سادسا ـ الأولياء

سادسا ـ الأولياء

فتحت دفتر الغريب على فصله السادس، فوجدت عنوانه (الأولياء)، فقلت: من تقصد بالأولياء؟

قال: أولئك الذين فتحت لهم أبواب السماء، وانكشفت لهم الحجب، واتسع لهم من الحقائق ما ضاق على غيرهم، ورأوا من ملكوت الله ما راحوا يبشرون به عباد الله.

قلت: فما علاقة هؤلاء بشمس محمد صلى الله عليه وآله وسلم ؟

قال: هؤلاء هم المستقبل الأعظم لأشعة شمس محمد صلى الله عليه وآله وسلم .. ولهذا فإنهم أقرب الخلق إليه، وأعرف الخلق به، وأكثر الخلق أدبا معه.

قلت: بم استفادوا ذلك القرب، وذلك الأدب؟

قال: بالسير على قدمه.. فمن سار على قدم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. ومن وحد وجهته إليه ظفر بالأنوار التي لا ينعم بها إلا المخلصون المخلّصون من شوائب الأنا.

قلت: لا أرى أسماء في هذا الفصل.. بل أرى كلمات.

قال: الأولياء كلمات وليسوا أسماء.. وحقائق وليسوا حروفا.

قلت: لم أفهم..

قال: الولي الذي يعيش الحقائق تتبناه الحقائق، وتصبح هي المعبرة عنه، فالولي الحيي يعبر عنه الحياء.. والولي المحب يعبر عنه الحب.. والولي المتوكل يعبر عنه التوكل.. وهكذا.

قلت: أعلم بعض هذا.. فقد ذكروا لطريق الله معارج ومقامات ومنازل.. ولكل حظه منها.

قال: الأولياء هم الذين ظفروا بكل ذلك.. ولهذا كانت الكلمات هي المعبر عنهم لا الأسماء.

قلت: أرى كلمات كثيرة.

قال: سأكتفي لك في هذا المقام بأربعة منها.. فإني أرى الجدل في عصرنا شديدا.. ولن أذكر لك إلا ما يطيقون.

المحبة:

قلت: فما الكلمة الأولى؟

قال: الكلمة التي توله القلوب، وتملؤها بالأشواق اللذيذة التي لا تعرف الحزن.

قلت: تقصد محبة الله والشوق إليه !؟

قال: وأقصد محبة رسوله والشوق إليه.. فيستحيل على من أحب الله أن لا يحب رسوله.

قلت: فكيف بدا لك أن تسجل هذه الكلمة؟

قال: لذلك قصة.. كنت في بلاد من بلاد الله.. وكنت مشتت الفؤاد ممتلئا بالأكدار إلى أن سمعت غناء عذبا من أحد البيوت يردد قول محمد إقبال:

قد كان هذا الكون قبل وجودنا
 
روضاوأرزهارا بغير شميم
  
والورد فى الأكمام مجهول الشذى
 
لا يرتجى ورد بغير نسيم
  
بل كانت الأيامُ قبل وجودنا
 
ليلا لظالمها وللمظلوم
  
لما أطل محمدٌ زكت الرُبا
 
و اخضر في البستان كُلُ هشيم
  
و أذاعت الفردوس مكنون الشذى
 
فإذا الورى في نضرة ونعيم
  

فاقتربت من الباب، فوجدته مفتوحا، فدخلت من غير استئذان، فلم أجد نفسي إلا في حلقة كهالة الشمس تمتلئ بالأنوار.. كانوا سبعة نفر، وكان كل فرد منهم شمسا لا تختلف عن الشمس.

لم يروني وأنا أدخل، ولم يسمعوني وأنا أسلم، بل ظلوا على حالهم غارقين في تأملاتهم، فجأة نطق أحدهم يقول:

عبد بنار الشوق فيك معذب
 
لكنه أبدا له يستعذب
  
جودوا بوصل منكم وبعطفة
 
تشفي سقاما لا أراه يذهب
  
لي فيكم عشق وفرط صبابة
 
وفؤادي منكم فيه نار تلهب
  
يا سعد من خصصتموه بودكم
 
وبمذهب لكم غدا يتمذهب
  
ولقد نأيت عن المنى بخطيئتي
 
وحاشاكم أن تطردوا من يذنب
  
فتمام قصدي من ندائكم نفحة
 
تجلوا الصدا عني كي لا أحجب
  

التفت إليه، وقلت: أي محبوب هذا الذي ملأ عليك كيانك، فرحت تصرح في الوقت الذي يكتم المحبون فيه حبهم؟

لم يلتفت إلي، ولم يجبني، بل نطق ثانيهم، وقال:

من مثل أحمد في الكونين نهواه
 
بدر جميع الورى في حسنه تاهوا
  
من مثله وإله العرش شرفه
 
في الخلق والخلق إن الله أعطاه
  
الشمس تخجل من أنوار طلعته
 
حارت عقول الورى في وصفه معناه
  
تبارك الله ما أحلى شمائله
 
حاز الجمال فما أبهى محياه
  
يا ربع وادي النقا يا أهل كاظمة
 
في حيكم قمر في القلب مأواه
  
صلى عليه إله العرش ما طلعت
 
شمس وما حدا الحادي مطاياه
  

قلت: أنتم تتغنون بحب محمد إذن.. لا بحب ليلى ولبنى !؟

قال ثالثهم:

إذا مدح الشعراء أرباب عصرهم
 
مدحت الذي من نوره الكون أبهج
  
وإذا ذكروا ليلى ولبنى فإنني
 
بذكر الحبيب الطيّب الذكر ألهج
  
أما ومحل الهدي تدمي نحورها
 
ومن ضمّه البيت العتيق المدجج
  
لقد شاقني زوّار قبر محمد
 
فشوقي مع الزوّار يسري ويدلج
  
تظلّ الهوادي بالهوادج ترتمي
 
وما لي في ركب المحبّين هودج
  
وتمسي بروق الأبرقين ضواحكا
 
فتغري غرامي بالبكا وتهيّج
  
وأرتاح من أرواح أطيب طيبة
 
إذا المسك في أرجائها يتأرّج
  
بلاد بها جبريل يسحب ريشه
 
وينزل من جوّ السماء ويعرج
  
نبي تغار الشمس من نور وجهه
 
بهيّ نقيّ الثغر أحور أدعج
  
تزيد به الأيام حسنا ويزدهي
 
به الدين والدنيا به تتبرّج
  
مكارم أخلاق وحسن شمائل
 
وشيمة جود بحره متموّج
  
غياث لملهوف وغوث لرائد
 
وليث إذا صال الكمي المدجج
  

قلت: بالله عليكم إلا حدثتموني كما يحدث الناس بعضهم، فإني غريب في هذا البلاد، ولا أفهم من الشعر ما أفهمه من النثر، فانثروا نثر الله عنكم الآلام والأحزان.

قال أحدهم: إن أردت أن ينثر الله عنك الهموم والأحزان، فتعلق بحبل النبي صلى الله عليه وآله وسلم.. فلا يحزن من حل بساحته، ولا يعطش من شرب من يده.

قلت: فبأي حبل أتعلق؟

قالوا جميعا: بحبل الحب.

قلت: وما حبل الحب؟

قال أحدهم: ليس هناك حبل في الدنيا غير حبل الحب.

قلت: أنا لم أسأل عن غير حبال الحب، ولكني سألت عن حقيقة هذا الحبل، وعن مدى جدواه.

قال أحدهم: حب محمد صلى الله عليه وآله وسلم هو الذي يربطك بمنبع النور والجمال.

قلت: وحب الله؟

قال: لا يكمل حب الله حتى تمتلئ النفس بحب المعرف بالله والدال عليه والهادي إليه والمعرف بمراضيه.

قلت: من هذا الذي اكتمل له هذا؟

قال: لم يكتمل هذا في أحد كما اكتمل في رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فبه عرفنا الله، وبه عبدناه، وبه أشرقت شموس الحقائق على هذا الكون، وبه انبلجت أنوار الحكم على العقل البشري.

قال آخر: هو الخلاصة التي اجتمعت فيها جميع الخيرات، والشمس التي صدرت منها جميع الأشعة، والبذرة التي أنبتت شجرة الجمال في الكون.

قال آخر: كما أن الحياة هي خلاصة مترشحة من هذا الكون، والشعور والحس مترشحان من الحياة، فهما خلاصتها، والعقل مترشح من الشعور والحس، فهو خلاصة الشعور، والروح هي الجوهر الخالص الصافي للحياة، فهي ذاتها الثابتة المستقلة. كذلك الحياة المحمدية – المادية والمعنوية – مترشحة من الحياة ومن روح الكون، فهي خلاصة خلاصتها والرسالة المحمدية مترشحة من حسّ الكون وشعورهِ وعقلِه، فهي اصفى خلاصته([1]).

قال آخر: إن جمال الكائنات وحياتها ونورانيتها التي يعيش المؤمن في أكنافها لم تكن لتتحقق لولا رسالة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والمعاني الجميلة التي تحملها.

قال آخر: إن حياة محمد صلى الله عليه وآله وسلم  – المادية والمعنوية – بشهادة آثارها حياة لحياة الكون، والرسالة المحمدية شعور لشعور الكون ونور له. والوحي القرآني بشهادة حقائقه الحيوية روح لحياة الكون وعقل لشعوره.. فاذا ما فارق نور الرسالة المحمدية الكون وغادره، مات الكون وتوفيت الكائنات، واذا ما غاب القرآن وفارق الكون، جنّ جنونه وفقدت الكرة الأرضية صوابها، وزلزل عقلها، وظلت بلا شعور، وأصطدمت باحدى سيارات الفـضاء، وقامت القيامة([2]).

قال آخر: لنتصور الأرض والكون والبشر لولا التعاليم التي جاءنا به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولنتأمل قيمة الحياة لو خلت من الحياة التي بثها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

قال آخر: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو النافذة التي نتطلع بها إلى الحقائق، وهو العين التي نبصر بها أسرار الكون والحياة، وقد قال بعض السلف: (رأيت الجنة والنار حقيقة)، فقيل له: (وكيف رأيتهما وأنت في الدنيا؟)، فقال: (رآهما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  فرأيتهما بعينيه، ورؤيتي لهما بعيني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم آثر عندي من رؤيتهما بعيني، فإن بصري قد يزيغ عند رؤيتهما أو يطغى، أما بصر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فما زاغ وما طغى)

قلت: إنكم تذكرون أوصافا كثيرة يعتبرها بعض قومهم من المبالغات في حق نبيكم.

قال أحدهم: لو ظللنا طول دهرنا نصف أفضال نبينا علينا ما انتهينا.

قال آخر: كيف يقولون هذا.. ونحن لم نخرج عن قوله تعالى في وصفه:{  يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُنِيراً) (الأحزاب:45 ـ 46)، وقوله:{ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (لأعراف:157)، وقوله:{ قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) (لأعراف:158)

قال آخر: إن تعمقك في معاني هذه الكلمات يهديك إلى بحور من العلم بحقيقة محمد صلى الله عليه وآله وسلم لا يطيقها الجامدون.

قلت: لم أفهم.

قال: لقد وصف القرآن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم بأنّه بالمؤمنين رؤوف رحيم، ورحمة للعالمين، واعتبره مبشرا ونذيراً وداعياً إلى الله بإذنه، ويتلوا عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة ويهديهم إلى صراط مستقيم، فأي إحسان أجل قدراً وأعظم خطراً من إحسانه إلى جميع المؤمنين، وأي إفضال أعمّ منفعة وأكثر فائدة من إنعامه على كافة المسلمين، إذ كان ذريعتهم إلى الهداية، ومنقذهم من العماية، وداعيهم إلى الفلاح والكرامة، ووسيلتهم إلى ربّهم وشفيعهم والمتكلم عنهم والشاهد لهم والموجب لهم البقاء الدائم والنعيم السرمدي.

قال آخر: فإذا كان الإنسان يحب من منحه في دنياه مرة أو مرتين معروفاً أو استنقذه من هلكة أو مضرة مدة التأذّي بها قليل منقطع، فمن منحه ما لا يبيد من النعيم ووقاه ما لا يفنى من عذاب الجحيم أولى بالحب، وإذا كان يحب بالطبع ملكاً لحسن سيرته أو حاكماً لما يؤثر من قوام طريقته أو قاص بعيد الدار لما يشاد من علمه أو كرم شيمته فمن جمع هذه الخصال كلها على غاية مراتب الكمال أحق بالحب وأولى بالميل.

قلت: وعيت هذا.. ولكن الحريصين على صفاء التوحيد من قومكم يخافون على التوحيد في أقل من هذا.

قال أحدهم: فخاطبهم بقوله تعالى:{ قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) (التوبة:24)

قلت: فما في هذه الآية؟

قال: هذه الآية الكريمة جمعت أصناف ما يحبه الناس ويؤثرونه وتتوجه به حياتهم على أساسه، ووضعته في كفة ووضعت حب الله ورسوله في كفة أخرى، ثم أنذرت من قدم أهواءه ومحابه على الله، واعتبرته من الفاسقين.

قال آخر: أما من خالف ذلك وقدم الله ورسوله على من سواه، فقد أثنى الله عليه بقوله:{ لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْأِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (المجادلة:22)

ففي الآية الكريمة من أصناف الثواب والجزاء لمن ضحى بكل محبة وهوى أمام محبة الله ورسوله ما يقصر عنه الوصف.

قلت: هم يذكرون السنة أكثر من ذكرهم للكتاب.

قال: فاذكر لهم منها قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين)([3])، فقد جمع صلى الله عليه وآله وسلم في هذا الحديث أصناف المحبة، وأمر بتقديم محبة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عليها.

قال آخر: وأخبر صلى الله عليه وآله وسلم أن حلاوة الإيمان لا تتحقق إلا لمن قدم محبة الله ورسوله على من سواهما، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (ثَلاثٌ مّنْ كُنَّ فيه وجَدَ حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهمُا، وأن يُحبَّ المرءَ لا يُحبهُ إلا لله، وأن يَكرَهَ أن يعود في الكفر كما يكره أن يُقذف في النار)([4])

قال آخر: هذا الحديث أصل من أصول الإسلام، وكله حديث عن الحب، وإخبار بأن الحب وما ينتج عنه من مشاعر هو أعمق أعماق الإسلام.

قلت: ابتعدوا عن النصوص.. وحدثوا عقلي ببراهين العقول ([5]).

قال أحدهم: فاسمع ما يقول ابن حجر..

قلت: فما قال؟

قال: لقد قال: (إن محبوب الإنسان إما نفسه وإما غيرها، أما نفسه فهو أن يريد دوام بقائها سالمة من الافات، وهذا هو حقيقة المطلوب وأما غيرها فإذا حقق الأمر فيه فإنما هو بسبب تحصيل نفع ما على وجوهه المختلفه حالا ومالا فإذا تأمل النفع الحاصل له من جهة الرسول  صلى الله عليه وسلم الذي أخرجه من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان إما بالمباشرة وإما بالسبب علم أنه سبب بقاء نفسه البقاء الأبدي في النعيم السرمدي وعلم أن نفعه بذلك أعظم من جميع وجوه الانتفاعات فاستحق لذلك أن يكون حظه من محبته اوفر من غيره لأن النفع الذي يثير المحبة حاصل منه أكثر من غيره ولكن الناس يتفاوتون في ذلك بحسب استحضار ذلك والغفلة عنه)([6])

قلت: عرفت دلالة العقل على هذا الحب.. فما ثمراته؟

قال أحدهم: هذا الحب هو المحرك لكل خير، الداافع لكل كمال.

قال آخر: ولهذا كان الاتباع الحقيقي لسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو الاتباع الصادر عن المحبة.

قال آخر: ويدل على هذا قوله صلى الله عليه وآله وسلم  لأنس بن مالك: (يا بنيَّ إن قدرت أن تصبح وتمسي ليس في قلبك غِشٌ لأحدٍ فافعل)، ثم قال له: (يا بُنَيَّ وذلك من سنتي، ومن أحيا سنتي فقد أحبني، ومن أحبني كان معي في الجنة)، فقد أخبر صلى الله عليه وآله وسلم أن علامة حبه له صلى الله عليه وآله وسلم إحياء سنته.فمن اتصف بهذه الصفة فهو كامل المحبة لله ورسوله.

قال آخر: ويدل على هذا كذلك كل الأحاديث التي تبين مواصفات القريب من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهي في مجموعها تدل على الخصال الكبرى التي كان يتصف بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الأخلاق الفاضلة التي مدحه بها ربه، فقال تعالى:{ وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) (القلم:4)

قال آخر: الخلق العظيم هو السنة التي كان عليها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهي التي أخبر بالأجر الجزيل لمن أحياها، ودليل ذلك الأحاديث التي تبين موصافات القريب منه صلى الله عليه وآله وسلم، ومن ذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم في هذا الحديث الصحيح الصريح: ( إن من أحبكم إلي وأقربكم مني مجلسا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقا وإن أبغضكم إلي وأبعدكم مني مجلسا يوم القيامة الثرثارون والمتشدقون والمتفيهقون قالوا يا رسول الله قد علمنا الثرثارون والمتشدقون فما المتفيهقون قال المتكبرون)

قال آخر: وفي أحاديث أخرى يجعل القريب منه هو القريب من المستضعفين من الناس، كقوله صلى الله عليه وآله وسلم ترغيبا في الاهتمام بتربية البنات: (من عال جاريتين دخلت أنا وهو الجنة كهاتين وأشار بأصبعيه)، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم في كفالة الأيتام: ( أنا وكافل اليتيم في الجنة كهاتين وأشار بأصبعيه يعني السبابة والوسطى)

قال آخر: وفي حديث آخر يذكر فضل المرأة التي تحبس نفسها على أيتامها، قال صلى الله عليه وآله وسلم: ( أنا وامرأة سفعاء الخدين كهاتين يوم القيامة وأومأ يزيد بالوسطى والسبابة امرأة آمت من زوجها ذات منصب وجمال حبست نفسها على يتاماها حتى بانوا أو ماتوا)

قلت: أرى قوما يقصرون المحبة على ما يتصورونه إحياء السنة.

قال أحدهم: علامة إحياء السنة الحقيقي هو أن يعيش حياة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقيمها ومبادئها وسموها، وهو يستحضر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في كل حركة من حركاته، حتى كأنه يشاهده عيانا، وبذلك يكون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو دليله الأعظم على الله، وعلى الأدب مع الله.

قال آخر: وهذا ما كان يعيشه الربانيون ويستشعرونه، وهو المراد من إخبارهم عن اجتماعهم برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، يقول الشيخ عبد الوهاب الشعراني: (سمعت سيدي عليا الخواص رحمه الله يقول: لا يكمل عبد في مقام العرفان حتى يصير يجتمع برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أي وقت شاء)

قال آخر: لقد ذكر الشيخ جلال الدين السيوطي ذلك ثم قال: (رأيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم واجتمعت به نيفا وسبعين مرة)

قال آخر: ويذكر عن الشيخ إبراهيم المتبولي أنه كان لا يحصى اجتماعه به صلى الله عليه وآله وسلم لأنه كان يراه في أحواله كلها ويقول: (ليس لي شيخ إلا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم)

قال آخر: ويذكر عن الشيخ أبي العباس المرسي أنه كان يقول: (لو احتجب عني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ساعة ما عددت نفسي من جملة المؤمنين)

قلت: كيف هذا؟

قال أحدهم: هذا الاجتماع ـ الذي لا ينكره إلا معاند ـ دليل على الحب المتغلغل في الصدر لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأن عين القلب والروح لا ترى إلا ما تحبه، وقد كان خيال ليلى يرتسم في عين قلب المجنون في كل محل.

لم أجد ما أقول، فراح أحدهم ينشد بصوت عذب قصيدة البرعي التي يقول فيها:

هم الأحبة إن جارواوإن عدلوا
 
فليس لي معدِلٌ عنهموإن عدلوا
  
هم الأحبة إن جارواوإن عدلوا
 
والمالكون لقلبي كيفما فعلوا
  
فليعلموا أن ودي ما يغيرهم
 
تغير من سجاياهم ولا ملل
  
و كل شيء سواهم لي به بدلٌ
 
عنهموما لي بهم من غيرهم بدلُ
  
إني وإن فتتوا في حبهم كبدي
 
باقِ على وُدِّهم راضِ بما فعلوا
  
شربت كأس الهوى العذري من ظمأٍ
 
و لذّ لي في الغرام العلُّوالنهلُ
  
فليت شعري والدنيا مفرقةُ
 
بين الرفاق وأيام الورى دُوَلُ
  
هل ترجع الدارُ بعد البعدِ آنسةً
 
و هل تعودُ لنا أيامُنا الأوَلُ
  
يا ظاعنين بقلبي أين ما ظعنوا
 
و نازلين بقلبي أين ما نزلوا
  
ترفّقوا بفؤادي في هَوَادِجِكم
 
راحت به يوم راحت بالهوى الإبلُ
  
فوالذي حَجّتِ الزوارُ كعبتَه
 
و من ألمَّ بها يدعوويبتهلُ
  
لقد جرى حُبُّكم مجرى دمي فدمي
 
بعد التفرقِ في أطلالكم طَلَلُ
  
لم أنس ليلة فارقت الفريق وقد
 
عانوا الحبيب عن التوديع وأرتحلوا
  
لما تراءت لهم نار بذي سلم
 
ساروا فمنقطعٌ عنها ومتصلُ
  
لا درَّ درُّ المطايا أينما ذهبت
 
إن لم تُنخ حيث لا تثنى لها العُقلُ
  
في روضة من رياض الجنة ابتهجت
 
حسنا وطاب بها للنازل النزل
  
حيث النبوة مضروبٌ سرادقها
 
وطالع النور في الآفاق يشتمل
  
وحيث من شرّف اللهُ الوجودَ به
 
فأستغرق الفضلَ فرداً ما له مثلُ
  
محمد سيد السادات من مضرٍ
 
سرُّ السرارة شمسٌ ماله طَفَل
  
شوارد المجد في مغناه عاكفة
 
وريف رأفته غصنُ الجَنَى الخضِلُ
  
تثني عليه المثاني كلما تليت
 
كما أستنارت به الأقطار والسُّبلُ
  
بحرٌ طوارقه برٌّ ومكرمةُ
 
بدرٌ على فَلَك العلياء مكتملُ
  
ما زال بالنور من صلب إلى رحمٍ
 
من عهد آدم في الساداتِ ينتقلُ
  
حتى انتهى في الذُّرى من هاشمٍ وسَمَا
 
فتىً وطفلاً، توفِّي وهو مكتهلُ
  
فكان في الكون لا شكلٌ يُقاسُ به
 
ولا على مثله الأقطار تشتملُ
  
به الحنيفةُ مُرساةٌ قواعدُها
 
فوق النجوم ونهج الحق معتدلُ
  
ومنه ظلُّ لواء الحمد يشملنا
 
إذا العصاةُ عليهم من لظى ظُلَلُ
  
وإنه الحكم العدل الذي نُسِخت
 
بدين مِلّتِه الأديان والمِللُ
  
يا خير من دفنت في الترب أعظمه
 
فطاب من طيبهن السَّهلُ والجبلُ
  
نفسي الفداء لقبرٍ أنت ساكنه
 
فيه الهدى والندى والعلم والعملُ
  
أنت الحبيب الذي نرجو عواطفه
 
عند الصراط إذا ما ضاقت الحيلُ
  
نرجو شفاعتك العظمى لمُذنبِنا
 
بِجَاهِ وَجْهِك عنا تغفَرُ الزّلَلُ
  
يا سيدي يا رسول الله خذ بيدي
 
في كل حادثة مالي بها قِبَلُ
  
قالوا نزيلك لا يؤذي وها أنا ذا
 
دمي وعرضي مباحٌ والحِمى هَمَلُ
  
وذا المسمى بك أشتد البلاء به
 
فارحم مدامعه في الخدِّ تنهملُ
  
وحُلَّ عقدة هَمٍّ عنه ما برحت
 
واشرح به صدر أمٍّ قلبُها وَجِلُ
  
وَصِلْ بمرحمةٍ عبدالرحيم وَمن
 
يليه لا خاب فيهِ الظنُ والأملُ
  
صلى وسلم ربي دائماً أبدا
 
عليك يا خير من يَحْفَى وينتعلُ
  
والآل والصحب ما غنَّت مطوقةٌ
 
وما تعاقبت الأبكارُ والأُصُلُ
  

وأنشد آخر يقول:

لطيبة عرج إن بين قبابها
 
حبيب لادواء القلوب طبيب
  
إذا لم تطب في طيبة عند طيب
 
به طابت الدنيا فأين تطيب؟
  

تركتهم على تلك الحال، وانصرفت، لأسجل هذه الكلمة في هذا المحل.

قلت: ألا تعرف أسماءهم؟

قال: لو عرفتها لسجلتها، ولكني كلما قلبت هذا الدفتر على هذا المحل رأيتهم وسمعتهم كعهدي بهم أول مرة.

التعظيم:

قلت: حدثتني عن الكلمة الأولى، فحدثني عن الثانية.

قال: الكلمة الثانية هي التعظيم.. انظر في الدفتر إنها تلي كلمة الحب مباشرة.

قلت: لم كانت كذلك؟

قال: لأنه لا يعظم في عين الحبيب إلا محبوبه.

قلت: فهل تروي قصة عن هذه الكلمة؟

قال: أروي في ذلك قصصا، لكني سأقتصر لك على واحدة منها.

قلت: فحدثني عنها.

قال: في بلد من بلاد الله رأيت رجلا عليه سيما الوقار، وعلى جبينه نور يملأ النفس هيبة وجمالا، وكان في طريقة يسير كما يسير سائر الناس، ولكنه فجأة انحنى على ورقة مرمية على الأرض، فمسح عنها الأذى، ثم قبلها، ثم وضعها على جيبه، فحدثت نفسي بأن أتبعه لأرى سر تلك الورقة.

في طريقي خلفه رأيته يدخل حانوت عطار، ويشتري بعض المسك، ثم يخرج تلك الورقة، ويعطرها بذلك المسك، فلم أجد نفسي إلا بجانبه، ولم أجد لساني إلا وهو يقول له: ما شأن هذه الورقة التي لقيت منك كل هذا التعظيم.

لم يحتج إلى وقت يفكر فيه، بل أجاب مباشرة: هذه ورقة فيها اسم لحبيب غال، واسم الحبيب لا ينبغي أن يهان.. بل ينبغي أن يعظم ويقدس، ويعطر بكل مسك.

قلت: من حبيبك هذا الذي ملأته تعظيما ورفعة.

فأجابني على الفور: محمد..

قلت: تقصد نبي المسلمين؟

قال: أجل.. وهل هناك من حمدته السماء والأرض غيره، فصار محمود الكل.

قلت: لقد ذكرتني بقول الشاعر:

المصطفى ما زال يعلو قدرَهُ
 
حتَّى غدا فى الكون مِسكاً عاطِراَ
  

ما قلت هذا حتى شعرت بجميع أعضائه ترتعد هيبة، ثم راح يقول بصوت امتزج فيه الحب بالتعظيم بالأشواق:

(المصطفى ما زال يعلو قدرَهُ)
 
فسما الزمانَ اوائلا وأواخِرا
  
طهِّّر فؤادك من شوائب غيِّّه
 
حتّى تقابلهُ فؤاداً طاهراً
  
يا سيدى ولقد غدوتٌ مناجياً
 
عمرى وبتُّ مع الجلال مسامرا
  
كم من صغير جاء حيَّك تائبا
 
أضحى يسودُ من الرِّجال أكابرا
  
والله ما طرأَ العناءُ وسامنى
 
الا وأذكُرُهُ فأُصبِحُ ظافراَ
  
فاذا نهَلتُ نهَلتُ من نور الهدى
 
واذا سكِرتُ سكرتُ عِلماً ذاخراَ
  
واذا غفوتُ غفوتُ صباً مُغرماً
 
واذا افَقتُ رَأيتَهُ لىَ ناظِراَ
  
واذا خشيتُ من العدوِّ وكيده
 
كان النبىُّ هو الملاذَ الناصِراَ
  
عوَّدتنا منكَ الجميلَ فهب لنا
 
منك الوصولَ ولا تردَ الزائراَ
  
أَنا ان أكُن جِسما بعيداً انِّما
 
رُوحى من النجوى تفيضُ سرائِراَ
  
أَرسلتُها بِفَمِ النسيمِ شهِيدةً
 
وتَزِِفُّ باِسمِكُمُ السَّلامَ العاطراَ
  
فلكم فقيرٍ عزَّ باَسمكَ جاهُهُ
 
أمسى يُساجِلُ فى الملوكِ القياصِراَ
  
ولَكَم ذليلً نَالَهُ من جاهِكُم
 
قَدرٌ فأصبحَ بالمذلَّةِ قاهِراَ
  
وَلَكم عَيِىٍّ قَد نظرتَ لِروُحِهِ
 
فَرَوَى المعارِفَ ناثِراً أو شاعِراَ
  
قَولِى هُو الحَقُّ الصرَّيحُ فَلَم أَكُن
 
أرجو بِمَدحِك أن أسُودَ مَظَاهِراَ
  
لم أَنسَ حُبَّكَ ما حَييتُ وان أَمُت
 
اَجِدُ الغرامَ علىَّ مُدَّ منابِراَ
  
ان كنتُ صبَّاً اكتُمُ الوُِجدَان فى
 
قَلبِى يَظُنّوُنِى بِحٌبِكَ فاتِراَ
  
أنا هائمٌ ومِن المحبةِ هائجٌ
 
كالرِّيحِ قَد أزجى السَّحابَ الماطِراَ
  
فَأَصُبُُّ فى الاحساس مِن مُهَجِ الوَرَى
 
حِكَمَاً تُقَلِّبُهَا القُلُوُبُ مَزَاهِراَ
  
يا هَذِهِ ألايَّامَ انِّى ليس لِى
 
الا رسُولُ اللهَِ سِرّاً ظَاهِرا
  
أنا كُلُّ شئٍ فى الحياةِ تركتُهُ
 
وَوَقَفتُ نَفسِى للنَّبِىِّ مُثابِراَ
  
والوقفُ لا يُشرَى وليسَ يُباعُ فى
 
حالٍ يدومُ الى القيامةِ حاضراَ
  
أَنا بِاسمِكُم والى اسمِكُم وَلِوَسمِكُم
 
فى رَسمِكُم قَلبِى عَلَى الشِّعرى سَرَى
  
لم أنسَ أيَّامَ الطُّفُولَةِ حَيثُما
 
كُنتَ المُؤمَّلَ لِى كُنتُ الظافِرَا
  
مَا زالَ حُبُّكَ باقياً فى مُهجتى
 
يُضفى علىَّ من اليقينِ سرائراَ
  
ولقد غسلتُ بواطِنى وظواهِرى
 
فى حُبِهِ حتى نُسِبتُ الطَّاهِرا
  
نُورُ النَّبىِّ اذا تمكن من فتىً
 
لم يُبقِ فِيهِ صغائراً وكبائراَ
  
نُورُ النَّبىِّ اذا تمكن من فتىً
 
ألفيتَه بَينَ البريةِ ظاهِرا
  
فاذا رُزِقتُ محبةً فَبِِفََضلِه
 
واذا كَسَبتُ فٌَقَد كَسَبتُ جواهِرا
  
قُل لِى عليكَ صلاتُنا وسَلامُنا
 
حتّى أعُود على المَحَبَةِ شاكرا
  
أرَضَيتَنى كَرَماً وَصَاحَبَنِى الرِّضا
 
حتّى وصَلتٌ فَلَستُ أسلُكُ حائراَ
  
ما زالَ فضلُكَ فى البريَّةِ سائراً
 
يسمو وَيزكو بالنفوسِ ضمائرا
  
وَلَكم أراهُ فى العوالِمِ صاعِدا
 
حتَّى غدا فى الكون مِسكاً عاطِراَ)
  

تعجبت من حضور بديهتيه، وانصياع الشعر له، فسألته: من أنت؟

قال: علي عقل.

قلت: ذلك القطب الربانى، صاحب الفيوضات الصمدانية، والعلوم اللدنية ذلك الملهم الذي ينساب الشعر من فمه كما ينساب المال الزلال.

قال: هم يقولون هذا.

قلت: بأي بركة نلت هذا؟

قال: ببركة الحبيب..

قلت: وبأي بركات الحبيب نلت ذلك؟

قال: ببركة التعظيم..

قلت: لا يعظم إلا الله.. فكيف رحت تشرك بالله؟

قال: أرأيت لو أن فنانا مبدعا أراك لوحة من لوحاته في منتهى الجمال، فرحت تهينها وتحتقرها، فإذا سألك عن ذلك قلت له: أنا أهينها حتى لا يبقى عظيما في عيني غيرك.. أترى هذا عين العقل؟

قلت: بل أراه عين الحمق.. ولن أنال من هذا الفنان إلا الازدراء.

قال: لم؟

قلت: لأني احتقرت صنعته.. ولا يمكن أن أشعره بتعظيمي له إلا من خلال تعظيمي لصنعته.

قال: وهكذا الأمر مع محمد صلى الله عليه وآله وسلم.. فهو عصارة الجمال التي أمرنا الله بعبوديته من خلال التأمل فيها وتعظيمها وامتلاء قلوبنا بمحبتها.. فلو أهناها لأهنا الله.

قلت: ولكن الحريصين على صفاء التوحيد يخالفونك في هذا.. ويعتبرون كل هذا شركا.

قال: فاقرأ عليهم قوله تعالى للنبي صلى الله عليه وآله وسلم:{ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (8) لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (9) إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (10)}(الفتح)

قلت: فما في هذه الآيات؟

قال: في هذه الآيات يأمر الله الأمة بتعظيم محمد، ويربط الفلاح بذلك.

قلت: فما الفرق بين المسلمين والمسيحيين في هذا .. ما دام المسيحيون يعظمون المسيح، والمحمديون يعظمون محمدا.

قال: الفرق بينهما عظيم.. فالمحمديون يعظمون محمدا عبودية لله، وتحقيقا لأمر الله، وفيضا من فيوضات تعظيم الله.. بينما المسيحيون يعظمون المسيح لذات المسيح.. فيجعلون للمسيح شركة في الألوهية.

قلت: وتعظيم المسلمين؟

قال: أرأيت لو أنك أرسلت رسولا برسالة لقوم من الناس، فأهانوا رسولك، واحتقروه مع علمهم بأنه رسولك؟

قلت: هم يحتقرونني بذلك ويهينونني.

قال: فلذلك ربط الله تعالى طاعته بطاعة رسوله، وتعظيمه بتعظيم رسوله، ومحبته بمحبة رسوله.

لقد قال الله تعالى:{ مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً } (النساء:80)

قلت: فرق عظيم بين الطاعة والتعظيم.

قال: فقد قال الله تعالى:{ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (62) لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63)} (النور)

قلت: فما في هذه الآية مما نحن فيه؟

قال: فيها كل ما نحن فيه.. فالله تعالى في هذه الآيات يأمر بتعظيم النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وعدم التعامل معه كما يتعامل الناس بعضهم مع بعض.

لقد قال ابن عباس في تفسير الآيات: كانوا يقولون: يا محمد، يا أبا القاسم، فنهاهم الله عز وجل، عن ذلك، إعظامًا لنبيه، صلوات الله وسلامه عليه قال: فقالوا: يا رسول الله، يا نبي الله.

وقال قتادة: أمر الله أن يهاب نبيه صلى الله عليه وآله وسلم، وأن يُبَجَّل وأن يعظَّم وأن يسود([7]).

بل إن الله تعالى نهى المؤمنين عن كل سلوك لا ينسجم مع الأدب مع رسوله، فقال:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا } (البقرة: 104).. وقال:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (2) إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (3) إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (4) وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) } (الحجرات)

بل إن الله تعالى شرع لمناجاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم من باب التعظيم له تقديم صدقة على ذلك، فقال تعالى:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (المجادلة:12)

الالتجاء:

قلت: فما الكلمة الثالثة؟

قال: الالتجاء.

قلت: ما تقصد بالالتجاء؟

قال: المحب الشغوف بحبيبه لا يصبر على فراقه، ولهذا تراه يحن إليه كل حين، ويلتجئ إليه في كل مناسبة.

قلت: ذاك قد يصح مع حبيب حي.. ولكنه لن يصح أبدا مع حبيب ميت.

قال: إن المحبوب يموت عند جميع الناس إلا عند من يحب.. فإنه يظل حيا، ولذلك لا حرج عليه أن يلتجئ إليه.

قلت: ولكن الناس يضحكون عليه حينذاك، وقد يرمونه بالجنون.

قال: المحب الصادق يستلذ جنونه في محبوبه.

قلت: عد بنا إلى هذه الكلمة وعلاقتها برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. وعلاقتها بعد ذلك بالأولياء.

قال: لقد لاحظت من خلال معايشتي لبعض هؤلاء أولياء، أو كتاباتهم، أنهم لا يتعاملون في علاقتهم برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلا كما يتعامل الأحياء مع الأحياء.

قلت: ألا يعتقدون موته!؟.. فإن كان كذلك، فاقرأ عليهم قول الله تعالى:{  إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ) (الزمر:30)

قال: قد قرأت عليهم قوله تعالى:{ وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ } (آل عمران:169)

قلت: ما علاقة هذا بذاك؟

قال: ألم يخبر الله  تعالى عن موت الشهداء؟

قلت: بلى.. فقد قال تعالى:{ وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ }(آل عمران:157)، وقال تعالى:{ وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ) (آل عمران:158)

قال: ألا ترى أن الله تعالى الذي أخبر بموتهم هو الذي أخبر بحياتهم؟

قلت: بلى..

قال: فكذلك الأمر مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم..

التفت إلي، وقال: ثم ألا تعجب أن نقول بحياة الشهداء، ثم لا نقول بحياة سيد الشهداء.

قلت: فنلفرض أني وعيت ما ذكرت، فما ينتج عنه؟

قال: ألم تقرأ قوله تعالى:{ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً }(النساء:64)!؟

قلت: بلى.. فما فيها من العلم المرتبط بهذا؟

قال: سأقص عليك قصة تعلق بها أولياء الله، فراحوا يعيشونها.

قلت: حدثني عنها.

قال: ذكر الحافظ السمعاني عن علي قال: قَدِمَ علينا أعرابي بعدما دفنّا الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بثلاثة أيام، فرمى بنفسه على قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وحثا من ترابه على رأسه، وقال: يا رسول الله، قُلتَ فسمعنا قولك، ووعيتَ عن الله ما وَعينا عنك، وكان فيما أنزلَ عليك:{ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً} (النساء:64)، وقد ظلمت نفسي، وجئتك تستغفر لي، فنودي من القبر: أنه قد غُفر لك([8]).

وفي رواية أخرى عن أبي شبل محمد بن النعمان بن شبل الباهلي قال: دخلتُ المدينة فانتهيتُ إلى قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فإذا أعرابي يُوضع على بعيره، فأناخه وعَقَله، ثم دخل إلى القبر الشريف، فسلَّم سلامًا حسنًا، ودعا دعاءً جميلاً ثم قال: (بأبي أنت وأمي يا رسول الله، إنّ الله خصّك بوحيه وأنزل عليك كتابًا جمع لك فيه علم الأولين والآخرين، وقال في كتابه وقوله الحق:{ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً} (النساء:64)، وقد أتيتك مقرًا بالذنوب، مستشفعًا بك إلى ربك، فهو ما وعد.

ثم التفت إلى القبر، وقال:

يا خير من دفنت بالقاع أعظُمُه
 
فطاب من طيبهنّ القاعُ والأكمُ
  
أنت النبي الذي تُرجى شفاعته
 
عند الصّراط إذا ما زلّت القدمُ
  
نفسي الفداء لقبرٍ أنت ساكنه
 
فيه العفاف وفيه الجود والكَرَمُ
  

ثمّ ركب راحلته فما أشكُّ ـ إن شاء الله ـ إلا أنه راحَ بالمغفرة، ولم يُسمَع بأبلغ من هذا قط.

وذكر محمد بن عبد الله العُتبي هذا، وزاد في آخره: فغلبتني عيناي، فرأيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم في النوم، فقال لي: (يا عُتبي، الحق الأعرابي وبشّره أنّ الله قد غفر له)([9])  

قلت: أحسبني وعيت ما ذكرته من هذا.. فما لازمه؟

قال: لازمه كل ما سمعته من مخاطبات الأولياء لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وشكواهم إليه، فهم لا يشكون لميت.

قلت: إن من قومي من يعتبر ذلك شركا، وقد قال بعضهم([10]) عن قول البوصيري:

يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به
 
سواك عند حلول الحادث العمم
  

(هذا الشاعر يستغيث بالرسول صلى الله عليه وآله وسلم، ويقول له: لا أجد من ألتجئ إليه عند نزول الشدائد العامة إلا أنت، وهذا من الشرك الأكبر الذي يُخلد صاحبه في النار إن لم يتب منه، لقوله تعالى:{ وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ } (يونس:106)، أي المشركين، لأن الشرك ظلم عظيم، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (من مات وهو يدعو من دون الله نداً دخل النار)([11])  

ابتسم، وقال: ما أعجب هؤلاء.. وما أسرعهم في اتهام المؤمنين، بل الأولياء من المؤمنين بالكفر والشرك، ألم يسمعوا ما ورد في التحذير من ذلك.

قلت: بلى.. سمعوا.. ولكنهم يعتقدون أن ما يذكرونه هو الحق الذي لا حق غيره.

قال: أفتراهم إذا جثوا بين يدي الطبيب يشكون حالهم إليه مشركون بذلك؟

قلت: لم يقل بهذا أحد من الناس.

قال: فكيف يزعمون إذن بأن من شكى لحبيبه وطبيبه حاله، يكون مشركا.

سكت قليلا، ثم قال: الشرك معروف، وهو ما يعتقده قومي حين يعتبرون المسيح إلها أو أقنوما من إله.

قلت: ولكنهم يتصورون مخاطبة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ودعائه شركا، لأنه لا يدعى إلا الله.

قال: ولم أر المسلمين يدعون غير الله عوامهم وخواصهم، فلا أحد منهم يعتقد إلها غير الله..

قلت: وهذا الخطاب الذي يتوجهون به لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكأنهم يستغيثون به !؟

قال: هم يفعلون ذلك كما يفعل كل البشر مع الأطباء حين يستلقون أمامهم كما يستلقي الميت بين يدي الغسال ينتظرون منهم أن يكونوا واسطة للشفاء الذي ينزله الله، فالله هو الشافي، والطبيب واسطة.

ومثل ذلك محمد.. فالله هو الرحيم الرحمن.. وقد جعل من خلقه وسائط لرحمته.. ومنهم محمد.

قلت: هم يعتبرون ما تقوله شركا.

قال: ألا يؤمن هؤلاء بالشفاعة العظمى؟

قلت: بلى.. هم يؤمنون.. بل إني أراهم يبدعون منكرها.

قال: فهي واسطة من الوسائط ووسيلة من الوسائل.

سكت، فقال: ألم يقرأوا حديث الأعمى؟

قلت: ابن أم مكتوم !؟

قال: لا.. الأعمى الذي حدث حديثه عثمان بن حنيف، حيث ذكر أن رجلا ضريرا أتى النبي  صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: (ادع الله أن يعافني)، فقال: (إن شئت أخرت ذلك وهو خير، وإن شئت دعوت)، قال: (فادعه) قال: فأمره أن يتوضأ فيحسن، ثم يصلي ركعتين، ويدعو بهذا الدعاء، فيقول: (اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة، يا محمد إني توجهت بك إلى ربي في حاجتي هذه فتقضى لي، اللهم شفعه في وشفعني فيه)([12])

الألم:

قلت: فما الكلمة الرابعة؟

قال: الألم.

قلت: الألم !؟

قال: أجل..

قلت: عهدي بأولياء الله أسعد الخلق حياة، وأهنأهم نفسا، حتى وكأن الجنة عجلت لهم.

قال: لكن بعض الآلام تعتريهم.

قلت: القلب الذي يعرف الله لا يعرف الألم.

قال: هو ألم أشبه بألم يعقوب لفقد يوسف.. فمقام يعقوب العظيم عند الله، ومقام يعقوب العظيم في درجات السلوك إلى الله لم يمنعاه من ذلك الحزن الذي عبر عنه الله تعالى بقوله:{ وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ } (يوسف:84)

ومقام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في سلم الولاية لم يمنعه من قوله عندما توفي ابنه  إبراهيم: (إن العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون) ([13])

قلت: فما الحزن الذي يعتري الأولياء.. فيشعرهم بالألم.

قال: فقد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم..

قلت: ألم تخبرني قبل حين أنهم يستشعرون حياته؟

قال: الحياة مراتب.. فقد يكون شخصا حيا، ولكنك تستشعر ألما لبعده عنك.

قلت: ولكن الأولياء كما ذكرت لي لا يغيبون عن رسول الله.. ولا يغيب رسول الله عنهم..

قال: ذلك لقاء الأرواح.. والأولياء يتلهفون إلى لقاء الأشباح..

التفت إلي، وقال: ألم تسمع حديث ثوبان وغيره من الصحابة وشكواهم لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ألم الفراق؟

قلت: بلى..

قال: ولهذا كانت أعظم المصائب التي حلت بالمؤمنين فقدانهم لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. ولهذا كانت وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هي عزاء المؤمن عن كل مصيبة، كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ( إذا أصيب أحدكم بمصيبة، فليذكر مصيبته بي ليعزه ذلك عن مصيبته)([14])

سكت قليلا، ثم قال: ألا ترى شغف الأولياء بالقبر الشريف.. فهم يعتبرونه أشرف بقعة في الأرض.

قلت: بلى.. وقد أنكر عليهم البعض ذلك.

قال: لا ينبغي أن ينكر عليهم.. فأحب تراب الله لأهل الله التراب الذي ضم رسول الله.. إنه عطرهم الذي يستنشقون أريجه، ودواؤهم الذي يحميهم من العلل ويملؤهم بالصحة.

قلت: فهل لك قصة مع القبر الشريف؟

قال: أجل.. وهي قصة لن أنساها ما حييت.

قلت: كيف أذن لك في دخول الحرم، والحرم لا يدخله إلا مسلم؟

قال: أتحسبني زرتك قبل أن أزور حبيبي صلى الله عليه وآله وسلم.. لقد كان أول ما فعلته بعد إسلامي أن زرت قبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. وفي الطريق إليه رأيت وليا من أولياء الله يردد:

أتيتُك راجلاً وَوَدِدْتُ أني
 
مَلَكْتُ سَوَاد عيني أَمْتَطيهِ
  
وما لي لا أسِيرُ على المآقي
 
إلى قبرٍ رسولُ الله فيهِ
  

فأسرعت إليه، وقلت له: رويدك.. احذر أن يسمعك بعض المتشددين، فيرميك بالشرك.

قال: فليفعلوا بي ما يشاءون.. فأنا لم أخرج عن هدي السلف، ولا عن أدب الخلف.

قلت: ما تقول؟

قال: لقد كان حسان بن ثابت من سلف الأمة، ومن صحابة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقد قال مخاطبا قبره صلى الله عليه وآله وسلم:

فبوركت يا قبر الرسول وبوركت
 
بلاد ثوى فيها الرشيد المسدد
  
وبورك لحد منك ضمن طيبا
 
عليه بناء من صفيح منضد
  
تهيل عليه الترب أيد وأعين
 
عليه وقد غارت بذلك أسعد
  
لقد غيبوا حلما وعلما ورحمة
 
عشية علوه الثرى لا يوسد
  
وراحوا بحزن ليس فيهم نبيهم
 
وقد وهنت منهم ظهور وأعضد
  
يبكون من تبكي السموات يومه
 
ومن قد بكته الأرض فالناس أكمد
  
وهل عدلت يوما رزية هالك
 
رزية يوم مات فيه محمد ؟
  

وقد روي عن ابن المنكدر أنه كان يجلس مع أصحابه فكان يصيبه صمات، فكان يقوم كما هو حتى يضع خده على قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثم يرجع، فعوتب في ذلك، فقال: إنه يصيبني خطر، فإذا وجدت ذلك استعنت بقبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

وكان يأتي موضعا من المسجد يتمرغ فيه، ويضطجع، فقيل له في ذلك فقال: إني رأيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم في هذا الموضع([15]).

قلت: هذا السلف.. فما فعل الخلف؟

قال: لقد ورث السلف حسان وغيره أمة من الصالحين أنتجوا تراثا عريضا من معاني الحب ولدت أمام قبر رسول الله r، فهذا أحدهم يقول:

قف عند قبر التهامي والثم الجدثا
 
وانشق عبير الهدى ممن به مكثا
  
واجثُ احتراماً بداع الوجد مدّكراً
 
فجر النبوة وامدح خير من بُعثا
  
محمدٌ سيد الأكوان قاطبة
 
إذ مجده كابراً عن كابر ورثا
  
ما أنجب الدهر ذا خلق وذا خلقٍ
 
في الفضل يشبهه مذ جاءنا حدثا
  

([1])  هذا القول لبديع الزمان النورسي في بيان حقيقة الجمال المحمدي.

([2])  هذا القول لبديع الزمان النورسي..

([3])  رواه البخاري ومسلم.

([4])  رواه البخاري ومسلم.

([5])  حاول العلماء ـ كما فعلوا مع محبة الله  ـ أن يبحثوا في الأسباب الدافعة لحب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهي كما نرى لا يمكن حدها بأسباب معينة، فكل شخص دوافعه الخاصة، والتي تختلف باختلاف درجة حبه لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ودرجة قربه منه ودرجة تعرفه عليه ودرجة ترقيه في مقامات الإيمان.

وأقل هذه الدرجات ما يبالغ فيه البعض من وصف الصورة الخلقية لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في مدحه والثناء عليه بذلك والمبالغة فيه إلى درجة لا نرى أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يرضى عنها.

فرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مع ما أوتي من حسن الخلقة، والذي ذكره واصفوه، وأثنوا عليه به ليس هو الأصل الدافع للحب، فالحب المؤسس على الجسد قد يليق بالغواني ولا يليق برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

فالترغيب الحقيقي في رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يكون بذكر صورته وشكله، وإنما بذكر خلقه وكمالاته، ومع ذلك لا نرى مانعا من ذكر صورته الخلقية لتكون مكملا لصورته الحقيقية لا أصلا لها.

وانطلاقا من هذا نرى بعض التشويه في شخص رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والذي يمارسه البعض باسم إحياء السنة، فيتصور أن السنة هي طول اللحية وقصر القميص مع تجهم الوجه والتشدد في محله وغير محله.

وعلاج هذه الظاهرة بالوصف الشامل لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، انطلاقا من قربه من ربه، وانتهاء بعلاقته التي شملت كل ما يمكن أن يؤسسه الإنسان من علاقات.

وهذا الوصف وحده ـ والذي يعتمد القرآن الكريم والسنة الصحيحة ـ كاف وحده لملأ القلوب بمحبة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والتفاني في حبه.

وبمثل هذه المبالغة في وصف الهيئة الشكلية لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نرى في المقابل بعض المبالغة في وصف مقاماته صلى الله عليه وآله وسلم الروحية وقربه من ربه وعلاقته بالخلق، حتى تحول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بذلك إلى سر غامض، وتحولت رسالته إلى مجموعة ألغاز لا يفهمها إلا خاصة الخاصة، وكأن رسالة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم العامة الشاملة خاصة بهذه الثلة القليلة التي تفردت بالتعمق في حقيقتها.

وإلى هذين المعنيين، وإلى هذين الفريقين أشار صلى الله عليه وآله وسلم بقوله:( لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم وقولوا: عبدالله ورسوله )

وهذا نهي صريح منه صلى الله عليه وآله وسلم عن وصفه بما ليس في من الصفات التماسا لمدحه، كما وصفت النصارى عيسى u بما لم يكن فيه، فنسبوه إلى أنه ابن الله فكفروا بذلك وضلوا.

وبدخل فيه أيضا وصفه ببعض ما هو فيه مما ينتج خللا في التعرف عليه صلى الله عليه وآله وسلم، كمن يقتصر على وصف خلقته الجسدية، أو مقاماته الروحية، أو حياته في بيته، أو حياته مع صحابته، أو غزواته.

ولهذا استغل المستشرقون ما ورد في غزواته صلى الله عليه وآله وسلم لتصويره بصورة المحارب الذي لا يهدأ، والذي لا يكون له الوقت الكافي للتوجيه والتربية.

بل وقع في ذلك بعض المسلمين حين تصور الدين سيفا مرفوعا على كل هامة، وتصور الدعوة إلى الله وفتح القلوب على دينه حروبا وغزوات لا تنتهي.

وقد غفل هؤلاء عن الأوصاف التي وصف بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في القرآن الكريم، أو التي تناقلها أهل الكتاب في كتبهم، وكلها ترجع إلى الرحمة واللطف وحسن المعاملة مع جميع الخلق.

فهذه هي أوصاف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في القرآن الكريم، قال الله U:) لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ) (التوبة:128)

([6])  فتح الباري: 1/60.

([7])  هذا هو المعنى الأول في تفسير قوله تعالى:{ لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً } (النور: من الآية63)، والمعنى الثاني:{ لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا } أي: لا تعتقدوا أن دعاءه على غيره كدعاء غيره، فإن دعاءه مستجاب، فاحذروا أن يدعو عليكم فتهلكوا. حكاه ابن أبي حاتم، عن ابن عباس، والحسن البصري، وعطية العَوفي.

وهذا المعنى أيضا من التعظبم، وهو من أقوى الأدلة على جواز التوسل بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم بل استحبابه، باعتبار التوسل نوعا من طلب الدعاء من المتوسل إليه.

([8])  ورواها بنحو لفظها: الإمام البيهقي في شعب الإيمان 3/495، وانظر: سبل الهدى والرشاد 12/380، وفاء الوفا 4/ 1361، وأبو اليمن ابن عساكر في إتحاف الزائر ص 68/69، وابن النجار في الدرة الثمينة، ص224، وابن حجر الهيتمي في تحفة الزوار ص55.

([9])  رواها الإمام النووي في (الإيضاح) ص454، وابن بشكوال في (القربة إلى رب العالمين بالصلاة على محمد سيد المرسلين صلى الله عليه وآله وسلم ) الورقة (16/أ)

([10])  انظر: كتاب (معلومات مهمة من الدين) للشيخ محمد جميل زينو ص160 ـ 166.

([11])  رواه البخاري.

([12])  هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.

([13])  رواه البخاري.

([14])  مصنف عبد الرزاق: 3/564، المعجم الأوسط:4/365.

([15])  ابن المنكدر ليس من الصحابة، ولهذا تحمل الرؤية على الرؤية المنامية، أو على رؤى اليقظة التي أجمع عليها الأولياء.

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *