هذا، ولا ذاك.. أنا لا أزال أجتهد في أن أكون رسولا مخلصا للمسيح.. أنا لا أريد أن أكون مسيحيا وحدي.. أريد لهذه الأرض جميعا، ولهؤلاء البشر جميعا أن يثبتوا في المسيح، وأن ينموا في المسيح.
قلت: ألم يزعزع همتك هذه ما حصل في الأيام السابقة؟
قال: بل لم تزدني تلك المواقف التي وقفناها في الأيام السابقة إلا همة وعزيمة وثباتا.
لقد كان أهم ما تعلمت من المسيح الثبات في المسيح..
ثم التفت إلي بجد غير معهود، وقال: إن الثبات فى المسيح هو من الأساسيات التي ركز عليها رب المجد يسوع المسيح فى علاقته بتلاميذه القديسين.. إلى درجة أنه تكلم إحدى عشر مرة عن الثبات فى ثماني آيات.
لقد قال في (يوحنا 15: 1 ـ 11): (أنا الكرمة الحقيقية، وأبي هو الكرام. كل غصن في لا ينتج ثمرا يقطعه؛ وكل غصن ينتج ثمرا ينقيه لينتج مزيدا من الثمر. أنتم الآن أنقياء بسبب الكلمة التي خاطبتكم بها. فاثبتوا في وأنا فيكم. كما أن الغصن لا يقدر أن ينتج ثمرا إلا إذا ثبت في الكرمة؛ فكذلك أنتم، إلا إذا ثبتم في. أنا الكرمة وأنتم الأغصان. من يثبت في وأنا فيه، فذاك ينتج ثمرا كثيرا. فإنكم بمعزل عني لا تقدرون أن تفعلوا شيئا. إن كان أحد لا يثبت في يطرح خارجا كالغصن فيجف؛ ثم تجمع الأغصان الجافة، وتطرح في النار فتحترق. ولكن، إن ثبتم في، وثبت كلامي فيكم، فاطلبوا ما تريدون يكن لكم. بهذا يتمجد أبي: أن تنتجوا ثمرا كثيرا فتكونون حقا تلاميذي. مثلما أحبني الآب، أحببتكم أنا، فاثبتوا في محبتي. إن عملتم بوصاياي، تثبتون في محبتي، كما عملت أنا بوصايا أبي وأثبت في محبته! قلت لكم هذا ليكون فيكم فرحي، ويكون فرحكم كاملا)
قرأ ذلك بخشوع عظيم، ثم قال: مثلما أوصانا رب المجد يسوع المسيح أوصانا معلمنا بولس الرسول قائلا: (إذا يا اخوتي الأحباء والمشتاق إليهم يا سروري وإكليلي اثبتوا هكذا في الرب أيها الأحباء )(فيليبس: 4: 1)
ثم التفت إلي، وقال: لقد اعتبر المسيح الثبات علامـة التلمـذة الحقيقية، لقد قال له المجد: (قال يسوع لليهود الذين آمنوا به إنكم إن ثبتم في كلامي فبالحقيقة تكونون تلاميذي)(يوحنا: 8: 31)
لقد علمنا تاريخ الكنيسة عن القديس مقاريوس ـ أب رهبان برية شيهيت ـ أنه كان يقود المبتدئين فى الحياة الروحية بلطف حتى يثبتوا فى الرب، ويمسكوا بجبل التلمذة الروحية للمسيح..
فالكنيسة كأم تهتم كل الإهتمام بتثبيت أولادها المؤمنين فى بنوتهم لأبيهم السماوى الرب يسوع..
ولهذا، فإن الثبات فى الرب ضرورة حتمية..
قلت: أنا لا أجادلك في هذا.. فالثبات ضرورة حتمية في كل دين، لا في المسيحية وحدها، ولكني أتعجب من هذا المظهر الذي ظهرت به اليوم.. هل تراك تريد أن تخرج به؟
قال: أجل.. هذا المظهر وحده أعظم دعوة للمسيح.. إنه يمثل المسيح وثبات المسيح.. ولا يثبت الناس في المسيح غير ثبات المسيح.
أتعلم.. لقد كانت أعظم رسالة نشرت المسيحية في العالم بين نفوس المستضعفين هي هذه الرسالة التي أحملها بثيابي وصليبي.. وكأنني أقول لمبغضي المسيح: افعلوا بي ما تشاءون.. اشنقوني أو اصلبوني كما صلبتم المسيح.. فلن أتزحزح عن طريقي.
لقد توجه المسيح لتلاميذه في آخر صحبته لهم، وقال: (إن أبغضكم العالم، فاعلموا أنه قد أبغضني من قبلكم. لو كنتم من أهل العالم، لكان العالم يحب أهله، ولكن لأنكم لستم من أهل العالم، بل إني اخترتكم من وسط العالم، لذلك يبغضكم العالم. اذكروا الكلمة التي قلتها لكم: ليس عبد أعظم من سيده. فإن كان أهل العالم قد اضطهدوني، فسوف يضطهدونكم؛ وإن كانوا قد عملوا بكلمتي، فسوف يعملون بكلمتكم. ولكنهم سيفعلون هذا كله بكم من أجل اسمي، لأنهم لا يعرفون الذي أرسلني. لو لم آت وأكلمهم، لما كانت لهم خطيئة؛ ولكن لا عذر لهم الآن في خطيئتهم. الذي يبغضني، يبغض أبي أيضا. ولو لم أعمل بينهم أعمالا لم يعملها أحد غيري، لما كانت لهم خطيئة. ولكنهم أبغضوني وأبغضوا أبي، مع أنهم رأوا تلك الأعمال. وقد صار ذلك لتتم الكلمة المكتوبة في شريعتهم: أبغضوني بلا سبب! وعندما يأتي المعين، الذي سأرسله لكم من عند الآب، روح الحق الذي ينبثق من الآب، فهو يشهد لي، وتشهدون لي أنتم أيضا، لأنكم معي من البداية)(يوحنا: 15/18- 27)
قلت: لكني لم أفهم سر هذا المظهر بعد.. لقد كنت تحمل صليبا مذهبا على صدرك، وأراك تحمل اليوم صليبا يكاد يكون حقيقيا، وكأنك اجتثثته من الشجرة التي اجتث منها صليب المسيح.
نظر إلي بأسف، وقال: للأسف.. لقد انحصرت نظرتنا إلى الصليب في أنه سر الفداء فحسب، فكانت نظرة قاصرة خلقت جيلا من المؤمنين المترفين المرفهين، جيلا تعود الأخذ لا البذل، جيلا يبحث عن الراحة ويهرب من العناء، جيلا يحمل الصليب زينة على صدره، ولا يحمل الصليب مقصلة فوق ظهره، فضاعت من جيلنا التلمذة الحقيقية التي قصدها السيد المسيح ورسم طريقها بقوله: (من لا يحمل صليبه ويأتي ورائي فلا يقدر أن يكون لي تلميذا) (لوقا:27:14)
لقد حكى لنا التاريخ كيف أن بطرس الرسول هرب من روما خشية الموت، وفوجئ في الطريق بشخص السيد المسيح، فارتمي عند أقدامه متسائلا: (إلى أين يارب أنت ذاهب؟)، فجاءته الإجابة التي أخجلته: (أنا ذاهب إلى روما لأصلب ثانية عوضا عنك)، فرجع الرسول في الحال إلى روما، وعانق الصليب رافضا أن يصلب كسيده، بل أن يصلب منكسا، رأسه إلى أسفل ورجلاه إلى أعلى، وأثبت أنه تلميذ حقيقي لمعلمه المصلوب.
وهكذا كل قديس في الرب قد عرف الطريق إلى صليب الإماتة وسمر مشيئته هناك ودفن آماله في قبر راحيل وقام في جدة الحياة ليعيش لمشيئة الرب بالكامل ويكمل قول بولس الرسول: (وهو مات لأجل الجميع كي يعيش الأحياء فيما بعد لا لأنفسهم بل للذي مات لأجلهم وقام) (2كو15:5).
قلت: كل ما تذكره نؤمن به، ونحاول أن نعيشه، لكني لست أفهم سر ما تريد أن نفعله اليوم.. هل سنذهب للتبشير كما ذهبنا في الأيام السابقة؟
قال: أجل.. وهذا هو علامة الثبات في المسيح.. فالمعركة لا ينتصر فيها إلا الثابتون.
قلت: أراك تريد أن تحارب اليوم أيضا؟
قال: إن اضطررت إلى الحرب فعلت.. فما أحلى الحرب لأجل المسيح.
قلت: بأي سلاح تريد أن تحارب اليوم؟
أشار إلى الصليب، وقال: بهذا..
قلت: أتريد أن تشن حربا صليبية جديدة؟
قال: حرب الصليب لا تخاض بالسيوف، بل تخاض بالصليب نفسه.
قلت: الصليب هو أداة إعدام بشعة استخدمها الرومان واليونانيون والفرس منذ أقدم العصور في إعدام المجرمين.. وهو أشد آلة تعذيب لأن المعلق كان يموت موتا بطيئا، كما أنه يكون معرضا لشمس النهار المحرقة وبرودة الليل، كما أن أجساد المصلوبين عرضة لطيور السماء الجارحة.. لقد كان المصلوب يثبت على خشبه الصليب وهو شبه عار لكي يكون محط سخرية واستهزاء الناس.
ولهذا، فإن اليهود كانوا ينظرون للصليب بأنه موت اللعنة حسب الشريعة (تثنية22:21،23)
قال: ولكن كل رموز العار التي كانت تلصق بالصليب تحولت في صليب المسيح إلى افتخار.. لقد أصبح الصليب شعار المسيحية في كل مكان وزمان، فوق كل بناية كنيسة يرفع الصليب عاليا.. أتدري لم؟
قلت: لم؟
قال: لأن صليب المسيح أعلن محبة الله للبشرية.. كما جاء في رسالة (يوحنا1/ 9:4،10): (بهذا أظهرت محبة الله فينا أن الله أرسل ابنه الوحيد إلى العالم لكي نحيا به. في هذا هي المحبة ليس أننا أحببنا الله بل أنه هو أحبنا وأرسل ابنه كفارة لخطايانا)
وكما جاء في الإنجيل: (لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية)(يوحنا 16:3)
قلت: أنا موقن بكل ما تقول.. ولكني أسألك عن كيفية التبشير بالصليب؟
قال: بالصليب نخاطب المشاعر لا العقول.. والمشاعر هي التي تسيطر على حياة الناس لا عقولهم.. وبذلك، فإن إظهار صورة المسيح المصلوب الثابت مع صلبه أعظم معجزة.
لقد كان المسيح قادرا على التخلص من صليبه، ولكنه كان يعلم أن ثباته في صليبه أعظم من كل المعجزات التي جرت علي يديه.
ولهذا، فإن الثبات معجزة بحد ذاتها.. معجزة تفوق كل المعجزات.
أردت أن أتحدث، فقاطعني، وقال: هيا.. لقد أعددت مجلسا للتبشير بين المستضعفين المضطهدين.. وقد وكلت من تعرفه بأن يهيئ لنا الجو الخاص بهذا اليوم.. ولعله قد نضج.
قلت: ألا تخاف أن يظهر ذانك الرجلان؟
ابتسم، وقال: حتى لو ظهرا.. فليس لديهما مثل هذا الصليب، وليس لنبيهم مثل هذا الصليب.
سرنا إلى محل هو أشبه بمحل اعتقال، كانت أرواح الاستضعاف فيه تفوح من بعيد، ولكنه مع ذلك كان يخفي همما للنهوض، تبرز في الكلمات المنبعثة، وفي الصيحات المرتفعة.
ما إن وصلنا، حتى سمعنا بعضهم يصيح: يا قوم.. قد تسجنون إذا ذكرتم هذا، وقد يسلط عليكم المستكبرون في السجون من ألوان العذاب ما لا تطيقون.
قال آخر: فليكن ذلك.. فالآمال لا تنبتها إلا الآلام..
قال آخر: إن الثبات على تلك الآلام يستدعي أن نلبس نفوسا خاصة لا نجدها في ذواتنا.. لقد هددنا المستكبرون بألوان من العذاب لا تطيقها أجسادنا الضعيفة.
هنا نطق مستأجر بولس، وقال: فلنضع المسيح، وصليب المسيح بين أعيننا.. وحينذاك سنقاوم العالم أجمع.
التفت إليه الجمع، وقالوا: من المسيح.. وما صليبه؟
هنا تدخل بولس بتلك الهيئة العجيبة، وقال: هذا هو صليب المسيح.. وإن شئتم أن تروا صورته، فقد لبست من اللباس ما يشير إلى صورته.
نظر الجمع إلى بولس بألم، وقالوا: لقد تألم هذا الرجل كثيرا إذن؟
بولس: وقد كان في إمكانه أن لا يتألم ([1]).. لقد كان يحمل طاقات كثيرة، ومع ذلك تخلى عنها جميعا ليصلب من أجلنا.
قالوا: نرى أن حديثه عظيم.. ولعله يبث فينا من القوة ما لا نجده في نفوسنا، فحدثنا عنه.
بولس: لقد قضى يسوع المسيح ست ساعات على الصليب، وقد تألم فيها بأنواع عديدة من الآلام لم تزعزعه، ولم تهد كيانه المقدس:
لقد تألم آلاما كثيرة.. آلاما في جسده.. وآلاما في نفسه.
أما في جسده، فهي التي تلقاها من البشر.. من الجنود الرومان.. ومن خدام رؤساء الكهنة.
لقد تفل عليه، وضرب بالسياط، ليتم قول الكتاب: (على ظهري حرث الحراث) (مزمور 3:129)، ويتم ما جاء في إشعياء: (بذلت ظهري للضاربين، وخدي للناتفين وجهي لم أستر عن العار والبصق) (إشعياء 6:50)
ووضعوا إكليل شوك فوق رأسه القدوس، وهو الملك صاحب التيجان الكثيرة.
وطعنوه بحربة في جنبه، وسالت منه ينابيع الغفران من خلال ذلك الدم الذي يطهر من كل خطية، والذي لا يزال يتكلم ويطلب الغفران لأجلنا.
ثقبوا يديه ورجليه بمسامير حديدية غليظة بواسطة أيدي الجنود الرومانيين الذين كانت قلوبهم غليظة.
ليست المسامير الحديدية هي التي ثبتته هناك، بل ثبتته محبته الشديدة، والتي تفوق إدراك العقول.. لقد ثبتته فوق الصليب لأجل غفران معاصينا.. لقد سالت الدماء من يديه المثقوبة، وهو لا يزال يفتح ذراعيه لكي يستقبل بفرح كل من يقبل إليه.
قال ذلك بخشوع، ثم راح يترنم بصوت شجي:
يده المثقوبة تنطق بالحب تمسح أحمال الآثم عن القلب
يده المثقوبة تحكي عن نعمة تتراءف تبدي للخاطي رحمة
يده المثقوبة تنزف تدعوك وبقلب الرحمة تصرخ ترجوك
اسرع أبواب الرحمة مفتوحة أدخل من كف الابن المجروحة
فاختبئ الآن بكف المصلوب سلم واحظ بعفو مطلوب
سالت دموع كثيرة من الجمع الحاضر، بثت في بولس نشاطا عظيما للحديث، فراح يقول: وفوق ذلك.. لقد قاسى الرب يسوع آلاما نفسية ومعنوية تفوق آلامه الجسدية:
لقد كان متروكا من الجميع (فتركه الجميع وهربوا)(مرقس 50:14) ليتم ما جاء في الكتاب: (أحبائي وأصحابي يقفون تجاه ضربتي وأقاربي وقفوا بعيدا)(مزمور 10:38)
لقد خانه تلميذه يهوذا الاسخريوطي.
لقد أنكره بطرس،ليس أمام قائد في الجيش، أو حتى جندي، بل أنكر يسوع أمام جارية.. لقد أنكره ثلاث مرات، ولعن، وحلف أنه لا يعرف يسوع.. ربما نحن نلوم بطرس، ولكننا بتصرفاتنا وأقوالنا ننكر الرب يسوع كل يوم.
لقد هرب التلاميذ، فمزقته آلام الوحدة، فهو متروك من قبل الجميع.
لقد استهزأوا به، سواء الشعب، أم رجال الدين اليهود أو الجنود.
لقد جدفوا عليه، وعيروه، حتى اللصان أيضا عيروه.
لقد صلب يسوع على صليب العار، فالصليب كان رمز عار ولعنة، وتم ما هو مكتوب عنه: (العار قد كسر قلبي فمرضت، انتظرت رقة فلم تكن، ومعزين فلم أجد، ويجعلون في طعامي علقما، وفي عطشي يسقونني خلا)(مزمور69: 20-21)
لقد تحمل المسيح لعنة الخطية لكي يكون لنا لا اللعنات بل البركات، وتم قول الكتاب (ملعون كل من علق على خشبة) (رسالة بولس إلى أهل غلاطية 13:3)
فكم كان قاسيا على القدوس البار الذي لم يعرف خطية، لذلك قال للآب في البستان: إن شئت أن تجيز عني هذه الكأس، لقد تجرع كأس غضب الله ولعنة الخطيئة.
التفت إلى الجمع، وقال: أتدرون سر هذه الآلام التي تحملها المسيح؟
صمتوا، فقال: لقد تحمل المسيح هذه الآلام نيابية عني وعنك، لقد تلقاها من يد العدالة الإلهية.
لقد قضى الرب يسوع ستة ساعات على الصليب، والثلاث الساعات الأخيرة من الساعة (12-3) ظهرا صارت ظلمة على كل الأرض، وهذه هي الساعات التي تمت فيها الكفارة، حيث حجب الله وجهه عن يسوع، وأنزل عليه الدينونة التي كان علينا أن ندفعها لكنه تحملها، وتم ما هو مكتوب في إشعياء النبي (أما الرب فسر أن يسحقه بالحزن)(إشعياء 10:53)
والكفارة هي الآلام التي بها المسيح كفر خطايانا وذنوبنا ولا يستطيع أحد أن يصف تلك الآلام لأنها أسمى من إدراك البشر ولا أحد يعرفها إلا يسوع وحده فقد نزلت الدينونة عليه وهو الذي قال عن تلك الساعة (الآن دينونة هذا العالم) (يوحنا31:12)
وما هو مكتوب عن هذه الآلام يجعلنا نركع سجودا وتعبدا وخاصة عندما نعرف كم اجتاز ربنا المعبود من دينونة في الصليب جعلته يصرخ: (إلهي إلهي لماذا تركتني).. (صار قلبي كالشمع قد ذاب في وسط أمعائي)(مزمور 22)
لما رأى السيف التهب قد صاح من هول الغضب
إيلي لما تركتني ووجهك عني احتجب
إنك قد ضربتني بسيف عدلك الرهيب قد ذاب قلبي داخلي كالشمع أمام اللهيب
لقد صرخ يسوع بصوت عظيم في نهاية آلامه الكفارية وقال: (قد أكمل) وأصبح الذبيح العظيم الذي يستطيع فيه كل إنسان أن ينال غفران الخطايا، أتم المسيح عمل الفداء فوق الصليب وسفك دمه الطاهر الذي يطهر من كل خطية ودفع الدين وأوفى مطاليب العدالة الإلهية وتم المكتوب (الرحمة والحق التقيا)(مزمور 10:85)
لقد دفع فينا ثمنا غاليا ليس بفضة أو ذهب ولكن (بدم كريم كما من حمل بلا عيب وبلا دنس دم يسوع المسيح المعروف سابقا قبل تأسيس العالم)(بطرس1/ 1: 19-20)
ما إن انتهى بولس من موعظته المؤثر المؤلمة التي استجمع فيها كل طاقاته الوجدانية حتى فوجئنا بصوت عبد القادر، وهو يقول للجمع: لاشك أنكم تناضلون لأجل قضية تريدون الثبات عليها.
قالوا: أجل..
عبد القادر: وتريدون أن تجدوا نموذجا تحقق فيه الثبات في أعلى درجاته، بحيث صار معجزة في ثباته؟
قالوا: أجل.. نريد أن نجد المثال الذي نملأ به قلوبنا وعقولنا.
هنا تدخل مستأجر بولس، وقال: لقد أعطانا هذا الراهب الفاضل أعظم مثال.. ونحن نكتفي به.. فمعجزة الثبات لم تتحقق إلا في المسيح.
عبد القادر: إن معجزة الثبات تحققت في جميع رسل الله.. تحققت في إبراهيم وإسماعيل وموسى والمسيح ومحمد.
مستأجر بولس: ولكن.. ليس هناك من قدم للصلب كما قدم للمسيح.
عبد القادر: إن الثبات لا يبرزه الصلب وحده..
لقد ذكر الله تعالى ثبات إسماعيل u عندما أوحي لأبيه إبراهيم u بأن يذبحه، قال تعالى:{ وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ (99) رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (100) فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ (101) فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102)فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ (106) وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآَخِرِينَ (108) سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ (109) كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (110)}(الصافات)
وذكر الله تعالى ثبات إبراهيم u أمام تهديد أبيه عندما هدده بقوله:{ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيّاً} (مريم: 46)
وهكذا كل الأنبياء ـ عليهم السلام ـ لم يستسلموا لكل ما دبره أقوامهم لهم من مكايد.. لقد ذكر الله تعالى ذلك، فقال:{ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ} (ابراهيم:13)
ففي هذه الآية الكريمة يخبر الله تعالى تعالى عما توعدت به الأمم الكافرة رسلها، من الإخراج من أرضهم، والنفي من بين أظهرهم، كما قال قوم شعيب له ولمن آمن به:{ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا}(الأعراف: 88)، وقال قوم لوط u لنبيهم:{ أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ}(النمل: 56)، وقال مخاطبا محمدا صلى الله عليه وآله وسلم وما هم قومه به:{ وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلا قَلِيلا}(الإسراء: 76)، وقال يذكر مكايدهم:{ وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ}(الأنفال: 30)
مستأجر بولس: نعم.. ربما يكون محمد قد أخرج من بلده، ولكنه لم يصلب..
عبد القادر: أيهما أعظم ثباتا: أن يصلب الشخص ساعة، أو ست ساعات يموت بعدها، ويستريح.. أو يظل طول عمره هدفا للمؤامرات والمكايد؟
قال الجميع: بل الصلب أرحم، وقد مر بعضنا بآلام ود لو صب عليه فيها الموت صبا.
عبد القادر: فمثال الثبات إذن لا يتحقق بكماله إلا في محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
قالوا: كيف ذلك.. وما أنواع البلاء التي تعرض لها؟
عبد القادر: لقد تعرض محمد صلى الله عليه وآله وسلم لكل أنواع البلاء.. وابتلي بكل أنواع الفتن: فتن الضراء، وفتن السراء.
قالوا: فحدثنا عنهما.
ألقى عبد القادر نظرة على جموع المستضعفين الملتفين حوله، وقال: أنتم الآن جموع كثيرة، ولكن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم عندما بدأ بدأ وحده، ثم انضمت إليه فئة قليلة من المستضعفين واجه بهم العالم أجمع.
لقد دبرت له كل المؤامرات لتستأصله، وتجوعه، وتخرجه من أرضه، وفوق ذلك تملأ نفسه آلاما وحسرات، ولكنه لم يرضخ، ولم يتزعزع، ولم يحد عن منهجه الذي رسمه الله له.
وبما أنكم طلبتم مني أن أحدثكم عن أنواع البلاء التي تعرض لها محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وثباته في وجهها، فسأذكر لكم ما قال المؤرخون بتوثيقاتهم الدقيقة، لتروا معجزة الثبات بتجليها الكامل في شخص محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
أول أنواع المضرات التي صبت على محمد صلى الله عليه وآله وسلم تأليب أهله عليه، فأخطر ما يقف في وجه الثابتين تأليب أهلهم عليهم، كما أن أقوى ما يثبت قلوبهم وقوف أهلهم بجانبهم.
وقد وقف أهل محمد صلى الله عليه وآله وسلم منه موقفين متناقضين:
أما أحدهما، فكان الحرب الشديدة له صلى الله عليه وآله وسلم، ويمثلهم عمه أبو لهب، الذي نزلت في حقه سورة كاملة تبين الموقف الشديد الذي وقفه من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
فقد روي بأسانيد مختلفة ([2]) أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما أنزل عليه قوله تعالى:{ وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ}(الشعراء:214) قام على الصفا، فعلا أعلاها حجرا، ثم نادى: يا صباحاه، فقالوا: من هذا؟
وجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج يرسل رسولا لينظر ما هو، فجاء أبو لهب وقريش، فاجتمعوا إليه، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن أخبرتكم أن خيلا تخرج من سفح هذا الجبل تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقي؟ قالوا: ما جربنا عليك كذبا)
فقال: يا معشر قريش، أنقذوا أنفسكم من النار، فإني لا أغني عنكم من الله شيئا، يا بني عبد مناف، أنقذوا أنفسكم من النار، فإني لا أغني عنكم من الله شيئا، يا بني عبد شمس أنقذوا أنفسكم من النار، فإني لا أغني عنكم من الله شيئا، يا بني كعب بن لؤي أنقذوا أنفسكم من النار، فإني لا أغني عنكم من الله شيئا، يا عباس عم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنقذ نفسك من النار، فإني لا أغني عنك من الله شيئا، يا صفية عمة محمد، ويا فاطمة بنت محمد أنقذا أنفسكما من النار، فإني لا أملك لكما من الله شيئا، غير أن لكما رحما سأبلها ببلالها، إني لكم نذير بين يدي عذاب شديد)
في هذا الموقف، وبعد هذه الكلمات المؤثرة الناصحة واجهه عمه أبو لهب بكل قسوة قائلا: تبا لك سائر اليوم، ألهذا جمعتنا؟
تصوروا ذلك الموقف، وشدته على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
لم يقف أبو لهب ذلك الموقف فقط.. بل ظل خلف محمد صلى الله عليه وآله وسلم يتعقبه لينفر الناس عنه:
فقد حدث بعض المعاصرين لذلك، قال: رأيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الجاهلية في سوق ذي المجاز، وهو يقول: (يا أيها الناس، قولوا لا إله إلا الله تفلحوا)، والناس مجتمعون عليه، ووراءه رجل وضيء الوجه أحولُ ذو غديرتين، يقول: إنه صابئ كاذب. يتبعه حيث ذهب، فسألت عنه فقالوا: هذا عمه أبو لهب([3]).
وفي حديث آخر: إني لمع أبي رجل شاب، أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يتبع القبائل –ووراءه رجل أحول وضيء، ذو جُمَّة يَقِفُ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على القبيلة فيقول: (يا بني فلان، إني رسول الله إليكم، آمركم أن تعبدوا الله لا تشركوا به شيئا، وأن تصدقوني وتمنعوني حتى أنفِّذَ عن الله ما بعثني به)
وإذا فرغ من مقالته قال الآخر من خلفه: يا بني فلان، هذا يريد منكم أن تسلُخوا اللات والعزى، وحلفاءكم من الجن من بني مالك بن أُقَيْش، إلى ما جاء به من البدعة والضلالة، فلا تسمعوا له ولا تتبعوه. فقلت لأبي: من هذا؟ قال: عمه أبو لهب([4]).
وقد ذكر ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما دعا قومه إلى الإيمان، قال أبو لهب: إذا كان ما يقول ابن أخي حقا، فإني أفتدي نفسي يوم القيامة من العذاب بمالي وولدي، فأنزل الله تعالى:{ مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ }(المسد:2)
ومثل أبي لهب زوجته ([5]) التي سماها الله { حَمَّالَةَ الْحَطَبِ }، فقد كانت عونًا لزوجها على كفره وجحوده وعناده، فقد كانت تضع الشوك في طريق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم)([6])
وروي أنه: كانت لها قلادة فاخرة، فقالت: لأنفقنها في عداوة محمد، فأعقبها الله بها حبلا في جيدها من مسد النار.
هذا هو الموقف الأول، وهو الموقف الذي أظهر العداوة، وسار فيها إلى أقصى غاياتها، أما الموقف الثاني، فهو موقف عمه أبي طالب، وهو موقف مناقض تماما لموقف أبي لهب.
ولكن أعداء محمد صلى الله عليه وآله وسلم لم يرضهم ذلك الموقف، فراحو بمكايدهم المختلفة يؤلبون عمه عليه.
قال ابن إسحاق: فلما بادى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قومه بالإسلام وصدع به كما أمره الله لم يبعد منه قومه ولم يردوا عليه، حتى ذكر آلهتهم وعابها.
فلما فعل ذلك أعظموه وناكروه، وأجمعوا لخلافه وعداوته إلا من عصم الله تعالى منهم بالإسلام وهم قليل مستخفون.
وحدب على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أبو طالب، ومنعه وقام دونه، ومضى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على أمر الله مظهرا لأمره لا يرده عنه شئ.
فلما رأت قريش أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يعتبهم من شئ أنكروه عليه من فراقهم وعيب آلهتهم، ورأوا أن عمه أبا طالب قد حدب عليه وقام دونه ولم يسلمه لهم، مشى رجال من أشرافهم إلى أبي طالب فقالوا: يا أبا طلب إن ابن أخيك قد سب آلهتنا وعاب ديننا وسفه أحلامنا وضلل آباءنا، فإما أن تكفه وإما أن تخلي بيننا وبينه، فإنك على مثل ما نحن عليه من خلافه فنكفيكه.
فقال لهم أبو طالب قولا رفيقا وردهم ردا جميلا، فانصرفوا عنه.
ومضى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على ما هو عليه يظهر دين الله ويدعو إليه، ثم شري الأمر بينه وبينهم حتى تباعد الرجال وتضاغنوا وأكثرت قريش من ذكر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بينها فتذامروا فيه وحض بعضهم بعضا عليه.
ثم إنهم مشوا إلى أبي طالب مرة أخرى فقالوا له: يا أبا طالب إن لك سنا وإن لك شرفا ومنزلة فينا، وإنا قد استنهيناك من ابن أخيك فلم تنهه عنا، وإنا والله لا نصبر على هذا من شتم آبائنا وتسفيه أحلامنا وعيب آلهتنا حتى تكفه عنا أو ننازله وإياك في ذلك حتى يهلك أحد الفريقين، أو كما قالوا له، ثم انصرفوا عنه.
وفي ذلك الموقف خاطب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عمه بقوله: (يا عم والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في شمالي على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه ما تركته)، ثم استعبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
فلما ولى ناداه أبو طالب، فقال: اذهب يا ابن أخي فقل ما أحببت، فوالله لا أسلمك لشئ أبدا، ثم قال أبو طالب:
والله لن يصلوا إليك بجمعهم حتى أوسد في التراب دفينا
فامضي لأمرك ما عليك غضاضة وابشر وقر بذاك منك عيونا
ودعوتني وزعمت أنك ناصحي فلقد صدقت وكنت ثم أمينا
تصوروا شدة هذا الموقف على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مع أن أبا طالب كان بمثابة أبيه، فقد تربى في بيته، وكفله في صغره بعد موت جده.. لو أن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن له من الثبات والصدق ما له، هل سيترك عمه يعاني كل ذلك العناء؟
ليس ذلك فقط.. فلم تيأس قريش من تأليبب أهله عليه.
قال ابن إسحاق: ثم إن قريشا حين عرفوا أن أبا طالب قد أبى خذلان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وإسلامه، وإجماعه لفراقهم في ذلك وعداوتهم مشوا إليه بعمارة بن الوليد بن المغيرة فقالوا له: يا أبا طالب هذا عمارة بن الوليد أنهد فتى في قريش وأجمله، فخذه فلك عقله ونصره واتخذه ولدا فهو لك، وأسلم إلينا ابن أخيك هذا الذي قد خالف ديننا ودين آبائك وفرق جماعة من قومك وسفه أحلامهم فنقتله، فإنما هو رجل برجل.
قال: والله لبئس ما تسومونني! أتعطوني ابنكم أغذوه لكم وأعطيكم ابني تقتلونه! هذا والله ما لا يكون أبدا، أرأيتم ناقة تحن إلى غير فصيلها؟ فقال المطعم بن عدي بن نوفل: والله يا أبا طالب لقد أنصفك قومك وجهدوا على التخلص مما تكره، فما أراك تريد أن تقبل منهم شيئا.
فقال أبو طالب للمطعم: والله ما أنصفوني ولكنك قد أجمعت خذلاني ومظاهرة القوم علي، فاصنع ما بدا لك ـ أو كما قال ـ فحقب الأمر وحميت الحرب وتنابذ القوم وبادى بعضهم بعضا.
لم يكتف أعداء محمد صلى الله عليه وآله وسلم بتأليب أهله عليه، بل راحوا يمارسون كل أساليب الضغط على أصحابه، فيعذبونهم ويؤذونهم بكل ما سولت لهم شياطينهم من أنواع الأذى ليحطوا من عزيمته، ويدكوا جبل ثباته.
عن سعيد بن جبير قال: قلت لابن عباس: أكان المشركون يبلغون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما يعذرون به في ترك دينهم؟ قال: نعم، والله إن كانوا ليضربون أحدهم ويجيعونه ويعطشونه حتى ما يقدر يستوي جالسا من شدة الضر الذي نزل به حتى يقولوا له: اللات والعزى إلهك من دون الله؟ فيقول: نعم حتى إن الجعل ليمر بهم، فيقولون له: هذا الجعل إلهك من دون الله فيقول: نعم افتداء مما يبلغون من جهدهم.
وكان أبو جهل الخبيث هو الذي يغري بهم رجال قريش، إذا سمع بالرجل أسلم له شرف ومنعة أنبه وأخزاه، فقال: تركت دين أبيك وهو خير منك، لنفسهن حلمك ولنفيلن رأيك ولنضعن شرفك.
وإن كان تاجرا قال: والله لنكسدن تجارتك ولنهلكن مالك.
وإن كان ضعيفا ضربه وأغرى به ([7]).
وقد حفظ لنا التاريخ الكثير من الأسماء التي تعتبر أمثلة سامية للثبات:
فمن المستضعفين بلال الذي كان صادق الإسلام طاهر القلب، فقد كان سيده أمية بن خلف يخرجه إذا حميت الظهيرة، فيطرحه على ظهره في بطحاء مكة، ثم يأمر بالصخرة العظيمة، فتوضع على صدره، ثم يقول له: لا تزال هكذا حتى تموت، أو تكفر بمحمد، وتعبد اللات والعزي، فيقول وهو في ذلك البلاء: أحد أحد، أنا كافر باللات والعزى.
وقد وصف بعض المعاصرين مشهدا من مشاهد تعذيبه، فقال: مررت ببلال وهو يعذب في الرمضاء، ولو أن بضعة لحم وضعت عليه لنضجت، وهو يقول: أنا كافر باللات والعزى، وأمية مغتاط عليه، فيزيده عذابا، فيقبل عليه فيدغت في حلقه فيغشى عليه ثم يفيق([8]).
ويذكر آخر مشهدا آخر من مشاهد العذاب، فيقول: حججت فرأيت بلالا في حبل طويل يمده الصبيان، وهو يقول: أحد أحد، أنا أكفر باللات والعزى وهبل ونائلة وبوانة، فأضجعه أمية في الرمضاء([9]).
وقال آخر: جعلوا في عنق بلال حبلا، وأمروا صبيانهم أن يشتدوا به بين أخشبي مكة ـ يعني جبليها ـ ففعلوا ذلك وهو يقول: أحد أحد([10]).
وقال آخر: كان بلال إذا اشتد عليه العذاب قال: أحد أحد، فيقولون له: قل كما نقول فيقول: إن لساني لا ينطق به ولا يحسنه ([11]).
وقد ذكر بلال بعض العذاب الذي صب عليه، فقال: أعطشوني يوما وليلة، ثم أخرجوني فعذبوني في الرمضاء في يوم حار([12]).
وكان ورقة بن نوفل يمر ببلال وهو يعذب، وهو يقول: أحد أحد، فيقول ورقة: أحد أحد، والله يا بلال.
ثم يقبل على أمية بن خلف ومن يصنع ذلك به من بني جمح، فيقول: أحلف بالله لئن قتلتموه لأتخذنه حنانا.
ومنهم خباب بن الأرت، وكان من الثابتين في البلاء، وقد ذكر بعض المعاصرين له ذلك، فقال: أعطوهم ما أرادوا حين عذبوا إلا خباب بن الأرت، فجعلوا يلصقون ظهره بالأرض على الرضف حتى ذهب ماء متنه([13]).
وقد حدث عن بعض ما أصابه، فقال: (لقد رأيتني يوما وقد أوقدوا لي نارا، ثم سلقوني فيها، ثم وضع رجل رجله على صدري، فما اتقيت الأرض إلا بظهري)، ثم كشف خباب عن ظهره، فإذا هو قد برص([14]).
وذكره بعضهم، فقال: كان خباب قينا وكان قد أسلم، فكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يألفه ويأتيه، فأخبرت بذلك مولاته، فكانت تأخذ الحديدة، وقد أحمتها فتضعها على رأسه، فشكى ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: اللهم انصر خبابا، فاشتكت مولاته رأسها، وهي أم أنمار، فكانت تعوي مع الكلاب، فقيل لها اكتوي، فكان خباب يأخذ الحديدة قد أحماها فيكوي بها رأسها([15]).
ومنهم عمار بن ياسر وأبوه وأمه سمية وأخوه عبد الله، فعن أم هانئ أن عمار بن ياسر وأباه ياسرا وأخاه عبد الله ابن ياسر وسمية بن عمار كانوا يعذبون في الله فمر بهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: صبرا آل ياسر فإن موعدكم الجنة.
فمات ياسر في العذاب وأغلظت سمية لأبي جهل، فطعنها في قلبها فماتت، ورمي عبد الله فسقط([16]).
ومنهم جارية بني المؤمل بن حبيب، وكان يقال لها لبيبة، أسلمت قبل إسلام عمر، فكان عمر يعذبها حتى يفتر، فيدعها، ثم يقول: أما إني أعتذر إليك بأني لم أدعك إلا سآمة، فتقول: كذلك يعذبك ربك إن لم تسلم([17]).
وعن حسان قال: قدمت مكة معتمرا والنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه يؤذون ويعذبون، فوقفت على عمر، وهو متوزر يخنق جارية بني عمرو بن المؤمل حتى تسترخي في يديه، فأقول قد ماتت([18]).
ومنهم زنيرة الرومية، كان عمر بن الخطاب وأبو جهل يعذبانها، وكان أبو جهل يقول: ألا تعجبون لهؤلاء واتباعهم محمدا؟ فلو كان ما أتى به محمد خيرا وحقا ما سبقونا إليه، أفسبقتنا زنيرة إلى رشد وهي من ترون.
وكانت زنيرة قد عذبت حتى عميت، فقال لها أبو جهل: إن اللات والعزى فعلتا بك ما ترين، فقالت، وهي لا تبصر: وما تدري اللات والعزى من يعبدهما، ولكن هذا أمر من السماء، وربي قادر على أن يرد بصري.
فأصبحت تلك الليلة وقد رد الله بصرها، فقالت قريش: هذا من سحر محمد ([19]).
ومنهم أم عنيس هي أمة لبنى زهرة، وكان الأسود بن عبد يغوث يعذبها.
ومنهم النهدية وابنتها، وكنت مولدة لبني نهد بن زيد، فصارت لامرأة من بني عبد الدار، فكانت تعذبهما وتقول: والله لا أقلعت عنكما أو يعتقكما بعض من صبأ بكما ([20]).
ومنهم أم بلال حمامة، فقد كانت يمن كان يعذب في الله ([21]).
وغيرها كثير..
هل يمكن لمدع كاذب أن يرى كل ذلك، وهو في رحمة محمد ورقته وحسن خلقه، يترك أصحابه لذلك الحال، ثم لا يتراجع قيد أنملة عن مبادئه.
لقد ذكر خباب كيف شكا لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما يصيبهم من أنواع البلاء، وإجابة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم له، وهي تدل بحد ذاتها على الصدق العظيم الذي كان يحمله قلب محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
قال خباب: أتيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهو متوسد برده في ظل الكعبة، ولقد لقينا من المشركين شدة شديدة، فقلت: يا رسول الله ألا تدعو الله لنا؟ فقعد محمرا وجهه فقال: إن كان من كان قبلكم ليمشط أحدهم بأمشاط الحديد ما دون عظمه من لحم وعصب ما يصرفه ذلك عن دينه، ويوضع المنشار على مفرق رأس أحدهم، فيشق باثنتين ما يصرفه ذلك عن دينه، وليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضر موت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه([22]).
بهذا أجاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المستضعفين الذين علمهم القرآن الكريم أن يضحوا بكل شيء في سبيل الله، لقد ذكر الله تعالى لهم قصة أصحاب لأخدود، فقال تعالى:{ وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ (1) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (2) وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (3) قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ (4) النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ (5) إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ (6) وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7) وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (9) إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ (10)}(البروج)
ولم يكن للمستضعفين في ذلك الوقت من أنيس غير القرآن الكريم، وحقائق القرآن الكريم التي كانت أعظم مثبت لهم، وقد ذكر الله تعالى غاية نزول القرآن منجما، فقال تعالى:{ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً} (الفرقان:32)
ولما اشتد الأذى بأصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم أمرهم بالهجرة إلى الحبشة، ولم تدعهم قريش يهاجرون بدينهم، بل تعقبتهم تحاول استئصالهم، فاختاروا رجلين جلدين لبيبين، وهما: عمرو بن العاص، وعبد الله بن أبي ربيعة ـ قبل أن يسلما ـ وأرسلوا معهما الهدايا المستطرفة للنجاشي ولبطارقته، وبعد أن ساق الرجلان تلك الهدايا إلى البطارقة، وزوداهم بالحجج التي يطرد بها أولئك المسلمون، وبعد أن اتفقت البطارقة أن يشيروا على النجاشي بإقصائهم، حضرا إلى النجاشي، وقدما له الهديا ثم كلماه فقالا له: أيها الملك، إنه قد ضَوَى إلى بلدك غلمان سفهاء، فارقوا دين قومهم، ولم يدخلوا في دينك، وجاءوا بدين ابتدعوه، لا نعرفه نحن ولا أنت، وقد بعثنا إليك فيهم أشراف قومهم من آبائهم وأعمامهم وعشائرهم؛ لتردهم إليهم، فهم أعلى بهم عينًا، وأعلم بما عابوا عليهم، وعاتبوهم فيه.
وقالت البطارقة: صدقا أيها الملك، فأسلمهم إليهما، فليرداهم إلى قومهم وبلادهم.
ولكن رأي النجاشي أنه لا بد من تمحيص القضية، وسماع أطرافها جميعًا. فأرسل إلى المسلمين، ودعاهم، فحضروا، وكانوا قد أجمعوا على الصدق كائنًا ما كان. فقال لهم النجاشي: ما هذا الدين الذي فارقتم فيه قومكم، ولم تدخلوا به في دينى ولا دين أحد من هذه الملل؟
قال جعفر بن أبي طالب ـ وكان هو المتكلم عن المسلمين ـ : أيها الملك كنا قومًا أهل جاهلية؛ نعبد الأصنام ونأكل الميتة، ونأتى الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسىء الجوار، ويأكل منا القوى الضعيف، فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولًا منا، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم،وقذف المحصنات،وأمرنا أن نعبد الله وحده،لا نشرك به شيئًا،وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام ـ فعدد عليه أمور الإسلام ـ فصدقناه، وآمنا به، واتبعناه على ما جاءنا به من دين الله، فعبدنا الله وحده، فلم نشرك به شيئًا، وحرمنا ما حرم علينا، وأحللنا ما أحل لنا، فعدا علينا قومنا، فعذبونا وفتنونا عن ديننا؛ ليردونا إلى عبادة الأوثان من عبادة الله تعالى، وأن نستحل ما كنا نستحل من الخبائث، فلما قهرونا وظلمونا وضيقوا علينا، وحالوا بيننا وبين ديننا خرجنا إلى بلادك، واخترناك على من سواك، ورغبنا في جوارك، ورجونا ألا نظلم عندك أيها الملك.
فقال له النجاشي: هل معك مما جاء به عن الله من شيء؟ فقال له جعفر: نعم. فقال له النجاشي: فاقرأه على، فقرأ عليه صدرًا من سورة مريم، وهي تذكر قصة ميلاد المسيح، فبكى النجاشي حتى اخضلت لحيته، وبكت أساقفته حتى أخْضَلُوا مصاحفهم حين سمعوا ما تلا عليهم، ثم قال لهم النجاشي: إن هذا والذي جاء به عيسى ليخرج من مشكاة واحدة، انطلقا، فلا والله لا أسلمهم إليكما، ولا يكادون ـ يخاطب عمرو بن العاص وصاحبه ـ فخرجا.
فلما خرجا قال عمرو بن العاص لعبد الله بن أبي ربيعة: والله لآتينه غدًا عنهم بما أستأصل به خضراءهم. فقال له عبد الله بن أبي ربيعة: لا تفعل، فإن لهم أرحامًا وإن كانوا قد خالفونا، ولكن أصر عمرو على رأيه.
فلما كان الغد قال للنجاشي: أيها الملك، إنهم يقولون في عيسى ابن مريم قولًا عظيمًا، فأرسل إليهم النجاشي يسألهم عن قولهم في المسيح ففزعوا، ولكن أجمعوا على الصدق، كائنًا ما كان، فلما دخلوا عليه وسألهم، قال له جعفر: نقول فيه الذي جاءنا به نبينا صلى الله عليه وآله وسلم : هو عبد الله ورسوله وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البَتُول.
فأخذ النجاشي عودًا من الأرض ثم قال: والله ما عدا عيسى ابن مريم ما قلت هذا العود، فتناخرت بطارقته، فقال: وإن نَخَرْتُم والله.
ثم قال للمسلمين: اذهبوا فأنتم شُيُومٌ بأرضي ـ والشيوم: الآمنون بلسان الحبشة ـ من سَبَّكم غَرِم، من سبكم غرم، من سبكم غرم، ما أحب أن لى دَبْرًا من ذهب وإني آذيت رجلًا منكم ـ والدبر: الجبل بلسان الحبشة.
ثم قال لحاشيته: ردّوا عليهما هداياهما فلا حاجة لى بها، فوالله ما أخذ الله منـي الرشـوة حين رد علي ملكي، فآخذ الرشـوة فيــه، وما أطاع الناس في فأطيعـهم فيه.
قالت أم سلمة التي تروى هذه القصة: فخرجا من عنده مقبوحين مردودًا عليهما ما جاءا به، وأقمنا عنده بخير دار مع خير جار.
ولما أخفق المشركون في مكيدتهم، وفشلوا في استرداد المهاجرين استشاطوا غضبًا، وكادوا يتميزون غيظًا، فاشتدت ضراوتهم وانقضوا على بقية المسلمين، ومدوا أيديهم إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالسوء، وظهرت منهم تصرفات تدل على أنهم أرادوا القضاء على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ؛ ليستأصلوا جذور الفتنة التي أقضت مضاجعهم، حسب زعمهم.
أما بالنسبة للمسلمين فإن الباقين منهم في مكة كانوا قليلين جدًا، وكانوا إما ذوى شرف ومنعة، أو محتمين بجوار أحد، ومع ذلك كانوا يخفون إسلامهم ويبتعدون عن أعين الطغاة بقدر الإمكان، ولكنهم مع هذه الحيطة والحذر لم يسلموا كل السلامة من الأذى والخسف والجور ([23]).
عندما رأى أعداء محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن البلاء الذي يعرضونه له لم يزده إلا ثباتا اختاروا أسلوبا جديدا من الأساليب التي لا يزال الطغاة يمارسونها.
إنه أسلوب التجويع الذي تعرفونه، والذي ـ ربما ـ يكون قد مورس عليكم.
قال رجل منهم: أجل.. بل نحن لا نقاد أفرادا أو شعوبا إلا منه.. بل إن كرامتنا تهدر فنقف صامتين بسببه.
عبد القادر: ولكن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم لم يلن، ولم يضعف، ولم يتزلزل أمام ذلك الحصار الذي مورس عليه، وعلى المقربين إليه، وسأحدثكم بقصة ذلك.
لقد ورد بأسانيد مختلفة أن كفار قريش أجمعوا أمرهم على قتل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكلموا فى ذلك بنى هاشم وبنى المطلب، ولكنهم أبوا تسليمه صلى الله عليه وآله وسلم.
فلما عجزت قريش عن قتله أجمعوا على منابذته ومنابذة من معه من المسلمين ومن يحميه من بنى هاشم وبنى المطلب، فكتبوا بذلك كتاباً تعاقدوا فيه على ألا يناكحوهم ولا يبايعوهم، ولا يدعوا سبباً من أسباب الرزق يصل إليهم، ولا يقبلوا منهم صلحاً، ولا تأخذهم بهم رأفة، حتى يسلم بنو عبد المطلب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للقتل، وعلقوا الكتاب فى جوف الكعبة.
والتزم كفار قريش بهذا الكتاب ثلاث سنوات، بدءاً من محرم سنة سبع من البعثة الى السنة العاشرة منها([24]).
في هذه المدة حوصر بنو هاشم وبنو المطلب ومعهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فى شعب بنى المطلب، وقد كانت شعاب مكة متفرقة.
في تلك السنوات جهد النبى صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمون جهداً شديداً، واشتد عليهم البلاء، حتى كانوا يأكلون الخبط وورق الشجر.
وكانوا إذا قدمت العير مكة، يأتى أحد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى السوق ليشترى شيئا من الطعام يقتاته لأهله، فيقوم أبو لهب فيقول: يا معشر التجار غالوا على أصحاب محمد حتى لا يدركوا شيئاً معكم، فيزيدون عليهم فى السلعة قيمتها أضعافا حتى يرجع الى أطفاله، وهم يتضاغون من الجوع، وليس فى يده شىء يعللهم به.
ولكن الله قدر لهذا الحصار الظالم أن ينقضي.. ولذلك الانقضاء قصة لها علاقة بآية من آيات النبوة.
بعد ثلاث سنوات من بدء هذا الحصار، تلاوم قوم من بنى قصى، فأجمعوا أمرهم على نقض ما تعاهدوا عليه، وأرسل الله على صحيفتهم التى كتب فيها نص المعاهدة الأرضة فأتت على معظم ما فيها من ميثاق وعهد، ولم يسلم من ذلك إلا الكلمات التى فيها ذكر الله عز وجل.
وقد أخبر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم عمه أبا طالب بذلك، فقال له أبو طالب: أربك أخبرك بذلك؟ قال: نعم، فمضى فى عصابة من قومه الى قريش، فطلب منهم أن يأتوه بالصحيفة موهماً إياهم أنه نازل عند شروطهم، فجاءوا بها وهى مطوية، فقال أبو طالب: إن ابن أخى قد أخبرنى ولم يكذبنى قط، أن الله تعالى قد سلط على صحيفتكم التى كتبتم الأرضة، فأتت على كل ما كان فيها من جور وقطيعة رحم، فإن كان الحديث كما يقول، فأفيقوا وارجعوا عن سوء رأيكم، فوالله لا نسلمه حتى نموت من عند آخرنا، وإن كان الذى يقول باطلا دفعنا إليكم صاحبنا، ففعلتم به ما تشاءون، فقالوا: قد رضينا بالذى تقول.
ففتحوا الصحيفة، فوجدوا الأمر كما أخبر الصادق المصدوق صلى الله عليه وآله وسلم فقالوا: هذا سحر ابن أخيك، وزادهم ذلك بغياً وعدواناً.
ثم إن خمسة من رؤساء المشركين من قريش، مشوا فى نقض الصحيفة، وإنهاء هذا الحصار، وهم: هشام ابن عمرابن الحارث، وزهير ابن أمية، والمطعم ابن عدى، وأبو البخترى ابن هشام، وزمعة ابن الأسود.
وكان أول من سعى الى نقضها بصريح الدعوة زهير بن أمية، الذي أقبل على الناس عند الكعبة فقال: يا أهل مكة، أنأكل الطعام ونلبس الثياب وبنو هاشم والمطلب هلكى لا يباعون ولا يبتاع منهم؟ والله لا أقعد حتى تشق هذه الصحيفة القاطعة الظالمة، ثم قال بقية الخمسة نحواً من هذا الكلام، ثم قام المطعم ابن عدى الى الصحيفة فمزقها، ثم انطلق هؤلاء الخمسة ومعهم جماعة، الى بنى هاشم وبنى المطلب ومن معهم من المسلمين فأمروهم بالخروج إلى مساكنهم.
لم يكتف أعداء محمد صلى الله عليه وآله وسلم بكل ذلك، بل كانوا منذ بدء الدعوة يستعملون كل ما تملي عليهم شياطينهم من أساليب الإذية النفسية، حيث وصفوه بالجنون والسحر، وإنشاء الشعر مع إيمانهم وتيقنهم بأنه صلى الله عليه وآله وسلم بريء من كل ذلك.
وقد ذكر الله تعالى في القرآن الكريم بعض أقاويلهم:
ومنها رميهم له بالجنون، كما قال تعالى حاكيًا عنهم:{ وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ} (الحجر:6)، وقال تعالى:{ وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ} (القلم:51)
وهو نفس ما رمي به غير رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الأنبياء، كما قال تعالى:{ قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ} (الشعراء:27)، وقال تعالى:{ فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ} (الذريات:39)، وقال تعالى:{ كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ} (الذريات:52)، وقال تعالى:{ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ} (القمر:9)
ومنها رميهم له بالسحر، كما قال تعالى:{ أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ} (يونس:2)، وقال تعالى:{ وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ} (صّ:4)
وهو نفس ما رمي به غير رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الأنبياء، كما قال تعالى:{ قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ} (لأعراف:109)، وقال تعالى:{ قَالَ مُوسَى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ} (يونس:77)، وقال تعالى:{ قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى} (طـه:63)
ومنها رميهم له بالشعر، مع علمهم بأن القرآن الكريم ليس له أوزان الشعر ولا طريقته قال تعالى:{ بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ} (الانبياء:5)، وقال تعالى:{ وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ} (الصافات:36)، وقال تعالى:{ أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ} (الطور:30)، وقال تعالى:{ وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَا تُؤْمِنُونَ} (الحاقة:41)
ومنها رميهم له بالكهانة، كما قال تعالى:{ فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ} (الطور:29)، وقال تعالى:{ وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} (الحاقة:42)
ومنها احتقاره ورؤية قصوره عن هذه المرتبة الرفيعة، كما قال تعالى:{ وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} (الزخرف:31)
وغيرها من أصناف الافتراءات التي ووجه بها سائر الأنبياء ـ عليهم السلام ـ
وقد حدث ابن عباس عن بعض تلك الافتراءات التي قوبل بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في مكة المكرمة، فذكر أن الوليد بن المغيرة جاء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقرأ عليه القرآن، فكأنه رق له فبلغ ذلك أبا جهل فأتاه فقال: يا عم إن قومك يرون أن يجمعوا لك مالاً، فقال: لم؟ قال: ليعطوكه، وإنك آتيت محمدًا لتعرض لما قبله قال: قد علمت قريش أنّي من أكثرها مالاً، قال: فقل فيه قولاً يبلغ قومك إنك منكر له أو إنّك كاره له. قال: وماذا أقول؟، فوالله ما فيكم رجل أعلم بالأشعار منّي ولا أعلم برجز ولا بقصيدة منّي ولا بأشعار الجن والله ما يشبه الذي يقول شيئًا من هذا والله إنّ قوله الذي يقول لحلاوة وإنّ عليه لطلاوة، وإنه لمثمر أعلاه مغدق أسفله، وإنه ليعلوا وما يعلى وإنه ليحطم ما تحته، قال: لا يرضى عنك قومك حتى تقول فيه. قال: فدعني حتى أفكر، ففكر، فلمّا فكر قال: هذا سحر يؤثره عن غيره، فنزلت:{ ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا } (المدثر:11)([25])
ومن ذلك ما قوبل به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من معاملة سيئة في الطائف عندما ذهب إلى أهلها يعرض عليهم الإسلام، وقد حدث علماء السيرة بأسانيدهم عن ذلك، فذكروا أنه لما مات أبو طالب ونالت قريش من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما لم تكن تنال منه في حياته خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى الطائف ماشيا، وكان زيد بن حارثة معه، في ليال من شوال سنة عشر، يلتمس النصر من ثقيف والمنعة بهم من قومه، ورجا أن يقبلوا منه ما جاءهم به من الله تعالى.
فلما انتهى إلى الطائف عمد إلى نفر من ثقيف هم يومئذ سادة ثقيف وأشرافهم وهم إخوة ثلاثة عبد ياليل ومسعود وحبيب بنو عمرو بن عمير بن عوف، وعند أحدهم امرأة من قريش من بني جمح، وهي صفية بنت معمر بن حبيب بن قدامة بن جمح، وهي أم صفوان بن أمية.
فجلس إليهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكلمهم بما جاء به من نصرته على الإسلام والقيام على من خالفه من قومه.
فقال له أحدهم: هو يمرط ثياب الكعبة إن كان الله أرسلك.
وقال الآخر: أما وجد الله أحدا يرسله غيرك.
وقال الثالث: والله لا أكلمك أبدا، لئن كنت رسولا من الله كما تقول لأنت أعظم خطرا من أن أرد عليك الكلام، ولئن كنت تكذب على الله ما ينبغي لي أن أكلمك.
فقام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من عندهم وقد يئس من خير ثقيف، وقد قال لهم: إذ فعلتم فاكتموا علي، وكره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يبلغ قومه.
فأقام بالطائف عشرة أيام وقيل شهرا لا يدع أحدا من أشرافهم إلا جاء إليه وكلمه، فلم يجيبوه وخافوا على أحداثهم منه فقالوا: يا محمد اخرج من بلدنا.
ولم يكتفوا بكل ذلك.. بل ضموا إلى هذه الإذية النفسية الشديدة الإذية الجسدية، فقد أغروا به سفهاءهم وعبيدهم يسبونه ويصيحون به حتى اجتمع عليه الناس.
قال ابن عقبة: وقفوا له صفين على طريقه، فلما مر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين الصفين جعل لا يرفع رجليه ولا يضعهما إلا رضخوهما بالحجارة حتى أدموا رجليه.
وكان صلى الله عليه وآله وسلم إذا أذلقته الحجارة يقعد إلى الأرض، فيأخذون بعضديه ويقيمونه فإذا مشى رجموه بالحجارة وهم يضحكون.
قال ابن سعد: وزيد بن حارثة يقيه بنفسه حتى لقد شج في رأسه شجاجا.
قال ابن عقبة: فخلص منهم ورجلاه تسيلان دما فعمد إلى حائط من حوائطهم، فاستظل في ظل حبلة منه وهو مكروب موجع وإذا في الحائط عتبة وشيبة ابنا ربيعة، فلما رآهما كره مكانهما لما يعلم من عداوتهما لله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم.
فما أتى ظل شجرة صلى ركعتين ثم قال: (اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس يا أرحم الراحمين أنت رب المستضعفين وأنت ربي إلى من تكلني إلى بعيد يتجهمني أو إلى عدو ملكته أمري إن لم يكن بك علي غضب فلا أبال ولكن عافيتك هي أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن تنزل بي غضبك أو تحل علي سخطك لك العتبى حتى ترضى ولا حول ولا قوة إلا بك)
فلما رآه ابنا ربيعة وما لقي تحركت له رحمهما، فدعوا غلاما لهما يقال له عداس فقالا له: خذ له هذا القطف من هذا العنب فضعه في هذا الطبق ثم اذهب به إلى ذلك الرجل فقل له يأكل منه.
ففعل عداس ثم أقبل به حتى وضعه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثم قال له: كل، فلما وضع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يده قال بسم الله، ثم أكل فنظر عداس في وجهه ثم قال: والله إن هذا الكلام ما يقوله أهل هذه البلاد.
فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (ومن أي البلاد أنت يا عداس وما دينك؟)، قال: نصراني وأنا من أهل نينوى.
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من قرية الرجل الصالح يونس بن متى.
قال له عداس: وما يدريك ما يونس بن متى؟ والله لقد خرجت منها ـ يعني من أهل نينوى ـ وما فيها عشرة يعرفون ما يونس بن متى، فمن أين عرفت أنت يونس بن متى، وأنت أمي وفي أمة أمية، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (ذاك أخي كان نبيا وأنا نبي)
فأكب عداس على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقبل رأسه ويديه وقدميه، فقال ابنا ربيعة أحدهما لصاحبه: أما غلامك فقد أفسده عليك.
فلما جاءهما عداس قالا له: ويلك ما لك تقبل رأس هذا الرجل ويديه وقدميه؟ قال: يا سيدي ما في الأرض خير من هذا الرجل، لقد أعلمني بأمر لا يعلمه إلا نبي.
قال: ويحك يا عداس لا يصرفنك عن دينك، فإن دينك خير من دينه.
فانصرف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عنهم، وهو محزون لم يستجب له رجل واحد ولا امرأة([26]).
وذكر خالد العدواني أنه أبصر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في سوق ثقيف وهو قائم على قوس أو عصا حين أتاهم يبتغي عندهم النصر فسمعته يقرأ:{ وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ} (الطارق:1) حتى ختمها، قال فوعيتها في الجاهلية وأنا مشرك، ثم قرأتها في الإسلام.
قال فدعتني ثقيف فقالوا: ماذا سمعت من هذا الرجل فقرأتها عليهم، فقال من معهم من قريش: نحن أعلم بصاحبنا ولو كنا نعلم ما يقوله حقا لاتبعناه([27]).
وفي ذلك الموقف الشديد عرضت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نصرة الله بهلاك الذين يؤذونه، ولكنه أبى رحمة بهم، فقد روي في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: جاءني جبريل فقال: يا محمد إن ربك يقرئك السلام، وهذا ملك الجبال قد أرسله وأمره ألا يفعل شيئا إلا بأمرك.
فقال له ملك الجبال: إن شئت رمهت عليهم الجبال، وإن شئت خسفت بهم الأرض فقال: يا ملك الجبال: فإني آتى بهم لعلهم أن يخرج منهم ذرية يقولون لا إله إلا الله، فقال ملك الجبال: أنت كما سماك ربك رؤوف رحيم)([28])
ولم يقتصر الإيذاء على الفترة المكية التي كان المسلمون فيها مستضعفين، بل تعداه إلى الفترة المدنية بعد هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، بل امتد إلى آخر حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ففي غزوة تبوك التي حل بالمسلمين فيها من النصب والتعب والجوع والعطش الشئ الكثير، استهزأ برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من استهزأ، فنزل الوحي يعلن كفر هؤلاء المستهزئين، قال تعالى:{ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} (التوبة:65)
وقد ورد في سبب نزولها أن رجلا من المنافقين قال: ما أرى قراؤنا هؤلاء إلا أرغبنا بطوناً، وأكذبنا ألسنة، وأجبننا عن اللقاء، فرفع ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقد ارتحل وركب ناقته فقال: يارسول الله ؛ إنما كنا نخوض ونلعب فقال:{ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ }(التوبة: 65-66)
وروي أنه بينما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في غزوة تبوك وبين يديه ناس من المنافقين إذ قالوا: أيرجو هذا الرجل أن يفتح قصور الشام وحصونها؟ هيهات هيهات له ذلك، فأطلع الله نبيه على ذلك، فقال نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم: (احبسوا علىَّ الركب)، فأتاهم فقال: (قلتم كذا وكذا)، فقالوا: يارسول الله إنما كنا نخوض ونلعب، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
ومن صور الاستهزاء ماحدث في الطريق إلى تبوك حيث ضلت ناقة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، فقال زيد بن اللُّصيت ـ وكان منافقاً ـ: أليس يزعم أنه نبي، ويخبركم عن خبر السماء وهو لا يدري أين ناقته؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن رجلاً يقول وذكر مقالته، وإني والله لا أعلم إلا ماعلمني الله، وقد دلني الله عليها، هي في الوادي في شِعْب كذا وكذا، وقد حبستها شجرة بزمامها، فانطلقوا حتى تأتوني بها فذهبوا فأتوه بها.
وقد ذكر القرآن الكريم بعض ما تعرض له صلى الله عليه وآله وسلم من أنواع الأذى النفسي في تلك الفترة، فقال:{ وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (التوبة:61)
ومع أن الغلبة كانت للمسلمين إلا أن الله تعالى أمر المؤمنين بأن يقابلوا تلك الأنواع من الأذى بالتحمل والصبر والعفو، قال تعالى:{ لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} (آل عمران:186)
وقال تعالى:{ وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (البقرة:109)
وقد حدث كعب بن مالك عن بعض ذلك، فقال: كان المشركون واليهود من أهل المدينة حين قدم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يؤذون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه أشد الاذى، فأمرهم الله تعالى بالصبر على ذلك والعفو عنهم([29]).
ولم يكتف أعداء محمد صلى الله عليه وآله وسلم بذلك أيضا، بل راحوا يؤذون جسده الشريف، ويحاولون قتله.
فمن ذلك محاولة قتله، إما بخنقه صلى الله عليه وآله وسلم كما فعل عقبة بن أبي معيط، فقد روي أنه: بينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصلي في حجر الكعبة إذ أقبل عقبة بن أبي معيط فأخذ بمنكب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فوضع ثوبه في عنقه، فخنقه خنقًا شديدًا ([30]) .
أو بإلقاء حجر عليه، كما حاول أبو جهل، فقد روي أنه قال لقريش: يا معشر قريش، إن محمدًا قد أبي إلا ما ترون من عيب ديننا، وشتم آبائنا، وتسفيه أحلامنا، وشتم آلهتنا، وأني أعاهد الله لأجلسن له بحجر ما أطيق حمله، فإذا سجد في صلاته فضخت به رأسه، فأسلمونى عند ذلك أو امنعونى، فليصنع بعد ذلك بنو عبد مناف ما بدا لهم، قالوا: والله لا نسلمك لشيء أبدًا، فامض لما تريد.
فلما أصبح أبو جهل، أخذ حجرًا كما وصف، ثم جلس لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ينتظره، وغدا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما كان يغدو، فقام يصلي، وقد غدت قريش فجلسوا في أنديتهم ينتظرون ما أبو جهل فاعل، فلما سجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم احتمل أبو جهل الحجر، ثم أقبل نحوه، حتى إذا دنا منه رجع منهزمًا ممتقعًا لونه، مرعوبًا قد يبست يداه على حجره، حتى قذف الحجر من يده، وقامت إليه رجال قريش فقالوا له: ما لك يا أبا الحكم؟ قال: قمت إليه لأفعل به ما قلت لكم البارحة، فلما دنوت منه عرض لى دونه فَحْلٌ من الإبل، لا والله ما رأيت مثل هَامَتِه، ولا مثل قَصَرَتِه ولا أنيابه لفحل قط، فَهَمَّ بى أن يأكلني.
قال ابن إسحاق: فذكر لي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (ذلك جبريل عليه السلام لو دنا لأخذه)
ومن الإيذاء الجسدي إلقاء القاذورات عليه صلى الله عليه وآله وسلم كما فعل عقبة بن معيط، ففي الحديث: بينـا النبي صلى الله عليه وآله وسلم ساجد وحوله ناس من قريش جاء عقبة ابن أبي معيط بسلا جزور فقذفه على ظهر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فلم يرفع رأسه فجاءت فاطمة عليها السلام فأخذته من ظهره ودعت على من صنع فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (اللهم عليك بالملأ من قريش أبا جهل بن هشام بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وأمية بن خلف أو أبي بن خلف)، فرأيتهم قتلوا يوم بدر فألقوا في بئر إلا أمية أو أبي، تقطعت أوصاله فلم يلق في البئر([31]).
ومن ذلك التآمر على قتله صلى الله عليه وآله وسلم، فعن ابن عباس أن الملأ من قريش اجتمعوا في الحجر، فتعاقدوا باللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى ونائلة وإساف لو قد رأينا محمدًا لقمنا إليه قيام رجل واحد، فلم نفارقه حتى نقتله، فأقبلت ابنته فاطمة تبكي حتى دخلت على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقالت: هؤلاء الملأ من قومك قد تعاقدوا عليك لو قد رأوك لقاموا إليك فقتلوك فليس منهم رجل إلا قد عرف نصيبه من دمك.
وقد أشار القرآن إلى تلك الحادثة بقوله تعالى:{ وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} (الأنفال:30)
وغير ذلك كثير..
نظر عبد القادر إلى الجموع المحدقة إليه، وقال: لم يكتف أعداء محمد صلى الله عليه وآله وسلم بما واجهوه به من فتنة الضراء، بل راحوا يواجهونه بفتنة أخطر وأعظم.. فتنة السراء.
ضحك مستأجر بولس ضحكا هستيريا، وقال: فتنة السراء.. وهل للسراء فتنة؟
عبد القادر: فتنة السراء أخطر من فتنة الضراء، ولهذا كان الثبات في السراء على المبادئ أصعب منه في الضراء، ولهذا قال من قال من الصحابة : (بلينا بفتنة الضراء فصبرنا، وبلينا بفتنة السراء فلم نصبر)
بل ورد في الحديث الشريف قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (لأنا في فتنة السراء لأخوف عليكم مني في فتنة الضراء، إنكم ابتليتم بفتنة الضراء فصبرتم، وإن الدنيا حلوة خضرة)([32])
وقد تعرض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لفتن كثيرة من فتن السراء:
منها ما تعرض له من أنواع المساومات..
فقد لجأت قريش لما فشلت مفاوضاتهم المبنية على الإغراء والترغيب، والتهديد والترهيب، وخابوا فيما أبدوه من الرعونة وقصد الفتك، رأوا أن يساوموه صلى الله عليه وآله وسلم في أمور الدين، ويلتقوا به في منتصف الطريق، فيتركوا بعض ما هم عليه، ويطالبوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم بترك بعض ما هو عليه، وظنوا أنهم بهذا الطريق سيصيبون الحق، إن كان ما يدعو إليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم حقًا.
ومن ذلك مساومته في أن يعبد إلههم سنة، ويعبدون إلهه سنة، وأن يسكت عن عيب آلهتهم وعبادتهم.
ولحسم هذه الشبهة، وقطع الطريق على المحاولة، والمفاصلة الحاسمة بين عبادة وعبادة، ومنهج ومنهج، وتصور وتصور، وطريق وطريق([33])، نزلت سورة الكافرون، التي تنص على المفاصلة التامة بين الإيمان والكفر، قال تعالى:{ قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ (4) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6)}(الكافرون)
فبهذا الجزم، وبهذا التوكيد، وبهذا التكرارن تأتي السورة لتنهي كل قول، وتقطع كل مساومة، وتفرق نهائياً بين التوحيد والشرك، وتقيم المعالم واضحة، لا تقبل المساومة والجدل في قليل ولا كثير:
وقد ورد في الحديث: اعترض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ـ وهو يطوف بالكعبة ـ الأسود بن المطلب بن أسد بن عبد العزى والوليد بن المغيرة وأمية بن خلف والعاص بن وائل السهمى ـ وكانوا ذوى أسنان في قومهم ـ فقالوا: يا محمد، هلم فلنعبد ما تعبد، وتعبد ما نعبد، فنشترك نحن وأنت في الأمر، فإن كان الذي تعبد خيرًا مما نعبد كنا قد أخذنا بحظنا منه، وإن كان ما نعبد خيرًا مما تعبد كنت قد أخذت بحظك منه، فأنزل الله تعالى فيهم { قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} السورة كلها.
وورد: أن قريشًا قالت: لو استلمت آلهتنا لعبدنا إلهك. فأنزل الله { قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ }([34]) السورة كلها.
وعنه أن قريشًا قالوا لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : تعبد آلهتنا سنة، ونعبد إلهك سنة،فأنزل الله:{ قُلْ أَفَغَيْرَ الله ِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ}(الزمر:64)([35])
ولما حسم الله تعالى هذه المفاوضة بهذه المفاصلة لم تيأس قريش، بل أبدوا مزيدًا من التنازل بشرط أن يجرى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعض التعديل فيما جاء به من التعليمات، فقالوا:{ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ} (يونس: 15)
فقطع الله هذا السبيل أيضًا بإنزال ما يرد به النبي صلى الله عليه وآله وسلم عليهم فقال:{ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} (يونس: 15)
ونبه إلى عظم خطورة هذا العمل بقوله:{ وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لاَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً إِذاً لَّأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا } (الإسراء:73 -75)
ومن ذلك مساومته على أن يطرد المستضعفين، ففي الحديث: مر الملأ من قريش على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعنده عمار، وبلال، وخباب، ونحوهم من ضعفاء المسلمين، فقالوا: يا محمد أرضيت بهؤلاء من قومك منّ الله عليهم من بيننا، أو نحن نكون تبعاً لهؤلاء؟ اطردهم عنك، فلعلك إن طردتهم أن نتبعك، فأنزل فيهم القرآن:{ وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (51) وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (52)}(الأنعام)([36])
وورد في الحديث: مشى عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وقرظة بن عبد، وغيرهم في أشراف الكفار من عبد مناف إلى أبي طالب فقالوا: لو أن ابن أخيك طرد عنا هؤلاء الأعبد، فإنهم عبيدنا وعسفاؤنا كان أعظم له في صدورنا، وأطوع له عندنا، وأدنى لاتباعنا إياه وتصديقه، فذكر ذلك أبو طالب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقال عمر: لو فعلت يا رسول الله حتى ننظر ما يريدون بقولهم، وما يصيرون إليه من أمرهم، فأنزل الله:{ وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (51) وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (52)}(الأنعام)([37])
وقد استمر هذا النوع من المساومة حتى بعد هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فعن عمر بن عبد الله أنه قال في أسطوان التوبة: كان أكثر نافلة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إليها، وكان إذا صلى الصبح انصرف إليها وقد سبق إليها الضعفاء، والمساكين، وأهل الضر، وضيفان النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤلفة قلوبهم، ومن لا مبيت له إلا المسجد، قال: وقد تحلقوا حولها حلقاً بعضها دون بعض فينصرف إليهم من مصلاه من الصبح، فيتلو عليهم ما أنزل الله عليه من ليلته، ويحدثهم ويحدثونه حتى إذا طلعت الشمس جاء أهل الطول والشرف والغني فلم يجدوا إليه مخلصاً، فتاقت أنفسهم إليه وتاقت نفسه إليهم، فأنزل الله تعالى:{ وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً} (الكهف:28) إلى منتهى الآيتين، فلما نزل ذلك فيهم قالوا: يا رسول الله لو طردتهم عنا ونكون نحن جلساءك وإخوانك لا نفارقك، فأنزل الله تعالى:{ وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ} (الأنعام:52) إلى منتهى الآيتين([38]).
ومن أنواع فتنة السراء التي تعرض لها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في تلك المواقف الشديدة التي مر بها في مكة المكرمة ما أغرته به قريش من أنواع المكاسب الدنيوية التي يسيل لها لعاب كثير من الناس.
فقد وردت الأسانيد الكثيرة بما اقترحت قريش من ذلك على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقد اجتمع نفر من قريش يوما فقالوا: انظروا أعلمكم بالسحر والكهانة والشعر فليأت هذا الرجل الذي فرق جماعتنا، وشتت أمرنا، وعاب ديننا، فليكلمه ولينظر ماذا يرد عليه.
فقالوا: ما نعلم أحدا غير عتبة بن ربيعة.
فقام عتبة حتى جلس إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: يا ابن أخي إنك منا حيث قد علمت من البسطة في العشيرة والمكان في النسب، وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم، فرقت به جماعتهم وسفهت أحلامهم وعبت آلهتهم ودينهم وكفرت من مضى من آبائهم، يا محمد أنت خير أم عبد الله؟ فسكت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: أنت خير أم عبد المطلب، فسكت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال: فإن كنت تزعم أن هؤلاء خير منك، فقد عبدوا الآلهة، وإن كنت تزعم أنك خير منهم فتكلم نسمع قولك، إنا والله ما رأينا سخلة قط أشأم على قومك منك، فرقت جماعتنا وأشتت أمرنا وعبت ديننا وفضحتنا في العرب، حتى طار فيهم أن في قريش ساحرا، وإن في قريش كاهنا، والله ما ننتظر إلا مثل صيحة الحبلى أن يقوم بعضنا بعضا إليك بالسيوف حتى نتفانى، أيها الرجل فاسمع مني أعرض عليك أمورا تنظر فيها لعلك تقبل منا بعضها.
فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: قل أبا الوليد أسمع.
قال: يا ابن أخي، إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالا جمعناه لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا، وإن كنت تريد به الشرف سودناك علينا حتى لا نقطع أمرا دونك، وإن كنت تريد ملكا ملكناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك رئيا لا تستطيع رده عن نفسك طلبنا لك الطلب وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرئكك منه، فإنه ربما غلب التابع على الرجل حتى يداوى منه.
حتى إذا فرغ عتبة ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يسمعه منه قال له: أقد فرغت أبا الوليد؟ قال: نعم، قال: فاسمع مني قال: أفعل.
فقرأ عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من أول سورة فصلت إلى قوله تعالى:{ فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} (فصلت:13)، فأمسك عتبة على فيه وناشده الرحم أن يكف عنه، ثم انتهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى السجدة منها فسجد ثم قال: قد سمعت أبا الوليد ما سمعت، فأنت وذاك، فقال: ما عندك غير هذا؟ فقال: ما عندي غير هذا.
فقام عتبة، ولم يعد إلى أصحابه واحتبس عنهم فقال أبو جهل: والله يا معشر قريش ما نرى عتبة إلا قد صبا إلى محمد وأعجبه طعامه، وما ذاك إلا من حاجة أصابته، فانطلقوا بنا إليه، فأتوه.
فقال أبو جهل: والله يا عتبة ما جئناك إلا أنك قد صبوت إلى محمد وأعجبك أمره فإن كان لك حاجة جمعنا لك من أموالنا ما يغنيك عن طعام محمد.
فغضب، وأقسم لا يكلم محمدا أبدا وقال: لقد علمتم أني من أكثر قريش مالا ولكني أتيته، فقص عليهم القصة.
قالوا: فما أجابك؟ قال: والله الذي نصبها بنية ما فهمت شيئا مما قال غير أنه أنذركم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود، فأمسكت بفيه وناشدته الرحم أن يكف، وقد علمتم أن محمدا إذا قال شيئا لم يكذب، فخفت أن ينزل عليكم العذاب.
قالوا: ويك يكلمك الرجل بالعربية لا تدرى ما قال؟ قال: والله ما سمعت مثله، والله ما هو بالشعر ولا بالسحر ولا بالكهانة، يا معشر قريش أطيعوني واجعلوها بي وخلوا بين الرجل وبين ما هو فيه، فاعتزلوه فو الله ليكونن لقوله الذي سمعت نبأ، فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم، وإن يظهر على العرب فملكه ملككم وعزه عزكم وكنتم أسعد الناس به، يا قوم أطيعوني في هذا الأمر واعصوني بعده، فو الله لقد سمعت من هذا الرجل كلاما ما سمعت أذناي كلاما مثله وما دريت ما أرد عليه.
قالوا: سحرك والله يا أبا الوليد.
قال: هذا رأيي فيه فاصنعوا ما بدا لكم([39]).
وفي حديث آخر: أن أشراف قريش من كل قبيلة اجتمعوا عند غروب الشمس عند ظهر الكعبة، ثم قال بعضهم لبعض: ابعثوا إلى محمد فكلموه وخاصموه حتى تعذروا فيه.
فبعثوا إليه فجاءهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سريعا، وهو يظن أن قد بدا لهم فيما يكلمهم فيه بداء، وكان حريصا عليهم يحب رشدهم ويعز عليه عنتهم، حتى جلس إليهم فقالوا: يا محمد إنا قد بعثنا إليك لنكلمك، وإنا والله ما نعلم رجلا من العرب أدخل على قومه ما أدخلت على قومك، لقد شتمت الآباء وعبت الدين وشتمت الآلهة وسفهت الأحلام، وفرقت الجماعة، فما بقي أمر قبيح إلا قد جئته فيما بيننا وبينك، فإن كنا إنما جئت بهذا الحديث تطلب به مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا وإن كنت إنما تريد به الشرف فينا فنحن نسودك علينا، وإن كنت تريد به ملكا ملكناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك رئيا تراه قد غلب عليك رئيا، فربما كان ذلك بذلنا أموالنا في طلب الطب لك حتى نبرئك منه أو نعذر فيك.
فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (ما بي ما تقولون، ما جئت به أطلب أموالكم ولا الشرف فيكم ولا الملك عليكم، ولكن الله تعالى بعثني إليكم رسولا وأنزل علي كتابا وأمرني أن أكون لكم بشيرا ونذيرا، فبلغتكم رسالات ربي ونصحت لكم، فإن تقبلوا مني ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وإن تردوه علي أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم)
قالوا: يا محمد إن كنت غير قابل منا شيئا مما عرضنا لك، فإنك قد علمت أنه ليس أحد أضيق بلدا ولا أقل مالا ولا أشد عيشا منا، فاسأل لنا ربك أنهارا كأنهار العراق والشام، وليبعث لنا من مضى من آبائنا، وليكن ممن يبعث لنا منهم قصي بن كلاب، فإنه كان شيخ صدق فنسألهم عما تقول: أحق هو أم باطل، فإن صدقوك وصنعت ما سألناك صدقناك وعرفنا منزلتك من الله وأنه بعثك إلينا رسولا كما تقول.
فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (ما بهذا بعثت لكم، إنما جئتكم من الله بما بعثني به وقد بلغتكم ما أرسلت به إليكم، فإن تقبلوه فهو حظكم في الدينا والآخرة، وإن تردوه أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم)
قالوا: فإذا لم تفعل فخذ لنفسك، سل ربك يبعث معك ملكا يصدقك بما تقول ويراجعنا عنك، وسله فليجعل لك جنانا وقصورا وكنوزا من ذهب وفضة يغنيك بها عما نراك تبغي، فإنك تقوم بالأسواق وتلتمس الرزق وتلتمس المعاش كما نلتمسه، حتى نعرف فضلك ومنزلتك إنا كنت رسولا.
فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (ما أنا بفاعل، ما أنا بالذي سأل ربه هذا وما بعثت إليكم بهذا، ولكن الله بعثني بشيرا ونذيرا، فإن تقبلوا ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والأخرة، وإن تردوه علي أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم)
قالوا: فأسقط السماء علينا كسفا كما زعمت أن ربك إن شاء فعل، فإنا لا نؤمن لك إلا أن تفعل.
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (ذلك إلى الله عزوجل، إن شاء أن يفعله بكم فعله)
قالوا: يا محمد فما علم ربك أنا سنجلس معك ونسألك عما سألناك عنه ونطلب إليك ما نطلب فيتقدم إليك فيعلمك ما تراجعنا به ويخبرك ما هو صانع في ذلك بنا إذا لم نقبل منك ما جئتنا به؟ إنه قد بلغنا أنك إنما يعلمك هذا رجل باليمامة يقال له: الرحمن، وإنا والله لا نؤمن بالرحمن أبدا فقد أعذرنا إليك يا محمد، وإنا والله لا نتركك وما بلغت منا حتى نهلكك أو تهلكنا.
وقال قائلهم: نحن نعبد الملائكة وهي بنات الله.
وقال قائلهم: لن نؤمن لك حتى تأتينا بالله والملائكة قبيلا.
فلما قالوا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قام عنهم وقام معه عبد الله بن أبي أميمة بن المغيرة، فقال: يا محمد عرض عليك قومك ما عرضوا فلم تقبله منهم، ثم سألوك لأنفسهم أمورا ليعرفوا بها منزلتك من الله تعالى كما تقول ويصدقوك ويتبعوك فلم تفعل، ثم سألوك أن تأخذ لنفسك ما يعرفون به فضلك عليهم ومنزلتك من الله فلم تفعل ثم سألوك أن تعجل لهم بعض ما تخوفهم به من العذاب فلم تفعل، فو الله لا أو من بك أبدا حتى تتخذ إلى السماء سلما ثم ترقى فيه وأنا أنظر إليك حتى تأتيها ثم تأتي بصك معه أربعة من الملائكة يشهدون لك أنك كما تقول وأيم الله إن لو فعلت ذلك ما ظننت أني أصدقك، ثم انصرف عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
وانصرف رسول الله إلى أهله حزينا آسفا لما فاته مما كان يطمع به من قومه حين دعوه، لما رأى من مباعدتهم إياه([40]).
ومن أعظم ثبات السراء الثبات الذي أبداه صلى الله عليه وآله وسلم بعد أن فتحت له الدنيا، ولكنه لم يلتفت إليها، بل عاش حياة بسيطة لا تختلف عن حياة أفقر أصحابه.
فلم يتخذ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قصرا كعادة الملوك والأمراء، بل كان يسكن منزلا بلا أثاث أو رياش، ولما دخل عليه عدي بن حاتم الطائي وهو ملك طيء وسيدهم وحبرهم، وقد علق صليباً من الذهب في صدره، واستضافه النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى منزله لم يجد النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما يقدم لضيفه ليجلس عليه إلا وسادة واحدة من ليف وضعها النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليجلس عليها، وجلس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على الأرض.
لقد كان في عهده صلى الله عليه وآله وسلم من أنواع الترف ما كان، ولكنه صلى الله عليه وآله وسلم آثر الحياة التي عاشها على كل ذلك الترف، مؤثرا حياة العبودية.
لقد ذكر عمر بعض حياة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في حديث طويل قال فيه: (فجلست فرفعت رأسي في البيت ـ أي بيته صلى الله عليه وآله وسلم ـ فوالله ما رأيت في البيت شيئا يرد البصر إلا أهبة ثلاثة، فقلت: (ادع الله يا رسول الله أن يوسع على أمتك، فقد وسع على فارس والروم وهم لا يعبدون الله)، فاستوى جالسا، ثم قال: (أفي شك أنت يا ابن الخطاب؟ أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا)([41])
وقد كان صلى الله عليه وآله وسلم ينهى عن الأكل متكئا، ويقول: (إنما أنا عبد، آكل كما يأكل العبد، وأشرب كما يشرب العبد)([42])
وكان ينهى عن إطرائه والمبالغة في مدحه، ويقول: (لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، فإنما أنا عبده فقولوا: عبد الله ورسوله)([43])
وعندما قال له رجل: يا خيرنا وابن خيرنا وسيدنا وابن سيدنا، قال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (قولوا ما أقول لكم، ولا يستهوينكم الشيطان، أنزلوني حيث أنزلني الله، أنا عبد الله ورسوله)([44])
أما طعامه صلى الله عليه وآله وسلم ـ بعد أن فتحت له الدنيا ـ فقد ذكره أنس فقال: (لم يأكل النبي صلى الله عليه وآله وسلم على خوان حتى مات، وما أكل خبزاً مرققاً حتى مات)([45])، وفي رواية له: ولا رأى شاة سميطاً بعينه قط.
وقال : رهن النبي صلى الله عليه وآله وسلم درعه بشعير، ومشيت إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بخبز شعير وإهالة([46]) سنخة([47]). ولقد سمعته يقول: (ما أصبح لآل محمد صاع ولا أمسى)، وإنهم لتسعة أبيات([48]).
وقال سهل بن سعد : (ما رأى رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم النقي([49]) من حين ابتعثه اللَّه تعالى حتى قبضه اللَّه. فقيل له: هل كان لكم في عهد رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم مناخل؟ قال: ما رأى رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم منخلاً من حين ابتعثه اللَّه تعالى حتى قبضه اللَّه تعالى. فقيل له: كيف كنتم تأكلون الشعير غير منخول؟ قال: كنا نطحنه وننفخه فيطير ما طار وما بقي ثَرَّيْنَاه([50]))([51])
ويخبر ابن عباس عن معيشة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فيقول: كان رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم يبيت الليالي المتتابعة طاوياً، وأهله لا يجدون عشاء، وكان أكثر خبزهم خبر الشعير([52]).
ويخبر عمرو بن الحارث قال: ما ترك رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم عند موته ديناراً، ولا درهماً ولا عبداً ولا أمة ولا شيئاً، إلا بغلته البيضاء التي كان يركبها، وسلاحه، وأرضاً جعلها لابن السبيل صدقة)([53])
***
ما وصل عبد القادر من حديثه إلى هذا الموضع حتى سمع أذان العصر، فقال للمجتمعين حوله المعجبين بحديثه: ائذنوا لي، فقد جعل الله لنا مواقيت معينة نصلي فيها، ولا يجوز لنا أن نتأخر عن المواقيت التي حددها لنا ربنا.
فالصلاة هي ركن أصيل من أركان الثبات، ولهذا أمرنا الله تعالى بالاستعانة بها، فقال:{ وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} (البقرة:45)
وقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يلجأ إلى الصلاة ليمسح تلك الآلام التي تحدثها أنواع الأذي التي يصبها عليه أعداؤه.
قال رجل من الجمع: أنا متعجب كل العجب.. كيف استطاع محمد، وهو فرد في عالم يناوئه، ويبذل له كل صنوف العداوة.. كيف استطاع أن يقيم دينا ودنيا.. وكيف يخرج من كل تلك النيران الموقدة، وليس بجسمه أثر لحريق واحد؟
ابتدره عبد القادر مجيبا: إنها الحماية.. إنها حماية الله.. وهي معجزة أخرى من المعجزات لا تقل عن معجزة الثبات.
قالوا: فحدثنا عنها.
عبد القادر: إن شئتم أن تسمعوا حديثها، أو لمن شاء منكم أن يسمع حديثها، فليأت هنا غدا صباحا، فسأروي لكم من أخبارها ما تعلمون به أن محمدا رسول من عند الله، فالله يحمي رسله حتى يكملوا ما هيئ لهم من وظائف.
قال ذلك، ثم انصرف، وانصرف الجمع غير مبالين بي ولا بصاحبي حامل ثياب المسيح، وصليب المسيح.
نزلت علي في ذلك الحين أنوار جديدة من شمس محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وأحسب أن مثلها، أو بعض مثلها قد نزل على صاحبي بولس.
شعرت بذلك من خلال سنحة وجهه التي بدا عليها سرور عظيم حاول جهده أن يخفيه بسمت الجد الذي تكلف في رسمه على وجهه.
في الطريق قال لي: أنت حر غدا.. اذهب حيث شئت.
قلت: أليس لدينا تدريب؟
قال: لدي بعض الوظائف يجب أن أؤديها، فلذلك أدعك ترتاح قليلا، وإن شئت أن تخرج خارج هذه المدينة، فسأكلف السائق بأن يسير بك حيث تشاء.
لقد شعرت ـ من خلال حديثه هذا ـ أنه يهم بشيء، ويخشى أن
أراه، لذلك قلت: لا داعي لذلك.. سأبقى في هذه المدينة، فأنا أحتاج إلى مزيد معرفة
بها.
([1]) هناك رد مفصل على ما يزعمه المسيحيون من صلب المسيح، وما يفهمونه منه في رسالة (أسرار الإنسان) من هذه السلسلة.
([2]) رواه الشيخان والبلاذري عن ابن عباس، والشيخان عن أبي هريرة، ومسلم عن قبيصة ابن المخارق .
([3]) رواه أحمد.
([4]) رواه أحمد والطبراني.
([5]) وهي من سادات نساء قريش، وهي: أم جميل، واسمها أروى بنتُ حرب بن أمية، وهي أخت أبي سفيان.
([6]) رواه العوفي عن ابن عباس، وعطية الجدلي، والضحاك، وابن زيد، واختاره ابن جرير.
([7]) رواه ابن إسحق.
([8]) رواه البلاذري.
([9]) رواه ابن سعد.
([10]) رواه البلاذري.
([11]) رواه البلاذري.
([12]) رواه البلاذري.
([13]) رواه البلاذري.
([14]) رواه البلاذي.
([15]) رواه البلاذري.
([16]) رواه البلاذري والحاكم.
([17]) رواه البلاذري.
([18]) رواه ابن سعد.
([19]) رواه البلاذري.
([20]) رواه البلاذري.
([21]) ذكرها أبو عمر في الدرر، وأهملها أبو عمر في الاستيعاب واستدركوها على الاستيعاب.
([22]) رواه البخاري ومحمد بن عمر الأسلمي والبيهقي.
([23]) انظر: الرحيق المختوم.
([24]) وقيل استمر ذلك سنتين فقط، ورواية موسى بن عقبة تدل على أن ذلك كان قبل أمر رسول الله r أصحابه بالهجرة الى الحبشة، وإنما أمرهم بها أثناء هذا الحصار، أما رواية ابن اسحاق فتدل على أن كتابة الصحيفة كانت بعد هجرة أصحابه r الى الحبشة.
([25]) رواه الحاكم.
([26]) رواه الطبراني برجال ثقات.
([27]) رواه أحمد والبخاري في تاريخه.
([28]) رواه ابن أبي حاتم مرسلا.
([29]) رواه أبو داود وابن المنذر والبيهقي.
([30]) رواه البخاري.
([31]) رواه البخاري.
([32]) رواه أبو نعيم في الحلية.
([33]) في ظلال القرآن.
([34]) رواه عَبْدُ بن حُمَـيْد وغيره.
([35]) رواه ابن جرير وغيره.
([36]) رواه أحمد وابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني وأبو الشيخ وابن مردويه وأبو نعيم في الحلية.
([37]) رواه ابن جرير وابن المنذر.
([38]) رواه الزبير بن بكار في أخبار المدينة.
([39]) رواه ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وأبو يعلى والحاكم وصححه عن جابر بن عبد الله والبيهقي وابن عساكر عن ابن عمر.
([40]) رواه ابن إسحاق وابن جرير والبيهقي.
([41]) ) البخاري ومسلم.
([42]) ) ابن عدي عن أنس.
([43]) ) البخاري.
([44]) ) ابن النجار.
([45]) ) البخاري.
([46]) ) الشحم الذائب.
([47]) ) المتغيرة.
([48]) ) البخاري.
([49]) ) هو الخبز الحواري، وهو الدرمك.
([50]) ) بللناه وعجناه.
([51]) ) البخاري.
([52]) ) التِّرمِذِيُّ وَقَالَ حَدِيثٌ حَسَنٌ صحيح.
([53]) ) البخاري.