سادسا ـ المسؤولية

سادسا ـ المسؤولية

في اليوم السادس، صاح السجان بصوته المزعج قائلا: في هذا المساء.. سيساق إلى الموت (حطيط الزيات) ([1]).. وقد رأت إدارة السجن أن تسمح لجميع السجناء بتوديعه والجلوس إليه بشرط ألا يخترقوا قوانين السجن.. ومن يخترقها فسيتحمل مسؤولية خرقه.

بمجرد أن فتحت أبواب الزنازن أسرع السجناء إلى ساحة السجن حيث وجدوا حطيطا الزيات.. والبسمة على شفتيه.. والسرور باد على وجهه.. وكأن الموت لا ينتظره ذلك المساء.

كان يخاطب الجمع الذي اجتمع لتوديعه كما يخاطب الرئيس مرؤوسيه، فهو يأمرهم بالنظام وبالصمت بقوة وحزم وأدب لا تليق إلا بأعدل المسؤولين وأقواهم.

بمجرد أن اعتدلت الجموع في جلساتها، وأخذت تنصت إليه، قال: اسمحوا لي في البداية أن أحدثكم عن هذا الشرف العظيم الذي هيأه الله لي أنا عبده الفقير الخامل الضعيف.. لقد شرف الله دمي أن يلتحق بتلك الدماء الكثيرة التي ذهبت ضحية شعورها بالمسؤولية تجاه تحقيق العدالة التي أمر الله الكل بالسعي إليها.

إن العدالة بمفهومها الشامل لا يمكن أن يحققها طرف من الأطراف.. هي مسؤولية الجميع.. ولابد أن يتعاون الجميع على تحقيقها.. لقد وضح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذلك وشرحه، فقال:( كلكم راعٍ، وكلكم مسئول عن رعيته، الإمام راعٍ ومسئول عن رعيته، والرجل راعٍ في أهله ومسئول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها، والخادم راعٍ في مال سيده ومسئول عن رعيته، وكلكم راعٍ ومسئول عن رعيته) ([2])

هذه مجرد أمثلة ذكرها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. وإلا فإن الأمثلة في هذا لا تحصر.. وقد تولت النصوص المقدسة بيانها بكل صنوف البيان..

المسؤولية عن إطعام المسكين مثلا.. قد تبدو في الظاهر من اختصاص الأغنياء.. ولكن القرآن الكريم لا يعتبر البخل على المسكين وحده جريمة.. بل يعتبر السكوت عن حض الأغنياء على إعطاء المساكين جريمة.. وبهذا لا يعذر أحد من الناس فقيرا كان أو غنيا عاجزا كان أو قويا.

اسمعوا إلى هذه الآيات الكريمة التي تهدد وتتوعد من يرى مسكين، ثم لا يسعى له بكل الوسائل ليوفر له ما يسد رمقه، قال تعالى :{ وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ (25) وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ (26) يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ (27) مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ (29) خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ (32) إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (34) فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ (35) وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ (36) لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ (37) } (الحاقة)

انظروا كيف قرنت هذه الآيات الكريمة الاهتمام بالمستضعفين بالإيمان برب العالمين.. وكأنها تقول لنا: لا يمكن لأحد يؤمن بالله، ويعظم الله، أن يكون قلبه قاسيا إلى الدرجة التي يضيع فيها المساكين.

في آية أخرى نلاحظ هذا، نلاحظ اقتران التقصير في عبادة الله بالتقصير في حقوق المساكين، قال تعالى:{ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38) إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ (39) فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ (40) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (41) مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ (45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46) حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ (47) فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ (48) }(المدثر)

بل إن سورة من القرآن الكريم خصصت لوصف المكذبين بالدين.. لا تصفهم بأنهم ينكرون وجود الله، أو ينكرون أسماءه الحسنى، أو ينكرون ما أمروا به من عبادات.. وإنما تصفهم بتلك القسوة التي تحول بينهم وبين تحقيق العدل في الحياة، قال تعالى :{ أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (3) فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ (6) وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ (7)} (الماعون)

قال رجل من الجمع: حدثنا عن نفسك، قبل أن تحدثنا عما تدعو إليه.. فمن أنت؟

قال: لا يهمكم من هو أنا.. لقد محوت ذاتي وأهوائي في الرسالة العظيمة التي شرفت بتحملها، فلم يبق من هم لي في الحياة إلا بالدعوة إليها والتضحية في سبيلها.

قال الرجل: فلم حطك أهلك بتسميتك حطيطا؟

قال: لم يختر أهلي هذا الاسم.. أنا الذي اخترته لنفسي.. لقد كان اسمي في البدء بلعم([3]).. لعلكم تعرفونه.. إنه ذلك العالم الذي باع علمه بثمن بخس ليرضي أهواءه.. لقد ذكره الله تعالى فقال :{ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آَتَيْنَاهُ آَيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176)} (الأعراف)

وعندما شببت رأيت كثيرا من البلعميات([4]) سواء في بلاد المسلمين أو في غير بلاد المسلمين.. رأيتهم يتمسحون بأحذية السلاطين، وفي نفس الوقت يركلون بأقدامهم تلك الرعية المسكينة الممتلئة بالمهانة..  فامتلأت بالغثاء.. ورحت أسارع بتغيير اسمي..

قال الرجل: فلم اخترت (حطيطا)؟

قال: لقد رحت أبحث في سير الرجال.. فوجدت هذا الرجل البسيط المتواضع الممتلئ بالحطة.. ولكنه في نفس الوقت استطاع أن يقف أمام طاغية كبير، ويلقنه من الدروس ما لم تجسر جميع بلعميات الأرض أن تلقنه إياه.

لقد حدث المؤرخون أن زبانية الحجاج جاءوه بحطيط الزيات، فلما دخل عليه قال: أنت حطيط؟ فقال حطيط: نعم.. سل عمّا بدا لك، فاني عاهدت الله عند المقام على ثلاث خصال: إن سئلت لأصدقن، وإن ابتليت لأصبرن، وإن عوفيت لأشكرن.. فقال الحجاج: فما تقول فيّ؟.. قال حطيط: أقول فيك أنك من أعداء الله في الأرض تنتهك المحارم وتقتل بالظنة.. قال: فما تقول في أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان؟.. قال حطيط: أقول إنه أعظم جرما منك، وانما أنت خطيئة من خطاياه..

فأمر الحجاج أن يضعوا عليه العذاب، فانتهى به العذاب الى أن شقق له القصب، ثم جعلوه على لحمه وشدوه بالحبال، ثم جعلوا يمدون قصبة قصبة، حتى انتحلوا لحمه، فما سمعوه يقول شيئا، فقيل للحجاج: إنه في آخر رمق، فقال: أخرجوه، فارموا به في السوق.

قال الراوي: فأتيته أنا وصاحب له، فقلنا له: يا حطيط ألك حاجة؟ فقال: شربة ماء، فأتوه بشربة، ثم استشهد، وكان عمره ثماني عشرة سنة([5]).

هذا كل ما رواه التاريخ عن حطيط.. ولكن هذا بالنسبة لي يكفي عن آلاف المجلدات من الدجل، وآلاف المجلدات من أخبار الدجالين.

لقد وجدت أن موقفا واحدا مثل هذا الوقف قد يزعزع الأرض من تحت أقدام الطواغيت.. ليؤسس من وراء تلك الزلزلة مدينة العدل الفاضلة التي جاء الإسلام لبنائها.

صحت: أراك تحمل فكرا ثوريا.. فمن أي مدرسة ثورية استفدته؟

قال: من مدرسة الإسلام.. لقد علمنا الإسلام أن لا نرضى بالظلم والضيم والجور.. أمرنا بالتغيير والنهوض، واعتبر ذلك واجب الكل.. واجب العلماء، وواجب الحكام، وواجب العامة.. إنه واجب الكل.. كل بما أوتي من طاقة وقدرة.

العلماء بما أوتوا من سلطة العلم التي تجعلهم يرأسون الأمة في فكرها وسلوكها.

والحكام بما أوتوا من سلطة التنفيذ والتنظيم والردع.

والعامة بما أوتو من سلطة المسؤولية على الأمة.. فالمسلمون ـ كما أخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ـ : ( تتكافا دماؤهم، وهم يد على من سواهم، ويسعى بذمتهم أدناهم) ([6])

هؤلاء كلهم مسؤولون عن تحقيق العدالة، ومحاسبون على التقصير فيها..

لقد وردت النصوص الكثيرة تؤكد هذا، وترغب فيه، وترهب من التقصير فيه:

فقد أخبر الله تعالى أن اللعنات تتنزل على من ترك الأمر بالمعروف وترك النهي عن المنكر.. قال تعالى ضاربا لنا المثل ببني إسرائيل :{ لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (79) تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ (80) وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (81) } (المائدة)

انظروا عظم الردع الذي تحمله هذه الآية.. إنها تخبر أن اللعنات تنزلت على بني إسرئيل بسبب تفريطهم في النهي عن المنكر.. وبسبب إعطائهم الولاء للقائمين على المنكر، والممثلين له.

لقد وصف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذلك.. وحذر منه هذه الأمة، فقال : ( لما وقعت بنو إسرائيل في المعاصي، نهتهم علماؤهم فلم ينتهوا، فجالسوهم في مجالسهم وأسواقهم، وواكلوهم وشاربوهم، فضرب الله قلوب بعضهم ببعض، ولعنهم على لسان داود وعيسى ابن مريم، ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون)، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم متكئًا، فجلس، فقال: (لا والذي نفسي بيده حتى تأطروهم على الحق أطرا) ([7])، أي تعطفوهم وتقهروهم وتلزموهم باتباع الحق.

وفي رواية أخرى وصف أدق قال فيه صلى الله عليه وآله وسلم (إن أول ما دخل النقص على بني سرائيل كان الرجل يلقى الرجل فيقول: يا هذا، اتق الله ودع ما تصنع، فإنه لا يحل لك. ثم يلقاه من الغد فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده، فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض، ثم قال :{ لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ } إلى قوله :{ فَاسِقُونَ }، ثم قال: (كلا والله لتأمرن بالمعروف ولتَنهون عن المنكر، ولتأخذُنَّ على يد الظالم، ولَتَأطرنَّه على الحق أطْرا أو تقصرنه على الحق قصرًا) ([8])

التفت إلي، وقال: ألا ترى في قوله صلى الله عليه وآله وسلم : (لَتَأطرنَّه على الحق أطْرا.. أو تقصرنه على الحق قصرًا) ثورة ضد الظلم والجور والطغيان.. قارن هذا بما نقل عن المسيح u من قوله كما في (متى 22 :15-22): ( فذهب الفريسيون وتآمروا كيف يوقعونه بكلمة يقولها، فأرسلوا إليه بعض تلاميذهم مع أعضاء حزب هيرودس، يقولون له: يامعلم، نعلم أنك صادق وتعلم الناس طريق الله في الحق، ولا تبالي بأحد لأنك لا تراعي مقامات الناس، فقل لنا إذن ما رأيك؟ أيحل أن تدفع الجزية للقيصر أم لا؟ فأدرك يسوع مكرهم وقال: أيها المراؤون، لماذا تجربونني؟ أروني عملة الجزية! فقدموا له دينارا، فسألهم: لمن هذه الصورة وهذا النقش؟ أجابوه: للقيصر! فقال لهم: إذن، أعطوا ما للقيصر للقيصر، وما لله لله، فتركوه ومضوا، مدهوشين مما سمعوا)

وقارنه بما قاله سيدكم بولس الذي تجاسر على الشريعة جميعا، فنسخها ومحاها من الكتاب المقدس، ولكنه لم يتجاسر أن ينطق كلمة واحدة ضد المستبدين، وضد الاستبداد.. اسمع إليه، وهو يقول : ( لِتَخْضَعْ كلُّ نفس للسلاطين العالية، فإنه لا سلطان إلا من  الله، والسلاطين الكائنة إنما رتَّبها الله،  فمن يقاوم السلطان فإنما يعاند ترتيب الله، والمعاندون يجلبون دينونة على أنفسهم، لأن خوف الرؤساء ليس على العمل الصالح بل على الشرير. أفتبتغى ألا تخاف من السلطان؟ افعل الخير فتكون لديه ممدوحا لأنه خادمُ الله لك للخير،  فأما إن فعلتَ الشر فَخَفْ فإنه لم يتقلد السيف عبثا لأنه خادمُ الله المنتقمُ الذى يُنْفِذ الغضب على من يفعل الشر، فلذلك يلزمكم الخضوع لـه لا من أجل الغضب فقط بل من أجل الضمير أيضا،  فإنكم لأجل هذا تُوفُون الجزية أيضا، إذ هم خُدّام الله المواظبون على ذلك بعينه..  أدُّوا لكلٍّ حقه : الجزية لمن يريد الجزية، والجباية لمن يريد الجباية، والمهابة لمن لـه المهابة، والكرامة لمن لـه الكرامة) (رومية 13/1-7)

التفت إلى الجمع، وقال: لقد كانت هذه النصوص من النصوص التي صرفتني عن الكتاب المقدس في الوقت الذي رحت أبحث عن الحقيقة.. لقد قلت لنفسي: إن دين الله هو الدين الذي يحض على العدل.. ويملأ النفس محبة للعدل ودعوة إليه وتضحية في سبيله.

إن دين الله الحقيقي هو الدين الذي يعلم الإنسان كيف يصرخ في وجه الظالم لا ترهبه قوته ولا بطشه ولا جبروته..

أذكر أني في ذلك الحين كنت مشغوفا بقراءة قصص الكتاب المقدس.. وكان من بين ما قرأت قصة سحرة فرعون، والتي ورد النص عليها هكذا كما في (الخروج: 8/ 9- 13) : (وقال الرب لموسى وهرون: إذا قال لكما فرعون أريد عجيبة يأخذ هرون عصاه ويلقيها أمام فرعون لتصير حية، فدخل موسى وهرون على فرعون وفعلا كما أمر الرب. ألقى هرون عصاه أمام فرعون ورجاله فصارت حية، فدعا فرعون المنجمين والعرافين وهم سحرة مصر، فصنعوا كذلك بسحرهم، ألقى كل واحد منهم عصاه فصارت كل عصا حية عظيمة، ولكن عصا هرون ابتلعت عصيهم، فاشتد قلب فرعون قساوة حتى لا يسمع لموسى وهرون، كما قال الرب)

هذا كل ما ورد النص عليه في الكتاب المقدس.. وقد كان من قدر الله أن سمعت صبيا في ذلك الحين كان جارا لنا.. وكان يقرأ من القرآن قوله تعالى عن نفس القصة :{ وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (113) قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (114) قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ (115) قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (116) وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (117) فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (118) فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ (119) وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (120) قَالُوا آَمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (121) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (122) قَالَ فِرْعَوْنُ آَمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آَذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (123) لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (124) قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ (125) وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آَمَنَّا بِآَيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ (126)} (الأعراف)

اعذروني إن كنت قد قرأت لكم هذه الآيات جميعا.. لقد كانت هذه الآيات هي المفتاح الذي فتح به علي باب الإسلام.. بسببها رحت أبحث عن الإسلام أنا الذي امتلأ كراهة الظلم والجور.. وكره من اتخاذ الدين أفيونا للشعوب ينيمها عن حقوقها.

إن هذه الآيات على خلاف ما ورد في الكتاب المقدس تبين الفوارق العظيمة التي آل إليها أمر السحرة.. لقد دخل السحرة وهم يسجدون لفرعون.. ولكنهم يخرجون يسجدون لله لا يبالون ببطش فرعون وتهديده.

لقد دعاني هذا إلى بحث مستفيض في نصوص المسلمين المقدسة، فوجدت العجب العجاب:

لقد وجدت القرآن يعتبر (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) صفة من صفات المسلم الأساسية، والتي تميزه عن غيره من الكفار والمنافقين.. اسمعوا لهذه الآيات :{ وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (71)} (التوبة)

وعندما ذكر الله تعالى الجزاء العظيم الذي أعده المؤمنين، وذكر أوصافهم التي استحقوا بها هذا الجزاء، ذكر معها هذه الخصلة الأساسية، قال تعالى :{ إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآَنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111) التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآَمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (112)} (التوبة)

وفي مقابل ذلك.. عندما ذكر المنافقين قال :{  الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (67)} (التوبة)

والأمر لا يتوقف عند الأفراد.. بل على الجميع.. بكل ما أوتوا من طاقات أن ينهضوا بهذا الواجب الذي تتوقف عليه خيرية الأمة، قال تعالى :{ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آَمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ (110)} (آل عمران)، وقال :{ وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104)} (آل عمران)

التفت إلي، وقال: حتى أن القرآن الكريم عندما ذكر صفة نبينا صلى الله عليه وآله وسلم في الكتب المتقدمة ذكر أنه موصوف فيها بأنه يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر.. قال تعالى :{ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آَمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157)} (الأعراف)

وعندما ذكر المؤمنين من أهل الكتاب قال :{ لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آَيَاتِ اللَّهِ آَنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113) يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (114) وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (115)} (آل عمران)

التفت إلى الجمع، وقال: حتى أن القرآن يصف موعظة رجل حكيم لابنه.. فكان من موعظته قوله له :{ يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (17)} (لقمان)

انظروا كيف قرن القرآن الكريم بين الصلاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر..

بل إنه في سورة العصر.. تلك السورة التي حصر الله فيها صفات من نجا من الخسارة في هذه الدنيا.. ذكر هذه الخصلة الأساسية.. فقال تعالى :{ وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)} (العصر)

انظروا كيف ختمت الآية بالتواصي بالصبر.. وكأنها تقول للمؤمنين: اصبروا على ما يصيبكم من بلاء بعد تواصيكم بالحق.. أو كأنها تقول لهم: لن تعذروا بالسكوت عن المنكر.. وإن أصابكم البلاء.. فلذلك تسلحوا بالصبر.

سكت قليلا، ثم قال: بعد أن امتلأت من العجب مما ورد في القرآن الكريم من الدعوة إلى الإيجابية في التعامل مع قضايا المجتمع ذهبت إلى سنة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.. فوجدتها تؤكد ما ورد في القرآن وتقرره وتضع المناهج لتحقيقه.. لن أتحدث لكم عن تلك المناهج الآن([9]).. ولكني سأحدثكم عن تلك التوجيهات العظيمة التي بثها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في كيان كل مسلم لتحول منه داعية إلى الخير والحق والهدى.

لقد ورد في الحديث ذكر العقوبات التي تصيب الساكتين عن إنكار المنكر، أو الساكتين عن الأمر بالمعروف، ففي الحديث قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : (ما من رجل يكون في قوم يعمل فيهم بالمعاصي يقدرون على أن يغيروا عليه ولا يغيرون إلا أصابهم الله منه بعقاب قبل أن يموتوا) ([10])

وفي حديث آخر قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ( أيها الناس مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر قبل أن تدعوا الله فلا يستجيب لكم وقبل أن تستغفروه فلا يغفر لكم ؛ إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يدفع رزقا ولا يقرب أجلا وإن الأحبار من اليهود والرهبان من النصارى لما تركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لعنهم الله على لسان أنبيائهم ثم عموا بالبلاء) ([11])

وفي آخر قال: (لا تزال لا إله إلا الله تنفع من قالها وترد عنهم العذاب والنقمة ما لم يستخفوا بحقها)، قالوا يا رسول الله وما الاستخفاف بحقها؟ قال : ( يظهر العمل بمعاصي الله تعالى فلا ينكر ولا يغير)([12])

وفي آخر قال: ( تعرض الفتن على القلوب كالحصير عودا عودا فأي قلب أشربها نكتت فيه نكتة سوداء وأي قلب أنكرها نكتت فيه نكتة بيضاء حتى تصير على قلبين، على أبيض مثل الصفا فلا يضره فتنة ما دامت السموات والأرض، والآخر أسود مربادا كالكوز مجخيا([13])  لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا إلا ما أشرب من هواه)([14])  

وفي آخر قال: ( إذا رأيت أمتي تهاب أن تقول للظالم يا ظالم فقد تودع منهم) ([15])

وفي آخر قال: (إذا عملت الخطيئة في الأرض كان من شهدها وكرهها فأنكرها كمن غاب عنها، ومن غاب عنها فرضيها كان كمن شهدها)([16])  

وفي آخر قال: (الإسلام أن تعبد الله لا تشرك به شيئا وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان والحج والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتسليمك على أهلك، فمن انتقص شيئا منهن فهو سهم من الإسلام يدعه، ومن تركهن فقد ولى الإسلام ظهره) ([17])

وفي آخر قال: ( ليس منا من لم يرحم صغيرنا ويوقر كبيرنا ويأمر بالمعروف وينه عن المنكر) ([18])

بل إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم اعتبر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ركنا من أركان الإسلام، فقال: (الإسلام ثمانية أسهم الإسلام أي الشهادتان سهم، والصلاة سهم، والزكاة سهم، والصوم سهم، وحج البيت سهم، والأمر بالمعروف سهم، والنهي عن المنكر سهم، والجهاد في سبيل الله سهم وقد خاب من لا سهم له)([19])

لست أدري كيف صحت من غير أن أشعر: ولكني وجدت القرآن يقول :{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105)} (المائدة)؟

ألا ترى أن هذه الآية تحث على اهتمام كل امرئ بنفسه؟

ابتسم، وقال: هذه الآية تكمل تلك النصوص، ولا تناقضها.

قلت: كيف؟.. أنا لا أراها إلا متناقضة.

قال: سأجيبك بما يبين عظم المقصد الذي تحمله تلك الآية.. إنها تتحدث عن إيجابية أخرى ورد الحث عليها في النصوص الكثيرة.. هذه الإيجابية هي الاهتمام بإصلاح النفس وإصلاح ما يمكن إصلاحه إن عجزنا عن إصلاح الكل.

قلت: لم أفهم.

قال: أرأيت لو أن شخصا عاش في واقع منحرف.. حاول إصلاحه بكل ما يطيق من وسائل لكنه لم يستطع.. ماذا عسى هذا الإنسان أن يفعل.. أو ما عساك تنصح هذا الإنسان؟

سكت، فقال: لا بد أنك ستقول له: لقد أديت ما عليك.. وحسبك الآن أن تهتم بنفسك، وبرعاية من كلفت برعايته.

قلت: ربما أقول هذا.

قال: ألست تنصحه إن قلت له هذا؟

قلت: بلى.

قال: فهذا ما تنص عليه الآية.. إنها تقول لنا: ابذلوا كل وسعكم لتصلحوا واقعكم.. لكنكم إن لم تستطيعوا، فحسبكم أنفسكم.. فلا يضركم من ضل إذا اهتديتم.

قلت: إن كانت الآية تقصد هذا.. فهو معنى جميل صحيح.

قال: هي لا تقصد هذا فقط.. إنها تقول بالإضافة إلى ذلك للذين يتألمون للواقع المنحرف الذي يعيشون فيه: لا تتألموا.. فالألم سيحول بينكم وبين التأثير.. التزموا أنتم الجادة.. ولعلكم إن لم تستطيعوا أن تقنعوا الناس بالمقال، أن تقنعوهم بالفعال.. فأكثر الناس تقنعهم الفعال أكثر مما تقنعهم الأقوال.

قلت: هذا معنى آخر جميل..

قال: لقد وردت النصوص الكثيرة تجمع بين الإيجابيتين إيجابية المقال، وإيجابية الفعال.. وكما سقت لكم النصوص التي تدل على إيجابية المقال، فسأذكر لكم بعض النصوص الشديدة التي تحث على إيجابية الفعال. 

أول مصادرنا المقدسة هو القرآن الكريم.. فلذلك سأبدأ به.. لقد قال الله تعالى موبخا أهل الكتاب :{ أتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (44)} (البقرة).. في هذه الآية يخاطب الله أهل الكتاب، ليقول لهم: كيف يليق بكم – يا معشر أهل الكتاب، وأنتم تأمرون الناس بالبر، وهو جماع الخير – أن تنسوا أنفسكم، فلا تأتمروا بما تأمرون الناس به، وأنتم مع ذلك تتلون الكتاب، وتعلمون ما فيه على من قَصر في أوامر الله؟ أفلا تعقلون ما أنتم صانعون بأنفسكم؛ فتنتبهوا من رَقدتكم، وتتبصروا من عمايتكم([20]).

وفي آية أخرى، يقول الله تعالى مخاطبا المؤمنين من هذه الأمة موبخا لهم :{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (3) } (الصف)

وفي آية أخرى أخبر الله عن شعيب u أنه قال لقومه :{ قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (88)} (هود)

سكت قليلا، ثم قال: لتفهموا المحل الذي تنزل فيه هذه الآيات.. فاسمعوا هذه الحادثة عن رجل وصفه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه ترجمان القرآن.. حدث الضحاك، عن ابن عباس: إنه جاءه رجل، فقال: يا ابن عباس، إني أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، قال: أو بلغت ذلك؟ قال: أرجو. قال: إن لم تخش أن تفْتَضَح بثلاث آيات من كتاب الله فافعل. قال: وما هن؟ قال: قوله عز وجل: { أتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (44)} (البقرة) أحكمت هذه؟ قال: لا. قال: فالحرف الثاني. قال: قوله تعالى:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (3) } (الصف) أحكمت هذه؟ قال: لا. قال: فالحرفَ الثالث. قال: قول العبد الصالح شعيب u :{ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ } (هود: 88) أحكمت هذه الآية؟ قال: لا. قال: فابدأ بنفسك([21]).

انظروا.. بهذا الأسلوب كان تلاميذ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أسوة برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يربون الناس.. وينشرون الخير.. ويجعلون كل فرد يتحمل مسؤوليته تجاه نفسه وتجاه المجتمع.. حتى لا يصبح المجتمع مجموعة من الأفواه التي تصيح لأجل الصياح من غير أن يكون هناك أي عمل لا من الصائح ولا من غيره.

وكما رباهم القرآن الكريم على هذا ربتهم السنة.. وكما أوردت لكم من القرآن سأورد لكم من السنة:

لقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يخاطب جيله وكل أجيال الأمة: (يؤتى بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق : أي تخرج أقتاب بطنه ـ أي أمعاؤها وأحدها قتب بكسر القاف ـ فيدور بها كما يدور الحمار في الرحى فيجتمع إليه أهل النار فيقولون يا فلان ما لك ألم تكن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؟ فيقول بلى كنت آمر بالمعروف ولا آتيه وأنهى عن المنكر وآتيه) ([22])

وقال: ( مررت ليلة أسري بي بأقوام تقرض شفاههم بمقاريض من نار، قلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: خطباء أمتك الذين يقولون ما لا يفعلون)([23])

وقال : (رأيت ليلة أسري بي رجالا تقرض شفاههم بمقاريض من نار، فقلت : من هؤلاء يا جبريل؟ فقال الخطباء من أمتك الذين يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم وهم يتلون الكتاب أفلا يعقلون)([24]).

وقال: (ما من عبد يخطب خطبة إلا الله سائله عنها يوم القيامة ما أردت بها)([25])، قال الراوي: فكان مالك بن دينار إذا حدث بهذا بكى، ثم يقول: أتحسبون أن عيني تقر بكلامي عليكم وأنا أعلم أن الله سائلي عنه يوم القيامة يقول ما أردت به؟ فأقول: أنت الشهيد على قلبي لو لم أعلم أنه أحب إليك لم أقرأ على اثنين أبدا.

وقال : ( إن ناسا من أهل الجنة ينطلقون إلى أناس من أهل النار فيقولون: بماذا دخلتم النار؟ فوالله ما دخلنا الجنة إلا بما تعلمنا منكم.. فيقولون: إنا كنا نقول ولا نفعل)([26])

وقال : ( مثل الذي يعلم الناس الخير وينسى نفسه كمثل السراج ـ أو مثل الفتيلة ـ يضيء للناس ويحرق نفسه)([27])

وقال : ( إن أخوف ما أخاف عليكم بعدي كل منافق عليم اللسان)([28])

وقال : ( إن الرجل لا يكون مؤمنا حتى يكون قلبه مع لسانه سواء ولا يخالف قوله عمله ويأمن جاره بوائقه)([29])

وقال : ( إني لا أتخوف على أمتي مؤمنا ولا مشركا، أما المؤمن فيحجزه إيمانه، وأما المشرك فيقمعه كفره، ولكن أتخوف عليهم منافقا عالم اللسان يقول ما تعرفون ويعمل ما تنكرون)([30])

قلنا: ألا ترى أن هذه النصوص تكاد تنسخ ما سبق أن ذكرت من النصوص؟

قال: لا.. هي لا تنسخ.. هي تكمل.. إنها تقول لنا: أحسنوا.. ولكن لا تكتفوا بالإحسان.. بل انشروا الإحسان.. لأنكم إن اقتصرتم على الإحسان وحده، فقد أسأتم.

العلماء

قلنا: لقد ذكرت لنا أن العدل مسؤولية الجميع، فما مسؤولية العلماء الذين اعتبرتهم رأس الأمة المدبر؟

قال: للعلماء أربع مسؤوليات:

أما الأولى.. فالتعليم.

وأما الثانية.. فالاجتهاد في البحث عن وجوه تحقيق العدل..

وأما الثالثة.. فالسعي لتحقيقه بما أوتوا من سلطات على الأمة وعلى حكام الأمة.

وأما الرابعة.. فالتضحية في سبيل تحقيق هذه المسؤوليات بالجاه والمال والمناصب.. فلا يمكن لعالم ممتلئ بالطمع أن يوظف علمه في مصلحة الأمة.

التعليم:

 قلنا: ما تريد بالأولى؟

قال: العالم الحقيقي هو العالم الذي لا يكتم علمه.. إنه الذي يسعى لينتشل الرعية من ظلمات الجهل إلى نور العلم.. فأعظم جور هو ترك الرعية لجهلها.. والرعية الجاهلة لا تعرف حقوقها، لذلك لا تستطيع أن تطالب بها.

لقد ورد في النصوص المقدسة التأكيد على هذا الواجب المناط بأعناق العلماء.. وقد اعتبرت هذه النصوص قعود العالم عن هذه الوظيفة الخطيرة كتمانا للعلم.. وتوعدت عليه بأشد الوعيد:

لقد قال الله تعالى يذكره ويشدد في ذكره: { إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (159) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160)} (البقرة)

انظروا كيف اشترطت الآية لقبول توبة هؤلاء أن يبيبنوا ويعلموا..

وقال تعالى :{ إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (174) أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (175)} (البقرة)

وقال :{ وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ } (آل عمران:187)

وعلى هذا النهج أخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن العذاب الشديد الذي ينتظر القاعدين عن وظيفة التعليم، قال صلى الله عليه وآله وسلم : ( من سئل عن علم فكتمه جاء يوم القيامة ملجما بلجام من نار، ومن قال في القرآن بغير ما يعلم جاء يوم القيامة ملجما بلجام من نار)([31])

وقال:( إذا لعن آخر هذه الأمة أولها فمن كتم حديثا فقد كتم ما أنزل الله)([32])

وقال: (مثل الذي يتعلم العلم ثم لا يحدث به كمثل الذي يكنز الكنز ثم لا ينفق منه)([33])

وقال : ( ناصحوا في العلم فإن خيانة أحدكم في علمه أشد من خيانته في ماله، وإن الله – عز وجل – مسائلكم)([34])

وفي الحديث أنه صلى الله عليه وآله وسلم خطب ذات يوم خطبة، فأثنى على طوائف من المسلمين خيرا، ثم قال: (ما بال أقوام لا يفقهون جيرانهم ولا يعلمونهم ولا يأمرونهم ولا ينهونهم، وما بال أقوام لا يتعلمون من جيرانهم ولا يتفقهون ولا يتعظون، والله ليعلمن قوم جيرانهم، ويفقهونهم، ويعظونهم، ويأمرونهم، وليتعلمن قوم من جيرانهم ويتفقهون ويتعظون أو لأعاجلنهم العقوبة)، ثم نزل، فقال قوم: من ترون عنى بهؤلاء؟ قالوا : الأشعريين هم قوم فقهاء ولهم جيران جفاة من أهل المياه والأعراب، فبلغ ذلك الأشعريين، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقالوا: يا رسول الله ذكرت بخير وذكرتنا بشر، فما بالنا؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم : (ليعلمن قوم جيرانهم وليفقهنهم وليعظنهم، وليأمرنهم ولينهوهم وليتعلمن قوم من جيرانهم، ويتفقهون، ويتعظون أو لأعاجلنهم العقوبة في الدنيا)، فقالوا: يا رسول الله أنعظ غيرنا؟ فأعاد قوله عليهم، وأعادوا قولهم: أنعظ غيرنا؟ فقال ذلك أيضا، فقالوا : أمهلنا سنة فأمهلهم سنة ليفقهوهم ويعلموهم ويعظوهم، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هذه الآية :{ لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (79)} (المائدة)([35])

الاجتهاد:

قلنا: عرفنا المسؤولية الأولى.. فما تريد بالثانية؟

قال: العالم هو الذي لا يتوقف في علمه.. ولا يكتفي بالتقليد في علمه..

العالم الحقيقي هو الذي يجتهد ليحل كل معضلة، ويرفع كل مشكلة، ويسد كل ثغرة، ولا يترك أي فرصة للشيطان ولا لأبواب الشيطان أن تفسد الأمة أو تنحرف بها.

لقد ذكر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أصناف العلماء، فقال 🙁 إن مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيثٍ أصاب أرضاً فكانت منها طائفةٌ طيبةٌ، قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكان منها أجادب أمسكت الماء، فنفع الله بها الناس فشربوا منها وسقوا وزرعوا. وأصاب طائفةٌ منها أخرى، إنما هي قيعان لا تمسك ماءً ولا تنبت كلأ. فذلك مثل من فقه في دين الله، ونفعه بما بعثني الله به، فعلم وعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأساً، ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به)([36])

ففي هذا الحديث ذكر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثمرتين صالحتين، وثمرة فاسدة:

أما الثمرة الأولى، وهي أصلح الثمار وأكملها، فهي ثمرة انتفعت بالعلم انتفاعا عظيما، حيث أنبتت من غيثه الكلأ والعشب الكثير الذي انتفع به الإنسان وغير الإنسان.

وأما الثمرة الثانية، فأمسكت من الماء ما انتفع به الناس بعد ذلك في سقيهم وزرعهم.

وأما الثمرة الثالثة، فلم تنتفع بشيء.. فلم تنبت كلأ، ولم تسق عطشانا.

فالرسول صلى الله عليه وآله وسلم في هذا الحديث يدعوا العلماء لأن ينبتوا من علمهم الكلأ والعشب الكثير.. فلا خير في علم لا ينبت شعرا، ولا ينمي خيرا.

نعم.. يمكن أن يكون حفظة للعلم.. ولكن العلم لا يكتمل إلا بالاجتهاد.. قد جمع  النبي صلى الله عليه وآله وسلم بين كلتا الناحيتين، فقال 🙁 نضر الله عبدا سمع مقالتي فوعاها، ثم بلغها عني، فرب حامل فقه غير فقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه)([37])

قلنا: أذلك في الدين أم في الدنيا؟

قال: ليس في الإسلام دين ودنيا.. كل العلوم عندنا علوم دين.. لأن المطلوب منا أن نعمر الدنيا بالدين، لا أن نفصل الدنيا عن الدين.. فالدنيا بلا دين أم الخبائث.. والدنيا بالدين أم الطيبات.. وكما ينبغي أن نبغض أم الخبائث، فينبغي أن نحب أم الطيبات.

الحسبة:

قلنا: عرفنا المسؤولية الثانية.. فما تريد بالثالثة؟

قال: العالم المعلم المجتهد هو الذي يبلغ ما أداه إليه اجتهاده إلى أولي الأمر.. لا يحول بينه وبين ذلك حجب ولا عسكر ولا سيوف..

لقد أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بذلك بصيغ شتى، فقال: ( سيكون أمراء من بعدي يعرفون وينكرون فمن نابذهم نجا ومن اعتزلهم سلم ومن خالطهم هلك)([38])

وقال: ( سيكون بعدي أمراء يكذبون ويظلمون فمن صدقهم بكذبهم وأعانهم على ظلمهم فليس مني ولست منه ولم يرد على الحوض)([39])

وقال:( ستكون امراء فتعرفون وتنكرون، فمن كره برئ، ومن أنكر سلم ولكن من رضي وتابع)([40])

وقال : ( ما من نبي بعث الله في أمة من قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ويتقدون بأمره، ثم إنها تخلف منهم من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يأمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، ليس وراء ذلك من الايمان حبة خردل)([41])

وقال : ( لا يحقرن أحدكم نفسه أن يرى أمر الله تعالى فيه مقال، فلا يقول : يا رب خشيت الناس، فيقول : فاياي كنت أحق أن تخشى)([42])

وقال : ( أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر)([43])

وقال : (الجهاد أربع : الامر بالمعروف، والنهى عن المنكر، والصدق في مواطن الصبر، وشنآن الفاسق)([44])

قال رجل منا: إن ما تذكره من النصوص إما أن يكون ضعيفا، أو يكون منسوخا.

قال: وكيف عرفت ذلك؟

قال الرجل: هل ترى أن كل أولئك الذين يسكتون على السلاطين، بل يؤيدونهم في جورهم لم تبلغهم هذه الأحاديث.

قال: بلى بلغتهم.

قال الرجل: فهم يرون ضعفها إذن، أو يرون نسخها؟

قال: لا.. هم لا يرون ضعفها.. ولكنهم يرون ضعف أنفسهم.. لقد نسخوا هذه النصوص بأهوائهم..

التضحية:

قلنا: عرفنا الثالث، فما تريد بالرابع؟

قال: قد يتيسر على العالم في بعض الأحيان أن يتفوه ببعض الألفاظ في مواعظ السلطان.. ولكن ذلك لا يكفي.

قلنا: وهل فوق ذلك شيء؟

قال: أجل.. لا بد أن يضحي العالم في سبيل المبادئ التي يدعو إليها.. وإلا فلن يقبل منه.

قلنا: بم يضحي؟

قال: قال: أول ما ينبغي للعالم أن يضحي به مصالح نفسه التي تخوله إياها علاقته بالسلطان..

قلنا: وما تلك المصالح؟

قال: الجاه.. والمال.. والمناصب الرفيعة.. والتي قد تجعله خادما ذليلا للسلطان.. أو تجعله ذيلا من ذيوله.

لقد تحدث كل العلماء العاملين عن هذا.. واعتبروه من علامة العالم العالم..

لقد قال حذيفة ذلك الرجل العالم بالفتن وأسبابها: إياكم ومواقف الفتن! قيل: وما هي؟ قال: أبواب الأمراء يدخل أحدكم على الأمير فيصدقه بالكذب ويقول ما ليس فيه.

وقال أبو ذر لسلمة: يا سلمة.. لا تغش أبواب السلاطين فإنك لا تصيب من دنياهم شيئاً إلا أصابوا من دينك أفضل منه.

وقال: من كثر سواد قوم فهو منهم أي من كثر سواد الظلمة.

وقال ابن مسعود: إن الرجل ليدخل على السلطان ومعه دينه فيخرج ولا دين له، قيل له: ولم؟ قال لأنه يرضيه بسخط من الله.

وقال سمنون: ما أسمج بالعالم أن يؤتى إلى مجلسه فلا يوجد فيسأل عنه فيقال: عند الأمير.. وكنت أسمع أنه يقال: إذا رأيتم العالم يحب الدنيا فاتهموه على دينكم حتى جربت ذلك، إذ ما دخلت قط على السلطان إلا وحاسبت نفسي بعد الخروج، فأرى عليها الدرك مع ما أواجههم به من الغلظة والمخالفة لهواهم.

ولما خالط الزهري السلطان كتب أخ له في الدين إليه: (عافانا الله وإياك أبا بكر من الفتن فقد أصبحت بحال ينبغي لمن غرفك أن يدعو لك الله ويرحمك، أصبحت شيخاً كبيراً قد أثقلتك نعم الله لما فهمك من كتابه وعلمك من سنة نبيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وليس كذلك أخذ الله الميثاق على العلماء قال الله تعالى :{ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ } (آل عمران: 187)، واعلم أن أيسر ما ارتكبت وأخف ما احتملت أنك آنست وحشة الظالم وسهلت سبيل البغي بدنوك ممن لم يؤد حقاً ولم يترك باطلاً حين أدناك، اتخذوك قطباً تدور عليك رحى ظلمهم وجسراً يعبرون عليك إلى بلائهم وسلماً يصعدون فيه إلى ضلالتهم ويدخلون بك الشك على العلماء، ويقتادون بك قلوب الجهلاء، فما أيسر ما عمروا في جنب ما خربوا عليك، وما أكثر ما أخذوا منك فيما أفسدوا عليك من دينك، فما يؤمن أن تكون ممن قال الله تعالى فيهم :{ فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ} (لأعراف:169).. وإنك تعامل من لا يجهل ويحفظ عليك من لا يغفل فداو دينك فقد دخله سقم وهيئ زادك فقد حضر سفر بعيد :{ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ } (ابراهيم: 38).. والسلام)

قلنا: فكيف ينكر عليهم إن امتنع عن زيارتهم؟

قال: لقد ذكر فقهاؤنا العدول عذرين للدخول على هؤلاء:

أما أولهما، فأن يكون من جهتهم أمر إلزام لا أمر إكرام، وعلم أنه لو امتنع أوذي أو فسد عليهم طاعة الرعية واضطرب عليهم أمر السياسة، فيجب عليه الإجابة لا طاعة لهم، بل مراعاة لمصلحة الخلق حتى لا تضطرب الولاية.

وأما الثانية، فأن يدخل عليهم في دفع ظلم عن الرعية أو عن نفسه، إما بطريق الحسبة أو بطريق التظلم، فذلك رخصة بشرط أن لا يكذب ولا يثني ولا يدع نصيحة يتوقع لها قبولاً فهذا حكم الدخول([45]).

قلنا: عرفنا التضحية بالجاه.. فما التضحية بالمال؟

قال: أن لا يقبل منهم ما زاد على ما تتطلبه وظيفته من أجر.. وإن استطاع أن يستغني كان أولى..

قلنا: عرفنا التضحية بالجاه والمال، فهل هناك غيرهما؟

قال: أجل.. أن يقدم نفسه رخيصة في سبيل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.. لا يبالي من أجل ذلك بشيء.

قلنا: لقد ذكرت لنا ذلك في مواعظ العلماء للسلاطين.

قال: العالم لا يكتفي بالمواعظ التي يواجه بها السلطان.. بل ينكر آحاد المنكرات لا يبالي في ذلك هل رضي السلطان أم سخط.

قال أحدنا: لقد سمعنا بأن السلطان مطاع، وأنه ظل الله في أرضه.. وأن من تكلم بما يسيئه صار من الخوارج الذين هم كلاب أهل النار.

قال: السلطان مطاع إن أطاع الله.. فإن عصى الله فلا ينبغي طاعته..

قال الرجل: ولكن العلماء يقولون غير ذلك.

قال: أولئك علماء السلاطين.. وهم شركاء للسلاطين.. أما العلماء العدول، فهم الذين ينكرون على السلاطين.. ولا يخافون في الله لومة لائم.

الحكام

قلنا: عرفنا مسؤولية العلماء الذين هم رأس الأمة المدبر.. فما مسؤولية الحكام؟

قال: على الحكام أربع مسؤوليات:

الأولى.. الزهد في طلب الرئاسة إلا إذا رأوا أنفسهم أهلا لها.

والثانية.. الاستعانة بالصالحين في القيام بها.

والثالثة.. العفاف عن أموال الرعية.

والرابعة.. النصح للرعية.. والسعي في مصالحها..

الزهد:

قلنا: فحدثنا عن الأولى.

قال: أولى ما ينبغي على الحاكم العادل.. وأول ما يرشحه لإعانة الله له أن يتهرب من المسؤولية ما وجد لذلك مهربا.

قلنا: كيف يتهرب منها؟

قال: أن لا يطلبها ما دام هناك من هو أولى منه بها.. وأن لا يحرص على بقائه فيها إذا وجد من يخلفه فيها.. لقد ربى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هذه الأمة على هذا السلوك.. فكان يقول: ( إنا والله لا نولي هذا العمل أحداً سأله، أو أحداً حرص عليه)([46])  

وكان يقول: (إنكم ستحرصون على الإمارة وستكون ندامة يوم القيامة)([47])

وقال : ( إن شئتم أنبأتكم عن الإمارة وما هي، فنادى بعض الصحابة: بأعلى صوته: وما هي يا رسول الله؟ قال: (أولها ملامة، وثانيها ندامة، وثالثها عذاب يوم القيامة إلا من عدل، وكيف يعدل مع أقربيه)([48])

وقال : (ما من رجل يلي أمر عشرة فما فوق ذلك إلا أتى الله تعالى مغلولا يوم القيامة يداه إلى عنقه، فكه بره، أو أوثقه إثمه، أولها ملامة، وأوسطها ندامة، وآخرها خزي يوم القيامة)([49])

وقال لأبي ذر عندما قاله له : يا رسول الله ألا تستعملني؟ ـ قال أبو ذر: فضرب بيده على منكبي ـ ثم قال : (يا أبا ذر إنك ضعيف وإنها إمارة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة إلا من أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها)([50])

وقال له:( يا أبا ذر إني أراك ضعيفا وإني أحب لك ما أحب لنفسي، لا تأمرن على اثنين، ولا تلين مال يتيم)([51])

وقال : (إنكم ستحرصون على الإمارة، وستكون ندامة يوم القيامة، فنعمت المرضعة وبئس الفاطمة)([52])

وقال:( ويل للأمراء، ويل للعرفاء، ويل للأمناء ليتمنين أقوام يوم القيامة أن ذوائبهم معلقة بالثريا يدلون بين السماء والأرض وأنهم لم يلوا عملا)([53])

وقال:( ليوشكن رجل أن يتمنى أنه خر من الثريا ولم يل من أمر الناس شيئا)([54])

وقال: (ستفتح عليكم مشارق الأرض ومغاربها وإن عمالها في النار إلا من اتقى الله عز وجل وأدى الأمانة)([55])

وعندما جاءه حمزة بن عبد المطلب، فقال : يا رسول الله اجعلني على شيء أعيش به، قال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (يا حمزة نفس تحييها أحب إليك أم نفس تميتها؟ قال: نفس أحييها، قال: عليك نفسك([56]).

وضرب على منكب المقدام بن معديكرب ثم قال: (أفلحت يا قديم إن مت ولم تكن أميرا، ولا كاتبا ولا عريفا)([57])

وكان يقول: ( من طلب قضاء المسلمين حتى يناله ثم غلب عدله جوره فله الجنة ومن غلب جوره عدله فله النار)([58])

ولأجل هذا كان الصالحون من أكثر الناس كراهة لتولي الإمارة.. وقد ورد في الحديث قوله صلى الله عليه وآله وسلم : (تجدون خير الناس في هذا الشأن أشدهم له كراهية)([59]).. لقد علق الغزالي على هذا بقوله : (لم يزل المتقون يتركونها ويحترزون منها ويهربون من تقلدها وذلك لما فيه من عظم الخطر، إذ تتحرك بها الصفات الباطنة ويغلب النفس حب الجاه ولذة الاستيلاء ونفاذ الأمر وهو أعظم ملاذ الدنيا، فإذا صارت الولاية محبوبة كان الوالي ساعيًا في حظ نفسه، ويوشك أن يتبع هواه فيمتنع من كل ما يقدح في جاهه وولايته وإن كان حقًا، ويقدم على ما يزيد في مكانته وإن كان باطلاً)([60])

قلنا: ألا ترى أن هذا سيمكن للمنحرفين؟

قال: كيف؟

قال: إذا هرب الصالحون من تحمل مسؤولياتهم.. فسيتولاها المنحرفون.. وستفسد بتوليهم البلاد والعباد.

قال: اصبروا علي لأكمل ما قال الغزالي.. فلعل فيها جوابا لكم.. لقد قال بعدما ذكر ما ذكر من النهي عن الحرص على الإمارة : ( ولعل قليل البصيرة يرى ما ورد من فضل الإمارة مع ما ورد من النهي عنها متناقضًا، وليس كذلك، بل الحق فيه أن الخواص الأقوياء في الدين لا ينبغي أن يمتنعوا من تقلد الولايات، وأن الضعفاء لا ينبغي أن يدوروا بها فيهلكوا، وأعني بالقوي الذي لا تُميله الدنيا، ولا يستفزه الطمع، ولا تأخذه في الله لومة لائم، وهم الذين سقط الخلق عن أعينهم، وزهدوا في الدنيا، وتبرموا بها وبمخالطة الخلق، وقهروا أنفسهم وملكوها، وقمعوا الشيطان فآيس منهم، فهؤلاء لا يحركهم إلا الحق، ولا يسكنهم إلا الحق، ولو زهقت فيه أرواحهم، فهم أهل نيل الفضل في الإمارة)([61])

قال رجل منا: أهذا اجتهاد اجتهده.. أم هو ما دلت عليه النصوص؟

قال: بل هو ما دلت عليه النصوص المقدسة.. لقد قال تعالى يذكر عن يوسف طلبه لتولي الخزائن.. قال تعالى:{ وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ (54) قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55)} (يوسف)

انظروا كيف طلب يوسف u هذا التمكين.. ولكنه لم يطلبه لنفسه.. لقد طلبه للخلائق الذين رأى أن المجاعة ستفتك بهم لو لم يقم بما لديه من طاقات بإنقاذهم مما ينتظرهم من تهلكة([62]).. ولهذا ذكر صفتين كلاهما شرط في كل مسؤول.. إنهما الحفظ.. والعلم..

فكل مسؤول لا يستحق المسؤولية إلا إذا توفر فيه هذان الركنان: أمانة وخلق وحفظ.. وفي نفس الوقت علم وخبرة وقدرة.

النصح:

قلنا: حدثتنا عن الأولى.. فحدثنا عن الثانية.

قال: النصح للرعية وعدم غشها.

قلنا: هل تقصد أن يجتمع معها لينصحها؟

قال: النصح الذي تدل عليه النصوص المقدسة أعم من أن يكون خاصا بالكلام.. إنه يشمل الحياة جميعا.. ولهذا عرف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الدين جميعا بكونه نصيحة.. ففي الحديث:( الدين النصيحة، الدين النصيحة، الدين النصيحة)، قالوا : لمن يا رسول الله؟ قال : (لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين، والمؤمنين، وعامتهم)([63])

وقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يبايع أصحابه على هذا.. حدث جرير بن عبد الله قال: بايعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والنصح لكل مسلمٍ([64]).

وكان صلى الله عليه وآله وسلم يشدد عليهم في شأنها.. ومما قال في ذلك : ( من جاء يوم القيامة بخمس لم يصد وجهه عن الجنة: النصح لله ولدينه ولكتابه ولرسوله ولجماعة المسلمين)([65])

وقال : ( لا يزال المؤمن في فسحة من دينه ما محض أخاه النصيحة، فإذا حاد عن ذلك سلب التوفيق)([66])

قلنا: عرفنا فضل النصيحة.. فكيف ينصح الإمام رعيته؟

قال: بأن يتعامل معها كما يتعامل مع نفسه.

قلنا: كيف ذلك؟

قال: ألا ترون التاجر كيف يختار لنفسه أجمل البضائع وأحسنها؟

قلنا: ذلك صحيح.

قال: فالراعي الصالح هو الذي يتعامل مع رعيته كما يتعامل مع نفسه.. هذا هو الضابط الذي يضبط النصح.. ولقد عبر عنه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقوله : (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)([67])، وفي رواية : ( لا يبلغ العبد حقيقة الإيمان حتى يحب للناس ما يحب لنفسه)

قلنا: هذا إجمال.. فهات تفاصيله.

قال: لقد دأب الصالحون من العلماء أن يبينوا سنن العدل التي يتم بها نصح الراعي لرعيته..

ومن ذلك أن عمر بن عبد العزيز سأل محمد بن كعب القرظي فقال: صف لي العدل. فقال: كل مسلم أكبر منك سناً فكن له ولداً، ومن كان أصغر منك فكن له أباً، ومن كان مثلك فكن له أخاً، وعاقب كل مجرم على قدر جرمه، وإياك أن تضرب مسلماً سوطاً واحداً على حقد منك فإن ذلك يصيرك إلى النار.

ومن ذلك أن الإمام أبا حامد الغزالي كتب رسالة في أصول العدل لبعض الملوك([68]).. ومن وصاياه فيها قوله : ( اعلم ـ أيها السلطان ـ أنّ ما كان بينك وبين الخالق سبحانه فإن عفوه قريب، وأما ما يتعلق بمظالم الناس فإنه لا يتجاوز به عنك على كل حال يوم القيامة وخطره عظيم ولا يسلم من هذا الخطر أحد من الملوك إلا ملك عمل بالعدل والإنصاف ليعلم كيف يطلب العدل والإنصاف يوم القيامة)

ولم يكتف أبو حامد بالموعظة المجردة.. بل ذكر له عشرة من أصول العدل والإنصاف كلها مستنبطة من النصوص المقدسة، ومن آثار الحكام العدول من المسلمين.. وكلها تدل على المنهج الصحيح الذي يتحقق به النصح الذي أمر الحكام أن يتعاملوا به مع رعاياهم.

قلنا: فما الأصل الأول منها؟

قال: لقد عبر عنه الغزالي بقوله : (الأصل الأول هو أن يعرف الحاكم قدر الولاية وخطرها.. فإن الولاية نعمة من نعم الله عز وجل، من قام بحقّها نال من السعادة ما لا نهاية له ولا سعادة بعده، ومن قصّر عن النهوض بحقها حصل في شقاوة لا شقاوة بعدها إلا الكفر بالله تعالى)

وقد ساق له من النصوص التي تدل على هذا قوله صلى الله عليه وآله وسلم : (عدل السلطان يوماً واحداً أحب إلى الله من عبادة سبعين سنة ).. وقال:(أحب الناس إلى الله تعالى وأقربهم إليه السلطان العادل، وأبغضهم إليه وأبعدهم منه السلطان الجائر).. وقال (والذي نفس محمد بيده إنه ليرفع للسلطان العادل إلى السماء من العمل مثل عمل جملة الرعية، وكل صلاة يصلّيها تعدل سبعين ألف صلاة).

فإذا كان كذلك فلا نعمة أجلّ من أن يعطى العبد درجة السلطنة ويجعل ساعة من عمره بجميع عمر غيره، ومن لم يعرف قدر هذه النعمة واشتغل بظلمه وهواه يخاف عليه أن يجعله الله من جملة أعدائه.

قلنا: فما الثاني؟

قال: لقد عبر الغزالي عنه بقوله : (أن يشتاق أبداً إلى رؤية العلماء، ويحرص على استماع نصحهم)، ونبهه أن يحذر من علماء السوء الذين يحرصون على الدنيا.. قاله له محذرا: ( فإنهم يثنون عليك، ويغرونك ويطلبون رضاك طمعاً فيما في يديك من خبث الحطام ووبيل الحرام، ليحصلوا منه شيئاً بالمكر والحيل.. والعالم هو الذي لا يطمع فيما عندك من المال، ومنصفك في الوعظ والمقال)

وقال له : ( أيها السلطان خطر الولاية عظيم، وخطبها جسيم، والشرح في ذلك طويل، ولا يسلم الوالي الا بمقارنة علماء الدين ليعلموه طرق العدل ويسهلوا عليه خطر هذا الأمر)

قلنا: فما الثالث؟

قال: لقد عبر الغزالي عنه بقوله : (أن لا تقنع برفع يدك عن الظلم.. لكن تهذّب غلمانك وأصحابك وعمالك ونوابك، فلا ترضى لهم بالظلم فإنك تُسأل عن ظلمهم كما تُسأل عن ظلم نفسك)

وقال له وهو يقرر هذا الأصل: ( وينبغي للوالي أن يعلم أنه ليس أحدُ أشد غبناً ممن باع دينه وآخرته بدنيا غيره، وأكثر الناس في خدمة شهواتهم، فإنهم يستنبطون الحيل ليصلوا إلى مرادهم من الشهوات.. وكذلك العمال لأجل نصيبهم من الدنيا يغرون الوالي ويحسنون الظلم عنده، فيلقونه في النار ليصلوا إلى أعراضهم، وأي عدو أشد عداوة ممن يسعى في هلاكك وهلاك نفسه لأجل درهم يكتسبه ويحصله. وفي الجملة ينبغي لمن أراد حفظ العدل على الرعية أن يرتّب غلمانه وعماله للعدل، ويحفظ أحوال العمار، وينظر فيها كما ينظر في أحوال أهله وأولاده ومنزله، ولا يتم له ذلك إلا بحفظ العدل أولاً من باطنه؛ وذلك أن لا يسلّط شهوته وغضبه على عقله ودينه، ولا يجعل عقله ودينه أسرى شهوته وغضبه بل يجعل شهوته وغضبه أسرى عقله ودينه)

وقال له : ( ويجب أن يعلم أن العقل من جوهر الملائكة ومن جند البارئ، جلّت قدرته، وأن الشهوة والغضب من جند الشيطان.. فمن يجعل جند الله وملائكته أسرى جند الشيطان كيف يعدل في غيرهم؟ وأول ما تظهر شمس العدل في الصدر ثم ينشر نورها في أهل البيت وخواص الملك فيصل شعاعها إلى الرعية، ومن طلب الشعاع في غير الشمس فقد طلب المحال، وطمع فيما لا ينال)

قلنا: فما الرابع؟

قال: لقد عبر الغزالي عنه بقوله : ( إن الوالي في الأغلب يكون متكبراً.. ومن التكبر يحدث عليه السخط الداعية إلى الانتقام، والغضب غول العقل وعدوه وآفته، وإذا كان الغضب غالباً، فينبغي أن يميل في الأمور إلى جانب العفو ويتعود الكرم والتجاوز، فإذا صار ذلك عادة لك ماثلت الأنبياء والأولياء، ومتى جعلت إمضاء الغضب عادة ماثلت السباع والدواب)

وحكى له عن الحسن بن علي أنه بلغه عن رجل كلام يكرهه فأخذ طبقاً مملوأً من التمر الجني وحمله بنفسه إلى دار ذلك الرجل فطرق الباب فقام الرجل وفتح الباب فنظر إلى الحسين ومعه الطبق فقال: وما هذا يا ابن بنت رسول الله؟ قال: خذه، فإنه بلغني عنك إنك أهديت إليّ حسناتك فقابلت بهذا.

وحكى له أن زين العابدين علي بن الحسين خرج إلى المسجد فسبّه رجل فقصده غلمانه ليضربوه ويؤذنه فنهاهم زين العابدين وقال: كفوا أيديكم عنه، ثم التفت إلى ذلك الرجل وقال: يا هذا أنا أكثر مما تقول وما لا تعرفه مني أكثر مما قد عرفته، فإن كان لك حاجة في ذكره ذكرته لك، فخجل واستحيى فخلع عليه زين العابدين قميصه وأمر له بألف درهم فمضي الرجل وهو يقول: أشهد أن هذا الشاب ولد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

وحكى له أن زين العابدين استدعى غلاماً له وناداه مرتين فلم يجبه فقال له زين العابدين: أما سمعت ندائي؟ فقال: بلى قد سمعت، قال: فما حملك على تركك إجابتي عليّ؟ قال: أمنت.. وعرفت طهارة أخلاقك فتكاسلت، فقال: الحمد لله الذي أمن مني عبدي.

وحكى أنه كان لزين العادبدين غلام، فعمد إلى شاة فكسر رجلها فقال له: لم فعلت هذا؟ قال: فعلته غمداً لأغيظك، قال: ما أنا أغيظ من الذي علمك وهو إبليس.. اذهب فأنت حر لوجه الله تعالى.

وحكى له أن رجلاً سبه فقال له زين العابدين: يا هذا بيني وبين جهنم عقبة إن أنا أجزتها فما أبالي وإن أنا لم أجزها فأنا أكثر مما تقول.

وحكى له قبل ذلك عن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يقسم يوماً مالاً فقال له رجل: ما هذه القسمة؟ يعني أنها ليست بإنصاف، فحكى ابن مسعود ذلك لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فغضب واحمرّ وجهه ولم يقل شيئاً سوى أن قال: (رحم الله أخي موسى فإنه أوذي فصبر على الأذى)([69])

ثم عقب على ذلك بقوله : ( فهذه الجملة من الحكايات والأخبار تقنع في نصيحة الولاة إذا كان أصل إيمانهم ثابتاً أثر فيه هذا القدر، فإن لم يؤثر ما ذكرناه فيهم فقد أخلوا قلوبهم من الإيمان، وإنه ما بقي من إيمانهم إلا الحديث باللسان)

قلنا: فما الخامس؟

قال: لقد عبر الغزالي عنه بقوله : ( إنك في كل واقعة تصل إليك وتعرض عليك تقدر أنك واحد من جملة الرعية، وأن الوالي سواك، فكل ما لا ترضاه لنفسك لا ترضى به لأحد من المسلمين، وإن رضيت لهم بما لا ترضاه لنفسك فقد خنت رعيتك وغششت أهل ولايتك)

قلنا: فما السادس؟

قال: لقد عبر الغزالي عنه بقوله : ( أن لا تحتقر انتظار أرباب الحوائج ووقوفهم ببابك، واحذر من هذا الخطر، ومتى كان لأحد من المسلمين إليك حاجة، فلا تشتغل عن قضائها بنوافل العبادات، فإن قضاء حوائج المسلمين أفضل من نوافل العبادات)

قلنا: فما السابع؟

قال: لقد عبر الغزالي عنه بقوله : ( أن لا تعود نفسك الاشتغال بالشهوات من لبس الثياب الفاخرة وأكل الأطعمة الطيبة، لكن تستعمل القناعة في جميع الأشياء فلا عدل بلا قناعة)

قلنا: فما الثامن؟

قال: لقد عبر الغزالي عنه بقوله : ( إنك متى أمكنك أن تعمل الأمور بالرفق واللطف فلا تعملها بالشدة والعنف)

قلنا: فما التاسع؟

قال: لقد عبر الغزالي عنه بقوله : ( أن تجتهد أن ترضى عنك رعيتك بموافقة الشرع)

وحدثه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال لأصحابه: (خير أمتي الذين يحبونكم وتحبونهم، وشر أمتي الذين يبغضونكم وتبغضونهم ويلعنونكم وتلعنونهم)

ثم قال له : ( وينبغي للوالي أن لا يغتر بكل من وصل إليه وأثنى عليه، وأن لا يعتقد أن الرعية مثله راضون عنه، وأن الذي يثني عليه إنما يفعل ذلك من خوفه منه، بل ينبغي ترتيب معتمدين يسألون عن حاله من الرعية ليعلم عيبه من ألسنة الناس)

قلنا: فما العاشر؟

قال: لقد عبر الغزالي عنه بقوله : ( أن لا يطلب رضا أحد من الناس بمخالفة الشرع، فإن من سخط بخلاف الشرع لا يضر سخطه)

وحدثه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : (من طلب رضا الله تعالى في سخط الناس  وأرضى عنه الناس، ومن طلب رضا الناس بسخط الله تعالى سخط الله عليه وأسخط الخلق عليه، مثل أن لا يأمرهم بالطاعة ولا يعلمهم أمور الدين ويطعمهم الحرام ويمنع الأجير أجرته والمرأة مهرها، سخط الله عليه وأسخط عليه الناس)

البطانة:

قلنا: حدثتنا عن الثانية.. فحدثنا عن الثالثة.

قال: لابد للحاكم مهما كانت مرتبة حكمه من وزراء يعينونه.. وعمال ينوبون عنه..

لقد ذكر الله تعالى ذلك، فقال عن نبيه موسى u :{ وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي } (طـه:29)، فلو كان الحاكم يستغني عن الوزراء لكان أحق الناس بذلك كليم الله موسى u..

ثم ذكر الله تعالى الحكمة من الحاجة الوزراء فقال :{ اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (32) كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا (33) وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا (34) إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا (35)} (طه).. فقد دلت هذه الآيات على أن الوزير هو عون الملك وشريكه وصاحبه في عبادة الله وفي تحقيق العدل الذي هو العبادة الكبرى للحكام.

قالوا: نعلم حاجة الوزراء والأعوان.. لكن ما علاقتهم بتحقيق العدل؟

قال: العدل لا يقوم على أحد كما يقوم على هؤلاء.. فقد يكون الحاكم صالحا.. ولكنه يبتلى بمن يصرفه عن الصلاح.. فيشير عليه بالفساد..

وقد روي في الأخبار من ذلك أن موسى u قال لفرعون: آمن ولك الجنة ولك ملكك.. قال: لا حتى أشاور هامان.. فشاوره في ذلك فقال: بينما أنت إله تعبد إذ صرت تعبد! فأنف واستكبر، وكان من أمره ما كان.

لقد قال الحكماء في هذا المنصب : ( الوزير عون على الأمور وشريك في التدبير، وظهير على السياسة ومفزع عند النازلة،  والوزير مع الملك بمنزلة سمعه وبصره ولسانه وقلبه)، وقالوا في الأمثال: (نعم الظهير الوزير)

وذكروا أن أول ما يستفيد الحاكم من الوزير أمران: علم ما كان يجهله، ويقوي عنده علم ما كان يعلمه.

وذكروا أن أول ما يظهر نبل الحاكم وقوة تمييزه وجودة عقله في استنجاب الوزراء واستنفاد الجلساء ومحادثة العقلاء، فهذه ثلاث خصال تدل على كماله وبهائه، يجمل في الخلق ذكره ويجل في العقول قدره، وترسخ في النفوس عظمته والمرء موسوم بقرينه. وكان يقال: حلية الملوك وزينتهم وزراؤهم.

وذكروا أنه لا يصلح السلطان إلا بالوزراء ولا الأعوان إلا بالمودة والنصيحة، ولا المودة والنصيحة إلا بالرأي والعفاف..

وذكروا أن أعظم الأشياء ضرراً على الناس عامة، وعلى الولاة خاصة أن يحرموا صالحي الوزراء ولأعوان، فتكون أعوانهم غير ذي جدوى وغنى، ويحذر الملك أن يولي الوزارة غير المتحرين كيلا تضيع الأمور، كما يحذر أن يتطبب بغير طبيب بصير مأمون.

وضربوا مثالا للحاكم الخير مع الوزير السوء الذي يمنع الناس خيره ولا يمكنهم من الدنو منه كالماء الصافي، فيه التمساح فلا يستطيع المرء دخوله، وإن كان سابحاً وكان إلى الماء محتاجاً..

وضربوا مثالا آخر، فقالوا : ( السلطان مثل الطبيب، ومثل الرعية مثل المرضى، ومثل الوزير مثل السفير بين المرضى والأطباء، فإن كذب السفير بطل التدبير، وكما أن السفير إذا أراد أن يقتل أحداً من المرضى وصف للطبيب نقيض دائه، فإذا سقاه الطبيب على صفة السفير هلك العليل، كذلك الوزير ينقل إلى الملك ما ليس في الرجل فيقتله الملك)

قال رجل من القوم: لقد ذكرت لنا ما ذكرت الحكماء، ولم تذكر لنا ما قال سيد الحكماء.

قال: لقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقرر هذه الحقيقة، ويدعو من خلالها إلى الاهتمام بالبطانة الصالحة:( إن الله تعالى لم يبعث نبيا ولا خليفة إلا وله بطانتان: بطانة تأمره بالمعروف وتنهاه عن المنكر، وبطانة لا تألوه خبالا، ومن يوق بطانة السوء فقد وقي)([70])

وقال:( ما بعث الله من نبي ولا استخلف من خليفة إلا كانت له بطانتان : بطانة تأمره بالمعروف وتحضه عليه: وبطانة تأمره بالشر وتحضه عليه، فالمعصوم من عصمه الله)([71])

وقال: ( من ولي منكم عملا، فأراد الله به خيرا جعل له وزيرا صالحا إن نسي ذكره وإن ذكر أعانه)([72])

وقال : ( إذا أراد الله بالامير خيرا جعل له وزير صدق إن نسي ذكره وإن ذكر أعانه، وإذا أراد الله به غير ذلك جعل وزير سوء إن نسي لم يذكره وإن ذكره لم يعنه)([73])

العفاف:

قلنا: حدثتنا عن الثالثة.. فحدثنا عن الرابعة.

قال: لا يكمل الحاكم ولا ينصح إلا إذا امتلأت نفسه غنى بالله وبفضل الله عن أن يمد يده  لرعيته يغصبها ما وهبها الله من حقوق أو منافع.

قلنا: ما تقصد بهذا؟

قال: الحاكم العادل هو الذي يعتبر نفسه فردا من الرعية، فلا يستأثر دونها بشيء.. بل إنه ـ كما تدل النصوص ـ ينبغي أن يكون أكثر اشتدادا على نفسه من الرعية على نفسها.

لقد ورد في الحديث أن  رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم استعمل عاملا، فجاءه العامل حين فرغ من عمله، فقال : يا رسول الله، هذا لكم، وهذا أهدي لي، فقال له : أفلا قعدت في بيت أبيك وأمك فنظرت أيهدى لك أم لا؟ ثم قام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عشية بعد الصلاة، فتشهد وأثنى على الله بما هو أهله، ثم قال : (أما بعد، فما بال العامل نستعمله، فيأتينا فيقول : هذا من عملكم، وهذا أهدي لي، أفلا قعد في بيت أبيه وأمه فنظر هل يهدى له أم لا، فوالذي نفس محمد بيده، لا يغل أحدكم منها شيئا، إلا جاء به يوم القيامة يحمله على عنقه، إن كان بعيرا جاء به له رغاء، وإن كانت بقرة جاء بها لها خوار، وإن كانت شاة جاء بها تيعر) ([74])

انظروا.. كيف اعتبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الهدية رشوة..

الرعية

قلنا: عرفنا مسؤولية العلماء ومسؤولية الحكام.. فما مسؤولية الرعية؟

قال: على الرعية مسؤوليتان.. أما الأولى: فأن يكونوا جميعا من الموالاة.. وأما الثانية: فأن يكونوا جميعا من المعارضة.

ضحك بعضنا، وقال: هذه رعية الطابور الخامس.

قال: هذه رعية الحكم العادل.. فلا يمكن لموازين الحاكم إن تعتدل إن لم تضبط بمن يواليها إذا احتاجت للموالاة، ويعارضها إناحتاجت للمعارضة.

الولاء:

قلنا: فما تريد بالموالاة؟

قال: الأصل في الحاكم أن يطاع.. لأنه لا يمكن أن تستقيم أمور الرعية مع معصيتها له.. وإلا فإنه لا فائدة حينذاك لوجود الحاكم..

إن الحاكم عندنا كالإمام الذي تنتظم به صفوف رعية المصلين.. ولا تصح صلاة مصل يخالف إمامه في صلاته.

لقد وردت النصوص بهذا.. فقد قال الله تعالى:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (59)} (النساء)

وقد ورد في السنة ما يدل على وجوب هذه الطاعة:

قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ( اسمعوا وأطيعوا وإن أمر عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة)([75])

وعن أم الحصين  أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يخطب في حجة الوداع يقول: (ولو استعمل عليكم عبد يقودكم بكتاب الله، اسمعوا له وأطيعوا)([76])

وقال صلى الله عليه وآله وسلم: ( سيليكم بعدي ولاة، فيليكم البر ببره، ويليكم الفاجر بفجوره، فاسمعوا لهم وأطيعوا في كل ما وافق الحق، وصلوا وراءهم، فإن أحسنوا فلكم ولهم وإن أساءوا فلكم وعليهم)([77])

وقال: ( كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء، كلما هلك نبي خلفه نبي، وإنه لا نبي بعدي، وسيكون خلفاء فيكثرون)، قالوا: يا رسول الله، فما تأمرنا؟ قال: (أوفوا ببيعة الأول فالأول، وأعطوهم حقهم، فإن الله سائلهم عما استرعاهم) ([78])

وقال:( من رأى من أميره شيئًا فكرهه فليصبر؛ فإنه ليس أحد يفارق الجماعة شبرا فيموت إلا مات ميتة جاهلية)([79])

وقال:( من خلع يدا من طاعة، لقي الله يوم القيامة لا حجة له، ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية)([80])

لقد اتفق على هذا المعنى جميع المسلمين.. فلا يمكن أن تتحقق العدالة من دون هذا..

قلنا: ولكن ألا ترى أن هذا الكلام هو نفس الكلام الذي يقوله علماء السلاطين؟

قال: هم يقولونه ولا يفقهون محله.

قلنا: فما محله؟

قال: لقد حد الشرع للطاعة حدودا لا ينبغي تجاوزها.

قلت: فما هي؟

قال: أن تكون الطاعة فيما يحقق العدل والإحسان والمعروف..

لقد وردت النصوص تقيد الطاعة بهذا.. ففي الحديث عن علي قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سرية، واستعمل عليهم رجلا من الأنصار، فلما خرجوا وَجَد عليهم في شيء. قال: فقال لهم: أليس قد أمركم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن تطيعوني؟ قالوا: بلى، قال: اجمعوا لي حطبا، ثم دعا بنار فأضرمها فيه، ثم قال: عزمت عليكم لتدخلنها.. قال: فهم القوم أن يدخلوها، قال: فقال لهم شاب منهم: إنما فررتم إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من النار، فلا تعجلوا حتى تلقوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فإن أمركم أن تدخلوها فادخلوها.. قال: فرجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأخبروه، فقال لهم : ( لو دخلتموها ما خرجتم منها أبدا؛ إنما الطاعة في المعروف)([81])

وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحب وكره، ما لم يؤمر بمعصية، فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة)([82])

وقال صلى الله عليه وآله وسلم : ( أخوف ما أخاف على أمتي ثلاث: رجل قرأ كتاب الله حتى إذا رئيت عليه بهجته وكان عليه رداء الإسلام أعاره الله تعالى إياه اخترط سيفه وضرب به جاره ورماه بالشرك، قيل: يا رسول الله الرامي أحق به أم المرمي؟ قال: الرامي، ورجل آتاه الله سلطانا فقال: من أطاعني فقد أطاع الله ومن عصاني فقد عصى الله وكذب ليس لخليفة أن يكون جنة دون الخالق، ورجل استخفته الأحاديث كلما قطع أحدوثة حدث بأطول منها أن يدرك الدجال يتبعه)([83])

المعارضة:

قلنا: عرفنا الولاء.. وعرفنا حدوده.. فما تريد بالمعارضة؟

قال: لا ينبغي للرعية أن تكتفي بمعصية الحاكم إن أمرها بمعصية الله.. بل عليها أن تشهر ذلك.. وعليها أن تواجهه بالإنكار.. لقد وردت النصوص الكثيرة تدل على ذلك..

ففي الحديث قال صلى الله عليه وآله وسلم: (إياكم والجلوس بالطرقات)، قالوا: يا رسول الله ما لنا بد من مجالسنا نتحدث فيها، قال: (فإذا أبيتم إلا المجلس فأعطوا الطريق حقه)، قالوا: وما حقه؟ قال : ( غض البصر وكف الأذى ورد السلام والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) ([84])  

انظروا كيف اعتبر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبا على كل مسلم..

وفي حديث الآخر قال صلى الله عليه وآله وسلم: ( من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان)([85])

وقال صلى الله عليه وآله وسلم : ( من رأى منكم منكرا فغيره بيده فقد برئ، ومن لم يستطع أن يغيره بيده فغيره بلسانه فقد برئ، ومن لم يستطع أن يغيره بلسانه فغيره بقلبه فقد برئ وذلك أضعف الإيمان)([86])

قال رجل منا: لقد حدثتنا عن إنكار العلماء على الولاة.. فحدثنا عن إنكار العامة عليهم، ونصحهم لهم.

قال: لقد ورد من ذلك الكثير.. وهو يرد على علماء السلاطين الذين يحثون على الولاء المطلق.. ولا يحثون على المعارضة إن وجد ما يسوغها..

من ذلك ما حدث به الزهري قال: ما سمعت بأحسن من كلام تكلم به رجل عند سليمان بن عبد الملك، فقال: يا أمير المؤمنين اسمع مني أربع كلمات، فيهن صلاح دينك وملكك وآخرتك ودنياك. قال: ما هن؟ قال: لا تعد أحداً عدة وأنت لا تريد إنجازها، ولا يغرنك مرتقى سهلاً إذا كان المنحدر وعراً، واعلم أن للأعمال جزاء فاحذر العواقب، وللدهر ثورات فكن على حذر.

ومن ذلك أن رجلا قال لعمر بن عبد العزيز: يا أمير المؤمنين.. اذكر بمقامي هذا مقاماً لا يشغل الله عنك كثرة من تخاصم من الخلائق يوم تلقاه بلا ثقة من العمل ولا براءة من الذنب.. فبكى عمر بكاء شديداً ثم استرده الكلام، فجعل يردده وعمر يبكي وينتحب، ثم قال: حاجتك؟ فقال: عاملك بأذربيجان أخذ مني اثني عشر ألف درهم. فقال: اكتبوها له حتى ترد عليه.

ومن ذلك أنه لما ولي عمر بن عبد العزيز وفد عليه الوفود من كل بلد، فوفد عليه الحجازيون فتقدم منهم غلام للكلام، وكان حديث السن، فقال عمر: لينطق من هو أسن منك. فقال الغلام: أصلح الله أمير المؤمنين! إنما المرء بأصغريه: قلبه ولسانه، فإذا منح الله العبد لساناً لافظاً وقلباً حافظاً، فقد استحق الكلام وعرف فضله من سمع خطابه، ولو أن الأمر يا أمير المؤمنين بالسن لكان في الأمة من هو أحق منك بمجلسك هذا. فقال عمر: صدقت! قل ما بدا لك، فقال الغلام: أصلح الله أمير المؤمنين! نحن وفد تهنئة لا وفد مرزئة، وقد أتيناك لمن الله الذي من علينا بك، لم تقدمنا إليك رغبة ولا رهبة، أما الرغبة فقد أتتنا منك في بلادنا، وأما الرهبة فقد أمنا جورك بعدلك. فقال له عمر: عظني يا غلام! فقال: أصلح الله أمير المؤمنين! إن ناساً غرهم حلم الله عليهم وطول أملهم، وكثرة ثناء الناس عليهم، فزلت بهم أقدامهم فهووا في النار، فلا يغرنك حلم الله عليك وطول أملك، وكثرة ثناء الناس عليك، فتزل بك قدمك فتلتحق بالقوم، فلا جعلك الله منهم وألحقك بصالحي هذه الأمة! ثم سكت، فسأل الإمام عمر الغلام عن سنه، فإذا هو ابن إحدى عشرة سنة، ثم سأل عن نسبه فإذا هو من ولد الحسين بن علي بن أبي طالب

ومن ذلك أن رجلا اسمه زياد دخل على عمر بن عبد العزيز فقال: يا زياد ألا ترى إلى ما ابتليت به من أمر أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم؟ فقال زياد: يا أمير المؤمنين والله لو أن كل شعرة منك قطعت ما بلغت كنه ما أنت فيه، فاعمل لنفسك في الخروج مما أنت فيه يا أمير المؤمنين كيف حال رجل له خصم ألد؟ قال: سيئ الحالة. قال: فإن كان له خصمان ألدان؟ قال: أسوأ الحالة. قال: فإن كانوا ثلاثة؟ قال: لا يهنيه عيش. قال: فو الله ما من أحد من أمة محمد إلا وهو خصمك! فبكى حتى تمنيت أن لا أكون قلت له ذلك.

ومن ذلك أن رجلاً قال لعبيد الله العمري: هذا هارون الرشيد في الطواف قد أخلي له المسعى، فقال له: لا جزاك الله عني خيراً كلفتني أمراً كنت عنه غنياً! ثم جاء إليه فقال: يا هارون! فلما نظر إليه قال: لبيك يا عم! قال: كم ترى ههنا من خلق الله تعالى؟ قال: لا يحصيهم إلا الله. قال: اعلم أيها الرجل أن كل واحد منهم يسأل عن خاصة نفسه، وأنت وحدك تسأل عنهم كلهم، فانظر كيف تكون؟ قال: فبكى هارون وجلس فجعلوا يعطونه منديلاً منديلاً للدموع، ثم قال له: والله إن الرجل ليسرف في مال نفسه فيستحق الحجر عليه، فكيف بمن أسرف في مال المسلمين؟ فيقال إن هارون كان يقول بعد ذلك: إني أحب أن أحج في كل عام، وما يمنعني من ذلك إلا عبيد الله العمري.

ومن ذلك أن بعض النساك دخل على هارون الرشيد، فسلم عليه فقال: وعليك السلام أيها الملك! ثم قال له: أيها الملك تحب الله؟ قال: نعم. قال: فتعصيه؟ قال: نعم. قال: كذبت والله في حبك إياه! إنك لو أحببته إذا ما عصيته، ثم أنشد يقول:

تعصي الإله وأنت تظهر حبه = هذا لعمري في الفعال بديع

لو كان حبك صادقاً لأطعته =إن المحب لمن يحب مطيع

في كل يوم يبتديك بنعمة = منه وأنت لشكر ذاك مضيع

ومن ذلك ما ذكره بشر بن السري قال: بينما الحجاج جالساً في الحجر إذ دخل رجل من أهل اليمن، فجعل يطوف فوكل به بعض من معه قال: إذا خرج من طوافه فائتني به، فلما فرغ أتاه به فقال: ممن أنت؟ فقال: من أهل اليمن. قال: لقد تركته أبيض بضاً سميناً طويلاً عريضاً! قال: ويلك، ليس عن هذا أسألك! قال: فعمه؟ قال: عن سيرته وطعمته. قال: فأجور السيرة وأخبث الطعم، وأعدى العداة على الله وأحكامه. قال: فغضب الحجاج وقال: ويلك أوما علمت أنه أخي؟ قال: بلى. قال: إذن أفتك بك. قال: أما علمت أن الله ربي والله لهو أمنع لي منك أكثر منك لأخيك. قال: أجل أرسله يا غلام.

ومن ذلك أن روح بن زنباع كان في طريق مكة في يوم شديد الحر مع أصحابه، فنزلوا وضربت لهم الخيام والظلال، وقدم إليهم الطعام والشراب المبرد. فبينما هم كذلك وإذا هم براع، فدعاه إلى الطعام فأبى وقال: إني صائم! فقال له روح: في مثل هذا اليوم الحار؟ قال: أفأدع أيامي تذهب باطلاً؟ فقال له روح: لقد ضننت بأيامك يا راعي إذ جاد بها روح بن زنباع.

ومن ذلك أن أعرابياً قام بين يدي سليمان بن عبد الملك وقال: يا أمير المؤمنين، إني مكلمك كلاماً فاحتمله إن كرهته، فإن وراءه ما تحب إن قبلته. فقال: هات يا أعرابي. فقال: إني سأطلق لساني بما خرست به الألسن لحق الله ولحق أمانتك! إنه قد اكتنفك رجال أساءوا الاختيار لأنفسهم، وابتاعوا دنياك بدينهم ورضاك بسخط ربهم، خافوك في الله ولم يخافوا الله فيك، فلا تصلح دنياهم بفساد آخرتك، فأعظم الناس غبناً يوم القيامة من باع آخرته بدنيا غيره! فقال له سليمان: أما أنت فقد نصحت، وأرجو أن الله يعين على ما قلدنا وقد جردت لسانك وهو سيفك. فقال: أجل يا أمير المؤمنين، وهو لك لا عليك!

ومن ذلك ما ذكره ابن أبي العروبة قال: حج الحجاج فنزل بعض المياه بين مكة والمدينة ودعى بالغداء، وقال لحاجبه: انظر من يتغدى معي واسأله عن بعض الأمر. فنظر نحو الجبل فإذا هو براع بين شملتين نائم فضربه برجله وقال له: ائت الأمير! فأتاه، فقال له الحجاج: اغسل يديك وتغد معي. فقال: دعاني من هو خير منك فأجبته. فقال: من هو؟ قال: الله تعالى دعاني إلى الصيام فصمت. قال: في هذا الحر الشديد؟ قال: نعم صمت ليوم هو أشد حراً منه! قال: فافطر وصم غداً. قال: إن ضمنت لي البقاء إلى غد. قال: ليس ذلك إلي. قال: فكيف تسألني عاجلاً بآجل لا تقدر عليه؟ قال: لأنه طعام طيب. قال: لم تطيبه أنت ولا الطباخ ولكن طيبته العافية!

ومن ذلك أن بعض الزهاد حضر بين يدي خليفة، فقال له: عظني فقال: يا أمير المؤمنين إني سافرت الصين وكان ملك الصين قد أصابه الصمم وذهب سمعه، فسمعته يقول يوماً وهو يبكي: والله ما أبكي لزوال سمعي، وإنما أبكي لمظلوم يقف ببابي يستغيث فلا أسمع استغاثته، ولكن الشكر لله إذ بصري سالم.. وأمر منادياً ينادي ألا كل من كانت له ظلامة فليلبس ثوباً أحمر. فكان يركب الفيل فكل من رأى عليه ثوباً أحمر دعاه واستمع شكواه وأنصفه من خصمائه. فانظر يا أمير المؤمنين إلى شفقة ذلك الكافر على عباد الله وأنت مؤمن من أهل بيت النبوة فانظر كيف تريد أن تكون شفقتك على رعيتك.

ومن ذلك أن أعرابيا دخل على سليمان بن عبد الملك، فقال: تكلم يا أعرابي، فقال: يا أمير المؤمنين إني مكلمك بكلام فاحتمله وإن كرهته فإن وراءه ما تحب إن قبلته، فقال: يا أعرابي إنا لنجود بسعة الاحتمال على من لا نرجو نصحه ولا نأمن غشه فكيف بمن نأمن غشه ونرجو نصحه؟ فقال الأعرابي: يا أمير المؤمنين إنه قد تكنفك رجال أساؤوا الاختيار لأنفسهم وابتاعوا دنياهم بدينهم ورضاك بسخط ربهم خافوك في الله تعالى ولم يخافوا الله فيك، حرب الآخرة سلم الدنيا فلا تأمنهم على ما ائتمنك الله تعالى عليه فإنهم لم يألوا في الأمانة تضييعاً وفي الأمة خسفاً وعسفاً وأنت مسؤول عما اجترحوا وليسوا بمسؤولين عما اجترحت، فلا تصلح دنياهم بفساد آخرتك فإن أعظم الناس غبناً من باع آخرته بدنيا غيره، فقال له سليمان: يا أعرابي أما إنك قد سللت لسانك وهو أقطع سيفيك. قال: أجل يا أمير المؤمنين ولكن لا عليك.

ومن ذلك ما حدث به عبد الله بن مهران قال: حج الرشيد فوافى الكوفة فأقام بها أياماً ثم ضرب بالرحيل، فخرج الناس، وخرج بهلول المجنون فيمن خرج بالكناسة والصبيان يؤذونه ويولعون به؛ إذ أقلت هوادج هارون فكف الصبيان عن الولوع به فلما جاء هرون نادى بأعلى صوته: يا أمير المؤمنين فكثف هرون السجاف بيده عن وجهه فقال: لبيك يا بهلول فقال: يا أمير المؤمنين؛ حدثنا أيمن بن نائل عن قدامة بن عبد الله العامري قال: رأيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم منصرفاً من عرفة على ناقة له صهباء؛ لا ضرب ولا طرد ولا إليك إليك وتواضعك في سفرك هذا يا أمير المؤمنين خير لك من تكبرك وتجبرك. قال: فبكى هرون حتى سقطت دموعه على الأرض، ثم قال: يا بهلول زدنا رحمك الله قال: نعم يا أمير المؤمنين، رجل آتاه الله مالاً وجمالاً فأنفق من ماله وعف في جماله كتب في خالص ديوان الله تعالى مع الأبرار. قال: أحسنت يا بهلول، ودفع له جائزة: فقال: أردد الجائزة إلى من أخذتها منه فلا حاجة لي فيها، قال: يا بهلول فإن كان عليك دين قضيناه، قال: يا أمير المؤمنين هؤلاء أهل العلم بالكوفة متوافرون قد اجتمعت آراؤهم أن قضاء الدين بالدين لا يجوز. قال: يا بهلول فنجري عليك ما يقوتك أو يقيمك، قال: فرفع بهلول رأسه إلى السماء ثم قال: يا أمير المؤمنين أنا وأنت من عيال الله فمحال أن يذكرك وينساني. قال: فأسبل هرون السجاف ومضى.

   ومن ذلك ما حدث به شعيب بن حرب: بينما أنا في  طريق مكة، اذ رأيت هارون الرشيد، فقلت في نفسي: قد وجب عليك الأمر والنهي، فقالت لي: لا تفعل فان هذا رجل جبار ومتى أكرته ضرب عنقك.

فقلت في نفسي: لا بد من ذلك. فلما دنا مني صحت: يا هارون، قد أذيت الامة وأتعبت البهائم، فقال: خذوه. ثم أدخلت عليه وهو على كرسي وفي يده عمود يلعب به.

فقال: ممن الرجل؟، فقلت: من أفناء الناس. فقال: ممن ثكلتك أمك؟. قال: من الأبناء. قال: وما حملك أن تدعوني باسمي؟. فقلت: أنا أدعو الله باسمه فأقول يا الله، يا رحمن، وما ينكر من دعائي باسمك، وقد رأيت الله سمى في كتابه أحب الخلق اليه محمدا، وكنى أبغض الخلق اليه أبا لهب. فقال: أخرجوه.

قال رجل منا: بورك في كل هؤلاء.. ولكن هل ترى هذا النوع من الإنكار مجديا؟

قال: أجل.. إذا وجد الراعي كل رعيته تأمره بالمعروف وتنهاه عن المنكر، ولا تداهنه في ذلك، فإنه لن يجد إلا أن يخضع لها..

لقد ورد في الآثار الكثيرة ما يدل على تأثير المواعظ، وربما سمعت من ذلك ما يكفي:

ومن ذلك ما وري أن سائلا سأل عمر بن عبد العزيز: ما كان سبب توبتك؟ قال: كنت أضرب يوماً غلاماً فقال لي: اذكر الليلة التي تكون صبيحتها القيامة، فعمل ذلك الكلام في قلبي.

***

ما إن وصل حطيط الزيات من حديثه إلى هذا الموضع حتى جاء السجان، ومعه مجموعة من الجنود، ثم أخذوا بيد حطيط، وساروا به إلى مقصلة الإعدام..

أراد بعضنا أن يتدخل ليمنعهم.. فأشار إلينا بأن نتوقف، وقال: أستودعكم الله أيها الإخوان الأفاضل.. لا أريد منكم، وأنا أتقدم لنيل هذه الجائزة العظيمة إلا أن تجعلوا نفوسكم جنودا في جيش العدالة الإلهية.. وأن تتحملوا مسؤوليتكم في هذا الصدد.. فـ :{ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا (16)} (الأحزاب)

قال ذلك، ثم سار بخطا وقورة إلى المقصلة.. وتمتم بالشهادتين، ثم أسلم نفسه مبتسما لله.

بمجرد أن فاضت روحه إلى باريها كبر جميع السجناء بمذاهبهم وطوائفهم وأديانهم.. وقد صحت معهم بالتكبير دون شعور.. وقد تنزلت علي حينها أشعة جديدة اهتديت بها بعد ذلك إلى شمس محمد صلى الله عليه وآله وسلم.


([1])أشير به إلى (حطيط الزيات)، ولم أقف له على ترجمة .. وكل ما وقفت عليه حوله هو ما ذكره العلماء من حادثة اسشهاده بعد موقفه من الحجاج، والتي سنذكرها في متن الرواية.

([2]) رواه البخاري ومسلم.

([3]) هو اسم الرجل المذكور في قوله تعالى :{ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا } (الأعراف:175)على حسب ما ذكر عبد الله بن مسعود، وابن عباس وغيرهما.

([4])البلعميات في الأصل: نوع من كريات الدم البيضاء القادرة على التهام العناصر الغريبة.. ولا يخفى وجه الاستعارة في هذا.

([5]) الإحياء: 5/54.

([6]) رواه أبو داود والنسائي والحاكم.

([7]) رواه أحمد.

([8]) رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه.

([9]) انظر: (النبي الهادي) من هذه السلسلة.

([10]) رواه أبو داود وابن ماجه وابن حبان في صحيحه وغيرهم.

([11]) رواه الأصبهاني.

([12]) رواه الأصبهاني.

([13]) مجخيا بضم ففتح للجيم فكسر للمعجمة ، أي مائلا أو منكوسا : أي إن القلب إذا افتتن وخرجت منه حرمة المعاصي خرج منه نور الإيمان كما يخرج الماء من الكوز إذا مال أو انتكس.

([14]) رواه مسلم وغيره.

([15]) رواه الحاكم وصححه.

([16]) رواه أبو داود.

([17]) رواه الحاكم.

([18]) رواه أحمد والترمذي واللفظ له وابن حبان في صحيحه.

([19]) رواه البزار.

([20]) تفسير ابن كثير.

([21]) رواه ابن مردويه في تفسيره.

([22])   رواه البخاري ومسلم.

([23])   رواه مسلم

([24])   رواه ابن أبي الدنيا وابن حبان في صحيحه واللفظ له والبيهقي، زاد ابن أبي الدنيا في رواية : (كلما قرضت عادت)، وفي أخرى للبيهقي : (ويقرأون كتاب الله ولا يعملون به).

([25])   رواه ابن أبي الدنيا والبيهقي عن الحسن مرسلا بسند جيد.

([26])   رواه الطبراني.

([27])  رواه الطبراني بسند حسن والبزار.

([28])  رواه الطبراني والبزار بسند رجاله محتج بهم في الصحيح.

([29])  رواه الأصبهاني.

([30])  رواه الطبراني بسند فيه مختلف فيه.

([31])  رواه أبو يعلى بسند صحيح والطبراني شطره الأول بسند جيد، قال الحافظ المنذري: وخبر : ( من كتم علما ألجمه الله يوم القيامة بلجام من نار)، وروي عن جماعة من الصحابة م كجابر وأنس وابني عمر ومسعود وعمرو بن عنبسة وعلي بن طلق وغيرهم ، وأبي سعيد الخدري بزيادة : ( مما ينفع الله به في أمر الناس في الدين)

([32])  رواه ابن ماجه وفيه انقطاع.

([33])  رواه الطبراني بإسناد فيه ابن أبي لهيعة.

([34])  رواه الطبراني بسند رواته ثقات إلا واحدا اختلف فيه.

([35])  رواه الطبراني في الكبير.

([36]) رواه البخاري ومسلم.

([37]) رواه أحمد وابن ماجة.

([38])   رواه الطبراني وفيه هياج بن بسطام وهو ضعيف.

([39])   رواه النسائي والترمذي وصححه والحاكم.

([40])  رواه مسلم وأبو داود.

([41])  رواه أحمد ومسلم.

([42])  رواه أحمد وابن ماجة.

([43])  رواه أحمد وابن ماجة وغيرهما.

([44])  رواه أبو نعيم في الحلية.

([45])  إحياء علوم الدين.

([46])  رواه البخاري ومسلم.

([47])  رواه البخاري وفيه أيضاً : ( وإنا والله لا نولي هذا العمل أحدا سأله أو أحداً حرص عليه)

([48])  رواه البزار والطبراني في الكبير بسند رواته رواة الصحيح.

([49])  رواه أحمد.

([50])  رواه مسلم.

([51])  رواه مسلم وأبو داود والحاكم وقال صحيح على شرطهما.

([52])  رواه البخاري والنسائي.

([53])  رواه ابن حبان في صحيحه والحاكم واللفظ له وقال: صحيح الإسناد.

([54])  رواه الحاكم وصحح إسناده.

([55])  رواه أحمد بسند فيه مجهول.

([56])  رواه أحمد بسند رواته ثقات إلا ابن لهيعة.

([57])  رواه أبو داود بسند في رواته كلام قريب لا يقدح.

([58])   رواه أبو داود.

([59])  رواه البخاري.

([60])   الإحياء.

([61])  الإحياء.

([62])  ويشير إلى هذا قوله تعالى :{ وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (56)} (يوسف).. فالرحمة التي يصيب الله بها من يشاء ـ هنا ـ لا تتعلق بيوسف u وحده.. بل هي تتعلق قبل ذلك وبعده بتلك الرعية المسكينة المهددة بالمجاعة.

([63])  رواه أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي وأبو عوانة وابن خزيمة وابن حبان والبغوي.

([64])  رواه البخاري ومسلم.

([65])  رواه ابن النجار.

([66])  رواه الدارقطني والديلمي.

([67])  رواه البخاري ومسلم.

([68])   هي رسالة (التبر المسبوك في نصيحة الملوك)

([69])  رواه البخاري ومسلم.

([70])   رواه الترمذي ، وقال : حسن صحيح غريب.

([71])  رواه أحمد والبخاري والنسائي.

([72])  رواه النسائي.

([73])  رواه أبو داود.

([74]) رواه البخاري ومسلم وغيرهما بألفاظ مختلفة.

([75])  رواه البخاري.

([76])  رواه مسلم، وفي لفظ له: (عبدا حبشيًا مجدوعا)

([77])  رواه ابن جرير.

([78])  رواه البخاري ومسلم.

([79])  رواه البخاري ومسلم.

([80])   رواه مسلم.

([81])  رواه البخاري ومسلم.

([82])  رواه البخاري ومسلم.

([83])   رواه الطبراني في الكبير والصغير بنحوه وفيه شهر بن حوشب وهو ضعيف يكتب حديثه.

([84]) رواه البخاري ومسلم.

([85])   رواه مسلم وغيره.

([86])   رواه النسائي.

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *