سادسا ـ المجتمع

سادسا ـ المجتمع
في اليوم السادس، قام رجل منا، وقال: سأحدثكم اليوم أنا عن حديثي.. اعذروني، لقد كنت مثل من سبقني أحمل اسما مستعارا، لأني منذ ذلك اليوم الذي التقيت فيه بالنور والسلام والصفاء، صرت أستحيي من الاسم الذي سماني به أهلي رغم أنفي..
لقد كان اسمي في تلك الأيام (هابر) لا شك أنكم تعرفونه.. إنه ذلك الرجل الذي كان يصيح بملء فيه في الأسواق والمجامع قائلا: إن ما ذكره لكم كل الحكماء من أن الإنسان مدني بالطبع خطأ فاضح، لأن الإنسان بطبعه عدو الإنسان!.. ولذلك، فإن الحكمة البديلة التي وضعتها هي (الإنسان للإنسان ذئب).. فالإنسان لا يريد شيئا الا لنفسه، وهو لذلك يحارب الآخرين أبدا.
وعلى هذا الأساس، فقد كنت أرى أنه لا محل للأخلاق في قلب الإنسان.. بل الأخلاق تابعة للمنافع فقط.
وكنت أرى أن أساس الحكم هو الاستبداد، والحكم عن طريق القوة، وذلك لأن الناس حيث يحارب بعضهم بعضا، لا يستطيعون العيش بسعادة فلابد من تقرير الأمن الذي يعتبر من أهم الضرورات له.
وتقرير الأمن إنما يمكن بأن يتنازل الكل عن حرياتهم ويسلموها بيد رجل واحد يحكمهم بالقوة.. ولا يجوز أن يوضع لهذا الواحد أي قانون ولا يحدد بأي قيد.
وكان اسمي في تلك الأيام (نيتشة).. وقد كنت لأجل ذلك أرى بأن الإنسان إنما جاء إلى الحياة ليتمتع بما فيها، وكل ما يهيء له طريق التمتع فهو خير (وافق الحق أو خالفه)، وما يقال عن تساوي الخلق بعضهم مع بعض خطأ، بل الحق ان في الناس سادة وعبيدا، وعلى العبيد أن يهيئوا وسائل الراحة للسادة.
وفوق ذلك كله تتلمذت على أساتذة كثيرين كلهم ملأوني بالصراع..
لن أحدثكم عنهم الآن.. وإنما سأحدثكم عن بعض ما عاينت من مظاهر الصراع الاجتماعي لتعرفوا قيمة السلام الذي جئت إلى هذه البلاد باحثا عنه.
بعد صمت عميق، تنفس صاحبنا الصعداء، ثم قال:
كان أول مظهر من مظاهر الصراع التي عاينتها وعانيت منها (العنصرية).. ذلك الداء الخبيث الذي يجعل من الإنسان وحشا كاسرا لا يبصر إلا نفسه، ولا يعظم إلا نفسه، ولا يترفع إلا بنفسه.
وللأسف.. فقد تتملذت على هذا الداء في جميع المدارس.. كلها لقنتني أصوله ومبادئه والسلوكات الأخلاقية التي تخرجه من القوة إلى الفعل.. ومن الإيمان إلى العمل..
لن أحدثكم على ما لقنتنا تلك المدارس([1]) فإن الكلام في ذلك طويل ممل، وربما تعرفونه، وربما تسمعون من بعض رفاقي من يحدثكم عنه.. ولذلك سأكتفي بذكر بعض ما رأيت في بلدي الأول.. أمريكا..
في تلك الأيام كنت في أمريكا تلك التي تعتبر نفسها أما لحقوق الإنسان.. بينما هي في الحقيقة ليست سوى أم لانتهاك حقوق الإنسان.
لقد كان التمييز العنصري جزءا من الحياة اليومية التي يعيشها المواطن الأمريكي في مختلف قطاعات الحياة الإنتاجية، الاقتصادية والسياسية حتى أصبح السمة الرئيسة التي يتميز بها الشارع الأمريكي.
وحتى منتصف القرن الماضي، كان الكثير من المؤسسات والنوادي والمقاهي تضع يافطات كُتِبَ عليها بالخط العريض (يمنع دخول الزنوج والكلاب).. وكان على الزنجي الأمريكي الوقوف من مقعده في الحافلة إذا لم يكن من مقعد فارغ ليفسح المجال أمام جلوس نظيره (الأمريكي الأبيض)
وكثير من مؤسسات الخدمات العامة في المقاطعات الجنوبية في الولايات المتحدة ومنها المطاعم كانت لا تقدّم الوجبات إلى الزنوج إلا وهم واقفون، وجرت أول عملية جلوس قسري في عام 1960، وكانت حصيلة ذلك الجلوس القسري إلقاء القبض على 53 زنجياً والحكم عليهم بالسجن مدة أربعة أشهر في ولاية (نورث كارولينا)
وإلى جانب الاضطهاد العنصري الذي كان يعيشه السكان السود في الولايات المتحدة، كان الظلم الاقتصادي الأكثر بشاعة، ففي الستينات كان يعيش أكثر من عشرين مليون زنجي في بيوت سكنية فقيرة قذرة مبينة من الصفيح والأخشاب في مدن الولايات المتحدة الشمالية هرباً من ظلم التفرقة العنصرية في الجنوب، ففي هذه الأماكن كان الظلم الاقتصادي يترجم إلى بطالة وفقر، كما كان يترجم إلى بحث مضن عن العمل، وعن أماكن صالحة للسكن، وجعلت هذه الأسباب من الزنجي الأمريكي نوعاً من الطاعون المقيم في وسط المدن الكبرى لا يستطيع الخروج منها والانتقال إلى مكان أكثر صحة وعافية.
وفي الوقت الذي كانت الأمم المتحدة تصدر مواثيق حقوق الإنسان مركزة على مفاهيم أكثر رقيا للحرية الفردية من مجرد حق العمل والمساواة والمعتقد، كان أصحاب البشرة السمراء في الولايات المتحدة حتى عام 1955 لا يستطيعون الجلوس في الباصات العامة، وكانت القوانين تقضي بعدم جلوس الزنوج في الباصات التي تقّل البيض.
وكانت قائمة المطالب التي رفعها السود في عام 1955 في مدينة مونتغمري الجنوبية مجرد السماح لهم بالجلوس في الباصات العامة ولو بالجلوس في المؤخرة، وأن يعاملوا بتهذيب ولياقة كمعاملة البيض، واضطر السود إلى طلب مساعدات إنسانية من اليابان لشراء باصات خاصة بعد مقاطعتهم للأخرى المملوكة للدولة.
وما تشهده المدن الأمريكية من فترة لأخرى هو بمثابة نسخة طبق الأصل عن جولة حدثت في أواخر الستينات في عهد الرئيس ليندون جونسون حيث انفجر الغضب الأسود بعد أن قامت السلات المحلية بتحقيرهم وإذلالهم، مما اضطر الرئيس الأمريكي لأن يدفع بالجيش الفيدرالي إلى الشوارع لضبط الأوضاع في ديترويت وشيكاغو ونيويورك ومدن متعددة أخرى، حيث كانت الخسائر المادية بمليارات الدولارات إلى جانب عشرات القتلى والجرحى والمفقودين.
وعلى مدى السنوات التي تلت، لم تنطفىء نار العنصرية وظلت تتحرك تحت الرمال، والدلالة على ذلك تكرار حوادث العنف العنصري خلال السنوات العشرين الماضية بين البيض والسود في أكثر من مدينة أمريكية، وأبرز هذه الحوادث حادثة مقتل (يوسف هادكنز) الفتى الأسود الذي لم يبغ السادسة عشرة في حي (بروكلين) في نيويورك (1990) والتي وقعت في وضح النهار، عندما أطلق جماعة من البيض النار على يوسف وبعض أصدقائه الذين اختلفوا معهم على شراء سيارة مستعملة.
واعترف تقرير صادر عن مكتب التحقيقات الفدرالية (إف. بي.آي) عام 1999 بارتفاع جرائم الكراهية والجرائم القائمة على أساس عنصري داخل الولايات المتحدة، مشيرا إلى أنه ترتكب حوالي 8000 جريمة سنويًا من تلك الجرائم. وأشار التقرير الى أن 4292 جريمة ارتُكبت في 1999 بدوافع تتعلق بلون البشرة، كما تم ارتكاب نحو 1411 جريمة بدافع ديني، بينما تم تقدير الجرائم الجنسية بنحو 1317 جريمة، فضلا عن الجرائم ذات الطابع الإثنية التي بلغت نحو 829 جريمة، مشيرًا إلى أن 19 معاقا تعرضوا لاعتداءات عام 1999 لتلك لأسباب.
سكت قليلا، ثم قال: لقد قال (أندرو شايير) مؤلف كتاب (نحن القوة الأولى) عن السود: (إنهم هنا في أمريكا يعيشون كأفراد غرباء وأجانب على أرض ولدوا وترعرعوا فيها، ولا يعرفون سواها.. يمكننا النظر إلى أمريكا على أنها دولة تتكون من شعبين: البيض وهم الأغلبية المسيطرة، والسود وهم الأقلية المضطهدة)
ونشرت صحيفة (وول ستريت جورنال تقريراً عن وضع السود في مجال الشرطة ذكرت فيه أن شرطيا من أصل أفريقي وصل إلى رتبة كابتن في مدينة سنسناتي – وهذه هي المرة الرابعة التي يصل فيها أسود لهذه الرتبة- ولكن بعض البيض اعترض على هذه الترقية، مما جعل السلطات القضائية تتدخل للنظر في القضية.
أما في المدن الأخرى فالحال ليست أفضل، ففي ولاية نيويورك حيث يبلغ الأمريكيين الأفارقة 28.7 بالمائة من عدد سكان الولاية، ولكنهم لا يؤلفون أكثر من 11.4بالمائة من قوة الشرطة، أما الذين وصلوا إلى رتبة قيادية فلم يتجاوز 6.6بالمائة.
ويقول التقرير إن السود بالرغم مما بلغوه في العصر الحاضر فإنهم لا يزالون يعانون من العقبات في التوظيف والترقيات والمضايقات من زملائهم البيض الذين يعترضون على ترقية زملائهم السود، حتى إن بعضهم يرفض إطاعة أوامر رئيس أسود.
وقد انفجرت الأوضاع الأمنية في مدينة لوس أنجلوس حيث اندلعت أعمال عنف وشغب إثر قيام محطات التلفاز بعرض شريط لبعض رجال الشرطة من البيض وهم يضربون أحد السود وهو رودني كينج بعنف ووحشية.. وكانت نتائج هذه الاضطرابات أن قتل ثمانية وخمسون منهم عشرون شرطياً، وبلغ عدد الجرحى 2382، منهم 220 جريحاً في حالة خطرة، واعتقل 13505شخصاً، ودمرت الحرائق 5537 محلاً تجارياً، وقدرت الخسائر المالية ب785 مليونا، وساهم من رجال الشرطة والحرس القومي وجنود البحرية واحد وعشرون ألفاً.
وذكر كارل بيل – مدير مجلس الصحة العقلية بشيكاغو – إن المواطنين السود لا يزالون يتعرضون يومياً للإهانة والعنف بحيث أصبح ذلك جزءاً من لا شعورهم المحبط.
ويعترف نيكسون بأن المحاكم الأمريكية حاولت فرض حصص تميزية على أساس العرق في القَبول في الجامعات والتوظيف والترقية، وتغاضت عن التمييز في إشغال الوظائف العامة والقطاع الخاص وإبرام العقود مع الحكومة مما جعل الجامعات وبعض الوظائف تقبل بالأقل كفاءة لتغطية الحصص الخاصة بالأعراق.
وقد ظهرت في السنوات الأخيرة جماعات متطرفة في المجتمعات الغربية.. ومن هذه الجماعات جماعة تطلق على نفسها (الأحرار)، والتي تتزعم حرباً عرقية ودينية ضد السود وبقية الملونين الذين لا ينحدرون من أصول شمال أوروبية، ويزعم هؤلاء أنهم – البيض- شعب الله المختار، وأن الولايات المتحدة الأمريكية هي أرض الميعاد وليست أرض فلسطين (إسرائيل).ويبلغ تعداد هذه الجماعة من عشرة آلاف إلى أربعين ألفاً.
ويشبه هذه الجماعة أيضاً حركة أخرى تطلق على نفسها (حليقي الروس) وهي جماعة مسلحة متطرفة تنطلق من منطلقات عنصرية حاقدة على كل الأجناس غير البيض، وقد قدمت محطة التلفزيون H.B.O. برنامجاً خاصاً عن هؤلاء في صيف عام 1995.
وقد أوردت وكالة الأنباء الفرنسية تقريراً من لوس أنجلوس مفاده أن جرائم الكراهية ضد الآسيويين قد ارتفعت بنسبة ثمانين بالمئة في العام الماضي في ولاية كاليفورنيا عن العام الذي سبقه.
وقد نقلت الوكالة عن التقرير السنوي الثاني للتجمع القانوني لأسيويي المحيط الهادى الأمريكيين بأن هناك أربعمئة وثمان وخمسين حالة اتهام مثبتة لحوادث ضد الأسيويين مع وجود حالات كثيرة لا تصل إلى الشرطة بسبب اللغة والحاجز الثقافي وعدم وجود سجلات كاملة لدى الشرطة.
ومن الطريف أن التجمع يوجه اللوم للخطاب السياسي المعادي للمهاجرين الذي يتسبب في إثارة العواطف وأعمال العنف ضد الآسيويين.. ومن الأمثلة على ذلك أن حاكم ولاية أريزونا استخدم حق النقض ضد قانون يحارب الكراهية بسبب العرق بالرغم من ارتفاع هذه الجرائم في ولايته بأكثر من خمسمئة في المئة في الخمس سنين الماضية.
وتشهد فرنسا تطرفاً عرقيا حيث ارتفعت الطوائف المتطرفة بنسبة خمسين في المئة في الفترة من 1983 حتى 1995، فهناك مئة واثنتين وسبعين مجموعة ترتبط بها ثمانمئة فرقه تابعة لها بينها خمس عشرة طائفة تتميز بخطورتها الشديدة على الأوضاع العامة.
سكت قليلا، ثم قال: لا تشكو مجتمعاتنا من العنصرية فقط.. هناك ما لا يقل خطرا.. إنه الجريمة.. الجريمة بكل أنواعها..
لقد تحدث الباحث الإجتماعي الأمريكي (لويل فاكنت) في دراسة له عن ذلك، فقال: ( وواقع الأمر أن الولايات المتحدة قد اختارت أن تبني لفقرائها بيوت اعتقال وعقاب بدل المستوصفات ودور الحضانة والمدارس.. هكذا ومنذ عام 1994 تخطت الموازنة السنوية لدائرة السجون في كاليفورنيا (المسؤولة عن مراكز الإعتقال للمحكومين الذين تتجاوز عقوبتهم السنة الواحدة) الموازنة المخصصة لمختلف فروع جامعة الولاية فقد تقدم الحاكم (بيت ويلسون) عام 1995 بمشروع موازنة يلحظ فيه إلغاء ألف وظيفة في التعليم العالي من أجل تحويلها الى ثلاثة آلاف وظيفة حارس سجن جديدة، والسبب واضح فمثلا في 22/8/1999 أعلنت وزارة العدل الأمريكية (أن عدد البالغين المسجونين أو الذين خارج القضبان بكفالة بلغ عام 1998 خمسة ملايين و900 ألف شخص، وتعني هذه الأرقام أن 3 في المائة من الأمريكيين مع نهاية عام 1998 إما يكونوا داخل السجن وإما خارج القضبان بكفالة)
لم تكتف الجريمة بالشوارع.. بل انتقلت عدواها المريعة إلى المدارس، حيث شاعت ظاهرة إطلاق النار على المدرسين والمدرسات وعلى التلامذة بشكل لافت لم يشهد له العالم مثيلا.
لقد تناقلت وسائل الإعلام في مارس 1998 المعلومات التالية: (لاحظ الخبير في علم دراسة الجرائم (رونالد واينر)من الجامعة الأمريكية أن وتيرة العنف لدى الشباب زادت إلى درجة كبيرة بسبب ثقافة الأسلحة النارية، وغلبة العقلية المستوحاة من قانون الشارع أو (التعاليم التوراتية) على الأخلاق والمبادئ الإنسانية.. وأظهرت دراسة كشف عنها البيت الأبيض، أن واحدة من كل عشر مدارس رسمية أمريكية شهدت أعمال عنف خطرة عام 1997.
وكتب أحد كبار صحافيي نيويورك متعجبا: (هناك حرب حقيقية في شوارع الولايات المتحدة. ويسقط قتلى بالرصاص ما يقارب 45 ألف شخص كل تسعة عشر شهرا، وهو العدد نفسه الذي سقط خلال تسعة أعوام من حرب فيتنام، هذا يكشف أمراض المجتمع الأمريكي المستعصية، والعنصرية المتفشية في داخله، والتباينات الإجتماعية الواضحة، إن دل هذا على شيء فيدل على تفجر اللحمة الأسرية، وإفلاس النظام التربوي، واستشراء المخدرات، وعن عدم فاعلية النظام القضائي، وعن قوة اللوبيات المدمرة داخل المجتمعات الامريكيه، وخصوصا اللوبي الصهيوني.
وهذا يدل ايضاعلى الإرهاب الدموي الذي يطال مختلف الشرائح والطبقات. فمثلا في سنة 1991 قتل الإرهاب الداخلي الأمريكي 38317 شخص وجرح 175 ألف شخص، هذا يعني حصول 105 قتيلا في اليوم الواحد.
ولترجمة هذه الأرقام على الواقع لنفهم نتائج هذا الإرهاب، يكفي أن نقارن طبيعة القتلى بالسلاح بين أمريكا وبعض الدول الأوروبية، ففي سنة 1990 بلغ عدد حالات القتل بأسلحة اليد في الولايات المتحدة فقط الى 10567 حالة بينما بلغ في بريطانيا 22 حالة وفي السويد 13حالة، وفي استراليا10 حالات وفي كندا 68 حالة وفي اليابان 87 حالة.. وهذا ما دفع الكثير من المحللين الأمريكيين من إطلاق وصفا لهذه الحالة الإرهابية بأنها (حرب حقيقية في كل بيت) أو (الإرهاب على الذات).. لذلك صرح بصوت عال (كولمان يونغ) عمده مدينة شيكاغو الأسود البشرة، الذي رفض بإصرار تجريد مواطنيه من أسلحتهم حيث قال: (قد أكون مجنونا إذا صادرت الأسلحة، في الحين الذي نحن فيه محاصرون بأناس عدوانيين) مما جعل لجنة أمن منتجات الاستهلاك، التي باشرت عملية إحصاء لحوادث إطلاق النار الى التوصل إلى نتيجة مفادها أن في الولايات المتحدة وفق التقديرات المختلفة حوالي 200 ألف شخص يصابون بالرصاص سنويا.
بالطبع لا يتضمن هذا الإحصاء عدد الضحايا المجهولة الذين يعالجون بعد إصابتهم بعيدا عن أعين الحكومة الفيدرالية، كما ينتشر في الولايات المتحدة 211 مليون قطعة من الأسلحة النارية، بينها 67 مليون مسدس مختلف الأنواع.
يقول الكاتب (جيل ديلافون) الذي أصدر كتاب (violente Ameique) العنف في أمريكا: (ففي نهاية 1994حطم النظام القضائي الأمريكي المتعثر رقما قياسيا مرعبا بوجود أكثر من مليون شخص من الأمريكيين يتعفنون وراء قضبان السجون، وهو أعلى معدل اعتقالات على سطح هذا الكوكب. مع الإشارة إلى أن ثلاث أرباع المتهمين لا يعتقلون ولا يضعون داخل السجون لأسباب قانونية معينة. والاسوأ من النظام القضائي هو نظام السجون الذي يصنع (مجرمين محترفين) حقيقيين محكومين نهائيا بالعودة إلى الأجرام. فأكثر من 60بالمائة من المعتقلين نفذوا بالسابق حكما بالسجن، وبناء على دراسة أجريت على مستوى الولايات كلها هناك 108 ألف مجرم تم إيقافهم حوالي 109 مليون مرة. هذا يعني أن أمريكا تقبع تحت مسلسل الإرهاب والجريمة الداخلية والمسؤول عنها الشعب الأمريكي بامتياز. وأمريكا متخلفة أكثر من أية دولة عربية أو أية دولة من دول العالم الثالث المتهم بالتخلف. ويكفينا تحاليل وتنظيرات من المتأمركين المتصهينين الذين يستهزئون بشعوبهم ويريدون إقناعها بالتجربة الأمريكية الرائعة، وهذه الأرقام لأكبر دليل على روعة التجربة الأمريكية.
إذن الإرهاب الداخلي مستفحل في جذور المجتمع الأمريكي وفي كل آليات حركته، بل كان ركيزة نشأة هذا البلد، سواء من خلال الصراعات بين الغزاة البيض فيما بينهم أو صراعهم مع أصحاب الأرض الحقيقيون من الهنود الحمر.. إن الغازي الأمريكي أصبح مواطنا أمريكيا بمقدار ما وسع أرضه وقتل أصحابها الحقيقيين، أو من خلال الإضطهاد الشرس ضد الأفارقة والتي ما زالت تغذيه المعتقدات التوراتية والقوانين الأمريكية التي تعتمد على العهد القديم في تشريعاتها.
وحسب تقرير رسمي صدر عام 1989 بعنوان (ضحايا العنف في القوانين الأمريكية) تحدث أحد كاتبي التقرير (ليونارد جيفري) عن أن في أمريكا 5500 عصابة مسلحة معروفة تنتشر اليوم،وبعضها منظم وله أفرع في كل الولايات المتحدة. وتقوم هذه العصابات أو الميليشيات بـ 25 ألف عملية قتل في السنة، والقتلى معظمهم من السود، وأخذت هذه الميليشيات تبني دولها و قوانينها الخاصة بها داخل الولايات المتحدة.وهي محمية بكميات كبيرة من الأسلحة المتطورة،و أكد كثير من المطلعين أنهم يملكون كميات وافرة من أسلحة الدمار الشامل تفوق الخيال.. ولعل استخدام الجمرة الخبيثة بعد أحداث 11 سبتمبر داخل الولايات المتحدة الأمريكية والإرباك الذي أصاب المؤسسات الحكومية والاجتماعية من جرائه لدليل ساطع على ذلك. وتم إثبات أن هذه الجمرة الخبيثة المستخدمة هي أمريكية داخلية بحتة صنعت على يد الإرهابيون الأمريكيون.. كما لهذه الميليشيات نفوذها الانتخابي والاجتماعي، وهي تمارس العنف الهستيري، وتطمع إلى تجهيز جيشا من الإرهابيين للزحف على البيت الأبيض وتدمير الحكومة الفيدرالية فيه واحتلال البلاد.
سكت قليلا، ثم قال: بالإضافة إلى هذا هناك ما لا يقل خطرا.. بل لعله أخطر الجميع.. إنه الانحلال والتفسخ الذي أنهك مجتمعنا، وحوله إلى ماخور كبير للرذيلة.. لن أطيل عليكم الحديث في هذا، فلاشك أنكم جميعا تعرفونه، وعانيتم منه.
لقد أصبحتم المرأة المحترمة بسببه إلى كائن لا هدف له في الحياة إلا إرضاء النزوات الشاذة للمنحرفين..
لقد كتب بعضهم يقول في هذا تحت عنوان ( امرأة بلادي والعشق والجنس ): (لنتحدث عن حرية المرأة.. دعوني أعترف لكم فوراً إن حرية المرأة ليس لها غير معنى واحد إنه المعنى الجنسي.. المرأة في نظري هي مصعب الأشواق والشهوات.. هي مخلوقة غرامية لا معنى لها خارج الوجد والعشق والجنس..)
وكتب يقول:( ما هي حرية المرأة ؟ حريتها الحقيقية هي حرية العلاقة الجنسية مع الجنس الآخر، أو حتى مع بنات جنسها، أو مع الجنسين معاً.. والرجل ما هو دوره؟ عليه أن يحرض المرأة على الحرية. إنني أطلب لامرأة بلادي الحق بأن تصادق رجلاً فجأة فإذا اشتهته حققت شهوتها.. إنني أطلب لامرأة بلادي كسر طوق الاضطهاد العائلي والديني والأخلاقي وحريتها في أن تكون حرة بلا حدود.. حرة في اقامة علاقة جنسية قبل الزواج (ولماذا ليس بعده أيضاً).. حرة في تغيير حبيبها متى ضجرت منه.. حرة في التصرف بجسدها دون قيد ولا شرط)
أتدرون ما نتيجة هذا الانحلال الذي قامت كل مدارسنا وصحفنا ووسائل إعلامنا تحرض عليه بكل الوسائل؟
إن الإحصاءات في ذلك تكاد تصيبنا بالجنون..
تقول (الريدرز دايجست) في عدد أغسطس 1983 🙁 هناك مليون حالة اعتداء جنسي على الأطفال في كل عام في الولايات المتحدة الأمريكية.. وانتشرت الأمراض الجنسية.. في الولايات المتحدة عشرين مليون هربس (عام 1983) وفي كل عام تضاف إلى القائمة العتيدة أكثر من نصف مليون حالة هربس.. وأخيراً ظهر مرض الايدز الذي يصيب المخنثين أساساً. وقد بلغ عدد المصابين في الولايات المتحدة 2600 حالة (حتى نهاية أكتوبر 1983) والعدد يتضاعف كل ستة أشهر.. والايدز يقتل المصاب به في خلال عامين أو ثلاثة.. ولا علاج له بل ولا يعرف سببه حتى الآن.. )
بالإضافة إلى هذا، فإن هناك الآلاف من الفتيات الصغيرات اللائي يعانين من الحمل سنوياً نتيجة لعدم معرفتهن بوسائل منع الحمل معرفة جيدة.. ولذا قام كبار المربين والمسؤولين بوضع برامج منع الحمل في المدارس الثانوية، ثم قاموا بعد ذلك بتدريسها لطلبة الإعدادي.. وأخيراً توصلوا إلى قرار تدريسها في المدارس الابتدائية بعد أن وجدوا أن الطالبات الصغيرات جداً هن اللائي يقعن بالدرجة الأولى فريسة لهذا الحمل.. ولم يعد يهم المسؤولين أن يعم البغاء، ولكن همهم منصب فقط على نشر وسائل منع الحمل بين الأطفال.
واضطرت القوانين الغربية إلى إباحة الإجهاض ولو على مضض.. وانتشرت حالات الاجهاض حيث يتم في أمريكا إجهاض مليون امرأة سنوياً.. ويتم ما يقارب هذا العدد في أوروبا..
وتذكر الإحصائيات أن أغلب حالات الانتحار هي من الفتيات الصغيرات اللائي يعشن حياة قلقة ويائسة.
بالمناسبة.. هناك ظاهرة لا تقل خطرا.. إنها العنف الممارس ضد القصر.. لقد ظهرت في عصرنا للأسف، ولأول مرة في تاريخ الطب حالات جماعية لضرب الأطفال الصغار ضرباً وحشياً يؤدي في كثير من الأحيان إلى الوفاة أو إلى تشوهات جسدية وعقلية.
وقد تحدثت المجلات الطبية بإسهاب عن هذا المرض الجديد الذي لم يكن معهوداً من قبل وأسمته (مرض الطفل المضروب) الذي اكتشفه الدكتور كيمب منذ خمسة وعشرين عاماً فقط.
وتذكر مجلة هيكساجين الطبية أنه لا يكاد يوجد مستشفى للأطفال في أوروبا وأمريكا إلا وبه عدة حالات من هؤلاء الأطفال المضروبين ضرباً مبرحاً من أمهاتهم وأحياناً من آبائهم.
وفي عام 1967 دخل إلى المستشفيات البريطانية أكثر من 6500 طفل مضروب ضرباً مبرحاً أدى إلى وفاة ما يقرب من 20 بالمائة منهم، وأصيب الباقون بعاهات جسدية وعقلية مزمنة.. وقد أصيب المئات بالعمى كما أصيب مئات آخرون بالصمم.. وفي كل عام يصاب المئات من هؤلاء الأطفال بالعته والتخلف العقلي الشديد والشلل نتيجة الضرب المبرح.
ويتساءل الدكتور آبلي رئيس أقسام الأطفال في مستشفيات بريستول المتحدة في مدينة بريستول ببريطانيا: هل هؤلاء الآباء والأمهات وحوش؟ وينتهي في مقاله إلى أن هؤلاء الأمهات يواجهن أزمات نفسية خطيرة أدت بهن إلى ضرب أطفالهن ضرباً مميتاً.. أو مؤدياً إلى عاهات مستديمة.. ويقول أن أغلب هؤلاء الأمهات لسن مجرمات بطبيعتهن ولكن وجود الأم بدون زوج واضطرارها للعمل والخروج ثم عودتها مرهقة إلى المنزل لتواجه الطفل الذي لا يكف عن الصراخ يفقدها اتزانها وعواطفها.. وقد لوحظ أن كثيراً من هؤلاء الأمهات يكرهن أولادهن كرهاً شديداً حيث ينغص هؤلاء الأطفال على أمهاتهن حياتهن.
وقد نشرت الصحف قصة الشاب والشابة اللذين قاما ببيع طفلتهما البالغة من العمر ستة أشهر في أمريكا بثمانين دولاراً، وقد أجاب الأبوان عندما سئلا: لماذا يقومان ببيع طفلتهما؟ بأنهما لا يجدان من المال ما يكفي لإعاشتهما فكيف بهما مع الطفلة وأنه من الخير لطفلتهما أن تجد من يعولها بدلاً منهما رغم أنهما يحبان الطفلة ولكنهما مضطران لبيعها ([2]) !
ونشرت بعض الجرائد([3]) خبراً مفاده أن مطلقة بريطانية اسمها (مانيس جاكسون) عرضت ابنها الوحيد للبيع بمبلغ ألف جنيه والمبلغ يشمل ملابس الطفل وألعابه، وقد قالت بأنها ستبيع ابنها لأنها لا تستطيع الإنفاق عليه، وليس لديها دخل لإعاشته.
والأكثر فظاعة وبشاعة من كل هذا أن يرتكب الأب الفاحشة بطفلته وتقول مجلة هيكسا جون الطبية أن الاعتداءات الجنسية على الأطفال من آبائهم أكثر بكثير مما هو معروف ومدون.. كما أن كثيراً من الأمهات والآباء يقومون بتسميم أطفالهم بإعطائهم السموم والعقاقير الخطيرة.
سكت قليلا، ثم قال: بعد أن عاينت كل هذا وتألمت له، رحت أبحث عما بحثتم جميعا عنه.
قلنا: الموت!؟
قال: أجل.. ولم يصعب علي أن أجد جمعيات الموت..
قلنا: أي جماعة قصدت منها؟
قال: لقد قصدت جماعة (جيم جونز).. القس ( جيم جونز ).. لاشك أنكم تعرفونه.. إنه قس مهووس، ومدمن للمخدرات، أقام لأتباعه مزرعة ضخمة وجمعهم فيها، وأباح لهم الجنس، وأتاح لهم المخدرات، وظنوا أن الحياة داخل هذه المزرعة هي السعادة، وأن هذا هو النعيم المقيم.. ولكن بعد فترة خاب ظنهم، وأصابهم الإحباط، واستطاع هذا القس إقناعهم بالانتحار.. وبالفعل وفي عام 1978م أقدم 918 شخصاً على الانتحار، وكان بينهم كثير من الأطفال وكبار السن.
لقد كان مقر هؤلاء مدينة جويانا بولاية سان فرانسيكو بالولايات المتحدة، وكان أكثر أعضاء الطائفة من الزنوج الساخطين على النظام الاجتماعي، والذين كانوا يعانون من التفرقة العنصرية التي يعاملهم بها الأمريكان البيض.
انضممت إلى هذه الجمعية لا لشيء إلا لأتناول الموت على أيديهم..
لكن قدر الله أنقذني.. ولم ينقذني إلا ليريني من النور والسلام والصفاء ما لم أكن أدرك له أي وجود.
في ذلك المحل الذي كنت فيه في برزخ بين الموت والحياة رأيت السلام الذي جئت إلى هذه البلاد أبحث عنه.
قلنا: كيف كان ذلك؟
قال: لقد حملني وأنا في سكرات الموت رجل لا أعرف إلى الآن اسمه.. ولكنه كان رجلا عظيما ممتلئا بكل معاني الإنسانية والنبل..
لقد مكث معي فترة طويلة يداويني من جروحي، ويواسيني من آلامي.. وفوق ذلك كله يمدني من المعارف المرتبطة بجوهر اهتمامي في الحياة ما أحال المجتمع في عيني كخلايا النحل التي تتآلف وتتواصل وتتعاون لتؤدي الرسالة التي كلفت بها.
وفوق ذلك كله أراني عينات واقعية من هذا المجتمع.. جعلتني أمتلئ تفاؤلا وهمة..
قلنا: فحدثنا عن المجتمع البديل الذي عرضه عليك.
قال: لقد سألته عن ذلك، فقال: هو مجتمع يقوم على أربعة أصول كبرى تفتقر إليها جميع المجتمعات الإنسانية إلا المجتمعات المستظلة بظل الإسلام.
سألته عنها، فقال: هي: التآلف، والتكافل، والتناصر، والتناصح.
سألته عن وجه الحصر فيها، فقال: إن أفراد المجتمع لا يمكن أن يستقيم بغير توفر هذه الأربع:
أما أولها.. وهو الألفة.. فهو تلك الخصال الطيبة التي تملأ حياة أفراد المجتمع محبة ومودة واستقرارا.. فلا يسمعون إلا ما يرضيهم، ولا يرون إلا ما يطمئنهم.
وأما ثانيها، فلأنه لا يمكن لمجتمع أن يعيش السلام وفيه الجائع والعاري..
وأما ثالثها، فلأنه لا يمكن لمجتمع أن يعيش السلام وفيه المظلوم والمستضعف..
وأما رابعها، فلأنه لا يمكن لمجتمع أن يعيش السلام وفيه المجرم والمنحرف..
ثم ذكر لي أن القرآن الكتاب المقدس للمسلمين أشار إلى هذه الأربع.. ففيه عند ذكر الخصال الموجبة للنجاة من عذاب الله:{ فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ } (البلد:11 ـ 17)
فقوله :{ فَكُّ رَقَبَةٍ } إشارة إلى النصرة، لأن أعظم نصر للأخ لأخيه أن يفك رقبته من قيد من استعبده.
وقوله :{ أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ } إشارة إلى ركن التكافل الاجتماعي.
وقوله:{ ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ } إشارة إلى التناصح بين المؤمنين، والتآلف بينهم.. فالمرحمة هي أساس الألفة.
قلنا: فحدثنا عن التآلف.
قال: سألته عنه، فقال: تتأسس الألفة الاجتماعية في الإسلام على أساسين: الرحمة والمحبة..
أما أولهما، فأشار إليه قوله تعالى :{ مُحَمَّدٌ رَّسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ } (الفتح: 29)
وقد ربى الأمة عليه تلك التوجيهات القولية والعملية الكثيرة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم..
فقد كان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم يعامل الصبية معاملة كلها رحمة ورقة وتلطف.. وكان يلوم على القسوة والجمود، فكان يحمل الصبيان ويقبلهم ويتركهم يركبونه ويضعهم في حجره، ويحملهم على عاتقه حتى وهو بين يدي ربه في الصلاة.
وعندما قبل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الحسن أو الحسين بن على، وعنده الأقرع بن حابس التميمى، فقال الأقرع : إن لي عشرة من الولد ما قبلت منهم أحداً قط، فنظر إليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثم قال: (من لم يرحم لا يُرحم)([4])
وعن أبى قتادة قال: خرج علينا النبى صلى الله عليه وآله وسلم وأُمَامَةُ بنت العاص على عاتقه فصلى فإذا ركع وضعها وإذا رفع رفعها([5]).
وعن جابر قال: صليت مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صلاة الأولى، ثم خرج إلى أهله وخرجت معه فاستقبله ولدان، فجعل يمسح خدَّىْ أحدهم واحد واحد.. قال : وأما أنا فمسح خدي، فوجدت ليده برداً أو ريحاً كأنما أخرجها من جونة عطار([6]).
وكان صلى الله عليه وآله وسلم يولي كفالة اليتيم المنزلة العظيمة.. ويخبر عن الأجر العظيم الذي أعده الله لمن يكفل يتيما، فقال:( أنا وكافل اليتيم فى الجنة هكذا ـ وأشار بالسبابة والوسطى وفرج بينهما شيئا ـ )([7])
ومن عنايته صلى الله عليه وآله وسلم باليتامى ما حدث به ابن أبى ملكية أن ابن الزبير قال لابن جعفر: أتذكر إذا تلقينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنا وأنت وابن أبى عباس؟ قال : نعم، فحملنا وتركك([8]).
فالثلاثة صبية صغار كانوا خرجوا لتلقى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وهو عائد من إحدى سفراته، فحمل عبد الله بن جعفر على دابته ـ حيث أن جعفر كان قد استشهد فى مؤتة ـ هو وابن عمه وترك ابن الزبير لأبيه.
ويقول عمر بن أبى سلمة: كنت غلاماً ـ يتيماً ـ فى حجر النبي صلى الله عليه وآله وسلم فكانت يدي تطيش في الصفحة فقال لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :(يا غلام سم الله وكل بيمينك وكل مما يليك) فما زالت تلك طعمتي بعد([9]).
وهذا وغيره لما ورد في النصوص الكثيرة من الحث على رحمة اليتامى والاهتمام بهم..
ومن ذلك رحمته صلى الله عليه وآله وسلم بالنساء.. فقد روي أنه وقف بينهن وقد جئن يبايعنه على أن يأتمرن بأوامر الله ويجانبن نواهيه، فقال لهن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم 🙁 فيما استطعتن وأطعتن)، فقلن: (الله ورسوله أرحم بنا من أنفسنا)([10])
وكان صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (اللهم إني أحرج حق الضعيفين : اليتيم والمرأة)([11])
وكانت حياته صلى الله عليه وآله وسلم بين نسائه فى بيته المثل الأعلى فى المودة والموادعة وترك الكلفة، وبذل المعونة، واجتناب هُجْر الكلام ومره.
ومن ذلك رحمته صلى الله عليه وآله وسلم بالأرقاء.. روي أن أبا ذر خرج إلى الناس يوماً ومعه غلاماً يرتدى حلة مثل حلته، فسئل عن ذلك فقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (هم أخوانكم وخولكم، جعلهم الله تعالى تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل وليلبسه مما يلبس ولا تكلفوهم من العمل ما يغلبهم فإن كلفتموهم فأعينوهم)([12])
وقال صلى الله عليه وآله وسلم 🙁 ما خففت على خادمك من عمله كان لك أجرا في موازينك)([13])
وأما الأساس الثاني الذي يقوم عليه التآلف الاجتماعي في الإسلام، وهو المحبة، فأشار إليه قوله تعالى :{ وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ } (الحشر:9)
وقد وردت النصوص الكثيرة تبين فضل المحبة في الله بين المؤمنين.. ففي الحديث قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم 🙁 ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه، كما يكره أن يقذف في النار) ([14])
وقال صلى الله عليه وآله وسلم 🙁 سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة الله عز وجل، ورجل قلبه معلق بالمساجد، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه، وتفرقا عليه، ورجل دعته امرأة ذات حسن وجمال، فقال: إني أخاف الله، ورجل تصدق بصدقة، فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه) ([15])
وقال صلى الله عليه وآله وسلم 🙁 إن الله تعالى يقول يوم القيامة: أين المتحابون بجلالي؟ اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي) ([16])
وذكر صلى الله عليه وآله وسلم 🙁 أن رجلاً زار أخا له في قرية أخرى فأرصد الله له على مدرجته ملكاً فلما أتى عليه قال:أين تريد؟ قال:أريد أخاً لي في هذه القرية، قال: هل لك عليه من نعمة تربها، قال: لا غير أني أحببته في الله عز وجل، قال : فإنِّي رسول الله إليك بأنَّ الله قد أحبك كما أحببته فيه)([17])
وقال:( المتحابون في جلالي، لهم منابر من نور يغبطهم النبيون والشهداء) ([18])
وقد شرع الإسلام لرعاية هذا الأساس وتحقيقه الكثير من الأحكام والتشريعات والآداب([19]).. والتي تجعل من الإنسان ملتزما إنسانا محبوبا مألوفا كما قال صلى الله عليه وآله وسلم:( المؤمن يألف ويؤلف ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف وخير الناس أنفعهم للناس)([20])
ومن ذلك ما ورد في الحديث من قوله صلى الله عليه وآله وسلم 🙁 والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم) ([21])
ومن ذلك ما ورد في موعظة لقمان u من قوله لابنه :{ وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ } (لقمان:18)
ومن ذلك ما ورد في القرآن الكريم من التنبيه إلى كثير من أصول الآداب الاجتماعية، كآداب الاستئذان، كما في قوله تعالى :{ وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } (النور:59)
أو آداب الزيارة كما في قوله تعالى :{ لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتَاتاً فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } (النور:61)
أو آداب المجالس، كما في قوله تعالى :{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } (المجادلة:11)
أو آداب الكلام، كما في قوله تعالى :{ وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ } (لقمان:19)، وقوله تعالى :{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ } (الحجرات:2)
أو آداب التحية، كما في قوله تعالى :{ وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً } (النساء:86)
أو آداب المشي، كما في قوله تعالى :{ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً} (الاسراء:37)
أو آداب التعامل مع مختلف أصناف الناس بما يناسبهم، كما في قوله تعالى :{ لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً } (النور: من الآية63)
وقد كان صلى الله عليه وآله وسلم يعلم الصحابة y أصول هذه الآداب وفروعها، وقد قال لهم مرة:( إنكم قادمون على إخوانكم، فأحسِنوا لباسَكم، وأصلحوا رِحالكم، حتى تكون كأنكم شامَةُ في الناس، فإنَّ الله لا يُحبُّ الفُحشَ ولا التَفَحُّشَ)([22])، والنصوص والأمثلة على ذلك كثيرة تفيض بها كتب السنة.
بالإضافة إلى هذا.. فقد حمي التآلف الاجتماعي من كل المنغصات التي قد تؤثر في العلاقات الاجتماعية، ومن ذلك ما نص عليه قوله تعالى :{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ (6) وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (8) وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (11) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (12) يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)} (الحجرات)
وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يدرك أن بقاء هذه المة رهين بتآلف القلوب التي التقت على الحب في الله، وأن حتفها في تناحر قلوبها لذلك كان يحذر من أن يذر الخلاف قرنه فيقول: (الا تختلفوا فتختلف قلوبكم)([23])
وكان صلى الله عليه وآله وسلم يجتث بذرة الخلاف قبل أن تتنامى.. فعن عبدالله بن عمر قال : هجّرت إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوما فسمع أصوات رجلين اختلفا في آية، فخرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعرف في وجهه الغضب فقال : (إنما هلك من كان قبلكم باختلافهم في الكتاب)([24])
قلنا: فحدثنا عن ثانيها.. ذلك الذي سميته التكافل ([25]).
قال: لقد سألته عنه، فقال: التكافل هو إعانة الأخ لأخيه إعانة تخرجه من العوز إلى الغنى.. وهو ركن أساسي لأن حياة الإنسان لا تقوم إلا بحياة هذا الجسد وصحته، وتوفر ما يلزمه وما يقتضيه بقاؤه، وذلك كله يقتضي توفر ما يلزم من قوت ومأوى ونحو ذلك.
وهذا الواجب لا يتحقق إلا بتوفر التربية التي تشعر الفرد بمسؤوليته على الجماعة..
ويشير إلى هذ من القرآن الكريم قوله تعالى :{ وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالْأِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } (الحشر:9)
ففي هذه الآية إخبار عن الإيثار الذي تحلى به الأنصار لما قدم المهاجرون إليهم، بعد أن تركوا في بلادهم كل ما يلزم لنفقتهم، فوجدوا لهم إخوانا لهم اقتسموا معهم زادهم، بل آثروهم على أنفسهم.
وقد حفظت لنا كتب الحديث بعض ما فعله الأنصار مع المهاجرين، فعن أنَس قال: قال المهاجرون:( يا رسول اللّه ما رأينا مثل قوم قدمنا عليهم، أحسن مواساة في قليل ولا أحسن بذلاً في كثير، لقد كفونا المؤنة وأشركونا في المهنأ، حتى لقد خشينا أن يذهبوا بالأجر كله)، فقال صلى الله عليه وآله وسلم:( لا، ما أثنيتم عليهم ودعوتم اللّه لهم)([26])
وظلوا هكذا حتى بعد أن فتح الله على المؤمنين، وقد روي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم دعا الأنصار أن يقطع لهم البحرين، فقالوا:( لا، إلا أن تقطع لإخواننا من المهاجرين مثلها)، قال:( إما لا، فاصبروا حتى تلقوني فإنه سيصيبكم أثرة)([27])
بل روي أكثر من ذلك، ففي الحديث: قالت الأنصار:( اقسم بيننا وبين إخواننا النخيل)، فقال:( لا)، فقالوا:( أتكفونا المؤنة ونشرككم في الثمرة؟) قالوا:( سمعنا وأطعنا)([28])
بل روي أكثر من ذلك، فقد كان الأنصار من حرصهم على الحفاوة بإخوانهم المهاجرين أنه ما نزل مهاجري على أنصاري إلا بقرعة.
وكان المهاجرون في قمة الاستغناء، كما كان إخوانهم الأنصار فيقم البذل، فقد روي أنهم لما قدموا المدينة آخى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين عبد الرحمن بن عوف وسعد بن الربيع، فقال سعد لعبد الرحمن:( إني أكثر الأنصار مالا، فأقسم مالي نصفين، ولي امرأتان فانظر أعجبهما إليك، فسمِّها لي أطلقها، فإذا انقضت عدتها فتزوجها)، فقال عبد الرحمن:( بارك الله لك في أهلك ومالك، أين سوقكم؟؟)
فدلوه على سوق بني قينقاع، فما انقلب إلا ومعه فضل من أقط وسمن، ثم تابع الغدُوَ..ثم جاء يوماً وبه أثر صفرة، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم:( مَهْيَمْ؟)، قال:( تزوجتُ)، قال:( كم سقتَ إليها)، قال:( نواة من ذهب!)([29])
وقد عبر القرآن الكريم عن هذا التكافل بصورة أخرى جميلة، فقال تعالى :{ وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُوراً} (الانسان:8 ـ 9)
ففي هاتين الكريمتين إخبار عن إيثار هؤلاء المحاويج من المؤمنين غيرهم بالطعام مع حبهم له وحاجتهم إليه، ثم هم لا يطلبون على ذلك جزاء ولا شكورا.
وهو موقف يشبه كثيرا موقف موسى u عندما سقى للفتاتين، ثم أوى إلى الظل من غير أن يشعر نفسه أو يشعر غيره أنه فعل شيئا، قال تعالى:) فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ( (القصص:24)
وهذه المواقف ـ في حقيقتها، وفي حقيقة الإسلام ـ ليست شيئا ثانويا مستحبا، وإنما هي واجب من واجب من واجبات الدين، فقد قال صلى الله عليه وآله وسلم:( ما آمن بي من بات شبعان وجاره جائع إلى جنبه وهو يعلم به)([30])، وقال صلى الله عليه وآله وسلم:( أيما أهل عرصة بات فيهم امرؤ جائع فقد برئت منهم ذمة الله وذمة رسوله)([31])
بل نص القرآن الكريم على هذا في مواضع مختلفة بصيغ مشددة تدل على أن الأمر ليس موكولا لرغبات الناس، وإنما هو واجب من واجبات الدين، فلا يصح أن يموت الناس جوعا في نفس الوقت الذي تمتلئ يه خزائن الكثيرين، ولو دفعوا الزكاة.
فالواجب هو إغناء المحتاجين بأدنى ما يجب إغناؤهم به، وما الزكاة إلا وسيلة لذلك، إن كفت فبها، وإن لم تكف وجب في أموال الجميع ما يكفيهم.
والقرآن الكريم يحض على هذا ويصرح به ويشير إليه، قال تعالى:) كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءلُونَ عَنِ الْمُجْرِمِينَ مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ( (المدثر:38 ـ 48)
فقد اعتبر تعالى عدم إطعام المساكين من الجرائم التي تسبب الدخول في جهنم، بل تقرن هذه الجريمة بترك الصلاة، ثم تقدم على التكذيب بالدين، ثم يتوعدون بعدم نفع الشافعين فيهم.
بل لم يعف القرآن الكريم من هذا الواجب حتى العامة من الناس الذين لا يملكون ما يطعمون غيرهم، لأنه لم يأمر بالإطعام فقط، بل أمر بالحض على الإطعام، ليشمل هذا الأمر الجميع، قال تعالى:) كَلَّا بَل لَّا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلاً لَّمّاً وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبّاً جَمّاً( (الفجر:17 ـ 20)
وقالتعالى وهو يذكر موقفا من مواقف القيامة الشديدة:) خُذُوهُ فَغُلُّوهُ ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ( (الحاقة:30 ـ 37)
بل نجد هذا في سورة كاملة تكاد تكون خاصة بهذا الجانب يعتبر من لا يحض على طعام المسكين مكذبا بالدين، قال تعالى:) أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ ((الماعون:1 ـ 7)
وقد ذكر العلماء درجات المؤمنين في قيامهم بما يتطلبه هذا الركن من البذل، وهي ثلاث درجات:
الأولى: وهي أدناها أن تنزله منزلة عبدك أو خادمك فتقوم بحاجته من فضلة مالك، فإذا سنحت له حاجة وكانت عندك فضلة عن حاجتك أعطيته ابتداء ولم تحوجه إلى السؤال فإن أحوجته إلى السؤال فهو غاية التقصير في حق الأخوة.
الثانية: أن تنزله منزلة نفسك وترضى بمشاركته إياك في مالك ونزوله منزلتك حتى تسمح بمشاطرته في المال قال الحسن: كان أحدهم يشق إزاره بـينه وبـين أخيه.
الثالثة: وهي العليا أن تؤثره على نفسك وتقدّم حاجته على حاجتك وهذه رتبة الصدّيقين ومنتهى درجات المتحابـين.
قلنا: فحدثنا عن ثالثها.. ذلك الذي سميته التناصر.
قال: لقد سألت صاحبي عنه، فأجابني قائلا: هو نصرة الأخ لأخيه في مواقف الشدة والحاجة، لأن الأمن ركن أساسي في الحياة لا يقل عن ركن الغذاء، ولذلك جمع الله تعالى بينهما في قوله :{ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} (النحل:112)، وقال تعالى في ذكر نعمه على قريش:{ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ } (قريش:4)
لأن أسباب الهلاك لا تصيب الإنسان من جهة الجوع وحده، بل تصيبه أيضا من الأعداء الذين يتربصون به، بل إن هذا الجانب أكثر ضررا بالإنسان من جانب الجوع.
وقد أشار إلى هذا الركن قوله تعالى:{ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } (لأنفال:72)
ففي هذه الآية الكريمة حض على نصر المؤمنين بعضهم بعضا، فلا يصح أن ينعم المسلم بالأمن في الوقت الذي يصاب إخوانه بكل أنواع البلاء.
وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم وهو يحض على رعاية هذا الركن:( المسلم أخو المسلم لا يسلمه ولا يخذله)، وقال صلى الله عليه وآله وسلم:( انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً)، قيل: يا رسول الله! أنصره مظلوماً، فكيف أنصره ظالما؟)، قال:( تمنعه من الظلم؛ فذلك نصرك إياه)([32])
ولأجل تحقيق هذا الركن شرع الإسلام الجهاد في سبيل الله، قال تعالى في تبرير الأمر بالجهاد مع كونه إزهاقا للأرواح التي جاءت الشريعة لحفظها:{ وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً( (النساء:75)
وقد ورد هذا التبرير في مواضع مختلفة، وكلها تنطلق من أن الغرض من القتال في الإسلام ليس المقصود منه التوسع ولا الاستعمار والسيطرة، وإنما المقصد منه نصرة المستضعفين، قال تعالى:{ أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ( (الحج:39)، وقال تعالى:{ وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ( (البقرة:190)، وقالتعالى:{ يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ( (البقرة:217)
وتحقيق هذا الركن يستدعي بذل الجهد في تحصيل القوة بأنواعها المختلفة، كما قال تعالى:{ وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ( (لأنفال: من الآية60)، وقال ذاما من لم يعد للأمر عدته، واعتبه كاذا في دعواه:{ وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ( (التوبة:46)
ومما يدخل في هذا الباب (ذب الأخ عن أخيه في غيبته مهما قصد بسوء أو تعرض لعرضه بكلام صريح أو تعريض فحق الأخوة التشمير في الحماية والنصرة وتبكيت المتعنت وتغليظ القول عليه، والسكوت عن ذلك موغر للصدر ومنفر للقلب وتقصير في حق الأخوة.. فأخسس بأخ يراك والكلاب تفترسك وتمزق لحومك وهو ساكت لا تحركه الشفقة والحمية للدفع عنك وتمزيق الأعراض أشد على النفوس من تمزيق اللحوم ولذلك شبهه الله تعالى بأكل لحوم الميتة فقال:{ أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً } (الحجرات: من الآية12))([33])
قلنا: فحدثنا عن رابعها.. ذلك الذي سميته التناصح.
قال: لقد سألت صاحبي عنه، فقال: هو الركن الرابع من الأركان التي يقوم عليها بنيان المجتمع في الإسلام، وهو أساسي من حيث أن الإنسان ليس جسدا فقط يحتاج إلى غذاء قد يكفي أمره التكافل، أو حماية قد يكفي أمرها التناصر، ولكنه روح وعقل يحتاج إلى تعليم وتوجيه وتربية ونصح، وكل ذلك يستدعي وجود هذا الركن.
يقول الغزالي في بيان الحاجة إلى هذا الركن:( ومن ذلك التعليم والنصيحة فليس حاجة أخيك إلى العلم بأقل من حاجته إلى المال، فإن كنت غنياً بالعلم فعليك مؤاساته من فضلك وإرشاده إلى كل ما ينفعه في الدين والدنيا، فإن علمته وأرشدته ولم يعمل بمقتضى العلم فعليك النصيحة)([34])
وقال ذو النون:( لا تصحب مع الله إلا بالموافقة، ولا مع الخلق إلا بالمناصحة، ولا مع النفس إلا بالمخالفة، ولا مع الشيطان إلا بالعداوة)
وقد رد الغزالي على من اعتبر هذا سببا للوحشة بين المؤمنين، فقال:( اعلم أن الإِيحاش: إنما يحصل بذكر عيب يعلمه أخوك من نفسه فأما تنبـيهه على ما لا يعلمه فهو عين الشفقة وهو استمالة القلوب، أعني قلوب العقلاء، وأما الحمقى فلا يلتفت إليهم فإن من ينبهك على فعل مذموم تعاطيته أو صفة مذمومة اتصفت بها لتزكي نفسك عنها كان كمن ينبهك على حية أو عقرب تحت ذيلك وقد همت بإهلاكك، فإن كنت تكره ذلك فما أشد حمقك والصفات الذميمة عقارب وحيات وهي في الآخرة مهلكات فإنها تلدغ القلوب والأرواح وألمها أشد مما يلدغ الظواهر والأجساد وهي مخلوقة من نار الله الموقدة)([35])
وقد أشار القرآن الكريم إلى هذا الركن في قوله تعالى:{ ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ( (البلد:17)، وقالتعالى:{ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ( (العصر:3)
وإلى هذا الركن الإشارة بقول لقمان u في وصيته لابنه:{ يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ } (لقمان:17)
وقد اعتبر القرآن الكريم هذا الركن خاصة من خصائص هذه الأمة، فقال تعالى:{ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ } (آل عمران: من الآية110)
واعتبر أداء هذا الركن من علامات المؤمنين الصادقين، فقال تعالى:{ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ } (آل عمران:114)، وقال تعالى:{ وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } (التوبة:71)، وقال تعالى:{ التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ_ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ } (التوبة:112)
بل اعتبره من صفات الرسول صلى الله عليه وآله وسلم الأساسية، قال تعالى:{ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } (الأعراف:157)
واعتبره بعد ذلك من علامات صحة التمكين في الأرض، قال تعالى:{ الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ } (الحج:41)
وقد اعتبر صلى الله عليه وآله وسلم هذا التناصح ركنا من أركان الدين، فقال صلى الله عليه وآله وسلم:( الدين النصيحة) ثلاثا، قلنا لمن؟ قال:( لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم)([36])، فقد اعتبر صلى الله عليه وآله وسلم الدين نصيحة، ثم عد من النصيحة النصيحة لأئمة المسلمين وعامتهم.
وقد ورد في الإسلام الآداب الكثيرة التي تجمع بين الألفة والنصيحة.. فلا يحصل الصراع بينهما، ومن ذلك أن تكون النصيحة في سر لا يطلع عليه أحد، لأن ما كان على الملأ فهو توبـيخ وفضيحة وما كان في السر فهو شفقة ونصيحة، قال الشافعي:( من وعظ أخاه سراً فقد نصحه وزانه ومن وعظه علانية فقد فضحه وشانه)، وقيل لمسعر: أتحب من يخبرك بعيوبك؟ فقال: إن نصحني فيما بـيني وبـينه فنعم وإن قرّ عني بـين الملأ فلا.
قال الغزالي:( فالفرق بـين التوبـيخ والنصيحة بالإِسرار والإِعلان كما أن الفرق بـين المداراة والمداهنة بالغرض الباعث على الإِغضاء. فإن أغضيت لسلامة دينك ولما ترى من إصلاح أخيك بالإِغضاء فأنت مدار وإن أغضيت لحظ نفسك واجتلاب شهواتك وسلامة جاهك فأنت مداهن)([37])
***
قلنا: فكيف كانت نهاية صحبتك لهذا الرجل الفاضل؟
قال: كما كانت نهاية صحبتكم.. لقد سمعنا من يصيح بالفتنة التي تريد أن تستأصل المسلمين.. فلم ألبث حتى رأيت صاحبي يهرول لقمعها لا يلوي على شيء..
وقد جئت إلى هذه
البلاد بحثا عنه.. فقد علمت كما علمتم بأن الفتنة تريد أن تنطلق من هذه البلاد
لتشمل غيرها.
([1]) سنرى بعض النماذج عنه في فصل (العالم) من هذه الرسالة.
([2])نشرت ذلك صحيفة (( السعودي جازيت )) مع نشر صورة الأبوين الشابين في 22/1/1977 الموافق 3/2/97.
([3])جريدة الشرق الأوسط في عددها الصادر 15/9/1400 الموافق 27/7/1980.
([4])رواه البخاري ومسلم.
([5]) رواه البخاري ومسلم.
([6]) رواه مسلم.
([7]) رواه البخارى وأبو داود والترمذى وابن حبان.
([8]) رواه البخارى.
([9]) رواه البخاري.
([10]) رواه الترمذى والنسائى وابن ماجة، وقال الترمذى : حسن صحيح.
([11]) رواه ابن ماجة وأحمد.
([12])رواه ابن حبان في صحيحه وهو في مسلم باختصار.
([13])رواه أبو يعلى وابن حبان في صحيحه.
([14]) رواه البخاري ومسلم.
([15]) رواه البخاري ومسلم.
([16]) رواه مسلم.
([17]) رواه مسلم.
([18]) رواه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح.
([19]) ذكرنا الكثير منها بتفصيل في (الأبعاد الشرعية لتربية الأولاد) من سلسلة (فقه الأسرة برؤية مقاصدية)
([20]) الدارقطني في الأفراد والضياء عن جابر، وفي حديث آخر:« المؤمن يألف ويؤلف ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف » رواه أحمد والطبراني في الكبير.
([21]) رواه مسلم.
([22]) أبو داود وأحمد والحاكم في « المستدرك».
([23]) رواه البخاري.
([24]) رواه مسلم.
([25]) خصصنا التكافل بفصل خاص في رسالة (عدالة للعالمين) من هذه السلسلة.
([26]) رواه أحمد.
([27]) رواه البخاري.
([28]) رواه البخاري.
([29]) رواه البخاري.
([30]) البزار، والطبراني في الكبير.
([31]) مسلم.
([32]) رواه البخاري وأحمد.
([33]) الإحياء: 2/181.
([34]) الإحياء: 2/182.
([35]) الإحياء: 2/183.
([36]) رواه مسلم.
([37]) الإحياء: 2/182.