سادسا ـ الحيوان

سادسا ـ الحيوان

في اليوم السادس.. كان موضوع المحاضرات يتناول الحيوانات في القرآن الكريم.

وقد قدم العلماء محاضراتهم التي غلب عليها الجانب البياني والفقهي.. كعادتهم في سائر الأيام.

ثم قدم صاحبي عالم الحيوان محاضرته، ولم يكن هناك أي رابط بين تلك المحاضرات..

وصاحبي هذا ـ بالإضافة إلى كونه عالم حيوان ـ من جمعية للرفق بالحيوان، فهو محب لها غاية الحب، رفيق بها غاية الرفق، بل هو يكاد يتعامل معها كما يتعامل مع الإنسان، بل إنه ـ لغرابة أطواره في هذا ـ كان كلما ذكر حيوانا أطلق عليه لفظ أخي أو صديقي، جادا غير هازل، وهو لا يعبأ بضحك من يضحك من المستمعين له من طلبته أو أصدقائه.

وكان لهذا قريبا من الدين.. ولكنه شديد البعد من الكتاب المقدس، وقد ذكر لي سبب ذلك، فقال: لماذا يشوه الكتاب المقدس سلام المسيح؟

قلت: ما الذي تقصد؟

قال: لقد قرأت في أول شبابي ما جاء عن تسبب المسيح بمقتل ألفي حيوان في وقت واحد.. كما في (مرقس: 5: 11):(وَكَانَ هُنَاكَ قَطِيعٌ كَبِيرٌ مِنَ الْخَنَازِيرِ يَرْعَى عِنْدَ الْجَبَلِ، فَتَوَسَّلَتِ الأَرْوَاحُ النَّجِسَةُ إِلَى يَسُوعَ قَائِلَةً: أَرْسِلْنَا إِلَى الْخَنَازِيرِ لِنَدْخُلَ فِيهَا، فَأَذِنَ لَهَا بِذَلِكَ، فَخَرَجَتِ الأَرْوَاحُ النَّجِسَةُ وَدَخَلَتْ فِي الْخَنَازِيرِ، فَانْدَفَعَ قَطِيعُ الْخَنَازِيرِ مِنْ عَلَى حَافَةِ الْجَبَلِ إِلَى الْبُحَيْرَةِ، فَغَرِقَ فِيهَا، وَكَانَ عَدَدُهُ نَحْوَ أَلْفَيْنِ)؟

قرأ هذا النص، ثم قال: ما ذنب الخنازير، وما ذنب صاحب الخنازير، حين أراد إخراج الشياطين من المجنون؟..ألم يكن من الأجدى إخراج الشياطين دون الإضرار بالخنازير؟!

ثم سكت قليلا، ثم قال: من ذلك اليوم الذي قرأت فيه هذا النص لم أعد للكتاب المقدس.. فلا أتصور أن الله يقسو على خلقه بهذه الطريقة.

كان هذا هو بداية موقفه من المسيحية، أما الإسلام، فلم يتخذ منه موقفا سلبيا إلا في ذلك اليوم، فقد ألقى بعض المحاضرين محاضرة عن موقف سليمان u من الخيل، وذلك في تفسير قوله تعالى:{ وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (30) إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ (31) فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ (32) رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ (33)}(ص)

وللأسف، فإن هذا المفسر بعد استعراضه لجميع الأقوال في تفسير الآية لم يحلو له إلا أن يفسرها بما يسيء لسليمان، وبمثله للقرآن.

لقد ذكر أن سليمان u عرض عليه الخيل الجياد في وقت العصر، فألهاه هذا العرض عن صلاة العصر، فلما اقترب المغرب غضب وطلب من الله أن يرد الشمس بعد أن غربت ليصلي العصر فردت.. وكصورة من غضبه على الخيل لأنها كانت السبب في فوات العصر وألهته عن الصلاة قام وقطع سوقها وأعناقها مسحاً بالسيف.

ومع أن القائلين بهذا من التابعين الذي استفادوا هذه التفاسير من اليهود الذين أسلموا إلا أنه راح يدافع على هذا، ويخالف ابن عباس صاحب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذي فسرها بأنه جعل يمسح أعراف الخيل، وعراقيبها حبالها.

وقد قال تعليقا على هذا القول: وهذا القول اختاره ابن جرير، واستدل له بأنه لم يكن سليمان u ليعذب حيوانا بالعرقبة، ويهلك مالا من ماله بلا سبب سوى أنه اشتغل عن صلاته بالنظر إليها ولا ذنب لها.

ثم علق عليه بقوله:(وهذا الذي رجح به ابن جرير فيه نظر؛ لأنه قد يكون في شرعهم جواز مثل هذا، ولا سيما إذا كان غضبا لله عز وجل بسبب أنه شغل بها حتى خرج وقت الصلاة؛ ولهذا لما خرج عنها لله تعالى عوضه الله تعالى ما هو خير منها وهي الريح التي تجري بأمره رخاء حيث أصاب غدوها شهر ورواحها شهر، فهذا أسرع وخير من الخيل) ([1]

لقد كان لذلك الترجيح تأثيره السلبي على صديقنا عالم الحيوان..

ومع أنه كان يرى طرق المسلمين في الذبح.. ولكنه لم يكن ينكر عليها، بل كان يرى ذلك أرحم للحيوان من سائر الطرق التي يقتل بها الحيوان([2]).

في ذلك المساء.. سرنا إلى حديقة للحيوانات.. وقد أبلغت عليا بالمحل الذي نذهب إليه.

وهناك في تلك الحديقة رحنا نتجول على الحيوانات.. ونستمع لما يقوله صديقنا عالم الحيوانات عنها.

حيوانات مسخرة

أمام مجموعة من الخيل العربية الأصيلة وقفنا ننظر إلى جمالها ورشاقتها، وفجأة سمعنا عليا يحادث صديقه حذيفة بطريقته المعهودة، وبصوت مرفوع، وكأنه يتعمد أن يسمعنا:

علي: ويل لهم.. كيف يسيئون للقرآن؟.. إنهم يحرفون القرآن الكريم من حيث لا يشعرون.

حذيفة: هم لم يذكروا إلا ما قال المفسرون.

علي: ألم تسمع بما قال الإمام أحمد من أنه ثلاثة لا أصول لها، وذكر من بينها التفسير؟

حذيفة: أسمع هذا.. بل لدي سند بروايته إلى أحمد.

علي: فكيف رحتم تتساهلون في التفسير مع علمكم أنه تفسير لكلام الله.. لقد تشددتم في حروف القرآن.. ولكنكم أعطيتم الحرية المطلقة لمن يريد تشويهه؟

حذيفة: ولكنهم يروون هذه الأقوال عن قتادة وغيره من التابعين.

علي: فيكف رغبوا عن ابن عباس ترجمان القرآن.. وراحوا لقتادة..

ثم لماذا تركوا الألفاظ الصريحة الظاهرة، وراحوا يؤولون ويتحكمون ويتلاعبون!؟

لقد ذكر القرآن المسح.. وليس للمسح في ظاهر اللغة إلا معناه المعروف.. ألم يرد في القرآن الكريم:{ وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوّاً غَفُوراً} (النساء: 43)، وقال تعالى:{ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} (المائدة: 6)

حذيفة: بلى..

علي: فما معنى المسح في هاتين الآيتين؟

حذيفة: معناه المسح المعروف الذي هو وضع اليد بحنان على الممسوح.

علي: فلم رغبوا عن هذا المعنى الظاهر المؤيد يقول الصحابي الجليل إلى غيره؟

سكت حذيفة، فقال علي: ليس من سبب لذلك غير الجهل بالمعاني السامية للقرآن الكريم.. إن هؤلاء الذين ينشرون مثل هذه المعاني، كمن وصف له طبيب دواء ليستعمله، فراح بفهمه السقيم، واشترى بدله سما راح يتجرعه، ويسقيه لغيره.

حذيفة: ما تقول؟

علي: هذه هي الحقيقة.. أنت تعرفني.. فأنا لا أحب المجاملات.

حذيفة: فأين الداوء، وأين السم في الآية؟

علي: إن هذه الآية تصف وصفة طبية نفسية شرعية لكيفية التعامل مع الحيوانات.. لكنهم بفهمهم السقيم حولوها سما يسقونه الناس، ويشوهون به الحقائق.

حذيفة: فصل لي ما ذكرت.

الخيل:

علي: أنت تعرف ما ورد في النصوص الكثيرة من فضل الخيل.

حذيفة: أجل.. ويكفيها شرفا أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال فيها:{ الخيل في نواصيها الخير إلى يوم القيامة) ([3]

علي: بل إن الله تعالى أمر بالاحتفاظ بها وتهيئتها لمقاومة الظالمين، فقال:{ وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ} (لأنفال:60)

حذيفة: فهمت هذا ووعيته، فما الذي تريد منه؟

علي: أفترى أن هذا النبي الكريم غاب عنه ما جعل الله في الخيل من فضل، فراح يقتلها من غير فائدة.

حذيفة: لا أرى ذلك.. وبورك فيك.. فقد نبهتني لسوء ما كنت أعتقده، ولكن ما الذي جعلك ترى أن ما فعله سليمان دواء يمكن الاستفادة منه؟

علي: بلى.. هو دواء.. وما ذكره الله لنا إلا لنستفيد منه، ألم يقل الله تعالى:{ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} (الأنعام: 90)؟

حذيفة: فما هذا الدواء([4]

علي:  إن اختيار سليمان u لمواضع معينة يمسح بها على خيله يتوافق تماما  مع الفحص البيطري المعمول به لخيل السبق في الوقت الحاضر.

فكل المراجع العلمية الحديثة المرتبطة بعلم الحيوان أفردت لفحص واختبار الخيل فصولاً طويلة أساسها كلها ما جاء في القرآن الكريم، فنجد في كتاب (أصول الطب البيطري)، وتحت عنوان (الاقتراب من الحيوانات) قوله:(للحيوانات الأهلية أمزجة متباينة، وطباع تتقلب بين الدعة والشراسة لذلك يتطلب الاقتراب منها حرصاً وانتباهاً عظيمين خصوصاً للغريب الذي لم يسبق له معاملتها أو خدمتها، نجد أنه في الخيل يجب أن يظهر فاحص الحصان نحوه كثيراً من العطف وهو داخل عليه فيربت على رأسه ورقبته وظهره فيطمئن إليه ويعلم أن القادم صديق فلا يتهيج أو يرفس)

ولما كانت أهم أجزاء الحصان قوائمه، فهي التي تجري عليها، والجري من أهم صفات الخيل الرئيسية، فإن أول ما يتجه إليه الإنسان عند فحص الخيل هو اختبار قوائمه ويجب رفع قائمة الحصان عند فحصه، وفي ذلك يقول نفس الكتاب:(ولرفع القائمة الأمامية يمسك الفاحص بزمام الحصان ويقف الفاحص بجوار كتفه متجهاً للمؤخرة ثم يربت له على جانب رقبته وكتفه إلى أن يصل باليد إلى المرفق فالساعد فيصل المسافة بين الركبة والرمانة وهنا يشعر الحصان باليد التي تمسك أوتار قائمته فيرفعها طائعاً مختاراً)

وقياس نبض الخيل من أهم الأمور التي يجب على الفاحص أن يبدأ بها فحصه للحصان، فعن طريق النبض يمكن معرفة حالة الحصان المرضية، ويقرر العلم أن قياس النبض في الخيل يكون من الشريان تحت الفكي والشريان الصدغي والشريان الكعبري.

وإذا كان قياس النبض، والحصان في حالة هدوئه إنما يكشف للإنسان عن حالة الحصان المرضية وعما إذا كان مصاباً بمرض أو سليماً، فإن قياس نبضه لمعرفة درجة احتمال قلبه وطاقته لابد أن تكون بعد أن يقوم الحصان بل بشوط من الجري.. كما أنه توجد في بعض الخيول عيوب تقلل من قيمة الحصان، ولذلك فإن الطريقة التي أصبحت دستوراً يعمل به عند فحص واختبار الخيل هي أنه بعد الفحص الظاهري الأول للحصان والتأكد من صلاحيته شكلاً ومنظراً يقوم بالعدو لشوط كبير على قدر الاستطاعة ومراقبته أثناء العدو.. ثم قياس نبضه بعد أن فحص الخيل فحصاً ظاهرياً إذ عرضت عليه.

لذلك أمر النبي سليمان u بأن تعدو الخيل إلى أقصى وأبعد ما يستطاع حتى توارت بالحجاب، فلم تعد رؤيتها مستطاعة.. ثم طلب أن تعود بعد هذا الشوط الطويل من العدو، وعندها قام بالفحص العملي لقياس النبض من الشريان تحت الفكي والصدغي والكعبري كما قام بفحص ساق الحصان بعد هذا المجهود ليعرف أثر العدو عليه وطاقة الساق عليه.

ما سمع صاحبي عالم الحيوانات هذا الكلام حتى ارتسمت على وجهه أسارير السعادة، ثم طلب منا أن نتبع هذين الرجلين لنتنصت عليهما، وعلى حوارهما الهادئ اللطيف.

حذيفة: لقد وصف القرآن الكريم هذه الخيل بالجياد.. فما مراده من ذلك؟

علي: لقد وصفت قبل وصفها بالجياد بكونها صافنات، والصافنات وهي التي تقف على ثلاث وطرف حافر الرابعة لقوتها وخفتها، وهي علامة الصحة للخيل.

والجياد معناها السراع، ولا شك في أن قيمة الخيل في سرعتها، وقد ورد وصف لسرعتها في سورة أخرى من القرآن الكريم، وهي سورة العاديات، قال تعالى:{  وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا (1) فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا (2) فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا (3) فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا (4) فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا (5)}(العاديات)

فالله تعالى يقسم في هذه السورة بخيل المعركة، ويصف حركاتها واحدة واحدة منذ أن تبدأ عدوها وجريها ضابحة بأصواتها المعروفة حين تجري، قارعة للصخر بحوافرها حتى توري الشرر منها، مغيرة في الصباح الباكر لمفاجأة العدو، مثيرة للنقع والغبار، غبار المعركة على غير انتظارن وهي تتوسط صفوف الأعداء على غرة، فتوقع بينهم الفوضى والاضطراب([5]).

حذيفة: لكأن الله تعالى يأمرنا في هذه السورة بأن ندرب الخيل لنؤهلها لمثل هذه الصفات.

علي: بورك فيك.. هكذا ينبغي أن نفهم القرآن.. فكل آياته تربية وتعليم وتوجيه.

حذيفة: زدني من صفات الخيل في القرآن.

علي: لقد وصف الله الخيل بأنها ترسل عرفها أي تنشره على رقبتها، قال تعالى:{ وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً}(المرسلات:1) والآية بالأصل تصف الرياح وتشبهها بالخيل.

الحمار:

سار علي وحذيفة نحو قفص قريب وضع فيه أحمرة بألوانها المختلفة، وأنواعها المختلفة، فقال حذيفة: هذا هو الحمار الذي ورد النكير عليه في النصوص.

علي: لم أجد نصا ينكر على الحمار.. الحمار من نعم الله الكبرى على البشر، لقد ظل فترة طويلة مسخرا للإنسان يركبه ويستعمله، وهو لا يزال يفعل ذلك.

بل إن القرآن من علينا به، فقال:{ وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ} (النحل:8)

حذيفة: أنت لم تفهم قصدي.. أنا أقصد قوله تعالى:{ وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} (لقمان:19)، فهذا الخطاب جاء على لسان لقمان الحكيم u، وهو يعظ ابنه حيث طلب منه إخفاض صوته لأن الصوت العالي يصبح منكراً.

علي: فالإنكار للصوت العالي، لا للحمار، والصوت العالي منكر سواء كان من الحمار أو غيره، بل إن العلماء عدوا الضجيج من التلوث البيئي.

حذيفة: فالحمار يلوث البيئة إذن؟

علي: لا.. إن الصوت الحمير أرحم بكثير من تلك الفوضى الصوتية التي يعيشها البشر..

ومع ذلك فالله تعالى يؤدبنا بهذا ليعلمنا كيف ندرب أصواتنا حتى لا تكون منكرة.

حذيفة: وهل يمكن ذلك.. الأصوات شيء خارج عن أيدينا.

علي: لا.. بل إن الكثير منه في أيدينا.. ولولا ذلك ما أمر لقمان u ابنه به.

حذيفة: فما وجه الإشارة في الآية إلى هذا التدريب؟

علي: لقد وجد العلماء أن سبب قبح صوت الحمار يكمن في قلة حركته وعدوه.. بخلاف الخيل التي وصفت بـ { وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحاً}(العاديات:1) فقد ربطت بين العدو والصهيل، فصوت الضبح هو الصهيل الخفيف غير المزعج، والذي اكتسبه الحصان بفضل العدو حيث ذابت كل الشحوم حول الأحبال الصوتية، وتعرضت هذه الأحبال للإحماء والشد من خلال رياضة العدو، فيشبه ذلك شد أوتار المعازف لكي تحصل على صوت عال ذي نبرة رفيعة جميلة، والضبح صوت بين الصهيل والحمحمة ينتج من العدو.

حذيفة: لقد وصفت الحمر في القرآن الكريم بكونها مستنفرة، فقال تعالى:{ كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ}(المدثر:50-51) فما معنى ذلك؟

علي: هاتان الآيتان تتحدثان عن الحمر الوحشية التي يحب صيدها الأسد، وحمار الوحش حيوان جميل الشكل  قريب الشبه بالخيل والحمار، ويختلف عنها بجلده المخطط.. وحمير الوحش من فصيلة متوحشة غير قابلة للاستئناس، وتتميز بوجود الخطوط السوداء على جسدها، وهي توجد في قطعان هائلة في السهول  الفسيحة في أفريقيا.

البغال:

سار علي وحذيفة نحو قفص قريب معد للبغال، فقال حذيفة: لقد ذكر الله تعالى البغال من جملة الحيوانات المسخرة للركوب، فقال تعالى عنها:{ وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ}(النحل:8)

علي: البغل هو الهجين الذي ينشأ من تزاوج الحمار والفرس، فيأخذ حجم الفرس وتحمل الحمار، لذا يكون الناتج أقوى.

حذيفة: ألا ترى في ذكر القرآن للبغال ـ ما دامت بهذه الصفة ـ في هذه الآية التي ذكرت وسائل النقل أي إشارة عملية؟

علي: أجل.. إن فيها إشارة إلى نوع مفيد من الهندسة الوراثية.

حذيفة: ماذا تعني.. فالهندسة الوراثية لم تجلب لنا إلا الدمار.

علي: بل فيها بعض الخير، أو كثير من الخير لو حسنت النيات.

حذيفة: فكيف نطبقها في هذا المجال؟

علي: باختيار السلالات الطيبة من الحيوانات وإجراء التلاقح بينها لاستنتاج سلالات جيدة.. ألم تر أن القرآن الكريم وصف الخيل بالجياد؟

حذيفة: فما في ذلك؟

علي: لينبهنا إلى البحث عن الجيد.

الإبل:

سار علي وحذيفة إلى قفص آخر، وضعت فيه الجمال بأنواعها، فقال حذيفة: لقد ذكر القرآن الكريم كثيرا عالم الإبل([6]).. بل إنه أمر بالنظر إليها، فقال تعالى:{ أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْأِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ} (الغاشية:17)

علي: هذه آية عظيمة.. فالله تعالى يدعونا إلى النظر في أسرار خلقه وما أودع فيها من جمال وطاقات.. إن هذا الأمر يستوي فيه البدوي بفطرته السليمة في صدر الإسلام، وعلماء الأحياء بأجهزتهم المستحدثة في أواخر القرن العشرين.

حذيفة: فعلمني من علمها ما علمك الله.

علي: إن ما كشفه العلم حديثاً عن بعض الحقائق المذهلة في خلق الإبل يفسر لنا بعض السر في اختيار الله للإبل لتكون محل نظرنا([7]).

أول ما يلفت الأنظار في الإبل خصائصها البينات والشكل الخارجي الذي لا يخلو تكوينه من لطائف تأخذ بالألباب، فالعينان محاطتان بطبقتين من الأهداب الطوال تقيانهما القذى والرمال.

أما الأذنان فصغيرتان قليلتا البروز، فضلاً عن أن الشعر يكتنفها من كل جانب، ليقيها الرمال التي تذروها الرياح، ولهما القدرة عن الانثناء خلفاً والالتصاق بالرأس إذا ما هبت العواصف الرملية.

أما المنخران، فيتخذات شكل شقين ضيقين محاطين بالشعر وحافتهما لحمية، فيستطيع الجمل أن يغلقهما دون ما قد تحمله الرياح إلى رئتيه من دقائق الرمال.

أما ذيله، فيحمل على جانبيه شعراً يحمى الأجزاء الخلفية من حبات الرمل التي تثيرها الرياح السافيات كأنها وابل من طبقات الرصاص.

أما قوائم الجمل، فهي طويلة لترفع جسمه عن كثير مما يثور تحته من غبار، كما أنها تساعده على اتساع الخطو وخفة الحركة.

وتتحصن أقدام الجمل بخف يغلفه جلد قوي غليظ يضم وسادة عريضة لينة تتسع عندما يدوس الجمل بها فوق الأرض، ومن ثم يستطيع السير فوق أكثر الرمل نعومة، وهو ما يصعب على أية دابة سواه، وهذاما يجعله جديراً بلقب (سفينة الصحراء)

لهذه الخصائص وغيرها ما زالت الإبل في كثير من المناطق القاحلة الوسيلة المثلى لارتياد الصحارى، وقد تقطع قافلة الإبل بما عليها من زاد ومتاع نحوا من خمسين أو ستين كيلومترا في اليوم الواحد، ولم تستطع السيارات بعد منافسة الجمل في ارتياد المناطق الصحراوية الوعرة غير المعبدة.

حذيفة: فقد أعد الله تعالى الإبل إعدادا من أجل مهام السفر الصعبة!؟

علي: ليس ذلك فقط.. أو بالأحرى ذلك ما يمكن أن يعرف بالنظر البسيط القاصر.

حذيفة: فهل هناك نظر آخر أعمق وأطول؟

علي: أجل.. هناك أشياء تحتاج إلى نظر أعمق، أو بأجهزة تعين البصر القاصر.

حذيفة: فحدثني عن بعض ما دل عليه النظر الأعمق.

علي: منها أن الجمل يحافظ على مياهه بقدر الإمكان، لأنه في صحراء قليلة المياه، فلذلك لا تراه يتنفس من فمه، ولا يلهث أبداً مهما اشتد الحر أو استبد به العطش، وهو بذلك يتجنب تبخر الماء من هذا السبيل.

حذيفة: فكل هذا من الخصائص التي وفرت لهذا الحيوان ليكون مركبا صالحا في الصحراء القاحلة.

علي: هذا بعض ما تمكن العلم من معرفته.. وهناك الكثير مما لا يزال في طي الغيب.

حذيفة: لقد ميز الله الإبل بخلاف سائر الأنعام بأنها تستعمل في الركوب والتغذية.

علي: أجل.. وهذا من المزايا العظيمة.. ألم أقل لك: إنها حيوان الظروف الصعبة الشديدة.. ولولاها لما تمكن الإنسان في القديم من اختراق الصحراء.

البقر:

سار علي وحذيفة إلى قفص آخر، وضعت فيه البقار بأنواعها وألوانها المختلفة، فقال حذيفة: لقد ذكر القرآن الكريم كثيرا عالم البقر.. منها ما ورد في سورة البقرة، وهي قوله تعالى:{  قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُون قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} (البقرة: 68-71)

علي: ما تقرأ في هذه الآية؟

حذيفة: هذه قصة البقرة.. وقد قال فيها كعب الأحبار ووهب بن منبه..

قاطعه علي بقوة، وقال: ألم أنبهك أكثر من مرة أن لا تعيد ذكر هذين الرجلين أمامي؟

حذيفة: لم.. فقد كانا من الصالحين.

علي: أنا لا يهمني صلاحهما أو فسادهما.. أنا أتهم جرأتهما على التفسير..

حذيفة: لقد اهتم المفسرون بنقل تفسيرهما.

علي: لقد شوهوا تفاسيرهم بنقل أقوالهم.. حقائق القرآن الكريم أعظم من أن تفسر أو تنحصر معانيها في تلك الأساطير التي يرويها هذان الرجلان.

حذيفة: فما الذي تستفيده أنت من هذه الآيات غير قصة البقرة؟

علي: فوائد لا تكاد تحصى.. ولكنا ـ بما أنا هنا في هذه الحديقة ـ فسأكتفي بإشارة لطيفة يمكن استفادتها مما قرأته من الآيات.

حذيفة: ما هي.. فما أجمل الإشارات القرآنية.

علي: في هذه الآيات إشارة لكيفية اختيار الأبقار الممتازة..

حذيفة: أيمكن ذلك؟

علي: أجل.. فأهم مواصفات البقرة الجيدة ـ كما جاءت بها الآيات ـ أن تكون متوسطة في العمر، ليست بكيرة غير منتجة للحليب أوانتاجها قليل ولا هرمة (فارض) ذات الإنتاج القليل أيضاً.. ومنها أن تكون بقرة قوية لا منهكة ولا تستخدم للحراثة والسقي لأن كل ذلك يكون على حساب الإنتاج فيقلله.. ومنها أن تكون خالية من أي عيوب خلقية ظاهرة وهذا تفسير (لا شية فيها) لأن أي عيب خلقي يقلل سعرها في ناظرها حتى لو كانت تنتج الكثير([8]).

عجائب الحشرات

كان في تلك الحديقة قسم خاص بالحشرات، سار علي وحذيفة إليه، وسرنا نتبعهما، ونتنصت عليهما.

حذيفة: لقد قرأت في القرآن الكريم اهتمامه بهذا العالم.. عالم الحشرات والأحياء الدقيقة.. وقد كان ذلك محل استغراب من المشركين، حتى رد عليهم الله تعالى بقوله:{ إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ (26)}(البقرة)

علي: هذا يدلك على الواقع الجاهل الذي نزل فيه القرآن الكريم، والمنهج العلمي الذي جاء به.

حذيفة: ما مرادك بالمنهج العلمي في هذا المحل؟

علي: المنهج العلمي يقتضي عدم احتقار أي معلومة مهما دقت أو جلت.. فقد يستنتج من تلك المعلومة المحتقرة من الحقائق ما لا يمكن التوصل إليه دونها.

سأضرب لك مثالا يبسط لك هذا..

لقد رأى نيوتن التفاحة تسقط كما رآها الملايين بل الملايير من البشر.. ولكن نيوتن استطاع ان يؤسس من سقوطها معلومات كثيرة لم يؤسسها غيره.. أتدري سر ذلك؟

حذيفة: ما سر ذلك؟

علي: لقد رآها نيوتن ولم يحتقر ما رآه.. فلذلك فتح الله من علمها الكثير.

حذيفة: وهل مثل هذا عالم الحشرات الذي عبر الله عنه بالبعوضة.

علي: بل إن الله ذكر ما دون البعوضة..

حذيفة: صدقت.. فإن عبارة { فَمَا فَوْقَهَا } ـ كما ورد في التفسير ـ تعني ما دونها في الصغر، والحقارة، كما إذا وصف رجل باللؤم والشح، فيقول السامع: نعم، وهو فوق ذلك، يعني فيما وصفت.

علي: إن شئت أن أذكر لك بعض ما في هذا العالم الدقيق من الحقائق والعجائب فعلت.

حذيفة: أكون ممنونا إن فعلت ذلك.. فلا يفهم القرآن إلا من أهل الحقائق.

علي: هذه عوالم عجيبة، وهي لا تقل في عجبها من عوالم المجرات والأفلاك.. سأضرب لك مثلا عن واحد منها يسمى الفيروس([9])..

فقد ظل هذا الكائن الدقيق يسرح ويمرح، ويتكاثر داخل خلايا الكائنات الحية دون أن يعرفه أحد أو يراه لآلاف السنين.. وقد أحدث العديد من الأمراض الفتاكه للإنسان والحيوان والنبات  والبكتيريا، ومع ذلك لم يمكن التعرف عليه، لأنه في داخل الخلية البكتيرية الدقيقة كالبذرة الصغيرة في داخل الثمرة الكبيرة، أي لو مثلنا حجم البكتيريا بالبرتقالة الكبيرة فإن حجم هذا الكائن بالنسبة لها كالبذرة الواحدة داخل البرتقالة.

إنه الكائن العجيب الذي ينفذ من مسام أدق المرشحات البكتيرية التي تحتجز البكتيريا من السوائل عند تعقيمها بالترشيح.

ومن عجائب هذا الكائن أنه لايعيش إلا في داخل خلايا الكائنات الحية، حيث يحيا ويتكاثر بصورة مهوله ومفزعة، أما خارج خلايا الكائنات الحية فهو كبلورة الملح أو السكر الميتة أو الماسة العجيبة، ولذلك هو ينتشر في الهواء والماء والأجساد بطريقة سريعة ومفزعة، فقد استطاع أحد أنواع هذا الكائن الحي القضاء على عشرين مليون شخص في شهرين فقط.

وهو الآن يحدث أخطر الأمراض العصرية، واحتار العلماء والباحثون في علاجه، ويعود السبب في ذلك إلى قلة العلم بخصائصه الحيوية، وسرعة تغييره لتركيبه التي تعود إلى بساطة تركيبه إذا ما قورن بالبكتيريا والفطر فخليته تتكون عادة من الجزء الداخلي النووي،  والجزء الغلافي البروتيني، ولذلك يخرجه الباحثون من دائرة التركيب الخلوي المعهود.

حذيفة: صدق الله العظيم.. إن لله من الآيات ما لا يملك الكيان معه إلا السجود.

علي: لقد ذكر الله هذه العوالم، فقال، وهو يحثنا على استخدام المنهج العلمي الصحيح:{ فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ وَمَا لَا تُبْصِرُونَ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} (الحاقة:38 -40)

العناكب:

أمام محل خاص بالعناكب([10])، قال حذيفة: لقد ذكر الله تعالى العناكب وذكر بيوتها، فقال:{ مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا  يَعْلَمُونَ }    (العنكبوت:41)

وهذا مثل ضربه الله تعالى لكل من اتخذ من دون الله وليًا معتمدًا، يلجأ إليه، ويحتمي بحماه، وهو لا يجلب له نفعًا، ولا يدفع عنه ضرًّا، شبَّه فيه حاله هذه بحال العنكبوت اتخذت بيتًا؛ لتحتمي به من الأهوال والأخطار، وتأوي إليه، معتمدة على خيوطها القوية، وهي لا تدري أن هذا البيت لا يقي حرًّا، ولا بردًا، ولا يجير آويًا، ولا يريح ثاويًا.

علي: في تمثيل الذين اتخذوا من دون الله أولياء بالعنكبوت، وتمثيل أوليائهم ببيت العنكبوت تشبيه بليغ؛ إذ أن العنكبوت إنما تتخذ بيتها من خيوط رفيعة، تفرزه من غدد خاصة بذلك، وتوزعه مغازلها الصغيرة، فإذا لامس الهواء، تماسك وتصلَّب في صورة خيوط برَّاقة.

وهؤلاء الذين اتخذوا من دون الله أولياء؛ إنما أقاموا معتقدهم الفاسد، الذي يعتقدونه، ويلتمسون الطمأنينينة والأمن في ظله؛ إنما أقاموه من تلك الأبخرة العفنة، التي تتصاعد من مشاعرهم، فتتشكل منها تلك الأوهام الخادعة، ويقوم عليها ذلك البناء المتداعي.

بالإضافة إلى هذا فإن هناك حقائق علمية تختزنها هذه الآية:

أولها أن القرآن الكريم ذكر العنكبوت الأنثى فقد قال:{ اتَّخَذَتْ بَيْتاً}، وفي ذلك إشارة إلى حقيقة علمية مفادها: أن أنثى العنكبوت هي التي تحمل في جسدها غدد إفراز المادة الحريرية، هي التي تنسج البيت، وليس الذكر، وهي حقيقة علمية، لم تكن معلومة أيام نزول القرآن([11]).

ومثل إسناد اتخاذ بيت العنكبوت إلى الأنثى دون الذكر إسناد اتِّخاذ بيت النحل إلى الأنثى؛ كما أخبر الله تعالى عن ذلك بقوله:{ وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ }(النحل:68).

 فالخطاب في هذه الآية الكريمة موجه للأنثى دون الذكر، وهي النحلة الشغالة، التي تجمع الرحيق، وتصنعه عسلاً، بدليل قوله تعالى عقب ذلك:{ يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاء لِلنَّاسِ }(النحل:69). أما ذكور النحل فيوجد منهاعدد قليل، يلقح أحدها الملكة قبل أن تضع البيض، ثم يموت.

حذيفة: لقد قال تعالى:{ وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ }فأخبر أن بيت العنكبوت هو أوهن  البيوت على الإطلاق.. وهذه الآية لا تزال تحيرني، فالقرآن الكريم قد أخبر أن أوهن البيوت على الإطلاق هو بيت العنكبوت، ثم قيَّد هذا الخبر بقوله تعالى:{ لَوْ كَانُوا  يَعْلَمُونَ }، والعلم الحديث قد أثبت أن بيت العنكبوت منسوج من أقوى الخيوط، التي تستطيع مقاومة الرياح العاتية، ويمسك في نسجه فرائس العنكبوت، من الحشرات، التي هي أكبر من العنكبوت دون أن يتخرَّق.

علي: إن هذا يستدعي البحث عن سر كون بيت العنكبوت أوهن البيوت على الإطلاق، مع أنه منسوج من أقوى الخيوط على الإطلاق، وأكثرها مرونة؟ وكيف يجتمع في منشأة واحدة الحد الأدنى ‏من الوهن، والحد الأقصى من القوة والمرونة!؟

فالآية لم تقل (إن أوهن الخيوط لخيط العنكبوت)، وإنما قالت:{ وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ}، فالوهن الذي أخبر عنه القرآن الكريم ليس في خيط العنكبوت؛ وإنما هو في البيت، الذي نسج من ذلك الخيط.

فالعجيب أن من هذه الخيوط‏(القوية‏)‏ تصنع بيوت العنكبوت‏(الضعيفة‏)‏ الواهية والواهنة‏.‏ وإلى هذا يشير قوله تعالى:{ مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ }

فهي تذكر أن من يتوكل على غير الله‏، طالبًا المناصرة والمؤازرة‏، فإنه بذلك يختار، ويتخذ منهجًا واهيًا، وليس قويًّا‏؛‏ كما قد يتصور‏، فالعنكبوت مثلاً تنسج بيتها بنفسها‏، وتعتمد بالطبع على خيوطها‏‏ القوية، وتتصور أنها بذلك قد صنعت بيتًا قويًّا‏؛‏ ولكنه في الحقيقة واهن وضعيف في الهواء‏.‏ فكذلك هو الحال مع من يولي أمره لغير الله‏، ويتصور أن هؤلاء الأولياء بمجموعهم قد ينفعونه‏.‏ فهذا المنهج واهن‏.‏

والعبرة والعظة والإعجاز في هذا التشبيه القرآني نتلمسه في ضوء ما توصل إليه العلماء‏، فبيت العنكبوت بخيوطه القوية‏، يسهل إطاحته‏؛ ولكن إذا استعملت تلك الخيوط العنكبوتية في ظروف أخرى، وبمنهج آخر‏، فإنها تكون نسيجًا قويًّا جدًّا‏، وشديدًا في متانته، ويصلح لصد الرصاص‏.

أما وهن بيت العنكبوت من الناحية المادية، فلأنه مكون من مجموعة خيوط حريرية غاية في الدقة تتشابك‏‏ مع بعضها البعض تاركة مسافاتٍ بيْنِيَّة كبيرة في أغلب الأحيان‏؛ ولذلك فهو لا يقي حرًّ‏، ولا بردًا‏، ولا يحدث ظلاً كافيًا‏، ولا يقي من مطر هاطل‏، ولا من رياح عاصفة‏، ولا من أخطار المهاجمين‏.‏

ولهذا يغزل العنكبوت خيطًا من الحرير يُسمَّى: خيط الجذب، وخيط الحياة؛ وذلك لأنه يستعمله- غالبًا- في الهروب من الأعداء، فإذا أحس العنكبوت بخطر، يهدد نسيجه، فإنه يهرب من النسيج بوساطة خيط الجذب؛ ليختبئ بين الأعشاب، أو يبقى متعلقًا به في الهواء، حتى يزول الخطر، ثم يعود مرة أخرى إلى نسيجه عبر خيط الجذب.

ومن أخصِّ خصائص البيت وأوصافه أنه مأوى لصاحبه، يقيه من البرد والحر، ويحميه من أذى الكائنات، التي هي أقوى منه، وهذا كله لا يتوفر في بيت العنكبوت على الرغم من الإعجاز في بنائه.

وأما وهنه من الناحية المعنوية فلأنه بيت محروم من معاني السكن والمودة والرحمة، التي يقوم على أساسها كل بيت سعيد‏.‏

ولهذا عبَّر القرآن الكريم عنه بالبيت، لا بالمسكن؛ وذلك خلافًا لبيت النمل، الذي عبَّر عنه بالمسكن؛ كما في قوله تعالى:{ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ }(النمل:18).

وإنما سمِّيَ مسكنًا؛ لأنه سكن لصاحبه، وإلى هذا أشار الله تعالى بقوله:{ وَاللّهُ جَعَلَ لَكُم مِّن بُيُوتِكُمْ سَكَناً }(النحل:80)، ونحو ذلك قوله تعالى:{ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } (الروم:21).

وقد ثبت أن بيت العنكبوت لا يجير آويًا، ولا يريح ثاويًا؛ لأنه بيت لا طمأنينة فيه، لا لأصحابه، ولا لزواره؛ لأنه بيت لم يعَدَّ في الأصل للسكن؛ وإنما أُعدَِّ ليكون مصيدة، يقع في حبائله اللزجة كل من فكر بزيارته من الحشرات الطائرة المخدوعة.

بالإضافة إلى هذا.. فليس في بيت العناكب أي أمن، فالعنكبوت يأكل بعضه البعض. إذا ما وضعت عنكبوتين في قفص، فسيأكل واحد منهما الآخر.

النمل:

سار علي وحذيفة إلى محل خصص للنمل وأنواعه، فحذيفة: لقد ذكر الله تعالى النمل، فقال:{ حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} (النمل:18)

 علي: في هذه الآية إشارة علمية لم تكن معروفة في الزمن الذي نزل فيه القرآن الكريم، فقد ذكر الله تعالى أن النملة لدى تعرضها لأي ضغط تتحطم، كما قال تعالى على لسان النملة { لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ}

حذيفة: أنا لا أزال تعجب من ذلك، وأحتار في استعمال القرآن الكريم هذه الكلمة.

علي: إن كلمة (يَحْطِمَنَّكُمْ) دقيقة جداً من الناحية العلمية، ولم يكن ـ في زمن نزول القرآن ـ لأحد قدرة على دراسة تركيب جسم النملة أو معرفة أي معلومات عنه.

ولكن وبعد دراسات كثيرة تأكد العلماء أن للنمل هيكلا عظميا خارجيا صلبا جداً يسمى exoskeleton، وقد اكتشفوا أن جسم النملة مغلف بغلاف صلب جداً قابل للتحطم، أي ليس له مرونة تجعله ينحني مثلاً، بل يتكسر كالزجاج، ولذلك جاء البيان الإلهي ليتحدث عن هذه الحقيقة بكلمة (يحطمنكم)

حذيفة: لقد ورد في هذه الآيات ما يشير إلى التنظيم الواعي الذي يتمتع به عالم النمل، فقد ذكرت النملة أن لكل نملة مسكنها الخاص، وأن ذلك المسكن يحميها من الخطر، وأن خروجهم كان مضبوطا ضبطا معينا، وفوق ذلك أثبتت طاعة النمل لبعضه البعض، فلولا يقين النملة بطاعة الباقين لها ما نصحتهم تلك النصيحة.

علي: حذيفة صدق القرآن الكريم.. لقد صور العلم الحديث([12]) من مجتمعات النمل ما يدل على كل ما ذكرته الآية الكريمة.

بل إن وعي النمل يمتد إلى درجة التخطيط للمشاريع الكبرى، فقد نصت الاكتشافات على أنه من مظاهر مجتمع النمل قيامه بمشروعات جماعية مثل إقامة الطرق الطويلة في مثابرة وأناة، حيث تحرص مجموعاته المختلفة على الالتقاء في صعيد واحد من آن لآخر، ولا تكتفي هذه المجموعات بالعمل نهاراً، بل تواصله ليلاً في الليالي القمرية، مع لزوم مستعمراتها في الليالي المظلمة.

حذيفة: إن عالم النمل يستحق الاحترام حقا.

علي: ولذلك ورد النهي عن قتل النمل.. وقد رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم قرية نمل قد حرقت، فقال: من حرق هذه؟ قال الصحابة y: نحن، قال:(إنه لا ينبغي أن يعذب بالنار إلا رب النار)([13]

حذيفة: لقد ذكر الله كلام النملة.. فهل في العلوم التي توصل إليها البشر ما يثبت هذا، أو يقترب منه؟

علي: أجل.. لقد أثبت العلماء أن النمل يتكلم بلغته الخاصة، ومما اكتشفه العلم من لغة النمل ـ وهو ما يتفق مع لغات حيوانات أخرى ـ إصدار روائح معينة لها دلالتها التي يفهمها سائر النمل.

ويتكلم نمل الشجر في المناطق الاستوائية بلغة عجيبة، إذ يصعد إلى الشجرة ويدق دقات غير منتظمة، تقارب إشارات مورس التلغرافية، ويبلغ من قوتها أن تسمع من بعيد([14]).

حذيفة: لقد ذكر الله كلام النملة المؤنثة، وتنبيهها الباقي إلى الخطر المحدق بهم، فهل في العلم ما يدل على سر هذا التخصيص؟

علي: أجل.. وهذا من الحقائق العلمية المؤكدة والتي لم يكن لأحد علم بها زمن نزول القرآن، فقد أثبت العلم أن النملات المؤنثة هي التي تتولى الدفاع عن المستعمرة وحمايتها من أي خطر مفاجئ، وذلك بإصدار إشارات لبقية أفراد المستعمرة ليتنبهوا إلى الخطر القادم.

الذباب:

 سار علي وحذيفة إلى محل خصص للذباب وأنواعه، فقال حذيفة: لقد ذكر الله تعالى الذباب في القرآن الكريم، فقال:{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} (الحج:73).

فقد ضرب الله تعالى في هذه الآية مثلاً للذين كفروا، وهو أن ما يعبدون من دون الله لن يخلقوا ذباباً ولو اجتمعوا له، وإذا سلبهم الذباب شيئاً لا يستطيعون أن يسترجعوه منه.

علي: صدق الله العظيم ([15]).. لقد قام العلماء بتعريض أعداد كبيرة من ذبابة الفاكهة إلى العديد من أنواع الإشعاعات والمواد الكيماوية والحرارة الشديدة لإحداث طفرات عليها وتغير نوعها فلم يحصلوا إلا على ذبابات مشوهة وعقيمة وفاقدة لبعض أعضائها، ولم يحصلوا على أي تغيير مفيد لهذا الكائن الحي.

فإذا لم يستطيعوا تغيير ما هو موجود، فكيف يستطيعون إيجاد ما هو مفقود.

حذيفة: فما سر قوله تعالى:{ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} (الحج: 73)؟

علي: صدق الله العظيم، وقد أثبت العلم الحديث ما تحمله هذه الآية من حقائق العلم، فقد توصل العلماء إلى أنه لو وقف الذباب على قطعة بطيخ مثلاً يبدأ في إفرازاته التي تمكنه من امتصاص أو لعق المواد الكربوهيدراتية وغيرها مما تحتويه البطيخة، وعندئذ تبدأ هذه المواد بالتحلل إلى مواد بسيطة التركيب، وذلك من أجل امتصاصها.

وسر ذلك يعود إلى أن الذباب لا يملك جهازا هضميا معقدا، لذلك يلجأ إلى الهضم الخارجي، وذلك من خلال إفراز عصارات هاضمة على المادة المراد التغذية عليها.

ثم تدخل هذه المواد المهضومة خارج الجسم إلى الأنبوب الهضمي حتى يتم امتصاصها لتسير في الدورة الدموية إلى خلاياه ويتحول جزء منها إلى طاقة تمكنه من الطيران، وجزء آخر إلى خلايا وأنسجة ومكونات عضوية وجزء أخير إلى مخلفات يتخلص منها جسم الذباب، فأين قطعة البطيخ؟ وما السبيل إلى استرجاعها، ومن يستطيع أن يجمع الأجزاء التي تبدوا في طاقة طيران الذباب والأجزاء التي تحولت إلى أنسجة([16]).

النحل:

سار علي وحذيفة إلى محل خصص للنحل وأنواعه، فقال حذيفة: لقد ذكر الله تعالى النحل في القرآن الكريم، وأثنى عليه، فقال:{ وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (النحل:68 ـ 69)، فالآيتان تشيران إلى أن للنحل نظاما في منتهى الدقة والإحكام، فهل تمكن العلم من معرفة بعض ما يؤكد هذا؟

علي: أجل، فقد كشف العلم الحديث بعض أسرار الوحي الذي تتلقاه أمة النحل، وسأحدثك عن الناحيتين اللتين أشارت إليهما الآيتين، واعتبرتهما ثمرة وحي الله تعالى، وهما: بيوت النحل، والطرق ـ أو سبل الله كما يسميها القرآن الكريم ـ التي يسلكها النحل مهتديا بالوحي الإلهي([17]):

فأول ما يشير إلى اعتماد النحل على الوحي الإلهي هو بناء أقراص الشمع على هيئة خلايا سداسية تستعمل كمستودعات لاختزان العسل.. ويؤيد العلم الحديث هذا، فقد نص على أنه يكفي أن نتعرف على عظمة هذا الإعجاز الهندسي من علماء الرياضيات الذين يقولون بأن النحل يصنع خلاياه بهذا الشكل لأنه يسمح لها باحتواء أكبر عدد ممكن من أعضاء المملكة، وبأقل قدرة ممكن من الشمع الغالي اللازم لبناء جدرانها، وهي عملية عبقرية تبلغ درجة من الكمال تفوق كل عبقريات البشر مجتمعين.

أما الناحية الثانية التي أشار إليها القرآن الكريم فهي الطرق التي يسلكها النحل ليجمع رحيق الأزهار.. والعلم الحديث يؤيد هذا بالشواهد الكثيرة التي تحيل أن يفعل النحل ذلك بعقله الفطري البسيط، بل يحتاج إلى الوحي الإلهي الذي نص عليه القرآن الكريم.

حذيفة: لقد وردت النصوص بالنهي عن قتل النحل.. فما سر ذلك؟

علي: هل يجوز للمرء أن يقتل صديقه الودود؟

حذيفة: لئيم من يفعل ذلك.

علي: فالنحل أصدقاء حقيقيون للإنسان([18])، ولئيم من يتعرض لهم، فهم مساعدون رائعون في تقديم كل ما يجلب الخير والسعادة والعافية للبشر.

فهذه الحشرات الصغيرة تقوم بمهام جسام في حياة الإنسان، فهي علاوة على بنائها خلاياها بتلك الدرجة الرائعة من الدقة والتنظيم وتصنيعها للشمع والعسل وغيرها من المنتجات الهامة في تغذية الإنسان وشفائه من الأمراض، وفي تمتعه بصحة جيدة([19])، فإنها تقوم بتلقيح الأزهار في نفس الوقت الذي تقدم فيه بحركتها التي لا تفتر وعملها المستمر والدؤوب من غير كلل.

وعي الحيوانات

خرج علي وحذيفة من القسم المخصص بالحشرات، وراحا ينظران إلى سائر الحيوانات.. وحذيفة يسأل، وعلي يجيبه بما يعرفه من تفاصيل ترتبط بكل حيوان، ونحن خلفهما نسمع حوارهما الشيق، ونستفيد منه، وكان أكثرنا اهتماما بحديثهما صديقنا عالم الحيوان، فقد كان منسجما معهما انسجاما كليا، وكان كل مرة يود أن يتدخل، ولكنه يرى عليا يكفيه كل ما يريد أن يذكره، فيكتفي بالسماع.

تحت عشب شجرة ضخمة في تلك الحديقة الجميلة جلس علي وحذيفة، وجلسنا قريبا منهما، وهناك دار هذا الحوار الذي شد انتباه صديقنا عالم الحيوان، وجعله يغرق في كل كلمة يقولانها.

حذيفة: لقد أخبرت النصوص المقدسة عن الحياة العاقلة للحيوانات ـ التي نختصر معناها في نفوسنا في لحمها الشهي، أو صوفها الدافئ، أو وبرها الثمين ـ فقد ورد بأن لها من الإدراك ما يجعلها أمة من الأمم لا تختلف عن أمة الإنسان، فقال تعالى:{ وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ} (الأنعام:38)

فالآية تقرر حقيقة جليلة تهذب علاقتنا بغيرنا في هذا الكون، وهي أنه ما من دابة تدب على الأرض مهما اختلف نوعها ينتظم في أمة، ذات خصائص واحدة، وذات طريقة في الحياة واحدة، شأنها في هذا شأن أمم الناس([20]).

أمم الحيوانات:

علي: صدق الله العظيم.. إن في الآية حقائق جليلة، فلنبدأ بأولها، وهو كلمة الأمم الواردة في الآية([21]).

فالباحثون يؤكدون ـ اليوم ـ أن عالم الحيوان أشبه بالمدن الهائلة والشعوب المتعددة الأعراف والأعراق واللغات والعادات والأجناس التي لا حصر لها ويعجز العقل عن تصور أعدادها الهائلة والضخمة وأنسب وصف لهذه الكائنات ذوات الأعداد الهائلة هو مصطلح (الأمم) كما وصفها القرآن الكريم.

سأضرب لك بعض الأمثلة العددية التي تقرب لك هذا:

فعدد الطيور الجاثمة وحدها أكثر من 5000 نوع، وكل نوع من هذه الطيور هو أيضا أنواع عدة، فمثلا طيور الفران الأمريكية الإستوائية حوالي 221 نوعا صغيرة الحجم نوعا ما، وذوات عادات متنوعة جدا.

وهناك 223 نوعا من الطيور النملية والدج النملي والبيتا النملية مرتبطة ارتباط وثيقا بطيور الفران الأمريكية الجنوبية والوسطى.

وهكذا يعتقد العلماء بإمكانية وجود أكثر من عشرة ملايين نوع أو جنس من الحيوانات في العالم، ومع ذلك، فقد تكون هناك أنواع أخرى أكثر بكثير بانتظار اكتشافها.

تصنيف الحيوانات:

حذيفة: لقد ذكر القرآن الكريم من دلائل قدرة الله تعالى تنويع مخلوقاته، فلذلك كان كل ما ذكرته من الأنواع دليل على ذلك التنويع المقصود في الكون.

علي: أجل.. فالتنوع مظهر من مظاهر حكمة الله في الكون، ودليل من أدلة الوحدانية، لأن الربط بين المختلفات وتوجيهها وجهة واحد لا يكون إلا من إله واحد.

وهذا التنوع شامل لجميع الأشياء، فالأشياء تتنوع في المهام والوظائف والتراكيب الداخلية والأشكال الخارجية.

وبهذا التنوع جاءت النصوص لتدل أولا على أن عظمة الله تعالى لا تبدو في مجرد إيجاد الأشياء من العدم، بل بإبداعها بهذه الصور المختلفة، ليكون ذلك دليلا على توحيد الله وإبداعه، وهذه هي الفائدة المعرفية الكبرى في هذا التنوع.

أما الفائدة العملية الثانية، فهي الدعوة إلى المحافظة على هذا التنوع المحسوب بحساب دقيق، بحيث لا نعرض أي نوع منه للانقراض، كما يفعل المجرمون اليوم.

حذيفة: من أمثلة التنوع ما ذكره القرآن الكريم في قوله تعالى:{ وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (النور:45)

فالله تعالى ذكر من دلائل قدرته ومشيئته المطلقة أن حرك الحيوانات بطرق مختلفة تتناسب مع حاجاتها.

علي: صدق الله العظيم.. إن هذا النص الكريم يبين أن طرائق تحرك الدواب وسيلة من وسائل تصنيفها الجيدة‏([22]).. فحركة الدابة هي انتقالها من مكان إلى آخر سعيا وراء طلب الطعام والشراب‏، أو للهرب من الأعداء‏، أو للارتحال عند التغيرات البيئية إلى مكان أنسب‏.‏

رحمة الحيوانات:

حذيفة: من دلائل الوعي التام لأمم الحيوانات ما جعل الله فيها من الرحمة، فالرحمة لا تكون إلا من واع عاقل اكتمل وعيه وعقله.

وقد أخبر صلى الله عليه وآله وسلم عن اشتراك الإنسان مع هذه الأمم في الرحمة المنزلة على الكائنات من غير تمييز للإنسان، فقال🙁 إن للّه عزَّ وجلَّ مائة رحمة، فمنها رحمة يتراحم بها الخلق، وبها تعطف الوحوش على أولادها، وأخرّ تسعة وتسعين إلى يوم القيامة)، وفي حديث آخر قال صلى الله عليه وآله وسلم:( للّه مائة رحمة فقسم منها جزءاً واحداً بين الخلق، به يتراحم الناس والوحش والطير)

علي: نعم.. والتأمل البسيط في هذه العوالم يؤكد كل ما قاله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن هذه الأمم([23]).. فالكائنات الحيّة خطيرة وحسّاسة جدّا في حالة تعرّض صغارها لأيّ خطر، وردّ فعل هذه الكائنات الحية عند شعورها بالخطر هو الفرار إلى أماكن آمنة، وإذا تعذّر عليها النّأي بنفسها عن الخطر تُصبح هذه الكائنات متوحّشة وحادّة تجاه الخطر حفاظا على حياة الصّغار بشكل أساسيّ.

هندسة الحيوانات:

حذيفة: من دلائل الوعي التام لأمم الحيوانات التي ورد النص عليها في القرآن الكريم ما ذكره الله تعالى من وحيه للنحل بكيفية بناء بيوتها، فقال تعالى:{ وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ} (النحل:68)

علي: في هذه الآية إشارة عظيمة لحقائق كثيرة ترتبط بما حبا الله هذه الكائنات من علم بالهندسة التي يتطلبها بناء بيوتها ([24]).. فالحيوان على علم تام بكيفية بناء العش أو المسكن، وبالكيفية الخاصة بنوعه والمتميز بها عن الأنواع الأخرى اعتبارا من أول لحظة له في هذه الحياة، وكل نوع من أنواع الحيوانات يبني منزله بالكيفية نفسها في أية منطقة من مناطق العالم.

واللافت للنظر عند دراسة كيفية بناء الحيوانات لمنازلها ليس فقط التخطيط البارع وإنما التضحية والتعاون اللّذين يبديهما كل من الذكر والأنثى في البناء.

منطق الحيوانات

بينما كان علي وحذيفة في حديثهما ذلك إذ مر بهما رجل يحمل قفصا فيه ببغاء تكبر الله، وتسبحه، فتعجب حذيفة عجبا شديدا، وقال: لقد ذكرتني هذه الببغاء بقوله تعالى:{ وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ} (النمل:16)

فقد اعتبر سلميان u علم منطق الطير من العلوم الفاضلة.

علي: أجل.. فمن أكبر مظاهر كمال وعي الحيوان بنفسه خاصية التعبير عن نفسه وحاجاته.. وقد اجتهد العلماء المعاصرون لإدراك شيء من لغات الكائنات الحية ووسائل التفاهم بينها، مستخدمين في ذلك تقنيات خاصة حديثة لتسجيل الموجات الصوتية وتحويلها إلى رسم بياني منظور على أجهزة خاصة لتسجيل الذبذبات وقياس الفروق بين الأصوات التي لا نستطيع الأذن الآدمية تمييزها.

حذيفة: لقد ذكر القرآن الكريم منطق حيوانين هما الهدهد والنملة:

أما الهدهد فقد وردت قصته في قوله تعالى إخبارا عن بعض ما وهب سليمان u من الملك أنه ذات يوم:{ تَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ}(النمل:20)

وبنبرة الحزم التي تقتضيها السلطة، قال:{ لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ }(النمل:21)

وبعد مدة جاء الهدهد، ومعه الحجة التي يبرر بها غيابه، وهي حجة جعلته يدخل على سليمان u مزهوا فاخرا، ليقول له:{  أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ}(النمل:22)

ثم ذكر النبأ اليقين الذي جاء به، فقال:{ إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ }(النمل:23)

وبنبرة الغاضب لله قال:{  وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ}(النمل:24)

وبنبرة العارف بالله والناصح لخلق الله قال:{ أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (25) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (26)}(النمل)

وقد عبر عن معرفته لله بحسب حاله، فذكر من صفات الله أنه { يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ}

أما النملة، فقد وردت قصتها في قوله تعالى:{ حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِي النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ }(النمل:18)

وهي تمثل بقولها هذا عالما جليلا من عوالم الرحمة والتكافل والأدب مما يقصر الكثير من البشر المتطاولون عن البلوغ إليه.

فقد كانت في موضع تهديد بوطء جيش سليمان u لها، فلم تكتف في تلك اللحظة المملوءة بالرعب أن تفر بنفسها، بل التفتت إلى النمل من أصحابها أن يفروا بأنفسهم.

وهي في تلك اللحظة لم تتخل عن الأدب، فذكرت عذر سليمان u وجنوده، وهو أنهم قد يطؤونهم من غير شعور منهم، وهو خلق نبيل قل من يكون عليه من البشر.

علي: صدق الله العظيم.. أتدري سوء ما يفهمه بعض قومنا من هذا؟

حذيفة: وما يفهمون؟

علي: يقصرون الأمر على سليمان u، ويحجرون على غيره أن يكلم حيوانا، أو يكلمه حيوان.

حذيفة: صدقوا فيما ذهبوا إليه، فقد طلب سليمان u ملكا لا ينبغي لأحد من بعده، كما قال تعالى:{ قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} (صّ:35)، وهذا من ذاك.

علي: لو كان هذا من ذاك ما سمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الحيوانات، وهي تحدثه، ألم يرد في النصوص أن جملا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يشكو صاحبه، فقد دخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حائطا لرجل من الأنصار فإذا فيه جمل، فلما رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم حن وذرفت عيناه فأتاه رسول الله r فمسح ذفراه فسكت فقال: من رب هذا الجمل؟ لمن هذا الجمل؟ فجاء فتى من الأنصار فقال: لي يا رسول الله، فقال صلى الله عليه وآله وسلم:( أفلا تتقى الله في هذه البهيمة التي ملكك الله إياها فإنه شكا إلى أنك تجيعه وتذيبه) ([25]

حذيفة: صدقت.. ولكن ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

علي: لا بأس.. فقد أخبر صلى الله عليه وآله وسلم عند ذكره لعلامات الساعة:(والذي نفسي بيده لا تقوم الساعة حتى تكلم السباع الإنسان، وحتى تكلم الرجل عذبة سوطه وشراك نعله وتخبره فخذه بما أحدث أهله من بعده) ([26]

حذيفة: صدقت.. ولم أرد أن أجادلك في هذا.. ولكني أحببت أن أسمع منك ما ذكرته.. وإلا فإن النصوص الكثيرة تطفح بمثل هذا، ولكني أخشى أن يتسرب بعض هذا الحديث لمن لا يعون الحقائق، فيجعلون ذلك مسبة للإسلام.

علي: لا.. لن يفعلوا.. وإن فعلوا، فإن أول من يثور في وجههم هم علماء الحيوان أنفسهم.

حذيفة: كيف ذلك؟

علي: لأن علم الحيوان لا يسير نحو إثبات لغة الحيوان فقط، بل يسير نحو محاولة فهمها.

وسأضرب لك مثالا عن لغة من لغات الحيوانات، وهي لغة الرائحة، فقد أثبتت الدراسات العلمية ([27])  أن لكل نوع من أنواع الحيوانات رائحة خاصة به، وداخل النوع الواحد هناك روائح إضافية تعمل بمثابة بطاقة شخصية أو جواز سفر للتعريف بشخصية كل حيوان أو العائلات المختلفة، أو أفراد المستعمرات المختلفة.

وقد أثبت العلم([28])  أن للحيوان لغته الخاصة، فلكل نوع من أنواع الحيوانات لغة خاصة به، يتفاهم بها، ويتعارف مع غيره على أحوال ما حوله.. فهذه هي الدجاجة التي تصدر أصواتاً مميزة، فنرى صغارها أقبلت في سرعة تلتقط معها الحب.. وتصدر أصواتاً مخافة، فإذا بالصغار تهرول إلى العش في لحظة.. والنحلة إذا عثرت على حقل مزهر عادت إلى الخلية وما إن تتوسطها حتى ترقص رقصاً خاصاً، فإذا بالنحل يندفع إليها، ويسير خلفها إلى حيث تهديه النحلة إلى الزهور.

وقد لوحظ أن أسراب الفيلة، لا تكف لحظة عن غمغمة، طالما هي تسير في رهط، فإذا تفرقت الجماعة، وسار كل فيل على حدة انقطع الصوت تماماً.. ومن أعجب ما يؤيد لغة الفيلة، تلك الأصوات المزعجة التي تلاحظ عندما تجتمع الفيلة المحكوم عليه ليعيش وحيدا ويسير منفرداً.. فقد حكمت عليه الفيلة بالعزلة والوحدة.

***

 ما بلغ علي وحذيفة من حديثهما إلى هذا الموضع حتى أذن آذان المغرب، فقال علي لصديقه حذيفة: لقد انشغلنا بالحديث على هذه العوالم من خلق الله.. فلم ندري كيف مر كل ذلك الوقت.. فهيا بنا لنصلي لله الذي لم نر الخير إلا منه.

ثم سارا.. ولم ندر كيف جرى صاحبنا عالم الحيوان نحوهما، وهو يقول ـ وقد انشغل عنا كل الانشغال ـ: اعذراني.. لقد كنت أتنصت عليكما، وقد سمعت من حديثكما عجبا كثيرا، فكيف لي أن أتحقق منه؟

علي: لقد قلنا كلاما كثيرا.. فأي كلام تريد أن تتحقق منه؟

عالم الحيوان: تلك الآيات العجيبة من القرآن التي كنت تقرؤها..

علي: هي من كلام الله.. وهي في القرآن الكريم.. وهو كتاب الحقائق الأزلية.

ثم أخرج من محفظته مصحفا، وسلمه إياه، وقال: اسمعه بقلبك وعقلك ووعيك.. وسيحدثك من الأعاجيب ما لا يخطر لك على بال.

أمسك عالم الحيوان بالمصحف، كما يمسك أحدنا بالدرة اليتيمة، وقال: شكرا لك.. هذا أكبر تكريم كرمت به في حياتي.

أحسست بأنوار عظيمة تتنزل على صاحبي عالم الحيوان.. وبمثله شعرت بأن بصيصا من النور قد نزل علي.. اهتديت به بعد ذلك إلى شمس محمد صلى الله عليه وآله وسلم.


([1]) انظر: تفسير ابن كثير: 7/65.

([2]) هناك تفاصيل كثيرة مرتبطة برحمة الإسلام بالحيوان نتناولها في الجزء المعنون بـ (رحمة للعالمين) من هذه السلسلة.

([3]) رواه البخاري.

([4])انظر: من الآيات العلمية، الأستاذ عبد الرزاق نوفل.

([5]) في ظلال القرآن.

([6]) وردت كملة (الإبل)، وما يشير إليها (الناقة، والبحيرة، والسائبة، والوصيلة، والضامر، والجمل، والحام) في المواضع التالية:  الأنعام(144) الغاشية(17) الأعراف (73،40،77) هود(64) الإسراء(59) الشعراء(155) القمر(27) الشمس(13) الحج(27) المائدة(103)

([7]) انظر: كتاب رحيق العلم والإيمان، الدكتور أحمد فؤاد باشا.

([8]) ذكر بعض الباحثين بالنسبة للون أن كونها صفراء فاقع لونها، قد يشير إلى أنها شديدة البياض حيث تصف العرب الروم ذو البشرة البيضاء ببني الأصفر وللون الأبيض علاقة أيضاً بالإنتاج فهو عاكس للضوء والحرارة بعكس الأسود الذي يمتصهما وبالتالي يقلل الإنتاج خاصة في الصيف بينما الإنتاج في البقر الأبيض صيفاً إنتاجه وفير مثل الشتاء ذو المعدلات العالية في الإنتاج.

ولا نرى صحة تفسير اللون الأصفر باللون الأبيض، لأنه يخالف ظاهر ما يدل عليه القرآن.. وقد يكشف العلم في المستقبل خصائص معينة للأبقار الصفراء، فلا ينبغي الاستعجال في مثل هذا.

([9]) انظر: الأسرار الخفية في أصغر الكائنات الحية – معجزة علمية، بقلم الدكتور نظمي خليل أبو العطا.

([10]) انظر: مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ، بقلم الأستاذ محمد إسماعيل عتوك، باحث لغوي في الإعجاز البياني للقرآن الكريم ومدرس للغة العربية، موقع موسوعة الإعجاز العليمي في القرآن والسنة.. وقد ذكرنا العناكب هنا من باب التغليب لأن العلماء يصنفونها على أنها من العنكبيات، التي تختلف عن الحشرات في عدة أشياء. فالعناكب مثلاً لها ثمانية أرجل، بينما للنحل والنمل والخنافس والحشرات الأخرى ستة أرجل فقط.

وإضافة إلى ذلك تمتلك معظم الحشرات أجنحة، وقرون استشعار، وهذه غير موجودة في العناكب. وتشمل العنكبيات الأخرى: العقارب والحصَّاد والقُمّل، والقراد.

([11]) وإن اشترك الذكر في بعض الأوقات بالمساعدة في عمليات التشييد‏،‏ أو الترميم‏،‏ أو التوسعة‏،‏ فإن العملية تبقى عملية أنثوية محضة.‏

([12])  اقتبسنا هذه الاكتشافات من كتاب: رحيق العلم والإيمان الدكتور أحمد فؤاد باشا.

([13]) رواه أبو داود.

([14]) والعلم يقترب أكثر لمحاولة تحليل لغة النمل، وقد حاولت إحدى المهتمات بالإعجاز العلمي في القرآن الكريم بمحاولة مقابلة ما وصل إليه العلم من ذلك مع ما ورد في القرآن.

فوجدت أن العلم الحديث توصل إلى أن أهم وسيلة لتواصل النمل في مواقف الخطر والإبلاغ على هدا الخطر هي طريقة التواصل الكيماوية، حيث يصدر النمل أنواعا مختلفة من المواد.. كل مادة تعبر عن شيفرة  خاصة من الكلام، بحيث إذا تبعنا تسلسل إخراج هده المواد من النملة التي بلغت عن الخطر سنجده بالضبط يوافق ما ذكرته النملة في سورة النمل.

فالمواد الكيماوية التي تستخرجها النملة من جسمها في موقف كهذا تنقسم إلى أربع مواد مختلفة، كل مادة تحمل معها لغة وشفرة معينة من الكلام.

فأول مادة تصدرها النملة اذا شعرت بوجود الخطر هي مادةaldéhyde l’hexanal وهي تعد بمثابة صفارة إنذار، فالنمل عند استقباله لهذه المادة الأولى يقوم بالتمركز والانتباه لاستقبال باقي الإشارات ،وهذا ما يطابق تماما أول عبارة نطقت بها النملة بقولها:﴿ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ)(النمل: من الآية18)، فالياء هنا أداة للتنبيه والنداء (يا أيها)

ثم تقوم النملة بإصدار المادة الكيماوية الثانية وهي مادة l’hexanol، وهنا النمل يجري في كل الاتجاهات لمعرفة مصدر الخبر، ولكي لا يتوجه النمل بعيداً فيجب على النملة أن تحدد لهم الطريق الذي يسيرون فيه، وهذا ما فعلته نملة سليمان u عندما قالت:﴿  ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ)(النمل: من الآية18)، وهذا توجيه من النملة لزملائها أن يذهبوا باتجاه المساكن، إذن هي حددت لهم الطريق، وهذا ما يطابق توجيه حركة النمل.

والمادة الثالثة الكيماوية التي تصدرها النملة هي مادة l’undécanone، وهذه المادة دورها توضيح سبب الخطر لباقي النمل، وهو ما قامت به النملة في قولها في العبارة الثالثة:﴿لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ)(النمل: من الآية18)، وفي هده المرحلة التي يستقبل فيها النمل هذه المادة يدخل في استعداد لمواجهة هذا الخطر.

وفي المرحة الرابعة النملة تصدر مادة كيماوية خاصة le butylocténal  توجه بها  باقي النمل على الدفاع وعلى نوع هدا الدفاع، ولهدا نجد النملة ذكرت في عبارتها الأخيرة:﴿  وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ)(النمل: من الآية18)، وبهذا تكون النملة قد منعت باقي النمل من الانتقال إلى مرحلة الهجوم التي تؤدي إلى الموت، ولذلك فقد تبسم سليمان u وكأنه يطمئن هذه النملات أنه لا داعي للخوف لأنه يشعر بهم ويراهم وهو رحيم بهم ولن يمسهم بأي أذى.

انظر: الدفاع عن النفس عند النمل، وديعة عمراني، موقع موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة.

([15]) انظر: لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً، آلاء يوسف كبها، الجامعة العربية الأمريكية قسم الأحياء والتقنيات الحيوية فلسطين، جنين، موقع موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة.

([16]) انظر: آيات قرآنية في مشكاة العلم، يحيى المجري.

([17])انظر: كتاب « رحيق العلم والإيمان » للدكتور أحمد فؤاد باشا.

([18]) انظر: النحل والإنسان، الدكتور محمد نزار الدقر، موقع موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة.

([19]) سنتحدث عن التفاصيل المرتبطة بهذا الجانب في الفصل الخاص بـ (الداوء)

([20])  في ظلال القرآن: 2/1080.

([21])انظر: من آيات الله في الحيوانات، الأستاذ محمد محمد معافى علي، موقع موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة.

([22])انظر بحثا في تفسير الآية للدكتور زغلول النجار نشر على جريدة الأهرام العدد (42812) التاريخ 3 محرم 1425 هـ 23 فبراير 2004.

([23]) انظر: كتاب التضحية عند الكائنات الحية، الدكتور هارون يحي.

([24]) انظر: كتاب التضحية عند الكائنات الحية، هارون يحي.

([25]) أحمد وأبو داود.

([26]) نقلا عن: معتصر المختصر: 1/57.

([27])انظر: رحيق العلم والإيمان، للدكتور أحمد فؤاد باشا.

([28])كتاب (الله والعلم الحديث) عبد الرزاق نوفل.

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *