سادسا ـ المربي

قلت: فحدثني عن رحلتك السادسة.
قال: بعد خروجي من غرداية، سرت إلى بلدة أخرى من بلاد الجزائر العريقة يقال لها (تلمسان)، وما إن دخلتها وسرت على ثراها، حتى امتلأت نفسي بأشواق غريبة تريد أن ترفعني عن أجواء الأرض وتضاريسها لتضعني في أجواء أنقى، وتضاريس أطهر..
لست أدري سر ذلك التسامي الذي امتلأت به نفسي في تلك اللحظة، مع أن المدينة التي كنت أتجول في شوارعها كانت ممتلئة بالعمران والحضارة، سواء منها ما ورثته من القرون السالفة، أو ما بنته من إيحاء هذا القرن.. فلم يكن في ظاهرها ما يدعو إلى الزهد والتسامي.. بل كان ظاهرها يدعو إلى التثاقل إلى الأرض والانشغال بمتاعها.. وهذا ما ملأني بالغرابة..
لكن الغرابة سرعان ما زالت..
لقد كنت في ذلك الشارع المسمى (العباد).. وهو شارع من شوارع تلمسان الغارقة في القدم.. وهو يحوي ضريح الولي الصالح والمربي الكبير فخر تلمسان وشرفها (أبي مدين شعيب)([1])، أو ما يسميه الناس ـ كل الناس ـ في تلك المدينة (سيدي بومدين)
شد سمعي، وأنا أقطع ذلك الشارع، أصوات عذبة، وكأنها قادمة من القرون السالفة، بل من عهد أبي مدين نفسه.. كان الصوت يردد قصيدة أبي مدين التي يقول فيها:
الله قل وذر الوجود وما حوى |
إن كنت مرتاداً بلوغ كمال
| |
فالكل دون الله إن حققته |
عدمٌ على التفصيل والإجمال
| |
من لا وجود لذاته من ذاته |
فوجوده لولاه عين محال
|
لست أدري هل كانت المعاني السامية التي تمتلئ بها هذه الأبيات.. أم كان ذلك الصوت الجميل الذي يعانق السماء.. أم كانت تلك الروحانية العميقة التي أصابتني في تلك المدينة.. لست أدري أي هؤلاء جذبني من حيث لا أشعر لأنضم إلى تلك الحلقة النورانية، فأشدو بما تشدوا، وأترنم بما تترنم؟
بعد أن انتهى الإنشاد، وعادت إلي نفسي، وعدت إلى الأرض، نظرت فيمن حولي، فوجدت سبعة كالكواكب يتوسطهم شمس رنت إليه أحداقهم، وهوت إلى كعبته قلوبهم.
نظر إلي أحدهم، وقال: أبشر.. فأنت الآن بين يدي سيدي أبي مدين..
قلت: أتقصد ضريح أبي مدين؟
قال: لا.. أقصد وارث أبي مدين.. فهذه الشمس التي تراها أمامك هي شمسه.. فإن شئت أن تنعم بدفئها، ونورها، فعليك بصحبتها، فلا يمكن للكواكب أن تستنير بنور الشمس إلا إذا طافت بها، ولم تر غيرها.
قلت: لكن لي شمسي التي بها أطوف.. إن شمسي هو محمد رسول الله.. وأنا أستغني بشمسه عن كل شمس، وبأشعة نوره عن كل أشعة.
قال: كلنا نستمد من تلك الشمس.. ولكنا نحتاج إلى الورثة الذين نتعلم على أيديهم كيف نتأدب مع تلك الشمس التي لا يستفيد منها إلا من تأدب معها.. لقد كان سيدي أبو علي يقول:(من أساء الأدب على البساط رد إلى الباب، ومن أساء الأدب على الباب رد إلى سياسة الدواب)
قلت: أنا أبحث عن ورثة الهداية الذين ينشغلون بإصلاح الخلق.. ولو انشغلت بإصلاح نفسي لحاسبني ربي على تضييع أمة نبيه.
قال: وهل يمكن لأحد أن يصلح قبل أن يصلح؟.. إن كلمة واحدة من قلب ممتلئ بالأنوار لها من التأثير ما لا يعدله آلاف الخطب، وآلاف آلاف المواعظ.. لقد قال سيدي أبو العباس المرسي:(كلام المأذون له يخرج وعليه كسوة وطلاوة، وكلام الذي لم يؤذن له يخرج مكسوف الأنوار، حتى إن الرجلين ليتكلمان بالحقيقة الواحدة، فتقبل من أحدهما، وترد على الآخر)
وعبر عن ذلك سيدي ابن عطاء الله في بعض حكمه، فقال:(كل كلام يبرز، وعليه كسوة القلب الذي منه برز)
قال آخر: لقد اتفق العارفون على أن الكلام إذا خرج من القلب وقع في القلب، وإذا خرج من اللسان لم يتجاوز الآذان.. واتفقوا على أن إنهاض الحال أكثر من إنهاض المقال.. وإذا اجتمع الحال والمقال فهو البحر الطام والنجم الثاقب التام.
قلت: لم أفهم الإذن.. الدعوة إلى الله واجب مطلقا.. فكيف تحتاج إلى إذن؟
قال أحدهم: ألم تسمع قوله تعالى في وصف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:{ وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُنِيراً} (الأحزاب:46)؟
قلت: بلى..
قال: فهذه مرتبة من مراتب الدعوة إلى الله.. وهي أشرف المراتب وأعلاها.. ومن تحققت له، فقد ظفر بالإكسير الأحمر الذي يحول به معادن من يصلحهم إلى جواهر كريمة لا تستطيع جميع أدناس الدنيا أن تنجسها.
قلت: لقد سمعت في فترة من فترات عمري بعض من يدعي هذا.. لكني صرفت عنه، وأنا أمتلئ ضحكا.. لقد رأيته ينصب الفاعل، ويرفع المفعول.. فقلت في نفسي: إن من لم يؤتمن على الفاعل والمفعول كيف يؤتمن على دين الله وعلى ما يدعيه.
قال أحدهم: العبرة عند أهل الله بالمعاني لا بالأواني..
قال آخر: لقد ذكرتني ببعض النحويين دخل مجلس الحسن بن سمعون ليسمع كلامه، فوجده يلحن، فانصرف ذاما له، فبلغ ذلك الحسن، فكتب يقول له:(إنك من كثرة الإعجاب رضيت بالوقوف دون الباب، فاعتمدت على ضبط أقوالك مع لحن أفعالك، وإنك قد تهت بين خفض ورفع ونصب وجزم، فانقطعت عن المقصود، هلا رفعت إلى الله جميع الحاجات، وخفضت كل المنكرات، وجزمت عن الشهوات، ونصبت بين عينيك الممات.. والله يا أخي ما يقال للعبد لم لم تكن معرباً؟ وإنما يقال له: لم كنت مذنباً.. ليس المراد فصاحة المقال، وإنما المراد فصاحة الفعال، ولو كان الفضل في فصاحة اللسان لكان سيدنا هارون أولى بالرسالة من سيدنا موسى حيث يقول:{ وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ} (القصص:34)
قلت: صحيح ما ذكرتموه.. ولكني مع ذلك أرى من يستغرق في عالم نفسه، فهو لا يخرج من خلوة حتى يدخل خلوة.. وليس له مع كل ذلك أي همة لإصلاح الأمة، ولا لتوجيهها.
نظر إلي أبو مدين بابتسامة، وكأنه أراد أن يقطع ذلك الحديث الذي كاد يتحول إلى جدل، وقال: كيف تركت إخواني من الشناقطة؟
تعجبت من سؤاله هذا.. لكني حاولت أن أستر تعجبي، وقلت: هم بأحسن حال.. تركتهم يبثون العلوم التي جاء بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليشقوا بها حجب الظلمات، ويدكوا بها صروح الطغاة.
قال: فهل تعلمت من علومهم؟
قلت: أجل.. والحمد لله.. لقد رزقني الله من علومهم ما أرى أني بحاجة إليه.
قال: فأنت الآن تحتاج إلى تعلم أسرار التطهير والعروج.
قلت: ما التطهير.. وما العروج !؟
قال: تطهير أرض النفوس من الأدناس.. والعروج بالأرواح إلى قدس الأقداس.
قلت: فأنت سادس أصحابي إذن؟
قال: إن كان السادس هو المرشد المربي، فأنا ذلك..
قلت: فهل تأذن لي في صحبتك لأتعلم أسرار التربية والإرشاد؟
قال: ما كان للمرشد أن يمنع من قصده.
قلت: لكني سؤول لجوج في المسألة.. وأخاف أن يحصل لي ما قاله أهل هذا الشأن من أن من قال لشيخه:(لم؟) لا يفلح.
قال: هم لم يقصدوك بهذا.. إنما قصدوا المجادل الذي يقف به جدله عن الحق.. لقد قصدوا ما ورد في الحديث من أن رجلاً أكل عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بشماله، فقال: كل بيمينك. قال: لا أستطيع ! قال: لا استطعت ـ ما منعه إلا الكبر ـ قال: فما رفعها إلى فيه([2]).
ويقصدون ما ورد في الحديث عن جابر بن عبدالله قال: أتى رجل بالجعرانة النبي صلى الله عليه وآله وسلم منصرفه من حنين وفى ثوب بلال فضة، ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقبض منها ويعطى الناس، فقال: يا محمد اعدل، قال:(ويلك ومن يعدل إذا لم أكن أعدل، لقد خبت وخسرت إذا لم أكن أعدل) ([3])
قلت: عرفتك، ويشرفني أن أصحبك، وأن أتتلمذ على يديك.. فمن هؤلاء الذين أحاطوا بك كما تحيط الهالة بالشمس؟
قال: كل هؤلاء رجال من أهل الله.. عرفوا من حقائق السلوك وحقائق الوصول ما أهلهم لبذله لأهله الذين يطلبونه.
أشار إلى أحدهم، وقال: أما هذا، فاسمه الجنيد، وهو كجده أبي القاسم الجنيد بن محمد القواريري ذلك المربي بفنون العلم، المؤيد بعيون الحلم، المنور بخالص الإيقان وثابت الإيمان ([4]).
ثم أشار إلى الثاني، وقال: أما هذا، فشاه الكرماني، وهو كجده أبي الفوارس الكرماني شاه بن شجاع، ذلك الذي تعرى من الأغراض، تحرزاً من الأعراض، كان من أبناء الملوك، وتشمر للسلوك، تخفف للاستباق، متحققاً بالاشتياق، كان ظريفاً في الفتوة، عريفاً في المروءة..
ثم أشار إلى الثالث، وقال: أما هذا، فأبو هاشم الزاهد، وهو كجده أبي هاشم كان إلى الحق وافداً، وعن الخلق حائداً، وفيما سوى الحق زاهداً.
ثم أشار إلى الرابع، وقال: أما هذا، فأحمد بن محمد بن عطاء، وقد كان كجده أبي العباس أحمد بن محمد بن سهل بن عطاء، ذلك العامل الظريف والكامل النظيف، كان مودع القرآن شعاره، وظاهر البيان دثاره، له اللسان المبسوط والبيان بالحق مربوط..
ثم أشار إلى الخامس، وقال: أما هذا فرويم بن أحمد، وهو كجده أبي الحسن رويم بن أحمد.. ذاك الفطن المكين، له البيان والتبيين، والرأي المتين، كان بالقرآن عالما، وبالمعاني عارفا، وإلى الحقائق عاكفا، قلد بفصل الخطاب، ولم تؤثر فيه العلل والأسباب.
ثم أشار إلى السادس، وقال: أما هذا، فإبراهيم الخواص، وهو كجده أبي إسحاق إبراهيم بن أحمد الخواص.. ذاك المتبتل المتوكل، تبتل عن الخلق وتوكل على الحق، له في التوكل الحال المشهور والذكر المنشور.
ثم أشار إلى السابع، وقال: أما هذا فأبو يزيد البسطامي.. وهو كجده أبي يزيد.. ذلك التائه الوحيد، الهائم الفريد، الذي تاه فغاب، وهام فآب، غاب عن المحدودات إلى موجد المحسوسات والمعدومات، فارق الخلق، ووافق الحق.
قلت: هذه أسماء أعرفها.. ولكني كنت أظن أن البلى قد عضها بنابه، وأن السنين قد طوتها بجيوشها.
قال: لا تسئ ظنك بأمة نبيك.. فالخير فيه وفي أمته إلى يوم القيامة، ويستحيل أن يأتي يوم من الأيام ليس فيه من آثار نبيك صلى الله عليه وآله وسلم ما يجعله بين الناس حجة، وللناس إماما، ألم تسمع قوله تعالى:{ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} (لأنفال:33)؟
قلت: بلى.. وقد ذهب الأمان الأول، وبقي الثاني.
قال: بل كلاهما باق..
قلت: وهل محمد صلى الله عليه وآله وسلم حي؟
قال: هو حي الأحياء وسيدهم.. ألم تسمع قوله تعالى:{ وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ} (البقرة:154)، وقوله تعالى:{ وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} (آل عمران:169)؟
قلت: بلى.. لكن هذه في الشهداء.
قال: ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم هو سيد الشهداء.. أليس الشهيد هو الذي بذل دمه وماله في سبيل الله؟
قلت: بلى..
قال: ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم بذل كل شيء لله.. ألم تسمع قوله تعالى:{ قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (الأنعام:162)؟
قلت: بلى.. ولكن ما ذكرته مقصور على حياة الآخرة؟
قال: ليس عند أهل الله دنيا ولا آخرة.. ولا وقت ولا مقت.. الكل عند أهل الله سواء.. حجبتهم حقائق الأزل والأبد عن الزمان والمكان.. فانطوى المكان والزمان.
قلت: أشعر ببعض لطائفي تتحرك لما ذكرته من المعاني.
قال: أبشر.. فأنت أهل للسلوك إذن.. فلا يقبل السالك عندنا حتى يكون مريدا راغبا.. ألا ترى أنا نسمي أصحابنا مريدين؟
قلت: بلى.. وأنا مستغرب من هذه التسمية متعجب منها.. بل رأيت البعض ينكرها.
قال: هل ينكرون قوله تعالى:{ وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ} (الأنعام:52).. وقوله تعالى:{ وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً} (الكهف:28)؟
قلت: كيف يتجرأ أحد على معارضة القرآن الكريم؟
قال: فما نذكره عن المريد لا نريد به إلا هذا.. فالمريد عندنا ليس إلا الراغب في الله المشتاق إلى الله، من أنساه الله كل ما سواه.
قال الكرماني: لقد حدثني النباحي قال: طمعت يوماً في شيء من أمور الدنيا فحملتني عيناي ونمت فسمعت هاتفاً في منامي وهو يقول: (أويجمل يا فتى بالحر المريد إذا وجد عند مولاه كل ما يريد أن يركن بقلبه إلى العبيد؟)
قال الجنيد: قال لي السري السقطي: (للمريد عشر مقامات، التحبب إلى الله بالنافلة، والتزين عنده بنصيحة الأمة، والأنس بكلام الله، والصبر على أحكامه، والأثرة لأمره، والحياء من نظره، وبذل المجهود في محبوبه، والرضاء بالقلة، والقناعة بالخمول)
قلت: إن كلامكم يملأ قلبي بأشواق غريبة.
قال: فهلم لتصحبنا.
قلت: فما الفروع التي أصحبكم فيها.. فلا يحل لي أن أقدم على شيء، وأنا لا أعرف بدايته ولا نهايته.
قال: لقد ذكرتهما لك.. أما بدايته: فتطهير أرض النفوس من الأدناس.. وأما نهايته التي لا تنتهي: فالعروج بالروح إلى قدس الأقداس.
قلت: فهما خطواتان فقط؟
قال: هما خطوتان.. وفي كل خطوة منهما مقامات لابد لك من المرور عليها.
قلت: أمقامات الهمذاني أم الحريري؟
قال: مقامات أهل الله..
قلت: لقد ذكر لي بعضهم أن هذا المصطلح بدعة..
قال: فاقرأ عليهم قوله تعالى:{ وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً} (الاسراء:79)، واقرأ عليهم قوله تعالى:{ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَاماً وَأَحْسَنُ نَدِيّاً} (مريم:73)
وإن كانوا يقولون من قول خير البرية، فاقرأ عليهم قوله صلى الله عليه وآله وسلم:(من قال حين يسمع النداء، اللَّهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة ، آت محمدا الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقاما محمودا الذي وعدته، حلت له شفاعتي يوم القيامة)([5])
قلت: ليس الشأن في اللفظ.. وإنما الشأن في المراد منه.. فهل تريدون منه ما ورد في النصوص المقدسة.
قال: ألم تسمع بأن علمنا هذا مقيد بالكتاب والسنة.. فلا خير فيما لم يأت به الكتاب والسنة.
قلت: فما تريدون بالمقامات؟
قال: تلك المراحل التي يقطعها المريد السالك في رحلته إلى الله..
قلت: وعيت هذا.. ولكني امرؤ ملأ الله قلبي بالمخافة من البدع.. وقد سمعت من الناس من يذكر أن هذا السبيل سبيل بدعة.. وليس لسبيل البدعة من نهاية إلى الضلال.. وليس للضلال من نهاية إلا النار..
قال: أليس الإسلام طاعة وعبادة، والإيمان نور وعقيدة، والإحسان مراقبة ومشاهدة؟
قلت: بلى.. وقد وضح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذلك في حديث الدين، وقد قال عن الإحسان:(أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك)([6])
قال: فلذلك نحن نعتقد أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو مؤسس هذه الطريقة.. فليس ما نحن فيه إلا البحث عن مقام الإحسان.. ذلك المقام الذي نعبد الله فيه، وكأننا نراه.
بعد أن امتلأت قناعة بصحة المنهج التربوي الذي يسير عليه أبو مدين وجماعته من أهل الله طلبت منه أن انضم إلى مريديهم، فأسير كما يسيرون، وأمر بالمقامات التي يمرون بها، لأنال ثمار هذا الشعاع من أشعة الهداية النبوية، لكني اشترطت عليهم أن لا أسير خطوة معهم إلا بشاهدي عدل من الكتاب والسنة.
وقد وافقوني على ذلك، بل حثوني عليه.. وأخبروني أن كل أهل الله نص على هذا، ودعا إلى هذا، فلا خير في هدي يعارض ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
كان أول منزل بدأت به سيري إلى الله منزل (الخشية)، وقد سرت إليه بصحبة رويم.. وكان منزلا بعيدا عن العمران، وممتلئا بالمهابة.. قال لي رويم، وهو يشير إليه: هذا منزل خصصه أهل الله لملأ القلوب بالخشية.. وسترى فيه قوما من الناس لا هم لهم إلا ملأ قلوبهم بكل ما يملؤها بالخشية، وستجلس معهم، وستتأدب معهم بآداب هذا المقام.
قلت: لقد عرفت شرطي.. فأنا لا أقدم على أمر حتى أعلم حكم الله فيه.
قال: كل النصوص المقدسة.. وكل أهل الله.. مجمعون على أن الخشبة مقام من مقامات السالكين إلى الله، وأنه لا يمكن أن يتحرك السالك حركة في طريق أهل الله إلا إذا صحبته الخشية من الله.
لقد قال تعالى يذكر ذلك، ويدعو إليه:{ إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى} (طـه:3)، وقال:{ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} (النور:52)، وقال:{ الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً} (الأحزاب:39)، وقال:{ إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} (الملك:12)
وقال في وصف عباد الرحمن:{ وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً} (الفرقان:65 ـ 66)
وقال في وصف عباده المقربين:{ أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً} (الاسراء:57)
وأخبر تعالى أن توريث الأرض لا يكون إلا للخائفين من الله، قال تعالى:{ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ} (ابراهيم: 14) بعد قوله تعالى:{ وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِم} (ابراهيم: 14)
وهكذا، فإن جميع نصوص القرآن الكريم تدل على أن الأمن من عذاب الله، والنجاة منه مرتبطة بمدى الخوف من الله، ومن العذاب الذي أعده لمن عصاه.
قلت: هذا الشاهد الأول.. فأين الشاهد الثاني؟
قال: قال: لقد ورد في النصوص الكثيرة اعتبار الخشية من الله خلقا من أخلاق المؤمنين، ومقاما من مقامات السالكي، ففي الحديث قال صلى الله عليه وآله وسلم:(لا يلج النار رجلٌ بكى من خشية الله حتى يعود اللبن في الضرع، ولا يجتمع غبارٌ في سبيل الله ودخان جهنم)([7])
وقال صلى الله عليه وآله وسلم:(سبعةٌ يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمامٌ عادلٌ، وشابٌ نشأ في عبادة الله تعالى، ورجلٌ قلبه معلقٌ في المساجد، ورجلان تحابا في الله، اجتمعا عليه، وتفرقا عليه، ورجلٌ دعته امرأةٌ ذات منصبٍ وجمالٍ، فقال: إني أخاف الله، ورجلٌ تصدق بصدقةٍ فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجلٌ ذكر الله خالياً ففاضت عيناه)([8])
وقال صلى الله عليه وآله وسلم:(ليس شيءٌ أحب إلى الله تعالى من قطرتين وأثرين: قطرة دموعٍ من خشية الله، وقطرة دمٍ تهراق في سبيل الله. وأما الأثران: فأثرٌ في سبيل الله تعالى، وأثرٌ في فريضةٍ من فرائض الله تعالى)([9])
قلت: هذا ما ورد به النص من أقوال النبي صلى الله عليه وآله وسلم.. فهل ورد في الفعل ما يؤكده، فإني رأيت نفرا يحتقرون مثل هذا المقام، ويعتبرنه دليلا على قصور السالكين.. وهم يذكرون أن العارفين الكبار بمنأى عنه؟
قال: لقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أعرف العارفين بالله، وكان مع ذلك أعظم الناس خشية لله، وقد حدث جابر أن رسول الله صنع شيئا، فرخص فيه، فتنزه عنه قوم، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فخطب، فحمد الله، ثم قال: (ما بال أقوام يتنزهون عن الشئ أصنعه؟ فوالله إني لأعلمهم بالله، وأشدهم له خشية)([10])
قلت: هذا فعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. فما فعل الورثة من بعده؟
قال: لا يكتمل إرث الوارث حتى تصح نسبته لمورثه.. ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يورث دينارا ولا درهما وإنما ورث علوما وأعمالا وأحوالا.. فمن أخذ حظه منها، فهو الوارث.
قلت: فأخبرني من أخبارهم ما يطمئن به قلبي، وتسكن له نفسي، وتقر له عيني، وتنبعث به همتي.
قال: أما أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذين تتلمذوا على يديه، فقد كانوا أعظم الناس مخافة لله، وقد وصفهم علي فقال:(لقد رأيت أثراً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فما أري أحداً يشبههم، والله إن كانوا ليصبحون شعثاً غبراً صفراً، بين أعينهم مثل ركب المعزي، قد باتوا يتلون كتاب الله يراوحون بين أقدامهم وجباههم، إذا ذكر الله مادوا كما تميد الشجرة فى يوم ريح، فانهملت أعينهم حتى تبل والله ثيابهم، والله لكأن القوم باتوا غافلين)
قلت: هؤلاء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. فما فعل من بعدهم؟
قال: أ
منهم منهم من سار على هديهم، وسلك سبيلهم، وهؤلاء لا تخلو منهم الأرض.. وقد وصفهم علي فقال:(لا تخلو الأرض من قائم لله بحجة، إما ظاهر مكشوف وإما خائف مقهور لكيلا تبطل حجج الله تعالى وبيناته، وكم وأين أولئك؟ هم الأقلون عدداً الأعظمون قدراً، أعيانهم مفقودة، وأمثالهم في القلوب موجودة، يحفظ الله تعالى بهم حججه حتى يودعوها من وراءهم ويزرعوها في قلوب أشباههم، هجم بهم العلم على حقيقة الأمر فباشروا روح اليقين فاستلانوا ما استوعر منه المترفون وأنسوا بما استوحش منه الغافلون، صحبوا الدنيا بأبدان أرواحها معلقة بالمحل الأعلى، أولئك أولياء الله عز وجل من خلقه وأمناؤه وعماله في أرضه والدعاة إلى دينه)، ثم بكى وقال: (واشوقاه إلى رؤيتهم)
قلت: فحدثني من أخبارهم.. فلا تصفو القلوب إلا بأخبار الصالحين.
قال: لقد كان علي بن الحسين إذا توضأ اصفر لونه، فيقول له أهله: ما هذا الذي يعتادك عند الوضوء؟ فيقول: أتدرون بـين يدي من أريد أن أقوم؟
وقرىء عند يحيـى البكاء:{ وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} (الأنعام:30)، فصاح صيحة مكث منها مريضاً أربعة أشهر يعاد من أطراف البصرة.
قلت: لقد دب الانحراف إلى هذه الأمة، فنسيت خشية ربها، وراحت تنشغل بمخافة الشياطين.
قال: ونحن في هذا المنزل الذي تراه أمامك نحيي هذه السنة العظيمة من سنن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
قلت: عرفت سنية الخشية، ولم أعرفها تأثيرها السلوكي؟
قال: ألم تقرأ ما قصة القرآن الكريم علينا من قصة ابني آدم؟
قلت: بلى.. لقد قال الله تعالى:{ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آَدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآَخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27) لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (28) إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (29) فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (30)} (المائدة)
قال: ألا ترى أن الخشية من الله هي الحصن الذي تحصن به الأخ الصالح، فلم تمتد يده لقتل أخيه؟
قلت: بلى.. ذلك صحيح، وقد ذكره القرآن الكريم.
قال: ما ذكره إلا لنعتبر به.. إن جميع جيوش الدنيا، وجميع شرطتها، وجميع مخابراتها لن يستطيعوا أن ينشروا الأمن الذي تنشره مخافة الله وخشيته..
ليس ذلك في هذا وحده.. بل في كل شيء..
لقد رويت النصوص الكثيرة الدالة على تأثير الخشية في تزكية النفس وطهيرها:
ومن ذلك ما روي أنه انطلق رجل ذات يوم، فنزع ثيابه وتمرغ في الرمضاء، وهو يقول لنفسه:(ذوقي نار جهنم، ذوقي { نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً } (التوبة: 81)، جيفة بالليل، بطالة بالنهار، فبينا هو كذلك إذا أبصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم في ظل شجرة، فأتاه، فقال:(غلبتني نفسي)، فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم:(ألم يكن لك بد من الذي صنعت، لقد فتحت لك أبواب السماء، ولقد باهى الله بك الملائكة)([11])
بعد أن ذكر لي رويم هذه الأحاديث وغيرها امتلأت شوقا لأن يكون لي هذا المقام العظيم من مقامات أهل الله.. فدخلت المنزل.. وكان منزلا ممتلئا بالبركات.. وقد رأيت في الخشية ـ مع ما فيها من أحزان وآلام ـ من السرور واللذة ما لا يعدله أي سرور ولا لذة.
بعد أن غادرت منزل الخشية، واستفدت من علومه وأهله ما ملأني بخشية الله، انتقلت مع ولي آخر من أولياء الله من أصحاب أبي مدين، وهو ابن عطاء، إلى منزل الرجاء، وفي الطريق إليه طلبت منه أن يحدثني عن الشهود العدول الذين يشهدون لهذا المنزل، على الشرط الذي شرطته عليهم، فقال: الرجاء ـ كما عرفه أصحابنا ـ هو السكون لفضله تعالى بشواهد العمل في الجميع، وإلا كان اغتراراً([12]).
قلت: ما يعني هذا؟
قال: الرجاء الرباني هو الذي يدفعك إلى طلب ما ترجوه.. والرجاء الشيطاني هو الذي يقعد بك عنه.. وقد سماه الله تعالى أماني، فقال:{ لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً} (النساء:123)
وقد اعتبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صاحب هذا النوع من الرجاء عاجزا، فقال:(الكيس من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأماني)([13])
وقد أشار القرآن الكريم إلى تأثير الرجاء في السلوك، فقال:{ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} (الأحزاب:21)، وقال:{ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (البقرة:218)
وقال ـ في مقابل ذلك ـ عن الذين عطلوا هذا المقام:{ إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ} (يونس:7)
قلت: علمت تأثير الرجاء في السلوك.. فكل مَنْ رجا شيئا طلبه، وشمر عن ساعد الجد والاجتهاد بصدق وإخلاص حتى يناله.. ولكن ما تعلمته في منزل الخشية ملأني بالخشية حتى صرت لا أرى في الكون ولا في النصوص إلا ما يملأ قلبي خشية لله.
قال: ستتعلم هنا كيف تعالج الخشية بالرجاء.. والرجاء بالخشية.. فتكون راجيا في خشيتك، وخاشيا في رجائك.. فالكامل هو الذي جمع بينهما.
قلت: كيف ذلك؟
قال: أنت تعلم أن الرجاء والخوف وغيرهما من مقامات التطهير.. وهي مقامات يتعامل معها أطباء القلوب كما يتعامل الأطباء مع الأدوية، فالدواء الذي قد يسبب آلاما في أعضاء أخرى لا يكتفي به، بل يصف معه الطبيب الناصح الدواء الذي يزيل آثاره السلبية.
ولهذا يقترن في القرآن الكريم ذكر أسباب الخوف مع أسباب الرجاء حتى لا يطغى أحدهما على الآخر، لأن الكمال في اعتدالهما، والقصور في طغيانهما، ومن ذلك قوله تعالى:{ نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ} (الحجر:50)، وقد روي في في سبب نزولها عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: طلع علينا رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم من الباب الذي يدخل منه بنو شيبة فقال:(لا أراكم تضحكون)، ثم أدبر، حتى إذا كان عند الحجر رجع علينا القهقرى، فقال:(إني لما خرجت جاء جبريل u، فقال: يا محمد إن اللّه يقول: (لم تقنط عبادي؟ { نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ } (الحجر:50)
ومثله قوله تعالى:{ غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ } (غافر:3)
قلت: ولكني رأيت بعض من في منزل الخشية يبالغ في هذا المنزل مبالغة ملأتني بالمهابة.
قال: صحيح ما فعل.. فالكمال قد يقتضي المبالغة في أحدهما في بعض المراحل لإيصاله إلى درجة الاعتدال، ومثل ذلك مثل من به عوز لمادة معينة يحتاجها جسمه، فإنه قد يبالغ فيها لإيصال جسمه إلى حال الاعتدال.
قلت: فالكمال في اعتدال الخشية والرجاء إذن؟
قال: أجل.. لأن مقتضاهما واحد.. ولذلك قيل: (لو وزن خوف المؤمن ورجاؤه لاعتدلا)، وقال علي يحث بعض ولده على هذا:(يا بني، خف الله خوفاً ترى أنك لو أتيته بحسنات أهل الأرض لم يتقبلها منك، وارج الله رجاء ترى أنك لو أتيته بسيئات أهل الأرض غفرها لك)
قلت: فما سر هذا الاعتدال؟
قال: إن أهل الله لا ينظرون في الخوف والرجاء لأعمالهم، وإنما ينظرون إلى أوصاف الله المقتضية للخوف والرجاء، ولذلك قال ابن عطاء الله معبرا عن حال العارفين في ذلك:(من علامة الاعتمادِ على العَمَلِ، نُقْصانُ الرَّجاءِ عند وجودِ الزَّللِ)
أي أن من علامات تعويل العامل على عمله أن ينقص رجاؤه في رحمة الله عند وجود زلته، لأن العارفين لا يشاهدون لأنفسهم عملاً، فلذلك لا ينقص أملهم في رحمة الله إذا قصروا في الطاعة أو اكتسبوا زللا.
قلت: وعيت ما ذكرته من هذا.. فهل ورد في النصوص المقدسة ما يمكن أن يستجلب به حال الرجاء؟
قال: أجل.. وسترى تفاصيل ذلك في هذا المنزل..
قلت: فحدثني عن بعض ذلك..
قال: من ذلك قوله تعالى، وهو يحثنا على الرجاء، وينهانا عن القنوط من رحمته:{ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } (الزمر:53)
وقال تعالى مبشراً بسعة رحمته:{ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ }(لأعراف: 156)
أما السنة المطهرة، فقد ورد فيها الكثير من النصوص التي تبين سعة رحمة الله، وهي بالتالي من أفضل أدوية الرجاء:
ففي الحديث الشريف، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:(والذي نفسي بيده لو لم تُذْنبوا لذهب الله بكم وجاء بقوم يذنبون فيستغفرون الله تعالى فيغفر لهم)([14])
وقال صلى الله عليه وآله وسلم:(يقول الله عز وجل: من جاء بالحسنة، فله عشر أمثالها أو أزيد، ومن جاء بالسيئة، فجزاء سيئة مثلها أو أغفر. ومن تقرب مني شبراً، تقربت منه ذراعاً، ومن تقرب مني ذراعاً، تقربت منه باعاً، ومن أتاني يمشي، أتيته هرولةً، ومن لقيني بقراب الأرض خطيئةً لا يشرك بي شيئاً، لقيته بمثلها مغفرةً)([15])
وحدث جابر قال: جاء أعرابيٌ إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: يا رسول الله، ما الموجبتان؟ فقال: (من مات لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة، ومن مات يشرك به شيئاً، دخل النار)([16])
وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:(والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا، لذهب الله بكم، ولجاء بقوم يذنبون، فيستغفرون الله تعالى، فيغفر لهم)([17])
وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الله ليرضى عن العبد أن يأكل الأكلة، فيحمده عليها، أو يشرب الشربة، فيحمده عليها)([18])
بعد هذه الأحاديث وغيرها مع ابن عطاء دخلت إلى منزل الرجاء، وقد كان منزلا ممتلئا بأنوار عجيبة، تملأ النفس سرورا ولذة ومتعة، وتملأ الصدر انشراحا وسكينة وطمأنينة.. ولكنها مع ذلك لا تزيد الجوارح إلا نشاطا، ولا الهمة إلا ارتفاعا.
ما إن خرجت من منزل الرجاء حتى شعرت بحاجتي إلى إجراء تصفية شاملة لنفسي التي كانت ممتلئة بالكدورات.. وشعرت في نفس الوقت بحاجتي إلى تطهير سجل سيئاتي من تلك الذنوب التي قد ينزل بي ما رتب عليها من عقوبات..
فلذلك ما إن خرجت حتى بادرت إلى شيخي أبي مدين طالبا منه أن يبين لي سبيل هذه التصفية وعلومها، فأرشدني إلى الكرماني، وقال: عليك بصحبته.. فمنزله هو منزل التوبة.. ولم يصحبه أحد إلا فقه من فقه التوبة ما يعود به كيوم ولدته أمه.
ذهبت إلى الكرماني، وأخبرته بقول أبي مدين، فطلب مني أن أصحبه إلى منزل التوبة، وقد كان منزلا في ضواحي تلمسان، وكان أبيض اللون، وقد رأيت عمالا كثيرين يحيطون به، فمنهم من ينقي أرضه، ومنهم من يعيد صباغته، ومنهم من يرسل بالمياه على أوراق أشجاره ليطهرها من الغبار الذي امتلأت به.
سألت الكرماني عن التوبة، وسرها، وكونها منزلا من منازل السائرين، فقال: التوبة ترك الذنوب على أجمل الوجوه..
قلت: أجمل الوجوه !؟
قال: أجل.. فالاعتذار على ثلاثة أوجه: إما أن يقول المعتذر: لم أفعل، أو يقول: فعلت لأجل كذا، أو يقول: فعلت وأسأت وقد أقلعت، ولا رابع لذلك.. وهذا الأخير هو التوبة([19]).
وحقيقة التوبة تنتظم في ثلاثة أمور: علم، وحال، وفعل.. وهي مرتبة بهذا الترتيب: فالعلم الأول، والحال الثاني، والفعل الثالث.. والأول موجب للثاني، والثاني موجب للثالث إيجاباً اقتضاه اطراد سنة الله في الملك والملكوت.
فالعلم الذي هو (معرفة عظم ضرر الذنوب وكونها حجاباً بين العبد وبين كل محبوب) إذا تمكن من الذي يريد التوبة أحدث تألما للقلب بسبب فوات المحبوب، (فإن القلب مهما شعر بفوات محبوبه تألم، فإن كان فواته بفعله تأسف على الفعل المفوت، فيسمى تألمه بسبب فعله المفوت لمحبوبه ندماً، فإذا غلب هذا الألم على القلب واستولى وانبعث من هذا الألم في القلب حالة أخرى تسمى إرادة وقصداً إلى فعل له تعلق بالحال والماضي وبالاستقبال، أما تعلقه بالحال فبالترك للذنب الذي كان ملابساً، وأما بالاستقبال فبالعزم على ترك الذنب المفوت للمحبوب إلى آخر العمر، وأما بالماضي فبتلافي ما فات بالجبر والقضاء إن كان قابلاً للجبر)
قلت: فقد آل أمر التوبة إلى العلم؟
قال: أجل.. ولكنه علم مخصوص.. وهو العلم الذي يريك خطر الذنوب، وكونها حجابا بينك وبين كل مرهوب، أو كونها سبيلا لكل شقاوة وضلالة ومرارة.. وحين تعلم هذا وتتيقن به سيصيبك الألم لا محالة.. وحينذاك ستقدم على التوبة، وستفكر فيها.
قلت: لقد حصل لي هذا.. فأنا ما امتلأت خشية من الله، ورغبة فيما في يد الله حتى شعرت بأن ذنوبي هي الحجاب الحائل بيني وبين فضل الله.. وما شعرت بهذا حتى طلبت منزل التوبة.
قال: لقد وفقت عندما طلبت التوبة على يد شيخك.
قلت: لم؟.. ألا يكتفى من المرء بأن يتوب لله من غير واسطة؟
قال: التوبة الكاملة لابد فيها من الواسطة.. ألم تسمع قوله تعالى:{ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً } (النساء: 64)؟
قلت: هذه عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
قال: وهي تصدق على ورثته.
قلت: ألا بد من هذا؟
قال: إن للتوبة أركانا وشروطا وحقيقة.. وفي كل ذلك مسالك ومهالك.. والشيطان يحضر فيها كما لا يحضر في شيء آخر.. ولابد للتائب أن يبحث عن تلك الحقائق التي يتقي بها مداخل الشيطان، فتصدق توبته، وتنصح، فقد قال تعالى:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (التحريم:8)، فوصف التوبة بالنصح.. ولن تنصح التوبة إلا بالعلم والورع، ولا علم بدون معلم.
قلت: أهناك توبة غير نصوح؟
قال: أجل.. التوبة توبتان:
توبة عامة.. وهي التي أشار إليها قوله تعالى:{ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (النور: 31)، أي ارجعوا إلى الله من هوى نفوسكم، ومن وقوفكم مع سهواتكم وحظوظكم، عسى أن تظفروا ببغيتكم فى المعاد، وكى تبقوا ببقاء اللَّه فى نعيم لا زوال له ولا نفاد.
وتوبة خاصة، وهي التي أشار إليها قوله تعالى:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (التحريم:8)، وهي من النصح، أي أنها خالصة لله تعالى مجردة، لا تتعلق بشئ، ولا يتعلق بها شئ، وهو الاستقامة على الطاعة، من غير روغان إلى معصية، كما تروغ الثعالب، وألا يحدث نفسه بذنب متى قدر عليه، وأن يترك الذنب لأجل اللَّه تعالى خالصا لوجهه، كما ارتكبه لأجل هواه مجمعا عليه بقلبه وشهوته، فهذه هى التوبة النصوح، وهذا العبد هو التواب المتطهر الحبيب.
قلت: لقد رأيت البعض ينكر مثل هذه التقسيمات، فتحقق الناس عنده بالمقامات سواء، ولا معنى للتفريق بينهم في ذلك بين خصوص وعموم؟
قال: لا.. لقد أخطأ من قال ذلك.. لقد فرق القرآن الكريم بين درجات الناس، فذكر المقربين من السابقين.. وذكر المقتصدين.. وذكر الظالمين لأنفسهم.. وذكر غير ذلك من المراتب..
قلت: فحدثني عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. فأنا لا أحب أن أتحرك حركة إلا على قدمه.
قال: لقد ورد في النصوص الكثيرة ما يدل على رجوع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى ربه مع أنه الطاهر المطهر المعصوم من كل الذنوب([20]).. فقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إني لأستغفر الله، وأتوب إليه في اليوم سبعين مرة)([21])
قلت: فهل ورد في النصوص المقدسة ما يطمئن التائب إلى قبول توبته؟
قال: أجل.. لقد ورد في ذلك الكثير.. وستراها في هذا المنزل.. فلا يمكن ليائس أن يتوب.. إنا هنا نبدأ بمداواة اليأس بعلاج الأمل في عفو الله.. فإذا ما تاب العبد تاب الله عليه لا محالة.
اسمع ما يقول صلى الله عليه وآله وسلم في هذا.. لقد قال:(إن الله تعالى يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها)([22])
وفي حديث آخر قال صلى الله عليه وآله وسلم:(إن الله عز وجل يقبل توبة العبد ما لم يغرغر)([23])
بعد هذه الأحاديث وغيرها مع ابن عطاء عن التوبة، وما ورد فيها من النصوص المقدسة، ومن فهوم أهل الله، دخلت منزل التوبة، وقد كان باطنه كظاهره، تجلت فيه جميع قيم الجمال والنظافة، فهو وأهله لا يحرصون على شيئ حرصهم على الصفاء، ولا يعتبرون شيئا من الأشياء يستحق أن يتخذ عدوا غير الكدورة.. الكدورة بجميع أنواعها.
لم أخرج من منزل التوبة برغبتي، فقد أخبرني أهله أن التوبة ليس لها حد ولا نهاية، وقد قال تعالى:{ وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} (التوبة:118)
لكن شيخي أبا مدين طلب مني أن ألتحق بالزاهد ليدلني على منزل آخر من منازل التطهير، هو منزل التقوى.
سرت مع الزاهد إلى منزل التقوى، وقد كانت الطريق المؤدية إليه محاطة بأشواك كثيرة.. فلم نكن نسير فيها إلا بجهد وعناء.. وكنت كل لحظة أصيح في صاحبي (الزاهد): احترز.. فإن رماحا من الأشواك تريد أن تشوكك.
بعد أن وصلنا إلى قرب الدار سألت الزاهد عن سر تلك الأشواك، ولم لم يقم أصحابه من أهل الله بقلعها، فقال: أهل الله هم الذين غرسوها؟
قلت: وهل يغرس أهل الله الشوك؟.. عهدي بهم يغرسون الورود والرياحين.
قال: عندما رأوا غفلة الخلق عن أشواك الباطن راحوا يذكرونهم بأشواك الظاهر، ليعبروا من الظاهر إلى الباطن.
قلت: أراك ترمي إلى شيء، فصرح.. فلا طاقة لي بالتلميح.
قال: لقد سئل بعضهم: ما التقوى؟ قال: هل وجدت طريقاً ذا شوكٍ؟ قال: نعم، قال: فكيف صنعت؟ قال: إذا رأيتُ الشوك عدلت أو جاوزته أو قصّرت عنه، قال: ذاك التقوى.
قلت: لقد وردت النصوص القرآنية الكثيرة تذكر التقوى.. وقد وجدت أنها تذكرها لغرضين:
أما أولهما، فالحث عليها، والدعوة إلى التمسك بها باعتبارها من أخلاق المؤمنين، ومن ذلك قوله تعالى:{ وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ} (البقرة:48)، وقوله:{ وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} (البقرة:103)
وأما الثاني، فذكر الجزاء العظيم المرتبط بأهلها، ومن ذلك قوله تعالى: { قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} (آل عمران:15)، وقوله:{ الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ} (آل عمران:172)، وقوله:{ لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ} (آل عمران:198)
بعد أن أكملت قراءة هذه الآيات وغيرها، قال لي: ألا ترى اهتمام القرآن الكريم بالتقوى؟
قلت: أجل.. فهو يحث عليها كل حين.. ويذكر أصناف الأجزية التي وعد بها أهلها.. ولم أقرأ لك مما ورد في القرآن الكريم إلا ما يدل على المجامع، أما التفاصيل، فأكثر من أن تنحصر.
قال: فأنت لا تحتاج إلى الشهود إذن؟
قال: أما شاهد القرآن الكريم، فقد عرفناه، فحدثني عن شاهد السنة.
قال: مثلما ورد في القرآن الكريم الحث على التقوى، فقد وردت السنة كذلك.. فليست السنة إلا بيانا للقرآن الكريم، وتأكيدا لحقائقه، وتطبيقا لتوجيهاته.
قلت: فحدثني عما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الحث على التقوى، والترغيب فيها.
قال: من ذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يدع ما لا بأس بهذ حذراً لما به بأسُ)([24])
وقال صلى الله عليه وآله وسلم: ( من سرَّه أن يكون أكرم الناس فليتقِ اللهَ)([25])
وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث، ولا تجسسوا ولا تحسسوا ولا تنافسوا ولا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تدابروا، المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره. التقوى ههنا، التقوى ههنا ـ ويشير إلى صدره ـ بحسب امرئٍ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرامٌ: دمه وعرضه وماله)([26])
وسئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن أفضل الناس فقال: (التقي النقي لا إثم فيه ولا بغي ولا غلَّ ولا حسد)([27])
وعن أبي ذر قال: جعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يتلو هذه الآية:{ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2)}(الطلاق)، فجعل يرددها حتى تعب فقال: يا أبا ذر لو أن الناس كلهم أخذوا بها لكفتهم)([28])
قلت: عرفت كل هذا ووعيته.. لكني أتساءل عن سر كل هذا الفضل الذي أولته هذه التعاليم المقدسة للتقوى.
قال: لأن التقوى هي الزمام الذي تزم به النفس، والحصن الذي تحتمي به من المعاصي.. ومن حصل التقوى فقد حصل على الملكة التي تملؤه بكل خير، وتفرغه من كل شر.
قلت: فهي مَلَكة إذن؟
قال: أجل.. ولم يكن لها هذا الفضل لو لم تكن كذلك.. فالملكات هي التي تصدر عنها الأفعال بسهولة ويسر.. ومن كانت له ملكة التقوى، فإنها لن تدله إلا على الخير، ولن تنهاه إلا عن الشر.. ومن ربى نفسه ومن وكلت إليه مسؤوليتهم على التقوى، فإنه لن يخاف سوءا لا على نفسه، ولا عليهم، كما قال تعالى يشير إلى ذلك:{ لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (المائدة:93)
قلت: فهل تعتمدون في التربية على هذا؟
قال: أجل.. لا يمكن للمربي أن يربي دون أن يعلم ما تمتلئ به النفوس من أخلاق، وما طبعت عليه من خلال.. ليتوصل من خلال ذلك إلى رسم منهج إصلاحي لها.
قلت: فأنتم في هذا المنزل تفعلون هذا؟
قال: أجل.. نحن نبدأ فندرس نفوس من يقدمون علينا، وما يرغبون فيه، وما يرهبون منه، وما يقدرون عليه، وما يعجزون عنه.. لندلهم من خلال كل ذلك كله على التقوى المرتبطة بهم.
قلت: ألكل صنف من الناس تقواه؟
قال: أجل.. فمن الناس من يكون في جبلته متقيا شر طلب الرئاسة، فلذلك لا يحتاج إلى تربيته عليها.. ومن الناس من يكوف عفيفا طاهرا، فلا نحتاج أن نتكلم معه عن العفاف وغض البصر.. وهكذا..
قلت: إن هذا يحتاج من الداخل إلى هذا المنزل أن يفضح نفسه؟
قال: لقد نص أهل الله على هذا.. فكما يحتاج المريض إلى أن يفضح مرضه عند طبيب جسده، فكذلك مريض الروح يحتاج إلى أن يفضح نفسه عند طبيب الروح.
قلت: لكن شريعتنا نهتنا عن الفضيحة؟
قال: نهتنا عن الفضيحة التي يقصد منها التشهير، لا الفضيحة التي يقصد منها التطهير.. ألم تسمع قوله تعالى:{ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً} (النساء:64)؟
قلت: أفي السنة ما يدل على هذا؟
قال: أجل.. ألم تسمع تلك الأسئلة الكثيرة التي تأتيه صلى الله عليه وآله وسلم، والتي تدل على حال قائليها؟
قلت: بلى.. ومن ذلك ما روي أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: إن لي جارا يؤذيني، فقال له: (أخرج متاعك فضعه على الطريق)، فأخذ الرجل متاعه فطرحه على الطريق، فجعل كل من مر به قال: مالك؟ قال: جاري يؤذيني، فيقول: اللهم العنه، اللهم أخزه! قال: فقال الرجل: ارجع إلى منزلك، وقال:(لا أوذيك أبدًا)([29])
ونحن نعتمد هذا وغيره مما ورد في السنة المطهرة.. فلدينا في هذا المنزل فقهاء وعلماء، كما لدينا علماء نفس وخبراء اجتماع، فالتقوى لا تتحقق بكمالها إلا في ضوء هذه الخبرات جميعا.
قلت: فهلم بنا إليه، فما أشوقني لأن أتعلم علوم التقوى، وأتدرب عليها.
دخلت مع الزاهد إلى منزل التقوى.. فرأيته من خير المنازل، وأكثرها بركات، لقد رأيت بعيني فيه قوله تعالى:{ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ } (لأعراف:96)
وشهدت فيه تحقيق قوله تعالى:{ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً } (الطلاق: 2)، فلم تكن تخطر على بالي في ذلك المنزل شبهة تريد أن تردعني عن التقوى وتزجرني عنها حتى يأتي فضل الله المخزن في التقوى، فيخرجنا منها سالما غانما.
بعد أن مكثت ما شاء الله لي أن أمكث في ذلك المنزل المبارك بصحبة (الزاهد) ومن فيه من الخبراء والعلماء شعرت بحلاوة في قلبي لا أستطيع لها تعبيرا ولا وصفا، فاستأذنت الزاهد أن أذهب إلى شيخي (أبي مدين) لعلي أعرف سرها، فأذن لي.
عندما دخلت عليه كان في مجلسه (الخواص)، وكانا يتذاكران في التوكل، وما إن دخلت عليهما حتى أسرع الخواص إلي يلتزمني، ويقول: أهلا بك في منازل المتوكلين.
قلت: تلك منازل عالية، فكيف عرفت أني من أهلها؟
قال: التوكل هو صنعتي([30])، ولا يعجز الصانع أن يتعرف على أهل صنعته.
قلت: أللمتوكلين سيما خاصة؟
قال: لكل مقام سيماه الخاصة التي يعرفه من خلالها أهل الله.
قلت: أليس ذلك نوعا من الاستشراف للغيب؟
قال: أليس في قدرة الطبيب الخبير أن يتعرف على الداء بمجرد النظر إلى المريض؟
قلت: بلى.. هناك أطباء كثيرون يقدرون على ذلك.
قال: جل ربك أن يجعل في أطباء الجسد من يقدر على هذا، ثم لا يجعل في أطباء الروح من يقدر عليه.
قلت: وما هذا المنزل؟.. وكيف أتأدب بآدابه؟
قال: اصحبني لتتأدب بآدابه.
قلت: فذرني ـ أولا ـ أسأل شيخي عن حلاوة عرضت لقلبي لم أعرف لها تفسيرا.
قال: تلك حلاوة التوكل.. فللتوكل من الحلاوة ما لا يعدله شيء.
قلت: كيف عرفت ذلك؟
قال: ألم تشعر بطمأنينة عظيمة.. وكأنك ملك على عرشك.. كلما احتجت شيئا رزقا أو غيره جاءك من غير عناء ولا تعب؟
قلت: بلى.. ذلك صحيح.. لم أشعر بالراحة في يوم من أيام حياتي كما شعرت في صحبة هذه الحلاوة.. لقد صرت أتخيل أن لدي كل شيء.. وأنه لم يفتني شيء.. فلذلك زالت كل أحزاني، وارتفعت كل شكواي.
قال: فهذا هو التوكل.. فاصحبني لتتعلم علومه.. ففي كل منزل من منازل السلوك ممالك ومهالك.. ولن ينجو منها إلا من اتقى بالعلم الذي علمه الله لأهل الله ببركة متابعتهم لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
سرت مع الخواص إلى منزل التوكل، وقد كان منزلا في غاية الإبداع والجمال والقوة، يخيل إلى الناظر إليه أنه قائم في الهواء من غير أعمدة، ولكنه يقوم على أعمدة كثيرة لا يراها الكثير.. ومع ذلك فهي أقوى من كل شيء..
لقد ذكرني رؤيتي لها قوله تعالى:{ اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا } (الرعد: 2)
ورأيت طيورا كثيرة تأوى إلى ذلك المنزل، والسرور يملأ محياها، فهي تغرد بكل ألحان الرضا، فذكرتني رؤيتي لها بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (لو أنكم تتوكلون على الله حق وتوكله لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصاً وتروح بطاناً)([31])
أردت أن أسرع بالدخول إليه لما امتلأت به عيني من رونق جماله، لكني تذكرت ما اشترطت به على نفسي وعلى أهل الله ممن وفقني الله لصحبتهم، فقلت: كيف أدخل بدون الشهود العدول الذين يشهدون لحركتي.
قال: أما الشاهد الأول.. كلام ربك.. فهو ممتلئ بالأمر والثناء على المتوكلين:
أما الأمر بالتوكل والحث عليه، فقد قال تعالى:{ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} (آل عمران: 159)، وقال:{ قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} (التوبة:51)، وقال:{ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} (التوبة:129)
وأما الثناء على المتوكلين، وتبيان ما لهم عند الله، فقد قال تعالى:{ وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا: هَذَا مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ، وَصَدَقَ الله وَرَسُولُهُ، وَمَا زَادَهُمْ إلاَّ إيْماناً وَتَسْلِيماً} (الأحزاب:22)، وقال:{ الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173)فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174)} (آل عمران)، وقال:{ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً} (الطلاق: 3)، وقال:{ إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} (النحل:99)
قلت: هذا الشاهد الأول.. فهات الشاهد الثاني.
قال: لقد ورد في السنة ـ التي هي بيان للقرآن الكريم ـ الكثير من النصوص التي تحث على التوكل، وتبين فضل أهله، وما أعد لهم من جزاء عند الله:
ومن ذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم:(عرضت علي الأمم، فرأيت النبي ومعه الرهيط([32])، والنبي ومعه الرجل والرجلان، والنبي وليس معه أحدٌ إذ رفع لي سوادٌ عظيمٌ فظننت أنهم أمتي، فقيل لي: هذا موسى وقومه ولكن انظر إلى الأفق، فنظرت فإذا سوادٌ عظيمٌ، فقيل لي: انظر إلى الأفق الآخر، فإذا سوادٌ عظيمٌ، فقيل لي: هذه أمتك، ومعهم سبعون ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذابٍ)، ثم ذكر سبب دخولهم الجنة بغير حساب، فقال: (هم الذين لا يرقون، ولا يسترقون ولا يتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون) ([33])
انظر هذا الفضل العظيم الذي أعده الله للمتوكلين.. إنهم من دون الناس.. يدخلون الجنة من غير حساب.. وذلك لأنهم لم يثقوا إلا في الله، فحطت ثقتهم في الله عنهم أوزارهم، فراحوا إلى الجنة من غير حساب ولا عذاب.
وعن جابرٍ أنه غزا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم قبل نجدٍ، فلما قفل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قفل معهم، فأدركتهم القائلة في وادٍ كثير العضاه، فنزل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وتفرق الناس يستظلون بالشجر، ونزل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تحت سمرةٍ، فعلق بها سيفه، ونمنا نومةً، فإذا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يدعونا، وإذا عنده أعرابيٌ فقال: (إن هذا اخترط علي سيفي وأنا نائمٌ، فاستيقظت وهو في يده صلتاً، قال: من يمنعك مني؟ قلت: الله ـ ثلاثاً ـ)، ولم يعاقبه وجلس([34]).
وعن أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا خرج من بيته قال: (بسم الله، توكلت على الله، اللهم إني أعوذ بك أن أضل أو أضل، أو أزل أو أزل، أو أظلم أو أظلم، أو أجهل أو يجهل علي)([35])
قلت: قبلت كل هؤلاء الشهود.. وما كان لي أن أعرض عنهم.. ولكني بين قوم اختلفوا في التعامل مع هذه النصوص المقدسة، فمنهم من راح يفسر التوكل بالاستغراق في التوحيد ونبذ الأسباب، واعتبار الأخذ بها قدحا في التوكل.
ومنهم من راح يستغرق في الأسباب، ويؤول هذه النصوص، ويحملها على محامل تنفي التوحيد، وتجعل من التوكل مجرد اسم لا حقيقة وجودية له.
قال: إن من قرأ هذه النصوص بإيمان وصدق ويقين فهم التوكل على الله حق فهمه، فلم يجنح به إلى أي جهة من الجهات.. لا جهة الإفراط، ولا جهة التفريط.. وهذا ما أحوج أهل الله لبناء هذا المنزل، ووضع الأسوار التي تحيط به، والتي تمنع دخول المتطفلين إليه.
قلت: فما ذكروا من هذه الأسوار؟
قال: لقد ذكروا أن التوكل ـ كسائر المقامات ـ ينتظم من علم، وحال، وعمل.
قلت: فما العلم المرتبط بالتوكل؟
قال: التوحيد.. كل مقامات التقديس تبدأ بالتوحيد، وتنتهي به.
قلت: فما التوحيد الذي لا يصير المتوكل متوكلا إلا بتعلمه؟
قال: هو ما وردت به الأذكار من قوله صلى الله عليه وآله وسلم:(من قال: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير في يوم مائة مرة كانت له عدل عشر رقاب، وكتبت له مائة حسنة، ومحيت عنه مائة سيئة، وكانت له حرزا من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي، ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به إلا أحد عمل أكثر من ذلك)([36])
قلت: لقد وردت النصوص الكثيرة تحث على هذا الذكر، وتبين فضله.
قال: إن هذا الذكر العظيم يحتوي على مجامع العلوم التي يقوم عليها بنيان التوكل: فالتوكل ينبني على التوحيد الذي يترجمه قولك: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له)، والإيمان بالقدرة التي يترجم عنها قولك (له الملك)، والإيمان بالجود والحكمة الذي يدل عليه قولك (وله الحمد)
ولذلك من قال (لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير) تم له الإيمان الذي هو أصل التوكل.
قلت: ما أكثر من يقول هذا، ولكني لا أرى عليه حال المتوكلين.
قال: ليس القول قول اللسان وحده.. القول ما قال الفؤاد.. ولذلك، فقد ذكر أهل الله أن للتوحيد ـ الذي هو منبع التوكل وأصله ـ أربع مراتب، وهو بذلك ينقسم كالجوز إلى لب، وإلى لب اللب، وإلى قشر، وإلى قشر القشر.
فالرتبة الأولى من التوحيد: هي أن يقول الإنسان بلسانه (لا إله إلا الله)، وقلبه غافل عنه أو منكر له كتوحيد المنافقين.
والثانية: أن يصدق بمعنى اللفظ قلبه، كما صدق به عموم المسلمين وهو اعتقاد العوام.
والثالثة: أن يشاهد ذلك بواسطة نور الحق وهو مقام المقربين، وذلك بأن يرى أشياء كثيرة، ولكن يراها على كثرتها صادرة عن الواحد القهار.
والرابعة: أن لا يرى في الوجود إلا واحداً، وهي مشاهدة الصديقين، حيث لا يرى إلا واحداً.. ويطلق عليه أهل الله لقب (الفناء)
قلت: الفناء !؟.. دخلنا في الهرطقات.. هذا ما كنت أحذر منه؟
قال: لا تستعجل.. فليس الفناء ما يفهمه المتطرفون الموغلون في الحس.. فناء أهل الله فناء أرقى وأطهر وأنبل..
لقد ذكره سيد ببيانه البليغ، فقال في بيانه لما تمتلئ به النفس من معاني قوله تعالى:{ هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (الحديد:3):(وما يكاد يفيق من تصور هذه الحقيقة الضخمة التي تملأ الكيان البشري وتفيض، حتى تطالعه حقيقة أخرى، لعلها أضخم وأقوى: حقيقة أن لا كينونة لشيء في هذا الوجود على الحقيقة، فالكينونة الواحدة الحقيقية هي لله وحده سبحانه؛ ومن ثم فهي محيطة بكل شيء، عليمة بكل شيء { هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (الحديد:3)
قلت: ومع ذلك فقد ذكر أن هذه الحال ليست كمالا.
قال: المتوقف عند هذه الحال والمستلذ لها لا شك في نقصه.. فهو قد انقطع به الطريق… أو لم يفهم الغاية منه… فالخالع للكون الفاني لن يفهم مراد الله من رسائل الكون حتى يعيد لبسه من جديد، باسم الله، لا باسمه الذي لا وجود له.
قلت: هذا العلم.. فحدثني عن الحال؟
وبما أنه حال قلبي، فقد اختلفت عبارات أهل الله في التعبير عنه.. فعبر عنه بعضهم بقوله:(التوكل: الانخلاع من الحول والقوة)
وقال آخر:(التوكل: الاستسلام لجريان القضاء فى الأحكام)
وقال آخر: (التوكل: الاسترسال بين يدى الله تعالى)
وقال آخر:(التوكل: ترك الإيواء إلا إلى الله)
ولم يستطع آخرون أن يعبروا عن حالهم، فقالوا:(التوكل سر بين العبد وبين الله)
قلت: وما تقول أنت في هذا؟
قال: التوكل مشتق من الوكالة، يقال: وكَّل أمره إلى فلان أي فوضه واعتمد عليه فيه.. والتوكل ـ بهذا ـ عبارة عن اعتماد القلب وعلى الوكيل وحده.
فمن ادعى عليك دعوى باطلة، فوكلت من يكشف دعواه وبطلانها لم تكن متوكلاً عليه ولا واثقاً به ولا مطمئن النفس بتوكيله إلا إذا اعتقدت فيه أربعة أمور: منتهى الهداية، ومنتهى القوة، ومنتهى الفصاحة، ومنتهى الشفقة.
أما الهداية، فليعرف بها مواقع التلبيس حتى لا يخفى عليه من غوامض الحيل شيء أصلاً.
وأما القدرة والقوة، فليستجرئ على التصريح بالحق، فلا يداهن ولا يخاف ولا يستحي ولا يجبن، فإنه ربما يطلع على وجه تلبيس خصمه فيمنعه الخوف أو الجبن أو الحياء أو صارف آخر من الصوارف المضعفة للقلب عن التصريح به.
وأما الفصاحة، فهي ـ أيضاً ـ من القدرة في اللسان على الإفصاح عن كل ما استجرأ القلب عليه وأشار إليه: فلا كل عالم بمواقع التلبيس قادر بذلاقة لسانه على حل عقدة التلبيس.
وأما منتهى الشفقة، فيكون باعثاً له على بذل كل ما يقدر عليه في حقه من المجهود، فإن قدرته لا تغني دون العناية به إذا كان لا يهمه أمره ولا يبالي به ظفر خصمه أو لم يظفر هلك به حقه أو لم يهلك.
قلت: هذا مثال جيد.. وهو أيسر فهما على قومي، فهم كثيرا ما يحتاجون إلى توكيل المحامين.. وهم لا يطلبون منهم إلا من تحققت له الكمالات التي تهيئه لهذه الوظيفة.. وهم في أحيان كثيرة يقتنعون بدون ما ذكرت بكثير.
قال: إذا عرفت هذا، فقس عليه التوكل على الله تعالى، فإن ثبت في نفسك اعتقاد جازم أنه لا فاعل إلا الله ـ كما علمت في الركن الأول من أركان التوكل ـ واعتقدت ـ مع ذلك ـ تمام العلم والقدرة على كفاية العباد، ثم تمام العناية والعطف والرحمة بجملة العباد والآحاد، وأنه ليس وراء منتهى قدرته قدرة، ولا وراء منتهى علمه علم، ولا وراء منتهى عنايته بك ورحمته لك عناية ورحمة، اتكل لا محالة قلبك عليه وحده، ولم يلتفت إلى غيره بوجه ولا إلى نفسه وحوله وقوته، فإنه لا حول ولا قوة إلا بالله.
قلت: ما بال الناس.. كلهم يعتقدون ما ذكرت.. ولكنهم لا يجدون ما تذكر من أحوال؟
قال: ذلك يعود إلى أحد أمرين: إما ضعف اليقين بإحدى هذه الخصال الأربعة، وإما ضعف القلب ومرضه باستيلاء الجبن عليه وانزعاجه بسبب الأوهام الغالبة عليه، فإن القلب قد ينزعج تبعاً للوهم وطاعة له عن غير نقصان في اليقين، فإن من يتناول عسلاً، فشبه بين يديه بنجاسة ربما نفر طبعه وتعذر عليه تناوله مع كونه عسلا.
ولهذا، فإن التوكل لا يتم إلا بقوة القلب، وقوة اليقين جميعاً، إذ بهما يحصل سكون القلب وطمأنينته، فالسكون في القلب شيء، واليقين شيء آخر، فكم من يقين لا طمأنينة معه كما قال تعالى لإبراهيم u:{ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي } (البقرة: 260)، فالتمس أن يكون مشاهداً إحياء الميت بعينه ليثبت في خياله، فإن النفس تتبع الخيال وتطمئن به ولا تطمئن باليقين في ابتداء أمرها إلى أن تبلغ بالآخرة إلى درجة النفس المطمئنة؛ وذلك لا يكون في البداية أصلاً، وكم من مطمئن لا يقين له.
قلت: علمت هذا، وأيقنت به.. فما درجات الناس فيه؟
قال: كثيرة.. لا يمكن حصرها.. ولكن مجامعها ثلاث:
أما الدرجة الأولى، فما وصفته لك من توكيل المخاصمين للمحامين، وثقتهم فيهم، فيكون حاله في حق الله تعالى والثقة بكفالته وعنايته كحاله في الثقة بالوكيل.
وأما الدرجة الثانية، وهي أقوى: فهي أن يكون حاله مع الله تعالى كحال الطفل مع أمه، فإنه لا يعرف غيرها، ولا يفزع إلى أحد سواها، ولا يعتمد إلا عليها.. فمن كان باله إلى الله عز وجل ونظره إليه واعتماده عليه كلف به كما يكلف الصبي بأمه فيكون متوكلاً حقاً: فإن الطفل متوكل على أمه.
أما الدرجة الثالثة، وهي أعلى الدرجات، فهي أن يكون بين يدي الله تعالى في حركاته وسكناته مثل الميت بين يدي الغاسل.. وهو الذي قوي يقينه بأن الله تعالى هو مجري الحركة والقدرة والإرادة والعلم وسائر الصفات..
قلت: فما الفرق بين هذا والذي قبله؟
قال: فرق عظيم.. فالصبي يفزع إلى أمه ويصيح ويتعلق بذيلها ويعدو خلفها، أما هذا، فهو مثل صبي علم أنه وإن لم يزعق بأمه، فالأم تطلبه، وأنه وإن لم يتعلق بذيل أمه، فالأم تحمله، وإن لم يسألها اللبن فالأم تفاتحه وتسقيه.
قلت: إنك بهذا تعتبر نهاية التوكل تؤول إلى الذين انشغلوا بالله عن الأسباب.. فراحوا يتركون الأسباب انشغالا بالله.
قال: أهل الله أعمق علما، وأحكم حكمة من أن يقعوا في مثل هذه المهالك.. إن ما ذكرته لك أحوال إيمانية يمتلئ بها القلب.. أما الجوارح، فإنها لا تترك ما أنيط بها من وظائف.. بل هي تؤديها عبودية خالصة لله.. وهي تعلم أن الله هو الفاعل والمؤثر..
لقد قال الغزالي عند ذكره لأعمال المتوكلين:(اعلم أن العلم يورث الحال، والحال يثمر الأعمال، وقد يظن أن معنى التوكل ترك الكسب بالبدن وترك التدبير بالقلب والسقوط على الأرض كالخرقة الملقاة، وكاللحم على الوضم، وهذا ظن الجهال، فإن ذلك حرام في الشرع، والشرع قد أثنى على المتوكلين، فكيف ينال مقام من مقامات الدين بمحظورات الدين؟)([37])
وقبله قال الحكيم الترمذى فيمن ترك الطلب والسعى، وتواكل بحجة أن الرزق يطلب العبد كما يطلبه أجله:(إن كانوا قعدوا ينبغى لهم أن يقوموا وأن يطلبوا، تحرزا من الطمع وفساد القلب، فلا يضيع حق الزوجة والولد، برغم أن أرزاقهم على اللَّه، فهذا تارك للسبيل والسنة، لقوله تعالى:{ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ } (البقرة: 233)([38])
وقبلهما قال سهل بن عبد اللَّه:(من طعن فى الحركة، فقد طعن فى السنة، ومن طعن فى التوكل فقد طعن فى الإيمان، والتوكل حال النبى صلى الله عليه وآله وسلم، والكسب سنته، فمن بقى على حاله فلا يتركن سنته)([39])
قلت: إن ما ذكرته عن الغزالي وهؤلاء الأولياء الكبار عظيم، وهو يفند كل شبهة في هذا الباب.. ولكني مع ذلك سمعت أن بعض من ينسب لأهل الله يقعون في أعمال من ترك الأسباب، وهم يفسرون بها التوكل، ويسيئون إليه أعظم إساءة.
قال: ولذلك بنى أهل الله هذا المنزل، ليدخلوا المريدين فيه إلى ممالك التوكل، ويحموهم من مهالكه.. وهذا الذي ذكرته من مهالكه.
لم أجد إلا أن أسرع إلى هذا المنزل المبارك، فأدخله، ويدخل معي إليه شيخي فيه ومرشدي (الخواص)، وقد رأيته منزلا ممتلئا بالبركات، وفيه من أنوار الإيمان واليقين، ومن حقائق السلام والسكينة ما لا يمكن للسان أن يعبر عنه.
مكثت مدة في منزل التوكل أتتلمذ على أهله، وأتدرب على أيديهم، وأحصل من العلوم ما أحتاج إليه لتحقيقه، حتى سكنت إليه سكونا كليا، وقلت في نفسي:(هذه هي داري التي كنت أبحث عنها، وفيها يطيب مقامي)
ما قلت ذلك في نفسي حتى جاءني أمر من شيخي (أبي مدين) يطلب مني أن أذهب إلى صاحبي السادس (الجنيد)، لأترقى على يديه إلى مقام (الشكر)، وأنزل منزله.
لم أجد إلا أن ألبي أمر شيخي.. فسرت إلى الجنيد الذي كان ينتظرني، وكأني معه على ميعاد، فما إن اقتربت منه حتى قال لي: هيا بنا إلى منزل الشكر.. فلا سار من لم ينزل ذلك المنزل..
قلت: إن السائرين إذن قليل.. فقد قال الله تعالى:{ وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} (سـبأ: 13)؟
قال: الواصلون قليل.. أما السائرون.. فمنهم من يسير إلى منازل الملك، ومنهم من يسقط في مهاوي الهلك.
قلت: فما العاصم الذي يعصمنا من الهلك؟
قال: من تمسك بالملك، وبمن يرسله الملك، فلم يخطو خطوة إلا بحسب إشارته، وبعد إذنه وصل لا محالة إلى منازل الملك، ومن امتلأت نفسه بالأهواء، فراح يعرض عن رسول الملك، فإنه لا محالة سيقع في مهاوي الهلك.
قلت: ذكرتني بالشهود العدول.. فحدثني عن الشهود العدول الذي يشهدون لهذا المنزل.
قال: أما القرآن الكريم.. فقد تحدث عن الشكر آمرا وحاثا، كما تحدث عنه مثنيا ومرغبا:
أما حديثه عن الشكر آمرا وحاثا، فمنه قوله تعالى:{:{ فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ} (البقرة:152)، وقوله:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} (البقرة:172)، وقوله:{ فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالاً طَيِّباً وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} (النحل:114)
وأخبر تعالى أن الغرض من تصريف الآيات وبث النعم هو لفت القلوب إلى شكر مولاها، فقال:{ وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِداً كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ} (لأعراف:58)، وقال:{ وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (لأنفال:26) وغيرها من الآيات الكريمة.
وقد أخبر الله تعالى أن هذا هو مقام أهل الله من أنبياء الله ورسله وأوليائه، قال تعالى عن إبراهيم u:{ رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} (ابراهيم:37)
وقال عن يوسف u:{ وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ} (يوسف:38)
وقال عن سليمان u:{ فَتَبَسَّمَ ضَاحِكاً مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ} (النمل:19)، وقال عنه:{ قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرّاً عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ} (النمل:40)
وقال عن لقمان u:{)وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} (لقمان:12)
وأخبر عن الفضل العظيم الذي خصصه لأهل هذا المنزل العظيم، فقال:{ وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} (ابراهيم:7)
قلت: هذا الشاهد الأول.. وهو الشاهد الأعظم.. فحدثني عن الشاهد الثاني، ذلك { الذي مَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى } (النجم)؟
قال: لقد وردت الروايات الكثيرة تحدث عن دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ـ بفعله وقوله ـ لهذا المقام العظيم من مقامات الدين.. ففي الحديث قال صلى الله عليه وآله وسلم:(من أكل من طعام، فقال: الحمد لله الذي أطعمتني هذا ورزقنيه من غير حول مني ولا قوة، غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن لبس ثوبا جديدا فقال: الحمد لله الذي كساني هذا ورزقنيه من غير حول مني ولا قوة، غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر)([40])
وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:(كل أمرٍ ذي بالٍ لا يبدأ فيه بـ: الحمد لله، فهو أقطع)([41])
وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ( إذا مات ولد العبد قال الله تعالى لملائكته: قبضتم ولد عبدي؟ فيقولون: نعم، فيقول: قبضتم ثمرة فؤاده؟ فيقولون: نعم، فيقول: فماذا قال عبدي؟ فيقولون: حمدك واسترجع فيقول الله تعالى: ابنوا لعبدي بيتاً في الجنة، وسموه بيت الحمد)([42])
وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:(إن الله ليرضى عن العبد يأكل الأكلة فيحمده عليها، ويشرب الشربة، فيحمده عليها)([43])
وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:(خصلتان من كانتا فيه كتبه الله شاكرا صابرا، ومن لم تكونا فيه لم يكتبه الله شاكرا ولا صابرا، من نظر في دينه إلى من هو فوقه فاقتدى به، ونظر في دنياه إلى من هو دونه فحمد الله على ما فضله به عليه كتبه الله شاكرا صابرا، ومن نظر في دينه إلى من هو دونه، ونظر في دنياه إلى من هو فوقه فاسف على ما فاته منه لم يكتبه الله لا شاكرا ولا صابرا)([44])
وقال صلى الله عليه وآله وسلم:(الطاعم الشاكر بمنزلة الصائم الصابر)([45])
وقال صلى الله عليه وآله وسلم:(قال الله تعالى: يا ابن آدم إنك ما ذكرتني شكرتني وإذا ما نسيتني كفرتني)([46])
وقال صلى الله عليه وآله وسلم:(قال موسى يا رب كيف شكرك ابن آدم؟ فقال: علم أن ذلك مني، فكان ذلك شكره)([47])
وقال صلى الله عليه وآله وسلم:(قلب شاكر ولسان ذاكر وزوجة صالحة تعينك على أمور دنياك ودينك خير ما اكتنز الناس)([48])
وقال صلى الله عليه وآله وسلم:(لأنا أشد عليكم خوفا من النعم مني من الذنوب، ألا إن النعم التي لا تشكر هي الحتف القاضي)([49])
وقال صلى الله عليه وآله وسلم:(هذا والذي نفسي بيده، من النعيم الذي تسألون عنه يوم القيامة: ظل بارد، ورطب طيب، وماء بارد)([50])
وقال صلى الله عليه وآله وسلم:(إن عبدا من عباد الله قال: يا رب لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك، فأعضلت بالملكين، فلم يدريا كيف يكتبانها، فصعدا إلى السماء، فقالا: يا ربنا إن عبدك قد قال مقالة لا ندري كيف نكتبها؟ فقال الله عزوجل ـ وهو أعلم بما قاله عبده ـ: ماذا قال عبدي؟ قالا: يا رب إنه قد قال: يا رب لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك، فقال الله لهما: اكتباها كما قال عبدي حتى يلقاني عبدي فأجزيه بها)([51])
قلت: عرفت فضل الشكر.. فقد ملأتنا هذه النصوص المقدسة ترغيبا فيه.. فما هو الشكر؟.. هل هو تلك الكلمات التي تقولها ألسنتنا، وقلوبنا غافلة عن معناها؟.. أم هو معاني معينة في القلب.. وما هي تلك المعاني؟.. ولم حكم الله بقلة الشاكرين؟.. ولم كانت لهم الزيادة دون غيرهم؟.. ولم كان هذا مقاما من مقامات التقديس؟.. ولم..
قاطعني، وقال: رويدك.. ليس في هذا المحل تتعلم هذه العلوم.. علوم الشكر لا تنال إلا في منازل الشكر.
قلت: لكني تعودت أن لا أدخل محلا حتى أكون عارفا بأصوله.. فما أصوله؟
قال: لقد ذكر أهل الله ـ الذين مزجوا بين الفهوم الراقية للنصوص المقدسة، مع التجربة الروحية العالية ـ هذه الأصول، ورتبوها كما ترتب العلوم، فصار للشكر علما قائما بذاته له أصوله وفروعه وكل ما يرتبط به من أحكام.
قلت: لكني لا أرى هذا العلم يدرس؟
قال: تلك الغفلة.. الغفلة التي جعلتنا نهتم بنواقض الطهارة أكثر من اهتمامنا بنواقض الشكر.
قلت: فما الحل؟
قال: الرجوع إلى الورثة الذين عرفوا هذا الدين.. وفهموه.. وعاشوه.. ثم ذهبوا بعد ذلك كله يملأون المصنفات نصحا لعباد الله.
قلت: لقد ذكر لي من قبلك أن كل مقام ينتظم من علم وحال وعمل.
قال: وهكذا الشكر.. فكل شيء ينتظم من علم وحال وعمل..
قلت: فما علم الشكر؟
قال: هو ينتظم من ثلاثة أمور: عين النعمة، ووجه كونها نعمة في حقه، وبذات المنعم ووجود صفاته التي بها يتم الإنعام ويصدر الإنعام منه عليه.
قلت: هذا ما تقتضيه القسمة العقلية، ذلك أنه في كل نعمة من النعم لابد من هذه الثلاثة: نعمة، ومنعم، ومنعم عليه تصل إليه النعمة من المنعم بقصد وإرادة.
قال: هذا في الشكر عموما.. أما في حق الله تعالى، فلا يتم الشكر إلا بأن يعرف أن النعم كلها من الله تعالى، وأنه هو المنعم الوحيد، وأن الوسائط مسخرون من جهته.
وتتأسس هذه المعرفة على التقديس، وذلك بأن يعرف أن الله هو القدوس، وأنه لا مقدس إلا واحد، وما عداه غير مقدس.. ثم يعلم أن كل ما في العالم فهو موجود من ذلك الواحد فقط، فالكل نعمة منه، فتقع هذه المعرفة في الرتبة الثالثة، إذ ينطوي فيها مع التقديس والتوحيد: كمال القدرة والانفراد بالفعل.
وقد عبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن هذا، فقال:(من قال سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر كتب له بكل حرف عشر حسنات)([52])، وقال:(أفضل الذكر لا اله الا الله، وأفضل الدعاء الحمد لله)([53])، وقال:(والحمد لله تملأ الميزان)([54])
فسبحان الله كلمة تدل على التقديس، ولا إله إلا الله كلمة تدل على التوحيد، والحمد لله كلمة تدل على النعمة من الواحد الحق.. والحسنات بإزاء هذه المعارف التي هي من أبواب الإيمان واليقين.
وتمام هذه المعرفة ينفي الشرك في الأفعال، فمن أنعم عليه ملك من الملوك بشيء، فإن رأى لوزيره أو وكيله دخلاً في تيسير ذلك وإيصاله إليه فهو إشراك به في النعمة، فلا يرى النعمة من الملك من كل وجه، بل منه بوجه ومن غيره بوجه، فيتوزع فرحه عليهما فلا يكون موحداً في حق الملك.
قلت: وعيت هذا، فلا يشكر إلا من أفرد الله بالشكر، واعتقد أن الخير كله بيده.. فما يثمر هذا من الأحوال؟
قال: لقد اختلفت تعابير أهل الله عن تلك الحال اللذيذة التي يجدونها عند حصول هذه المعرفة في قلوبهم..
فقال بعضهم:(لست بشاكر مادمت تشكر، وغاية الشكر التحير، وذلك أن الشكر نعمة من الله يجب الشكر عليها وهذا لا يتناهى)
وقال آخر:(شكر النعمة أن ترى نفسك فيها طفيليا)
وقال آخر:(الشكر معرفة العجز عن الشكر)
وقال آخر:(الشكر أن لا ترى نفسك أهلا للنعمة)
قلت: فما تقول أنت؟
قال: إن الملك الذي يريد الخروج إلى سفر، فيهدي فرسا لبعض الناس.. فإن هؤلاء الناس سينقسمون في فرحهم بالفرس إلى ثلاثة أقسام:
أما الأول، فيفرحون بالفرس من حيث إنه فرس.. وهذا فرح من لاحظ له في الملك، بل غرضه الفرس فقط، ولو وجده في صحراء فأخذه، لكان فرحه مثل ذلك الفرح.
أما الثاني، فيفرحون به لا من حيث إنه فرس، بل من حيث يستدلون به على عناية الملك بهم، وشفقته عليهم واهتمامه بجانبهم، ولو وجد هؤلاء هذا الفرس في صحراء أو أعطاهم إياه غير الملك لكانوا لا يفرحون به أصلاً لاستغنائهم عن الفرس أصلاً أو استحقارهم له بالإضافة إلى خلوه من نيل المحل في قلب الملك.
أما الثالث، فيفرحون به لأجل الخروج به في خدمة الملك، فيتحملون مشقة السفر لينالوا بخدمته القرب منه، وهم لا يريدون من ذلك إلا مشاهدة الملك والقرب منه، حتى لو خيروا بين القرب منه دون الوزارة وبين الوزارة دون القرب لاختاروا القرب.
قلت: عرفت أحوال الشاكرين للملك الذي أهدى فرسا، فما حال الشاكرين لله الذي أعطى من النعم ما لا يحصى؟
قال: هم كذلك ثلاثة.. وبينهما درجات لا يعلمها إلا الله:
أما الأولون، فحالهم كحال الذي يفرح بالفرس لا بالمعطى، وهذا حال كل من فرح بنعمة من حيث إنها لذيذة وموافقة لغرضه، وهو بعيد عن معنى الشكر.
وأما الثانية، فهي داخلة في معنى الشكر من حيث إنه فرح بالمنعم، ولكن لا من حيث ذاته بل من حيث معرفة عنايته التي تستحثه على الإنعام في المستقبل، وهذا حال الصالحين الذين يعبدون الله ويشكرونه خوفاً من عقابه ورجاءً لثوابه.
أما الشكر التام فهو في الفرح الثالث، وهو أن يكون فرح العبد بنعمة الله تعالى من حيث إنه يقدر بها على التوصل إلى القرب منه تعالى والنزول في جواره والنظر إلى وجهه على الدوام، فهذا هو الرتبة العليا.
قلت: وعيت هذا، فما الأعمال التي تثمرها هذه الأحوال؟
قال: لقد عبر الشاعر عن ذلك وأحسن، فقال:
أفادتكم
النعماء مني ثلاثة |
يدي
ولساني والضمير المحجبا |
وقد قيل للجنيد ـ وهو ابن سبع سنين ـ: يا غلام ما الشكر؟ فقال: (أن لا يعصى الله بنعمه)
قلت: ما يعني هذا؟
قال: من فرح بشيء فرحا استولى على كيانه، فإنه لا محالة سيتحرك بموجب ما يهديه إليه فرحه.. فمن فرح بمركوب ركبه، ومن فرح بمأكول أكله.. ومن فرح بشيء ارتبط به.
وهكذا فرح من رأى نعم الله عليه، فإنه لا محالة يستعملها.. ولكن الفرق بين استعماله لها واستعمال غيره هو أنه يستعملها في طاعة مولاه الذي أهداها له.. فلا يحق لمن أهديت له هدية أن يستعملها في مضادة من أهداها له.
قلت: فاضرب لي أمثلة على ذلك.
قال: شكر القلب ـ مثلا ـ وهو تصور النعمة، والاعتراف بها للمنعم، والعزم على طاعته، وفي ذلك يقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:(عجبا لأمر المؤمن، إن أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر، فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر، فكان خيرا له)([55])
وشكر اللسان ـ مثلا ـ هو الثناء على المنعم بفضله، ومما يروى في ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صلى صلاة الصبح بالحديبية في إثر سماءٍ كانت من الليل، فلما انصرف أقبل على الناس، فقال: هل تدرون ماذا قال ربكم؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: (أصبح من عبادي مؤمنٌ بي، وكافرٌ، فأما من قال مطرنا بفضل الله ورحمته، فذلك مؤمنٌ بي كافرٌ بالكوكب، وأما من قال: مطرنا بنوء كذا وكذا، فذلك كافرٌ بي مؤمنٌ بالكوكب)([56])
وهكذا شكر سائر الجوارح، فشكرها هو مكافأة النعمة بفعل الجوارح من خلال خضوعها واستجابتها لأمر الله تعالى ونهيه، كما قال تعالى:{ اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} (سـبأ: 13)
وقد روي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه، فقيل له: لم تصنع هذا يا رسول الله، وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟! قال: (أفلا أحب أن أكون عبداً شكوراً؟)([57])
قلت: سلمت بهذا، ووعيته.. ولكن شبهة ترد على خاطري.. وربما ترد على خواطر الكثير، وهي أن في الشكر حظا للمشكور.. وبما أن الله غني عن عباده غنى مطلقا، فكيف يطلب منا أن نشكره، وكيف يعتبر الشكر مقاما من مقامات الوصول إليه؟
قال: تعالى الله عن الحظوظ.. فالله هو الغني الحميد، وكل ما نفعله ليس إلا لمصالحنا.. فالله الكريم الجواد الحكيم اللطيف بعباده، اقتضى جوده وحكمته أن يرتبا لطفه بعباده على أسباب من العبادة والسلوك.. وليس لله من ذلك شيء.
لقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث القدسي يشير إلى ذلك:(يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا، يا عبادي كلكم ضالٌ إلا من هديته؛ فاستهدوني أهدكم، يا عبادي كلكم جائعٌ إلا من أطعمته؛ فاستطعموني أطعمكم، يا عبادي كلكم عارٍ إلا من كسوته، فاستكسوني أكسكم، يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعاً، فاستغفروني أغفر لكم، يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم، كانوا على أتقى قلب رجلٍ واحدٍ منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجلٍ واحدٍ منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاً، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيدٍ واحدٍ، فسألوني فأعطيت كل إنسانٍ مسألته، ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر، يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم، ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه)([58])
قلت: شبهة أخرى تعرض لي، كما تعرض لغيري.. ولست أدري الجواب فيها.. أنا أعلم أن كل ما نتعاطاه باختيارنا نعمة من نعم الله.. فكيف نشكر نعمة بنعمة، وهل يمكن أن يشكر أحد نعمة بنعمة أخرى؟
قال: لقد خطر هذا الخاطر لداود وموسى ـ عليهما السلام ـ فقال كلا منهما لله: يا رب كيف أشكرك، وأنا لا أستطيع أن أشكرك إلا بنعمة ثانية من نعمك؟ فأوحى الله تعالى إلى كل منهما: (إذا عرفت هذا فقد شكرتني)
كنا نسير، ونحن نتحدث هذه الأحاديث.. وكانت الطريق المؤدية إلى منزل الشكر في منتهى الجمال، فالأزهار تحيط بها من كل جانب.. والروائح العطرة تملؤنا بنشوة إيمانية عظيمة.. وفوق ذلك كانت الطيور تحلق فوق رؤوسنا، لتمتعنا بأجمل ما وهبها الله من ألحان.
ما إن وصلت مع الجنيد إلى منزل الشكر حتى وجدتني مستغرقا استغراقا كليا في مشاهدته والتنعم بجماله.. لقد كان منزلا لا يمكن لأحد في الدنيا أن يصفه.. ولذلك غفلت عن صاحبي، ورحت أسرع في الدخول إليه.. وقد وجدت في داخله ما لا تسع بحار الدنيا التعبير عنه.
بعد أن مكثت ما شاء الله لي أن أمكث في منزل الشكر جاءني أمر من شيخي أبي مدين بأن أسير صحبة أبي يزيد البسطامي إلى منزل الصدق.. فلم أجد إلا أن أطيعه.. فسرت إلى أبي يزيد.. وقد كان أول ما قال لي أبو يزيد: أجئت تطلب مقام الأنبياء؟
قلت: لا طاقة لي بهذه التعابير.. فكف عني يا أبا يزيد.. وحدثني بما يعرفه الناس، فإني لا أريد للساني أن يقع في أي شطحة من الشطحات.
قال: لقد وصف الله أنبياءه بالصديقية.. ولذلك فالمتحقق بالصدق عندنا متحقق بمقام من أعظم مقامات الأنبياء ـ عليهم السلام ـ لقد قال الله تعالى في إبراهيم u:{ وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَبِيّاً} (مريم:41)، وقال في إدريس u:{ وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَبِيّاً} (مريم:56)، وقال في إسماعيل u:{ وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَبِيّاً} (مريم:54)، وقال في يوسف u:{ يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ} (يوسف: 46)
قلت: فما دام الأمر خاصا بالأنبياء.. فليس لي حق في أن أطلب ما لا يكون.
قال: إن الأنبياء هم محل القدوة.. والله لم يرسلهم إلا لنسير على خطاهم ونهتدي بهديهم، ألم تسمع قوله صلى الله عليه وآله وسلم:(من قرأ القرآن فكأنما أدرجت النبوة بين جبينه غير أنه لا يوحى إليه)([59])؟
قلت: بلى.. وصدق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
قال: وهكذا الصدق.. فمن كان له حظ من الصدق كان له حظ من النبوة..
قلت: لم أسمع النص يذكر هذا..
قال: لا بأس.. فلنترك هذا.. فقد ورد في النصوص المقدسة اعتبار الصادقين من أرفع الناس درجة.. قال الله تعالى:{ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} (الحجرات:15)، وقال تعالى:{ لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} (الحشر:8)، وقال تعالى:{ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً} (الأحزاب:23)
وأخبر تعالى بأن الغرض من أنواع البلاء هو تمحيص الصادقين وتمييزهم عن غيرهم، قال تعالى:{ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} (العنكبوت:3)
وأخبر عن الجزاء العظيم المعد للصادقين، فقال:{ قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } (المائدة:119)
ولهذا كله أمر الله تعالى بالصدق، وبالكينونة مع الصادقين، فقال:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} (التوبة:119)
قلت: هذا الشاهد الأول.. فهات الشاهد الثاني.
قال: لقد وردت الروايات الكثيرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم تبين فضل الصدق وعظم درجة الصادقين، فقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الصدق يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة، وإن الرجل ليصدق حتى يكتب عند الله صديقاً، وإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وإن الرجل ليكذب حتى يكتب عند الله كذاباً)([60])
وقال صلى الله عليه وآله وسلم:(دع ما يريبك إلى ما لا يبريبك؛ فإن الصدق طمأنينةٌ، والكذب ريبةٌ)([61])
وقال: (من سأل الله، تعالى، الشهادة بصدقٍ بلغه الله منازل الشهداء، وإن مات على فراشه)([62])
وقال:(البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما، وإن كتما وكذبا محقت بركة بيعهما)([63])
وجاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: يا رسول الله، ما عمل الجنة؟ قال: الصدق، إذا صدق العبد بر، وإذا بر آمن، وإذا آمن دخل الجنة، قال: يا رسول الله، وما عمل النار؟ قال: (الكذب، إذا كذب العبد فجر، وإذا فجر كفر، وإذا كفر دخل النار)([64])
وحذر صلى الله عليه وآله وسلم في مقابل ذلك من الكذب، واعتبره من خصال المنافقين، فقال:(أربعٌ من كن فيهن كان منافقاً خالصاً، ومن كانت فيه خصلةٌ منهن، كانت فيه خصلةٌ من نفاقٍ حتى يدعها: إذا اؤتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر)([65])
وقال صلى الله عليه وآله وسلم:(من تحلم بحلمٍ لم يره، كلف أن يعقد بين شعيرتين ولن يفعل، ومن استمع إلى حديث قومٍ وهم له كارهون، صب في أذنيه الآنك يوم القيامة، ومن صور صورةً، عذب، وكلف أن ينفخ فيها الروح، وليس بنافخٍ)([66])
قلت: وعيت هذا.. فحدثني عن الصدق.. أليس هو مطابقة كلامنا للواقع؟
قال: الكلام جزء من تصرفاتنا، ومطابقته للواقع لا تعدو مطابقة جزء من تصرفاتنا للواقع.. والصدق أخطر من ذلك بكثير.
قلت: فما مجالاته إذن؟
قال: لقد تحدث أهل الله عن الكثير من مجالاته.. وقد جمعها بعضهم في ستة معان: صدق في القول، وصدق في النية والإرادة، وصدق في العزم، وصدق في الوفاء بالعزم، وصدق في العمل، وصدق في تحقيق مقامات الدين كلها.
فمن اتصف بالصدق في جميع هذه المعاني فهو صديق لأنه تحقق بالصدق في جميع معانيه.. ثم هم أيضاً على درجات، فمن كان له حظ في الصدق في شيء من الجملة فهو صادق بالإضافة إلى ما فيه صدقه.
قلت: فحدثني عن صدق اللسان.
قال: صدق اللسان هو أن يطابق القول الواقع.. سواء كان ذلك في الإخبار، أو فيما يتضمن الإخبار وينبه عليه.. وبما أن الخبر إما أن يتعلق بالماضي أو بالمستقبل، فإن الوفاء بالوعد والخلف فيه يدخل في هذا النوع من الصدق.
قلت: إن صدق اللسان معروف مشهور.. وأكثر الناس يحصر الصدق فيه.. فحدثني عن صدق النية والإرادة.
قال: النية الصادقة هي التي تتوجه إلى الله بصدق وإخلاص، فلا يكون لها من باعث في الحركات والسكنات إلا الله تعالى، فإن مازجها شوب من حظوظ النفس بطل صدقها.
ولذلك ورد في حديث الثلاثة الذين هم أول من تسعر بهم النار قوله صلى الله عليه وآله وسلم:(إن أول الناس يقضى عليه يوم القيامة رجل استشهد فأتى به فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: قاتلت فيك حتى استشهدت، قال: كذبك ولكنك قاتلت ليقال فلان جريء، فقد قيل ثم أمر ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار، ورجل تعلم العلم وعلمه وقرأ القرآن فأتى به فعرفه نعمه فرفعها قال: قال: فما عملت فيها؟ قال: تعلمت العلم وعلمته ومن قرآت فيك القرآن. قال: كذبت ولكنك تعلمت ليقال عالم، وقرأت القرآن ليقال هو قارئ فقد قيل ثم أمر بن فسحب على وجهه حتى ألقي في النار، ورجل وسع الله عليه وأعطاه من أصناف المال كله فأتى به فعرفه نعمه فعرفها. قال: فما عملت فيها؟ قال: ما تركت سبيل تحب أن ينفق فيها إلا أنفقت فيها لك قال: كذبت ولكنك فعلت ليقال هو جواد فقد قيل، ثم أمر فسحب على وجهه حتى ألقي في النار)([67])
ولذلك قال تعالى عن المنافقين:{ إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} (المنافقون:1)، فمع أنهم قالوا (إنك لرسول الله)، وهذا صدق، ولكن كذبهم، لا من حيث نطق اللسان، بل من حيث ضمير القلب.
قلت: فحدثني عن صدق العزم.
قال: ألا ترى أن الإنسان قد يقدم العزم على العمل، فيقول في نفسه: إن رزقني الله مالاً تصدقت بجميعه، أو بشطره.. أو إن أعطاني الله تعالى ولاية عدلت فيها ولم أعص الله تعالى بظلم وميل إلى خلق؟
قلت: بلى.. كلنا يقول ذلك.
قال: فهذه العزيمة قد يصادفها حقيقة من نفسه وهي ـ حينذاك ـ عزيمة جازمة صادقة، وقد يكون في عزمه نوع ميل وتردد وضعف يضاد الصدق في العزيمة، فكان الصدق ههنا عبارة عن التمام والقوة.
قلت: وعيت هذا.. فحدثني عن صدق الوفاء بالعزم.
قال: قد تسخو النفس بالعزم في الحال.. إذ لا مشقة في الوعد والعزم.. ولكنه إذا حقت الحقائق، وحصل التمكن، وهاجت الشهوات، انحلت العزيمة، وغلبت الشهوات، ولم يتفق الوفاء بالعزم، وهذا يضاد الصدق فيه.
لقد قال الله تعالى يشير إلى هذا النوع من الصدق:{ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً} (الأحزاب:23)
لقد روي في هذا عن أنس قال: عمي أنس بن النضر سُميت به، لم يشهد مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم بدر، فشق عليه وقال: أول مشهد شهده رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم غُيِّبْتُ عنه، لئن أراني الله مشهدا فيما بعد مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لَيَرَيَنَ الله ما أصنع. قال: فهاب أن يقول غيرها، فشهد مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم أحد، فاستقبل سعدَ بن معاذ فقال له أنس: يا أبا عمرو، أبِنْ، واهًا لريح الجنة أجده دون أحد، قال: فقاتلهم حتى قُتل قال: فَوُجد في جسده بضع وثمانون من ضربة وطعنة ورمية، فقالت أخته ـ عمتي الرُّبَيّع ابنة النضر ـ: فما عرفتُ أخي إلا ببنانه، قال: فنزلت هذه الآية:{ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً} (الأحزاب:23)، قال: فكانوا يُرَون أنها نزلت فيه، وفي أصحابه([68]).
قلت: وعيت هذا.. فحدثني عن صدق الأعمال.
قال: هو أن يجتهد حتى لا تدل أعماله الظاهرة على أمر في باطنه لا يتصف هو به..
قلت: أتقصد أن لا يعمل حتى يأنس من نفسه الصدق في عمله؟
قال: لا.. لا أقصد أن يترك الأعمال الظاهرة.. ولكن يستجر الباطن إلى تصديق الظاهر.
قلت: فاضرب لي مثالا على ذلك.
قال: من قام في الصلاة ـ مثلا ـ على هيئة الخشوع في صلاته، وهو ليس يقصد به مشاهدة غيره، ولكن قلبه غافل عن الصلاة، فمن ينظر إليه يراه قائماً بين يدي الله تعالى، وهو بالباطن قائم في السوق بين يدي شهوة من شهواته.. فهذه أعمال تعرب بلسان الحال عن الباطن إعراباً هو فيه كاذب.
قلت: إن ما ذكرته شديد.. فما المنجاة منه؟
قال: بتعلم علوم الصدق.. وهي العلوم التي تجعل سريرته تستوي مع علانيته، فيكون باطنه مثل ظاهره أو خيراً من ظاهره.
قلت: لقد ذكرتني بقول الشاعر:
إذا السر
والإعلان في المؤمن استوى |
فقد عز في الدارين واستوجب الثنا | |
فإن خالف
الإعلان سراً فما له |
على سعيه
فضل سوى الكد والعنا | |
فما خالص
الدينار في السوق نافق |
ومغشوشه
المردود لا يتقضى المنا |
قال: لقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في دعائه يشير إلى هذا:(اللهم اجعل سريرتي خيراً من علانيتي واجعل علانيتي صالحة)([69])
قلت: وعيت هذا.. فحدثني عن الصدق في مقامات الدين.
قال: ذاك أعلى أنواع الصدق وأعزها.. فلجميع مقامات الدين من الخوف والرجاء والتعظيم والزهد والرضا والتوكل والحب وغيرها.. مباد ينطلق الاسم بظهورها، ثم لها غايات وحقائق، والصادق المحقق من نال حقيقتها.
ولهذا قال تعالى في وصفه لأعمال:{ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} (الحجرات:15)
قلت: فاضرب لي مثلا يقرب لي ذلك.
قال: سأضرب لك مثلا بالخوف من الله أو الخشية منه.. لا شك أنك تعرف أنه مقام من مقامات الدين؟
قلت: أجل.. وهو من مقامات التطهير.. وقد مررت على منزله.
قال: ألا ترى أنه ما من عبد يؤمن بالله واليوم الآخر إلا وهو خائف من الله خوفاً ينطلق عليه الاسم، ولكن الحقيقة تجعل الخائفين الصادقين قلة قليلة جدا؟
قلت: كيف ذلك؟
قال: أما ترى حال أكثر هؤلاء إذا خافوا سلطاناً أو قاطع طريق، كيف تصفر ألوانهم، وترتعد فرائصهم، وتتنغص معيشتهم، ويتعذر عليهم الأكل والنوم.. وقد ينزعجون عن الوطن فيستبدلون بالأنس وحشة، وبالراحة تعبا وبالمشقة تعرضا للأخطار؟
قلت: أجل.. وحق لهم ذلك.. فمثل هذا الخوف طبيعة لا يمكن الانفكاك عنها.
قال: ولكنهم مع لا يظهر عليهم عند ذكر النار وشدة عذابها ما يظهر عليهم عند ذكر اللصوص.. مع أن النار أخطر وأعظم جلبا للخوف.
قلت: ذلك صحيح.. وقد ورد في الحديث قوله صلى الله عليه وآله وسلم:(ما رأيت مثل النار نام هاربها، ولا مثل الجنة نام طالبها)([70])
قال: ولهذا، فإن الصادق هو الذي لا يثق في نفسه.. بل يسلمها لمن يثق فيه من أهل الله ليربيها ويهذبها ويجعلها صالحة لربها.
قلت: فهل أجد في هذا المنزل من أهل الله من يدلني على هذا حتى أصحح من نفسي ما تدعيه؟
قال: هذا المنزل هو منزل التصحيح.. وهو المنزل الذي تكشف فيه الروح عن حقيقتها لتهذب وتصفى وتصبح صالحة لربها.
قلت: فهلم بي إليه..
دخلت منزل الصدق.. وقد كان منزلا في منتهى الجمال والقوة واللذة.. ولولا ما جاءني من أمر شيخي أبي مدين لما خرجت منه.
بعد مكوثي مدة طويلة في منزل الصدق أتعلم علومه، وأتأدب بآدابه، جاءني أمر من شيخي أبي مدين لأرحل معه إلى منزل المحبة.. ذلك المنزل الذي يتربع على أعلى قمة من قمم الجبال المحيطة بتلمسان.
ما إن دخلت على شيخي أبي مدين حتى أشار إلى قمة الجبل الذي بني فيه منزل المحبة، وقال: هلم بنا إلى ذلك المنزل..
قلت: لا طاقة لي بتسلق الجبال..
قال: من لم يطق صعود الجبال لن ينال من هذا الطريق إلا الفتات.. فإن رضيت بالفتات، فاذهب إلى شأنك.. وإن أردت الكمال.. فهيا معي إليه.
قلت: لم لم يبن ذلك المنزل في هذه السفوح.. أو ـ على الأقل ـ في تلك التلال؟
قال: حتى لا يدعي المحبة إلا من هو أهل لها.. فالمحبة هي غاية الغايات، ومقصد المقاصد..
قلت: أعلم أن المحبة هي غاية الغايات ومقصد المقاصد.. ولكن لم لم يسهل لها الطريق كما سهل للشكر طريقه؟
قال: المحبة في حقيقتها تعني المحو والفناء والذوبان.. فلذلك لا يحب إلا من استرخص روحه في سبيل محبوبه.. فأول خطوة في المحبة هي قتل النفس في ذات الله:
قلت: أليس هناك خلاف في هذا.. فإني أحب أن أفر من الشدة إلى اليسر.. وقد علمت أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما حتى يكون إثما، فإذا كان إثما كان أبعد الناس من الاثم)([71])؟
قال: ليس هناك خلاف في هذا.. ولهذا شرط الله تعالى لحقيقة الصدق في الحب القتال في سبـيل الله، فقال تعالى:{ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} (الصف:4)، وقد روي في سبب نزولها أن المؤمنين قالوا:(لو نعلم أحب الأعمال إلى اللّه لعملنا به، فدلهم اللّه على أحب الأعمال إليه)
ولهذا كان من علامة حب الله حب الموت في ذات الله، كما قال تعالى مخاطبا اليهود الذين زعموا أنهم أحباب الله وأولياءه:{ قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (الجمعة:6)
وقد قال البويطي لبعض الزهاد:(أتحب الموت؟) فكأنه توقف، فقال: لو كنت صادقاً لأحببته، وتلا قوله تعالى:{ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (الجمعة:6)، فقال الرجل: فقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم:(لا يَتَمَنَّيْنَّ أَحَدُكُمْ المَوْتَ)([72])، فقال: (إنما قاله لضر نزل به، لأنّ الرضا بقضاء الله تعالى أفضل من طلب الفرار منه)([73])
قلت: فإن هذا يجعل من أهل هذا المنزل أفرادا؟
قال: لقد قال الله تعالى يبين قلة هذا النوع من السالكين:{ وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (12) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآَخِرِينَ (14)}(الواقعة)
قلت: فصف لي أهل هذه المنزل.. لعل ما تصفه منهم يشوقني إليهم، وإلى المنزل الذي سكنوا فيه.
قال: لقد جاء في أثر إلهي أوحى الله به إلى بعض أهله في وصفهم:(إن لي عباداً أحبهم ويحبونني، ويشتاقون إليَّ وأشتاق إليهم ويذكرونني وأذكرهم، وينظرون إليَّ وأنظر إليهم، فإن حذوت طريقهم أحببتك وإن عدلت عنهم مقتك)، فقال: يا رب وما علامتهم؟ قال: (يراعون الظلال بالنهار كما يراعي الراعي غنمه، ويحنون إلى غروب الشمس كما تحن الطير إلى أوكارها، فإذا جنهم الليل، واختلط الظلام، وخلا كل حبـيب بحبـيبه نصبوا إلى أقدامهم وافترشوا إلى وجوههم وناجوني بكلامي وتملقوا إليَّ بإنعامي، فبـين صارخ وباكي وبـين متأوّه وشاكي بعيي ما يتحلمون من أجلي وبسمعي ما يشتكون من حبـي. أوّل ما أعطيهم أقذف من نوري في قلوبهم فيخبرون عني كما أخبر عنهم. والثانية: لو كانت السموات السبع والأرضون السبع وما فيهما في موازينهم لاستقللتها لهم. والثالثة: أقبل بوجهي عليهم أفترى من أقبلت بوجهي عليه أيعلم أحد ما أريد أن أعطيه؟)
ما قال ذلك حتى شعرت بروحي ترق، وبجسدي يشف معها، وما هي إلا لحظات قصار حتى وجدت نفسي بقرب ذلك المنزل الذي لم أجد في حياتي منزلا أجمل ولا أكمل ولا أقدس منه.
***
ما استتم صاحبي حديثه هذا حتى وجدنا أنفسنا قد قطعنا المرحلة السادسة من الطريق من غير أن نشعر بأي عناء أو تعب.. ولم يخطر على بالي طيلة هذه المرحلة ما كنا نقطعه من غابات موحشة، ومن سباع عادية تتربص بنا من كل اتجاه.
لقد تنزلت علي بمجرد قطعي لتلك المرحلة أشعة جديدة اهتديت بها بعد ذلك إلى شمس محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
سألت صاحبي عن أبي مدين وكيف تركه، فقال: لقد تركته يمد يديه إلى الناس يبايعهم على السير في طريق الله، وقد كثر أتباعه كثرة لم أكن أتصور أن تبلغ ما بلغت.
قلت: فما رأيت من سر ذلك؟
قال: لقد وضع الله تعالى في الإنسان ما يملؤه بالأشواق إليه.. ولذلك قد يشرق الإنسان أو يغرب، وقد يتيه ما يتيه، ولكنه لا يجد في الأخير ملجأ إلا عند الله.
قلت: عند الله.. لا عند أبي مدين.
قال: ألا تعلم أن الله إذا أراد أن يهبك الشفاء دلك على الطبيب النطاسي الذي يخلصك من دائك؟
قلت: ذلك صحيح..
قال: فكذلك إذا أراد الله لقلبك الشفاء دلك على أهله العارفين به الذين إذا رؤوا ذكر الله..
قلت: ففي الإسلام رجال دين إذن هم واسطة بين العباد وربهم؟
قال: هم
وسائط هداية ودلالة، لا وسائط وزارة وتدبير.. وهم لا يختلفون عن الفقهاء، بل
يكملونهم.. فالفقيه يعتني بإصلاح الظواهر ليجعلها موافقة للشريعة، وهؤلاء يعتنون
بإصلاح البواطن ليجعلوها محلات صالحة لتنزل المواهب الإلهية.
([1]) أشير به إلى الولي الكبير أبي مدين شعيب بن حسين الأنصاري، أصله من (حصن قطنيانة) قرية تابعة لِإشبيلية في الأندلس، هاجر إلى بجاية صغيراً، وعاش فيها، وتوفي في (العباد) في ضواحي تلمسان عام: (594هـ) وقيل قبل ذلك.
([2]) رواه مسلم.
([3]) رواه البخاري ومسلم وغيرهما بألفاظ مختلفة.
([4]) هذه التعريفات التي نوردها في بداية ذكر أسماء هؤلاء الأولياء مقتبسة من كلام أبي نعيم في حلية الأولياء.
([5]) رواه البخاري.
([6]) رواه مسلم.
([7]) رواه الترمذي وقال: حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
([8]) رواه البخاري ومسلم.
([9]) رواه الترمذي، وقال: حديثٌ حسنٌ.
([10]) رواه البخاري ومسلم.
([11]) رواه ابن أبي الدنيا وهو مرسل وخرج الطبراني نحوه من حديث بريدة موصولا وفي اسناده من لا يعرف حاله.
([12]) قواعد التصوف، ص74.
([13]) رواه الترمذي وقال: حديثٌ حسنٌ.
([14]) رواه مسلم.
([15]) رواه مسلم.
([16]) رواه مسلم.
([17]) رواه مسلم.
([18]) رواه مسلم.
([19]) المفردات ص76.
([20]) رددنا على الشبهات المرتبطة بهذه النصوص في رسالة (النبي المعصوم) من هذه السلسلة.
([21]) رواه البخاري والترمذي.
([22]) رواه مسلم.
([23]) رواه الترمذي وقال: حديثٌ حسنٌ.
([24]) رواه أحمد والترمذي وحسّنه ابن ماجه والحاكم.
([25]) رواه الحاكم والبيهقي والطبراني وأبو نعيم.
([26]) رواه البخاري ومسلم.
([27]) رواه ابن ماجه بإسناد صحيح، والبيهقي.
([28]) رواه الحاكم والبيهقي وابن مردويه.
([29]) رواه البزَّار وأبو داود في كتاب الأدب.
([30]) نرى من خلال دراسة طبقات الأولياء تخصص الكثير منهم في الحديث عن بعض مقامات السلوك دون بعضها، وقد اشتهر الخواص من بينهم خصوصا بالتخصص في التوكل، ولذلك رمزنا به إليه في هذا المحل.
([31]) رواه الترمذي، وقال: حديثٌ حسنٌ.
([32]) الرهيط: تصغير رهطٍ، وهم دون عشرة أنفسٍ.
([33]) رواه البخاري ومسلم.
([34]) رواه البخاري ومسلم.
([35]) رواه أبو داود، والترمذي وغيرهما.
([36]) رواه البخاري ومسلم.
([37]) الإحياء: 4/265.
([38]) آداب المريدين وبيان الكسب، للحكيم الترمذى، ص168.
([39]) طبقات الصوفية، ص465.
([40]) رواه أبو داود والحاكم، وليس في رواية الحاكم (وما تأخر)
([41]) رواه أبو داود وغيره.
([42]) رواه الترمذي وقال: حديثٌ حسنٌ.
([43]) رواه مسلم.
([44]) رواه الترمذي.
([45]) رواه أحمد والترمذي وأبو داود والحاكم.
([46]) رواه الطبراني في الأوسط.
([47]) رواه الحكيم عن الحسن مرسلا.
([48]) رواه البهقي.
([49]) رواه ابن عساكر عن المنذر بن محمد ابن المنذر بلاغا.
([50]) رواه الترمذي.
([51]) رواه ابن ماجة.
([52]) رواه ابن أبي الدنيا بإسناد لا بأس به.
([53]) رواه الترمذي وحسنه والنسائي في اليوم والليلة وابن ماجه وابن حبان.
([54]) رواه مسلم.
([55]) رواه مسلم.
([56]) رواه البخاري ومسلم.
([57]) رواه البخاري ومسلم.
([58]) رواه مسلم.
([59]) رواه الطبراني.
([60]) رواه البخاري ومسلم.
([61]) رواه الترمذي وقال: حديثٌ صحيحٌ.
([62]) رواه مسلم.
([63]) رواه البخاري ومسلم.
([64]) رواه أحمد من رواية ابن لهيعة.
([65]) رواه البخاري ومسلم.
([66]) رواه البخاري.
([67]) رواه مسلم.
([68]) رواه مسلم وغيره.
([69]) رواه الترمذي.
([70]) رواه الترمذي.
([71]) رواه أحمد وعبد الرزاق.
([72]) رواه مسلم وغيره.
([73]) ومع ذلك، فهناك أسباب يمكن كراهية الموت بسببها مع تحقق المحبة، وقد أشار إلى مجامع ذلك الغزالي في قوله:( فإن قلت: من لا يحب الموت فهل يتصوّر أن يكون محباً لله؟ فأقول: كراهة الموت قد تكون لحب الدنيا والتأسف على فراق الأهل والمال والولد، وهذا ينافي كمال حب الله تعالى لأنّ الحب الكامل هو الذي يستغرق كل القلب، ولكن لا يبعد أن يكون له مع حب الأهل والولد شائبة من حب الله تعالى ضعيفة، فإنّ الناس متفاوتون في الحب) انظر: الإحياء: 4/331)