سابعا ـ الهابط

سابعا ـ الهابط

قلت: عرفت السر السادس من أسرار الإنسان.. فما السر السابع؟

قال: هو السر الذي أشار إليه قوله تعالى :{ قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} (البقرة:61).. وقوله:{ قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ} (لأعراف:13).. وقوله: { قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} (لأعراف:24)

قلت: كل هذه الآيات تتحدث عن الهبوط.

قال: فذلك هو السر التاسع من أسرار الإنسان.. ولا يمكن أن تعرف الإنسان دون أن تعرفه.

قلت: فحدثني عنه.. وكيف تعرفت عليه؟

استغرق في صمت طويل، ثم قال: ما أمر تلك الذكريات التي تربطني بهذا السر..

قال ذلك، ثم عاد إلى صمته، فاستحييت، وقلت: لا بأس.. دعنا منه.. وهلم بنا إلى غيره.

قال: لا.. معاذ الله.. أتريدني أن أخون؟

قلت: من تخون؟

قال: الإنسان.. أعظم خيانة للإنسان ألا نحذره من أنواع الآلام التي تنتظره إن أدمن الهبوط.

قلت: لكني أراك متألما.

قال: لست وحدي المتألم.. كل من ورث رحمة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ورقة قلبه لابد أن يتألم ويحزن.. ألم تسمع إلى ربك، وهو يقول :{ وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً يُرِيدُ اللَّهُ ألا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظّاً فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } (آل عمران:176).. وقوله: { فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آَثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا (6)} (الكهف).. وقوله: { يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ } (المائدة:41).. وغيرها من الآيات الكثيرة التي تصور حال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. وهو ينظر إلى العاصين والمشركين والمنافقين..

قلت: بورك لك هذه الوراثة.. فأنت تحيي بها سنة تقتل كل حين.

قال: ما تعني؟

قلت: إني أعيش مع نفر من الناس يريدون أن يحتكروا الجنة.. وكأنها ضيعة ورثوها عن آبائهم.. فهم يحجبون الخلق عنها بصنوف الحجب.. وهم لا يفرحون بشيء كما يفرحون بتكفير الناس وتبديعهم وتفسيقهم وتطليق زوجاتهم ودفنهم في غير مقابر المسلمين.

قال: فأخبرهم بقوله صلى الله عليه وآله وسلم : ( إذا قال الرجل لأخيه : يا كافر فقد باء بها أحدهما إن كان الذي قيل له كافرا فهو كافر وإلا رجع على من قال)([1]).. وقوله : ( ما شهد رجل على رجل بكفر إلا باء بها أحدهما إن كان كافرا فهو كما قال، وإن لم يكن كافرا فقد كفر بتكفيره إياه) ([2]).. وقوله: ( ما من مسلمين إلا بينهما ستر من الله، فإذا قال أحدهما لصاحبه هجرا هتك ستر الله، وإذا قال : يا كافر فقد كفر أحدهما)([3]).. وقوله : ( إذا قال الرجل لأخيه : يا كافر فهو كقتله، ولعن المؤمن كقتله) ([4]).. وقوله : ( أيما رجل مسلم كفر رجلا مسلما فإن كان كافرا وإلا كان هو الكافر)([5]).. وقوله : (من قال : إني بريء من الإسلام، فإن كان كاذبا فهو كما قال وإن كان صادقا لم يعد إلى الإسلام سالما) ([6]).. وقوله : ( إذا قال الرجل لأخيه : يا كافر فقد باء بها أحدهما ) ([7]).. وقوله : (كفوا عن أهل لا إله إلا الله.. لا تكفروهم بذنب، فمن كفر أهل لا إله إلا الله.. فهو إلى الكفر أقرب) ([8]).. وقوله : ( أيما امرئ قال لأخيه : يا كافر فقد باء بها أحدهما إن كان كما قال وإلا رجعت عليه) ([9]).. وقوله : ( ما كفر رجل رجلا قط إلا باء بها أحدهما)([10])

قلت: هم يعلمون ذلك.. ولا يحتاجون مني أن أخبرهم.

قال: هم يعلمون.. ولكنهم يغفلون.

قلت: ليتهم كانوا كذلك.. هم يعلمون ولكنهم يفرون مما يعلمون بصنوف التحريف والتأويل..

قال: فدعك منهم.. وهلم نخبر الإنسان عن هبوط الإنسان.

استغرق الشيخ الصالح في صمت عميق.. ثم قال: في ذلك اليوم.. وفي تلك المدينة العجيبة ـ التي فتح الله لي فيها من علوم الإنسان ما كان منغلقا ـ سرت إلى مغارة كان السواح يقصدونها من كل مكان.. بل كان الكثير يقيم في البلدة من أجلها..

عندما حدثني بعضهم عنها تحركت نفسي لزيارتها..

في البدء كنت أتصورها مغارة طبيعية كسائر المغارات التي يقصدها السواح.. وتهفو النفوس للنظر إلى جمالها وسحرها..

لكني وجدتها مختلفة تماما.. لقد ذكر لي بعضهم أن بعض رجال الأعمال حول من تلك المغارة فتنة للناظرين.. فقد استغل حفرها العميقة ليبني فيها طوابق كثيرة.. أو دركات كثيرة.. تحوي من كل لهو ولعب بحسب أصناف الناس ومطالبهم.

عند باب المغارة العجيبة.. استقبلني النادل بكأس، وقال: اشرب من هذه الكأس العتيقة.. فقد تعودنا أن نستقبل بها كل ضيف جديد.. ذق.. فإنك إن ذقتها ذهب عقلك.. وطرت في عوالم الأحلام السبعة.

قلت: عوالم الأحلام السبعة!؟.. ما عوالم الأحلام السبعة؟

قال: كل درك من دركات هذا القصر عالم من عوالم الأحلام.. وهي جميعا عوالم عجيبة لها من اللذة والجمال ما لم تره عين، ولم تسمع به أذن، ولم يخطر على قلب بشر.

قلت: فهات الكأس إذن..

ما إن قربت الكأس من فمي حتى تذكرت أني مسلم.. وأنه ينبغي أن أسأل عن خلو الشراب من الكحول والمواد المسكرة قبل أن أشربه.. فلذلك سألت النادل عنه، فقال: هي خمر عتيقة لم تذق مثلها في حياتك.

أعطيته الكأس، وقلت:  آسف.. لم أتعود أن أشرب خمرا.. فقد كنت رجل دين.. وأنا مرتبط بالدين.. وأنت تعلم أن الدين يحرم مثل هذا.

قهقه بصوت عال، وقال: تتحدث عن الدين.. ثم تأتي إلى هذه المغارة.

قلت: لقد أتيت لأنظر إلى ما يحكى عنها من صنوف الجمال.

قال: ما دامت كذلك.. فسأحضر لك كأسا أخرى.. هي الأخرى تطير بك في عوالم الأحلام السبعة.. ولكنها مع ذلك خالية من الكحول.

قلت: الحرمات ليست مرتبطة بالكحول وحدها.. المخدرات أعظم حرمة من الكحول.

قال: لا تخف.. ليست بمخدرات.. إنها شراب خاص نعده لأمثالك..

قلت: لا أريد أن أشرب أي شراب.. أريد فقط أن أتفرج وأتمتع كما يتمتع السواح.

نظر إلي بارتباك وقال: لا.. لا يمكن أن تدخل أي درك من دركات هذا القصر المهيب حتى تتناول من شرابنا.. وإلا فإنك لن تتمتع بشيء.

قلت: لست أدري ما سر حرصك على هذا.. عهدي بالفنادق احترامها لرغبات زبائنها.

قال: كلها ما عدا هذا الفندق.. هذا الفندق يفرض على من يدخله أن يشرب من شرابه.. وإلا فإن القوانين تمنعه من الدخول..

قلت: لا بأس.. أعطني أسهل شراب..

فرح، وقال: لا بأس.. سأعطيك أسهل شراب..

قال ذلك، ثم سار وهو يردد بينه وبين نفسه: وسنرى كيف تشرب كل الأشربة بعد أن تتناول هذا الشراب.

لم يلبث إلا قليلا حتى جاءني بقارورة، وقال لي: اشرب من هذه.. إن بها شرابا لذيذا خال من كل المحرمات.. ولكنه لا يسمح لك إلا بالدخول في الدرك الأول فقط دون ما عداه..

قلت: لا بأس.. سيكفيني النظر إلى الأول.. ولعلي أستدل به على الآخر..

1 ـ الغافلون

لما قربت الكأس من فمي التفت إلى الزجاجة، فوجدت مكتوبا عليها (شراب الغافلين).. فامتلأت بالمخافة.. وكادت الكأس تسقط من يدي..

في ذلك الحين قيض الله لي رجلا أسر في أذني من حيث لا أدري، وقال لي: قل قبل أن تشرب منه كل ما أقوله لك.

قلت: من أنت؟

قال: لن تعرفني.. ولن تطيق معرفتي.. قل فقط ما أطلبه منك.

قلت: عجبا.. لست أدري في أي محل أنا.. ذاك يفرض علي الشراب.. وأنت تفرض علي الكلام.. أي فندق هذا؟

قال: خف منه، ولا تخف مني.

قلت: من أنت؟.. ومن هو؟

قال: لن تطيق معرفتنا.. ولذلك فإنه من العبث أن أحدثك عني أو عنه.

قلت: وأنا لن أردد ما تريد مني أن أردده إلا بعد أن أعرفك..

قال: إذا كان الأمر كذلك.. فأنا واعظ الله.. هكذا يطلق علي([11]).. واعلم أني لا آمرك إلا بخير.

قلت: مرحبا بك.. ومن الآخر؟

قال: له وظيفة تختلف عن وظيفتي.. وله اسم يختلف عن اسمي.. إن أذعنت له عصيتني.. وإن أذعنت لي عصيته([12]).

قلت: فأنت الآن تأمرني بطاعته؟

قال: لا.. أنا أحفظك من شره.

قلت: ولكنك لم تمنعني من شراب الغافلين.

قال: لم أمنعك منه لأنك أردت التحقيق في منازل الغافلين.. ولا يمكن أن تحقق في شيء دون أن تلبس لباسه.

ابتسمت، وقلت: صدقت.. لقد رأيت الشرطة في الأفلام البوليسية يفعلون هذا.. هم أحيانا يتنكرون في ثياب المجرمين ليكشفوا ألاعيب المجرمين..

قال: فمارس هذا الدور اليوم حتى تكتشف حقيقة هبوط الإنسان ومداركها.

قلت: وما يؤمنني أن أقع في فخ الهبوط.. وأظل في هاويته.

قال: ردد فقط عند شربه ما أذكره لك.. ولن يصيبك شيء.. نعم ستتألم كثيرا.. ولكنه ألم يمكن أن يداوى ببلاسم أهل الله.

قلت: ألديك هذه البلاسم؟

قال: أجل.. وكيف لا تكون لي وأنا واعظ الله.

قلت: لا بأس.. أنا طوع أمرك.. قل ما الذي تريد أن أقوله.

قال: قل (اللهم إن أذقتني من شراب الغافلين.. فاحفظني من الإدمان.. واحفظ جوارحي من السكون.. واجعلني أفر منه إليك.. وأزداد معرفة به لك)

قلت ما طلبت مني، ثم شربت تلك الكأس.. وقد وجدت لها من اللذة والحلاوة ما لم أذق في أي شراب من الأشربة التي يصنعها قومي..

بمجرد أن شربت منه شعرت بشوق كبير لكل لهو ولعب..

لقد صارت همتي كهمة الصبي الصغير.. يبيع كل شيء من أجل لعبه.. لست أدري كيف صحت، وأنا على أبواب الدرك الأول: أريد لعبا.. أريد تسلية.. لقد ضاقت نفسي.

أسرع إلي النادل الذي سلمني الكأس.. وقال: تعال.. ستجد كل اللعب في هذا الدرك.. درك الغافلين..

لم أنتبه للكلمة التي قالها.. فقد كنت منشغلا انشغالا كلية بتلك الهمة العجيبة التي تحركت في نفسي.

دخلت مع النادل إلى (درك الغافلين).. فوجدت كل ما تهفو إليه النفس من شهوات..

رأيت سينما كبيرة ثلاثية الأبعاد.. وقد كتب عليها (كل ما تتمناه نفسك، ويهفو إليه خيالك ستجده هنا.. بضغطة زر واحدة سترحل إلى عوالم الأحلام السبعة)

ورأيت بجانت السينما جهاز كمبيوتر من آخر طراز.. فاقتربت منه لأرى ما كتب على شاشته.. فوجدت هذه العبارة (لدينا آلاف المواقع.. بل ملايين المواقع.. ستجد فيها كل ما يرضيك من أنواع اللهو واللعب.. بضغطة زر واحدة سترحل إلى عوالم الأحلام السبعة)

ورأيت بجانت جهاز الكمبيوتر أصنافا كثيرة من اللعب.. كلها تطلب مني أن أضغط على أزرارها لأرحل إلى عوالم الأحلام السبعة.

كدت أضغط على بعض تلك الأزرار.. لكن الواعظ الذي كان يأتيني فلا أعرف كيف جاء، وينصرف فلا أعرف أين انصرف نبهني، وحذرني.. فلم أجد إلا أن أطيعه..

نعم كنت أتألم لطاعته.. فقد كان لنفسي حنين شديد لكل لهو ولعب.. ولكني مع ذلك ألزمت نفسي وجاهدتها على ألا أقصر في طاعته..

ولولا أن من الله علي بالتثيبت لظللت في ذلك القصر الخطير طول عمري.

قلت: فما رأيت غير هذا؟

قال: رأيت جموعا كثيرة من الناس.. جموعا كثيرة جدا لا يمكن تصورها.. وكأن الكرة الأرضية جميعا قد اجتمعت في ذلك المحل.

قلت: وما تفعل فيه؟

قال: لقد كانت كلها منصرفة انصرافا كليا إلى لهوها ولعبها حتى أنها لا تشعر بمن جاء وبمن راح..

لا أكتمك أني في البداية، وربما بفعل الشراب الذي شربته، حننت لأن يكون لي من الهمة ما لها.. لكن الواعظ كان يشير لي إلى تلك الكآبة التي تختفي وراء اللهو الذي يبدو لي..

رأيت رجلا في تلك الجموع ينشد.. وهو يشرب من تلك القارورة التي كنت قد شربت منها:

ليس يدرى بمنطق وقياس

  أي وقت دارت به الزرقاء

أو متى تصبح السماء خرابا

  فتداعت وانهد منها البناء

دع عنك حرص الوجود واهنأ

  إن أحسن الدهر أو أساء

واعبث بشعر الحبيب واشرب

  فالعمر يمضي غدا هباء

إن تواعدتم رفاقي لأنس

  وسعدتم بالغادة الهيفاء

وأدار الساقي كؤوس الحميا

  فاذكروني في شربها بالدعاء

ورأيت آخر يردد، وهو يجري خلف صبية من الصبابا هي في عمر ابنته:

حامِلُ الهوى تَعِبُ،

  يَسْتَخِفّهُ الطّرَبُ

إنْ بكَى يحقّ لهُ،

  ليسَ ما بهِ لعبُ

تضحكينَ لاهيةً،

  والمحبّ ينتحِبُ

تَعْجَبِينَ مِنْ سَقَمي،

  صِحّتي هِيَ العَجَبُ

كُلّما انقَضَى سبَبٌ

  مِنْكِ عادَ لي سَبَبُ

 ورأيت آخر منشغلا انشغالا كليا بلبنات من اللعب يرصفها بصنوف من الرصف ليشكل منها قصرا..

ورأيت آخر، وقد جمع أصناف المطاعم.. وهو يأكل منها بنهم غير ملتفت لبطنه الكبيرة.. ولا لشكله العجيب الذي تصرفت فيه أصناف المطاعم فحولته إلى كتل من اللحم والشحم المبعثر.

ورأيت آخر يلبس حلة جديدة، وهو ينظر إلى عطفيه.. ويتبختر كما يتبختر الطاووس..

ورأيت آخر يترصد كل تجمع للناس.. ليقف بينهم ويبرز عضلاته ولسانه.. فإذا صفق الناس بدا السرور على وجهه.. وراح يستعمل أسلوبا آخر ليصفق له الناس من جديد.

ورأيت آخر يقف في الصلاة، فأعجبني حاله، واستغربت أن يوجد مثله في هذا المحل.. لكن عجبي زال عندما رأيته يضع في يده لعبة من لعب الصبيان، وهو يلعب فيها في الوقت الذي كان يؤدي جميع حركات الصلاة، ويردد جميع أقوالها.

ورأيت آخر نائما مستغرقا في نومه.. وأمامه ورقة مكتوب عليها (لا توقظني فأني صائم)

ورأيت كثيرين لا يمكن حصرهم ..

تعجبت من كل هذه المناظر، وبدأ يتسرب لي بعض الملل منها، فقد رأيت أن الغشاوة التي تحيط بأهلها كافية لأن تمنع عنهم كل أنس..

بمجرد أن خطر هذا الخاطر على خاطري ظهر لي الواعظ، بل جلس بجانبي، وقال: صدقت.. ما تشعر به هو الحقيقة التي غفل عنها هؤلاء..

قلت: من هؤلاء؟

قال: هؤلاء هم الذي شربوا من شراب الغفلة الذي شربت منه.

قلت: ولكني لم يحصل لي ما حصل لهم.

قال: عندما تدمن عليه سيحصل لك ما حصل لهم.

قلت: أعوذ بالله من ذلك.

قال: هذا ما ينبغي أن تقوله.. فلا يحفظ أحد من الغفلة إلا بحفظ الله..

قلت: أجل.. لكني مع ذلك لا ألوم هؤلاء كثيرا.. فلم أرهم يفعلون إلا المباحات.. فلا سرقة في هذا المحل ولا خداع ولا فواحش ولا منكرات..

قال: الغفلة أم الفواحش.. فلا تحقرنها.. لقد اعتبرها أولياء الله أوّل المعاصي.. بل أصل الكبائر.. لقد سأل عمار بن ياسر عليا بن أبي طالب، فقال : يا أمير المؤمنين أخبرنا عن الكفر على ما بني ؟ فقال : (على أربع دعائم : على الجفاء، والعمى، والغفلة، والشك، فمن جفا احتقر الحق وجهر بالباطل ومقت العلماء، ومن عمى نسي الذكر، ومن غفل حاد عن الرشد وغرّته الأماني فأخذته الحسرة والندامة وبدا له من اللّه ما لم يكن يحتسب، ومن شكّ تاه في الضلالة)

وفوق ذلك كله أخبر الله تعالى بالمصير الذي يصير إليه الغافلون، فقال :{ وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَان لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ } (الأعراف:179)

قلت: لقد رتب الله في كونه أسبابا وأدوية.. فما أسباب الغفلة وما أدويتها؟

قال: اقترب من هؤلاء.. فسترى أن الله قيض لكل واحد منهم من يعظه.. فاسمع لما يعظونهم به.. لتجد جوابك.

اقتربت من أحدهم، وكان يردد السين وسوف كل حين.. فسمعت واعظه يقول له: (إياك والسين والتسويف، فإنك بيومك ولست بغدك)..

إياك والتسويف فإنك لا تضمن أن تعيش إلى الغد.. وإن ضمنت حياتك إلى الغد فإنك لا تأمن المعوِّقات من مرض طارئ، أو شغل عارض، أو بلاء نازل.

ثم اعلم أن لكل يوم عملاً، ولكل وقت واجباته، فليس هناك وقت فراغ في حياتك..

كان الرجل منشغلا كل الانشغال، وكأنه لا يسمع ولا يرى هذا الواعظ البليغ الذي يعظه.

راح الواعظ ينشد بصوت جميل:

تزوَّد من التقوى فإنك لا
تدري
  إن جنَّ ليلٌ هل تعيشُ إلى الفجرِ

فكم من سليمٍ مات من غير عِلَّةٍ

  وكم من سقيمٍ عاش حِيناً من الدهرِ

وكم من فتىً يمسي ويصبح آمناً

  وقد نُسجتْ أكفانُه وهو لا يدري

 لم يلتفت الرجل إليه مع أن صوته الجميل كان كمزامير آل داود يحرك له الجبال وتهتز له الطير.

راح الواعظ يقول له: اسمع.. فقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : (اغتنم خمسا قبل خمس: حياتك قبل موتك، وصحتك قبل سقمك، وفراغك قبل شغلك، وشبابك قبل هرمك، وغناءك قبل فقرك)([13]

لم يلتفت الرجل له، فراح الواعظ يرتل بصوت خاشع قوله تعالى :{ اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ} (الانبياء:1).. يقرؤها ويكررها..

لكن الرجل ظل في غفلته..  يلهو ويلعب.. منشغلا بالنادل الذي يسقيه كل حين من شراب الغافلين عن الواعظ الذي يرتل عليه كلام رب العالمين.

تركته، وذهبت إلى الذي كان يبني قصورا من اللعب.. فسمعت واعظه يقول له منشدا بصوت جميل تتحرك له الجبال:

يا من يُطيلُ بناءهُ متوقياً

  ريبَ المنونِ وصَرْفَه لا تَخْرَجِ

فالموتُ يفزغُ كل قصرٍ شامخٍ

  والموتُ يفتحُ كُلَّ بابٍ مرتجِ

لم يلتفت الرجل إليه، فراح يقول له: اسمع.. فإن حقائق الآخرة المدونة في الدواوين المقدسة تقول بلسان فصيح:

لا دارَ للمرءِ بعدَ الموت
يسكنُها
  إلا التي كانَ قبلَ الموتِ يبنيها

فإِن بناها بخيرٍ طابَ مسكنها

  وإِن بناها بشرٍ خابَ بانيها

وتقول:

الموتُ ضيفٌ فاستعدَ لهُ

  قبلَ النزولِ بأفضلِ العددِ

واعملْ لدارٍ أنتَ جاعلَها

  دارِ المقامةِ آخرَ الأمدِ

وحكمة الحكماء تردد مع علي :

رَأيْتُ الدهرَ مختلفاً يدورُ

  فلا حُزْنٌ يدومُ ولا سرورُ

وقد بَنَتِ الملوكُ به قصوراً

  فم تبقَ الملوكُ ولا القصورُ

إِن اللياليَ للأنامِ مناهلٌ

  تُطوُى وتُنْشَرُ دونَها الأعمارُ

فقِصارُهن مع الهُموم طويلةٌ

  وطِوالهنَ مع السُّرورِ قصارُ

وتردد مع أسامة بن منقذ:

احذرْ من الدنيا ولا

  تغترَّ بالعمرِ القصيرِ

وانظرْ إِلى آثارِ من

  صَرَعَتْه منا بالغرورِ

عَمَروا وشادو ما تَرا

  هُ (تراه) من المنازلِ والقصورِ

وتحوَّلوا من بعدِ سُكنا

  ها (سكناها) إِلى سُكنى القبورِ

كان الرجل غافلا عن تلك الكلمات الجميلة، والألحان العذبة التي يرددها واعظه.. وقد تعجبت من كل ذلك، ولكن عجبي زال عندما رأيته كل حين يرتشف من كأس الغافلين ما يصم أذنيه عن وعظ الواعظين.

تركته وانصرفت إلى الذي كان يرصد التجمعات ليصفق له الناس.. فسمعت واعظه يقول له بلسان فصيح:

احذر من الشهرة..

فكم شهرةٍ أدت إِلى التعسِ
ربَّها
  وألقَتْ عليه البؤسَ وهو ثقيلُ

وماذا تفيدُ الهالعَ القلبِ شهرةٌ

  تدقٌ دفوفٌ حولَها وطبولُ

هبوني حياةً لاتروَّعُ بالأسى

  وسيان عندي شهرةٌ وخمولُ

احذر.. فعابد الجاه تنهشه السهام من كل الجهات.. فهو في ترقب مستمر لانقلاب أحمر أو أبيض، يأتيه من صديقه أو عدوه، يقض مضجعه بالليل، ويفسد راحته بالنهار.

احذر.. فإن هذا الانقلاب لا بد أن يأتيك، فحركات الشمس وتقلبات الليل والنهار تأبى الثبوت.

لكن الرجل المسكين كان منشغلا بالتصفيقات وبالتحضير لها.. فلم يلتفت لواعظه الذي بحت حنجرته، وهو يعظه بكل أصناف المواعظ.

تركته، وانصرفت إلى الذي كان منشغلا بلباسه عن حقيقته ووظيفته.. فسمعت واعظه يقول له بلسان فصيح: دعك من هذا.. وانشغل بالتحضير للباس الذي قال الله فيه وفي أهله: { أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَاباً خُضْراً مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً } (الكهف:31)..

لكن المسكين لم ينتبه.. فقد كان تحت تأثير شراب الغفلة..

تركته، وانصرفت إلى الذي كان غافلا في صلاته.. فسمعت واعظه يقرأ عليه قوله تعالى: { قُلْ آَمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا (107) وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا (108) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا (109)} (الإسراء)، ثم يقول له: هكذا وصف الله أهل العلم من عباده، فارفع همتك لتكون مثلهم.. فلا خير في همتك لا ترفعك إلى مقام أهل العلم.

تركته، وانصرفت إلى الذي كان غافلا عن صيامه.. فسمعت واعظه يقرأ عليه قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (البقرة:183).. ثم يقول له: لهذه الغاية شرع الله الصيام.. ولا يمكن أن تنال هذه الغاية، وأنت غافل عنها منشغل بنوم لا يزيدك من الله بعدا..

وهكذا.. ظللت وقتا طويلا أسمع المواعظ البليغة من القرآن، ومن السنة، ومن كلام الحكماء العقلاء.. ولكن الغافلين المساكين كانوا منشغلين عنها إما بشراب الغفلة.. أو ببعض اللهو واللعب.. أو بالنوم الطويل.. أو باللغو الكثير..

2 ـ الفاسقون

بعد أن رأيت ما رأيت في درك الغافلين حنت نفسي لأرى الدرك الثاني.. فسألت الواعظ المكلف بي عن كيفية الدخول إليه.. وأي شراب سأشربه لأدخل إليه.. وماذا أقول.

فقال: الدرك الثاني درك الفاسقين.

قلت: من الفاسقون؟

قال: أولئك الذين لم يقنعوا بما أباح الله لهم من الطيبات.. فراحوا يملأون حرص نفوسهم على الأهواء والشهوات باللجوء للفواحش والمنكرات.

قلت: تبا لهم.. ألم يكفهم أن الله أباح لهم من كل الطيبات؟

قال: نفس الإنسان تأبى الاستقرار.. ولذلك فإنها لا تحط الرحال أبدا.. ولذلك فهي إما في صعود أو هبوط.

قلت: فلتحط رحالها في المباحات.. ألا تكفي المباحات؟

قال: النفس التي تدمن على الغفلة تطالب صاحبها كل يوم بجديد.. فإن لم تجد في المباحات الجديد لجأت إلى الحرام..

ولهذا فقد جعل أهل الله بينهم وبين الحرمات جدارا من المباحات، فهم يفرون منه ولا يقربونه..

قلت: مبتدعون هم.. كيف يحرمون ما أباح الله من الطيبات.. ألم يقرأوا قوله تعالى :{ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} (لأعراف:32)، وقوله تعالى :{ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ )(التحريم:1)

قال: بلى.. وقد قرأوا معها قوله تعالى :{ وَلا تَمُدَّنَ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} (طـه:131)

ومعها قوله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: (الحلال بين والحرام بين، وبينهما أمور مشتبهات، لا يعلمها كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات استبرأ لعرضه ودينه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كراع يرعى حول الحمى، يوشك أن يواقعه، ألا وإن لكل ملك حمى، وإن حمى الله تعالى في أرضه محارمه، ألا وان في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب)([14]

قلت: صدقت في هذا.. ولكن كيف يبيح الله شيئا، ثم نحرمه على أنفسنا؟

قال: الصالحون لم يحرموا المباحات.. فلا أحد يجرؤ على تحريم ما أباح الله.. ولكنهم حرموا على أنفسهم الركون إليها والتثاقل إلى الأرض بسببها..

قلت: لم؟

قال: لأن من تثاقل إلى الأرض لطخته أوحالها لا محالة.. لكن من ارتفع إلى السماء، وهو يعيش على الأرض لم يصبه من أحال الأرض شيء.. فإن أصابه شيء سهل عليه تطهيره بمياه التوبة.

قلت: أفي نفس الإنسان نزوع للهبوط؟

قال: كما أن فيه نزوعا للصعود فيه نزوع للهبوط.. هو ينزع للهبوط لأنه يحن إلى التراب الذي خلق منه..  وهو ينزع للصعود.. لأنه يحن للروح التي نفخت فيه.

والمؤمن هو الذي يحفظ صعوده في الوقت الذي يمارس فيه ما تتطلبه حياة التراب من مطالب.

قلت: فالفاسق إذن هو من تغلب ترابه على روحه؟

قال: أجل.. ولكنه مع ذلك لا يزال يحتفظ بالحنين إلى الروح.. وعوالم الروح.

قلت: هو مؤمن إذن؟

قال: هو مؤمن.. ولكنه في حال وقوعه في المعاصي يخلع ثوب إيمانه.. فالإيمان أرفع من أن يتدنس بالمعاصي.. لقد ذكر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذلك، فقال: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن.. فإذا فعل ذلك فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه فإن تاب تاب الله عليه)([15]

وقال: ( لا يسرق السارق وهو مؤمن، ولا يزني الزاني وهو مؤمن، الإيمان أكرم على الله من ذلك)([16]

قلت: فهل سأسقى من شراب الفاسقين لأنزل إلى دركهم؟

قال: لا .. لن تحتاج إلى ذلك.. فسوف أريكهم من غير أن تشرب من شرابهم.. لكنك ستتعذب كثيرا.

قلت: ألا يصيبني العذاب لو شربت من شرابهم؟

قال: بلى .. سيصيب روحك لا جسدك.. فلذلك لن تفطن له ما دمت في هذه الدار.. لكنك إن عدت إلى بيتك الذي هو حقيقتك، فستشعر بكل حريق، وتتألم لكل سم.

قلت: فشرابهم مخدر إذن؟

قال: أجل.. فلذلك يتحول السم في أفواههم عسلا.. وتتحول النار التي تحرق أرواحهم بردا وسلاما.

قال ذلك، ثم كساني ثوبا من نور.. ونزل بي في سلم ممتلئ بالظلمات إلى أن وصلت إلى درك الفاسقين.. وهناك رأيت جموعا كثيرة من الناس، والنار تحيط بها من كل جانب، وهي لا تلتفت لها، بل تظل تضحك وتلعب وتسخر.. والنار تمتد، فتحرق ثيابها، بل تصل إلى سويداء قلوبها، وهي لا تشعر بشيء.

3 ـ الظالمون

بعد أن امتلأت غثاء بسبب ما رأيت في درك الفاسقين نزلت دركا آخر.. سألت الواعظ عنه، فأخبرني أنه درك الظالمين، فسألته عنهم، فقال: إنهم الذين لم يكتفوا بما رزقهم الله من فضله، بل راحوا يطلبون ما عند غيرهم، وراحوا – فوق ذلك- يحرفون الحقائق ليخدموا بها أهواءهم.

قلت: ما أكثر الظلمة بهذا.

قال: أجل.. فكل من تعدى حده، وتمرد على ربه، وطغا على فطرته كان ظالما..

ولذلك ذكر الله الشرك، واعتبره ظلما عظيما، فقال:{ وَإِذْ قالَ لُقْمانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13)} (لقمان)

وقال:{ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ (22)} (السجدة)

لا يمكنني أن أحكي لكم ما رأيت من مشاهد.. لكن أبشعها كان لنفر من الناس، كانوا يتحدثون، ويضحكون، وفجأة وبعد أن غادر أحدهم مجلسهم، راحوا يسرعون إليه، ويغمدون سيوفهم في ظهره.. ثم راحوا يجتمعون على أكله وهم يضحكون.

سألت صاحبي الواعظ عنهم، فقرأ قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ } [الحجرات: 12]

قلت: كنت أتصور أن ذلك في الآخرة.

قال: أجل .. هو في الآخرة.

قلت: ولكن القيامة لم تقم بعد.

قال: الدنيا والآخرة حالتان نعيشهما في كل لحظة.. فحظ الدنيا لجسدك.. وحظ الآخرة لروحك.. ولو أنه كشف لك الحجاب لرأيت أرواح هؤلاء، وهي تتعذب عذابا شديدا بأكلها لتلك الجيفة.

قلت: ولكني أراهم يضحكون؟

قال: لأنهم شربوا من شراب إبليس المخدر.. والذي سرعان ما سيزول تأثيره ليكتشفوا الحقيقة المرة التي غابت عنهم.

قلت: فأين وعاظهم من الملائكة؟

قال: لقد طردوهم، وأبعدوهم، وأغلقوا قلوبهم دون سماع مواعظهم.

4 ـ المبتدعون

بعد أن امتلأت غثاء من درك الظالمين، نزلت درك المبتدعة، وقد تعجبت من وجود مساجد ودور عبادة كثيرة فيها.. والعجب أنها كانت جميعا كبيرة وضخمة ومزخرفة بكل ألوان الزخرفة الجميلة، وقد جعلني ذلك أحتار في المحل الذي نزلت إليه، وهل هو حقا درك المبتدعة.

لكني بمجرد دخولي لتلك المساجد المزخرفة المزين ظاهرها، وجدت باطنها على خلاف ظاهرها.. فقد كانت أرضها مفروشة بأشواك السعدان، وكان طلاؤها مشكل من جميع أنواع القاذورات والنجاسات.. وكانت سماؤها نيران متلهبة.

والعجب الأكبر من ذلك هو أني وجدت المصلين فيها يأتمون في صلاتهم وراء إمام هو أشبه الناس بالشيطان.. وكانت قراءته للقرآن الكريم قراءة مقلوبة ممتلئة بالتحريف.

وبعد أن صلى بهم وقف خطيبا عليهم، والعجب أنه في جميع خطبته كان لا يدعو إلا للظلم والاستبداد والطغيان.

وقد تعجبت عندما رأيت تلك الجموع التي تسمع له، تبكي وتتأثر ويبدو عليها الخشوع، وكأنها لم تسمع ما يدعوها إليه من فتنة وإهراق دماء.

وقد تعجبت عند سماعي لقراءتهم القرآن الكريم، فقد كانوا يعكسون كل معانيه، ويغيرونها تغييرا شديدا، مع أنهم كانوا يخرجون حروفه من مخارجها، بل يلتزمون بكل ما أعرفه من أحكام الترتيل.

سألت صاحبي الواعظ عنهم، فقال: هؤلاء هم المبتدعة الذين ذكرهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فقال:  (يأتي في آخر الزمان حدثاء الأسنان سفهاء الأحلام يقرؤون القرآن لا يتجاوز تراقيهم، يقولون: من قول خير البرية لا يتجاوز حناجرهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، فإذا رأيتموهم، فاقتلوهم فان قتلهم أجر لمن قتلهم يوم القيامة)([17])

وقال عنهم: (يخرج قوم من أمتي يقرؤون القرآن ليست قراءتكم الى قراءتهم شيئا، ولا صلاتكم الى صلاتهم شيئا ولا صيامكم الى صيامهم شيئا، يقرأون القرآن يحسبون أنه لهم وهو عليهم لا تجاوز صلاتهم تراقيهم، يمرقون من الاسلام كما يمرق السهم من الرمية)([18]

وقال عنهم: (يرث هذا القرآن قوم يشربونه شرب اللبن، لا يجاوز تراقيهم)([19]

وقال عنهم: (يخرج قوم أحداء أشداء ذليقة ألسنتهم بالقرآن يقرأونه ينثرونه نثر الدقل لا يجاوز تراقيهم فإذا رأيتموهم فائتوهم فاقتلوهم فالمأجور من قتل هؤلاء)([20]

وقال عنهم: (يأتي على الناس زمان يتعلمون القرآن فيجمعون حروفه، ويضيعون حدوده، ويل لهم مما جمعوا وويل لهم مما صنعوا، ان أولى الناس بهذا القرآن من جمعة لم ير عليه أثره)([21]

قلت: لقد سمعت من قومي من يروي هذه الأحاديث، لكنه يجد لها مخرجا، فيذكر أنها مختصة بالخوارج ..

قال: إن هؤلاء أعظم من أن ينحصروا في زمن دون زمن.. أو مكان دون مكان.. إنهم من حرف كل دين، وشوه كل رسالة.

قلت: ألهذا ورد في النصوص المقدسة التحذير من البدعة، ومن أخطارها، ومن ذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم : (لا يذهب من السُنّة شيء حتّى يظهر من البدعة مثله ، حتّى تذهب السُنّة وتظهر البدعة ، حتّى يستوفي البدعة من لا يعرف السُنّة ، فمن أحيى ميّتاً من سنّتي قد أمُيتت ، كان له أجرُها وأجرُ من عمل بها ، من غير أن ينقص من أُجورهم شيئاً ، ومَنْ أبدَعَ بدعة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها ، لا ينقص من أوزارهم شيئاً)([22]

قال: أجل.. فكلما ابتدع الشيطان للناس بدعة جديدة، كلما ضاع من السنة ومن الدين القويم مثلها.. فالبدعة تمحو السنة، وتهيل عليها أكواما من التراب.. إلى أن يصبح الناس ما ابتدعوه، لا ما ورثوه عن أنبيائهم.

قلت: لقد أخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن ذلك.. وأخبر أن كل ما ابتدعه الناس، وانحرفوا به عن هدي الله بدعة ضلالة، فعن جابر قال : خطبنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهل له ثمّ قال : ( أمّا بعد فإنَّ أصدق الحديث كتاب الله ، وأنّ أفضل الهدي هدي محمّد ، وشرّ الاُمور محدثاتها وكلّ بدعة ضلالة)([23]

قال: أجل.. فالشيطان الذي توعد بني آدم بأن يضلهم ويغويهم لا يجد سبيلا لذلك إلا البدع وتحريف الأديان.. فبالبدع ينشر صراعه وفتنته، ويحول الأرض إلى خراب ودمار.

قلت: لقد أخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن ذلك، فقال: ( لا ترجعنَّ بعدي كفّاراً ، مرتدين، متأوّلين للكتاب على غير معرفة ، وتبتدعون السُنّة بالهوى لأن كلّ سُنّة وحدث وكلام خالف القرآن فهو ردّ وباطل)([24]

قال: صدق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .. وقد تحقق ما توعد به.. فقد وضع الشيطان للناس من الأحاديث التي تخالف القرآن ما جعلهم يهجرون بسببه القرآن، ويحرفون معانيه، ويبتعدون عن قيمه النبيلة.

قلت: لقد أخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن ذلك، فقال: ( يأتي على الناس زمان وجوههم وجوه الآدميين وقلوبهم قلوب الشياطين ، السُنّة فيهم بدعة ، والبدعة فيهم سُنّة )([25])  

قال: وقد أخبر عن ذلك الإمام علي، فقال: (إنّما بَدْءُ وقوع الفتن ، أهواءٌ تُتَّبع ، وأحكام تُبتدع ، يُخالف فيها كتاب الله ، يتولّى فيها رجال رجالاً ، فلو أنّ الباطل خلص لم يُخف على ذي حجى ، ولو أنّ الحقّ خلص لم يكن اختلاف ، ولكن يؤخذ من هذا ضغث ومن هذا ضغث فيمزجان فيجيئان معاً فهنالك استحوذ الشيطان على أوليائه ، ونجا الذين سبقت لهم من الله الحسنى)([26]

بينما كنا نتحدث بمثل هذه الأحاديث إذا بأهل المسجد، يثورون بقوة، وترتفع بينهم الأصوات، ثم يضرب بعضهم بعضا، ومن سقط منهم قتيلا راحوا إلى لحمه يشوونه، ويأكلونه، وهم يضحكون.

5 ـ المشركون

بعد أن امتلأت غثاء من درك المبتدعة، نزلت درك المشركين، وقد أصابني هذا الدرك بكل أنواع الدوار التي لم أتخلص منها إلا بعد فترة طويلة..

وكان أول ما أصابني به هو أني رأيت الساكنين في ذلك الدرك يرتقون في معارج نورانية إلى السماء المضيئة الممتلئة بالجمال، لكنهم ما إن تستقر أرجلهم في بعض جنباتها، حتى تتحرك رؤوسهم حركات غريبة.. ثم يهرولون إلى الحافة، ويرمون أنفسهم في الجو.. ويسقطون سقوطا حرا تتناثر فيه أجسامهم لتلتهمها طيور وحشية ممتلئة بالبشاعة..

سألت صاحبي عن هؤلاء الحمقى الذين رفضوا البقاء في تلك الأماكن العالية الجميلة الممتلئة بالسلام، فقال لي: هؤلاء هم المشركون الذين وصفهم الله تعالى في قوله: { وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ } [الحج: 31]

قلت: هلا فسرت لي ذلك.

قال([27]) : إن هذه الآية الكريمة ترسم صورة واقعية حيّة ناطقة عن حال المشركين وسقوطهم وسوء طالعهم.. فالسّماء الجميلة التي صعدوا إليها هي سماء التوحيد النقي الصافي الخالي من أي شرك، والشرك هو تلك الأوهام التي دارت برؤوسهم، فجعلتهم يرفضون البقاء في السماء، ويؤثرون عليها الانحدار إلى السلفل.

ومن الطبيعي أن الذي يسقط من هذا المكان العالي سيصبح طعماً للطيور الجوارح أثناء سقوطه وقبل وصوله إلى الأرض، وإذا نجا بسلام منها، ابتلي بعاصفة هوجاء تدكّه في إحدى زوايا الأرض بقوّة تفقده سلامته وحياته، ويتناثر بدنه قطعاً صغيرة في أنحاء المعمورة.

قلت: فما بال هؤلاء المجانين لا يستعملون عقولهم، ليعودوا إلى السماء من جديد؟

قال: الذي يسقط من السّماء يفقد كلّ قدرة على اتّخاذ القرار المناسب.. ومثله الذي يفقد قاعدة السّماء التوحيديّة. يفقد القدرة على تقرير مصيره بنفسه. وكلّما سار في هذا الإتّجاه ازداد سرعة نحو الهاوية، وفقد كلّ ما لديه.

قلت: صدقت .. حتى أن الذي يسقط مثل ذلك السقوط المريع يصبح كالمعدوم، لا وزن له، ولا قيمة .. ولهذا تجرى اختبارات على الفضائيين للاستفادة من هذه الحالة ليعدّوا أنفسهم للسفر إلى الفضاء.

لم يكن ذلك فقط ما رأيت في ذلك الدرك.. بل رأيت رجلا كان مشتت الذهن لدرجة غريبة جدا.. وحق له أن يكون كذلك.. فقد كان يحيط به مجموعة من الشياطين.. كل شيطان يدعوه إلى عكس ما يدعوه إليه الآخر.. وكان يحاول إرضاء الجميع، لكنه لم يكن يستطيع، فلذلك كان يتألم ألما شديدا.

سألت صاحبي عنه، فقرأ عليه قوله تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ } [الزمر: 29]

قلت: ما معنى هذا المثل.. وما علاقته بالشرك؟

قال([28]): هذا المثل يصور حقيقة المشرك بالله، فهو لا يرتضي أن يكون الله وحده من يأمره وينهاه، أو يوجهه ويربيه، بل وضع لذلك أندادا كثيرين، كل يأمره بخلاف ما يأمره الآخر.. وهو في وسطهم كالتائه الحيران، لا يدري أي أمر ينفّذ، فالأمران متناقضان ومتضادان، ولا يدري أيّاً منهما يرضيه؟

والأدهى من كلّ ذلك أنّه عندما يطلب من أحدهم توفير مستلزمات حياته، يرميه على الآخر، والآخر يرميه على الأوّل، وهكذا يبقى محروماً محتاجاً عاجزاً تائهاً.

وفي مقابله الموحد، وهو رجل سلم لرجل واحد .. فخطه ومنهجه واضح، وولي أمره معلوم، فلا تردد ولا حيرة ولا تضاد ولا تناقض، يعيش بروح هادئة ويخطو خطوات مطمئنة، ويعمل تحت رعاية فرد يدعمه في كلّ شيء وفي كلّ أمر وفي كلّ مكان.

قلت: وعيت هذا.. لكن ما الشرك.. فإني أرى بين قومي صراعا كبيرا حوله.

قال: أول الشرك أن تعتقد أن مع الله آلهة أخرى تنافسه في الألوهية، وتشاركه فيها، وتماثل الله وتكافئه وتساويه..

قلت: مجنون من يعتقد ذلك.. وقد قال تعالى: { لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ } [الأنبياء: 22]، وقال الإمام علي في وصيته لابنه الحسن: (واعلم يابني أنّه لو كان لربّك شريك لأتتك رسله، ولرأيت آثار ملكه وسلطانه، ولعرفت أفعاله وصفاته، ولكنّه إله واحد كما وصف نفسه)([29])

قال: ومن الشرك أن تعتقد أن الله تعالى مركب من أبعاض، ومجزأ إلى أجزاء، لأن كل جزء حينها سيصبح إلها قائما بذاته..

قلت: صدقت .. وقد قال تعالى ينفي هذا النوع من الشرك: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } [الإخلاص: 1] ، فالأحد يطلق على الذات التي لا تقبل الكثرة لا في الخارج ولا في الذهن، ولذلك لا تقبل العدّ ولا تدخل في زمرة الأعداد، خلافاً للواحد الذي له ثان وثالث، في الخارج أو في الذهن.

قال: ومن الشرك أن تعتقد أن الصفات زائدة عن الذات، أو تعتقد أن هناك ثنائية بين الذّات والصّفات([30]).

قلت: أجل .. وقد أشار إلى هذا الشرك الإمام علي في قوله: (وكمال توحيده الإخلاص له، وكمال الإخلاص له نفي الصفات عنه، لشهادة كل صفة أنها غير الموصوف، وشهادة كل موصوف أنه غير الصفة، فمن وصف الله عز وجل فقد قرنه، ومن قرنه فقد ثناه، ومن ثناه فقد جزأه، ومن جزأه فقد جهله)

قال: ومن الشرك أن تعتقد أن بنسبة فعل من الأفعال المختصة بالله تعالى تعالى لغيره تعالى بالاستقلال والذات.

قلت: صدقت.. وقد قال تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} [فاطر: 3]، ولكن ما تعني بالاستقلال والذات؟

قال: الحكم بالشرك في الأفعال متوقف في بعض الصفات المختصة بالله تعالى، كالإحياء والإماتة والشفاء والضر على تحقّق قيد الإستقلالية.. أي أنّه لا يمكن الحكم بالشرك على شخصٍ لمجرد اعتقاده بأنّ نبي الله عيسى عليه السلام هو الذي أحيا الموتى بإذن وإرادة من اللّه عز وجل.. بل للحكم عليه بالشرك لا بدّ أن يكون معتقده متضمنًا لمفهوم الاستقلال، أي يكون معتقدًا أنّ نبي الله عيسى عليه السلام أحيا الموتى بذاته ومستقلاّ عن قدرة وإرادة وإذْن اللّه عز وجل.

قلت: ذلك واضح، وقد صرح به القرآن الكريم عندما نسب الله تعالى على لسان نبيّه عيسى عليه السلام إحياءه للموتى وعلمه بالغيب وشفائه للأكمه بإذن الله، قال تعالى حاكيا قول المسيح عليه السلام: { أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } [آل عمران: 49]

قال: ومن الشرك الشرك في الحاكمية .. فالله خالق الكون ومالكه ومدبر أمره هو ملكه وحاكمه..

قلت: صدقت.. وقد قال تعالى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ } [الأنعام: 57]، وقال: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ } [المائدة: 44]

قال: ومن الشرك الخضوع والتذلل لغير الله مع الإعتقاد بأنّ المخضوع له إله و ربّ.

قلت: رأيت بعضهم لا يضع قيدا لهذا.. فيعتبر كل خضوع شرك.

قال: لو كان الأمر كذلك لكان الملائكة الذين سجدوا لآدم مشركين بسجودهم.. وكان الله بذلك هو الذي دعاهم إلى الشرك.

قلت: صدقت .. وقد ذكرتني بنفر من قومي يصفون كل الأمة بالشرك بأمثال هذه الأمور.

قال: وذلك من شركهم.. فلو كانوا موحدين لله صادقين في توحيدهم، لخضعوا لله في مراده.. لكنهم تركوا الله وأحكام الله، وراحوا إلى الأنداد الذين اتخذوهم من دون الله يقولون بقولهم، ويعتقدون بعقائدهم.

6 ـ الملحدون

نزلت دركا آخر، فشممت روائح منتنة، ورأيت أجساما غليظة، وسمعت أصواتا ممتلئة بالفضاضة..

وقد شد انتباهي في هذه الضوضاء المزعجة رجل هو أشبه الناس بالشيطان، بل لعله الشيطان نفسه، وكان يحيط به جمع من الغوغاء، وهو يصيح فيهم بصوته المزعج قائلا: لقد جبنا الكون مشرقه ومغربه.. وطفنا أقماره ونجومه.. فوجدنا كل شيء إلا شيئا واحدا لم نجده، فعرفنا أن الوهم هو الذي اخترعه، وأن الخيال هو الذي أسسه.. أنبئوني ما هو؟

صاح الجميع بصوت عال: إنه الله..

رد عليهم ذلك الصوت المزعج قائلا: صدقتم.. فالله هو الخرافة التي ظل أجدادكم طوال عمرهم يرددونها، ولا يملون من تردادها.

قالوا: فبم تنصحنا يا من هو إمامنا في كل سفاهة، وقائدنا في كل ضلالة، ودليلنا في كل غواية؟

قال: أشيعوا بأن الإله قد مات.. وأن البشرية قد وصلت إلى الطور الذي لا تحتاج فيه إلى أي إله.. وأنبئوهم أن من ذكر الله في هذا العصر متخلف ورجعي وبدائي وظلماني ولا عقل له..

رددوا على آذانهم كل حين مقولة حكيم الحكماء: (الدين أفيون الشعوب)، ورددوا معها قوله: (إن الله لم يخلق الجنس البشري، بل الإنسان هو الذي خلق الله)..

ورددوا بفخر مقالة ستالين: (يجب أن يكون مفهوما أن الدين خرافة، وأن فكرة الله خرافة، وأن الإلحاد مذهبنا)

قالوا: ومن أبى أن يستمع لنا؟

قال: اهجروه كما يهجر البعير الأجرب.. وإن استطعتم أن تقيموا دولة الإلحاد فعليكم برأسه، فاجعلوها علفا لدوابكم.

ضحك الجميع بصوت عال، ثم انصرفوا عن ذلك الشيطان.. وانصرفت معهم..

***

ما سرت إلا قليلا حتى رأيت في ناحية من نواحي ذلك الدرك رجل ممتلئ حزنا يحمل قيثارة، ويردد بعواء كعواء الذئاب هذه الأبيات:

 جئت لا أعلم من أين، ولكني أتيت

ولقد أبصرت قدامى طريقا فمشيت

وسأبقى سائراً إن شئت هذا أم أبيت

كيف جئت؟ كيف أبصرت طريقي؟

لست أدري!

أجديد أم قديم أنا في هذا الوجود؟

هل أنا حر طليق، أم أسير في قيود؟

هل أنا قائد نفس في حياتي أم مقود؟

أتمنى أنني أدري، ولكن…..

لست أدري؟

وطريقي ما طريقي، أطويل أم قصير؟

هل أنا أصعد، أم أهبط فيه وأغور؟

أأنا السائر في الدرب أم الدرب يسير؟

أم كلانا واقف، والدهر يجري؟

لست أدري؟

أتراني قبلما أصبحت إنساناً سوياً

كنت محواً ومحالاً أم تراني كنت شيا؟

ألهذا اللغز حل، أم سيبقى أبديا؟

لست أدري … ولماذا لست أدري؟؟

لست أدري؟

ثم يعوي بعدها كالذئاب عواء طويلا.. فتردد البشرية الممسوخة أمامه عواءه.. ثم تعود معه إلى أحزانها.

***

سرت في ناحية أخرى، فسمعت جمعا من الناس مصطفين أمام علم يرفعونه، وهم ينشدون بصوت واحد:

دولة الإلحاد معبودي وأمي وأبي

وزعيمي ماركس عقل عظيم المأرب

بطل أحيا عصور الغاب في ذي الحقب

أنكر الله و لم يؤمن بدين أو نبي

إن في مبدئه تأمنوا شرور النّوب.

وعندما انتهوا من الإنشاد، قام أحدهم، وقال بصوت مبحوح ممتلئ بالحماسة:

هذه قوميتي ديني وأهدافي السنيّة

إنها فلسفة تصنع للشعب رقيّه

فانصروها تبلغوا الغاية من كل قضية

قام آخر، وقال:

لو أقاموا دولة الإسلام مات الناس جوعا

حرّموا الخمرة والرّشوة والفنّ الرفيعا

كيف نجني بعدها الربح.. ألا ماتوا جميعا.

***

تركتهم ينتناشدون الأشعار، وسرت في ناحية أخرى، فرأيت رجلا يحاور صاحبه، ويقول له بصوت هو أقرب إلى الهمس منه إلى الجهر([31]): لست وحدك في هذا.. فأنا ومن تراه من الناس.. جميعنا نعتقد بأشياء كثيرة، ثم لا تلبث حتى ينسخها الواقع.. فقد أعتقد أن لدي ما يكفي من اللبن في الثلاجة، ثم أذهب لأتأكد، فأكتشف خطئي.

ورغم ذلك فمن المبرر عادة أن نصدق شخصا يزعم بوجود اللبن في ثلاجته، لمجرد أنه يقول ذلك.

بينما من يزعم بأن لديه تنينا في بيته، فهو لن يحظى بهذه السهولة بالتصديق حتى ولو أرانا صورة له، فقد تكون صورة مزورة.

قال له صاحبه: فأنت ترى أن الزعم بوجود إله أو آلهة زعم استثنائي؟

قال: أجل.. وبكل المقاييس.. فلم ير أحد منا إلها في حياته اليومية، ولا يعرف أحد شكل مثل هذا الإله، ولا يستطيع التخاطب معه للتأكد من أفكاره حوله.. ولذلك فهذا الإعتقاد بحاجة إلى أدلة استثنائية لتبريره.

وللأسف، فإن ما نراه لدى جميع الأديان هو عدم وجود أي أدلة استثنائية، تتناسب مع الطبيعة الاستثنائية للزعم بوجود الآلهة.. وإنما نجد مقابل ذلك آليات اجتماعية ثقافية لانتقال المعتقدات بشكل وراثي بين الأجيال.

وكما أن المؤمن بالله يرفض وجود إله الإغريق (زيوس) لعدم كفاية الأدلة، فكذلك يرفض الملحد وجود (الله) لعدم وجود الأدلة.. لذلك فعلى المؤمن بإله أو آلهة أن يبرر إيمانه بأدلة استثنائية.

قال له صاحبه: ولكن الإلحاد الذي تدعوني إليه قد يحتاج هو الآخر إلى هذه الأدلة الاستثنائية؟

قال: لا.. لا.. يكفي لتبرير الإلحاد أن نظهر ضعف أدلة المعتقدين بوجود الله وعدم تماسكها.. فليس من الضروري لتبرير الإلحاد أن نبرهن على عدم وجود هذه الآلهة، أو حتى تقديم تفسيرات بديلة.

قال له صاحبه بنوع من التردد: ولكن طريق الإيمان – مع ذلك- مملوء بالأنبياء والأولياء والأصفياء.. بينما طريق الإلحاد لا أحد يسلكه.

رد عليه صاحبه: لا.. لا تقل هذا.. فطريق الإلحاد هو المملوء بخلاصة خلاصة العقول البشرية..

لا شك أنك لا تعرف (دولباخ).. إنه فيلسوف من القرن الثامن عشر.. لقد رفض كل الأدلة المطروحة على وجود الله.. واعتبر الطبيعة في الكون كله كُلا واحدا بذاته لا يحتاج إلى غيره في تفسيره، ولهذا أنكر الإلهَ، حتى أنه كان يتباهى بأنه العدو الشخصي للإله.

ومثله الفيلسوف العبقري (نيتشه).. صاحب فلسفة القوة..لقد ذكر أن (الإنسان في لحظة تعسه من حياته اخترع خرافةً أسماها (الله)، وظلَّ منذ ذلك الحين مكبّلاً بقصة من خلقه هو، إلا أنه ليس من إله غير الإنسان لو واتته الشجاعة على أن يعرف قدره..).. وقد أعلن في كتابه المقدس (هكذا تكلَّم زرادشت) موتَ الإله، إذ يقول: (إن الله قد مات)

ومثلهما كثير من عباقرة الفلاسفة كماركس ولينين وكونت وغيرهم..

قال له صاحبه: ولكن الكثير من الفلاسفة ذكروا أنهم يؤمنون بالله؟

رد عليه: هم يذكرون ذلك من باب التقية لا من باب العقل.. هم يقولون ذلك حرصا على العوام وربما حرصا على سمعتهم ومناصبهم لا على أن الإيمان هو الحقيقة التي هداهم إليها العقل والبحث..

(بسكال) مثلا كان يرى أن الإيمان الدِّيني لا يخضع للعقل، بل يتعلّق بالوجدان القلبي؛ فهو يقول: (إن القلب هو الذي يستشعر الله لا العقل، هذا هو الإيمان، الله محسوس للقلب لا للعقل)

أما (إيمانويل كانت)، فقد كانت فلسفته النقدية تتمحور حول تأكيد عجز العقل عن إثبات الميتافيزيقيا ـ أي: الغيوب ـ وأعظم تلك الغيوب مسألة (وجود الله) و(حرية الإرادة) و(خلود النفس)، لكن (كانت) يعود ويؤكد ثبوت هذه المسائل الميتافيزيقية، لكن من طريق آخر، وهو الأخلاق أي: الوجدان الداخلي، أو كما يسميه (العقل العملي)

وهكذا كان (برتراند رسل).. فعلى الرغم من كونه ملحداً لا يدين بدين إلا أنه كان يؤكد على أن (الدِّين) لا يأتي بحلول مقنعة عقلية للمشكلات، وإنما هو قائم على الإرغام لا الإقناع العقلي، ففي سياق وصفه الفلسفة يقول: (.. لكنها ـ أي: الفلسفة ـ كذلك تشبه العلم في أنها تخاطب العقل أكثر مما تستند إلى الإرغام، سواءً كان ذلك الإرغام صادراً عن قوة التقاليد أو قوة الوحي..)

وهكذا (جورج سنتيانا)، فقد قال عن الإيمان الدِّيني إنه (غلطة جميلة أكثر ملاءمة لنوازع النفس ومن الحياة نفسها).. وقد كان يميل إلى الدِّين شعورياً، لكن يكفر به عقلياً.. وقد أرَّقته هذه المشكلة فدفعته إلى تأليف كتابه الشهير (العقل في الدِّين)، انتهى فيه إلى اللاأدرية المظلمة ممتزجة بميل عاطفي إلى الدِّين.

كانوا يتحدثون بذلك وغيره، بينما النيران والعقارب والحيات تلتهم قلوبهم وعقولهم وأرواحهم وكل لطائفهم، وهم في غفلة تامة عنها..

وكان وعاظهم يصيحون فيهم بكل اللغات، وبكل الأدلة لكنهم بسبب شراب الإلحاد الذي سقاهم إياه الشيطان لا يسمعون شيئا، ولا يبصرون.

7 ـ المنافقون

بعد أن رأيت ما رأيت وسمعت ما سمعت في درك الملحدين نزلت دركا آخر، علمت من الواعظ أنه الدرك الأسفل الذي تنحدر فيه النفس إلى أبعد قعر مظلم فيها.. وعلمت منه أنه درك مخصص للمنافقين.. وهو ما يصرح به قوله تعالى :{ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا (145)} (النساء).. فسألته عنهم، وعن سر كونهم في الدرك الأسفل من النار، فقال([32]): المنافقون هم الذي يبدون في الظاهر منسوبين إلى الإيمان، بينما هم في الحقيقة أعداؤه الألداء، يخرجون عداوته في كل قالب.. فلله كم من معقل للإيمان قد هدموه!؟.. وكم من حصن له قد قلعوا أساسه وخربوه!؟.. وكم من علم له قد طمسوه!؟.. وكم من لواء له مرفوع قد وضعوه!؟.. وكم ضربوا بمعاول الشبه في أصول غراسه ليقلعوها!؟.. وكم عموا عيون موارده بآرائهم ليدفنوها ويقطعوها!؟

فلا يزال أهل الحق منهم في محنة وبلية، ولا يزال يطرقه من شبههم سرية بعد سرية، ويزعمون أنهم بذلك مصلحون :{ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ (12)} (البقرة).. { يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (32)} (التوبة)

اتفقوا على مفارقة الوحي، فهم على ترك الإهتداء به مجتمعون :{ فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (53)} (المؤمنون)، { يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا.. (112)} (الأنعام)، ولأجل ذلك {.. اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا (30)} (الفرقان)

قد أنهكت أمراض الشبهات والشهوات قلوبهم فأهلكتها، وغلبت القصور السيئة على إراداتهم ونياتهم فأفسدتها، ففسادهم قد ترامى إلى الهلاك، فعجز عنه الأطباء العارفون :{ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (10)} (البقرة)

أضاءت لهم نار الإيمان فأبصروا في ضوئها مواقع الهدى والضلال، ثم طفئ ذلك النور، وبقيت نارا تتأجج ذات لهب واشتعال، فهم بتلك النار معذبون، وفي تلك الظلمات يعمهون: { مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ (17)} (البقرة)

قلت: لقد عظمت لي شأنهم.. وملأت قلبي مخافة منهم.. فكيف السبيل إلى معرفتهم لتجنب شرهم؟

قال: لقد ذكر الله لهم علامات بها يعرفون..

قلت: أين أجدها؟

قال: في نصوص الوحيين.. هي بادية لمن تدبرها من أهل بصائر الإيمان..

قلت: فهلا ذكرت لي منها ما أتبصر به أحوالهم؟

قال: منها الرياء، وهو أقبح مقام قامه الإنسان، فقد قعد بهم الكسل عما أمروا به من أوامر الرحمن، فأصبح الإخلاص عليهم لذلك ثقيلا :{.. وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا (142)} (النساء)

أحدهم كالشاة العائرة بين الغنمين، تيعر إلى هذه مرة وإلى هذه مرة ولا تستقر مع إحدى الفئتين، فهم واقفون بين الجمعين، ينظرون أيهم أقوى وأعز قبيلا :{ مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (143)} (النساء)

يتربصون الدوائر بأهل الإيمان، فإن كان لهم فتح من الله قالوا: ألم نكن معكم؟ وأقسموا على ذلك بالله جهد أيمانهم، وإن كان لأعداء الإيمان من النصرة نصيب، قالوا: ألم تعلموا أن عقد الإخاء بيننا محكم، وأن النسب بيننا قريب؟.. { الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا (141)} (النساء)

يعجب السامع قول أحدهم لحلاوته ولينه، ويشهد الله على ما في قلبه من كذبه ومينه، فتراه عند الحق نائما، وفي الباطل على الأقدام.. فخذ وصفهم من قول القدوس السلام :{ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ (204)} (البقرة)

أوامرهم التي يأمرون بها أتباعهم متضمنة لفساد البلاد والعباد، ونواهيهم عما فيه صلاحهم في المعاش والمعاد، وأحدهم تلقاه بين جماعة أهل الإيمان في الصلاة والذكر والزهد والاجتهاد :{ وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ (205)} (البقرة)

فهم جنس بعضه يشبه بعضا، يأمرون بالمنكر بعد أن يفعلوه، وينهون عن المعروف بعد أن يتركوه، ويبخلون بالمال في سبيل الله ومرضاته أن ينفقوه، كم ذكرهم الله بنعمه فأعرضوا عن ذكره ونسوه؟ وكم كشف حالهم لعباده المؤمنين ليجتنبوه؟.. { الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (67)} (التوبة)

إن حاكمتهم إلى صريح الوحي وجدتهم عنه نافرين، وإن دعوتهم إلى حكم كتاب الله وسنة رسوله رأيتهم عنه معرضين فلو شهدت حقائقهم لرأيت بينها وبين الهدى أمدا بعيدا، ورأيتها معرضة عن الوحي إعراضا شديدا :{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا (61)} (النساء)

فكيف لهم بالفلاح والهدى بعد ما أصيبوا في عقولهم وأديانهم، وأنى لهم التخلص من الضلال والردى، وقد اشتروا الكفر بإيمانهم.. فما أخسر تجارتهم البائرة، وقد استبدلوا بالرحيق المختوم حريقا :{ فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا (62)} (النساء)

قلت: لقد وصفتهم.. وأطلت في وصفهم.

قال: لا تستطل أوصاف القوم، فالمتروك أكثر من المذكور.. بل كاد القرآن كله أن يكون في شأنهم، لكثرتهم على ظهر الأرض وفي أجواف القبور، فلو خلت بقاع الأرض منهم لاستوحش المؤمنون في الطرقات، ولتعطلت بفقدهم أسباب المعايش، وقد سمع حذيفة رجلا يقول : اللهم أهلك المنافقين، فقال : ( يا ابن أخي، لو هلك المنافقون لاستوحشتم في طرقاتكم من قلة السالك)

قلت: لقد ملأتني بالمخافة.. فلعلي أكون أحدهم ولا أعلم.

قال: حدث ابن أبي مليكة، قال: أدركت ثلاثين من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم، كلهم يخاف النفاق على نفسه، ما منهم أحد يقول: (إنه على إيمان جبريل وميكائيل)..

وحدث جبير بن نفير قال: دخلت على أبي الدرداء منزله بحمص، فإذا هو قائم يصلي في مسجده، فلما جلس يتشهد فجعل يتعوذ بالله من النفاق، فلما انصرف قلت له: غفر الله لك يا أبا الدرداء، ما أنت والنفاق!؟ ما شأنك وما شأن النفاق!؟ فقال: (اللهم غفرا- ثلاثا- لا يأمن البلاء من يأمن البلاء، والله إن الرجل ليفتن في ساعة واحدة فينقلب عن دينه)

***

بعد أن سئمت نفسي وضاقت من تلك الدركات الخطيرة التي رأيت فيها الإنسان بأبشع صوره وأشكاله، طلبت من صاحبي الواعظ أن نخرج منها، فأخرجني، وكلفني بالقيام بمجاهدات كثيرة للتخلص من آثار ذلك الشراب الذي شربته.

والحمد لله، فبعد خلوة لم تستمر سوى أسبوع واحد من الله علي بالتخلص من كل ألوان السموم التي زرعت في ذلك الشراب.


([1]) رواه الطبراني.

([2]) رواه الخرائطي والديلمي وابن النجار.

([3]) رواه الطبراني والبيهقي.

([4]) رواه الطبراني.

([5]) رواه أبو داود.

([6]) رواه النسائي وابن ماجه والحاكم.

([7]) رواه البخاري وغيره.

([8]) رواه الطبراني.

([9]) رواه مسلم والترمذي.

([10]) رواه ابن حبان.

([11]) أشير به إلى قوله صلى الله عليه وآله وسلم 🙁 إذا أراد الله تعالى بعبد خيرا جعل له واعظا من نفسه يأمره وينهاه ) رواه الديلمي في مسند الفردوس.

([12]) أشير به إلى ما ورد الحديث عنه في النصوص من القرين الصالح والقرين السوء، ومن ذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم : ( إن للشيطان لمة بابن آدم وللملك لمة فأما لمة الشيطان فإيعاد بالشر وتكذيب بالحق وأما لمة الملك فإيعاد بالخير وتصديق بالحق فمن وجد ذلك فليعلم أنه من الله فليحمد الله ومن وجد الآخرى فليتعوذ بالله من الشيطان)( رواه الترمذي والنسائي وابن حبان)

([13]) رواه الحاكم والبيهقي وأحمد.

([14]) رواه البخاري ومسلم.

([15]) رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي، والزيادة بعد النقاط للنسائي.

([16]) رواه البزار.

([17])  رواه البخاري ومسلم وأحمد والنسائي وابن جرير وابو داود الطيالسي وابن ماجه وابو عوانة وابو يعلى وابن حبان عن علي، وابن أبي شيبة والامام أحمد والترمذي وقال: حسن صحيح وابن ماجه وابن جرير عن ابن مسعود .

([18])  رواه مسلم وابو داود وابو عوانة.

([19])  رواه أبو نصر السجزي في الابانة والديلمي.

([20])  رواه احمد والبخاري والطبراني في الكبير، والبيهقي.

([21])  رواه أبو نعيم.

([22])  العلل المتناهية، لابن الجوزي.

([23])  رواه مسلم.

([24])  خصائص الأئمّة ، للشريف الرضي : ٧٥.

([25])  جامع الأخبار ، لتاج الدين الشعيري : ١٢٥.

([26])  الكافي للكليني: 1/55.

([27])  انظر: تفسير الأمثل، مكارم الشيرزي (10/ 341)

([28])  تفسير الأمثل (15/ 73)

([29])  نهج البلاغة، وصيته لابنه المجتبى (قسم الرسائل، الرسالة 31)

([30])  وهي من المسائل الخلافية بين المسلمين، ولذلك فإن هذا عند من يقول به من الشرك الخفي لا الجلي الذي يؤدي إلى الخروج من الإسلام.

([31]) اهتممنا هنا بذكر مقالات الملاحدة وشبههم، أما الرد المفصل عليها، فقد ذكرناه في رسالة (الباحثون عن الله) من هذه السلسلة.

([32]) من كلام جميل لابن القيم في وصف المنافقين ذكره في مدارج السالكين في مواضع متفرقة – بالتصرف الذي ألفناه في هذه السلسلة –  وقد أوردناه هنا لكونه جمع أكثر ما ورد في القرآن الكريم من أوصاف المنافقين ببلاغة وإتقان.. ونحب أن ننبه هنا إلى أن بعض ما ذكره ابن القيم قد يحمل محامل سيئة بسبب الصراع بين المدارس الإسلامية.. ونحن لا نريد منه هنا هذه المحامل السيئة، فنحن نعتقد أن الخلاف بين المدارس الإسلامية خلاف سببه الاجتهاد، ولا علاقة له بالنفاق.

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *