سابعا ـ انطواء

في مساء اليوم السابع.. وفي دار الندوة الجديدة.. دخل (نيقتاس البيزنطي)([1])..
قاطعت الغريب قائلا ـ وقد كاد يغلبني الضحك ـ: نيقتاس البيزنطي..!؟
التفت إلي الغريب مبتسما، وقال: أجل.. هذا اسمه الذي سماه به أبوه.. وهو حريص عليه أكثر من حرصه على كل شيء.. بل إنه يرفض أن يجيب من يناديه (نيقتاس) إلا بعد أن يضم إليه (البيزنطي)
قلت: فما سر هذا الاسم، وما سر حرصه عليه؟
قال: أنت تعلم أن هذا اسم للكاتب البيزنطي المعروف الذي أعلن عداوته للإسلام في الوقت الذي أسر بها غيره.
قلت: أجل.. ومن لا يعرفه.. وهو الذي سن تلك السنن التي لا نزال نرى آثارها إلى اليوم.
قال: فهذا نسخة من ذاك.. ولو كنت أؤمن بتناسخ الأرواح لقلت بأن هذا هو ذاك..
لقد كان يعيش شخصية (نيقتاس البيزنطي) بكل أبعادها.. كان يلبس لباسه، ويحيا حياته، ويلوي لسانه ليتحدث بلهجته، والتاريخ يتوقف عنده بوفاة نيقتاس، والجغرافية تنتهي عنده عند حدود بيزنطة.
قلت: فهو من نسله إذن؟
قال: إن شئت قلت: هو من نسل روحه.. لا من نسل طينه.. فلا أعرف أن نيقتاس التاريخي قد تزوج حتى يخلف ولدا.
قلت: فحدثني حديثه معكم.
قال: عندما دخل علينا دار الندوة، ابتدرته الجماعة قائلة: ما الذي فعلت!؟.. ما نسبة نجاحك!؟.. هل هناك نتائج إيجابية!؟
نظر إليهم بنظرته التي تذكرك بالقرون السوالف، ثم قال: منذ متى كان لغير البيزنطيين منطق يفكرون به.. لقد أرسلتموني إلى قوم بدائيين لا يعرفون قوانين أرسطو.. ولا فلسفة أفلاطون.. ولا جدليات نيقتاس البيزنطي.
قالو: نعرف ذلك.. ماذا فعلت أنت.. هل أفلحت فيما أرسلناك له؟
قال: إن لم يفلح نيقتاس البيزنطي، فلن يفلح أي أحد في الدنيا.
قالوا: فهل تأذن لنا في الاطلاع على ما جرى في ميدان الحرية؟
قال بصوت مملوء بالاستعلاء: كما يحلو لكم.. ولو أني لا أثق كثيرا في هذه الوسائل المعاصرة.
ابتدر أخي، فوضع القرص في القارئ، وبدأ شريط الأحداث:
ظهر نيقتاس في ساحة الحرية كدبابة مصفحة لا يمكن لأي رصاص في الدنيا أن يخترقها، ثم صاح في الجموع بلهجة لا تذكر بأحد في الدنيا كما تذكر بنيقتاس البيزنطي، قائلا: هلموا إلي أيها الناس.. فإن نيقتاس البيزنطي يريد أن يعلن بينكم أمرا هو في غاية النفع لكم.. بل لن تنتفعوا بغيره إن لم تنتفعوا به.
دبت إليه جموع كثيرة، كل تركوا مجالسهم ليسمعوا لهذا الذي خرج من التاريخ، ليدخل واقعهم، ويصيح فيه.
لما اجتمعت الجموع، قال بصوت جهوري: هل تعلمون أخطر أسطورة في الدنيا؟
حسبت الجموع أنه سيقص عليها أساطير الأدويسة والإلياذة.. ففتحت آذانها، وأخذت تنتظر منه أن يجيبها على ما سأله.
انتظر برهة، فلما لم يجبه أحد قال: محمد.. محمد..
قالوا: ما به؟.. ومن تقصد؟
قال نيقتاس: ذلك الذي ادعى النبوة، ليؤسس بدعواه أخطر أسطورة في الدنيا.
قال رجل من الجمع: نحن لا نسمع عن محمد إلا كلاما طيبا، فما الذي حوله إلى أسطورة خطيرة؟
قال نيقتاس: ما تسمعونه من السمعة الطيبة عنه أثر من آثار تلك الأساطير التي نشرها في تلك الأيام المشؤومة، ولا يزال أتباعه الأغبياء ينشرونها.. وأخاف أن يكون من بينكم من عدي بعدواها.
قال رجل من الجمع: صدقت في هذا.. ففي هذا الجمع من أحب محمدا واتبعه، وفيهم من أحبه، ولكن حبه لم يرق به إلى أن يتبعه.. فلذلك يكتفي بالثناء عليه واحترامه.
قال نيقتاس: كلاهما عندي سواء من اتبعه أو من لم يتبعه.. ما دام يحبه فإن أثر عدواه ستنتقل إليه.
قال رجل من الجمع: ولكن عن أي عدوى تتحدث.. لا نحسب أن في أتباع محمد مرضا معديا خاصا بهم.
قال نيقتاس: ليس مرضا واحدا.. بل أمراض كثيرة.. أو قل مرض اجتمعت فيه جميع الأمراض.
قالوا: لقد ملأت قلوبنا مخافة، فحدثنا عنه، وعن سر إصابتهم به.
قال نيقتاس: الانطواء.. لا شك أنكم تعرفون هذا المرض النفسي الخطير.
قالوا: أجل.. ولكنا نرى أتباع محمد أبعد الناس عنه.
قال نيقتاس: لقد كان الناس يسمعون بأن الانطواء انطواء أفراد.. ولكن محمدا حول منه انطواء مجتمع، بل انطواء أمة.
قالوا: لا نكاد نفهم ما تريد.
قال نيقتاس: سأضرب لكم مثالا يقرب لكم هذا، وفي نفس الوقت يبرهن عليه.
أصاخت الجماعة بأسماعها، فراح يقول: أتعرفون العهد القديم؟
قالوا: أجل.. وهو ركن من أركان الكتاب المقدس.
قال نيقتاس: أليس هو في أصله كتاب اليهود المقدس؟
قالوا: أجل..
قال نيقتاس: ولكنه كتاب المسيحيين أيضا.. فالمسيجيون يقبلون الآخر، ويحترمونه، ويستفيدون منه.
سكت قليلا، ثم قال: ليس ذلك فقط.. إن المسيحية استفادت من كل الديانات والفلسفات التي وجدت في العهود الأولى للمسيحية.. ولم تكن لتستفيد منها لو لم تكن تعترف بها.
قالوا: كل ما ذكرت صحيح.. ونحن نؤمن به.
قال نيقتاس: فقارنوا بين هذه المواقف المتفتحة وموقف الإسلام من الآخر.. افتحوا القرآن لتجدوا هذه الآية:{ وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (آل عمران:85)، إن هذه الآية تعتبر كل دين غير دين الإسلام لغو.. وأن الله لن يقبل من عباده إلا الإسلام.
ليس ذلك فقط.. فالقرآن يسمي غير المسلمين كفارا، وهو يأمر محمد بالتميز التام عنهم.. اقرأوا سورة تسمى (سورة الكافرون).. سأقرأها عليكم .. لتروا موقف المسلمين من غيرهم..:{ قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ (4) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6)} (الكافرون)
أخرج الكتاب المقدس من جيبه، وقال: فتشوا هذا الكتاب سفرا سفرا، فلن تجدوا فيه سفرا يسمى (سفر الكافرين)
لكن القرآن مليء بتوعد الكفار ـ كما يسميهم ـ وتهديدهم بالنار التي يخلدون فيها أبد الآباد.. اسمعوا هذه الطلقات النارية التي أطلقها القرآن في وجوه المؤمنين ليعبسوا في وجوه الكافرين..:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً مُبِيناً} (النساء:144).. { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} (المائدة:51).. { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (المائدة:57).. { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} (الممتحنة:1)
بل إن القرآن ينهى عن موالاة الأب لابنه والابن لأبيه إن كان كافرا.. اسمعوا.. { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْأِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (التوبة:23)
أما محمد الذي تأدب بآداب القرآن كما يزعم، فقد كان أكبر شخصية انطوائية في التاريخ.. لقد وقف كالجدار الصلب أمام كل المحاولات التي بذلها قومه ليقيموا حلا وسطا تحقن فيه الدماء، وتحفظ لكل واحد من الفريقين حرمته.. لكنه رفض كل ذلك، وأصر على ذلك التميز الذي جعل من دينه دينا مغلقا لا يمكن لأحد أن يخترقه، وجعل من أتباعه ناسا انطوائيين لا يمكن لأحد أن يسمعهم صوته..
لقد روي أن بعض أصحابه جاءه يوما، فقال: يا رسول الله، إني مررت بأخ لي من قريظة، فكتب لي جوامع من التوراة، ألا أعرضها عليك؟
قال: فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال عبد الله بن ثابت: فقلت له: ألا ترى ما بوجه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ فقال عمر: رضينا بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد رسولا، قال: فسري عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقال:(والذي نفس محمد بيده لو أصبح فيكم موسى، ثم اتبعتموه وتركتموني لضللتم، إنكم حظي من الأمم، وأنا حظكم من النبيين)([2])
وفي رواية أنه قال له:(أمتهوكون فيها يا ابن الخطاب، والذى نفسي بيده لقد جئتكم بها بيضاء نقية، لا تسألوهم عن شئ فيخبروكم بحق فتكذبونه وبباطل فتصدقونه، والذى نفسي بيده لو أن موسى كان حيا ما وسعه إلا أن يتبعني)([3])
وفي حديث آخر قال:(لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء، فإنهم لن يهدوكم وقد ضلوا، وإنكم إما أن تصدقوا بباطل وإما أن تكذبوا بحق، وإنه ـ والله ـ لو كان موسى حيا بين أظهركم ما حل له إلا أن يتبعني)([4])
وفي حديث آخر قال:(لا تسألوا اهل الكتاب عن شئ، فإنى أخاف أن يخبروكم بالصدق فتكذبوهم أو يخبروكم بالكذب فتصدقوهم عليكم بالقرآن فان فيه نبأ من قبلكم وخبر ما بعدكم وفصل ما بينكم)([5])
وفي حديث آخر قال:(لا تحملوا دينكم على مساءلة أهل الكتاب فإنهم قد ضلوا وأضلوا من كان قبلكم ضلالا مبينا)([6])
نظر إليهم كما ينظر الأباطرة إلى رعاياهم، وقال: أظن أن ما ذكرته يكفي لتعرفوا من هو محمد.. وأظن أن ما ذكرته يكفي لتدركوا عظم الخطر الذي تحمله أسطورة محمد.
هنا ظهر الحكيم، وصاح في نيقتاس قائلا: لقد طرحت دعواك، فهل تسمح لي، وهل يسمح لي هذا الجمع أن أجيبك عنها؟
لاحظت تغيرا شديدا بدا على ملامح نيقتاس، لكنه لم يملك إلا أن يقول: إن شئت.. فنحن لسنا محمديين حتى ننطوي على أنفسنا، ونغلق آذاننا عن سماع غيرنا..
قال ذلك، ثم التفت إلى الجمع، وقال: هيا نستمع جميعا.. أنا نيقتاس البيزنطي.. وأنتم جميعا.. فلنتواضع كما علمنا المسيح لنسمع بعض هرطقات هذا المحمدي.
قال الحكيم: أرى أن كل ما ذكرته في كلامك هذا يدور حول اتهام محمد صلى الله عليه وآله وسلم ودينه بالانطواء..
قال نيقتاس: إن كنت تقصد بالانطواء انغلاق محمد ودينه على نفسيهما، وعدم انفتاحها على الآخر، أو عدم اعترافهما بالآخر، فذلك ما أقصده.
قال الحكيم: وهذا ما أقصده أنا أيضا.. وقد بحثت في هذه المسألة في تاريخ الأديان والمذاهب والأفكار المختلفة التي تحكم سلوك البشرية ومواقفها، فوجدت انحصار الانغلاق في أمرين: انغلاق مرتبط بالأفكار والمذاهب والأديان.. وانغلاق مرتبط بالأعراق والسلالات المختلفة.
وقد رحت انطلاقا من هذا أبحث في تاريخ البشرية الطويل، فلم أجد دينا أكثر انفتاحا من الإسلام، ولم أجد بشرا أكثر انفتاحا على الإنسانية جميعا، بل على الكون جميعا مثل محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
قال نيقتاس: من السهل أن تدعي.. ومن الصعب أن تثبت.
قال الحكيم: فاسمع لي لأثبت لك ما أقول.. وسأكتفي بالنماذج والأمثلة.. وسأدع لك الفرصة لتناقشني فيما تشاء.. فقد علمنا ديننا أن نحاور المخالف بالتي هي أحسن، قال تعالى:{ وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} (العنكبوت:46)
انتفض نيقتاس، وقال: لا.. ليس إلهنا وإلهكم واحد([7]).. لنا إلهنا الخاص، ولكم إلهكم الخاص.. إن إلهكم ـ كما ذكره نيقتاس البيزنطي ـ ذو شكل كروي كامل، أو على شكل مطرقة معدنية مطروقة في السماء([8]).
ابتسم الحكيم، وقال: أرى أن نيقتاس قد نال منك كل منال، فلست تسمع لغيره، ولست تروي لغيره.. ألا تعتبر ذلك انطواء؟
قال نيقتاس: ما دام نيقتاس يقول الحقيقة، فلا حرج علي في أن أنطوي في ظله.
قال الحكيم: فلم تلوم إذن المسلمين إذا انطووا في ظل نبيهم؟.. ولم تعتبرهم منغلقين بذلك الانطواء؟
قال نيقتاس: لأن المسلمين ألغوا ألغوألغ
غيرهم، ولم يعترفوا لهم بوجود.
قال الحكيم: لا.. إن المسلمين هم الأمة الوحيدة في الأرض التي تعترف بغيرها، وتحترم غيرها.. وتحترم مقدسات غيرها..
ألا ترى نيقتاس البيزنطي، وإخوانه يفترون على نبينا ما شاءت لهم نفوسهم أن تفترى، بل يسبونه علنا، بل يتسابقون فيمن هو أطولهم لسانا على نبينا بينما كل المسلمين بجميع مذاهبهم يحترمون كل الأنبياء.. بل كل الشخصيات المقدسة في جميع الأديان.. لقد قرأت قوله تعالى:{ وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (آل عمران:85)، ونسيت أن تقرأ قبلها هذه الآيات التي تفسرها وتبين المراد منها.. سأقرؤها عليك.. قال تعالى:{ أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (83)قُلْ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (84) وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85)} (آل عمران)
ألا ترى أن المسلمين يحترمون كل الأشياء، ويعتبرونها تلهج بتسبيح الله وحمده كل حين.. ألا ترى كيف تقدس هذه الآيات الأنبياء؟
قال نيقتاس: أجل.. وهم لذلك يقتلون كل من يسخر من نبيهم.
قال الحكيم: نحن مأمورون أن نحاور من يسخر من نبينا أو أي نبي من الأنبياء ودعوته الحق.. لا بقتله.. إننا لا نفرق بين أنبياء الله ورسله.. هكذا أمرنا ربنا.. قال تعالى:{ قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} (البقرة:136)، وقال تعالى:{ آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} (البقرة:285)، وقال تعالى:{ قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} (آل عمران:84)
التفت إلى نيقتاس، ثم قال: لقد كنت تتصور بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يحتقر موسى u حين نهى عمر عن صحائف التوراة.. لم يكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليفعل ذلك.
قال نيقتاس: لقد صحت النصوص بذلك.
قال الحكيم: ولكن أي توراة هذه التي نهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم عمر عنها.. إنها التوراة التي تمتلئ بالأحقاد والعنصرية والسخرية من الأنبياء..
أما عن موقف النبي صلى الله عليه وآله وسلم من موسى u فهو كل التعظيم والاحترام.. لقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم كلما أصابه الأذى يقول:(رحم الله أخي موسى لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر)([9])
وعندما أراد الصحابة تزيين مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، نهاهم، واعتل لذلك بعدم مخالفته لما كان عليه موسى u، ففي الحديث: قالت الأنصار: إلى متى يصلي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى هذا الجريد، فجمعوا له دنانير، فأتوا بها النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقالوا: نصلح هذا المسجد ونزينه، فقال: ليس لي رغبة عن أخي موسى، عريش كعريش موسى)([10])
بل إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يدعو الله بما دعا به موسى u، عن أسماء بنت عميس قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بإزاء ثبير وهو يقول:(أشرق ثبير، أشرق ثبير، اللهم إني أسألك بما سألك أخي موسى أن تشرح لي صدري، وأن تيسر لي أمري، وأن تحل عقدة من لساني يفقهوا قولي، واجعل لي وزيرا من أهلي هرون أخي أشدد به أزري، وأشركه في أمري، كي نسبحك كثيرا ونذكرك كثيرا إنك كنت بنا بصيرا)([11])
التفت إلى نيقتاس، وقال: هذا ليس خاصا بموسى u فقط.. بل كل الأنبياء لهم حرمة ومكانة عظيمة في نفس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وفي نفس كل مؤمن.. بل إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر بالاقتداء بهم والاهتداء بهديهم، قال تعالى:{ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ } (الأنعام:90)
ولذلك لن تجد أي مسلم يحمل تلك التصورات المشوهة التي يحملها قومك عن الأنبياء.. ولن تجد أي مسلم يستطيع أن يتخيل أن نبيا من الأنبياء يمكن أن يقع في المعصية.
سكت قليلا، ثم قال: ليس هذا خاصا بالأنبياء المذكورين في القرآن الكريم، والذين اقتصر القرآن الكريم على ذكرهم باعتبارهم نماذج فاضلة عن القضايا التي يدعو إليها، وإنما كل الأنبياء.. من نعرفهم ومن لا نعرفهم.. لهم هذه الحرمة في نفس المؤمن.. قال تعالى:{ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ } (غافر:78)
بل إن القرآن الكريم أخبرنا بأن كل الأمم لها حظها من الأنبياء والرسل، ولم يستثن من ذلك أمة من الأمم، قال تعالى:{ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيهَا نَذِيرٌ} (فاطر:24)
ولهذا، فإن المسلمين الذين وعوا هذه النصوص ينظرون بكل مهابة لكل الشخصيات المقدسة عند جميع الأمم خشية أن تكون تلك الشخصيات من الأنبياء الذين لم تذكر أسماؤهم في القرآن الكريم.
قال نيقتاس: ولكن لم يعتبرون أتباع هؤلاء الأنبياء كفارا.. ويخبرون أنهم في جهنم؟
قال الحكيم: بالنسبة لجهنم.. المسلمون لا يجزمون لأحد بأنه من أهل جهنم إلا لمن جزمت لهم النصوص المقدسة بذلك.. أما من عداهم، فكل مسلم متورع يتورع من إطلاق ذلك([12])..
لقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذاكرا صعوبة الحكم في مثل هذه المسائل التي هي من اختصاص الله:(إن الرجل ليعمل الزمن الطويل بعمل أهل الجنة ثم يختم له بعمل أهل النار وأن الرجل ليعمل الزمن الطويل بعمل أهل النار ثم يختم عمله بعمل أهل الجنة)([13])
لقد قطع هذا الحديث وغيره الألسن من أن تتدخل في دور الجزاء التي أعدها الله لعباده، كما قال تعالى:{ قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ} (الاحقاف:9)
بالإضافة إلى ذلك، فإن التكاليف الإسلامية لا يؤاخذ بها إلى من بلغته عبر طرق صحيحة، ثم جحدها، أما من عداهم ممن لم تبلغهم الدعوة أو بلغتهم عبر طرق مشوهة، فإنهم لا يؤاخذون([14]).. لقد قال تعالى ينص على هذا:{ مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} (الاسراء:15)
قال نيقتاس: وعقيدة الولاء والبراء التي تمتلئ بها حناجر المسلمين وكتبهم؟
قال الحكيم: لا توجد أمة في الدنيا لها خصوصيتها إلا وتحمل هذه العقيدة.. ولكن ليس هناك أمة في الدنيا تحملها بمثل الطهر الذي تحمله أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم..
إن عقيدة (الولاء والبراء) لا تعني عند المسلم إلا ما يعنيه اختيار المريض الذي اختلف الأطباء في تشخيص دائه وصفة من الوصفات وترك ما عداها.
ألا ترى أن ذلك المريض يستحيل عليه أن يجمع كل الوصفات؟
قال نيقتاس: بل يمكن أن يجمع بينها، وبذلك يحقق أكبر احتمال بشفائه.
قال الحكيم: لكن الأدوية قد تتعارض فيما بينها، فيتحقق الموت بدل الشفاء..
قال نيقتاس: ذلك في الدواء.
قال الحكيم: ومثله في الأديان.. سأضرب لك مثالا يقرب لك ذلك.. ألا ترى أن مبنى دين الإسلام على وحدانية الله التي تنفي الشريك مطلقا مهم كانت صورته، وهي لذلك تعتبر المسيح u بشرا كسائر البشر، له حظه من ولاية الله، ومن تكريم الله.. ولكن ذلك الحظ لا يرقى به إلى المرتبة التي تزعمونها له.
قال نيقتاس: بل هي منزلته الحقيقية التي غفلتهم عنها، كما غفل عنها غيركم.
قال الحكيم: ولكن.. هل تستيطع أن تجمع بين هذين المتناقضين، فتعتقد بأن المسيح u بشر، وأنه يستحيل أن يكون إلها، أو أقنوما من إله.. ثم تعتقد في نفس الوقت بأنه إله أو أقنوم من إله.
سكت نيقتاس، فقال الحكيم: ولهذا.. فإن المسلم ككل متدين في العالم يحرص على اتباع ما اقتنع به، واعتقد صدقه.. وهذا الاقتناع والإذعان هو الذي يسمى ولاء.
قال نيقتاس: والبراء؟
قال الحكيم: من والى شيئا تبرأ من ضده.. ومن أحب شيئا أبغض عدوه.
قال نيقتاس: وبغضه هو الذي يجره إلى الانطواء.
قال الحكيم: في ديننا لا نعرف شيئا اسمه البغض..
قال نيقتاس: والبغض في الله.. أم تراك لم تسمع به.. فإن لم تسمع به، فقد اعتبره نبيكم من علامات كمال الإيمان، فقال:(لا يحق العبد صريح الإيمان حتى يحب لله ويبغض لله فإذا أحب لله تبارك وتعالى وأبغض لله فقد استحق الولاية من الله إن أوليائي من عبادي وأحبائي من خلقي الذين يذكرون بذكري وأذكر بذكرهم)([15])
قال الحكيم: قبل أن أبين لك معاني المحبة التي ينطوي عليها هذا النوع من البغض أذكر لك كلاما منطقيا لبعض علمائنا لترى من خلالها مدى منطقية هذا النوع من البغض..
لقد قال الغزالي:(إن كل من يحب في الله لا بد أن يبغض في الله، فإنك إن أحببت إنساناً لأنه مطيع لله ومحبوب عند الله فإن عصاه فلا بد أن تبغضه لأنه عاص لله وممقوت عند الله، ومن أحب بسبب فبالضرورة يبغض لضده، وهذان متلازمان لا ينفصل أحدهما عن الآخر، وهو مطرد في الحب والبغض في العادات)
فالحب والبغض شعوران كل منهما يتطلب الآخر، فكل من أحب لا بد أن يبغض ما يتضاد مع حبه، وكل من أبغض لا بد أن يحب ما يتضاد مع بغضه.
وهذان الشعوران الدفينان في سويداء الصدور يترشحان (بظهور أفعال المحبـين والمبغضين في المقاربة والمباعدة وفي المخالطة والموافقة فإذا ظهر في الفعل سمي موالاة ومعاداة)
ولهذا جمع القرآن الكريم بين الأمر بموالاة المؤمنين مع الأمر بعدم موالاة أعدائهم، فلا يمكن للقلب أن يجمع بين الحبين، حب الحبيب وحب عدوه، قال تعالى:{ لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} (آل عمران:28)
فالآية الكريمة تنفي أي مكانة لمن يوالي الكافرين دون المؤمنين، وتعقب ذلك بالتحذير الشديد الذي يدل على خطر موالاة أعداء الله.
بل إن القرآن الكريم يجعل مولى القوم منهم، فمولى اليهود والنصارى لا يختلف عن اليهود والنصارى، قال تعالى:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} (المائدة:51)
قال نيقتاس: فهاهو البغض إذن أصل من أصول دينكم، فكيف تزعم أنه لا مكان للبغض فيه؟
قال الحكيم: أرأيت لو أن الله ابتلاك بداء منفر.. نفرت نفسك منه.. أو نفرت نفوس الناس منه.. هل تراك تحب ذلك الداء؟
قال نيقتاس: ليس هناك من يحب أي داء منفرا كان أو غير منفر.
قال الحكيم: ولكنك لا تبغض جسدك الذي حل به هذا الداء؟
قال نيقتاس: لولا حبي له ما أبغضت الداء الذي أصابه.. بل إني.. وأقولها بكل صراحة.. أفرح بكل داء يصيب أعدائي.. بل إني أمتلئ بحب ذلك الداء الذي أصابهم.. ولو أن في إمكاني أن أقدم جائرة له لفعلت.
قال الحكيم: فبغض المسلمين وحبهم من هذا الباب.. فهم لا يبغضون المرء لذاته، وإنما يبغضونه لأجل الله.. ولهذا قال صلى الله عليه وآله وسلم:(ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه، كما يكره أن يوقد له نار فيقذف فيها)([16])
فقد أخبر صلى الله عليه وآله وسلم أن أساس الحب وسببه هو حب الله.. وهو فوق ذلك حب في الله.
وهكذا ما سميناه بغضا.. فهو لله لا لأي اعتبار آخر.
قال نيقتاس: فما معنى كونه لله؟
قال الحكيم: أي أنه بغض غير ناشئ عن حقد، ولا عن مصالح شخصية، وإنما هو بغض مرتبط بطاعة الله ومعصيته.. ولذلك فإن المؤمن سرعان ما يمتلئ محبة لهذا الذي أبغضه في الله إن هو تخلص من انحرافه.
بل هو في أثناء بغضه له في الله يحبه كل المحبة.
قال نيقتاس: أنت تكاد تخبلني بقولك هذا.
قال الحكيم: أرأيت الأب الذي يحزن لمرض ولده.. وهو في نفس الوقت يمتلئ بغضا لذلك الداء الذي أصابه.. هل يمكن أن يكون هذا الأب حقودا على ولده؟
قال نيقتاس: يستحيل ذلك.. بل إن حزنه دليل على محبته.
قال الحكيم: ما دمت وعيت هذا.. فاسمع ما يقول الله تعالى مخبرا عما كان يملأ النبي صلى الله عليه وآله وسلم نحو الذين واجهوه بالمحاربة، قال تعالى:{ فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً} (الكهف:6)، وقال تعالى:{ لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} (الشعراء:3).. أتدري ما معنى (باخع)؟
قال نيقتاس: أعرف أنها (قاتل)
قال الحكيم: فقد كاد الحزن يقتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم على أعدائه.. ولهذا نهي عن ذلك، قال تعالى:{ أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} (فاطر:8)
ونهي عن الحزن عليهم، فقال:{ وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ} (النحل:127)
التفت الحكيم إلى نيقتاس، وقال: هل ترى رجلا مثل هذا يمكن أن يحمل البغض الذي يحمله الحاقدون؟
قال نيقتاس: ولكن ما علاقة ذلك كله بالانفتاح الديني الذي تزعمه؟
قال الحكيم: هذا هو أساس الانفتاح وقلبه ومحركه.. فالانفتاح ليس صورة أو طلاء، وإنما هو حقائق تملأ النفوس طهرا، والسلوك أدبا.
ولهذا، فإن المسلم ـ خارج الإطار الديني المحض ـ مطالب بالإحسان والأدب مع كل الناس مسلمهم وكافرهم، لقد قال الله تعالى يحث على رعاية الوالدين الكافرين والإحسان إليهما:{ وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} (لقمان:15)
ففي هذه الآية نهي المسلمون أن يطيعوا آباءهم فيما يأمرونهم به من الكفر، ولكنهم نهوا في نفس الوقت أن يسيئوا إليهم أو يقصروا في الإحسان إليهم.
وقد ضرب الله تعالى للمؤمنين مثلا لذلك بإبراهيم u الذي كان برا بأبيه مع كفره بالله، قال تعالى مخبرا عنه:{ قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً} (مريم:47)
وقد جاءت أسماء بنت أبي بكر إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقالت: قدمت علي أمي، وهي مشركة في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فاستفتيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قلت: قدمت علي أمي، وهي راغبة([17]) أفأصل أمي، قال:(نعم، صلي أمك)([18])
أرأيت.. إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمرها أن تصل أمها وتحسن إليها مع كونها مشركة.
إن الود الذي نهي عنه المسلمون هو الود الذي يضحي بود الله من أجل ود ذلك القريب.. كما قال تعالى:{ قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} (التوبة:24).. هذا هو الود المنهي عنه.. وهو ود يجعل هم صاحبه أن يرضي من وده على حساب حبه لله.
ولهذا ما نهي المسلمون عن الموادة التي لا تضحي بمودة الله، قال تعالى:{ لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} (الممتحنة:8)
ثم بين موضع العداوة، فقال:{ إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (الممتحنة:9)
ولهذا، فإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما أمر بإنذار أهله في قوله تعالى:{ وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} (الشعراء:214) جمع الأقربين من أهله، فخص وعم، فقال:(يا معشر قريش، اشتروا أنفسكم من الله، أنقذوا أنفسكم من النار، فإنى لا أملك لكم من الله ضرًا ولا نفعًا، ولا أغنى عنكم من الله شيئًا.. يا بني كعب بن لؤى، أنقذوا أنفسكم من النار، فإني لا أملك لكم ضرًا ولا نفعًا.. يا بني مرة بن كعب، أنقذوا أنفسكم من النار.. يا معشر بني قصى، أنقذوا أنفسكم من النار، فإنى لا أملك لكم ضرًا ولا نفعًا.. يا معشر بني عبد مناف، أنقذوا أنفسكم من النار، فإنى لا أملك لكم من الله ضرًا ولا نفعًا، ولا أغنى عنكم من الله شيئًا.. يا بني عبد شمس، أنقذوا أنفسكم من النار.. يا بني هاشم، أنقذوا أنفسكم من النار.. يا معشر بني عبد المطلب، أنقذوا أنفسكم من النار، فإنى لا أملك لكم ضرًا ولا نفعًا، ولا أغنى عنكم من الله شيئًا، سلونى من مالى ماشئتم، لا أملك لكم من الله شيئًا.. يا عباس بن عبد المطلب، لا أغنى عنك من الله شيئًا.. يا صفية بنت عبد المطلب عمة رسول الله، لا أغنى عنك من الله شيئًا.. يا فاطمة بنت محمد رسول الله، سلينى ما شئت من مالى، أنقذى نفسك من النار، فإنى لا أملك لك ضرًا ولا نفعًا، ولا أغنى عنك من الله شيئًا غير أن لكم رحمًا سأبُلُّها بِبلاَلها)([19]) أي أصلها حسب حقها.
فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم في هذا البيان ذكر علاقة المسلم بالمخالفين، فهو ينصحهم ويدعوهم ويكل أمرهم إلى الله، وفي نفس الوقت يصلهم ويحسن إليهم ما دام الإحسان إليهم لا يضر بدينهم ولا بدينه.
قال نيقتاس: كيف يضر الإحسان.. وهل يمكن أن يضر الإحسان أحدا من الناس؟
قال الحكيم: أجل.. يمكن أن يضر الإحسان.. ألا ترى أن الشفقة على الصبي المريض بعدم إعطائه الدواء المر مضرة له؟
قال نيقتاس: أجل.. ذلك صحيح.
قال الحكيم: ولهذا، فإن الإحسان بصورة من الصور إذا جر إلى مضرة كان الأولى تركه إلى صورة أخرى من الإحسان.. قد تكون قاسية ولكن منفعتها أعظم.
قال نيقتاس: فأنت تبرر إذن بعض القسوة التي قد يتعامل بها المسلم مع المخالف؟
قال الحكيم: هي قسوة منطلقة من رحمة.. وهو بغض مدده محبة.
قال رجل من الجمع: لقد عرفنا مدى انفتاح المسلمين الديني.. وعرفنا أن ذلك ميراث ورثوه من نبيهم.. فحدثنا عن الانفتاح الإنساني.
قال الحكيم: قبل أن أحدثكم عن الانفتاح الإنساني أطلب من السيد الفاضل نيقتاس البيزنطي أن يقرأ لنا ما ذكرته الأناجيل من خير المرأة الكنعانية مع المسيح.
قال نيقتاس: أحفظ ذلك النص عن ظهر قلب.. ويسرني أن تستمع له لترى رحمة المسيح، وتفتحه على كل شعوب الأرض حتى ولو لم يكونوا من بني إسرائيل.
استجمع نيقتاس كل ما لديه من مشاعر ومن قدرات تأثيرية، وراح يقرأ بخشوع:(ثم غادر يسوع تلك المنطقة، وذهب إلى نواحي صور وصيدا، فإذا امرأة كنعانية من تلك النواحي، قد تقدمت إليه صارخة: (ارحمني ياسيد، ياابن داود! ابنتي معذبة جدا، يسكنها شيطان) لكنه لم يجبها بكلمة، فجاء تلاميذه يلحون عليه قائلين:(اقض لها حاجتها. فهي تصرخ في إثرنا!)، فأجاب: (ما أرسلت إلا إلى الخراف الضالة، إلى بيت إسرائيل!)، ولكن المرأة اقتربت إليه، وسجدت له، وقالت: (أعني ياسيد!)، فأجاب: (ليس من الصواب أن يؤخذ خبز البنين ويطرح لجراء الكلاب!)، فقالت: (صحيح ياسيد؛ ولكن جراء الكلاب تأكل من الفتات الذي يسقط من موائد أصحابها!)(متى 15: 23 ـ 27)
لاحظ نيقتاس بعض التقزز في نفوس الجمع، فقال: اصبروا.. ولا تستعجلوا، فإن المشهد لم يتوقف هنا.. لقد ورد في (متى: 28):(فأجابها يسوع: أيتها المرأة، عظيم إيمانك! فليكن لك ما تطلبين! فشفيت ابنتها من تلك الساعة)
ابتسم ابتسامة عريضة، وقال: هل رأيتم إنسانية أعظم من هذه الإنسانية؟.. وهل رأيتم تفتحا أعظم من هذا التفتح؟
ابتسم الحكيم، وقال: أرأيت لو أن شخصا لم يلب طلبك البسيط بالنسبة له إلا بعد أن يهين كرامتك، ويحتقرك، بل يسميك كلبا، ثم لا يلبه إلا بعد إلحاح شديد، بل بعد سجودك له.. أتعتبر مثل هذا إنسانا محترما لا يحمل أي عنصرية؟
سكت نيقتاس، فقال الحكيم: إن العنصرية والانطواء العرقي تفوح من جميع الكتاب المقدس، لا من هذا النص وحده.. ولو قلت لك بأنه لا يوجد كتاب في الدنيا يفوق ما فيه من عنصرية ما في الكتاب المقدس منها، فلن أكون كاذبا.
التفت إلى نيقتاس، وقال: لن أكلفك أن تقرأ لي نصوصا من الكتاب المقدس.. بل سأقرؤها بنفسي.. وأدع لك مهمة التصحيح.. أنا مثلك أحفظ الكتاب المقدس عن ظهر قلب..
أخذا يقرأ من إنجيل يوحنا:(ورأى يسوع نثنائيل قادما نحوه فقال عنه: هذا إسرائيلي أصيل لا شك فيه!)(يوحنا:ا/47)
التتف الحكيم إلى نيقتاس، وقال: هذا نص مملوء بالعنصرية المقيتة.. إن الإنسان في تصورنا نحن المسلمين يكرم لتقواه ولدينه لا لأصله ونسبه.
لن أكتفي بهذا النص.. هناك نصوص أخرى كثيرة سأقرؤها من دون أي تعليق:
لقد جاء في (صموئيل: 1/ 43):(فقال الفلسطيني لداود: (ألعلي كلب حتى تأتي لمحاربتي بعصي؟)
وجاء في (مزامير: 60/8):(موآب مرحضتي، وعلى أدوم ألقي حذائي)
وجاء في (تثنية 20/ 10ـ 15):(وحين تتقدمون لمحاربة مدينة فادعوها للصلح أولا. فإن أجابتكم إلى الصلح واستسلمت لكم، فكل الشعب الساكن فيها يصبح عبيدا لكم. وإن أبت الصلح وحاربتكم فحاصروها فإذا أسقطها الرب إلهكم في أيديكم، فاقتلوا جميع ذكورها بحد السيف. وأما النساء والأطفال والبهائم، وكل ما في المدينة من أسلاب، فاغنموها لأنفسكم، وتمتعوا بغنائم أعدائكم التي وهبها الرب إلهكم لكم. هكذا تفعلون بكل المدن النائية عنكم التي ليست من مدن الأمم القاطنة هنا)
وجاء في (صموئيل 1/ 15: 3):(فاذهب الآن وهاجم عماليق.. لا تعف عن أحد منهم بل اقتلهم جميعا رجالا ونساء، وأطفالا ورضعا)
وجاء في (إشعياء 61/ 5 ـ 6):(ويقوم الغرباء على رعاية قطعانكم، وأبناء الأجانب يكونون لكم حراثا وكرامين. أما أنتم فتدعون كهنة الرب.. فتأكلون ثروة الأمم وتتعظمون بغناهم)
سكت قليلا، ثم قال: لقد انتقد القرآن الكريم كثيرا تلك العنصرية المقيتة التي يمتلئ بها الكتاب المقدس، والتي أوحت لكل قارئ له بأن إسرائيل هم شعب الله المختار، وأن غيرهم مجرد قطعان لا يختلفون عن قطعان الماشية.
قال تعالى:{ وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} (المائدة:18)
وقال تعالى:{ وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} (البقرة:80)، وقال:{ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} (آل عمران:24)
وقد رد عليهم وعلى كل من يتصور أن لعرقه من الخصائص ما يرفع العقوبة عنه، فقال:{ لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً} (النساء:123)
التفت الحكيم إلى نيقتاس، وقال: أأزيدك أم تكتفي بهذا؟
سكت نيقتاس، فقال الحكيم: دعنا من عنصرية الكتاب المقدس، ولننتقل إلى عنصرية الحضارة التي تفخرون بها على الإسلام.. حضارة الرجل الأبيض.
لا شك أنك تعلم أن من أهم الأفكار التى شاعت في الحضارة الغربية([20]) منذ بدايتها ما يمكن تسميته (الفكر العنصري) أو العرْقي، وهو فكر ينطلق من أن البشر جميعاً مادة، ولذا فالاختلافات بينهم مادية، كامنة في خصائصهم العرْقية والتشريحية، وأن البشر مادة بشرية يمكن أن تُوظَّف فتكون نافعة ويمكن أن لا يكون لها نفع.
ومن هنا تَبرُز ـ في تصورهم ـ أهمية الاختلافات العرْقية (لون الجلد ـ حجم الرأس.. وغيرها) كمعيار للتفرقة بين البشر، والخصائص الحضارية ورقي شعب ما وتَخلُّفه هو نتيجة صفاته العرْقية والتشريحية، ومن ثم فتقدُّم أو تَخلُّف شعب مسألة عرْقية متوارثة.
وانطلاقا من هذا التصور العنصري طبَّق منظروا العرْقية هذه النظريات على شعوب أوربا وأقلياتها، فاتجه الألمان إلى وضع الآريين، وخصوصاً التيوتون، على رأس الهرم، كما نجد الإنجليز يضعون العنصر الأنجلو ساكسوني (الإنجليزي الأمريكي) عند هذه القمة، ومن السلاف من فعل ذلك.. وعلى أية حال، فإن الشعوب البيضاء (الشقراء) في الشمال تجيء على القمة، أما الشعوب الداكنة في الجنوب (الإيطاليون واليونانيون) فكانت توضع في منتصف الهرم، وفي قاعدة الهرم كان يوضع الغجر واليهود.
هذا داخل أوروبا.. أما خارجها، فالشعوب الملونة خارج أوربا هي شعوب متخلفة حضارياً وعرْقياً، على حين أن الرجل الأبيض متقدم متحضر، الأمر الذي يضع على الإنسان الأبيض عبئاً ثقيلاً ويفرض عليه أن يغزو بقية العالم ويهزم شعوبها ويبيد أعداداً منهم حتى يتم إدخال الحضارة عليهم.
التفت الحكيم إلى الجمع، وقال: هذه هي الرؤى الفلسفية التي تملأ البيوت البيضاء والسوداء التي تحكم العالم.. وعلى أساس هذه الفلسفة سالت الدماء الكثيرة التي لم يكن هناك من مبرر لسيلانها سوى هذه العنصرية المقيتة..
سكت قليلا، ثم قال: لن أحدثك عن فكر هتلر، ولا عن سلوكه العنصري.. فالكل يعلم ذلك.. ولكني سأحدثك عن الأمة التي تتصور أنها شعب الله المختار في العصر الحديث، وأنه يحق لها لأجل ذلك أن تفرض ما تشاء على من تشاء، وتصنف من تشاء كما تشاء.
سأحدثك عن أمريكا، وعن بيتها الأبيض المبني على جثث الهنود الحمر([21]) ..
إن المراقب للتاريخ الأمريكي منذ بدأ التاريخ الأمريكي تصدمه وقائع الطريقة التي تعامل بها الأمريكيون مع شعوب العالم الأخرى؛ إذ سرعان ما يكتشف المرء أنه لا يوجد فرق كبير بين نظرة اليهود إلى (الجوييم)([22]) أو الأمميين العوام المستباحي الأرواح والدماء والأعراض، وبين نظرة الأنجلوساكسون إليهم، فكلا النظرتين تنطلقان من مقولة أن هناك جنساً متفوقاً لا بد أن تخضع له الشعوب وتركع تحت رجليه الأمم بحيث لا تكون لحياتها قيمة إلا بقدر ما تخدم (الشعب المختار)، ولا تكون لأرضها أهمية إلا بقدر ما تمد ذلك الشعب بالخيرات، أما إذا تعارضت حياة أولئك (الأغيار) مع المصالح العليا للشعب المختار، فلا ضرورة لهذه الحياة أصلاً، وأما إذا ما تجرأ أحد منهم على تهديد حياة أحد من أبناء الشعب المختار، فإن قيامته لا بد أن تُعجَّل بإحراق أو إغراق أو استرقاق أو أي وسيلة من وسائل الإزهاق.
التفت الحكيم إلى الجماعة المحيطة به، وقال بنبرة حزينة: إن عقدة الدم الأنجلوساكسوني الأمريكي لا تختلف عن عقدة الدم اليهودي.. فكلاهما شديد الاستهانة بدماء (الأغيار)، وكلاهما شديد الحرص على دماء (الشعب المختار)
في عام 1664، صدر كتاب بعنوان: (العملاق) كتبه (يوردجاك) تضمن نصائح للقيادات الأنجلو ساكسونية المتزعمة للمهاجرين البروتستانت إلى القارة الأمريكية الجديدة، جاء فيه:(إن إبادة الهنود الحمر والخلاص منهم أرخص بكثير من أي محاولة لتنصيرهم أو تمدينهم ؛ فهم همج، برابرة، عراة، وهذا يجعل تمدينهم صعباً)
وجاء فيه:(إن النصر عليهم سهل، أما محاولة تمدينهم فسوف تأخذ وقتاً طويلاً، وأما الإبادة فإنها تختصر هذا الوقت، ووسائل تحقيق الانتصار عليهم كثيرة: بالقوة، بالمفاجأة، بالتجويع، بحرق المحاصيل، بتدمير القوارب والبيوت، بتمزيق شباك الصيد، وفي المرحلة الأخيرة: المطاردة بالجياد السريعة والكلاب المدربة التي تخيفهم ؛ لأنها تنهش أجسادهم العارية)
وفي عام 1730 م، أصدرت الجمعية التشريعية (البرلمان) لمن يسمون أنفسهم (البروتستانت الأطهار) تشريعاً يقنن عملية الإبادة لمن تبقى من الهنود الحمر، فأصدرت قراراً بتقديم مكافأة مقدارها 40 جنيهاً مقابل كل فروة مسلوخة من رأس هندي أحمر، و40 جينهاً مقابل أسر كل واحد منهم، وبعد خمسة عشر عاماً ارتفعت المكافأة إلى 100 جنيه! ثم وضع البرلمان البروتستانتي (تسعيرة) جديدة بعد عشرين عاماً من صدور القرارات الأولى: فروة رأس ذكر عمره 12 عاماً فما فوق: 100 جنيه، أسير من الرجال: 105 جنيهات، أسيرة من النساء أو طفل: 55 جنيهاً، فروة رأس امرأة أو فروة رأس طفل: 50 جنيهاً.
وفي عام 1763 م أمر القائد الأمريكي (جفري آهرست) برمي بطانيات كانت تستخدم في مصحات علاج الجدري في أماكن تجمعات الهنود الحمر، لنقل مرض الجدري إليهم بهدف نشر المرض بينهم ؛ مما أدى إلى انتشار الوباء الذي نتج عنه موت عشرات الألوف منهم.
وبعد عقود قليلة انتهى أمر السكان الأصليين في القارة الأمريكية إلى ما يشبه الفناء، بعد الإبادة المنظمة لهم على أيدي المبشرين بالمحبة، والسلام للبشرية جمعاء!
التفت الحكيم إلى الجمع المحيط به، وقال بحزن، وكأنه يقص عليهم قصة من قصص البدائيين: بعد فراغ القارة الأمريكية من العبيد (الحمر) قرر الأمريكيون استيراد عدة ملايين من العبيد (السمر) لخدمة (الشعب المختار) فتحول رعاة البقر إلى بحارة يجوبون السواحل الإفريقية لاصطياد (العبيد)، وحشرهم في سفن الشحن، في عمليات إجرام أخرى يعالجون بها آثار الجريمة الأولى في حق الهنود الحمر، حيث لم يبق لديهم ما يكفي من الأيدي العاملة لبناء صرح الحضارة الجديدة.
وقد جلب الأوربيون والأمريكيون في أول الأمر ما لا يقل عن 12 مليوناً من الأفارقة المسترقين، جاءوا بأفواجهم في الأصفاد، وكانت البرتغال أكثر الدول الأوروبية توسعاً في جلب هؤلاء إلى أراضي العالم الجديد في أمريكا، دون توفير أدنى الضمانات لتلك (المخلوقات) الإفريقية التي لم يَرْق التعامل معهم إلى مستوى التعامل مع فئران المعامل ؛ فقد صدر عن منظمة اليونسكو عام 1978تقرير يحكي فضاعة ما حصل للأفارقة وهول الكارثة الإنسانية التي حلت بهم لهم من أجل تعمير أمريكا ؛ فقد جاء فيه:(إن إفريقيا فقدت من أبنائها في تجارة الرقيق نحو 210 ملايين نسمة، وذكرت التقارير أن ما لا يقل عن خمسة وعشرين مليوناً من الأفارقة الذين تم شحنهم من أنحاء القارة في أفواج من (جزيرة جور) الواقعة في مواجهة العاصمة السنغالية (داكار) ؛ قد هلك أكثرهم قبل أن يصلوا إلى العالم الجديد مما لقوا في رحلات العذاب داخل سفن شحن المواشي)
التفت إلى نيقتاس، وقال: لا شك أنك تعلم أن أمريكا هي التي أحبطت في مؤتمر (دوربان) عام 2000م مطالب الأفارقة بالتعويض عما حدث لهم، بل رفضت أن يقدم لهم مجرد اعتذار، ومع كل هذا لا يزال كثير من المغفلين أو المغرضين يرفعون عقيرتهم قائلين: إن أمريكا محررة العبيد!
لقد بقي الأمريكيون مشغولين عن التدخل في شؤون العالم ثلاثة قرون، تاركين ذلك للجزء الأصلي من الشعب الساكسوني المختار (بريطانيا) ثم قرروا بعد نشوب الحرب العالمية الثانية أن ينفتحوا على العالم، وكانت بداية ذلك الانفتاح دموية قاتلة.
بالرغم من أن الحرب العالمية الثانية أفقدت العالم ما لا يقل عن خمسين مليوناً من البشر فإن خسارة الأمريكيين لخمسة آلاف جندي، بعد الهجمات اليابانية بطائرات (الكاميكازا) على (ميناء هاربر) الأمريكي عام 1945م أفقدت الأمريكيين عقلهم؛ فلأول مرة يخسر الشعب الأمريكي (المختار) هذا الكم الهائل من الدماء في معركة واحدة، فكان لا بد أن يكون الرد حقداً يصب على رؤوس اليابانيين المدنيين منهم قبل العسكريين، وهذا ما حدث؛ فمقابل دماء الخمسة آلاف جندي أمريكي، أقبل الأمريكيون الأنجلو ساكسون على الانتقام المجنون، فأمر الجنرال (جورج مارشال) رئيس الأركان الأمريكي في ذلك الوقت بتنفيذ عمليات قصف تدميري واسع النطاق للمدن اليابانية الكثيفة السكان، فتم إطلاق 334 طائرة أمريكية لإلقاء القنابل الحارقة لتدمر ما مساحته 16 ميلاً مربعاً، ولتقتل في ساعات نحو 100 ألف شخص، وتشرد نحو مليون آخرين، في عمليات جحيم مستعر شمل طوكيو و64 مدينة يابانية أخرى، ثم ختم ذلك المشهد الدموي، بمشهد آخر أكثر دموية لم يكن للبشرية به عهد قبل مجيء العهد الأمريكي؛ فقد أقدم الأمريكيون وهم القوة المتظاهرة اليوم بالدعوة إلى التعقل في استعمال أسلحة الدمار الشامل إلى استعمال هذا السلاح، وكانوا أسبق البشر إلى استعماله عندما أسقطوا قنبلتين نوويتين فوق مدينتي هيروشيما وناجازاكي، حصدت بسببها عشرات الآلاف من الأرواح بلا أدنى تفريق بين مدني وعسكري، أو رجل وامرأة وطفل.
سقطت دموع حارة من عيون الجمع، فقال الحكيم: اعذروني.. لم أكن أقصد أن أسيء إليكم.. ولست أقصد بما ذكرت أي أمة من الأمم، ففي كل أمة يختلط الطيبون بالخبيثين.. وفي أمريكا بالذات طيبون كثيرون يستحقون من كل مسلم كل الاحترام.. وفي الإسلام لا يؤاخذ الابن بما فعل أباه، قال تعالى:{ وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} (فاطر:18)
ولذلك لم أقصد أن أهين أي أحد من الناس.. لا اليهود ولا الأمريكيين.. ولا أي أحد.. أنا أذكر الحقائق التي برهن عليها التاريخ لنقيم من خلالها مقارناتنا بين هؤلاء الذين يتيهون على الإسلام وعلى نبي الإسلام في نفس الوقت الذي يفخرون به بآبائهم وأجدادهم وأنفسهم متناسين كل جرائمهم..
أقول لهم ذلك لأذكرهم بما قال المسيح u لأحبار اليهود الملطخين بالخطايا:(من كان منكم بلا خطيئة، فليرمها بحجارة)
قال رجل من الجمع: حدثنا عن انغلاقنا فحدثنا عن انفتاح الإسلام، وانفتاح نبي الإسلام.
قال الحكيم: إن القرآن الكريم الذي هو ميثاق المسلمين ودستورهم.. والذي هو مؤدب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الأول.. ينص على أن البشر جميعا إخوة.. وأنهم كلهم لآدم، وأن الله نوع أعراقهم وألوانهم وألسنتهم كما نوع كل شيء لتكتمل الحياة بذلك التنوع، قال تعالى:{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (الحجرات:13)
وقد خطب رسول الله في أكبر تجمع عرفه في حياته.. وفي خطبة تسمى خطبة الوداع.. بسبب كونها وصيته الخاتمة لأمته جميعا.. لقد في تلك الخطبة:(يا أيها الناس إن ربكم واحد وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على عجمي ولا لعجمي على عربي ولا لأحمر على أسود ولا لأسود على أحمر إلا بالتقوى { إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ } (الحجرات:13)، ألا هل بلغت؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال:(فليبلغ الشاهد الغائب)([23])
وقد أخبر صلى الله عليه وآله وسلم عن مصير الأعراق التي يتفانى البشر في اعتبارها، فقال:(إذا كان يوم القيامة أمر الله مناديا ينادي: ألا إني جعلت نسبا وجعلتم نسبا، فجعلت أكرمكم أتقاكم، فأبيتم إلا أن تقولوا فلان ابن فلان خير من فلان بن فلان، فاليوم أرفع نسبي وأضع نسبكم، أين المتقون؟)([24])
ولهذا، فإنك لن تجد في القرآن.. في كل القرآن خطابا لقبيلة من القبائل.. لا العرب ولا غيرهم.. فالله تعالى يخاطب الناس باعتبارهم بشرا.. { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (البقرة:21).. { يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} (البقرة:168).. { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} (النساء:1).. { يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً} (النساء:174).. وغيرها من الآيات الكثيرة التي يتوجه الخطاب فيها للبشر جميعا باعتبارهم أناسي لا باعتبارهم أعراقا.
وهو يخاطب المتبعين للإسلام باعتبارهم مؤمنين.. لا باعتبارهم من أي عرق من الأعراق.. وهو حين يصنفهم يصنفهم بحسب مراتبهم من الإيمان.. لا بحسب أسباطهم أو أعراقهم أو سلالاتهم.. فالمؤمنون ليسوا بني لاوي أو بني يهوذا، وإنما هم المقربون أو أهل اليمين أو المخبتون أو عباد الرحمن.. أو هؤلاء الذين ذكرهم الله فقال:{ الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ} (آل عمران:17).. أو هؤلاء الذين ذكرهم، فقال:{ إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} (الأحزاب:35)
وكل ذلك يجعل المؤمن يسعى ليبحث عن وصف كسبي يناله بجهد يقربه من الله، ومن جميع خلق الله.. لا وصفا ماديا عرقيا لا علاقة له بكسب ولا بجهد.
لقد كانت البيئة التي ولد فيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ككل بيئات البشر منغلقة على نفسها، بل كل قبيلة منغلقة انغلاقا كليا على نفسها، لقد كان شاعرهم يقول:
لا يسألون أخاهم حين يندبهم في النائبات على ما قال برهانا
والفرد في القبيلة تبع للجماعة، وقد بلغ من اعتزازهم برأي الجماعة أنه قد تذوب شخصيته في شخصيتها، قال دريد بن الصمة:
وهل أنا إلا من غزية إن غوت غويت، وإن ترشد غزية أرشد
لقد كان لكل قبيلة من القبائل العربية شخصيتها السياسية، وهي بهذه الشخصية كانت تعقد الأحلاف مع القبائل الأخرى.. وبهذه الشخصية كانت تشن الحرب عليها.
في هذا الجو الذي يفوح بروائح العنصرية المقيتة ولد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. فلم يفخر بما فخروا، ولا زها بما زهوا به، ولا دعا لما دعوا إليه.. بل اعتبر ذلك كله من الجاهلية، قال صلى الله عليه وآله وسلم:(إن الله عز وجل أذهب عنكم عبية الجاهلية وفخرها بالآباء، الناس بنو آدم وآدم من تراب مؤمن تقي وفاجر شقي، لينتهين أقوام يفتخرون برجال إنما هم فحم من فحم جهنم أو ليكونن أهون على الله من الجعلان التي تدفع النتن بأنفها)([25])
وقال صلى الله عليه وآله وسلم:(لا تفخروا بآبائكم الذين ماتوا في الجاهلية فوالذي نفسي بيده لما يدحرج الجعل بأنفه خير من آبائكم الذين ماتوا في الجاهلية)([26])
وقال صلى الله عليه وآله وسلم:(أنسابكم هذه ليست بمسبة على أحدكم، كلكم بنو آدم ليس لأحد على أحد فضل الا بالدين أو تقوى، وكفى بالرجل أن يكون بذيا فاحشا بخيلا)([27])
وقال صلى الله عليه وآله وسلم:(من أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه)([28])
وعندما سئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أي الناس أكرم؟ فقال أكرمهم عند الله أتقاهم، قالوا ليس عن هذا نسألك، قال فأكرم الناس يوسف نبي الله ابن نبي الله بن خليل الله، قالوا: ليس عن هذا نسألك قال: فعن معادن العرب تسألوني؟ قالوا: نعم، قال: فخيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا([29]).
لقد شاعت بين المسلمين هذه المفاهيم.. فراحت تعارض ما قاله شاعر الجاهلية بمثل هذه الأبيات التي تحمل معاني الانفتاح السامية، قال الشاعر:
لعمرك
ما الإِنسان إلا بدينه |
فلا
تترك التقوى اتكالاً على النسب |
لقد
رفع الإسلام سلمان فارس |
و
قد وضع الشرك الشقي أبا لهب |
فما
الحسب الموروث إن در دره |
لمحتسب
إلا بآخر مكتسب |
إذا
الغصن لم يثمر وإن كان شعبة |
من
المثمرات اعتده الناس في الخطب |
وقال الآخر:
العلم
زين وتشريف لصاحبه |
فاطلب
هديت فنون العلم والأدبا |
لا
خير فيمن له أصل بلا أدب |
حتى
يكون على ما زانه حدبا |
كم
من كريم أخي عيٍّ وطمطمة |
فدم
لدى الصوم معروفٍ إذا نسبا |
في
بيت مكرمة آباؤه نجب |
كانوا
الرؤوس فأمسى بعدهم ذنبا |
سكت الحكيم قليلا، وقال: لقد كان لهذه المفاهيم الحضارية تأثيرها الكبير في حضارة المسلمين.. فهي الحضارة الوحيدة التي ساهمت فيها جميع الأعراق والألوان واللغات.. وهي الحضارة الوحيدة التي وجهت كل إبداع مهما اختلف العرق الذي انطلق منه وجهة إنسانية رفيعة لا مكان فيها للعرقية ولا للعنصرية ولا للانطواء على الذات..
وقد بدأ ذلك من عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. فرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان متفتحا على كل شعوب الأرض في خطابه لها، أو في استفادته منها، أو في تعامله معها.
***
بعد أن انتهى الحكيم من حديثه لم يجد (فرانكلين جراهام) ما يقوله.. ولذا سار مطأطئ الرأس، متغير الوجه، خارج ميدان الحرية ليترك الجماعة ملتفة حول الحكيم تسأله ويجيبها..
التفت إلى أصحابنا المستغرقين في مشاهدة ما حصل في ساحة الحرية.. فرأيت وجوههم كالحة عابسة عليها غبرة ترهقها قترة.
أما أنا..
فقد تنزلت علي حينها أنوار جديدة اهتديت بها بعد ذلك إلى شمس محمد صلى الله عليه
وآله وسلم.
([1]) أشير به إلى (نيقتاس البيزنطي)، وهو من الكُتّاب البيزنطيين الذين عاشوا في القرن الثالث الهجري ـ التاسع الميلادي.
وقد كتب كتاباً زعم أنه دحضٌ للقرآن الكريم، ذلك أن الإمبراطور البيزنطي ميخائيل الثالث ( 227 ـ 254 / 842 ـ 867) تلقى مقالتين من بعض العلماء المسلمين تفندان مقولة الأقانيم الثلاثة.
فكلَّفَ الإمبراطور نيقتاس بالرد عليهما، فقام نيقتاس بتأليف رده الذي وصفه بأنه (دحض لكتاب محمد المزوَّر)، ولم يكن نيقتاس متضلعاً في اللغة العربية، فقام باستعراض سور القرآن من سورة البقرة إلى سورة الكهف، وكل سورة يسميها الأسطورة المحمدية رقم كذا ـ مثلما هو رقمها في القرآن ـ ثم يذكر اسمها.
وأصدر حكمه الباطل بأن القرآن يصوّر الله ـ جل وعلا ـ على شكل كروي كامل، أو على شكل مطرقة معدنية مطروقة في السماء.
ثم أخذ يسخر من المسلمين على مناصرتهم لهذا التصور المادي ـ بزعمه ـ وقال بأن محمداً قاد المسلمين ليعبدوا في مكة وثناً مصنوعاً على غرار أفروديت ـ معبودة الحب والجمال عند الإغريق ـ وأنه جعل الشيطان رباً للخلق، وظل يؤكد على أن دين محمد صلى الله عليه وآله وسلم دين وثني وأن أتباعه مجرد جماعة من الوثنيين.
وكان في كل سورة يتحدث عنها يوجه السب والشتم إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم زاعماً أنه هو الذي وضع القرآن وشحنه بالأساطير، وأنه أمر أتباعه بقتل من يجعل شريكاً في جانب الله، ولذلك وقع معظم ذلك القتل على المسيحيين الذين يعبدون المسيح ابن الله ـ بزعمه ـ
وأخذ نيقتاس يحاول تفنيد بعض نصوص القرآن وقصصه عن طريق مقارنتها بنصوص العهدين القديم والجديد.
وقد كان لبعض آراء نيقتاس الزائفة أثرها في الدولة البيزنطية حتى أن أحد رجال الدين ألف رسالة في زمن الإمبراطور مانويل كومنين ( 549ـ585هـ/ 1143ـ1180م ) يشجب فيها الدين الإسلامي وفيها يلعن مصنفها (الرب الذي يعبده محمد صلى الله عليه وآله وسلم ) وقدَّم تلك الرسالة للإمبراطور الذي أراد شطب هذه العبارة المقيتة محتجاً بأن الرب الذي يعبده محمد صلى الله عليه وآله وسلم إنما هو الأب الذي يعبده النصارى فأصَّر رجال الدين على أن الذي يعبده محمد صلى الله عليه وآله وسلم إنما هو إله غير إله المسيحيين، وقد بقيت هذه العقيدة الزائفة حية حتى اعتنقها وقال بها فرانكلين جراهام وجيري فاينز وغيرهما.
([2]) رواه أحمد، قال الهيثمي في المجمع (1/173): رجاله رجال الصحيح إلا أن فيه جابرا الجعفي.
([3]) رواه أحمد وابن ماجة.
([4]) رواه أحمد والبزار والدارمي.
([5]) رواه ابن عساكر.
([6]) رواه ابن عساكر.
([7]) ذكرنا عند تعريفنا لنيقتاس أنه يذهب إلى هذا، وأن هذا هو رأي الكثير من الحاقدين على الإسلام من أمثال فرانكلين جراهام وجيري فاينز وغيرهما.
([8]) انظؤ الرد المفصل على الشبه المرتبطة بتصور المسلمين للألوهية في رسالة (الباحثون عن الله) من هذه السلسلة.
([9]) رواه البخاري.
([10]) رواه الطبراني في الكبير.
([11]) رواه ابن مردويه والخطيب وابن عساكر.
([12])عبر الشعراني عن وصايا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المرتبطة بهذا، فقال: (أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن لا نحتقر مسلما ولو بلغ في الفسق ما بلغ لجهلنا بخاتمته وإنما نأمره وننهاه من غير احتقار وربما يكون أحسن حالا منا فكيف نحتقر من نحن أسوأ حالا منه؟ وإيضاح ذلك أن السبب الموجب لوقوعنا في احتقاره إنما هو حسن الظن بأنفسنا وسوء الظن بغيرنا والواجب العكس كما قالوا من حكمة العارف بالله أن يوسع على الناس ويضيق على نفسه، ويرى أن الله تعالى سامح الخلق ويؤاخذه هو} (العهود المحمدية)
وما ذكره الشيخ الشعراني ـ حسبما تدل النصوص ـ ليس خاصا بالمسلم.. فالمسلم لا يحتقر غير المسلمين حين يدعوهم الله.. بل هو لا يدعوهم إلا انطلاقا من احترامه لهم، ولو لم يكن يحترمهم لما أعارهم أي اهتمام.
([13]) رواه مسلم.
([14]) انظر التفاصيل المرتبطة بهذه المسألة، وعلاقتها بالعدل الإلهي في رسالة (أسرار الأقدار) من هذه السلسلة.
([15]) رواه أحمد.
([16]) رواه البخاري ومسلم.
([17]) أي طامعة فيما عندي تسألني الإحسان إليها.
([18]) رواه البخاري ومسلم وأبو داود ولفظه قالت: قدمت علي أمي راغبة في عهد قريب وهي راغمة مشركة، فقلت: يا رسول الله، إن أمي قدمت علي وهي راغمة مشركة، أفأصلها قال: نعم صلي أمك.
([19]) رواه البخاري ومسلم وغيرهما بألفاظ مختلفة.
([20]) انظر: الموسوعة اليهودية للمسيري.
([21])انظر هذه التفاصيل وغيرها في: أمريكا واسرائيل وعقدة الدم، د. عبد العزيز بن مصطفى كامل، وقد كنا أشرنا إلى بعضها في رسالة (ثمار من شجرة النبوة)
([22]) يقصد بها الأغيار في المفهوم الصهيوني.
([23]) رواه الطبراني في الكبير.
([24]) رواه الطبراني في الأوسط والصغير والبيهقي مرفوعا وموقوفا وقال: المحفوظ الموقوف.
([25]) رواه أحمد والبيهقي.
([26]) رواه أبو داود الطيالسي والبيهقي.
([27]) رواه أحمد والبيهقي.
([28]) رواه مسلم.
([29]) رواه البخاري.