سادسا ـ الإمام

سادسا ـ الإمام

خرجت من القاهرة بعد أن فتح الله علي من علومها ما لا أزال أتزود به … لأسير منها إلى تركيا حيث تقيم جبال (بارلا) الشامخة …وكان فيها، في ذلك الوقت رجل لا يقل عنها شموخا.

لقد كان فيها بديع الزمان النورسي([1]) … وكان هو الوارث السادس الذي تلقيت منه علوم الإمامة([2]) … وعلمت عن طريق مرآته الصافية أن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم هو سيد الأئمة.. وأن ما قام على يده من فتوح في عالم الإمامة لم يفتح لغيره.

في ذلك الوقت كان استبداد (أتاترك)([3]) قد بلغ أشده، فصار يتدخل في الشؤون الخاصة لرعيته.. لا يهدف من ذلك إلا لهدف واحد هو محو الإسلام من تلك الأرض التي احتضته قرونا طويلة..

 لقد منع تدريس الدين في المدارس كافة، وأمر بتبديل الأرقام والحروف العربية في الكتابة إلى الحروف اللاتينية، وحرم الأذان الشرعي وإقامة الصلاة باللغة العربية، وأُعلنت علمانية الدولة، فمُنع القيام بأي نشاط أو فعالية في صالح الإسلام، وحُظر طبع الكتب الإسلامية،وأُرغم الناس على تغيير زيهم إلى الزي الأوروبي، فالرجال أُرغموا على لبس القبعة، والنساء أرغمن على السفور والتكشف..

وشكّلت محاكم زرعت الخوف والإرهاب في طول البلاد وعرضها، ونصبت المشانق لعلماء أجلاّء، ولكل من تُحدثه نفسه بالإعتراض على السلطة الحاكمة.

فساد جو من الذعر والإرهاب في أرجاء البلاد، حتى أصبح الناس يخفون القرآن الكريم عن أنظار موظفي الدولة، ونشطت الصحافة في نشر الابتذال في الأخلاق والاستهزاء بالدين، فانتشرت كتب الإلحاد، وحلت محل كلمات (الله، الرب، الخالق، الإسلام) كلمات (الطبيعة، التطور، القومية التركية)

في ذلك الجو الشديد القاسي كان بديع الزمان في قمة من قمم تلك الجبال التي تملأ الناظر إليها رعبا.. ولم يكن وجوده هناك هروبا من واقع مر لم يستطع إصلاحه.. وإنما كان وجودا اضطراريا.. ولكنه مع ذلك لم يمنعه من أن يمارس وظيفة الإمامة التي ندب لها.. والتي ورثها من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم..

وقد كانت قمم تلك الجبال هي الفوانيس التي قهرت ذلك الظلام الذي ملأ أرض تركيا وحشة.. ومثلها كثير من بلاد الإسلام.

في أول خطوة لي في (بارلا) لقيني رجل بهيئة وحش كاسر.. لم يكن يبدو منه سوى أسنانه الممتلئة بالقذارة..

نظر إلي نظرة ممتلئة بالقسوة، وكأنه يهم أن يفترسني، ثم قال: لا شك أنك لا تعرفني..

قلت ـ متعجبا من سؤاله ـ: نعم لا أعرفك.. ولا حاجة لي أن أعرفك.. فمثلك ممن يزهد الناس في التعرف عليهم.

أرسل ضحكة عالية، وقال: في كل الأوقات وفي كل البلدان يمكنك أن تقول ذلك إلا في هذا الوقت وفي هذه البلاد..

أشار إلى نفسه معتزا، وقال: في استطاعتي أن أفعل بك ما أشاء.. في استطاعتي أن أجعل من قمم هذه الجبال قبرا يضمك مدى الدهر.. وفي استطاعتي أن أعلق رقبتك على أي مشنقة أشاء.. وفي استطاعتي أن أحولك عبدا رقيقا لا هم له إلا تنظيف أسناني التي يستقذر الناس النظر إليها.

قلت: فأنت مجرم إذن.. يوشك أن تقبض عليك الشرطة لتملأ بك سجونها، أو لعلها تضع رقبتك في المشنقة التي تريد أن تضع رقبتي عليها.

أرسل ضحكة عالية، وقال: فأنت لا تعرفني.. ولا تعرف هذه البلاد.. أنا هو الشرطة التي تتحدث عنها.. لقد علقتُ بيدي على المشانق خمسة آلاف ومائتين وستة عشر شخصاً في اثني عشرة سنة الماضية([4]).

قلت ـ والدهشة تملؤني ـ: أهذا سلوكك وحدك.. أم سلوك جميع أصحابك؟

ضحك ضحكة عالية، وأشار إلى مغارة في تلك الجبال، وقال: أترى تلك المغارة؟

قلت: أجل.. ما بها؟

قال: لقد التجأ ما يقرب من ألف وخمسمائة شقي إلى هذه المغارة، وما بقربها من المغارات، فأتت طائراتنا الحديثة.. وألقت قنابل مكثفة عليهم، فكانت الانفلاقات مستمرة حتى طهرت تلك البقاع من العصاة، حيث أحرقت جميع القرى التي التجأ اليها الاشقياء، وامتلأ وادي زيلان بجثث الذين أبيدوا ([5])..

امتلأت رعبا من حديثه هذا، فقلت: ما الذي تريد بكل ما ذكرته لي؟

أرسل ضحكة عالية، وقال: لا زلت لا تعرف هذه البلاد.

قلت: ما علاقة حديثك هذا بهذه البلاد؟

قال: أنت لا تعرف سياستها.. أنت تعرف فقط أرضها وجبالها وأشجارها.

قلت: فما سياستها؟

قال: ما كنت أذكره لك..

ثم غير لهجته ليبدو كوحش كاسر، وقال: إن سياستنا تعتمد التخويف.. وبث الرعب.. فإذا امتلأت النفوس رهبة سهل على ساستنا بعد ذلك أن يملوا على هؤلاء الحمير ما يشاؤون.

قلت: ولكني لست حمارا.

قال: لن تصير مواطنا صالحا حتى تصير حمارا.. فإن أبيت، فإن كل شرطي من أصحابي يحن إلى أن يرى دمك، وهو يسيل على الطرقات..

قال ذلك، ثم نظر نظرة قاسية إلي، وقال: أظنك قد فهمت رسالتي..

قلت: فهمت خطرك.. ولكني لم أعرف رسالتك.

قال: بهذه الجبال رجل يسمى (بديع الزمان) لا نريد منك أن تراه.. ولا أن تسمع أي كلمة من كلماته..

ولهذا الرجل أتباع، هم يختفون كما تختفي الأشباح، فإياك أن تلتقي بهم أو تحدثهم.

ولهذا الرجل رسائل يسميها (رسائل النور) فإياك أن تقرأها.

ما قال ذلك حتى ناداه رجل آخر هو أعلى منه درجة ليصب فيه ما صب في من غضب.

نظر الوارث إلينا، وقال: لقد كانت كلمات هذا الشرطي الشديدة نعمة لا تدانيها أي نعمة، فبسببها تعرفت على تلاميذ بديع الزمان، وبسببها التقيت به، وبسببها قرأت رسائل النور.. مع أني لم أكن في الأصل إلا مارا بتلك البلاد، ولم يكن لي نية بالمقام فيها.

قالت الجماعة: حدثنا كيف التقيته؟

استغرق الوارث فترة، وكأنه يريد أن يصور لنا ما لا تستطيع العبارات أن تصوره، ثم قال: لن أحدثكم كما تعودت أن أحدثكم.. ولكني سأذكر لكم بدل ذلك ما يمكن أن تستفيدوا منه..

نعم هي استنتاجات مني.. ولكنها استنتاجات وجدت لها من البراهين التي يصدقها ما ملأ قلبي ببرد اليقين.

لقد رأيت في بديع الزمان وفي الثلة الذين كانوا معه، وتربوا على يديه، أربع صفات، لا يمكن اجتماعها إلا في الوارث الحقيقي الذي ورث النبوة في هذا الجانب..

ورأيت ـ بأسباب لا يمكن أن أذكرها لكم هنا ـ أن هذه الصفات الأربع هي الصفات اللازمة للإنسان الكامل في هذا الجانب الخطير من جوانب شخصيته.

قلنا: فما هذه الصفات الأربع؟

قال: التجرد.. والتميز.. والهمة.. والبصيرة.

قلت: فهل تراها منحصرة؟

قال: أجل.. فلا يمكن للإمام الذي ينهض للإصلاح أن يكون إماما من دونها.. فالإمام لابد أن يتجرد للحق، فلا يخلطه بأي غرض.. ولا بد أن يكون له من المزايا ما يجعله أهلا لأن يمارس هذه الوظيفة الخطيرة.. ولا بد أن يكون له من الهمة ما يطيق به تحمل المشاق التي تفرضها هذه الوظيفة.. ولا بد ـ في الأخير ـ أن يكون له من البصيرة ما يستطيع أن يمارس ما تتطلبه هذه الوظيفة من سلوك.

التجرد

قلت: فحدثنا عن الأول.

قال: لقد كان أول ما لاحظته من سلوك بديع الزمان هو تلك الروحانية العجيبة التي جعلته متوجها لله وحده.. فلم يكن يشغله عن الله أي شاغل..

كان في صلاته عظيم الخشوع.. يقرأ القرآن آية بعد آية..وبعدما يقف منتصباً للصلاة كان يكبر بصوت عال جداً يكاد دويه يهز البيت الخشبي الذي يسكنه، وكانت الرهبة تملؤنا ونحن خلفه مأمومون.

ولم يكن يبالي بالبرد القارس، ولا بالمطر إذا ما حان وقت الصلاة، بل كان يؤديها في أوقاتها في الحل والترحال، وكان يقول: (إن اكثر من مائة مليون شخص من كل أرجاء العالم الإسلامي يجتمعون في الجامع المعظم ويشكلون جماعة كبرى لأداء كل صلاة في وقتها، فكل فرد من هذه الجماعة يدعو للجماعة كلها بقوله:{ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} (الفاتحة:6)، فهذه الآية الكريمة تصبح بمثابة دعاء وشفيع لكل فرد من أفراد الجماعة..)([6])

أنا شخصيا كنت أنشرح كثيراً عندما أصلي مقتدياً به، مع أني لم أكن ذلك الحين إلا مجرد ممثل يريد أن يبحث عن الحقيقة، ويتيقن بها يقينا لا يزاحمه الشك.

لقد كان قيامه للصلاة يزيد الإنسان رهبة وخشوعاً، وكان يرشدنا إلى أن التسبيحات والأذكار عقب الصلاة إنما هي بحكم نوى للصلاة وبذورها، وكان يسبّح ويذكر الله بصوت رخيم حزين، فعندما يقول: سبحان الله.. سبحان الله كنا نسمعه يصدر على مهل من أعماق أعماق قلبه.

وعندما كان يقول: لا اله الاّ الله، ويبدأ بالتسبيحات ويستمر بها يصبح صوته كفرقعة المدافع في قوته وشدته، فلو كان عنده شخص من الصوفية لأخذته الجذبة والشوق.

وكان من عاداته أنه كان يقضي الليالي بالتسبيح والتهليل والدعاء والمناجاة والتهجد، وكان على وضوء دائم، وكان جيرانه في إسپارطة وبارلا واميرداغ يقولون لنا: (كلما نظرنا إلى بيت الأستاذ في الليل رأينا مصباحه الخافت مضاء ونسمع أنين أذكاره الحزين ودعاءه الرقيق)

***

بعد أن رأيت هذا وغيره منه ـ مما لا يمكن وصفه ـ سألته، ولم يكن معي حينها غيره: يا إمام.. أرى عليك سيما العباد والزهاد.. وأرى في عينيك أشواق الأولياء والعارفين.. فلم لا تتمحض لهذا، وتتفرغ للعبادة، وحينها لن يصيبك أي بأس.. لن تبحث عنك الشرطة، ولن تسجن في سجونها، ولن يحذر منك أي أحد؟

التفت إلي، وقال: هل أنا عبد سعيد([7])، أم أنا عبد الله؟

قلت: بل أنت.. ونحن جميعا.. وكل ما في الكون عباد لله.

قال: فهل عبد الله هو الذي يعبد الله كما أمر الله، أم يعبد الله كما أمر هواه؟

قلت: بل يعبده بما أمر بأن يعبد به.

قال: فماذا أفعل في التعاليم المقدسة التي أمرني الله فيها بألا أترك الدعوة إليه.. ماذا أفعل في تلك النصوص المقدسة التي تأمرني أن أطرح جلابيب الكسل، وأتزر بإزار الجد والقيام..

ألم تسمع إلى الله وهو يخاطبنا بقوله:{ يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2)} (المدثر)؟

قلت: بلى.. سمعتها.. ولكن الخطاب موجه فيها لمحمد باعتباره رسولا لله.. وليس الخطاب فيها لسعيد، ولا لغير سعيد.

قال: الوارث الكامل لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو الذي ينصبغ بصبغته، فلا يتخذ غيره أسوة.. ولذلك تجده يشعر أن كل خطاب موجه لرسول الله موجه له، وأن كل دعوة لرسول الله هي دعوة له، وأن كل هم اهتم به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو هم له.. لا يسعه أن يتركه أو يتكاسل عنه.

ألم تسمع إلى الله، وهو يبين ذلك التجرد الكامل لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للدعوة إلى الله.. فلم تحل بينه وبينها الحوائل، ولم تبعده عنها المغريات.. لقد قال الله تعالى يخاطبه، ويخاطب ورثته:{ فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (8) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9)} (القلم)

لقد كان جميع الذين اجتمعوا لحرب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يهتمون بشيء كاهتمامهم بأن يترك صلى الله عليه وآله وسلم ذلك التجرد للحق، ثم يلين لما يطلبون، ويداهن كما يداهن المنافقون.. لكن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم كان كالجبل الأشم لم يخضع ولم يساير ولم يصانع ولم يداهن:

لقد قال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لعمه أبى طالب: (يا عماه، والله لو وضعوا الشمس فى يمينى، والقمر ‏فى يسارى على أن أترك هذا الأمر ما تركته، حتى يظهره الله أو أهلك فيه)

لقد وردت الروايات الكثيرة تخبر عن الجهود الجبارة التي بذلها المشركون ليحولوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن المسار الذي اختباره الله له، لكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يساوم في دينه، وهو في أحرج المواقف العصبية في مكة.. أو هو محاصر بدعوته، وأصحابه القلائل يتخطفون ويعذبون ويؤذون في الله أشد ‏الإيذاء وهم صابرون.. ولم يسكت عن كلمة واحدة ينبغي أن تقال في وجوه ‏المتجبرين تأليفاً لقلوبهم أو دفعاً لأذاهم.

من صور المساومة التي حاولت أن تثني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن ذلك التجرد الذي تجرده للحق.. ما حدث به ابن اسحق قال: اعترض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يطوف بالكعبة ـ فيما بلغني ـ الأسود ‏بن المطلب بن أسد ابن عبد العزى والوليد بن المغيرة، وأمية بن خلف، والعاص ‏بن وائل السهمي. وكانوا ذوي أسنان في قومهم. فقالوا: يا محمد، هلم فلنعبد ‏ما تعبد، وتعبد ما نعبد، فنشترك نحن وأنت في الأمر. فإن كان الذي تعبد خيراً ‏مما نعبد كنا قد أخذنا بحظنا منه، وإن كان ما نعبد خيراً مما تعبد كنت قد أخذت ‏بحظك منه! فأنزل الله تعالى فيهم (سورة الكافرون).

لقد كانت تلك السورة القصيرة بآياتها، العظيمة بمعانيها هي سورة البراءة والتجرد التام للحق من كل شائبة من شوائب الهوى والشرك والباطل..

***

في ذلك الحين.. دخل علينا رجل لم أكن أعرفه من قبل.. ما سمعنا نتحدث بتلك الأحاديث حتى راح يندمج معنا اندماجا كليا، وكأنه قد وجد ضالته لدينا.. ولذلك ما انتهى بديع الزمان من حديثه حتى راح يسأله قائلا: يا إمام.. أنا من غير هذه البلاد.. لقد لجأت إليك من بلاد بعيدة.. رأيت فيها من قومي من يمارس من الأساليب ما لم أرتضه.. بل ما رأيت أنه ينحرف تماما بالمنهج الذي جاء الإسلام به..

قال بديع الزمان: وما يفعل هؤلاء؟

قال الرجل: هم يؤسسون أحزابا، ويمارسون السياسة، ويتصارعون فيها مع خصومهم كما يتصارع الديكة..

قال بديع الزمان: ما أفلح من صارع.. ألم يعلموا أن الإسلام دين سلام؟

قال الرجل: هم يعلمون ذلك.. ولكنهم يقولون: الباطل في حرب مع الحق.. ولا يمكن للحق أن ينتصر ما لم يصارع الباطل.

قال بديع الزمان: يصارعه بسيوف الحق، لا بسيوف الباطل.. حدثني عن هؤلاء: إلام يدعون؟

قال الرجل: إلى دولة الإسلام ونظام الإسلام.

قال بديع الزمان: فهل تمكن الإسلام من نفوسهم، بحيث اكتملت وراثتهم لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟

قال الرجل: لا.. بل الكثير منهم ـ كما ذكرت لك ـ لا يختلف في سلوكه عن خصومه.

قال بديع الزمان: فكيف يدعو مثل هذا إلى نظام الإسلام، وهو لو يقم نظام الإسلام في نفسه؟.. وكيف يدعو مثل هذا إلى دولة الإسلام، وهو لم يقم دولة الإسلام في قلبه؟

ثم سكت قليلا، وقال: ألم يدخل المغرضون والمنافقون والمصلحيون مع هؤلاء؟

قال الرجل: بل دخل الكثير منهم.. بل سيطر الكثير منهم على أجهزة تلك الأحزاب.

قال بديع الزمان: لم؟

قال الرجل: لقد لاحظوا أن العامة من الناس تبع لكل من يلهج باسم الإسلام، فلذلك صاروا لا يعطون أصواتهم إلا لهم.

قال بديع الزمان: فهل وفوا بما وعدوهم به؟

قال الرجل: كلا.. وهذا ما جئت أسألك عنه.. لقد شوهوا الإسلام أعظم تشوبه.. فهم لم يكسبوا من الإسلام الذي طالبوا بتحكيمه سوى بطون منتفخة، وسيارات فارهة، وقصور عامرة.

نظر بديع الزمان إلى الأفق البعيد، ثم قال: ألم يكن لهؤلاء أسوة بالإنسان الكامل الذي جعله الله شمسا تستنير بها الحقائق؟ أم أنهم يتوهمون أنفسهم أكثر فطنة منه؟

لقد حدث الرواة أنه صلى الله عليه وآله وسلم أتى ‏بني عامر بن صعصعة، فدعاهم إلى الله، وعرض عليهم نفسه، فقال له رجل منهم ‏ـ يقال له بحيرة بن فراس ـ: والله لو أني أخذت هذا الفتى من قريش لأكلت به العرب، ‏ثم قال له: أرأيت إن نحن تابعناك على أمرك ثم أظهرك الله على من يخالفك أيكون ‏لنا الأمر من بعدك؟ قال: الأمر لله يضعه حيث يشاء، فقال له: أفنهدف ‏نحورنا للعرب دونك فإذا أظهرك الله كان الأمر لغيرنا! لا حاجة لنا بك.

ألم يقرأ هؤلاء سيرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟

لقد عرضت عليه المناصب الرفيعة.. وكان يمكنه صلى الله عليه وآله وسلم أن يستغلها ليبث من دعوته ما شاء أن يبث، لكنه لم يفعل لأن الدعوة إلى الله لا يمكن أن تؤدي ثمارها بهذه الأساليب العقيمة.

لا يمكن لأحد أن يقيم أمة على أعمدة حزب سياسي يمكن أن ينهار بأي فضيحة قد يتلبس بها أي مغرض دخل الحزب، أو أي مغرض يريد أن يحطمه.

إن المنهج الصحيح الذي دعانا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى استعماله هو ذلك المنهج الذي مارسه صلى الله عليه وآله وسلم في حياته.. وهو منهج بعيد تماما عن تلك المناهج التي يمارسها الساسة،والتي يتصارعون من أجلها.

سكت قليلا، ثم قال: لقد ذكرني حديثك هذا بتهمة نسبت لي في يوم من الأيام، وكان يمكنني لو صدقتها بسلوكي، أو صدقها تلاميذي أن تجعل من كل تلك الثمرات العظيمة التي هيأها الله لنا سرابا لا يسمن ولا يغني من جوع..

أذكر أني وقفت في تلك المحكمة التي وجهت لي تلك التهم بقوة، وقلت([8]): نحن طلاب النور من ورثة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم آلينا على أنفسنا ألاّ نجعل من أنفسنا أداة طيعة للتيارات السياسية، بل للكون كله، فضلاً عن أن القرآن الكريم قد منعنا بشدة من الاشتغال بالسياسة.

نعم، إنا نشعر أن مهمتنا الأساسية هي: خدمة القرآن الكريم، والوقوف بصرامة وحزم في وجه الكفر المطلق الذي يودي بالحياة الأبدية ويجعل من الحياة الدنيا نفسها سماً زعافاً وجحيماً لا تطاق.

ومنهجنا في ذلك: هو إظهار الحقائق الإيمانية الناصعة المدعمة بالأدلة والبراهين القاطعة التي تلزم أشد الفلاسفة والمتزندفة تمرداً على التسليم بالإيمان.. لذا فليس من حقنا أن نجعل من أشخاصنا أداة لأي شئ كان، وذلك لأسباب:

أولاً: كي لا تحول الحقائق القرآنية التي تفوق الألماس نفاسة إلى قطع الزجاج المتكسر في نظر أهل الغفلة، حيث يتوهمونها كأنها دعاية سياسية تخدم أغراضاً معينة، وكي لا نمتهن تلك المعاني القرآنية القيمة.

ثانياً: إن منهجنا يتمثل في الشفقة والعدل والحق والحقيقة والضمير.. وكل هذه المعاني تمنعنا بشدة عن التدخل في الأمور السياسية أو بالسلطة الحاكمة، لأنه اذا كان هناك بعض ممن ابتلوا بالإلحاد واستحقوا بذلك العقاب، فإن وراء كل واحد منهم عدداً من الأطفال والمرضى والشيوخ الأبرياء. فاذا نزل بأحد أولئك المبتلين المستحقين للعقاب كارثة أو مصيبة، فإن أولئك الأبرياء أيضاً سيحترقون بنارهم دون ذنب جنوه.

ثالثا: إن حصول النتيجة المرجوة من ممارسة السياسة أمر مشكوك فيه، لذا مُنعنا بشدة عن التدخل في الشؤون الإدارية بما يخل بأمن البلاد ونظامها عن طريق وسائل سياسية.

رابعا: في زمن عجيب كزماننا هذا، لا بد من تطبيق خمسة أسس ثابتة، حتى يمكن إنقاذ البلاد وإنقاذ الحياة الاجتماعية لأبنائها من الفوضى والانقسام. وهذه المبادئ هي: الاحترام المتبادل.. والشفقة والرحمة.. والابتعاد عن الحرام.. والحفاظ على الأمن.. ونبذ الفوضى والغوغائية، والدخول في الطاعة.

قال الرجل: لقد ذكرت لهم ما ذكرت لي، ولكنهم قالو: كيف نترك السياسة للمخربين والمجرمين والمستبدين؟

قال بديع الزمان: ألم ير هؤلاء غير الساسة.. أغير هؤلاء الواقع بجميع مجالاته، ولم يبق لهم إلا الساسة.. أجلس هؤلاء على جميع الكراسي، وأجلسوا الإسلام، ولم يبق لهم إلا تلك الكراسي التي يجلس عليها الساسة.

قال الرجل: هم يقولون بأن جميع الكراسي تبع لكرسي السياسي.

قال بديع الزمان: لقد ضل هؤلاء ضلالا بعيدا.. فكرسي الساسة هو أضعف الكراسي، وأقلها غنى..

ألم يقرأ هؤلاء التاريخ، ليروا كيف تنهار السياسات، وكيف تتحطم الأحزاب.. بينما أصحاب الحق المتجردين للحق لا تؤثر فيهم الأعاصير، ولا تجتثهم العواصف؟

سكت قليلا، ثم قال: لقد ذكرتني بسعيد القديم.. لقد خاض سعيد القديم غمار السياسة ما يقارب عشر سنوات علّه يخدم الدين والعلم عن طريقها. فذهبت محاولته ادراج الرياح، اذ رأى أن تلك الطريق ذات مشاكل، ومشكوك فيها. وأن التدخل فيها فضول ـ بالنسبة اليّ ـ فهي تحول بيني وبين القيام بأهم واجب. وهي ذات خطورة. وأن أغلبها خداع وأكاذيب. وهناك احتمال ان يكون الشخص آلة بيد الأجنبي دون أن يشعر.

وكذا فالذي يخوض غمار السياسة إما أن يكون موافقاً لسياسة الدولة أو معارضاً لها، فإن كنت موافقاً فالتدخل فيها بالنسبة اليّ فضول ولا يعنيني بشئ، حيث أنني لست موظفاً في الدولة ولا نائباً في برلمانها، فلا معنى ـ عندئذٍ ـ لممارستي الامور السياسية وهم ليسوا بحاجة إليّ لأتدخل فيها.. وإذا دخلت ضمن المعارضة أو السياسة المخالفة للدولة، فلابد أن أتدخل إما عن طريق الفكر او عن طريق القوة. فإن كان التدخل فكرياً فليس هناك حاجة إليّ أيضاً، لأن الأمور واضحة جداً، والجميع يعرفون المسائل مثلي، فلا داعي إلى الثرثرة. وإن كان التدخل بالقوة، أي بأن أظهر المعارضة بإحداث المشاكل لأجل الوصول إلى هدف مشكوك فيه. فهناك احتمال الولوج في آلاف من الآثام والأوزار، حيث يبتلي الكثيرون بجريرة شخص واحد. فلا يرضى وجداني الولوج في الآثام وإلقاء الأبرياء فيها بناء على احتمال او احتمالين من بين عشرة احتمالات، لأجل هذا فقد ترك سعيد القديم السياسة ومجالس السياسة([9]).

قال الرجل: فما البديل الذي رآه سعيد الجديد صالحا؟

قال بديع الزمان: لست أنا الذي يضع البديل.. البديل وضعه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. البديل هو ذلك السلوك الرفيع الذي يمتلئ به الداعية إلى الله.. وهو ذلك الإخلاص والتجرد والبعد عن كل الأغراض الذي كان عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وورثته من بعده..

قال الرجل: والسياسة.

قال بديع الزمان: ليس الساسة إلا عامة جلسوا على  تلك الكراسي.. هم يجلسون فيها بنفوسهم وبطباعهم وبأخلاقهم.. وليس الساسة إلا ثمرة من بذور الرعية، فإن صلحت البذور صلحت لا محالة الثمار.. وإن فسدت البذور، فمن العبث محاولة تغيير الثمار.. فلا يمكن أن يجني أحد من الشوك العنب.

قال الرجل: فكيف نغيرهم؟

قال بديع الزمان: إذا غيرنا العامة تغيروا.. ألم أقل لك: إن الساسة ليسوا سوى عامة.. فإذا غيرنا العامة وهذبنا سلوكهم، ورفعنا أخلاقهم، وربطناهم بالله.. فإننا ننشئ منهم دولة الله التي لا تستطيع أي قوة في الدنيا أن تحطمها؟

انصرف الرجل، وهو يقول: صدقت.. دولة الله التي يحكمها الله لا يمكن أن تنشئها الأهواء.. ولا الأغراض.. دولة الله لا يمكن أن ينشئها إلا الأرواح المتجردة من غير الله.

سألت النورسي عن هذا الرجل الغريب الذي دخل، ثم خرج من غير أن يعرفنا بنفسه، فقال لي: ذلك شيء لا يمكن أن تفهمه الآن..

قلت: فقربه لي..

قال: لقد قال الله تعالى يصف الإخوان في الجنة:{ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} (الحجر: 47)، وقد ذكر المفسرون في تفسيرها قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا دخل أهل الجنة الجنة اشتاقوا إلى الإخوان فيجيء سرير هذا حتى يحاذي سرير هذا فيتحدثان فيتكىء ذا ويتكىء ذا فيتحدثان بما كانا في الدنيا فيقول أحدهما لصاحبه يا فلان تدري أي يوم غفر الله لنا يوم كنا في موضع كذا وكذا فدعونا الله فغفر لنا)([10])

قلت: ذلك في الجنة..

قال: وفي الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة..

***

لم يكن بديع الزمان وحده بذلك التجرد.. بل كان الكل.. كل الذين كانوا معه كانوا في منتهى الصفاء والإخلاص والتجرد..

لا يمكنني أن أحدثكم عنهم جميعا.. ولكني سأحدثكم عن موقف بسيط له علاقة ببحثي عن الإنسان الكامل..

كان من تلاميذ الإمام رجل من كبار الأغنياء، وقد كان له من السلطان في ذلك الحين ما لا يضاهيه فيه إلا القليل.. ولكن بعض الحوادث التي تعرض لها جعلته يدخل في دعوة الإمام، ويصير تابعا من أتباعه بعد أن تخلى عن كل ما كانت تفرضه عليه سلطته من الكبر والتعالي..

لقد كتب لي أن ألتقي هذا الرجل بعد أن سيم الخسف، وأذيق من كل ألوان الهوان، وفوق ذلك لم يتخل عن الإمام، ولا عما يدعو إليه الإمام.

في قمة ذلك الجبل جلست معه، وقد كان مظهره لا يختلف عن مظهر خادم بسيط بين يدي الإمام، وبين يدي تلاميذ الإمام..

قلت له: يا فلان، كيف تركت ذلك العز الذي كنت فيه لتجلس هذا المجلس الذي كان يستكبر عن مثله أبسط خدمك؟

قال: يحق لك في عالم الجسد أن تقول هذا.. لأنك لا ترى أمامك إلا جسدا قد أهلكته الآلام.. ولكنك لو أبصرت تلك العوالم الجميلة التي تسكن فيها روحي ـ بعد صحبتي للإمام ـ ما قلت هذا الكلام.

قلت: فحدثني عن تلك العوالم.

قال: تلك العوالم لا تعرف إلا بالرحلة.. والحديث عنها لا يزيدك عنها إلا بعدا.. ولكني مع ذلك سأقرب لك..

إن أغنى الأغنياء وأثرى الأثرياء وأعظم الوجهاء لا يملك بيتا واحدا من تلك القصور العظيمة التي أسكنني فيها الإمام بعد أن علمني كيف أقرأ القرآن، وكيف أصحب محمدا رسول الله، وكيف أعيش في عوالم أهل الله.

قلت: وجسدك الذي ذاق من ألوان الهوان ما ذاق.

ابتسم، وقال: ليس جسدي أفضل من تلك الأجساد التي صاحبت رسول الله، ولم يحجزها عنه كل تلك الآلام التي أعدت لها..

لقد كان في أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم من كان له من المال والجاه ما كان، ولكنه تخلى عنه جميعا رغبة في الله.. لقد ذكر الله تعالى يصف هذا النوع، فقال:{ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ} (البقرة:207)

لقد أمرنا الله بأن نبيع نفوسنا وأموالنا وكل شيء لله.. لقد قال الله تعالى يذكر ذلك:{ إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } (التوبة: 111)

قلت: إذا بعت نفسك فما عساك تشتري؟

قال: رضوان الله.. رضوان الله أهم عندي من كل شيء.

قلت: اعذرني.. أنا رجل مادي ومن قوم ماديين.. فلذلك قد لا نفهم كثيرا ما تذكره.. فحدثني بما يتناسب مع طبعي.. ألم يؤمر المؤمن أن يخاطب الناس على قدر عقولهم.

قال: سأذكر لك حادثة حدثت في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ربما تقرب لك هذا الموقف.

بعد انتصار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في بعض الغزوات الكبرى قسم الغنائم لكثير من المؤلفة قلوبهم، فتعجبت الأنصار، وقالت: (والله إن هذا لهو العجب، إن سيوفنا تقطر من دماء قريش وغنائمنا ترد عليهم)

فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: (ما الذي بلغني عنكم؟) وكانوا لا يكذبون، فقالوا: (هو الذي بلغك)، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (أو لا ترضون أن يرجع الناس بالغنائم إلى بيوتهم وترجعون برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى بيوتكم، لو سلكت الانصار واديا أو شعبا لسلكت وادي الانصار أو شعبهم)([11])

لقد وجد الأنصار حينها من الفرحة والسعادة ما لم يجده كل أولئك الذين رجعوا بالإبل والشاء، ولكنهم لم يرجعوا برسول الله في رحابهم.

إن لم تفهم هذا.. فسأذكر لك قصة حدث بها بشر، الذي قال يحكي عن نفسه: مررت برجل، وقد ضرب ألف سوط في شرقية بغداد، ولم يتكلم ثم حمل إلى الحبس، فتبعته فقلت له: لم ضربت؟ فقال: لأني عاشق، فقلت له: ولم سكت؟ قال: (لأنّ معشوقي كان بحذائي ينظر إليَّ)، فقلت: فلو نظرت إلى المعشوق الأكبر قال: فزعق زعقة خرّ ميتاً.

قلت: أترى أن هذا الموقف هو الذي يفسر ما حصل لأصحاب محمد من ذلك الثبات العظيم الذي واجهوه؟

قال: لا يصلح مفسرا لذلك إلا هذا.. فمحمد صلى الله عليه وآله وسلم ربط أصحابه المنتجبين بالله حبا وتعظيما وإجلالا.. فصاروا روحانيين ربانيين لا هم لهم إلا ما يرضي ربهم.. ولهذا لم يرغبهم في أي مطامع دنيوية، بل نهاهم عن السكون إليها حتى لا تكون حجابا بينهم وبين الحقائق العظيمة التي يحملونها.

ولهذا، فإن المنتجبين من أصحابه صلى الله عليه وآله وسلم لم يتخلوا عنه في أحرج اللحظات، بل ظلوا يفدونه بكل شيء.. بنفوسهم وأموالهم وكل ما يملكون.

قلت: سلمت لكل ما ذكرته لي.. ولكن ألا يمكن أن يبقى جسدك في أهلك ومالك، ومع ذلك تظل مع الإمام بروحك وقلبك.. فتنعم بالجنتين: جنة الروح، وجنة الجسد؟

نظر إلي، وقال: لقد حاولت في البدء ذلك.. لكن أمورا كثيرة حصلت جعلتني أختار الحياة التي أحياها الآن.

قلت: وما هي؟

قال: في البدء.. أردت أن ألتزم بيني وبين نفسي.. وقد التزمت بالفعل.. وذقت من حلاوة الالتزام ما ذقت.. لكني وجدت المحيط الذي أعيش فيه لا تزيده الأيام إلا بعدا عن الحقائق، وما تتطلبه الحقائق..

في ليلة من الليالي كنت قائما الليل.. وكنت أستشعر في ذلك القيام ما يستشعر الواقف بين يدي ربه.. وقد كان من جملة ما قرأت قوله تعالى وهو يذكر سبب ما تنزل على بني إسرائيل من اللعنات، لقد كنت أقرأ قوله تعالى:{ لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ ‏مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ (78) كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ ‏مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ (79) تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ ‏أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ (80) وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ ‏بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (81) } (‏المائدة)

خطر على بالي حينها قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (لما وقعت بنو إسرائيل في المعاصي نهتهم علماؤهم، فلم ‏ينتهوا فجالسوهم في مجالسهم، وواكلوهم وشاربوهم، فضرب الله بعضهم ببعض، ولعنهم على لسان داود وعيسى بن مريم..

لقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين قال هذا الحديث متكئاً، فجلس، ثم قال: (ولا والذي ‏نفسي بيده حتى تأطروهم على الحق أطراً)([12])

وذكرت حينها ما نزل في أصحاب السبت من قوله تعالى:{ وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (163) وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (164) فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (165) فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (166)} (الأعراف)

لقد رأيت أن الله تعالى ذكر أنه لم ينج من العقاب إلا من نهى عن السوء.. مع أنه كان من الذين لم ينهوا عن السوء من لم يرض عملهم، ولكن عجزه قعد به عن الإنكار.

وذكرت حينها قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الله لا يعذب العامة بعمل الخاصة، حتى يروا ‏المنكر بين ظهرانيهم ـ وهم قادرون على أن ينكروه ـ فلا ينكرونه، فإذا فعلوا ‏عذب الله العامة والخاصة)([13])

وذكرت حينها أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم اعتبر الإنكار بالقلب أضعف مراتب الإيمان، فقال: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده؛ فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم ‏يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان)([14])، بل ورد في حديث آخر ما هو أعظم من ذلك، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل)([15])

وذكرت حينها أن خيرية هذه الأمة ـ كما أخبر الله تعالى ـ مرتهنة بأمرها بالمعروف ونهيها عن المنكر، كما قال تعالى:{ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ} (آل عمران:110)، بل إني رأيت الله تعالى في هذه الآية يقدم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على الإيمان.. لأنه لا يدل على الإيمان شيء كما يدل عليه غضب المؤمن أن تنتهك حرمات الله.

وذكرت حينها ما ورد في الحديث من أن رجلا قام إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو على المنبر، فقال: يا رسول الله، أي الناس خير؟ فقال: (خير الناس أقرؤهم وأتقاهم لله، وآمرهم بالمعروف، وأنهاهم عن المنكر، وأوصلهم للرحم)([16])

قلت: ولكني وجدت في القرآن آية تقول:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} (المائدة:105).. ألا ترى أن هذه الآية تعطيك العذر الذي تعتذر به لربك؟

قال: في البداية توهمت في الآية ما توهمت أنت.. ولذلك رحت أبحث في دواوين التفسير عن تفسيرها.. فوجدت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يفسرها بقوله: (إن الناس إذا رأوا الظالم، فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم ‏الله بعقاب من عنده)([17]

قلت: هناك آية أخرى لا جدال في وضوح معناها، وهي تعفيك من أي مسؤولية.

قال: تقصد قوله تعالى:{ وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (آل عمران:104)؟

قلت: أجل.. فـ (من) تفيد التبعيض.. وهي بالتالي لا تشمل جميع هذه الأمة.. ويمكنك أن تعتذر لربك بهذا.

قال: أرأيت لو أن مسابقة أجريت.. وكانت لك طاقة المشاركة فيها.. وكانت جوائزها لا تقدر بثمن.. أكنت تقعد عن المشاركة فيها لأنك لست ملزما بها؟

قلت: لا.. كيف أقعد عن ذلك.. إن القعود عن مثل هذا وهن وضعف وحمق.

قال: فبذلك تخاطبنا تلك الآية.. إنها تأمرنا بأن تكون منا أمة مختصة في هذا المجال، ثم أرى الآية تقصر الفلاح عليها.. ولم أفهم من ذلك إلا أن الأمر أعظم من أن يكون منحصرا في فئة دون فئة.

قلت: ولكن (من) تفيد التبعيض؟

قال: لقد فهمت من هذه الآية أنها ترتبط بالمختصين من الدعاة.. فهؤلاء لابد أن يكونوا أفرادا.. ولكنهم لوحدهم لا يمكنوا أن يحققوا شيئا.. فلذلك كان إمدادهم واجبا على كل الأمة.. كل بحسب طاقته.

لقد انطلقت من هذه الآية لأبحث عن الداعية إلى الله الذي يستحق مني أن أنصره.. فلم أجد في هذه البلاد أحد كبديع الزمان.. فإني لم أره يدعو لنفسه، ولا لطائفته، ولا لعنصره، ولا لحزبه.. لم أره يدعو إلا إلى الله.. فلذلك علمت أنه صادق في دعوته مخلص فيها..

في أول لقاء لي معه.. ذهبت في صورة درويش فقير لأرى كيف يعامل الإمام المستضعفين.. وهل يفرق بينهم وبين غيرهم..

قلت: ما الذي حدا بك إلى هذا؟

قال: لقد قرأت قوله تعالى:{ عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى (2) وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى (4) أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى (5) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6) وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى (7) وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى (8) وَهُوَ يَخْشَى (9) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (10)} (عبس)، فعلمت أن السائر على قدم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الوارث له لابد أن يلاحظ هذا التأديب..

قلت: فماذا وجدت من الإمام؟

قال: لقد رحب بي أعظم ترحيب، وأحلني أعظم محل.. وفي ذلك الحين بالذات، ـ وكأن الله أراد أن يريني حقيقة الشيخ وعظم زهده ـ جاءه رجال من كبار الأثرياء بهدايا عظيمة يسيل لأجلها لعاب الحريصين..

قلت: فماذا فعل الإمام؟

قال: لقد نظر إليهم برحمة، ثم خاطبهم بقوله: اعذروني أيها الإخوة الأفاضل.. فأنا منذ([18]) نعومة أظفاري أرفض قبول أموال الناس وهداياهم.. فما كنت أتنازل لإظهار حاجتي للآخرين رغم أنني كنت فقير الحال وفي حاجة إلى المال، وما كنت زاهداً ولا صوفياً ولا صاحب رياضة روحية، فضلاً عن أنني ما كنت من ذوي الحسب والنسب والشهرة.

فإزاء هذه الحالة كنت أحار من أمري كما كان يحار من يعرفني من الأصدقاء، وقد فهمت حكمتها قبل بضع سنين، إنها كانت لأجل عدم الرضوخ للطمع والمال، ولأجل الحيلولة دون مجئ اعتراض على رسائل النور في مجاهداتها، فقد أنعم عليّ الباري عز وجل تلك الحالة الروحية.. والاّ كان أعدائي الرهيبون ينـزلون بي ضربتهم القاضية من تلك الناحية)

وذات مرة أتاه صديق حميم تاجر، بمقدار من الشاي يبلغ ثمنه ثلاثين قرشاً، فلم يقبله، فقال: لا تردّني خائباً يا استاذي، لقد جلبته لك من استانبول! فقبله، ولكنه دفع له ضعف ثمنه.

فقال: لِمَ تتعامل هكذا يا أستاذي، ما الحكمة فيه؟

فقال الإمام: لئلا أنزل قيمة الدرس الذي تتلقاه ـ وهو بقيمة الألماس ـ إلى قيمة قطع زجاجية تافهة. إنني أدع نفعي الخاص لأجل نفعك أنت!

التميز

سكت الوارث برهة من الزمن، وكأنه يتذكر شيئا كان قد نسيه، فراح أحدنا يسأله قائلا: عرفنا الأول.. فحدثنا عن الثاني.

قال: وما الثاني؟

قلنا: التميز.. فالإمام المتصدي لدعوة الناس لا بد أن يكون متميزا، ولا بد أن يكون من يربيهم مثله قوم متميزون.

قال: أجل.. لقد ذكر الله هذا التميز في النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه على مدار الزمان، فقال تعالى:{ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْأِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} (الفتح:29)

إن هذه الآية تعطي السمات التي يتميز بها الدعاة إلى الله السائرون على أقدام الأنبياء.

الشدة:

قلت: إن الآية تصفهم بالشدة.. فهل يستقيم الإيمان مع الشدة؟

قال: لا يستقيم الإيمان إلا مع الشدة.. الشدة ـ في أحيان كثيرة ـ هي العلاج الذي لا تصلح الأمور إلا به.

قلت: لم أفهم.. ألم يذكر نبيكم الرفق بدل الشدة؟.. ألم يقل في الحديث: (إنه من أعطي حظه من الرفق فقد أعطي حظه من خير الدنيا والآخرة، ومن حرم حظه من الرفق فقد حرم حظه من الدنيا والآخرة)([19])، وفي الحديث الآخر: (الرفق يمن والخرق شؤم، وإذا أراد الله بأهل بيت خيرا أدخل عليهم باب الرفق)([20]

قال: صدق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم..

قلت: فكيف تجمع بين الشدة والرفق؟

قال: الرفق في المعاملة، والشدة في الموقف.

قلت: ماذا تعني؟

قال: ألم تر في حياتك النخلة؟

قلت: بلى رأيتها..

قال: فقد شبه بها المؤمن..

قلت: ولكن ثمارها طيبة حلوة مغذية.. وهي أشبه بالرفق منها بالشدة.

قال: لولا جذورها الشديدة الممتدة في الأرض ما كانت لها الثمار.. لقد ضرب الله مثل الكلمة الطيبة بالشجرة الشديدة الصلبة، فقال:{ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24)تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25)} (إبراهيم)، بينما ذكر الشجرة الخبيثة، فقال:{ وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ (26)} (إبراهيم)، ثم قال بعدها يبين معنى اشتداد الجذور:{ يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ (27)} (إبراهيم)

قلت: لقد أشارت الآية التي قرأتها إلى هذا المعنى، ففيها:{ وَمَثَلُهُمْ فِي الْأِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ} (الفتح: 29)

قال: بورك فيك.. ألا ترى أنه لولا اشتداد السوق ما استطاع الزرع أن يعطي ثماره.

قلت: بلى.. فما الشدة التي يتسم بها الإمام الوارث؟

قال: لقد ذكر الله تعالى المفاصلة التامة بين الكفر والإيمان، وبين أساليب أهل الكفر وأساليب أهل الإيمان، فقال تعالى:{ قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ (4) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6)} (الكافرون)

إن هذه السورة الكريمة تدعو إلى تميز المؤمنين التام عن غيرهم.. فلا يمكن أن يأخذ المؤمنون بأنصاف الحلول.. بل لابد أن يدخلوا في السلم كافة.

قلت: فكيف رأيت بديع الزمان، ومن معه من الورثة، يطبقون هذه الصفة؟

قال: لولا هذه الصفة في بديع الزمان والذين معه لساروا مع تيار الإلحاد الذي كان يفرض نفسه فرضا في ذلك الواقع..

لقد كان له من الشدة في الحق ما لم أره في غيره..

أذكر أني قلت له مرة، وقد رأيت شدته على بعض الناس: يا إمام.. ألا ترى أنك اشتددت على الرجل؟

قال: لأن هذا الرجل لا تنفعه إلا الشدة.. إن هذا الموقف الذي وقفته معه خير له من ألف كلمة شكر، وألف ألف قصيدة مدح.

قلت: لم؟

قال: لأنه لم يتعود أن يسمع إلا الشكر حتى مج سمعه الشكر، ولم يتعود أن يسمح إلا المدح حتى صار لا يرى في المدح إلا النفاق.. فلذلك واجهته بما واجهته به مما لم يتعود سماعه.. وأنا أوقن يقينا تاما أن هذه الكلمات ستؤتي ثمارها في نفسه لا محالة.

إن مثل هذا الرجل لا يحبون الضعف، ولا يحبون الذلة.. هم يطلبونها، ولكنهم لا يحبونها.. فلذلك لا يلينون إلا للشديد، ولا يسمعون إلا للقوي.

قلت: من أين استفدت هذه الشدة؟

قال: من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان كالجبل الثابت الذي لا تزعزعه الأعاصير.. لقد ظل ثابتا على كل موقف وقفه لم يتزحزح عنه.. ولم يرب أصحابه إلا على ذلك..

في اللحظات الحرجة التي مر بها الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قبيل معركة بدر، ‏وهو يعلم أن قريشًا يعدون العدة لملاقاته كان يردد: (أشيروا عليَّ أيها الناس)، وكان الذي ‏يرد عليه أصحابه من المهاجرين، فكلما انتهى أحدهم من بيان الاستعداد الخوض ‏المعركة، كرر نفس السؤال: (أشيروا عليَّ أيها الناس)، وهنا تنبه أحد قادة الأنصار، وهو ‏الصحابي الجليل سعد بن معاذ  فقال: (والله ‏لكأنك تريدنا يا رسول الله؟) قال: أجل فقال سعد: (فقد آمنا بك، وصدقناك، وشهدنا أن ‏ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا، ومواثيقنا على السمع والطاعة ‏لك، فامض يا رسول الله لما أردت فنحن معك، فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت ‏بنا البحر فخضته لخضناه معك، ما تخلف منا رجل واحد)

قلت: عرفت هذا، وسمعت به.. فهل هناك غيره؟

قال: لولا الشدة التي كان عليها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والطائفة الذين معه لتحول الإسلام فرعا من فروع اليهودية، أو فرعا من فروع المسيحية، أو فرعا من فروع الوثنية؟

قلت: كيف ذلك؟

قال: لقد كان كل طرف من هؤلاء يود من محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومن الذين معه أن لا يكون لهم من الدين إلا ما يدينون به.. لقد قال الله تعالى يذكر ذلك:{ وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ } (البقرة: 120)، وقد رد الله تعالى عليهم بقوله:{ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ} (البقرة: 120)

لعلك تعرف ما حصل بسبب تحويل القبلة.. لقد ذكر الله تعالى كيف اغتاظ اليهود من ذلك.. لكن الله أمر نبيه صلى الله عليه وآله وسلم أن لا يهتم بما يقترحه السفهاء على ربهم.. وأمره أن يمضي في سبيله الذي أمره الله به لا يلتفت لأغراض المغرضين، ولا احتجاجات المحتجين، قال تعالى:{ سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (142) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (143) قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144) وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آَيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (145)} (البقرة)

ولهذا أمر المؤمنون أن يضعوا المفاصلة التامة بينهم وبين غيرهم في هذا الجانب، قال تعالى:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء ‏بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51) فَتَرَى ‏الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ ‏أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ (52) ‏وَيَقُولُ الَّذِينَ آَمَنُوا أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ ‏أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ (53)} (المائدة)

الرحمة:

قلت: عرفنا الشدة ومعناها.. فحدثنا عن الرحمة.

قال: لم أر في حياتي رجلا كان يملك قلبا يمتلئ بالرحمة كالقلب الذي كان يملكه بديع الزمان..

لا يمكنني أن أحدثكم عن كل ما رأيت من رحمته، ولكني سأحدثكم عن صفة كانت غالبة عليه.. وكأنها خلقت معه.

لقد كان أسهل الناس، وأيسرهم، وأكثرهم لينا وبشاشة مع أقرب الناس إليه، ومع أبعد الناس عنه.. لم أره ـ مع المواقف الشديدة التي مر بها ـ إلا لينا بشوشا منطلق الأسارير، وقد دعاني ذلك إلى سؤاله، فقال: إن الابتسامة هي رسول الرحمة.. والوارث لا ينبغي أن يكون إلا رحيما.. لقد قال الله تعالى يصف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:{ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} (آل عمران:159)

وقد كان صلى الله عليه وآله وسلم كما وصفه ربه سهلا لينا يسيرا ما غضب لنفسه قط، ولا ضاق صدره بضعفهم البشري.. بل كان يقول لهم كل حين: (إنما ‏أنا لكم مثل الوالد لولده)([21])

لقد تمكن من أعدائه الذين صبوا عليه وأصحابه جميع أنواع العذاب، وسلبوا أموالهم، وديارهم، وأجلوهم عن بلادهم، لكنه صلى الله عليه وآله وسلم قابل كل تلك الإساءات بالعفو والصفح والحلم قائلاً: (يا معشر قريش، ما ترون أني فاعل بكم؟)، قالوا: خيرًا، أخ كريم وابن أخ كريم، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (اذهبوا فأنتم الطلقاء)

لقد أنزل الله عليه:{ وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ} (النحل:126)، فاختار أن يعفو عنهم ويصبر على ما كان منهم، وأن لا يعاقب فقال: (نصبر ولا نعاقب)

قلت: إني مررت بقوم حدثوني بأحاديث كثيرة يروونها عن محمد.. فهل تراك مثلهم، أم تراك تكتفي بالقرآن؟

نظر إلي بغضب، وقال: ضل من قال هذا.. وضل من فعل هذا.. إن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم هو التطبيق العملي للقرآن الكريم، وهو التفسير الحسي لمعانيه.. ومن لم يقرأ تفسير القرآن الكريم من أقوال محمد صلى الله عليه وآله وسلم وسلوكه ظل جاهلا بالقرآن، ولو قرأ جميع تفاسير الدنيا.

قلت: فحدثني مثلما حدثتهم.

قال: عن أي شيء تريد أن أحدثك؟

قلت: لقد كنت تحدثني عن مظهر من مظاهر رحمته، وهو عفوه عند المقدرة.

قال: لقد حدث بعض الصحابة  أنه غزا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فلما قفل معه أدركتهم القائلة في في واد كثير العضاة فنزل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتفرق الناس يستظلون بالشجر، ونزل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تحت سمرة فعلق سيفه، ونمنا نومة، فإذارسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يدعونا، وإذا عنده أعرابي، فقال: (إن هذا اخترط علي سيفي، وأنا نائم، فاستيقظت وهو في يده فقال: من يمنعك مني؟) فقلت: الله ثلاثا، ولم يعاقبه وجلس([22]).

وحدث آخر  قال: شهدت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أتي برجل فقيل: هذا أراد أن يقتلك، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (لن تراع، لو أردت ذلك لم يسلطك الله علي)([23])

وذكر آخر  أن ثمانين رجلا من أهل مكة هبطوا على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من قبل التنعيم متسلحين يريدون غرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فدعا عليهم، فأخذهم سلما فعفا عنهم، واستحياهم([24]).

وحدث آخر، قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوما، ثم قام فقمت حين قام، فنظرنا إلى أعرابي قد أدركه، فجذبه بردائه، فحمر رقبته، وكان رداؤه خشنا، فالتفت إليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال له الأعرابي: احملني على بعيري هذين، فإنك لا تحملني من مالك، ولا من مال أبيك، فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا، وأستغفر الله، لا وأستغفر الله، لا وأستغفر الله لا أحملك حتى تقيدني من جبذتك)، وكل ذلك يقول الأعرابي: والله لا أقيدكها، فذكر الحديث، وفيه: ثم دعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عمر  فقال: احمل له على بعيريه هذين ـ على بعير تمرا، وعلى الآخر شعيرا ـ ثم التفت إلينا، فقال: (انصرفوا على بركة الله تعالى)([25])

وحدث آخر: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جعل يقبض يوم حنين من فضة في ثوب بلال، ويفرقها، فقال له رجل: يا رسول الله أعدل، فقال: (ويحك، من يعدل إذا أنا لم أعدل؟ قد خبت وخسرت إن كنت لا أعدل) فقال له بعضهم: ألا أضرب عنقه فإنه منافق؟ فقال: (معاذ الله أن يتحدث أني أقتل أصحابي)([26])

وحدث آخر، قال: لما كان يوم حنين آثر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ناسا في القسمة ليؤلفهم، فأعطى الأقرع بن حابس مائة من الإبل، وأعطى ناسا من أشراف العرب، وآثرهم يومئذ في القسمة، فقال رجل: إن هذه لقسمة ما عدل فيها، وما أريد بها وجه الله تعالى، قال: فقلت: والله لأخبرن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأتيته، فأخبرته بما قال، فتغير وجهه حتى كان كالصرف، ثم قال: (فمن يعدل إن لم يعدل الله ورسوله؟ ثم قال: (يرحم الله موسى عليه السلام، قد أوذي بأكثر من هذا فصبر)([27])

وحدث آخر: أن زيد بن سعية ـ وهو أحد علماء أهل الكتاب من اليهود ـ قال: إنه لم يبق من علامات النبوة شئ إلا وقد عرفتها في وجه محمد صلى الله عليه وآله وسلم حين نظرت إليه، إلا اثنتين لم أخبرهما منه: أن يسبق حلمه جهله، ولا تزيده شدة الجهل عليه إلا حلما، فكنت أتلطف له لأن أخالطه فأعرف حلمه، فابتعت منه تمرا معلوما إلى أجل معلوم، وأعطيته الثمن، فلما كان قبل محل الأجل بيومين أو ثلاثة، أتيته، فأخذت بجامع قميصه وردائه، ونظرت إليه بوجه غليظ، فقلت: يا محمد ألا تقضيني حقي؟ فوالله إنكم يا بني عبد المطلب لمطل، وقد كان لي بمخالطتكم علم، فقال عمر بن الخطاب: أي عدو الله، أتقول لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما أسمع؟ فوالله لولا ما أحاذر فوته لضربت بسيفي رأسك، ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ينظر إلى عمر في سكون، وتؤدة، وتبسم، ثم قال: (أنا وهو كنا أحوج إلى غير هذا منك يا عمر، تأمرني بحسن الأداء، وتأمره بحسن التباعة، اذهب يا عمر فاقضه حقه، وزده عشرين صاعا، مكان ما رعته)، ففعل عمر، فقلت: يا عمر، كل علامات النبوة قد عرفتها في وجه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلا اثنتين لم أخبر هما منه، يسبق حلمه جهله، ولا تزيده شدة الجهل عليه إلا حلما، فقد خبرتهما، فأشهدك أني رضيت بالله تعالى ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد صلى الله عليه وآله وسلم نبيا([28]).

وحدث آخر قال: ابتاع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جزورا من أعرابي بوسق من تمر الذخيرة، فجاء منزله، فالتمس التمر، فلم يجده، فخرج إلى الأعرابي فقال: (عبد الله، إنا قد ابتعنا منك جزورك هذا بوسق، من تمر الذخيرة، ونحن نرى أن عندنا، فلم نجده) فقال: الأعرابي: واغدراه واغدراه، فوكزه الناس وقالوا: إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تقول هذا؟ فقال: (دعوه، فإن لصاحب الحق مقالا) فردد ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مرتين أو ثلاثا، فلما رآه لا يفقه عنه قال لرجل من أصحابه: (اذهب إلى خولة بنت حكيم بن أمية فقل لها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول لك إن كان عندك وسق من تمر الذخيرة فسلفينا حتى نؤديه إليك إن شاء الله تعالى) فذهب إليها الرجل، ثم رجع قال: قالت: نعم هو عندنا يا رسول الله، فابعث من يقبضه، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للرجل: (اذهب فأوفه الذي له) فذهب، فأوفاه الذي له، قال فمر الأعرابي برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهو جالس في أصحابه، فقال: جزاك الله خيرا، فقد أوفيت وأطيبت، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (أولئك خيار الناس الموفون المطيبون)([29])

وحدث آخر أن رجلا أتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يتقاضاه فأغلظ له، فهم به أصحابه، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (دعوه فإن لصاحب الحق مقالا، ثم قال: اعطوه شيئا مثل سنة)، فقالوا: يا رسول الله، لا نجد إلا أفضل من سنه، قال: (اعطوها، وخيركم أحسنكم قضاء)([30])

وحدث آخر أن يهودية أتت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بشاة مسمومة، فأكل منها فجئ بها، فقيل: ألا تقتلها فقال: (لا)([31]

وحدث آخر أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما كسرت رباعيته، وشج وجهه يوم أحد شق ذلك على أصحابه، وقالوا: لو دعوت عليهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إني لم أبعث لعانا، ولكن بعثت داعيا ورحمة، اللهم اهد قومي، فإنهم لا يعلمون)([32])

قلت: بورك فيك.. فقد كفيت وشفيت.. فحدثني عن حيائه.. فإن من مظاهر الرحمة أن يكون رحيما حييا لا يواجه أحدا بما يكره..

قال: لقد حدث بعض أصحابه، قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أشد حياء من العذراء في خدرها، وكان إذا كره شيئا عرفناه في وجهه)([33])

وذكر آخر أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رأى على وجه رجل صفرة فقال: (لو أمرتم هذا أن يغسل هذه الصفرة)، وكان لا يكاد يواجه أحدا في وجهه بشئ يكرهه([34]).

وحدث آخر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا بلغه عن رجل شيئا لم يقل له: قلت: كذا وكذا قال: (ما بال أقوام يقولون كذا وكذا)([35])

وحدث آخر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حييا لا يسأل عن شئ إلا أعطى([36]).

وحدث آخر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خافض الطرف، جل نظره إلى الأرض أكثر من نظره إلى السماء، جل نظره الملاحظة([37]).

وحدث آخر قال: صنع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شيئا فرخص فيه، فتنزه عنه قوم، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فخطب، فحمد الله تعالى، ثم قال: (ما بال أقوام يتنزهون عن الشئ أصنعه؟ فوالله إني لأعلمهم بالله تعالى، وأشدهم له خشية)([38])

قلت: بورك فيك.. فحدثني عن تيسيره على أصحابه، فإن الرحيم يشق عليه أن يشق على غيره.

قال: لقد حدث بعض أصحابه  قال: (ما رأيت أحدا كان أرحم بالعباد من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم)([39])

وقال آخر: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رحيما، رفيقا، فأقمنا عنده عشرين ليلة، فظن أنا قد اشتقنا إلى أهلنا، فسألنا عمن تركنا عند أهلنا، فأخبرناه، فقال: (ارجعوا إلى أهليكم، فأقيموا عندهم) ([40])

وروى آخر  أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إني لأدخل في الصلاة، وأنا أريد أن أطيلها، فأسمع بكاء الصبي فأتجاوز في صلاتي مما أعلم من شدة وجدانه من بكائه)([41])

وحدث آخر أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صلى بهم بأقصر سورتين في القرآن، فلما قضى الصلاة قيل له في ذلك، فقال: (أنا سمعت بكاء الصبي خلفي وترصف النساء، أردت أن تفرغ له أمه)([42])

وحدث آخر، قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من جوف الليل يصلي في المسجد، فصلى رجال صلاته، فأصبح الناس يتحدثون بذلك، فاجتمع أكثر منهم، فأصبح الناس يذكرون ذلك، فكثر أهل المسجد في الليلة الثالثة، فخرج فصلوا بصلاته، فلما كانت الليلة الرابعة عجز المسجد عن أهله، ففقدوا صوت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فجعل بعضهم يتنحنح، ليخرج إليهم، فلم يخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، حتى خرج لصلاة الصبح، فلما قضى صلاته أقبل على الناس، ثم تشهد وقال: (أما بعد: فإنه لم يخف عني شأنكم الليلة، ولكن خشيت أن تفرض عليكم صلاة، فتعجزوا عنها، فصلوا في بيوتكم، فإن أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة) ([43])

وحدث آخر أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (لولا أن أشق على أمتي لأحببت ألا أتخلف خلف سرية تخرج في سبيل الله، ولكن لا أجد ما أحملهم عليه، ولا يجدون ما يتحملون عليه، وشق عليهم أن يتخلفوا بعدي..)([44])

قلت: فحدثني عن أعظم رحمة لمحمد.

قال: تلك رحمة مدخرة في الآخرة.. وقد وردت الروايات الكثيرة تبشر بها، ففي الحديث أنه صلى الله عليه وآله وسلم قام ليلة، فقرأ آية يرددها، يركع بها، ويسجد، وبها يقوم، ويقعد، حتى أصبح:{ إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (المائدة:118)، فلما أصبح قيل له: يا رسول الله، ما زلت تقرأ هذه الآية حتى أصبحت، فقال: (فإني سألت ربي الشفاعة لأمتي، وهي نائلة ـ إن شاء الله تعالى ـ من لم يشرك بالله تعالى شيئا)([45])

وفي حديث آخر:  أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تلا قول الله عز وجل في إبراهيم:{ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (ابراهيم:36)، وقال في عيسى عليه السلام:{ إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (المائدة:118)، فرفع يديه، وقال: (اللهم أمتي، أمتي)، وبكى، فقال الله عز وجل: (يا جبريل اذهب إلى محمد، فقل له، واسأله ما يبكيك؟) فأتاه جبريل عليه السلام فسأله، فأخبره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بما قال، وهو أعلم، فقال الله عز وجل: (يا جبريل اذهب إلى محمد، فقل له: إنا سنرضيك في أمتك، ولا نسوؤك)([46]

قلت: فحدثني عن رحمته بالصبيان.

قال: لقد قبل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الحسن ابن علي  وعنده الأقرع بن حابس التميمي، فقال الأقرع: لي عشرة من الولد، ما قبلت منهم أحدا، فنظر إليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقال: (إن من لا يرحم لا يرحم)([47])

وجاءه أعرابي فقال: إنكم تقبلون الصبيان، وما نقبلهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (أو أملك لك أن نزع الله تعالى الرحمة من قبلك) ([48])

قلت: فحدثني عن رحمته بالحيوان.

قال: لما سار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من العرج في فتح مكة رأى كلبة تهر على أولادها وهن حولها يرضعنها، فأمر رجلا من أصحابه يقال له جعيل بن سراقة أن يقوم حذاءها، لا يعرض أحد من الجيش لها، ولا لأولادها([49]).

وروي أنه صلى الله عليه وآله وسلم نزل منزلا فأخذ رجل بيض حمرة، فجاءت ترف على رأس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: (أيكم فجع هذه في بيضها؟) فقال رجل: أنا يا رسول الله أخذت بيضها، فقال: (اردده، رحمة لها) ([50])

الربانية:

قلنا: فحدثنا عن الصفة الثالثة من صفات الإمام الوارث.

قال: الربانية.. لقد ذكرها القرآن، فقال:{ مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ} (آل عمران:79)

فالإمام الوارث لا يدعو لنفسه، ولا لحزبه، ولا لطائفته، وإنما يدعو لربه، ولذلك شرف بهذه النسبة العالية..

قلنا: فحدثنا عن ربانية بديع الزمان.

قال: لقد كان مستغرقا استغراقا تاما في حضرة ربه.. فهو لا يتحدث إلا عنه، ولسانه لا يلهج إلا بذكره، وحركاته لا تدعو إلا إليه..

دخلت عليه مرة، فسمعته يقول([51]) ـ بخشوع عظيم ـ: (ياربي الرحيم.. لقد أدركت بتعليم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وفهمتُ من تدريس القرآن الحكيم: أن الكتب المقدسة جميعها، وفي مقدمتها القرآن الكريم، والأنبياء عليهم السلام جميعهم، وفي مقدمتهم الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، يدلّون ويشهدون ويشيرون بالاجماع والاتفاق إلى أن تجليات الاسماء الحسنى ذات الجلال والجمال، الظاهرة آثارها في هذه الدنيا، وفي العوالم كافة، ستدوم دواماً أسطعَ وأبهرَ في أبد الآباد.. وأن تجلياتها ذات الرحمة وآلاءها المشاهدة نماذجها في هذا العالم الفاني، ستثمر بأبهى نور وأعظم تألق، وستبقى دوماً في دار السعادة.. وأن أولئك المشتاقين الذين يتملّونها في هذه الحياة الدنيا القصيرة بلهفةٍ وشوق سيرافقونها بالمحبة والوّد، ويصحبونها إلى الأبد، ويظلون معها خالدين.. وأن جميع الأنبياء وهم ذوو الأرواح النيرة وفي مقدمتهم الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، وجميع الأولياء وهم أقطاب ذوي القلوب المنورة، وجميع الصديقين، وهم منابع العقول النافذة النيّرة.. كل أولئك يؤمنون إيماناً راسخاً عميقاً بالحشر ويشهدون عليه، ويبشرون البشرية بالسعادة الابدية، وينذرون أهل الضلالة بأن مصيرهم النار، ويبشرون اهل الهداية بأن عاقبتهم الجنة، مستندين إلى مئات المعجزات الباهرة والآيات القاطعة، وإلى ما ذكرته ـ ياربي ـ مراراً وتكراراً في الصحف السماوية والكتب المقدسة كلها من آلاف الوعد والوعيد.. ومعتمدين على عزة جلالك وسلطان ربوبيتك، وشؤونك الجليلة، وصفاتك المقدسة التي تقتضي الحشر كالقدرة والرحمة والعناية والحكمة والجلال والجمال، وبناءً على مشاهداتهم وكشفياتهم غير المعدودة التي تنبئ عن آثار الآخرة ورشحاتها، وبناءً على ايمانهم واعتقادهم الجازم الذي هو بدرجة علم اليقين وعين اليقين..)

انتظرت حتى انتهى من مناجاته، ثم اقتربت منه، وقلت: يا إمام.. أراك كثير اللجوء إلى الله.. فأنت لا تفتر عن ذكره، ولا عن مناجاته.. ألا يصيبك الملل من ذلك؟

ابتسم، وقال: وهل يفتر الحبيب من مناجاة حبيبه؟.. وهل يمل الحبيب من ذكر حبيبه؟.. إن الله برحمته ولطفه وبره وكرمه أذن لنا في أن نناجيه ونحادثه، وأذن لنا في أن نسمع تلك الكلمات العذبة التي تترنم بها الكائنات، وهي تسبح الله وتحمده وتناجيه.. فهل فوق هذه النعمة نعمة؟.. وهل فوق هذا الفضل فضل؟

قلت: العبادة تكليف.. فكيف تراها نعمة؟

قال: من لم ير في عبادة ربه مجامع النعم وكنوزها وخزائنها، فإنه لم يعبد ربه..

قلت: أنت تعلم أني أبحث عن الوارث الإمام.

قال: لن يكون الوارث إماما حتى يكون ربانيا.. صلته بالله أعظم من صلته بغيره.. بل إن صلته بغيره لا تكون إلا ثمرة لصلته بالله.. لقد قال الله تعالى في الأئمة الورثة:{ وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ} (السجدة:24)

قلت: أفي حياة محمد ما يدل على هذا؟

قال: أجل.. ألم أقل لك: إن خير تفسير للقرآن الكريم هو حياة محمد صلى الله عليه وآله وسلم؟

قلت: فأين ذلك منها؟

قال: ألم تقرأ سورة المزمل؟

قلت: بلى.. أعرف، وأعرف أختها سورة المدثر.

قال: فبم تأمر الأولى؟

قلت: بقيام الليل وذكر الله والتوجه إليه بالعبادة..

قال: والثانية؟

قلت: بالدعوة إلى الله.

قال: فلا تصلح الثانية إلا بالأولى.. ولا تكمل الأولى إلا بالثانية.

قلت: فحدثني عن قيام محمد بما أمر به في الأولى.

قال: لقد حدثك زين العابدين.. فإن نسيت فارجع إليه يذكرك([52]).

الهمة

قال رجل منا مخاطبا الوارث: لقد عرفنا ـ حتى الآن ـ ثنتين، فحدثنا عن الثالثة.

قال: الثالثة هي (الهمة).. فبالهمم يتفاضل الرجال.. وبالهمم تتحقق المطالب..  وبالهمم تطرق أبواب المستحيلات، فتفتح.

قلت: فهل تحقق ذلك في بديع الزمان، وفي تلاميذه؟

قال: أجل .. لقد كانوا كالجبال الرواسي تحمل كل أنواع العناء والمكابدات في سبيل تحقيق الرسالة التي نذرت نفسها لها.

قلت: فحدثني عما رأيت..

قال: لا يمكنني أن أحدثكم عن كل ما رأيت.. ولكني سأقتصر على ماله علاقة بالمعلم الأول الذي تعلموا منه جميع دروس الهمم.

ذات مرة دخلت عليه.. وكان معه جماعة من أصحابه ممن تركوا الجاه العريض، والثروات الضخمة، والحياة الرغدة، ولجأوا معه إلى ذلك المحل من جبال بارلا الشامخة.

جلست في الحلقة، فسمعته يقرأ قوله تعالى:{ الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ ‏يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ ‏الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ } (العنكبوت:1- 3).. ثم يقرأ قوله تعالى:{ فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ ‏أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ} (الأحقاف: 35)

ثم يقول: يا أصحابي.. هذه سنة الأنبياء.. وهذه سنة ورثة الأنبياء.. إن الله تعالى أعد لهم المقامات العالية الرفيعة، وهم لن يثبتوا جدارتهم بها ولها إلا إذا ثبتوا في وجه كل أنواع البلاء التي تتربص بهم..

لقد كان في قدرة الله أن ينصر رسله بمعجزة تقطع دابر المعتدين، ولكن الله أبى أن ينصر دينه إلا بذلك الجهد، وتلك الهمم العالية التي لا تبالي ـ في سبيل الله ـ ما يصيبها من ضيق وضنك وألم.

لقد قال الله تعالى على ألسنة رسله مخاطبين أقوامهم:{ وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ } ‏‏(إبراهيم:12)

أما محمد صلى الله عليه وآله وسلم.. قدوتنا الأكبر، وأسوتنا الأعظم، فأنتم تعلمون ما حصل له.. لقد أُخرج من داره من مكة، ورجم ‏بالحجارة في الطائف حتى سال دمه، وهاجر إلى المدينة فارًا بدعوته، وجاهد حتى ‏كسرت رباعيته، وشج وجهه، وكان يؤذى في صلاته، وهو بمكة قبل الهجرة، ‏ويوضع السلى على ظهره أثناء ركوعه وسجوده، وما زاده ذلك إلا إصرارًا وعزمًا ‏وثباتًا وصبرًا.

ثم نظر إلى السماء، وقال: لقد أنزل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في تلك المواقف الشديدة آيات كثيرة لا تدعوه إلا إلى الثبات والصبر.. فبهما وحدهما يتحقق التمكين..

في بعض تلك المواقف الشديدة جاءه خباب بن الأرت  فقال: شكونا إلى ‏رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة، فقلنا: ألا ‏تستنصر لنا؟ ألا تدعو لنا؟ فقال: (قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في ‏الأرض فيجعل فيها، فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين ويمشط ‏بأمشاط من حديد من دون لحمه وعظمه، فما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمنَّ ‏الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب ‏على غنمه، ولكنكم تستعجلون)([53])

سكت قليلا، ثم قال: لاشك أنكم ما اخترتم هذا السبيل إلا لأنكم تطلبون المنزلة الرفيعة عند الله..

قال رجل منهم: أجل.. ولو علمنا أن هناك ما هو أفضل من السبيل لبادرنا إليه.

قال بديع الزمان: فهذا السبيل العظيم ممتلئ بأنواع البلاء.. لقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصفه: (إن ‏عظم الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله تعالى إذا أحبَّ قومًا ابتلاهم، فمن رضي فله ‏الرضا، ومن سخط فله السخط)([54])

ولذلك يحتاج منكم إلى صبر عظيم، وصدق عظيم، وهمة عظيمة.. لقد قال الله تعالى يصف هذا النوع من الصادقين:{ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ ‏يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً} (الأحزاب:23)

إن هذه الآية الكريمة تشير إلى ذلك الجيل الرباني الذي استطاع ـ بهمته العالية ـ أن يخرج العالم من الظلمات إلى النور، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة.

إن هذه الآية تشير إلى أولئك التلاميذ النجباء الذين تربوا في حجر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وتعلموا على يديه، فصار كل رجل منهم جبلا من الجبال، ومنارة من المنارات:

ومنهم خبيب بن عدى: لما قبض عليه سألهم أن يصلى لله ركعتين، ثم علقوه على الخشب ‏لقتله، فقال: اللهم إني لا أرى إلا وجه عدو ولا أرى وجه أحد يقرئ رسولك مني ‏السلام، فأقرأه مني السلام، فأخذت النبي صلى الله عليه وآله وسلم إغفاءه وقال: هذا ‏جبريل أتاني يقرئني من خبيب السلام.

ومنهم زيد بن الدثنة: قبض عليه المشركون وخرجوا به إلى ‏التنعيم لقتله، فسأله أبو سفيان: أما تحب يا زيد أنك في أهلك وولدك، ومحمد هنا ‏تضرب رقبته، فقال له زيد: والله ما أحب أنى في أهلي وولدي ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في المكان الذي هو فيه يشاك بشوكة، فقال أبو سفيان وكان يومئذ ‏مشركاً: فوالله ما رأيت أحداً يحب أحداً كحب أصحاب محمد لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم.

ومنهم أنس بن النضر: لما كان يوم أحد انكشف المسلمون، فتقدم أنس بن النضر وتبرأ إلى الله مما جاء به ‏المشركون، واعتذر إليه سبحانه مما فعله أصحابه، وسمع أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد مات، فقال: علام الحياة بعده، قوموا فموتوا على مثل ما مات ‏عليه.

ومنهم مصعب بن عمير  صاحب اللواء يوم أحد، قطعت يده اليمنى ثم اليسرى، ‏فأمسك اللواء بعضديه، فأنفذه ابن قميئة بحربة، فوقع وهو يقول:{ وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} (آل عمران:144)

ومنهم تلك المرأة التي أتاها خبر استشهاد أبيها وأخيها ‏وزوجها، فلا تهتم بكل ذلك، وإنما تسأل ماذا فعل برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فإذا اطمأنت على حياته ‏قالت: (كل مصيبة بعدك جلل (آي هينة)

وبهذه الهمم العالية سار من بعدهم من ورثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم.. كل منهم يسمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو يدعوه لرفع همته، وتحمل الأمانة التي أنيطت به.

قال رجل منهم: يا إمام.. إنا لم نشكو إليك ما يصيبنا من أصناف البلاء.. فنحن نستحلي ذلك في ذات الله.. ولكنا نشكو إليك ما نخافه من أنفسنا من التقصير والتفريط في سلوكنا، وذلك ما قد يشوه الدعوة العظيمة التي نحملها.

قال بديع الزمان: إن الهمة التي تحمل على التضحية في سبيل الله بكل غال ونفيس هي نفس الهمة التي تحمل على الثبات على السلوك الرفيع والخلق العظيم..

إن الهمة العظيمة لا تتوزع.. بل هي تطلب كل ما يرضي الله، فتفعله، وهي تبدأ بالحياة، فتجعلها جميعا منفعلة بطاعة الله، ثم تختم ذلك بالوفاة لتجعله موتا في سبيل الله..

لقد تحدث عبد الله بن مسعود  عن هذا، فقال: ينبغي لحامل القرآن أن يُعرف بليله إذا ‏الناسُ نائمون، وبنهاره إذا الناسُ مُفطرون، وبورعه إذا الناس يخلطون، وبتواضعه ‏إذا الناسُ يختالون، وبحزنه إذا الناسُ يفرحون، وببكائه إذا الناسُ يضحكون، ‏وبصمته إذا الناسُ يخوضون)

***

في ذلك المساء.. وبينما كان الإمام مع تلاميذه في ذلك المجلس، داهمت الشرطة محلهم، ثم اقتادتهم إلى سجن من السجون، وكنت معهم، وقد رأيت من الإمام ومن تلاميذه في السجن ما جعلني أقتنع بأن الهمم العالية لا يؤثر فيها شيء، ولا يحول دون مطالبها حائل.

لقد كان الإمام وتلاميذه يمارسون ما تتطلبه دعوتهم بتفان لا نظير له، حتى أن السجن أصبح معهدا، والمساجين تحولوا إلى تلاميذ.

وقد كان الإمام لا يطلق على السجن إلا اسم (المدرسة اليوسفية)، فسألته عن ذلك، فقال: لقد حولت همة يوسف u المتعلقة بالله السجن الذي وضع فيه مدرسة يدعو فيها إلى ربه.. لقد ذكر الله بعض ذلك، فقال:{  وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الْآَخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (36)} (يوسف)، ففي هذه الآية إخبار بأن يوسف u استطاع أن يكسب ثقة المساجين، وأن يكون قدوة صالحة لهم.

ولم يكتف يوسف u بذلك، بل ضم إليه الدعوة بلسانه، فلذلك استغل تلك الفرصة، وراح يعرفهم بربه، فقال:{ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (37) وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آَبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (38) يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (39) مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (40)} (يوسف)

وبعد أن عرفهم بربه راح بعد ذلك يفسر للسجينين ما طلباه من تفسير:{ يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الْآَخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ (41)} (يوسف)

قلت: ذلك يوسف.. وقد أخبرتني أنك وارث لمحمد.

قال: يوسف وموسى وعيسى ومحمد ـ عليهم الصلاة والسلام ـ وغيرهم من الأنبياء والرسل وجهات لعملة واحدة، ومظاهر لشخص واحد هو عبد الله وخليفة الله والإنسان الكامل ومراد الله من خلقه.. فلذلك إن حدثتك عن يوسف، فقد حدثتك عن محمد، وإن حدثتك عن محمد فقد حدثتك عن يوسف.

ما قال ذلك حتى التف بنا جمع من المساجين من الذين سجنوا بأسباب جرائم وقعوا فيها، لا بأسباب سياسية، فتركني، والتفت إليهم، وقال ـ والابتسامة تملأ أسارير وجهه([55]) ـ: إخوتي المسجونين الاعزاء الجدد والقدامى!

لقد بت على قناعة تامة من أن العناية الإلهية هي التي ألقت بنا إلى ههنا، وذلك لأجلكم أنتم، أي أن مجيئنا إلى هنا إنما هو لبث السلوان والعزاء الذي تحمله رسائل النور إليكم.. وتخفيف مضايقات السجن عنكم بحقائق الإيمان.. وصونكم من كثير من بلايا الدنيا ولأوائها.. وانتشال حياتكم المليئة بالأحزان والهموم من العبثية وعدم الجدوى.. وانقاذ آخرتكم من أن تكون كدنياكم حزينة باكية.

فما دامت الحقيقة هي هذه، فعليكم أن تكونوا إخوة متحابين كطلاب النور وكأولئك الذين كانوا معنا في سجن (دنيزلي)

فها أنتم أولاء ترون الحراس الذين يحرصون على القيام بخدماتكم يعانون الكثير من المشقات في التفتيش، بل حتى أنهم يفتشون طعامكم لئلا تكون فيه آلة جارحة، ليحولوا دون تجاوز بعضكم على بعض، وكأنكم وحوش مفترسة ينقضُّ الواحد على الآخر ليقتله، فضلاً عن أنكم لا تستمتعون بالفرص التي تتاح لكم للتفسح والراحة خوفاً من نشوب العراك فيما بينكم.

ألا فقولوا مع هؤلاء الإخوة حديثي العهد بالسجن الذين يحملون مثلكم بطولة فطرية وشهامة وغيرة.

قولوا أمام الهيئة ببطولة معنوية عظيمة في هذا الوقت: (ليست الآلات الجارحة البسيطة، بل لو سلمتم الى أيدينا أسلحة نارية فلا نتعدى على أصدقائنا وأحبابنا هؤلاء الذين نكبوا معنا، حتى لو كان بيننا عداء أصيل سابق. فقد عفونا عنهم جميعاً، وسنبذل ما في وسعنا ألاّ نجرح شعورهم ونكسر خاطرهم، هذا هو قرارنا الذي اتخذناه بإرشاد القرآن الكريم وبأمر إخوة الإسلام وبمقتضى مصلحتنا جميعاً)

ظل الإمام مع تلاميذه زمنا يحدثون المساجين بهذا ومثله حتى تحول أولئك المجرمون الذين امتلأت أياديهم بالآثام صفحات بيضاء نيرة ممتلئة بالاستقامة.

البصيرة

بعد أن حدثنا الوارث بعجائب ما رأى من علو همة بديع الزمان وتلاميذه، قلت: حدثنا عن البصيرة.. فقد ذكرت أنها الركن الرابع من أركان الإمامة.. ولا تكمل الإمامة إلا بها.

قال: أجل.. لقد ذكرها الله تعالى، فقال:{ قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (يوسف:108)

فقد اعتبر الله تعالى في هذه الآية الكريمة الدعوة على بصيرة هي منهج النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومنهج ورثته في الدعوة إلى الله.

قال رجل منا: فما البصيرة؟

قال الوارث: البصيرة هي عين القلب التي تبصر بها الأشياء، فتراها كما هي، وتتعامل معها وفق ما تراها.

فالبصيرة هي التي تجعل الداعية إلى الله يخاطب كل قوم بما يفهمون، ولا يتحدث إلا حينما يرى الفرصة سانحة لذلك..

قلت: تقصد بذلك الحكمة؟

قال: الحكمة أسلوب من الأساليب.. والبصيرة أعم من أن تكون مختصرة في أسلوب من الأساليب.

قلت: فما تشمل البصيرة؟

قال: تشمل البصيرة: الأساليب، والمراتب([56]).

الأساليب:

قلت: فما الأساليب؟

قال: هي التي أشار الله تعالى إلى مجامعها في قوله:{ ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} (النحل:125)

قلت: فهل ترى بديع الزمان قد وفى بها؟

قال: لم أر في حياتي من وفى بها مثله.. لقد كان تبعا في ذلك لقدوته صلى الله عليه وآله وسلم.. بل لم يكن يتحرك حركة في ذلك إلا على هديه صلى الله عليه وآله وسلم.

قلت: فحدثنا عما رأيت منه.

قال: ذلك كثير.. وحسبكم برسائل النور.. اقرأوها لتلمسوا هذه الأساليب جميعا في قمة قممها..

قلت: نريد أن تحدثنا عما رأيت.

قال: سأحدثكم من ذلك ما يرتبط بما نحن فيه.. لقد كنت أبحث عن الإنسان الكامل، وقد كان بديع الزمان في ذلك الحين هو الداعية للإنسان الكامل، والممثل له.. أو هو ممثل لناحية الإمامة فيه.. ولذلك لم أكن أهتم ـ إبان صحبتي له ـ إلا عن هذه الناحية فيه.

في يوم من الأيام قلت للإمام: إني أراك يا إمام تفعل أمورا عظيمة، وتبذل جهودا كبيرة، ولكني أراك تضعها في غير محلها، وكأني بك تضع بذورك في أرض قاحلة جافة لا أمل في إنباتها.

ابتسم، ثم قرأ قوله تعالى:{ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ (63) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64)} (الواقعة)

ثم قال: إن الداعية إلى الله يذكر الله حين يدعو إلى الله، وهو لا يبالي حينها هل يخاطب حجرا أم شجرا، وهو لا يبالي حينها أنبتت البذور أم لم تنبت.. هو يذكر الله بدعوته لله.. ثم يدع الأمر بعد ذلك لله، فلله الأمر من قبل ومن بعد.

قلت: ولكن البصيرة تستدعي ألا تغرس إلا في محل الزرع؟

قال: وبصيرة البصيرة أن تعمل ما طلب منك في الوقت الذي طلب منك، ثم تكل الأمر بعد ذلك لله.

لعلك تعرف ابن عباس؟

قلت: وكيف لا أعرف ذلك الجبل الهمام.

قال: لقد كان في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم صبيا صغيرا.. ولم يكن أحد من الناس يأبه له، ولكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يأبه له.. لقد خصه صلى الله عليه وآله وسلم بموعظة بليغة ظل يذكرها إلى آخر حياته، قال ابن عباس: كنت خلف النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوما فقَالَ: (يا غلام إني أعلمك كلمات: احفظ اللَّه يحفظك، احفظ اللَّه تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل اللَّه، وإذا استعنت فاستعَنْ باللَّه، واعلم أن الأمة لو اجتمعت عَلَى أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه اللَّه لك، وإن اجتمعوا عَلَى أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه اللَّه عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف)([57]

انظر.. إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يحتج ليلقي هذه الموعظة البليغة لوضع الزرابي والجلوس على المنبر وحضور الجم الغفير، بل وجهها وهو راكب في طريقه بكل تلقائية وبساطة، فكان لها كل ذلك التأثير.

وهكذا في جميع مواعظه صلى الله عليه وآله وسلم.. كان يلقيها لمن حضر سواء كانوا من وجهاء الناس، أو من بسطائهم.. كان يلقيها ببساطة ومن غير تكلف.. فلذلك كانت تؤتي ثمارها اليانعة التي ما استفاد منها جيل محمد صلى الله عليه وآله وسلم فقط.. بل استفادت منها كل الأجيال، حدث بعض الصحابة قال: (وعظنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم موعظة بليغة، ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب..)([58])

نظر إلي، وقال: إياك أن تتوهم من كونها بليغة كثرة محسناتها البديعية وسجعها وغريب ألفاظها.. إن بلاغتها تعني قدرتها على التوصل إلى إفهام المعاني المقصودة، وإيصالها إلى قلوب السامعين بأحسن صورة من الألفاظ الدالة عليها، وأفصحها وأحلاها للأسماع، وأوقعها في القلوب.

أما التكلف الممقوت فقد ورد النهي عنه، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إن من أحبكم إليّ وأقربكم مجلساً مني يوم القيامة: أحاسنكم أخلاقاً، وإن أبغضكم إليّ، وأبعدكم مني يوم القيامة الثرثارون، والمتشدقون، والمتفيهقون)([59]

وفي موقف آخر قلت للإمام: أرى المستمعين إلى أحاديثك مستغرقين تمام الاستغراق، وما أرى ذلك إلا لأساليب التشويق التي تستعملها، فمن أي بحر من بحور البلاغة استفدت هذا؟

قال: من بحر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. فقد كان صلى الله عليه وآله وسلم يعلم أن النفس الإنسانية تكره الرتابة وتنفر من المعلومة التي لا تسبقها المقدمات التي ‏تهيئ لها.. ولهذا كان من هديه صلى الله عليه وآله وسلم التمهيد لتعليمه أو تربيته بما يشوق ‏القلوب لسماعه:

فهو أحياناً يطرح المسألة على أصحابه متسائلاً: أتدرون ما الغيبة([60]).. أتدرون من المفلس([61]).. أتدرون ما أخبارها، فإن أخبارها أن تشهد على ‏كل عبد أو أمة بما عمل على ظهرها، أن تقول علي عمل كذا وكذا، في يوم كذا ‏وكذا، فهذه أخبارها([62]).. أتدرون ما هذه الريح؟ هذه ريح الذين يغتابون الناس([63]).. ‏ ‏ ‏

وهو صلى الله عليه وآله وسلم ـ أحيانا ـ يلغز لهم، كأن يقول: (إن من الشجر شجرة لا يسقط ورقها وإنما مثلها مثل المسلم فأخبروني ما هي)([64])، فلا شك أن السؤال مدعاة للتفكير وتنميته، ومدعاة للاشتياق لمعرفة الجواب مما يجعله أكثر رسوخا في الذهن.

وكان صلى الله عليه وآله وسلم يظهر في كل المواقف ما يرتبط بها من عناصر التشويق، فلهذا (كان إذا خطب احمرت عيناه وعلا صوته واشتد غضبه كأنه منذر جيش يقول: صبحكم ومساكم)([65])، وقد يغير جلسته ـ إظهارا للاهتمام ـ كما في حديث أكبر الكبائر: (وكان متكئاً فجلس فقال: ألا وقول الزور، ألا وشهادة الزور)([66])

وكان صلى الله عليه وآله وسلم لهذا ينوع في الوسائل التعليمية، فكان يشير تارة بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (أنا وكافل اليتيم كهاتين ـ وأشار بأصبعه السبابة والوسطى ـ)([67])، وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (الفتنة من هاهنا من حيث يطلع قرن الشيطان)، وأشار بيده إلى المشرق([68]).

وكان صلى الله عليه وآله وسلم يضرب الأمثلة، أو يفترض القصة، كما قال صلى الله عليه وآله وسلم: (مثل القائم في حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة فكان بعضهم أسفلها وكان بعضهم أعلاها، وكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً فلم نؤذ من فوقنا، فإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً، وإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً)([69])

وكان صلى الله عليه وآله وسلم في سبيل توضيح المعلومة بتنويع طرق عرضها يستعمل الرسم للتوضيح فقد خط خطاً مستقيماً وإلى جانبه خطوط، وقال: (هذا الصراط، وهذه السبل)، ورسم مربعاً وقال: (هذه الإنسان)

بل كان يحكي أحيانا القصص الواقعية من الأمم السابقة، كما في قصة الثلاثة الذين آواهم المبيت إلى غار، فدعوا الله بصالح أعمالهم، وقصة الذي قتل تسعة وتسعين نفساً، وأمثالها كثير. 

وكان صلى الله عليه وآله وسلم لتأكيد ما يحتاج للتأكيد، قد يضطر للحلف، وقد حلف صلى الله عليه وآله وسلم على مسائل كثيرة تزيد على الثمانين، من صيغها: (والله لا يؤمن.. والذي نفسي بيده.. وأيم الله..)، وغيرها كثير.

وفي موقف آخر سألته، وقد رأيته يناقش منحرفا مناقشة في منتهى الذكاء والفطنة والهدوء: من أين استفدت هذا الأسلوب العجيب في الإقناع؟

قال: من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. لقد ترك لنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تركة تشمل كل شيء.. وقد صدق فيما جاء به قوله تعالى:{ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً } (المائدة: 3)

قلت: فمن أين استفدت ما تحدثت به اليوم خصوصا؟

قال: من موقف حصل في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم..  لقد جاءة شاب يستأذنه في الزنا بكل جرأة وصراحة، فهمَّ الصحابة ـ م ـ أن يوقعوا به ؛ فنهاهم وأدناه وقال له: (أترضاه لأمك؟!)، قال: لا، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (فإن الناس لا يرضونه لأمهاتهم)، قال: (أترضاه لأختك؟!)، قال: لا، قال: (فإن الناس لا يرضونه لأخواتهم)([70])، وهكذا صار الزنى أبغض شيء إلى ذلك الشاب   فيما بعد، بسبب هذا الإقناع العقلي.

المراتب:

قلنا: عرفنا الأساليب، فما المراتب؟

قال: المراتب هي المراحل التي تمر بها الدعوة.. فالداعية البصير هو الذي يتعامل مع كل مرحلة بما يتناسب معها.

قلنا: فحدثنا عما رأيت في دعوة الإمام.

قال: لقد كانت دعوة الإمام تستند لدعوة إمام الأئمة.. فلذلك كان تركيزه على الأسس الكبرى التي تقوم عليها العقيدة.. وكان في دعوته يبدأ بالأقرب فالأقرب ممتثلا في ذلك لقوله تعالى:{ وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} (الشعراء:214)

لقد كان يخاطب بهذه الآية كل من ينضم إلى دعوته من التلاميذ.. وكان يقرأ عليهم قوله تعالى:{ وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} (طـه:132)، وقوله تعالى:{ وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا ‏نَبِيًّا (54) وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِندَ رَبِّهِ مَرْضِيّاً (55)} (مريم)

ويذكر لهم معها النصوص الكثيرة من أحاديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم التي تبين كيف كان صلى الله عليه وآله وسلم مهتما بدعوة أقاربه إلى الله، وكيف بدأ صلى الله عليه وآله وسلم بالأقرب، فالأقرب..

وقد حضرت مجلسا من مجالسه ذات يوم، تحدث فيه عن تأثير زوجة الداعية في نجاح دعوته، وكان من ضمن ما قاله([71]): إن من أعظم نعم الله تعالى على من سلك سبيل الدعوة إلى الله أن يُرزق زوجة ‏معينة تحمل معه همومه وتعيش معه آماله وآلامه وطموحه، بل وتحمل معه أعباء ‏دعوته، ومن نظر في سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في أول أمر دعوته وموقف ‏أم المؤمنين الأولى السيدة خديجة  يعلم تمام العلم ما يمكن أن تؤديه ‏زوجة الداعية..

لقد كانت أمنا خديجة مدرسة بحق تتعلم فيها زوجات هذا الزمان ‏كيف تكون الزوجة الحقة.

إن مواقف خديجة  كلها خالدة، ويكفي موقفها من زوجها حينما أتاها خائفا بعد أول نزول للوحي .. لقد ‏آمنت به فكانت أول المؤمنين والمؤمنات، وواسته بمالها وأعانته بكريم ‏معشرها وحسن مشورتها وكانت هي الصدر الحنون الذي يلقي عنده كل الهموم ‏والغموم وينفس فيه عن نفسه مما يلقاه من أذى المشركين وما سمع منها يوما كلمة ‏تضجر أو تبرم بل الرضا كل الرضا والمعونة الصادقة بكل ما تحمل كلمة الصدق ‏من معان.

لقد كانت خديجة  أكبر من أن تعد مآثرها، أو أن تحاط مفاخرها.. فلا غرو أن ‏أحبها المصطفى حبا لم يحبه أحدًا سواها، وما زال يذكرها بعد موتها بالحسنى..

***

وفي موقف آخر سمعته يتحدث عن دور المرأة في الدعوة إلى الله.. وقد كان حديثه لبعض المتشددين ممن كان يحمل تصورات خاطئة عن المرأة في الإسلام، وكان من حديثه له قوله: لا تقل هذا.. فمحمد صلى الله عليه وآله وسلم كان يحترم المرأة، ويعرف مكانتها، ويعرف تأثيرها الكبير في الدعوة إلى الله.. وقد حفظ لنا تاريخ الإسلام الكثير من الداعيات إلى الله على بصيرة ممن تربوا على يدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أو على أيدي ورثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم:

منهن أم عمارة نسيبة بنت كعب التي كانت من المدافعين عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم أحد، حدث سعيد بن أبي زيد الأنصاري: أن أم سعد بنت ‏سعد ابن الربيع  كانت تقول: دخلت على أم عمارة فقلت لها: يا خالة، أخبريني خبرك. فقالت: خرجت أول النهار أنظر ما يصنع ‏الناس، ومعي سقاء فيه ماء. فانتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو في ‏أصحابه والدولة والريح للمسلمين. فلما انهزم المسلمون انحزت إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقمت أباشر القتال وأذب عنه بالسيف وأرمي عن القوس حتى ‏خَلَصَت الجراح إلي. قالت: فرأيت على عاتقها جرحا أجوف له غَوْر، فقلت لها: ‏من أصابك بهذا؟ قالت: ابن قَمِئة، أقمأه الله. لمّا ولّى الناس عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أقبل يقول: دلّوني على محمد، لا نجوتُ إن نجا، فاعترضت له أنا ‏ومصعب بن عمير وأناس ممن ثبت مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فضربني هذه الضربة، ولقد ضربته على ذلك ضربات، ولكن عدوَّ الله ‏كانت عليه درعان)([72]

ومنهن زينب بنت علي بن أبي طالب  حفيدة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أمها فاطمة، وجدها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شهدت مأساة كربلاء، ورأت استشهاد أبيها وأهلها، ‏واجهت ابن زياد الأمير الطاغية بشجاعة نادرة وهي أسيرة لا تملك لنفسها ولمن ‏معها شيئا.

قال لها زياد: الحمد لله الذي فضحكم وقتلكم وأكذب أحدوثتكم. فقالت زينب: ‏الحمد لله الذي أكرمنا بنبيه صلى الله عليه وآله وسلم وطهرنا من الرجس تطهيرا، لا ‏كما تقول أنت، إنما يفضح الفاسق ويكذب الفاجر وهو غيرنا والحمد لله، فقال ‏الطاغية: كيف رأيت صنع الله بأهلك؟ قالت: كتب عليهم القتل، فبرزوا إلى ‏مضاجعهم، وسيجمع الله بينك وبينهم فتحاجّون إليه، فتختصمون عنده.

وفي موقف آخر لها  يوم سيقت مع الأسرى إلى يزيد بن معاوية قالت ‏له: أظننت يا يزيد أنه أخذ علينا بأطراف الأرض وأكناف السماء فأصبحنا نساق ‏كما تساق الأسارى أن بنا هواناً على الله وأن بك عليه كرامة؟ وتوهمت أن هذا ‏لعظيم خطرك، فشمخت بأنفك ونظرت في عطفيك جذلان فرحا. إن الله أمهلك ‏فهو قوله:{ وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ ‏لِيَزْدَادُواْ إِثْمًا وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ } (آل عمران: 178)، وستعلم أنت ومن بوأك ‏ومكّنك من رقاب المؤمنين إن كان الحكم ربّنا والخصم جدّنا وجوارحك شاهدة ‏عليك أينا شر مكانا وأضعف جندا.

***

وفي موقف آخر سمعته يقول: إن الحكمة تقتضي النظر في موضوع الدعوة، لأخذ الناس بالأول فالأول، فقضايا العقيدة وأصول الملة والديانة تأتي في المقام ‏الأول، لأنها إن لم تصح في العبد، فلن يجدي فيه الصنيع الحسن والعمل الطيب، قال تعالى:{ قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ ‏يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ ‏أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا } (الكهف: 103 – 105‏)

ففي الدعوة كليات وجزئيات، وواجبات ومستحبات ومحرمات ومكروهات، وقضايا كبرى وصغرى.. كل يجب أن تعرف مواقعها وتوضع في مواضعها.

لقد نبه صلى الله عليه وآله وسلم إلى هذه الناحية المهمة حين قال لمعاذ حين بعثه إلى اليمن: (إنك تأتي قوما من أهل الكتاب فليكن أول ما ‏تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فإن هم أطاعوا لك ‏بذلك، فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم ‏أطاعوا لذلك، فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد ‏على فقرائهم)([73])  

***

مكثت في صحبة بديع الزمان مدة من الزمن إلى أن قضى الله بأن يخرج من تلك الجبال تاركا خلفه أمة من الناس تستنير بالأنوار التي ورثها من نور النبوة.

بعد أن لم يبق بديع الزمان في تلك الجبال والقرى المحيطة بها قررت أن أخرج منها التماسا لوارث آخر، ولأنوار جديدة من أشعة شمس محمد صلى الله عليه وآله وسلم.

في الطريق وجدت نفس الشرطي الذي كان أول من التقيته، ولكني وجدته بصورة مختلفة تماما.. لقد كان يحمل مسواكا في يده، وكانت أسنانه بيضاء تلمع ببريق الطهر، وكانت قامته التي أحنتها المقاصل قد اعتدلت، فبدا أكثر شبابا، وأوفر حيوية.

اقتربت منه، وقلت: ألست الذي أرسل تهديداته لي أول مقدمي لهذه البلاد؟

التفت إلي، وكأنه لم يعرفني، وقال: كثيرون يقولون ما تقول.. وأنا أعتذر لك كما أعتذر لهم.

تعجبت من هذا التغير المفاجئ، وقلت: لكأني بك لست الذي أرسل تلك التهديدات.

قال: لقد كانت نفسي الأمارة بالسوء.. وعقلي المجادل المخادع.. وروحي التي نزلت أسفل سافلين بعد أن أكرمها الله بأعلى عليين.

قلت: فما الذي طهر نفسك، ومسح الخداع عن عقلك، وملأ بالطهر روحك؟

قال: تعال معي.. لأريكها.. فقد كانت هي سبب كل ما تراه من تغير.

سرت معه في دهاليز مظلمة، خشيت فيها على نفسي إلى أن وصلنا إلى قبو مزود بكل وسائل التستر والحماية.. دخلنا إليه، وهناك أخرج صندوقا عتيقا، أخرج منه أوراقا ملفوفة.. فتحها فإذا بها رسائل النور..

ومن العجب العجاب أني وجدت أنها المخطوطة التي ساهمت في كتابتها لنشر رسائل النور..

التفت إلي، والابتسامة تملأ محياه، وقال: لقد كانت هذه الرسائل هي المفتاح الذي فتح الله به علي من شمس محمد صلى الله عليه وآله وسلم ما كان محجوبا عني.

قلت: الكتب في نصرة الإسلام كثيرة.. فكيف لم تهتد إلا بهذه؟

قال: الكتب وحدها لا تكفي.. لابد من الورثة الذين يحولون من المكتوبات واقعا.. ومن الكلمات ثمرات يانعة يأكلها الناس حية ناضجة.

قلت: فقد عرفت كاتبها إذن.

قال: لقد من الله علي بذلك.. وقد رأيت منه ما حولني إلى ما ترى.

قلت: فما رأيت؟

قال: أرسلني الضابط لمصادرة ما عند بديع الزمان من أوراق وكتب، فذهبت، وكنت متصورا أن هذه المهمة مهمة خطيرة، وأنه سيصعب علي في تلك الغابات أن أجد ضالتي.. ولكن بديع الزمان  ـ وبمجرد أن وصلت إليه ـ حياني، وكأني تلميذ من تلاميذه، ثم قدم لي ما عنده من طعام، ثم قدم لي هذه الرسائل، وهو يقول لي بكل هدوء: لعلك جئت تبحث عن هذا.

قلت: لقد جئت أبحث عن رسائلك وكتبك.

قال: فخذها.. فكل ما تريده موجود هنا..

فرحت كثيرا.. وأسرعت إلى الضابط أبشره بأني استطعت في لمح البصر أن أقوم بالمهمة التي كلفني بها..

حثني الضابط على القراءة الجيدة لما كتب في تلك الرسائل.. بل أعطاني عطلة لأجل ذلك.. قال لي حينها: إياك أن يمر عليك أي حرف دون أن تمعن في قراءته، وفي محاولة فهم ما فيه..

فعلت ما طلبه مني بدقة.. وقد كان ذلك سبب ما تراني فيه.

قلت: فماذا فعل الضابط بعد رآك قد عدت إليه بغير الوجه الذي ذهبت به.. ألم يفطن لتغيرك؟

قال: بلى.. لقد فطن له.. وقد رقاني بسببه.

قلت: ما باله؟.. أأصابته عدوى بديع الزمان؟

قال: لو لم تصبه لم يرسلني.. لقد أرسلني في الظاهر لأعاقب الإمام، ولكنه في الباطن لم يرد مني إلا أن أصير تلميذا من تلاميذه([74]).


([1])   يعتبر بديع الزمان النورسي من الدعاة المخلصين الذين لم يخلطوا دعوتهم بأي غرض دنيوي، ولا تعصب جهوي.. فقد كان يختصر دوره في حفظ الإيمان، ومواجهة الإلحاد الذي بدأ ينتشر في المجتمعات الإسلامية نتيجة التأثر بالحضارة الغربية.

وقد عبر عن ذلك بقوله عند ذكره لوظائف الإمام المهدي، فمن أول وظائفه: (انقاذ الايمان، وذلك بالقيام بدحض الفلسفة والفكر المادي قبل كل شيء، لانتشار أفكار الماديين والطبيعيين انتشار الطاعون في البشرية واستيلاء العلوم والفلسفة المادية على الأذهان.. إن حفظ أهل الإيمان من شرور الضلالة، يقتضي إجراء تحقيقات علمية واسعة وأبحاث متواصلة دائبة، التي تتطلب التجرد من هموم الدنيا ومشاغلها تجرداً كاملا)

وهو محل اتفاق من جميع الطيبين من هذه الأمة، وخصوصا من أتباع أهل البيت، وقد قال في الإشادة بهم: (ليس في الدنيا قاطبة عصبة متساندة نبيلة شريفة ترقى إلى شرف آل البيت ومنزلتهم، وليس فيها قبيلة متوافقة ترقى إلى اتفاق قبيلة آل البيت، وليس فيها مجتمع أو جماعة منورة أنور من مجتمع آل البيت وجماعتهم.. نعم. إنَّ آل البيت الذين غُذّوا بروح الحقيقة القرآنية، وارتضعوا من منبعها، وتنوّروا بنور الايمان وشرف الاسلام، فعرجوا إلى الكمالات، وأنجبوا مئات الاَبطال الاَفذاذ، وقدّموا اُلوف القُوَّاد المعنويين لقيادة الاَُمّة؛ لابد أنهم يُظهِرون للدنيا العدالة التامة لقائدهم الاعظم المهدي الاكبر، وحقانيته بإحياء الشريعة المحمدية، والحقيقة الفرقانية، والسنّة الاَحمدية، وتطبيقها، وإجراءاتها.. وهذا الاَمر في غاية المعقولية فضلاً عن أنّه في غاية اللزوم والضرورة، بل هو مقتضى دساتير الحياة الاجتماعية) (أشراط الساعة (من كليات رسائل النور ـ الشعاع الخامس) بديع الزمان سعيد النورسي ترجمة احسان قاسم الصالحي ط 1 مطبعة الحوادث ـ بغداد 1412 هـ، ص: 37 ـ 38.

ولهذا اخترنا الحديث عنه في هذا الفصل مع الملاحظة التي ذكرناها سابقا، وهي أننا نتصرف في كل ما يرتبط بالشخصية من أحداث، ما عدا التي نشير إليها في الهامش.

([2])   فرقت في هذه الرسالة بين الإمامة والقيادة.. فاعتبرت الإمامة مرتبطة بالشؤون الدينية المحضة من الدعوة إلى الله والتربية عليها.. واعتبرت القيادة ما ارتبط من الإمامة بالدنيا كالسياسة والإدارة وغيرها.

والمصطلح الشرعي في هذا يعتبر كلا الناحيتين إمامة: فالإمام له كلتا الوظيفتين: حماية الدين ونصرته والدعوة له.. وفي نفس الوقت حفظ الدنيا، وتوفير ما تحتاجه الرعية منها.

وقد أشار القرآن الكريم إلى ارتباط الإمامة بالناحية التي اقتصرنا عليها هنا في قوله تعالى:{ وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ} (الانبياء:73)، وقال تعالى:{ وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} (القصص:5)

ونشير ـ هنا ـ إلى أن التفاصيل الكثيرة المرتبطة بهذه الناحية المهمة خصصنا لها رسالة من هذه السلسلة هي رسالة (النبي الهادي)، وهي الرسالة التالية لهذه الرسالة.

([3])   ذكرنا (أتاترك) ومنابع استبداده ومظاهرها في رسالة (أوتاد الاستبداد) من (رسائل السلام)

([4])   اقتبسنا هذا من تصريح الجلاد (قارا علي) الى صحيفة (صون بوسطة) في عددها الصادر في 3/ 3/ 1931.

([5])   هذا ما وصفت به صحيفة (جمهوريت) في عددها الصادو يوم 16/ 7/ 1930 ما حصل في شرقي الاناضول.

([6])  جمع الباحث الفاضل (نجم الدين شاهين أر) مشاهدات معظم الذين عاصروا الأستاذ النورسي وسجّل ذكرياتهم عنه في أربعة مجلدات موسومة بـ Son sahitler وترجمت مقتطفات منها، ونشرت باسم (ذكريات عن سعيد النورسي)، والمنقول هنا بعض الأحداث المرتبطة بتلك الذكريات.

([7])   أشير إلى اسمه (سعيد).

([8])   هذا بعض ما قاله بديع الزمان في (الدفاعات) انظر: الشعاع الرابع عشر، ص: 403.. وقد تصرفت في النص بما يستدعيه المحل.

([9])   انظر: المكتوب السادس عشر.

([10])   رواه البزار.

([11])   رواه البخاري ومسلم.

([12])   رواه أحمد.

([13])   رواه أحمد.

([14])   رواه مسلم.

([15])   رواه مسلم.

([16])   رواه أحمد.

([17])   رواه أبو داود والترمذى وابن ماجه والنسائى.

([18])   الكلام التالي للنورسي منقول من سيرته الذاتية ص: 492.

([19])   رواه أحمد.

([20])   رواه البيهقي في الأسماء والصفات.

([21])   رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه وابن حبان.

([22])   رواه البخاري.

([23])  رواه أحمد والطبراني.

([24])  رواه مسلم وغيره.

([25])  رواه النسائي، وأبو داود.

([26])   رواه أبو الشيخ، وابن حبان.

([27])   رواه مسلم.

([28])   رواه ابن حبان، والحاكم.

([29])   رواه أحمد، وأبو الشيخ.

([30])   رواه البخاري ومسلم.

([31])   رواه البخاري.

([32])   رواه البيهقي في شعب الإيمان.

([33])   رواه البخاري ومسلم.

([34])  رواه أحمد وأبو داود.

([35])  رواه أبو داود.

([36])  رواه عبد بن حميد، وأبو الشيخ.

([37])  رواه البيهقي.

([38])  رواه البخاري في الأدب المفرد.

([39])   رواه مسلم.

([40])   رواه البخاري ومسلم.

([41])   رواه البخاري ومسلم.

([42])   رواه ابن أبي شيبة.

([43])   رواه البخاري ومسلم.

([44])   رواه البخاري وغيره.

([45])   رواه ابن أبي الشيبة، وأحمد، والنسائي، وابن ماجه، وابن مردويه.

([46])   رواه مسلم، وابن عساكر.

([47])   رواه البخاري ومسلم.

([48])   رواه البخاري ومسلم.

([49])   رواه محمد بن عمر الأسلمي في مغازيه.

([50])   رواه البخاري في الأدب.

([51])   مقتطفات من الشعاع التاسع، ص: 233، فما بعدها.

([52])   انظر: فصل (العابد) من هذه الرسالة.

([53])   رواه البخاري.

([54])  رواه الترمذي وحسنه.

([55])   النص المذكور هنا منقول من (الكلمة الثالثة عشرة) من رسائل النور.

([56])   سنشير مجرد إشارات إلى هذه النواحي هنا، أما تفاصيلها، فقد ذكرناها في رسالة (النبي الهادي)

([57])   رَوَاهُ الْتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صحيح.

([58])   رواه أبو داود والترمذي وَقَالَ حَدِيثٌ حَسَنٌ صحيح.

([59])   رواه التِّرمِذِيُّ وَقَالَ حَدِيثٌ حَسَنٌ.

([60])   رواه مسلم وأبو داود وغيرهما.

([61])   رواه مسلم وغيره.

([62])   رواه الترمذي وأحمد والحاكم.

([63])   رواه أحمد.

([64])   رواه البخاري.

([65])   رواه ابن حبان والحاكم وابن ماجة.

([66])   رواه البخاري.

([67])   رواه البخاري وأبو داود..

([68])   رواه مسلم.

([69])   رواه البخاري.

([70])  رواه أحمد بإسناد جيد.

([71])   من مقال بعنوان (زوجة الداعية.. جندي مجهول في طريق الدعوة) نقلا عن (المفصل في فقه الدعوة إلى الله)

([72])   سيرة ابن هشام.

([73])   رواه البخاري ومسلم.

([74])  ذكر النورسي ما يدل على هذا، فقال: (لم يتمكن أعداء رسائل النور المتسترون أن يتحملوا تلك ‏الفتوحات النورية، فنبهوا‎ ‎المسؤولين في الدولة ضدنا وأثاروهم علينا، فأصبحت الحياة – مرة أخرى ‏‏- ثقيلة مضجرة،‎ إلاّ أن العناية الإلهية تجلت على حين غرة، حيث أن المسؤولين أنفسهم – وهم ‏أحوج‎ ‎الناس إلى رسائل النور – بدأوا فعلاً بقراءة الرسائل المصادرة بشوق واهتمام، وذلك‎ ‎بحكم ‏وظيفتهم. واستطاعت تلك الرسائل بفضل الله أن تليّن قلوبَهم وتجعلها تجنح إلى‎ ‎جانبها. فتوسعت ‏بذلك دائرة مدارس النور، حيث أنهم بدأوا بتقديرها والإعجاب بها‎ ‎بدلاً من جرحها ونقدها. ‏فأكسبتنا هذه النتيجة منافع جمة، إذ هي خير مائة مرة ممّا‏‎ ‎نحن فيه من الأضرار المادية، وأذهبت ما ‏نعانيه من اضطراب وقلق) (انظر: اللمعات:394).

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *