سابعا ـ المستضعفون

في اليوم السابع.. سرت إلى ضاحية منعزلة عن المدينة سمعت أن أحد أصحابنا، وهو (آحاد هعام)([1]) قد سار إليها، لينقل إلى شباب المدينة تجربته في إخراج قومه من المستضعفين من الاستضعاف.
لا شك أنك لا تعرف هذا الرجل، ولذلك دعني أحدثك عنه([2]) قبل أن أنقل لك نص دعايته ودعواه.. وقبل أن أنقل ما أجيب به من طرف بعض ورثة النبوة، مما ملأني قناعة برحمة الإسلام بالمستضعفين، وقدرته العظيمة على إخراجهم من وهم الاستضعاف.
(آحاد هعام) كاتب روسي يهودي.. وهو أحد أهم الكُتَّاب والمفكرين في أدب العبرية الحديث، كما يُعَدُّ فيلسوف الصهيونية الثقافية.. بل يعتبره البعض المؤسس الحقيقي للفكر الصهيوني، والذي خرج من تحت عباءته كل المفكرين الصهاينة، خصوصاً العلمانيين منهم، ابتداءً من مارتن بوبر، وانتهاءً إلى هارولد فيش.
ثقَّف آحاد هعام نفسه بنفسه، فدرس العلوم وقرأ أدب حركة التنوير وتعلَّم بعض اللغات الأوربية ودرس الفلسفة.. فتأثر بالفلسفة الوضعية في روسيا من خلال أعمال المفكر الروسي بيساريف الذي عرَّفه على أعمال جون ستيورات ميل.. وقد تأثر كذلك بفلسفة لوك، ولكن هربرت سبنسر وفلسفته العضوية الداروينية كان لهما أبعد الأثر في تفكيره، وكان هو نفسه يَعُد سبنسر أقرب المفكرين إلى قلبه.. كما تأثر بفلسفة نيتشه وهردر تأثراً عميقاً، شأنه في هذا شأن كثير من المفكرين والمثقفين اليهود.. ويتجلى عمق تأثر آحاد هعام بنيتشه في زعمه أن النيتشوية واليهودية صنوان.
وقد كان في جميع أحاديثه لا هم له إلا نيتشة([3]).. وفكر نيتشة.. وقد كان لا يفهم من فكر نيتشة إلا ما يريد([4])..
في ذلك اليوم.. رأيته في السوق.. وبين عامة الناس يخطب فيهم بقوة وشدة.. وقد كان موضوع حديثه هو ما أعرفه عنه.. فلم يكن يتحدث إلا عن نيتشة، وما يفهمه من فكر نيتشة..
وكان مما سمعته منه قوله: اسمعوني.. أنا آحاد هعام.. وهي تعني بلغتنا العبرية (أحد العامة).. وأنا فخور بهذا الاسم، وبهذا المعنى الذي يحمله.. ففي اعتقادي أن العامة إذا ما تسلحوا بسلاح القوة يصيرون السوبرمان الذي يمكن أن يحرك العالم أجمع..
ذلك السوبرمان الذي لا يشكو من ضعف البشر.. ولا يحتكم إلى الأخلاق.. لأن الاحتكام إلى الأخلاق من شيم الضعفاء، وليس من شيم الأقوياء.. فالسلوك ينبغي أن يكون قائمًا على إرادة القوة.. وهي ليست سوى ميل الإنسان للسيطرة على غيره والتحكم في أهوائه.
والسوبرمان سوف يسعى إلى نوع جديد من الكمال والتفوق بماله من قدرة على تحقيق مسعاه للسلطة بأسلوب الأقوياء، لا بأسلوب الضعفاء.
اسمعوا أيها المستضعفون.. فليس هناك حل إلا نيتشة.. فعنده تجدون كل الحلول:
ففي الاجتماع قال نيتشة:(الإنسان جاء إلى الحياة ليتمتع بما فيها، وكل ما يهيء له طريق التمتع فهو خير (وافق الحق أو خالفه)، وما يقال عن تساوي الخلق بعضهم مع بعض خطأ، بل الحق أن في الناس سادة وعبيدا، وعلى العبيد أن يهيئوا وسائل الراحة للسادة)
وفي الاقتصاد قال: (لابد أن يستثمر القوي الضعفاء بأقل ما يمكن، وأن يحاول كل مكار خداع السيطرة على الآخرين في هذا المجال)
وفي الأخلاق قال:(والأخلاق من الضعف؛ إن الجزء الأعظم من فطرة الإنسان التعدي والظلم، وإن الجزء الأقل هو العقل والعاطفة، والجزء الأعظم هو الذي يجب أن يتبع)
وقال:(ولابد أن يمارس الإنسان كل نوع من أنواع الإجرام ليعيش في رفاه وسعادة)
وفي السياسة قال:(وعلى هذا الأساس فالسياسة تقوم على خدمة الأقوياء وسحق الضعفاء وكل ما هناك من الدين والأخلاق فإنما هو وسيلة للسيطرة على المستضعفين)
وهكذا في كل الشؤون كان نيتشة حكيما عاقلا أعطى البشرية الحل الطبيعي الذي تقتضيه الفطرة.. وليس هو إلا شيء واحد هو (القوة).. القوة التي لا يقهرها شيء.
بعد أن أنهى آحاد هعام حديثه عن القوة، وعن السوبرمان مما حكيت لك بعضه.. قامت امرأة من الجمع، كانت ممتلئة بالقوة والحياة، وقد عرفت بعد ذلك أن اسمها هو (أم البنين) ([5]).. قامت، وقالت بصوت جهوري قوي: ما أجمل ما دعوتنا إليه.. فلا يمكن للإنسان أن يتحقق بإنسانيته ما لم يتحقق بالقوة التي تستدعيها إنسانيته..
ولكنا مع ذلك نرى أن التوفيق أخطأك.. فلم تر بصيرتك المحل الصحيح الذي تجد فيه القوة.. القوة التي لا يغلبها شيء، ولا يعجزها شيء([6]).
لقد دعوتنا إلى الثقة بالنفس… وهذا شيء جميل.. ولا ينبغي لعاقل أن يخالفك فيه.
ودعوتنا إلى الإنسان.. أو السوبرمان.. الذي يمشي بخطوات ثابتة وجنان مطمئن.. والذي يحمل صورة الصامد في وجه أعاصير الفتن.. وصورة المبتسم المتفائل رغم الصعاب.. وصورة ذلك الذي يجيد النهوض بعد أي كبوة.. وصورة ذلك الذي يمشي نحو هدفه لا يتلفت ولا يتردد..
وكل هذه الصور صور جميلة؛ كل واحد منا يطمح أن يمتلكها، وكل واحد منا يود لو يغيّر واقع حياته عليها.
ولكنا مع ذلك نرى أن هذه الصور لو اقتصرنا عليها.. فسنقع في الوهم.. فنحن مع قوتنا ضعاف.. ومع غنانا فقراء.. ومع ذاتيتنا تابعين..
لقد علمنا ربنا هذا..
لقد خاطبنا يقول:{ هَلْ أَتَى عَلَى الإنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُورًا } (الإنسان: 1).. وقال لنا:{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ } (فاطر: 15).. وقال لنا:{ وَخُلِقَ الإنسَانُ ضَعِيفًا } (النساء: 28).. وقال لنا:{ وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إلاَّ أَن يَشَاءَ اللَّهُ.. (24)} (الكهف).. وقال لنا:{ إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإيَّاكَ نَسْتَعِينُ } (الفاتحة: 5)
وعلمنا نبينا أن نقول.. ونحن نتوجه إلى الله بالدعاء:(اللهم إني عبدك وابن عبدك، وابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماضٍ فيَّ حُكمك.. أبوء بنعمتك عليّ وأبوء بذنبي فاغفر لي..
اللهم إني أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك فإنك تعلم ولا أعلم.
اللهم لا حول ولا قوة لي إلا بك.
اللهم إني أبرأ من حولي وقوتي إلى حولك وقوتك.
اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي وقلة حيلتي.
اللهم لا تكلني إلى نفسي طرفة عين ولا أقل من ذلك فأَهْلَك.
اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك)([7])
إن هذه النصوص وغيرها كثير ترفع عنا حجاب الوهم الذي يجعلنا نشعر من أعماق نفوسنا بالقوة الكاذبة التي تفصلنا عن ربنا وعن حقيقتنا..
ولذلك فإن النفس الكاملة القوية هي النفس التي تتربى على هذه النصوص المقدسة، ثم تعترف بعجزها وفقرها، وتُقرّ بضعفها وذلها.. ولكنها لا تقف عند حدود هذا الاعتراف فتعجز وتُحبط وتكسل، وإنما تطلب قوّتها من ربها، وتسعى وتعمل وتتذلل لمن بكلمة واحدة يهبها القدرة على ما يريد، ويُلين لها الحديد، ويعطيها فوق المزيد.
هذه ـ يا أحبة ـ هي طريقة الإسلام في التعامل مع النفس، والترقي بها:
إنها تبدأ فتعرفها بحقيقتها؛ فقد خلقها الله من عدم، وجبلها على ضعف، وفطرها على النقص والاحتياج والفقر إليه.
ثم تدلها على المنهج الذي يرفعها من هذا الضعف والفقر الذي جُبلت عليه، لتكون برغم صفاتها هذه أكرم خلق الله أجمعين..
ثم هي تذكرها بعَدُوِّها الذي يريد إضلالها عن طريق الله المستقيم بتزيين طرق غواية تشتبه به، وتحذيرها من اتباعه، وبيان طرق مراغمته.
إن هذا المنهج – كما ترون – منهج تعترف فيه النفس بفقرها وذلها إلى الله، وتتبرأ من حولها وقوتها، وتطلب من مولاها عونه وقوته وتوفيقه وتسديده، فيعطيها جل جلاله، ويكرمها ويُعليها.
إنه منهج تعترف فيه النفس بضعفها واحتياجها، وتستعين فيه بخالقها ليغنيها ويعطيها، ويقيها شر ما جبلها عليه؛ فيقبلها ويهديها، ويسددها ويرضيها.
وهو منهج تتخذ فيه النفس أهبة الاستعداد لعدوها المتربص بها ليغويها؛ فتستعيذ بربها منه، وتدفع شر ذلك العدو بما شرع لها؛ فإذا كيده ضعيف، وإذا قدراته مدحورة عن عباد الله المخلصين؛ فقد أعاذهم ربهم وكفاهم وحماهم وهو مولاهم؛ فنعم المولى، ونعم النصير.
وهو منهج يضاد منهج قارون الذي راح يصيح بكبرياء:{ إنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي } (القصص: 78)
وهو منهج ينابذ منهج الأبرص والأقرع اللذان راح يصيحان:(إنما ملكناه كابراً عن كابر)([8])
وهو منهج يتبرأ صاحبه أن يكون خصيماً مبيناً لربه الذي خلقه ورباه بنعمه، أو ينازعه عظمته وكبرياءه.
وهو منهج لا يتوافق مع مذهب (القوة) الذي يقول زعيمه (نيتشه): (سنخرج الرجل السوبرمان الذي لا يحتاج لفكرة الإله!
وهو منهج يصادم (الثيوصوفي وليام جيمس) ومذهبه البراجماتي، ومطبقي فكرة باندلر وجرندر، ومن بعدهم، وغيرهم ممن يصيح كل حين: (أنا أستطيع…. أنا قادر…. أنا غني… أنا أجلب قدري…)
صاح بعض المستمعين قائلا: ولكن الله تعالى خاطبنا بقوله:{ وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ.. (139)} (آل عمران)
نظرت إليه أم البنين، وقالت: لا تقطع الآية.. فكلام ربنا يؤخذ جميعا.. لقد قال الله تعالى:{ وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139)} (آل عمران).. لقد ربط الله العلوم بالإيمان، فمنه يستمد العلو، وبدوام الإلحاح والطلب منه تحقق الرفعة.
وقال في آية أخرى::{ فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ (35)} (محمد)
انظر.. لقد ربط الله العلو في هذا بمعية الله.. فلا يمكن لمن لم يكن الله معه أن يظفر بأي علو، أو يحلم بأي رفعة.
قام آخر، وقال: ولكن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال:(المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف)([9])
نظرت إليه أم البنين، وقالت: المؤمن القوي ليس قوياً من عند نفسه، ولا بمقومات شخصيته.. وإنما هو قوي لاستعانته بربه، وافتقاره إليه، وثقته في موعوداته الحقة.
تأمل – يا أخي – كلمات القوة من موسى ـ عليه السلام ـ أمام البحر والعدو وراءه:{ كَلاَّ إنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ } (الشعراء: 62)..
فموسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ لم يثق بنفسه، وقد أُعطي من المعجزات وخوارق العادات ما أعطي! وإنما كانت ثقته بتوكله على الذي يستطيع أن يجعله فوق الإمكانات البشرية، بل يجعل لعصاه الخشبية قدرات لا يستطيعها أساطين الطقوس السحرية.
تأمل ـ أخي ـ قوله صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث الذي ذكرته:(استعن بالله ولا تعجزن).. إن هذه الكلمات تفسر سر قوة المؤمن.. إنها قوة مستمد من إيمانه واستعانته بربه.
إنها كلمات الحبيب صلى الله عليه وآله وسلم يربي أمته على منهج الإيجابية والفاعلية.. لم يقل: تخيل قدرات نفسك.. ولم يقل: أيقظ العملاق الذي في داخلك وأطلقه.. ولم يقل: نوّم الواعي وخاطب اللاواعي لديك برسائل إيجابية، وبرمجْهُ برمجةً وهمية؛ وإنما دعاك صلى الله عليه وآله وسلم إلى الطريقة الربانية، وخاطبك مخاطبة عقلية بعبارات إيمانية:(استعن بالله ولا تعجزن)
فاستعن به وتوكل عليه، ولا تعجزن بالنظر إلى قدراتك وإمكاناتك؛ فأنت بنفسك ضعيف ظلوم جهول، وأنت بالله عزيز.. أنت بالله قادر.. أنت بالله غني.
بعد أن أنهت أم البنين حديثها، قام آحاد هعام، وقال: جميل.. جميل.. كل ما ذكرته جميل.. ولكنه لا يصلح إلا لمن يعتقد ما تعتقدين.. كلامك يصلح خطبة في المسجد.. أو موعظة في الكنيسة.. ولكنه لا يصلح أن تخاطبي به في محافل الحياة الأخرى.. فالحياة التي تستند إلى الله حياة مملوءة بالضعف والجبن والعجز والكسل.. والدين كما تقول أحدث النظريات العلمية (أفيون الشعوب).. ولا يمكن أن تتحرر الشعوب إلا إذا تحررت منه.
أرادت أن تقوم أم البنين للحديث، فأشارت إليها امرأة أخرى علمت بعد ذلك أن اسمها (سمية)([10])، وقالت: أنت تدعي أن الإيمان مناقض للقوة.. وأنه لا يمكن للمستضعف أن يخرج من ضعفه ما دام يرتدي لباس الإيمان؟
قال آحاد هعام: أجل.. أنا أقول ذلك.. وكل العقلاء يقولون ذلك.. وكل الدراسات النفسية والاجتماعية تؤيد ذلك.
قالت سمية: فاسمع مني إذن البراهين التي تدلك على أن القوة بنت للإيمان.. والبراهين التي تدلك على أنه لا يمكن للإيمان الصحيح أن يولد إلا القوة الصحيحة.
أنت تعلم([11]).. وكلكم تعلمون… أن للإنسان في الحياة آمال عريضة، وأهداف كثيرة، ولكن الطريق إليها شائك وطويل، والعقبات متنوعة، والمعوقات كثيرة، بعضها من الطبيعة وسنن الله فيها، وبعضها من البشر أنفسهم، فلا غرو أن يظل الإنسان في جهاد دائب، وعمل متواصل، ليتغلب على الآلام والمعوقات ويحقق الأهداف والآمال.
وما أشد حاجة الإنسان إلى قوة تسند ظهره، وتشد أزره، وتأخذ بيده، وتذلل له العقبات، وتقهر أمامه الصعاب، وتنير له الطريق..
وليست هذه القوة المنشودة إلا في ظلال العقيدة، ورحاب الإيمان بالله.
الإيمان بالله هو الذي يمدنا بقوة الروح، فالمؤمن لا يرجو إلا فضل الله، ولا يخشى إلا عذاب الله، ولا يبالي بشيء في جنب الله.. إنه قوي وإن لم يكن في يديه سلاح.. غني وإن لم تمج خزائنه بالفضة والذهب.. عزيز وإن لم يكن وراءه عشيرة وأتباع.. راسخ وإن اضطربت سفينة الحياة، وأحاط بها الموج من كل مكان.
فهو بإيمانه أقوى من البحر والموج والرياح، وفي الآثار:(لو عرفتم الله حق معرفته لزالت بدعائكم الجبال)
وهذه القوة في الفرد مصدر لقوة المجتمع كله، وما أسعد المجتمع بالأقوياء الراسخين من أبنائه، وما أشقاه بالضعفاء المهازيل، الذين لا ينصرون صديقاً، ولا يخيفون عدواً، ولا تقوم بهم نهضة، أو ترتفع بهم راية.
ضحك آحاد هعام بصوت عال، وقال: أنت تطلقين الدعاوى إطلاقا في الوقت الذي تزعمين فيه أن لديك البراهين على ما تقولين.
قالت سمية: اصبر.. فسأحدثك حديثا تعيه.. ويعيه كل من يحضر معنا..
أنت تعلم.. وأنتم تعلمون جميعا أن القوة تحتاج إلى محرك يحركها.. وأنه لا يمكن لقوة من القوى أن تستمر في حركتها ما لم يكن لديها هذا المحرك.
قالوا: أجل.. ذلك صحيح.
قالت سمية: وتعلمون أن الحركة القوية وحدها لا يمكن أن نعتبرها حركة قوية إيجابية ما لم تكن موجهة الوجهة الصحيحة النافعة.
قالوا: ذلك صحيح.. ونحن جميعا نسخر من القوة التي يوجهها صاحبها في غير محلها، لأنه لا يجني من تعبه غير العلقم والصبر وانهداد القوى.
قالت سمية: بناء على هذا.. فسأبرهن لكم على أن الإيمان هو الذي يملك مصادر القوة ومحركاتها، كما أنه يملك المعاني التي توجه القوة الوجهة الصحيحة التي تجعل منها قوة بناءة نافعة لا قوة هدامة ضارة.
قالوا: فحدثينا عن الأول.. عن مصادر القوة التي يحملها الإيمان.
قالت: أول مصدر من مصادر قوة المؤمن هو (الله).. فالمؤمن يستمد قوته من الله العلي الكبير، الذي يؤمن به، ويتوكل عليه، ويعتقد أنه معه حيث كان، وأنه ناصر المؤمنين، وخاذل المبطلين..
ولهذا رد الله على المنافقين الذي اعتبروا المؤمنين مغرورين بسبب الطموحات العظيمة التي كانوا يحملونها، فقال:{ إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (49)} فهو سبحانه عزيز لا يذل من توكل عليه، حكيم لا يضيع من اعتصم بحكمته وتدبيره.
وقال يخاطب المؤمنين:{ إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (160)}(آل عمران)
إن هذه الآية الكريمة كغيرها من الآيات تعلمنا أن التوكل على الله – وهو من ثمار الإيمان- ليس استسلام متبطل، أو استرخاء كسول.. إنه معنى حافز، وشحنة نفسية، تغمر المؤمن بقوة المقاومة، وتملؤه بروح التحدي والإصرار، وتشحذ فيه العزم الصارم، والإرادة الشماء.
والقرآن الكريم يرسخ هذه المعاني فينا عبر قصص أولياء الله ورسله.. والذين جعلهم توكلهم على ربهم واستعانتهم به يخوضون غمارا لا يمكن لغيرهم أن يخوضها..
فهذا نبي الله هود u في دعوته لقومه يجد من هذا التوكل حصناً حصيناً يلجأ إليه.. قال تعالى:{ قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (53) إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (54) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ (55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (56)}(هود)
وهذا شعيب u وقومه يساومون ويهددون يجد التوكل على الله ملجأه الحصين.. قال تعالى:{ قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ (88) قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ (89)}(الأعراف)
وهذا موسى u بعد أن تميز بقومه عن معسكر الفراعنة يقول لهم:{ يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ (84) فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (85) وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (86)}(يونس)
وها هم الرسل جميعاً – عليهم الصلاة والسلام – يعتصمون بالتوكل على الله أمام عناد أقوامهم وإيذائهم.. قال تعالى حاكيا عنهم:{ وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (12)}(إبراهيم)
بعد هذا، فإن المؤمن يستمد قوته من الحق الذي يعتنقه، فهو لا يعمل لشهوة عارضة، ولا لنزوة طارئة، ولا لمنفعة شخصية، ولا لعصبية جاهلية، ولا للبغي على أحد من البشر، ولكنه يعمل للحق الذي قامت عليه السموات والأرض، والحق أحق أن ينتصر، والباطل أولى أن يندثر.. قال تعالى:{ بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (18)}(الأنبياء).. وقال:{ وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا (81)}(الإسراء)
المؤمن بإيمانه بالله وبالحق على أرض صلبة غير خائر ولا مضطرب، لأنه يعتصم بالعروة الوثقى، ويأوي إلي ركن شديد:{ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256)}(البقرة)
المؤمن بإيمانه بالله وبالحق ليس مخلوقاً ضائعاً، ولا كماً مهملاً، إنه خليفة الله في الأرض، إن تظاهر عليه أهل الباطل، فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين، والملائكة بعد ذلك ظهير.. فكيف يضعف أمام البشر ومن ورائه الملائكة؟.. بل كيف ينحني للخلق ومعه الخالق؟ { الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174)} (آل عمران)
هذا الإيمان هو الذي جعل بضعة شبان كأهل الكهف، يواجهون بعقيدتهم ملكاً جباراً، وقوماً شديدي التعصب، غلاظ القلوب، مع قلة العدد، وانعدام الحول والطول المادي.. قال تعالى حاكيا قصتهم:{ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى (13) وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا (14) هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (15)} (الكهف)
بعد هذا، فإن المؤمن يستمد قوته من الخلود الذي يوقن به، فحياته ليست هذه الأيام المعدودة في الأماكن المحدودة، بل إنها حياة الأبد، وإنما هو ينتقل من دار إلى دار.
هذا عمير بن الحمام الأنصاري في غزوة بدر يسمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول لأصحابه:(والذي نفسي بيده ما من رجل يقاتلهم اليوم – المشركين- فيقتل صابراً محتسباً مقبلاً غير مدبر إلا أدخله الله الجنة)، فيقول عمير: بخ بخ، فيقول: مم تبخبخ يا ابن الحمام؟ فيقول: أليس بيني وبين الجنة إلا أن أتقدم فأقاتل هؤلاء فأقتل؟ فيقول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: بلى، وكان في يد عمير تمرات يأكل منها فقال: أأعيش حتى أكل هذه التمرات؟ إنها لحياة طويلة! وألقى التمرات من يده وأقبل يقاتل ويقول:
ركضاً إلى الله بغير زاد = إلا التقى وعمل المعاد
والصبر في الله على الجهاد = وكل زاد عرضة للنفاد
غير التقى والصبر والرشاد
وهذا أنس بن النضر يقاتل قتال الأبطال في أحد، ويلقاه سعد بن معاذ فيقول له: يا سعد، الجنة ورب النضر: أجد ريحها من وراء أحد!!
بعد هذا، فإن المؤمن يستمد قوته من القدر الذي يؤمن به، فهو يعلم أن ما أصابه من مصيبة فبإذن الله، وأن الإنس والجن لو اجتمعوا على أن ينفعوه بشيء لم ينفعوه إلا بشيء قد كتبه الله له، ولو اجتمعوا على أن يضروه بشيء لم يضروه إلا بشيء قد كتبه الله عليه.. { قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (51)}(التوبة)
والمؤمن يعتقد أن رزقه مقسوم، وأجله محدود، لا يستطيع أحد أن يحول بينه وبين ما قسم الله له من رزق، ولا أن ينتقص ما كتب الله له من أجل..
وهذه العقيدة تعطيه ثقة لا حدود لها، وقوة لا تقهرها قوة بشر.. وقد كان الرجل من سلفنا الصالح يذهب إلى الميدان مجاهداً في سبيل الله فيعترض سبيله المثبطون، ويخوفونه من ترك أولاده، فيقول: علينا أن نطيعه تعالى كما أمرنا، وهو – سبحانه – يرزقنا كما وعدنا.
وكان البطل الهمام علي بن أبي طالب يخوض المعامع وهو يردد:
أي يومي من الموت أفر؟ = يوم لا يقدر أو يوم قدر؟
يوم لا يقدر لا أحذره = ومن المقدور لا ينجي الحذر
لقد ذكر السيد الجليل صاحب الهمة العالية جمال الدين الأفغاني دور القضاء والقدر في إخراج المستضعفين من وهم الاستضعاف، فقال: (الاعتقاد بالقضاء والقدر – إذا تجرد عن شناعة الجبر- يتبعه صفة الجرأة والإقدام، وخلق الشجاعة والبسالة يبعث على اقتحام المهالك التي ترجف لها قلوب الأسود، وتنشق منها مرائر النمور، هذا الاعتقاد يطبع الأنفس على الثبات، واحتمال المكاره، ومقارعة الأهوال، ويحليها بحلل الجود والسخاء، ويدعوها إلى الخروج عن كل ما يعز عليها، بل يحملها على بذل الأرواح، والتخلي عن نضرة الحياة.. كل هذا في سبيل الحق الذي قد دعاها للاعتقاد بهذه العقيدة.
الذي يعتقد بأن الأجل محدود: والرزق مكفول، والأشياء بيد الله، يصرفها كيف يشاء، كيف يرهب الموت في الدفاع عن حقه، وإعلاء كلمة أمته أو ملته، والقيام بما فرض الله عليه من ذلك؟
اندفع المسلمون في أول نشأتهم إلى الممالك والأقطار يفتحونها، فأدهشوا العقول، وحيروا الألباب بما دوخوا الأمم، وقهروا الجبابرة، وامتدت سلطتهم من جبال بيرينية – الفاصلة بين أسبانيا وفرنسا- إلى جدار الصين، مع قلة عدتهم وعددهم، وعدم اعتيادهم على الأهوية المختلفة، وطبائع الأقطار المتنوعة. أرغموا الملوك، وأذلوا القياصرة والأكاسرة، في مدة لا تتجاوز ثمانين سنة، إن هذا ليعد من خوارق العادات وعظائم المعجزات.
دمروا بلاداً ودكوا أطواداً، ورفعوا فوق الأرض أرضاً ثانية من القسط، وطبقة أخرى من النفع، وسحقوا رؤوس الجبال تحت حوافر جيادهم، وأقاموا بدلها جبالاً وتلالاً من رؤوس النابذين لسلطانهم، وأرجفوا كل قلب، وأرعدوا كل فريصة، وما كان قائدهم وسائقهم إلى جميع هذا إلا الاعتقاد بالقضاء والقدر.
هذا الاعتقاد هو الذي ثبتت به أقدام بعض الأعداد القليلة منهم أمام جيوش يغص بها الفضاء ويضيق بها بسيط الغبراء، فكشفوهم عن مواقعهم، وردوهم على أعقابهم)([12])
بعد هذا، فإن المؤمن يستمد قوته من إخوانه المؤمنين، فهو يشعر بأنهم له وهو لهم، يعينونه إذا شهد، ويحفظونه إذا غاب، ويواسونه عند الشدة، ويؤنسونه عند الوحشة، ويأخذون بيده إذا عثر، ويسندونه إذا خارت قواه، فهو حين يعمل يحس بمشاركتهم، وحين يجاهد يضرب بقوتهم، إذا حارب جيشاً من ألف مؤمن شعر كل فرد منهم أنه يقاتل بقوة ألف لا بشخصه وحده، وشعر أن هؤلاء الألف يعيشون في نفسه -كما يعيش هو في أنفسهم- حباً لهم، وحرصاً عليهم، وضناً بهم، فإذا ضربت الألف في الألف كان المجموع المعنوي ألف ألف رجل في الحقيقة وان كانوا ألفاً واحدة في لغة الإحصاء والتعداد.
وقد شبَّه النبي صلى الله عليه وآله وسلم قوة المؤمن بإخوانه المؤمنين باللبنة في البناء المتين، فقال:(المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً)([13])
اللبنة وحدها ضعيفة مقدور عليها، ولكنها داخل البنيان أصبحت مرتبطة به ارتباطاً لا ينفصل، أصبحت جزءاً من (الكل) الكبير، لا يسهل كسرها، أو زحزحتها عن موضعها فإن قوتها هي قوة البنيان كله الذي يشدها إليه.
قالوا: عرفنا مصادر قوة المؤمن.. والتي تخرجه من وهم الاستضعاف.. فما ثمار هذه القوة التي يحملها الإيمان؟
قالت سمية: أول الثمار التي يجنيها المؤمن من قوته الإيمانية هو التزامه الحق مع القريب والبعيد.. فالمؤمن صادق في كل حال، عدل في كل حين، يعترف بالخطأ إذا زلت به قدمه غير جاحد ولا مكابر، ولا مبرر لخطئه بخطأ آخر، أو بإلقاء التهمة على غيره، وهو يقول الحق ولو كان مراً، ويقوم لله شهيداً بالقسط ولو على نفسه أو الوالدين والأقربين، ويعدل مع العدو عدله مع الصديق، لا يعرف التحيز، ولا يعرف المحاباة.
بعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم عبد الله بن رواحة إلى خيبر، ليقوم بتقدير ثمر النخل فيها، إذ كان لهم نصفها، وللمسلمين نصفها، وقام عبد الله بالمهمة فقال: في هذه كذا، وفي هذه كذا، فجمع اليهود له حلياً من حلى نسائهم وقالوا له: هذا لك، وخفف عنا في القسمة وتجاوز فقال: يا معشر اليهود.. والله والله إنكم لمن أبغض خلق الله إلي.. وما ذاك بحاملي أن أحيف عليكم.. أما الذي عرضتم له من الرشوة فإنها سحت، وإنا لا نأكلها. فلم يملك اليهود إلا أن قالوا: بهذا قامت السموات والأرض.
ومن ثمار هذه القوة شجاعته في مواطن البأس وثباته في موضع الشدة، فهو لا تتزلزل له قدم، ولا يتزعزع له ركن، لا يخشى الناس قلوا أو كثروا، ولا يبالي بالأعداء وإن أرغوا وأزبدوا، انسدت أبواب الخوف كلها في نفسه، فلم يعد يخاف إلا من ذنبه، ومن سخط ربه.
إذا قيل له: إن أعداءك أكثر عدداً تلا قوله تعالى:{..كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249) } (البقرة)
وإذا قيل: إنهم أكثر مالاً.. قرأ عليهم:{ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (36)} (الأنفال)
وإذا حذروه من مكرهم وكيدهم أجابهم بما قال الله:{ وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (54)}(آل عمران)
وإذا قيل إنهم أمنع حصوناً.. قرأ عليهم:{.. وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ (2) } (الحشر)
إنه يسير بمعونة الله، وينظر بنور الله، ويقاتل بسيف الله، ويرمي بقوة الله:{ فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (17)}(الأنفال)
ومن ثمار هذه القوة إخلاصه القول والعمل والنية لوجه ربه، فتراه يعمل الخير، ويحارب الشر، وإن لم يكن له فيه نفع مادي، ولا هوى شخصي، لا يهمه الشهرة ولا المحمدة ولا رضا الناس، بل يؤثر الخفاء على الشهرة، وعمل السر على عمل العلانية، تجنباً للرياء، وبعداً بالنفس عن مزالق الشرك الخفي، متمنياً أن يكون ممن يحبهم الله، من الأبرار الأتقياء الأخفياء، الذين إذا حضروا لم يعرفوا وإذا غابوا لم يفتقدوا، محاولاً أن يكون كالجذع من الشجرة يمدها بالغذاء وهو في باطن الأرض لا تراه العيون، وكالأساس من البنيان، يختفي في الأعماق وهو الذي يمسك البناء أن يزول.
وفي بعض الآثار تصوير لطيف للقوة الروحية للإنسان حين يتجرد للحق، ويخلص له، تصوير يجعله أثقل في ميزان الحق من الأرض والجبال، والحديد النار والماء.. يقول الأثر: (لما خلق الله الأرض جعلت تميد وتتكفأ، فأرساها بالجبال فاستقرت فتعجب الملائكة من شدة الجبال فقالت: يا ربنا، هل خلقت خلقاً أشد من الجبال؟ قال: نعم.. الحديد.. قالوا: فهل خلقت خلقاً أشد من الحديد؟ قال: نعم، النار.. قالوا: فهل خلقت خلقاً أشد من النار؟ قال: نعم، الماء.. قالوا: فهل خلقت خلقاً أشد من الماء؟ قال: نعم، الريح قالوا: فهل خلقت خلقاً أشد من الريح؟ قال: نعم، ابن آدم.. إذا تصدق صدقة بيمينه فأخفاها من شماله)
بعد أن تحدثت سمية وأطالت عن الثمار اليانعة الطيبة التي يجدها المؤمن في شجرة القوة التي جعلها الله فيه، قامت أخت لها.. كانت تحمل نفس قوتها، ونفس مبادئها، ونفس النهج الذي تنهجه، وقد علمت بعد ذلك أن اسمها (بنت الهدى)([14])
قامت، وقالت: إن من أعظم الثمار التي يجنيها المؤمن من إيمانه بالإضافة إلى الثمار التي ذكرتها أختي سمية ثمرة الثبات.. فلا يمكن للمستضعف أن يخرج من استضعافة ما لم يكن يحمل كل ما يجعله ثابتا كالطود الأشم.. أو كالشجرة الراسخة الجذور.
لن أطيل الحديث عليكم.. ولن أتحدث لكم من عندي.. بل سأتلو عليكم بعض كلام ربي.. وبعض ما ذكره المحدثون عن نموذج القوة الأكبر محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وآل بيته الكرام الطاهرين.. وأصحابه الطاهرين المجتبين..
وأول ما أبدأ به ما ذكره القرآن الكريم عن ثبات الأنبياء – عليهم الصلاة والسلام – جميعا في وجه المحن التي واجهتهم أثناء دعوتهم إلى الله.. قال تعالى:{ أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (9) قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (10) قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11) وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آَذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (12) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (13) وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ (14)}(إبراهيم)
لقد ذكر القرآن الكريم هذا الثبات جملة وتفصيلا حتى نتخذ الأنبياء قدوة لنا في تلك القوة التي جعلتهم يواجهون أممهم مواجهة صارمة ليس فيها أي خنوع أو ذلة.
ومن نماذج الثبات التي ذكرها القرآن الكريم نموذج سحرة فرعون الذين تحولوا من خدم متزلفين متذللين إلى أقوياء ثابتين راسخين.. ولم يكن ذلك إلا بسبب الإيمان الذي تنورت به قلوبهم..
قال تعالى يحكي عنهم:{ وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (113) قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (114) قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ (115) قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (116) وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (117) فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (118) فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ (119) وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (120)قَالُوا آَمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (121) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (122) قَالَ فِرْعَوْنُ آَمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آَذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (123) لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (124) قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ (125) وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آَمَنَّا بِآَيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ (126)}(الأعراف)
ومن نماذج الثبات التي ذكرها القرآن الكريم قصة الرسل وقصة من ساندهم من الدعاة إلى الله.. قال تعالى:{ وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (13) إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (14) قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ (15) قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (16) وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (17) قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (18) قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (19) وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ (21) وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22) أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آَلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ (23) إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24) إِنِّي آَمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (25) قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (27)} (يس)
ومنها قصة أصحاب الأخدود.. قال تعالى:{ وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ (1) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (2) وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (3) قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ (4) النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ (5) إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ (6) وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7) وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (9) إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ (10) إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ (11)} (البروج)
وهذه بعض النماذج التي حكاها القرآن عن ثبات المستضعفين..
أما النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقد ذكر الكثير من نماذج الثبات:
منها قصة ماشطة فرعون التي حكى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قصتها، فقال:(لما كانت الليلة التي أسرى بي فيها، أتت علىّ رائحة طيبة، فقلت يا جبريل ما هذه الرائحة ؟ فقال: هذه رائحة ماشطة ابنة فرعون وأولادها. قال: قلت: وما شأنها ؟ قال: بينما هي تمشط ابنة فرعون ذات يومٍ إذ سقطت المدرى من يديها، فقالت: بسم الله، فقالت لها ابنة فرعون: أبى ؟ قالت: لا، ولكن ربى ورب أبيك الله، قالت: أخبرهُ بذلك ؟ قالت: نعم. فأخبرته فدعاها فقال: يا فلانة، وإن لك رباً غيري ؟ قالت: نعم، ربى وربك الله. فأمر ببقرة من نحاس فأحميت، ثم أمر بها أن تلقى هي وأولادها، قالت: إن لي إليك حاجة.. قال: وما حاجتك ؟ قالت: أحبُ أن تجمع عظامي وعظام ولدى في ثوبٍ واحد وتدفننا. قال: ذلك لك علينا من الحق. قال: فأمر بأولادها فألقوا بين يديها واحداً واحداً، إلى أن انتهى ذلك إلى صبىّ لها مرضع، وكأنها تقاعست من أجله. قال: يا أمه اقتحمي، فإن عذاب الدنيا أهونُ من عذاب الآخرة، فاقتحمت)([15])
وقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في أيام الشدة يخبر أصحابه بما عانى الأنبياء وورثتهم من أنواع المحن، وكيف لم يصدهم ذلك عن دينهم.. ففي الحديث عن خباب بن الأرت، قال: شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهو متوسد بردة له، في ظل الكعبة، فقلنا: ألا تستنصر لنا، ألا تدعو لنا، فقال: (قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل، فيحفر له في الأرض، فيجعل فيها، فيجاء بالمنشار، فيوضع على رأسه، فيجعل نصفين، ويمشط بأمشاط الحديد، ما دون لحمه وعظمه، فما يصده ذلك عن دينه، والله، ليتمن هذا الأمر، حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت، لا يخاف إلا الله، والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون)([16])
وكان صلى الله عليه وآله وسلم أسوة في الثبات بكل أنواعه([17]).. قال صلى الله عليه وآله وسلم يخبر عن نفسه:(لقد أوذيت فى الله عز وجل وما يؤذى أحد، وأخفت فى الله وما يخاف أحد، ولقد أتت على ثلاثة من بين يوم وليلة وما لى ولعيالى طعام يأكله ذو كبد إلا ما يوارى إبط بلال)([18])
وقد حكى عقيل بن أبي طالب بعض مواقف ثبات النبي صلى الله عليه وآله وسلم.. والتي لا تزال أسوة لكل المستضعفين في الأرض، فقال: جاءت قريش إلى أبي طالب فقالوا: يا أبا طالب، إن ابن أخيك يأتينا في أفنيتنا، وفي نادينا، فيسمعنا ما يؤذينا به، فإن رأيت أن تكفه عنا فافعل، فقال لي: يا عقيل، التمس لي ابن عمك، فأخرجته من كبس من أكباس أبي طالب، فأقبل يمشي معي يطلب الفيء يمشي فيه، فلا يقدر عليه، حتى انتهى إلى أبي طالب، فقال له أبو طالب: يا ابن أخي، والله ما علمت إن كنت لي لمطاعا، وقد جاء قومك يزعمون أنك تأتيهم في كعبتهم، وفي ناديهم تسمعهم ما يؤذيهم، فإن رأيت أن تكف عنهم، فحلق ببصره إلى السماء، فقال: (والله ما أنا بأقدر أن أدع ما بعثت به من أن يشعل أحدكم من هذه الشمس شعلة من نار)، فقال أبو طالب: (والله ما كذب ابن أخي قط، ارجعوا راشدين)([19])
وذكر المؤرخون أن قريشا حين قالت لأبي طالب هذه المقالة بعث إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال له: يا ابن أخي، إن قومك قد جاءوني فقالوا كذا وكذا فأبق علي وعلى نفسك، ولا تحملني من الأمر ما لا أطيق أنا ولا أنت، فاكفف عن قومك ما يكرهون من قولك، فظن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن قد بدا لعمه فيه، وأنه خاذله ومسلمه وضعف عن القيام معه، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:(يا عم لو وضعت الشمس في يميني والقمر في يساري ما تركت هذا الأمر حتى يظهره الله تعالى أو أهلك في طلبه)، ثم استعبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فبكى، فلما ولى قال له حين رأى ما بلغ الأمر برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يا ابن أخي فأقبل عليه، فقال: (امض على أمرك وافعل ما أحببت، فوالله لا أسلمك لشيء أبدا)([20])
وعن عبد الله بن جعفر قال: لما مات أبو طالب عرض لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سفيه من سفهاء قريش فألقى عليه ترابا، فرجع إلى بيته، فأتت امرأة من بناته تمسح عن وجهه التراب وتبكي قال: فجعل يقول: (أي بنية، لا تبكين، فإن الله عز وجل مانع أباك)، ويقول ما بين ذلك: (ما نالت مني قريش شيئا أكرهه حتى مات أبو طالب)([21])
وعن أشعث قال حدثنى شيخ من بنى مالك بن كنانة قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بسوق ذى المجاز يتخللها يقول:(يا أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا)، قال: وأبو جهل يحثى عليه التراب ويقول:(يا أيها الناس لا يغرنكم هذا عن دينكم، فإنما يريد لتتركوا آلهتكم وتتركوا اللات والعزى)([22])
وعن سهل بن سعد قال: جرح وجه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم أحد، وكسرت رباعيته، وهشمت البيضة على رأسه، فكانت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تغسل الدم، وكان على بن أبى طالب يسكب عليها بالمجن، فلما رأت فاطمة أن الماء لا يزيد الدم إلا كثرة أخذت قطعة حصير فأحرقته حتى صار رمادا، ثم ألصقته بالجرح فاستمسك الدم([23]).
سكتت قليلا، ثم قالت: وعلى هذا الدرب سار كل المستضعفين من أتباعه.. لا يثنيهم تهديد، ولا يهد من ثباتهم مخافة:
وكان منهم عمار بن ياسر وآل بيته الشهداء الطاهرين..
عن جابر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مر بعمار بن ياسر وبأهله يعذبون في الله – عز وجل – فقال: (أبشروا آل ياسر موعدكم الجنة)([24])
وكان منهم بلال بن رباح وغيره من الطيبين الطاهرين من قديسي هذه الأمة..
سكتت قليلا، ثم قالت([25]) – وقد كستها سحابة من الحزن العميق -: لن أطيل عليكم.. اسمحوا لي فقط أن أختم حديثي بنموذج فريد في تاريخ الإنسانية.. مثله رجل من آل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. قال فيه صلى الله عليه وآله وسلم، وكأنه يثني على هذا الدور البطولي الذي مثله مع أهل بيته الطاهرين:(حسين مني وأنا من حسين) ([26])
لقد كان الحسين هو صاحب هذا الدور..
لقد كان الحسين هو مثال التضحية والثبات في أرفع درجاتها..
لقد سمعت حديثه من أبي.. وأبي سمعه من آبائه.. كنا ننشده، فنمتلئ عزة وأنفة..
نعم نمتلئ معهما حزنا.. ولكنه حزن لا يختلف عن حزن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على الإعراض عنه وعن دين الله..
فلذلك اسمح لي.. واسمحوا لي أيها الجمع المبارك أن أنشد لكم تلك الملحمة البطولية العظيمة التي زرعت في الأمة من العزة والأنفة من أن تذل ما لم تستطع جميع المدارس أن تزرعه..
بصوت مختلط بحشرجة الدموع أخذت بنت الهدى تنشد الجمع ملحمة الحسين، قالت: في ذلك المحل الرفيع قام الحسين، وقال لأصحابه الذين وقفوا معه بعد أن حمد الله وأثنى عليه:(أما بعد، فإني لا أعلم أصحاباً خيراً منكم، ولا أهل بيتٍ أفضل وأبر من أهل بيتي، فجزاكم الله عني جميعاً خيراً، وهذا الليل قد غشيكم فاتخذوه جملاً، وليأخذ كل رجلٍ منكم بيد رجلٍ من أهل بيتي، وتفرقوا في سواد هذا الليل وذروني وهؤلاء القوم، فإنهم لا يريدون غيري)
في ذلك المحل الحرج قال له إخوته وأبناؤه وأبناء عبدالله بن جعفر([27]): (ولم نفعل ذلك، لنبقي بعدك! لا أرنا الله ذلك أبداً).. وبدأهم بهذا القول العباس بن علي([28])، ثم تابعوه.
ثم نظر الحسين إلى بني عقيل، وقال: (حسبكم من القتل صاحبكم مسلم، اذهبوا فقد أذنت لكم)
فأجابوه قائلين: يا ابن رسول الله.. فماذا يقول الناس لنا، وماذا نقول لهم، إذ تركنا شيخنا وكبيرنا وسيدنا وإمامنا وابن بنت نبينا، لم نرم معه بسهم، ولم نطعن معه برمح، ولم نضرب معه بسيف، لا والله يا ابن رسول الله لا نفارقك أبداً، ولكنا نقيك بأنفسنا حتى نقتل بين يديك ونرد موردك، فقبح الله العيش بعدك)
ثم قام مسلم بن عوسجة([29])، وقال: (نحن نخليك هكذا وننصرف عنك وقد أحاط بك هذ العدو، لا والله لا يراني الله أبداً وأنا أفعل ذلك حتى أكسر في صدورهم رمحي وأضربهم بسيفي ما ثبت قائمة بيدي، ولو لم يكن لي سلاح أقاتلهم به لقذفتهم بالحجارة، ولم أفارقك أو أموت دونك)
وقام سعيد بن عبدالله الحنفي فقال: (لا والله يابن رسول الله لا نخليك أبداً حتى يعلم الله أنا قد حفظنا فيك وصية رسوله محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ولو علمت أني أقتل فيك ثم أحيى ثم أحرق حياً ثم أذرى ـ يفعل بي ذلك سبعين مرة ـ ما فارقتك حتى ألقى حمامي من دونك، فكيف وإنما هي قتلة واحدة ثم أنال الكرامة التي لا انقضاء لها أبداً؟!)
ثم قام زهير بن القين وقال: (والله يابن رسول الله لوددت أني قتلت ثم نشرت ألف مرة وأن الله يدفع بذلك القتل عنك وعن هؤلاء الفتية من إخوتك وولدك وأهل بيتك)
وهكذا تكلم جماعة من أصحابه بمثل ذلك وقالوا: (أنفسنا لك الفداء نقيك بأيدينا ووجوهنا، فإذا نحن قتلنا بين يديك نكون قد وفينا لربنا وقضينا ما علينا)
في تلك الحال قيل لمحمد بن بشير الحضرمي: قد أسر ابنك بثغر الري، فقال: (عند الله أحتسبه ونفسي، ما كنت أحب أن يؤسر وأن أبقى بعده)، فلما سمع الحسين قوله قال: (رحمك الله، أنت في حل من بيعتي، فاعمل في فكاك ابنك)، فقال الحضرمي: أكلتني السباع حياً إن فارقتك.. قال: (فأعط ابنك هذه البرود([30]) يستعين بها في فكاك أخيه)، فأعطاه خمسة أثواب قيمتها ألف دينار.
وبات الحسين وأصحابه تلك الليلة، ولهم دوي كدوي النحل، ما بين راكع وساجد وقائم وقاعد، فعبر إليهم في تلك الليلة من عسكر ابن سعد اثنان وثلاثون رجلاً.
وعندما ركب أصحاب عمر بن سعد، بعث الحسين بعض أصحابه، فوعظهم، فلم يسمعوا وذكرهم فلم ينتفعوا.
عندها ركب الحسين ناقته أو فرسه، فاستنصتهم فأنصتوا، فحمد الله وأثنى عليه وذكره بما هو أهله، وصلى على محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعلى الملائكة والأنبياء والرسل، وأبلغ في المقال، ثم قال: تباً لكم أيتها الجماعة وترحاً حين استصرختمونا والهين فأصرخناكم موجفين، سللتم علنا سيفاً لنا في ايمانكم، وحششتم علينا ناراً اقتدحناها على عدونا وعدوكم، فأصبحتم أولياء لأعدائكم على أوليائكم بغير عدلٍ أفشوه فيكم ولا أملٍ أصبح لكم فيهم.
فهلا تركتمونا والسيف مشيمٌ والجأش ضامرٌ والرأي لما يستحصف، ولكن أسرعتم إليها كطير الدبا، وتداعيتم إليها كتهافت الفراش.. فسحقاً لكم يا عبيد الأمة، وشرار الأحزاب، ونبذة الكتاب، ومحرفي الكلم، وعصبة الآثام، ونفثة الشيطان، ومطفئ السنن.. أهؤلاء تعضدون، وعنا تتخاذلون؟!
أجل والله غدرٌ فيكم قديم وشحت عليه أصولكم، وتأزرت عليه فروعكم، فكنتم أخبث شجاً للناظر وأكلة للغاصب.
ثم قال: (ألا وإن الدعي ابن الدعي قد ركز بين اثنتين: بين السلة، والذلة، وهيهات منا الذلة، يأبى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون وحجور طابت وحجور طهرت وأنوف حمية ونفوس أبية: من أن تؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام)
ثم قال: (ألا وإني زاحف بهذه الأسرة مع قلة العدد وخذلان الناصر)
ثم أنشد بعض أبيات لفروة بن مسيك المرادي([31]) يقول فيها:
إذا ما الموت رفع عن أناس |
كلاكله أناخ بآخرينا |
فأفنى ذلك سروات قومي |
كما أفنى القرون الأولينا |
فلو خلد الملوك إذاً خلدنا |
ولو بقي الكرام إذاً بقينا |
فقل للشامتين بنا: أفيقوا |
سيلقى الشامتون كما لقينا |
ثم قال:(أما والله لا تلبثون بعدها إلا كريث ما يركب الفرس حتى يدور بكم دور الرحى ويقلق بكم قلق المحور عهدٌ عهده إلي أبي عن جدي، { فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ } (يونس:71).. { إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (هود:56)
ثم نزل ودعا بفرس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فركبه وعبى أصحابه للقتال.. حينها تقدم عمر بن سعد ورمى نحو عسكر الحسين بسهم وقال: اشهدوا لي عند الأمير: أني أول من رمى، وأقبلت السهام من القوم كأنها القطر.
فقال الحسين لأصحابه: (قوموا رحمكم الله إلى الموت، إلى الموت الذي لابد منه، فإن هذه السهام رسل القوم إليكم).. فاقتتلوا ساعة من النهار حملةً وحملةَ، حتى قتل من أصحاب الحسين جماعة.
فعندها ضرب الحسين يده على لحيته وجعل يقول: (اشتد غضب الله على اليهود إذ جعلوا له ولداً، واشتد غضبه على النصارى إذ جعلوه ثالث ثلاثة، واشتد غضبه على المجوس إذ عبدوا الشمس والقمر دونه، واشتد غضبه على قوم اتفقت كلمتهم على قتل ابن بنت نبيهم.. أما والله لا أجيبنهم إلى شيء مما يريدون حتى ألقى الله تعالى وأنا مخضب بدمي)
ثم صاح الحسين: (أما من مغيثٍ يغيثنا لوجه الله، أما من ذاب يذب عن حرم رسول الله)، فإذا الحر بن يزيد الرياحي قد أقبل على عمر بن سعد، فقال له: أمقاتل أنت هذا الرجل؟ فقال: إي والله قتالاً أيسره أن تطير الرؤوس وتطيح الأيدي.. فمضى الحر ووقف موقفاً من أصحابه وأخذه مثل الإفكل.. فقال له المهاجر بن أوس: والله إن أمرك لمريب، ولو قيل: من أشجع أهل الكوفة لما عدوتك، فما هذا الذي أراه منك؟ فقال: إني والله أخير نفسي بين الجنة والنار، فوالله لا أختار على الجنة شيئاً ولو قطعت وأحرقت.
ثم ضرب فرسه قاصداً إلى الحسين ويده على رأسه وهو يقول: (اللهم إني تبت إليك فتب علي، فقد أرعبت قلوب أوليائك وأولاد بنت نبيك)
وقال للحسين: جعلت فداك أنا صاحبك الذي حبسك عن الرجوع وجعجع بك، والله ما ظننت أن القوم يبلغون بك ما أرى، وأنا تائب إلى الله، فهل ترى لي من توبة؟ فقال الحسين: (نعم.. يتوب الله عليك.. فانزل)، فقال: أنا لك فارساً خيرٌ مني راجلاً، وإلى النزول يؤول آخر أمري.
ثم قال: فإذا كنت أول من خرج عليك، فأذن لي أن أكون أول قتيل بين يديك، لعلي أكون ممن يصافح جدك محمداً غداً في القيامة.
فأذن له، فجعل يقاتل أحسن قتال، ثم استشهد، فحمل إلى الحسين، فجعل يمسح التراب عن وجهه ويقول: (أنت الحر كما سمتك أمك، حر في الدنيا وحر الآخرة)
وخرج برير بن خضير، وكان زاهداً عابداً، فخرج إليه يزيد بن معقل، واتفقا على المباهلة إلى الله: في أن يقتل المحق منهما المبطل، فتلاقيا، فقتله برير، ولم يزل يقاتل حتى قتل.
وخرج وهب بن حباب الكلبي، فأحسن في الجلاد وبالغ في الجهاد، وكان معه زوجته ووالدته، فرجع إليهما وقال: يا أماه، أرضيت أم لا؟ فقالت: لا، ما رضيت حتى تقتل بين يدي الحسين.. وقالت امرأته: بالله عليك لا تفجعني في نفسك.. فقالت له أمه: يا بني اعزب عن قولها وارجع فقاتل بين يدي ابن بنت نبيك تنل شفاعة جده يوم القيامة.. فرجع، ولم يزل يقاتل حتى قطعت يداه، فأخذت امرأته عموداً، فأقبلت نحوه وهي تقول: فداك أبي وأمي قاتل دون الطيبين حرم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فأقبل ليردها إلى النساء، فأخذت بثوبه، وقالت: لن أعود دون أن أموت معك.. فقال الحسين: (جزيتم من أهل بيتٍ خيراً، ارجعي إلى النساء يرحمك الله)، فانصرفت إليهن، ولم يزل الكلبي يقاتل حتى قتل.
ثم خرج مسلم بن عوسجة، فبالغ في قتال الأعداء، وصبر على أهوال البلاء، حتى سقط إلى الأرض وبه رمق، فمشى إليه الحسين ومعه حبيب بن مظاهر، فقال له الحسين: (رحمك الله يا مسلم، فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلو تبديلاً)، ودنا منه حبيب، فقال: عز والله علي مصرعك يا مسلم.. أبشر بالجنة.. فقال له بصوت ضعيف: بشرك الله بخيرٍ.. ثم قال له حبيب: لولا أنني أعلم أني في الأثر لأحببت أن توصي إلي بكل ما أهمك.. فقال له مسلم: فإني أوصيك بهذا ـ وأشار بيده إلى الحسين ـ فقاتل دونه حتى تموت.. فقال له حبيب: لأنعمنك عيناً.. ثم مات.
فخرج عمرو بن قرظة الأنصاري، فاستأذن الحسين، فأذن له، فأبلى بلاء حسنا حتى قتل جمعاً كثيراً من حزب ابن زياد، وكان لا يأتي إلى الحسين سهمٌ إلا اتقاه بيده ولا سيف إلا تلقاه بمهجته، فلم يكن يصل إلى الحسين سوء، حتى أثخن بالجراح.. فالتفت إلى الحسين وقال: يابن رسول الله أوفيت؟ قال: (نعم، أنت أمامي في الجنة، فاقرأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عني السلام وأعلمه أني في الأثر)، فقاتل حتى قتل.
ثم برز جون مولى أبي ذر، وكان عبداً أسوداً، فقال له الحسين:(أنت في إذنٍ مني، فإنما تبعتنا طلباً للعافية، فلا تبتل بطريقنا)، فقال: يا ابن رسول الله أنا في الرخاء ألحس قصاعكم، وفي الشدة أخذلكم، والله إن ريحي لمنتن، وإن حسبي للئيم ولوني لأسود، فتنفس علي بالجنة، فيطيب ريحي ويشرف حسبي ويبيض وجهي، لا والله لا أفارقكم حتى يختلط هذا الدم الأسود مع دمائكم). ثم قاتل حتى قتل.
ثم برز عمرو بن خالد الصيداوي، فقال للحسين: (يا أبا عبدالله، جعلت فداك قد هممت أن ألحق بأصحابي، وكرهت أن أتخلف فأراك وحيداً فريداً بين أهلك قتيلاً)، فقال له الحسين: (تقدم، فإنا لا حقون بك عن ساعة)، فتقدم فقاتل حتى قتل.
وجاء حنظلة بن سعد الشبامي، فوقف بين يدي الحسين يقيه السهام والسيوف والرماح بوجهه ونحره، وأخذ ينادي: (يا قوم يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ (30) مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ (31) وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ (32) يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (33)} (غافر).. يا قوم لا تقتلوا حسيناً، فيسحتكم الله بعذابٍ، وقد خاب من افترى)، ثم التفت إلى الحسين وقال: (أفلا نروح إلى ربنا ونلحق بأصحابنا؟)، فقال له: (بل رح إلى ما هو خيرٌ لك من الدنيا وما فيها وإلى ملكٍ لا يبلى)، فتقدم، فقاتل قتال الأبطال، وصبر على احتمال الأهوال، حتى قتل.
وحضرت صلاة الظهر، فأمر الحسين زهير بن القين وسعيد بن عبدالله الحنفي أن يتقدما أمامه بنصف من تخلف معه، ثم صلى بهم صلاة الخوف.
فوصل إلى الحسين سهمٌ، فتقدم سعيد بن عبدالله الحنفي، ووقف يقيه بنفسه، ما زال ولا تخطى حتى سقط إلى الأرض، وهو يقول: (اللهم العنهم لعن عادٍ وثمود، اللهم أبلغ نبيك عني السلام، وأبلغه ما لقيت من ألم الجراح، فإني أردت ثوابك في نصر ذرية نبيك)، ثم قضى نحبه، فوجد به ثلاثة عشر سهمأً سوى ما به من ضرب السيوف وطعن الرماح.
ثم تقدم سويد بن عمر بن أبي المطاع، وكان شريفاً كثير الصلاة، فقاتل قتال الأسد الباسل، وبالغ في الصبر على الخطب النازل، حتى سقط بين القتلى، وقد أثخن بالجراح، ولم يزل كذلك وليس به حراك حتى سمعهم يقولون: قتل الحسين، فتحامل وأخرج من خفه سكيناً، وجعل يقاتلهم بها حتى قتل.
وجعل أصحاب الحسين يقاتلون بين يديه.. فلما لم يبق معه إلا أهل بيته، خرج علي بن الحسين، وكان من أصبح الناس وجهاً وأحسنهم خلقاً، فاستأذن أباه في القتال، فأذن له.. ثم نظر إليه نظرة آيسٍ منه، وأرخى عينيه وبكى، ثم قال: (اللهم اشهد، فقد برز إليهم غلامٌ أشبه الناس خلقاً وخلقاً ومنطقاً برسولك صلى الله عليه وآله وسلم، وكنا إذا اشتقنا إلى نبيك نظرنا إليه)، فصاح وقال: (يا ابن سعد قطع الله رحمك كما قطعت رحمي)، فتقدم نحو القوم، فقاتل قتالاً شديداً وقتل جمعاً كثيراً.. ثم رجع إلى أبيه وقال: يا أبه، العطش قد قتلني، وثقل الحديد قد أجهدني، فهل إلى شربة ماء من سبيل؟
فبكى الحسين عليه السلام وقال: (واغوثاه يا بني، من أين آتي بالماء.. قاتل قليلاً، فما أسرع ما تلقى جدك محمداً عليه السلام، فيسقيك بكأسه الأوفى شربةً لا تظلمأ بعدها)
فرجع إلى موقف النزال، وقاتل أعظم القتال، فرماه منقذ بن مرة العبدي بسهمٍ فصرعه، فنادى: (يا أبتاه عليك مني السلام، هذا جدي يقرؤك السلام ويقول لك: عجل القدوم علينا)، ثم شهق شهقة فمات.
فجاء الحسين حتى وقف عليه، ووضع خده على خده، وقال: (قتل الله قوماً قتلوك، ما أجرأهم على الله وعلى انتهاك حرمة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، على الدنيا بعدك العفاء)
وخرجت زينب بنت علي تنادي: (يا حبيباه يا بن أخاه)، وجاءت فأكبت عليه.. فجاء الحسين، فأخذها وردها إلى النساء، ثم جعل أهل بيته يخرج منهم الرجل بعد الرجل، حتى قتل القوم منهم جماعة، فصاح الحسين في تلك الحال: (صبراً يا بني عمومتي، صبراً يا أهل بيتي صبراً، فوالله لا رأيتم هواناً بعد هذا اليوم أبداً)
وخرج القاسم بن الحسن بن علي بن أبي طالب، وقد كان غلاما كأن وجهه شقة قمر، فجعل يقاتل، فضربه ابن فضيل الأزدي على رأسه، ففلقه، فوقع الغلام لوجهه وصاح: يا عماه.. فجلى الحسين فضرب ابن فضيل بالسيف، فاتقاها بساعده فأطنها من لدن المرفق، فصاح صيحة سمعه أهل العسكر، فحمل أهل الكوفة ليستنقذوه، فوطأته الخيل حتى هلك.
وانجلت الغبرة، ورؤي الحسين قائماً على رأس الغلام وهو يفحص برجله، والحسين يقول: (بعداً لقومٍ قتلوك، ومن خصمهم يوم القيامة فيك جدك)
ثم قال: (عز والله على عمك أن تدعوه فلا يجيبك، أو يجيبك فلا ينفعك صوته، هذا يوم والله كثر واتره وقل ناصره)، ثم حمل الغلام على صدره حتى ألقاه بين القتلى من أهل بيته.
ولما رأى الحسين مصارع فتيانه وأحبته، عزم على لقاء القوم بمهجته، ونادى: (هل من ذاب يذب عن حرم رسول الله؟ هل من موحدٍ يخاف الله فينا؟ هل من مغيثٍ يرجو الله بإغاثتنا؟ هل من معينٍ يرجو ما عند الله في إعانتنا؟)
فارتفعت أصوات النساء بالعويل، فتقدم إلى باب الخيمة وقال لزينب: (ناوليني ولدي الصغير([32])حتى أودعه)، فأخذه وأومأ إليه ليقبله، ثم أخذه على يده، وقال: (يا قوم قد قتلتم شيعتي وأهل بيتي، وقد بقي هذا الطفل يتلظى عطشاً، فاسقوه شربةً من الماء)، فبينما هو يخاطبهم إذ رماه رجل منهم بسهم فذبحه، فقال لزينب: (خذيه)، ثم تلقى الدم بكفيه حتى امتلأتا، ورمى بالدم نحو السماء وقال: (هون علي ما نزل بي أنه بعين الله)
واشتد العطش بالحسين، فركب المسناة يريد الفرات، والعباس أخوه بين يديه، فاعترضتهما خيل ابن سعد، فرمى رجل من بني دارم الحسين بسهمٍ فأثبته في حنكه الشريف، فانتزع السهم وبسط يده تحت حنكه حتى امتلأت راحتاه من الدم، ثم رمى به وقال: (اللهم إني أشكوه إليك ما يفعل بابن بنت نبيك)
ثم اقتطعوا العباس عنه، وأحاطوا به من كل جانب ومكان، حتى قتلوه، فبكى الحسين بكاءً شديداً.
ثم إن الحسين دعا الناس إلى البراز، فلم يزل يقتل كل من برز اليه، حتى قتل مقتلة عظيمة، وهو في ذلك يقول:
القتل أولى من ركوب العار والعار أولى من دخول النار
ثم صاح بهم: (ويحكم يا شيعة آل أبي سفيان، إن لم يكن لكم دين وكنتم لاتخافون المعاد فكونوا أحراراً في دنياكم هذه، وارجعوا إلى أحسابكم إن كنتم عرباً كما تزعمون)، فناداه شمر: ما تقول يابن فاطمة؟ قال: (أقول: أنا الذي أقتاتلكم وتقاتلوني والنساء ليس عليهن جناح، فامنعوا أعتاتكم وجهالكم وطغاتكم من التعرض لحرمي ما دمت حياً)، فقال شمر: لك ذلك يا ابن فاطمة، وقصدوه بالحرب، فجعل يحمل عليهم ويحملون عليه، وهو مع ذلك يطلب شربة من ماء فلا يجد، حتى أصابه اثنتان وسبعون جراحة.
فوقف يستريح ساعة وقد ضعف عن القتال، فبينما هو واقف اذ أتاه حجر، فوقع على جبهته، فأخذ الثوب ليمسح الدم عن جبهته، فأتاه سهم مسموم له ثلاث شعب، فوقع على قلبه، فقال: (بسم الله وبالله وعلى ملة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم)، ثم رفع رأسه إلى السماء وقال: (اللهم إنك تعلم أنهم يقتلون رجلاً ليس على وجه الأرض ابن بنت نبي غيره)
ثم أخذ السهم، فأخرجه من وراء ظهره، فانبعث الدم كأنه ميزاب، فضعف عن القتال ووقف، فكلما أتاه رجل انصرف عنه، كراهية أن يلقى الله بدمه، حتى جاءه رجل من كندة يقال له مالك بن النسر، فشتم الحسين وضربه على رأسه الشريف بالسيف، فقطع البرنس ووصل السيف إلى رأسه وامتلأ البرنس دماً.
فاستدعى الحسين بخرقة، فشد بها رأسه، واستدعى بقلنسوة فلبسها واعتم عليها، فلبثوا هنيهة، ثم عادوا إليه وأحاطوا به، فخرج عبد الله بن الحسن بن علي ـ وهوغلام لم يراهق ـ من عند النساء، فشهد حتى وقف إلى جنب الحسين، فلحقته زينب بنت علي لتحبسه، فأبى وامتنع امتناعاً شديداً وقال: والله لا أفارق عمي، فأهوى بحر بن كعب أو حرملة بن الكاهل إلى الحسين بالسيف، فقال له الغلام: ويلك أتقتل عمي، فضربه بالسيف، فاتقاها الغلام بيده، فاطنها إلى الجلد، فإذا هي معلقة، فنادى الغلام: يا عماه، فأخذه الحسين فضمه إليه وقال: (يا بن أخي، اصبر على ما نزل بك واحتسب في ذلك الخير، فإن الله يلحقك بآبائك الصالحين)، فرماه حرملة بن الكاهل بسهم، فذبحه وهو في حجر عمه.
ثم إن شمربن ذي الجوشن حمل على فسطاط الحسين، فطعنه بالرمح، ثم قال: علي بالنار أحرقه على من فيه، فقال له الحسين:(يابن ذي الجوشن، أنت الداعي بالنار لتحرق على أهلي، أحرقك الله بالنار)، وجاء شبث فوبخه، فاستحيا وانصرف.
ولما أثخن الحسين بالجراح، طعنه صالح بن وهب المزني على خاصرته طعنة، فسقط الحسين عن فرسه إلى الأرض على خده الأيمن، ثم قام، وخرجت زينب من باب االفسطاط وهي تنادي: وا أخاه، وا سيداه، وا أهل بيتاه، ليت السماء انطبقت على الأرض، وليت الجبال تدكدكت على السهل.. وصاح شمر بأصحابه: ما تنتظرون بالرجل.. فحملوا عليه من كل جانب إلى أن قتل، وقد وجد في قميصه مائة وبضع عشرة ما بين رمية وضربة وطعنه.
كانت الدموع تفيض من عيون الجموع، وهي تستمع لتلك الأحاديث العذبة التي ألقتها بكل قوة بنت الهدى، فأحس آحاد هعام أن كل ما يريد أن يقوله يكاد يتبخر مع تلك الأحاديث القوية المجلجلة.. فراح يقاطعها قائلا: نحن لا نتحدث عن كل هذا.. نحن لا نناقش هنا قضايا الإيمان والكفر.. فلكل فرد الحرية في نوع الإيمان الذي يختاره..
أنا مثلا رجل يهودي.. آبائي كلهم يهود.. ولكن ذلك لم يمنعني من الثورة على اليهودية.
لقد ثرت على اليهودية التي شعرت أنها كانت سببا فيما حصل لليهود من مآسي..
ولكني عندما ثرت عليها لم أخرج من اليهودية.. بل قمت بتصحيح لليهودية.. أو استبدال لليهودية النائمة بيهودية مستيقظة متحركة ثائرة.
لقد لقحت الديانة اليهودية بأفكار نيتشة.. فتحولت اليهودية إلى ديانة الثورة والقوة..
لقد رأيت أن موسى وحده عاجز عن تسيير دفة اليهودية.. فرحت أعينه بنيتشة.. وقد ولد من بينهما تلك الفكرة القوية العظيمة فكرة الصهيونية.. التي استطاعت أن تحقق حلم اليهود الذي عجز جميع الأنبياء عن تحقيقه.
ما إن قال هذا حتى قامت عجوز.. ولكنها تحمل من الهمة والقوة ما لا تقوم الجبال به.. وقد عرفت بعد ذلك أن اسمها (زينب الكبرى)([33])
قامت، وقالت: لقد تحدثت رفيقاتي عن آثار الإيمان في القوة.. تحدثن عن أثره في التوكل.. وأثره في الثبات.. وسأحدثكم عن أثره في الثورة والمواجهة..
فلا يكفي المستضعف أن يثبت.. بل عليه أن يثور ويواجه..
إن المؤمن – بما اكتسبه من قوة إيمانية – أولى الناس بالثورة والمواجهة.. فمن ثمار القوة([34]) التي ينشئها الإيمان في نفسه أنه لا يفريه وعد، ولا يثنيه وعيد، ولا ينحرف به طمع متسلط، أو هوى جائر، أو شهوة طاغية، فهو دائماً داع إلى الخير، ثائر على الشر؛ آمر بالمعروف، ناه عن المنكر، هاد إلى الحق والعدل، مقاوم للباطل والظلم، يغير المنكر بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان.
لقد رأينا الناس لا يضعف نفوسهم شيء كالحرص على الحياة وإن تكن ذليلة، والهرب من الموت وإن كان كريماً، ولا يغرس فيهم القوة شيء كالاستهانة بالحياة، والإقبال على الموت في سبيل الحق الذي يعتقدونه ولا شيء كالإيمان بالله وبالخلود يهون على الإنسان لقاء الموت، وفراق الحياة.
والمرء إذا هانت عليه الدنيا، ولم يبال بالموت.. هان عليه جبابرة الأرض، وملوك الناس، ونظر إلى الذهب كما ينظر إلى الحجر، وإلى السيف كما ينظر إلى العصا أو هو أدنى.
الحرص والخوف هما اللذان يضعفان النفوس، ويحنيان الرؤوس، ويذلان الأعناق.. وإذا لم يكن حرص ولا خوف فلا سبيل إلى الضعف بحال من الأحوال.
ولذلك، فإن الانتصار للحق والثورة على الباطل عنصر ضروري للحياة الإسلامية، فإن فصل عنها فقدت أكبر ما تمتاز به، لأن الإسلام أسس قومية المسلم عليه، وجعلهم شهداء الحق على العالم كله، فكما يجب على الشاهد ألا يتوانى في إبداء شهادته كذلك يتحتم على المسلم ألا يقصر في إعلاء الحق، ولا يبالي في أداء فرضه بمصيبة أو بلاء، بل يصدع به حيثما كان، ولو لاقى دونه الحمام.
ولهذا نجد (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) من أكبر الفرائض الإسلامية.
التوحيد أساس الإسلام وقطب رحاه، وضده الشوك الذي أشرب المسلمون بغضه في قلوبهم.
والتوحيد يعلم المسلمين أن الخوف والخشوع لا يكون إلا لله الواحد العظيم، أما غيره فلا يخاف منه ولا يخشع له، وإن من يخشى غير الله فهو مشرك به، وجاعل غيره أهلاً للخوف والطاعة، وهذا ما لا يجتمع مع التوحيد أبداً.
الإسلام من أوله إلى آخره دعوة عامة، إلى البسالة والجرأة والتضحية، والاستهانة بالموت في سبيل الحق.
والقرآن يكرر كل حين هذا المعنى، فالله تعالى يقول:{ الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا (39)} (الأحزاب).. ويقول:{ مَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (18)} (التوبة)، ويقول:{ أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (36)} (الزمر)
والرسول صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب، ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله)([35])
ويقول:(أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر)([36])
وقد كان صلى الله عليه وآله وسلم يأخذ العهد من أصحابه أن يقولوا الحق أينما كانوا([37]).
***
بقيت طيلة ذلك اليوم أستمع إلى النسوة المؤمنات وهن يتحدثن بكل قوة.. وقد تعجبت لانفراد النساء في الحديث في ذلك الموقف دون الرجال، وقد كفاني البحث عن سر هذا (آحاد هعام) بقوله بعد أن فرغ النسوة من حديثهن: ما أجمل ما تحدثتن به.. ولكن عجبي منكن إذ تحدثتن دون الرجال.. فما سر ذلك؟
قامت سمية، وقالت: الإسلام لا يفرق بين الرجل والمرأة.. فالنساء شقائق الرجال.. فلذلك هو يزرع القوة في الجميع.. لا يفرق في ذلك بين إنسان وإنسان.
وإنما تحدثت أنا مع أخواتي دون الرجال، لتعلم وليعلم قومك أن الرجال الذي يؤون إلى أمثال هؤلاء النساء يستحيل أن يصيبهم ضعف، أو يتمكن منهم ظالم أو مستبد.
إن قيمة الرجل عندنا بقدر قوته.. وقوته بقدر إيمانه.. ولذلك فإن موازين الكرامة عندنا مرتبطة بالإيمان.. فلا قوة إلا بالإيمان.
بعد أن سمع (آحاد هعام) هذه الأحاديث وجم قليلا، ثم ضغط على يديه يشير بهما بكل قوة، وكأنه يبعد شيئا عنه، ثم راح يصيح: علموني ما تقولون إذا أردتم أن تدخلوا هذا الدين.. فلا أحسبه إلا دينا صالحا.
عندما سمعت الجموع هذا راحت تهلل وتكبر
بكل قوة.. وقد صحت معهم بالتهليل والتكبير من غير أن أشعر، وقد تنزلت علي حينها
أنوار جديدة اهتديت بها بعد ذلك إلى شمس محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
([1]) أشير به إلى آحاد هعام (1856-1927) Ahad Ha-am، وهو كاتب يهودي، بل ذكر المسيري أنه أحد أهم الكُتَّاب والمفكرين في أدب العبرية الحديث، كما يُعَدُّ فيلسوف الصهيونية الثقافية.. بل يعتبره البعض المؤسس الحقيقي للفكر الصهيوني.. وقد نزل آحاد هعام إلى ميدان النشاط الصهيوني، فانضم إلى جماعة أحباء صهيون وأصبح مفكرها الأساسي، لكنه ما لبث أن انتقد سياسة هذه الجمعية الداعية إلى الاستيطان التسللي في فلسطين وذلك في مقال بعنوان (ليس هذا هو الطريق) وقد عزَّز مقاله الأول بدراستين نقديتين كتبهما بعد زيارتيه لفلسطين عامي 1891 و1893. ومن أهم مقالاته الأخرى، (الدولة اليهودية والمسألة اليهودية) (1897) و(الجسد والروح) (1904).. وسنرى سر اختياره خلال هذا الفصل.
([2]) المعلومات التي سنذكرها هنا عن (آحاد هعام) منقولة بتصرف من (الموسوعة اليهودية) للمسيري.
([3]) ذكرنا نيتشة والأسس التي يقوم عليها فكره في رسالة (سلام للعالمين) من هذه السلسلة.
([4]) ذكر المسيري أن هناك فرقا بين الفكر النيتشوي وفلسفة نيتشه.. ففلسفة نيتشه توجد في أعماله الفلسفية، وهي فلسفة متناقضة تحوي الكثير من الأفكار النبيلة والخسيسة والعاقلة والمجنونة.. أما الفكر النيتشوي فهو منظومة شبه متكاملة، استنبطها الإنسان الغربي من أعمال نيتشه وحققت من الذيوع والشيوع ما يفوق أعمال نيتشه الفلسفية.. والمهم في دراسة تاريخ الأفكار هو الفكر النيتشوي، وليس أعماله الفلسفية. فهناك الكثير من النيتشويين ممن لم يقرأوا صفحة واحدة من أعمال نيتشه، بل الذين اتخذوا مواقفهم النيتشوية قبل أن يخط نيتشه حرفاً واحداً.. فالخطاب الإمبريالي، منذ لحظة ظهوره في القرن السابع عشر، كان خطاباً نيتشوياً. (انظر الموسوعة اليهودية، للمسيري)
([5]) أشير به إلى أم البنين، وهي زوجة علي تزوّجها بعد وفاة فاطمة الزهراء ،.. وهي فاطمة بنت حزام من قبيلة بني كلاب، وهي أخت لبيد الشاعر كانت امرأة شريفة ومن أسرة أصيلة ومعروفة بالشجاعة. وكانت تبدي محبة فائقة لأولاد الزهراء عليها السلام.
أنجبت من عليّ أربعة أبناء هم: العباس، جعفر، عبد الله، عثمان، استشهدوا بأجمعهم مع الحسين في يوم الطف(الكامل لابن الأثير333:3 أدب الطف72:1).
دأبت بعد استشهاد أبنائها على الذهاب يوميا إلى البقيع وتأخذ معها أبناء العباس، وتندب أبناءها وكانت نساء المدينة يبكين أيضا لبكائها، وكانت ترثي ولدها العباس بقصائد من الشعر(سفينة البحار510:1)
كانت هذه المرأة الجليلة أم الشهداء الأربعة تسمّى قبل ولادة أبنائها بفاطمة؛ ولكن أصبحت تدعى من بعد ولادتهم بأمّ البنين، كان عمر العباس 34سنة، وعبدالله 25سنة، وعثمان 21سنة، وجعفر 19سنة. (انظر: موسوعة عاشوراء)
([6]) رجعنا في هذا الحديث لمقال جميل كتبته (فوز بنت عبد اللطيف كردي) بعنوان (وقفه مع الثقة بالنفس) في مجلة البيان.. وقد تصرفنا فيه بالطريقة التي تعودنا عليها في هذه السلسلة.
([7]) هذه الأدعية وردت في محال مختلفة، وهي من الشهرة بحيث لم نحتج إلى توثيقها.
([8]) إشارة إلى حديث الأبرص والأقرع والأعمى.. رواه البخاري ومسلم.
([9]) رواه أحمد ومسلم والنسائي.
([10]) أشير به إلى (سمية بنت خياط)، وهي أم عمار بن ياسر وهى أول شهيدة في الإسلام، وكانت مولاة لأبى حذيفة بن المغيرة، وهي من المعذبات في الله عز وجل، وقد بشرها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مع أهل بيتها جميعا بالجنة.
([11]) رجعنا في هذا المبحث إلى كتاب (الإيمان والحياة)
([12]) بتصرف من (العروة الوثقى، ص 53)
([13]) رواه البخاري ومسلم.
([14]) أشير به إلى بنت الهدى أخت محمد باقر الصدر وقد استشهدت مع أخيها في سجون الطواغيت، وقد سبق أن تحدثنا عن أخيها شهيد الإسلام محمد باقر الصدر في رسالة [عدالة للعالمين]
([15]) رواه أحمد وأبو يعلى والطبرانى في الكبير وفى الأوسط والبزار والحاكم والبيهقى في الدلائل.
([16]) رواه البخاري.
([17]) ذكرنا التفاصيل الكثيرة المرتبطة بثبات النبي صلى الله عليه وآله وسلم في فصل (ثبات) من رسالة (معجزات حسية) من هذه السلسلة.
([18]) رواه أحمد.
([19]) رواه الطبراني في الأوسط والكبير، إلا أنه قال: من جلس، مكان: كبس.. ورواه أبو يعلى باختصار يسير من أوله، ورجال أبي يعلى رجال الصحيح، وهذا من دلائل إيمان أبي طالب – رضي الله عنه – وقد ذكرنا بعض التفاصيل المثبتة لذلك في رسالة (أسرار الأقدار) وغيرها.
([20]) رواه ابن إسحق.
([21]) رواه ابن إسحاق.
([22]) رواه أحمد.
([23]) رواه مسلم.
([24]) رواه الطبراني في الأوسط.
([25]) أوردنا هنا ـ باختصار ـ ما وقع من تضحيات عظيمة في كربلاء باعتبارها رمزا من الرموز التي تدل على اهتمام الصالحين من المسلمين ـ بدءا من آل بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم ـ بقضايا العدل، ورفض الجور والاستبداد.. وفي هذه القصة أعظم رد على علماء السلاطين الذين شرعوا للاستبداد، وبرروا للمستبدين حورهم وظلمهم واستبدادهم.
وقد كان مصدرنا الأساسي في هذه الأحداث التي أوردناها كتاب (الملهوف على قتلى الطفوف) لمؤلفه السيد رضي الدين أبو القاسم علي بن سعد الدين المعروف بابن طاووس.
([26]) رواه أحمد الترمذي وابن ماجة.
([27]) عبدالله بن جعفر بن أبي طالب، صحابي، ولد بأرض الحبشة لما هاجر أبواه إليها، وهو أول من ولد بها من المسلمين، كان كريماً يسمى بحر الجود، وللشعراء فيه مدائح، وكان أحد الأمراء في جيش علي يوم صفين، توفي بالمدينة سنة 80 هـ، وقيل: غير ذلك.
([28]) هو أبو الفضل العباس بن الامام علي بن أبي طالب وُلد سنة (26 هـ) في اليوم الرابع من شهر شعبان. له العديد من الألقاب و منها قمر بني هاشم، والسقّاء (لقيامه بسقاية عطاشى أهل البيت) و بطل العلقمي (العلقمي هو اسم للنهر الذي استشهد على ضفافه) و حامل اللواء و كبش الكتيبة (لدوره في معركة كربلاء) و العميد و حامي الظعينة (لدوره في حماية وحراسة نساء أهل البيت طيلة انتقالهنّ من يثرب إلى كربلاء). استشهد مع أخيه الإمام الحسين بن علي بن أبي طالب في واقعة الطف في يوم عاشوراء سنة 61 هـ في كربلاء على يد الجيش الأموي.
([29]) هو مسلم بن عوسجة الأسدي، من أبطال العرب في صدر الإسلام، أول شهيد من أنصار الحسين بعد قتلى الحملة الأولى، كان صحابياً ممن رأى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقد سبق أن ذكرنا ترجمته في هذه الرسالة.
([30]) البرد: ثوب مخطط، وقد يقال لغير المخطط أيضاً، وجمعه برود وأبرد، ومنه الحديث: الكفن يكون برداً.
([31]) فروة بن مسيك أو مسيكة بن الحارث بن سلمة الغطيفي المرادي، أبو عمرو، صحابي، من الولاة، له شعر، وهو من اليمن، كان موالياً لملوك كندة في الجاهلية، رحل إلى مكة سنة تسع أو عشر وأسلم، سكن الكوفة في أواخر أعوامه، مات سنة 30 هـ.
([32]) هو عبد الله بن الحسين بن علي بن أبي طالب.
([33]) أشير به إلى المرأة العظيمة زينب الكبرى سلام الله عليها، وهي التي حملت رسالة دم شهداء كربلاء، ورافقت الحسين في ثورته الدامية يوم الطف. بنت أمير المؤمنين، وفاطمة الزهراء. ولدت في 5 جمادي الأولى في سنة الخامسة للهجرة بالمدينة. ولدت بعد الإمام الحسين. من ألقابها: عقيلة بني هاشم، وعقيلة الطالبيين، والموثّقة، والعارفة، والعالمة، والمحدثة، والفاضلة، والكاملة، وعابدة آل علي. واسم زينب مخفف لكلمة (زينة الأب)
كانت معروفة بالشجاعة، والفصاحة، ورباطة الجأش، والزهد، والورع، والعفاف، والشهامة (انظر: الخصائص الزينبية للسيد نورالدين الجزائري)
([34]) بعض ما نذكره هنا من (الإيمان والحياة)
([35]) رواه الحاكم على شرط الصحيحين.
([36]) رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه.
([37]) رواه البخاري ومسلم.