سابعا ـ القائد

سابعا ـ القائد

بعد أن خرجت من (بارلا) وجبالها الشامخة قصدت بلدة عجيبة لا أزال إلى الآن أستغرب كيف دخلت إليها، ولا كيف خرجت منها.. لقد كانت أشبه بالحلم.. بل لعلها كانت المدينة الفاضلة التي حلم بها جميع الفلاسفة والمفكرون، ولم يستطع بناءها إلا محمد صلى الله عليه وآله وسلم .

قلنا: ما اسمها؟

قال: لم يتح لي أن أعرف عنها إلا ما سأقصه عليكم..

في شارع من شوارع تلك المدينة .. وأنا في شرودي لقيت رجلا شابا ممتلئا قوة وشبابا يحييني بأدب، ويقول: أرى أنك غريب بهذه البلاد.. فإن احتجت إلى شيء، فاطلبني، فكل الناس يعرفونني في هذه البلدة..

قل لهم: (أوصلوني إلى محمد المهدي([1])).. قل هذه الكلمة فقط، لتجد نفسك أمامي، وتجد كل مطالبك محققة.

تعجبت من هذا الموقف الشهم، وقلت من غير أن أشعر: ممن ورثت هذا السلوك العظيم؟

قال: من الإنسان الكامل.

قلت متعجبا: الإنسان الكامل!؟

قال: أجل.. ألست تبحث عنه؟

قلت: بلى.. لقد قطعت في سبيل البحث عنه الفيافي والقفار..

قال: فهل وجدته؟

قلت: وجدت بعض ورثة محمد.. وكلهم يخبر أن محمدا هو الإنسان الكامل.

قال: صدقوك فيما أخبروك.. فما عرفت منهم؟

قلت: لقد عرفت محمدا العارف، ومحمدا العابد، ومحمدا الزاهد، ومحمدا الورع، ومحمدا الإمام.

قال: فاصحبني لتعرف محمدا القائد.

قلت: وهل كان محمد قائدا؟

قال: لن يكتمل الإنسان الكامل حتى يكون له حظ من القيادة.. وحظ من النجاح فيها.

قلت: فمن أين تعلمت علوم القيادة حتى تعرفني بمحمد القائد؟

قال: من محمد صلى الله عليه وآله وسلم.. فهو الإنسان الذي استطعت من خلال التعلم من مدرسته أن أحول هذه المدينة إلى أسعد مدن الأرض، وأكثرها استقرارا، وأوفرها عدالة.

قلت: ألك سلطة في هذه المدينة خولت لك ذلك؟

قال: أنا أمير هذه المدينة.. وقد رضيني أهلها صغارهم وكبارهم من غير أن أطلب منهم ذلك.

قلت: فما الذي رغبهم فيك؟

قال: تلك قصة طويلة.. ولها علاقة بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم.. ولا يليق أن أحدثك عنها هنا.. تعال معي إلى البيت، وسأحدثك منها ما تقر به عينك، وتعلم أن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم هو القائد الوحيد الذي اكتمل له من فن القيادة ما لم يكتمل لغيره.

***

التفت الوارث إلينا، وقال: لقد كان (محمد المهدي) هو الوارث السابع الذي تعلمت منه علم اليقين بأن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم هو الرجل القائد الذي استطاع أن يؤسس دولة الأجساد، كما كان الإمام الذي استطاع أن يؤسس دول الأرواح.

سرت مع محمد المهدي إلى بيته.. وقد استغربت عندما أدخلني بيتا متواضعا بسيطا، فقلت: أهذا بيتك!؟.. لقد ذكرت لي أنك أمير هذه البلدة.

قال: أجل.. وما علاقة ذلك ببيتي؟

قلت: عهدي ببيوت القادة والساسة من أكثر البيوت رفاهية.. فالقائد لا يمكن أن يفكر إلا في بيت مكيف مملوء بالزينة والزخارف.

قال: ألم أقل لك بأن مصدر قيادتي وراثة من محمد صلى الله عليه وآله وسلم؟.. فهل كان لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم من البيوت ما ذكرت؟

قلت: الوضع مختلف تماما.. نحن الآن في عصر آخر.

قال: إن ما تقوله هو الحجاب الأعظم الذي زور وراثة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. نعم الزمن زمن آخر.. ولكن البشر هم عين البشر.

في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان القياصرة والأكاسرة، وكان لهم من النعيم ما لم يكن لملوك هذا الزمان ورؤسائه.. فهل ترى محمدا صلى الله عليه وآله وسلم تأسى بهم، أم تأسى بالحقيقة التي طلب منه أن يكون عليها.

قلت: لقد رضي محمد لنفسه هذه الحياة.. وهو لم يوجبها على غيره.

قال: من أراد أن يرث محمدا في قيادته، فعليه أن يحيا حياته.

قلت: إنك تكلف القادة عنتا.

قال: أصدقك القول.. أنا لم أصل إلى القيادة إلا من هذا الطريق..

قلت: كيف ذلك؟

قال: لقد رأيت قومي يتصارعون في انتخابات تملأ أجواءهم بالبغضاء والحقد والقطيعة.. فنأيت عن كل ذلك.. واخترت أن أصل إلى الناس بالأسلوب الذي وصل به محمد صلى الله عليه وآله وسلم..

وقد استطعت أن أصل من خلاله إلى القيادة التي حلمت بها أحزاب ضخمة.. وشركات كبرى.. وعصبيات عريقة.

قلت: فكيف وصلت إلى ذلك؟

قال: لقد رحت أبحث في تاريخ البشرية عن أمهر قائد استطاع أن ينجح في أقل مدة في تحقيق ما عجز غيره عن تحقيقه.

قلت: لم؟

قال: لأسلك سلوكه.. وأتحقق بالقيادة الناجحة التي طالما حلمت بها.

قلت: فما وجدت؟

قال: لقد وجدت القيادة بكمالها وجمالها وترفعها تأبى إلا أن تكتمل في محمد صلى الله عليه وآله وسلم..

قلت: فقد استغللت تعرفك عليه في الوصول إلى ما هفت إليه نفسك.

قال: عندما عرفته زهدت في القيادة.. لكنها جرت خلفي.. وأبت إلا أن أكون قائدا.

قلت: كيف ذلك؟

قال: لا تستعجل.. فما تعلم من استعجل.. هيا معي إلى البيت لترتاح.. وفي الغد إن شاء الله سنزور المدينة.. وسأخبرك عن كيفية استثماري لقيادة النبي صلى الله عليه وآله وسلم واستنانني بها.. ولتعلم مدى النجاح الذي يحققه من أحيا هذه السنة.

السياسة

بت تلك الليلة في بيت محمد المهدي.. في الجناح الذي خصصه للضيوف.. ولم أكن الوحيد فيه، بل كان معي ناس من مختلف الأوطان والمشارب والمذاهب.. وكان محمد المهدي يقدم لهم من الخدمات ما يملأ قلوبهم محبة له وإعجابا به.

سألته عن سر تصرفه هذا، فقال: هذه سنة من سنن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الحياة، وفي القيادة.. فالقائد هو الذي يخالط الناس ويعرف حاجاتهم ويخدمهم، لتكون طاعتهم له طاعة متولدة عن محبة، لا عن خوف ورهبة.

لقد كان صلى الله عليه وآله وسلم يعتبر الاحتجاب عن الرعية نوعا من الاستبداد، وكان يقول في ذلك: (من ولاه الله شيئاً من أمور المسلمين، فاحتجب دون حاجتهم وخلتهم وفقرهم، احتجب الله دون حاجته وخلته وفقره يوم القيامة)([2]

ولهذا كان من السهل على أي أحد من الناس مقابلة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والجلوس معه.. لقد وصف بعضهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: (والله ما كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تغلق دونه الأبواب، ولا يقوم دونه الحجاب، ولا يغدى عليه بالجفان، ولا يراح بها عليه، ولكنه كان بارزا، من أراد أن يلقى نبى الله صلى الله عليه وآله وسلم لقيه، كان يجلس على الأرض، ويطعم ويلبس الغليظ، ويركب الحمار، ويردف خلفه، ويلعق يده)([3])

ووصفه آخر، فقال: كانت في رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خصال ليست في الجبارين، كان لا يدعوه أحمر، ولا أسود، إلا أجابه، وكان ربما وجد تمرة ملقاة فيأخذها، فيرمي بها إلى فيه، وإنه ليخشى أن تكون من الصدقة، وكان يركب الحمار عريا، ليس عليه شئ)([4])

وقد أشفق الصحابة على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مما يصيبه من تلك المخالطة، فطلبوا منه أن يتخذوا له محلا خاصا، فأبى.. قال العباس: يا رسول الله إني أراهم قد آذوك، وآذاك غبارهم، فلو اتخذت عريشا تكلمهم فيه، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا أزال بين أظهرهم يطئون عقبى وينازعوني ثوبي، ويؤذيني غبارهم، حتى يكون الله هو الذي يرحمني منهم)([5]

سرت مع محمد المهدي إلى مقر حكمه على سيارته الخاصة.. والتي لم يكن لها من الشارة ما كان لسيارات القادة والزعماء.. بل كانت بسيطة، وكان يقودها بنفسه.

كان لمقر الحكم جناحان، كتب على أحدهما (الهيئة الدستورية)، وكتب على الثاني (مجلس الشورى)، سألت محمدا المهدي عنهما، فقال: لقد استننت بسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في إقامة الحكم على هاتين الدعامتين الكبيرتين: دعامة الدستور، ودعامة الشورى، فلا يمكن للعدالة أن تقوم من دونهما.

قلت: للعدالة هيئات كثيرة.. فكيف اختصرتها في هاتين؟

قال: للعدالة قوانين نظرية تنطلق منها، وهي التي يتشكل منها الدستور، ولها تطبيقات عملية، وهي التي تستدعي استشارة أهل الاختصاص.

لقد أشار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى كلتا الدعامتين، فقال: (أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن أمر عليكم عبد حبشي، فإنه من يعش منكم بعدى، فسيرى اختلافا كثيرا فعليكم بسنتى وسنه الخلفاء المهديين الراشدين تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ)([6])، ففي هذا الحديث ذكر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سنته باعتبارها المرجع الأعلى، والذي يمثل الدستور، وذكر سنن الخلفاء الراشدين([7]) وهي تمثل الآراء البشرية السديدة التي تخدم الدستور، وتوفر المناخ الصالح لتطبيقه.

الدستور:

دخلت مع محمد المهدي إلى ما يسمى بـ (الهيئة الدستورية)، فرأيت نفرا من الناس كل منهم يحمل ملفا، وبيده قلم أحمر، وكأنه أستاذ يصحح أوراق الإمتحان، سألت محمدا عن هؤلاء، فقال: هذه هي الهيئة الدستورية.. ونحن نعرض عليها كل ما نريد تنفيذه في هذه البلدة، وهي تقوم بمراجعته لترى مدى مناسبته مع العقد الذي تعاقدنا على تنفيذه مع هذا المجتمع.. فإن رأت انسجامه معه وافقت عليه، وإن رأت مخالفته شطبت عليه، ومنعتنا من تنفيذه.

قلت: تمنعك، وأنت الحاكم العام من تنفيذه!؟

قال: أجل.. إن هذه الهيئة هي أعلى هيئة في البلد، ولا يمكن لأحد أن يخالفها إلا إذا أخطأت في فهمها للدستور، فيصحح لها فهمها، أو يناقشها فيما فهمته.

رفعت رأسي إلى أعلى القاعة، فرأيت لافتة كتب عليها (القانون فوق الجميع)، فقلت له: لقد كنت تزعم أنك لم تستمد قيادتك إلا من محمد.. وها أنت ذا تضع هذا الشعار.. وهو شعار أنتجته هذه الحضارة.. ولم تعرفه حضارة محمد.

قال: لا.. أنت تخطئ في ذلك خطأ جما.. لقد كان محمد صلى الله عليه وآله وسلم هو صاحب القوانين والدساتير العادلة.. ولم يحكم فيما أتيح له أن يحكم فيه إلا بتلك القوانين.. ولم يسن لأمته أن تحكم إلا بما شرع لها من قوانين.

سأذكر لك بعض الشواهد التي تبين لك أن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن يرجع في حياته القيادية إلا لما تمليه القوانين العادلة([8])..

سأبدأ لك من الأول، لتعرف أن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم لم يبدأ حياته القيادية إلا وفق ما تمليه القوانين العدالة.

أنت تعلم أن المدينة التي بدأ فيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بممارسة مهامه كأول حاكم مسلم هي المدينة المنورة.

وبما أن القوانين العدالة تقتضي الاتفاق بين الرعية وراعيها على المبادئ التي يتم على أساسها الحكم، والحاكم العادل لا يرضى أن يحكم إلا على أساس ذلك الاتفاق، فقد سن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في هذه الناحية هذا النوع من القوانين أو العقود.

ولعل أدل دليل على ذلك ما حصل في بيعة العقبة الأولى.. لقد كانت تلك البيعة هي النواة التي حددت قواعد الأخلاق الاجتماعية العامة التي تعتبر الأساس لمجتمع فاضل.

وكانت بيعة العقبة الثانية بداية الاضطلاع بمسئوليات الحكم الفعلية بالنسبة للرسول صلى الله عليه وآله وسلم بما تضمنته من شروط تتعلق بالنصرة والحرب، وما تم بعدها من تعيين النقباء الاثني عشر.

ولهذا، فإن اضطلاع الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بمهامه بوصفه رئيسا للدولة يعتبر واقعة تعني الالتزام بشروط الدولة من قبل الأنصار.

وكذلك فإن البيعتين تعتبران واقعتين دستوريتين في العهد النبوي، بل من أهم الوقائع الدستورية في هذا العهد، لأنهما نقطة الانطلاق في إنشاء الدولة الإسلامية.

قلت: إن الدستور لا يمكن إطلاقه إلا على قوانين ذات طابع خاص، ولم يتعرف على هذا إلا بعد قرون كثيرة.. فكيف تزعم أن ذلك حصل في تينك البيعتين؟

قال: أرى أنك مهتم بهذا الجانب.

قلت: أجل.. إن كل من يعنيه شأن العدالة يهتم بهذا الجانب.. فلا يمكن أن تقوم العدالة من غير قوانين تضبط المجتمع، وتضبط قادة المجتمع.

قال: فما الشروط التي ينبغي توفرها في الدستور ليصير دستورا؟

قلت: إن أي دستور ينبغي أن يبين: لمن الحكم؟.. وما حدود تصرفات الدولة؟.. وما الحدود التي تعمل سلطات الدولة في حيزها؟.. وما الغاية التي تقوم لأجلها الدولة؟.. وكيف تؤلف الحكومة لتسير نظام الدولة؟.. وما الصفات التي يتحلى بها القائمون بأمر الحكومة؟.. وماذا يكون في الدستور من أسس المواطنة؟.. وبأي طريق يصبح الفرد عضوا في كيان الدولة؟.. وما الحقوق الرئيسة لمواطني الدولة؟.. وما حقوق الدولة على المواطنين([9]

قال: لقد ذكرت لك أن تينك البيعتين كانتا الأساس الذي قامت عليه الدولة الإسلامية العادلة.. وقد تضمنت تلك البيعة بجملها القصيرة جميع ما تنتظمه الدساتير العادلة.

لقد تضمنت الأساس الذي تقوم عليه الدولة الإسلامية، والمجتمع الإسلامي، وهو توحيد الله عز وجل بمفهومه الشامل.. وهذا الأساس هو أهم المسائل الدستورية للدولة الإسلامية.. وهو المنطلق الذي تنطلق منه جميع سلوكاتها.

لقد جاء ذلك في نص البيعة الأولى، ففي الحديث: (بايعنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليلة العقبة الأولي على أن لا نشرك بالله شيئا..)([10])

وتضمنت حقوق الدولة على المواطنين.. وذلك في قوله صلى الله عليه وآله وسلم في بيعة العقبة الثانية: (تبايعوني على السمع والطاعة في النشاط والكسل والنفقة في العسر واليسر، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن تقوموا في الله لا تخافون لومة لائم، وعلى أن تنصروني فتمنعوني ـ إذا قدمت عليكم ـ مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم)([11])

وتضمنت حقوق المواطنين على الدولة ممثلة في شخص رئيسها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقد ورد ذلك في قول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: (بل الدم الدم، والهدم الهدم، أنا منكم وأنتم مني، أحارب من حاربتم، وأسالم من سالمتم)([12])

وتضمنت البيعة الثانية تعيين النقباء الاثني عشر عن طريق اختيار الأنصار لهم، وفي هذا تطبيق لمبدأ الشورى في اختيار الأشخاص، حيث ترك الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ذلك للأنصار، ومبدأ الشورى من المبادئ الدستورية الرئيسة في النظام العادل.

وتضمنت البيعة الثانية تنظيم وتحديد أطراف المعاهدة التي على أساسها ستنشأ الدولة، فرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نائب عن قومه، والنقباء نائبون عن قومهم، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للنقباء: (أنتم على قومكم بما فيهم كفلاء، ككفالة الحوارين لعيسى بن مريم، وأنا كفيل قومي)([13])

وقد نتج عن البيعتين إيجاد الجو والمكان الملائمين لنشر دين الله والدعوة إليه.. وهذان الأمران هما الغاية التي قامت لأجلهما الدولة الإسلامية، ومن المعروف أن تحديد الغاية التي تقوم لأجلها أي دولة من المسائل الدستورية الرئيسة.

قلت: فقد أسس محمد زعامته لأهل المدينة على بيعة منهم له، ورضى منهم به حاكما عليهم؟

قال: أجل.. فما كان للحاكم العادل أن يرضى بأن يستبد بالأمر من دون أهله.

قلت: ولكن الكثير يأتون بهذا الطريق.. يطلبهم الشعب، ويقبل أيديهم طمعا في أن يحكموه، فإذا حكموه ولوا ظهرهم له.

قال: أولئك أهل الاستبداد والجور.. أما محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فكان أرفع من ذلك.. لقد كان أول ما بدأ به توليه لحكم المدينة التي سلمت نفسها له عن رغبة وطيبة نفس أن وضع الدستور العادل الذي يحكمها من خلاله.

قلت: وضع محمد دستورا لأهل المدينة!؟

قال: أجل.. لقد كتب محمد صلى الله عليه وآله وسلم عند دخوله المدينة وثيقة تنظم العلاقات بين سكان الدولة الجديدة، هي بلا شك وثيقة دستورية بالغة الأهمية، بما احتوته من تنظيمات عادة ما تكون الدولة الناشئة في حاجة لها، إضافة إلى تميزها بصياغة قانونية شاملة ودقيقة، لا مجال للاختلاف حول مفهومها وتطبيقها.

وهي تعد أهم واقعة دستورية في العهد النبوي([14]).. 

قلت: لقد شوقتني إليها، فحدثني حديثها.

قال: لقد علقنا هذه الوثيقة في هذه القاعة، ونحن نستمد منها كل ما نحتاجه فيما يرتبط بالدستور.. تعال معي.

سرت معه، فأراني الوثيقة.. وراح يقرؤها علي بصوت ممتلئ بالخشوع، وكأنه صحابي من الصحابة عاش كتابتها، فهو يسترجع ذكريات ذلك الزمن ([15]) .

بعد أن انتهى من قراءة الوثيقة بادرته قائلا: إن أكثر ما ورد في هذه الوثيقة مما يرتبط بذلك العصر، فكيف استفدتم منه؟

قال: إن هذا يستدعي أن تفقه أسرار الدستور وروحه.

قلت: فحدثني عن ذلك.

قال: لن يتحدث عن الدستور إلا أعضاء الهيئة الدستورية، ولذلك سأتركك لهم، ليشرحوا لك ما فهموه منها، وما يمكن أن نستوعبه في حياتنا منها ليكون حكمنا إرثا من إرث النبوة، وسنة من سننها.

تقدم بي محمد المهدي إلى أعضاء الهيئة الدستورية، وقال: إن هذا الرجل يريد أن يعرف علاقة الدستور النبوي بالدستور الذي تسير عليه هذه البلدة، ويريد أن يرى مبلغ الإنسانية الذي تضمنه دستور النبوة.

قال رجل من الهيئة: نعم ما يطلبه هذا الرجل.. فليجلس.. وسنشرح له ما استفدناه من دستور النبوة.

 جلست، فقال الرجل: إن أول ما استفدناه من هذه الوثيقة المباركة ما ورد في مادتها الثانية من أن سكان المدينة (أمة واحدة من دون الناس).. وهي بذلك تشير إلى أن المسلمين جميعا مهاجريهم وأنصارهم ومن تبعهم، ممن لحق بهم وجاهد معهم أمة واحدة، من دون الناس.

وهذا شيء جديد كل الجدّه في تاريخ الحياة السياسية في جزيرة العرب، إذ نقل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قومه من شعار القبلية، والتبعية لها إلى شعار الأمة، التي تضم كل من اعتنق الدين الجديد، فقد قالت الصحيفة عنهم أنهم (أمة واحدة)، وقد جاء به القرآن الكريم تأييد ذلك، قال تعالى:{ وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} (المؤمنون:52)

وبهذا الاسم الذي أطلق على جماعة من المسلمين والمؤمنين ومن تبعهم من أهل المدينة، اندمج المسلمون على اختلاف قبائلهم في هذه الجماعة التي ترتبط بينها برابطة الإسلام، فهم يتكافلون فيما بينهم، وهم ينصرون المظلوم على الظالم، وهم يرعون حقوق القرابة، والمحبة، والجوار.

لقد انصهرت طائفتا الأوس والخزرج في جماعة الأنصار، ثم انصهر الأنصار والمهاجرون في جماعة المسلمين، وأصبحوا أمة واحدة تربط أفرادها رابطة العقيدة، وليس الدم، فيتحد شعورهم وتتحد أفكارهم وتتحد قبلتهم ووجهتهم، وولاؤهم لله وليس للقبيلة، واحتكامهم للشرع وليس للعرف، وهم يتمايزون بذلك كله على بقية الناس (من دون الناس)

قلت: وعيت هذا، فما الذي أفادكم في دستور هذه البلدة؟

قال: لقد كانت هذه البلدة مشغولة بالصراع العرقي.. فكان لكل قبيلة أو طائفة من الناس من القوانين ما تستعلي به على غيرها.. وقد دعانا النظر في هذه الصحيفة إلى أن نخلص دستورنا من كل ما يمكن أن يؤدي إلى أي عنصرية بغيضة.. فلا يمكن أن تقوم العدالة على العنصرية.

قلت: فماذا فعلتم؟

قال: لقد استننا بسنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في هذا.. فرحنا نؤاخي القبائل بعضها ببعض، والأفراد بعضهم ببعض.. لقد كان أول ما فعله محمد صلى الله عليه وآله وسلم عند قدومه للمدينة المنورة هو مؤاخاته بين الأنصار والمهاجرين([16]).

وقد ساهم ذلك النظام الذي أسسه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في ربط الأمة بعضها ببعض، فقد أقام الرسول صلى الله عليه وآله وسلم هذه الصلة على أساس الإخاء الكامل بينهم.. وهو إخاء تذوب فيه عصبيات الجاهلية، فلا حمية إلا للإسلام، وأن تسقط فوارق النسب واللون والوطن، فلا يتأخر أحد أو يتقدم إلا بمروءته وتقواه.

وقد جعل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم هذه الأخوة عقداً نافذاً لا لفظاً فارغاً، وعملا يرتبط بالدماء والأموال، لا تحية تثرثر بها الألسنة ولا يقوم لها أثر.

وكانت عواطف الإيثار والمواساة والمؤانسة تمتزج في هذه الأخوة وتملأ المجتمع الجديد بأروع الأمثال.

قلت: فهل استطعتم إحياء تلك القيم النبيلة التي سادت في المجتمع الذي أسسه محمد؟

قال: أجل.. إن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم ترك لنا كل الوسائل التي يمكننا أن نستنبت بها من جديد تلك القيم النبيلة التي زرعها في حياته.

لقد رحنا نستعملها واحدا واحدا.. وننشر بين الرعية الوعي بقيمة الأخوة والاتحاد والتضامن.. وراح خطباؤنا يلهجون بمثل قوله تعالى:{ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} (آل عمران:103)، وقوله تعالى:{ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (لأنفال:63)، وقوله تعالى:{ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (الحجرات:10)

وبمثل قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا تباغضوا ولا تحاسدوا ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانا، ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام)([17]).. وبمثل قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يُسلمه([18]) ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته)([19])

قلت: فما أثمرت الخطب.. عهدنا بها أنها لا تثمر إلا السراب!؟

قال: ذلك عندما تكون الخطب جوفاء.. وعندما ينأى الخطباء بأنفسهم عن المعاني التي يخاطبون الناس بها.. وعندما يكون الحكام في واد ورعيتهم في واد ثان.. عند كل ذلك تكون الخطب جوفاء..

أما نحن، فقد حولناها بفضل الله حية ممتلئة حياة.

قلت: كيف ذلك.. ما أصعب ذلك؟

قال: لقد استننا بسنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في ذلك، فراح الجهاز الحاكم بجميع أعضائه يعطي القدوة الصالحة للمجتمع في ذلك.. فراح المجتمع كله يسير سيرة حكامه.

قلت: فقد طبقت ما يقال من أن الناس على دين ملوكهم.

قال: بل طبقنا سنة نبينا صلى الله عليه وآله وسلم.. وقد صدقنا في تطبيقنا.. وربطنا الرعية بنيبنا قبل أن نربطهم بأشخاصنا، بل اعتبرنا أنفسنا نوابا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ووكلاء عنه.. فلذلك راحت الرعية تسلم لنا زمام الطاعة، ورحنا نسلم زمام الطاعة لنبينا.

تقدم رجل ثان، وقال للأول: حسبك ما ذكرت.. دعني أحدثه عن بنود أخرى.. وما استفادته هذه المدينة منها.

قال ذلك، ثم اقترب مني، وقال: أنت تعلم أن هذه المدينة متعدد الأديان والمذاهب والطوائف؟

قلت: أعلم ذلك، فكيف عالجتم هذا التعدد؟

قال: بما عالج به صلى الله عليه وآله وسلم التعدد الذي كان موجودا في المدينة المنورة عندما قدم إليها.. لقد نصت مواد كثيرة من دستور النبي صلى الله عليه وآله وسلم على هذا.

أشار الرجل إلى بنود أخرى، وقال: هذه البنود تحل مشكلة التعدد الطائفي.. لقد اعتبرت الصحيفة اليهود جزءا من مواطني الدولة الإسلامية، وعنصراً من عناصرها.. انظر ما ورد في الصحيفة في (المادة 16): (وأن من تبعنا من يهود، فإن له النصر والأسوة، غير مظلومين، ولا متناصر عليهم)، ثم زاد هذا الحكم إيضاحا في المادة (25) وما يليها، حيث نص فيها صراحة بقوله: (وإن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين..)

إن هذه البنود جميعا تبين أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم اعتبر أهل الكتاب الذين يعيشون في أرجاء الدولة الإسلامية مواطنين عاديين.

قلت: ولكنه ذكر أنهم طائفة قائمة بذاتها.

قال: هذا علاج آخر للتعدد.. فالإسلام يترك الحرية الدينية وما يرتبط بها لكل طائفة من الطوائف، فلا يتدخل إلا إذا تطلبت العدالة ذلك.

قلت: تقصد حكم الطوائف لنفسها؟

قال: أجل.. فلكل طائفة ما يمليه عليه دينها من قوانين.. وبما أن الإسلام يحرم الإكراه في الدين، فإنه يحرم ـ كذلك ـ الإكراه على مخالفة ما يقتضيه الدين من أحكام إلا إذا انتقلت من العدل إلى الجور.. وحينذاك يقف الإسلام في نصرة المظلوم ضد ظالمه.

قلت: وهل يمكن أن ينسجم الحكم الذاتي مع المواطنة العامة؟

قال: أجل.. وهذا ما فعله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهذا ما حاولنا به التأسي في هذه البلدة..

لقد أطلقنا الحرية لجميع الطوائف لتمارس ما تمليه عليها معتقداتها..

فلهذه الطوائف محاكمها الخاصة.. ودور عبادتها الخاصة.. وميادينها الخاصة.. ودور نشرها الخاصة.. ووسائل إعلامها الخاصة..

نحن لا نتدخل في أي شيء من هذه الأشياء.. اللهم إلا إذا مس الأمن أو العدالة.. وحينذاك نتدخل بأسلوب أهل السلام.. لا بأسلوب أهل الصراع.. هذه سنة من سنن نبينا صلى الله عليه وآله وسلم.. فلم يخير صلى الله عليه وآله وسلم بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما.

قلت: فهذه البنود حلت مشكل الطائفية إذن؟

قال: كما حلت البنود التي ذكرها لك أخي مشكل العرقية.

قلت: ولكني أرى بعض ما في هذه الوثيقة يتناقض مع ما ذكرت؟

قال: يستحيل ذلك.. إن هذه الوثيقة وغيرها من الوثائق النبوية تقلبت بين مختصين في جميع المجالات.. وعلى مدار الزمان.. وكان أعداء محمد أحرص الناس على اكتشاف أي ثغرة في شخصه أو في دينه، وقد أعجزهم إيجاد ذلك.

قلت: انظر.. لقد ورد في هذه الوثيقة في المادة (23) (وأنكم مهما اختلفتم فيه من شيء، فإن مرده إلى الله وإلى محمد صلى الله عليه وآله وسلم).. أليس في ذلك نوعا من الديكتاتورية المقيتة؟

ابتسم، وقال: إن هذه المادة تشير إلى أن المرجعية العليا للدولة الإسلامية هي (الله ورسوله).. فالله الذي خلق الخلق هو الذي له الحق في أن يشرع لهم ويحكمهم، ورسوله هو الممثل لدينه والمعرف به.

قلت: قد تصلح هذه المادة للمسلمين، ولكنها لا تصلح لغيرهم.

قال: لقد ذكرت لك أن لكل طائفة حكمها الذاتي الخاص بها والذي تفرضه عليها قناعاتها.. ولكنها فيما سوى ذلك ـ مما يرتبط بالمصالح العامة ـ خاضعة لسلطة الدولة العادلة التي تحكم بما تفرضه قوانين العدالة.

لقد اعترف اليهود في هذه الصحيفة بوجود سلطة قضائية عليا، يرجع إليها سكان المدينة بمن فيهم اليهود بموجب المادة (43)، لكن اليهود لم يُلزموا بالرجوع إلى القضاء الإسلامي دائماً، بل فقط عندما يكون الحدث أو الاشتجار بينهم وبين المسلمين، أما في قضاياهم الخاصة وأحوالهم الشخصية فهم يحتكمون إلى التوراة ويقضي بينهم أحبارهم، ولكن إذا شاءوا، فبوسعهم الاحتكام إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقد خير القرآن الكريم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بين قبول الحكم فيهم أو ردهم إلى أحبارهم، قال تعالى:{ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِن جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} (المائدة: 42)

ومن القضايا التي أراد اليهود تحكيم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فيها اختلاف بني النضير وبني قريظة في دية القتلى بينهما، فقد كانت بنو النضير أعز من بني قريظة، فكانت تفرض عليهم دية مضاعفة لقتلاها، فلما ظهر الإسلام في المدينة امتنعت بنو قريظة عن دفع الضعف، وطالبت بالمساواة في الدية، فنزل قوله تعالى:{  وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنْفَ بِالأَنْفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ وَمَن لَّمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (المائدة: 45)

تقدم رجل آخر، وقال: من النواحي المهمة التي وردت في الصحيفة.. والتي لها شأن خطير في الدستور ما ورد في المادة (40)، فقد جاء فيها: (وأن يثرب حرام جوفها لأهل هذه الصحيفة)، وأصل التحريم أن لا يقطع شجرها، ولا يقتل طيرها، ولا يمس أهلها في أموالهم وأنفسهم.

وقد أرسل النبي صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه ليثبتوا أعلاماً على حدود حرم المدينة من جميع الجهات، وحدود المدينة بين لابتيها شرقاً وغرباً، وبين جبل ثور في الشمال وجبل عَيْر في الجنوب.

قلت: فما الذي استفدتم من هذه المادة؟

قال: لابد لكل دستور من تحديد الرقعة الجغرافية التي تسري أحكامه فيها.. ولابد لكل دولة من رسم حدودها حتى لا يدب التنازع بينها وبين جيرانها.

اقترب رجل آخر، وقال: إن أهم ما ورد في الصحيفة ما قررته من مبادئ ترتبط بالحريات وحقوق الإنسان.

لقد أعلنت الصحيفة أن الحريات مصونة، كحرية العقيدة والعبادة وحق الأمن، وغيرها، فحرية الدين مكفولة: (للمسلمين دينهم ولليهود دينهم)، كما قال تعالى:{  لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (البقرة: 256)، وقد أنذرت الصحيفة بإنزال الوعيد، وإهلاك من يخالف هذا المبدأ أو يكسر هذه القاعدة.

وقد نصت الوثيقة على أن على الدولة الإسلامية أن تقيم العدل بين الناس، وتيسر السبل أمام كل إنسان يطلب حقه أن يصل إلى حقه بأيسر السبل وأسرعها، دون أن يكلفه ذلك جهداً أو مالاً، وعليها أن تمنع أي وسيلة من الوسائل من شأنها أن تعيق صاحب الحق من الوصول إلى حقه.

لقد أوجب الإسلام على الحكام أن يقيموا العدل بين الناس، دون النظر إلى لغاتهم أو أوطانهم، أو أحوالهم الاجتماعية، فهو يعدل بين المتخاصمين، ويحكم بالحق، ولا يهمه أن يكون المحكوم لهم أصدقاء أو أعداء، أغنياء أو فقراء، عمالاً أو أصحاب عمل، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ للهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} (المائدة: 8)، أي لا يحملنكم بغض قوم على ظلمهم، ومقتضى هذا أنه لا يحملنكم قوم على محاباتهم والميل معهم.

أما المساواة؛ فقد صرحت نصوص كثيرة في الصحيفة بمراعاتها، منها: (أن ذمة الله واحدة) وأن المسلمين (يجير عليهم أدناهم) وأن (بعضهم موالي بعض دون الناس)، أي أنهم يتناصرون في السراء والضراء.. وتضمنت المادة (19) أن (المؤمنين يبيء([20]) بعضهم علي بعض بما نال دماءهم في سبيل الله)

قلت: فما استفدتم من هذه المواد؟

قال: لقد بحثنا عن كل ما يطلبه الإنسان من حقوق مشروعة، فرحنا نبني تشريعاتنا لأجل تحقيقها ومراعاتها..

قلت: لقد قيدت الحقوق بكونها مشروعة.. وفي ذلك يتلاعب المتلاعبون من المستبدين حيث لا يسمحون إلا بالحقوق التي تخدمهم أو لا تضرهم.

قال: لقد اعتبرنا الفطرة مقياسا نقيس به حاجات الناس وحقوقهم، فلذلك لم نعتبر للشذوذ عن الفطرة أي حقوق يمكن احترامها.

قلت: ولكنك نصصت على أن الدستور يضمن المساواة؟

قال: الدستور يرفع البشر، ولا يضعهم، والدستور الذي يخدم الشواذ ويلبي مطالبهم الشاذة دستور يخدم الإنحراف.. والدولة التي أسسها النبي صلى الله عليه وآله وسلم مدرسة كبيرة تربي رعاياها وترفعهم إلى آفاق الإنسانية السامية، وهي لذلك لا تستجيب لمطالبهم التي تنزل بهم إلى حظيظ البهيمية.

ظللت مع الهيئة الدستورية أسألها، وتجيبني فترة من الزمن إلى أن جاء محمد المهدي، والبسمة على وجهه، وهو يقول: هل اقتنعت بما في دستورنا من قيم العدالة والإنسانية؟

قلت: أنا لم أعجب من ذلك فقط.. بل عجبت من كون دستوركم كله مستمد من ذلك الدستور القديم الذي وضعه محمد. 

قال: ليس في العدالة ولا في الإنسانية قديم أو جديد.. العدالة والإنسانية وجميع المبادئ قيم ثابتة قد تجد في التاريخ القديم من تمسك بها، فكان أسوة لغيره فيها، وقد تجد في التاريخ الحديث من انحرف عنها، فارتد بانحرافه إلى البهيمية والبدائية.

قلت: أتلك الوثيقة المحمدية هي مرجعكم الوحيد في دستوركم؟

قال: لا.. هناك وثائق أخرى كثيرة.. سأمر بك على بعضها.. فنحن نحتفظ بنسخ منها في هذا المحل([21]).

سار بي محمد المهدي في أرجاء القاعة حيث رأيت كتبا مكتوبة بخط قديم.. فقلت له: ما هذه الكتب؟

قال: هذه صور عن كتب النبي صلى الله عليه وآله وسلم التي كتبها في حياته([22]).. ونحن نهتدي بهديها في قوانيننا وعلاقاتنا الداخلية والخارجية.. ولم نر منها بحمد الله إلا البركات.

اقتربت من بعضها، فقرأت فيه (بسم الله الرحمن الرحيم هذا كتاب من محمد رسول الله لبني ضمرة بن بكر بن عبد مناة بن كنانة، بأنهم آمنون على أموالهم وأنفسهم وأن لهم النصر على من دهمهم بظلم، وعليهم نصر النبي، ما بل بحر صوفه إلا أن يحاربوا في دين الله، وأن النبي إذا دعاهم لنصره أجابوه، عليهم بذلك ذمة الله وذمة رسوله ولهم النصر على من بر منهم واتقى)

قال: هذه معاهدة بني ضمرة.. وسببها أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سار في أول غزواته حتى بلغ ودان يريد قريشا وبني ضمرة، فوادعته قبيلة بني ضمرة، فكتب النبي صلى الله عليه وآله وسلم هذه المعاهدة التي قرأتها.

قلت: فما الذي أفادتكم هذه المعاهدة؟

قال: لقد أفادتنا الكثير.. إنها تنص على الأمن على الأموال، والأنفس، والنصر في مواجهة العدو، ونصر هؤلاء الحلفاء في حالة الاعتداء عليهم، وهو ما يسمى اليوم بمعاهدة الدفاع المشترك، أو الحلف الدفاعي.

وقد مارسنا هذا النوع من الحلف مع جيراننا، فصرنا قوة لا يفكر أعداؤها في مواجهتها إلا بعد أن يحسبوا لذلك ألف حساب.

سرنا قليلا في أرجاء القاعة، فرأيت وثيقة أخرى كتب فيها: (هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله سهيل بن عمرو، اصطلحا على وضع الحرب بين الناس عشر سنين يأمن فيها الناس ويكف بعضهم عن بعض، على أنه من أتى محمدا من قريش بغير إذن وليه رده عليهم ومن جاء قريشا ممن مع محمد لم يردوه عليه: وأن بيننا عيبة مكفولة([23]) وأنه لا إسلال ولا إغلال([24])، وأنه من أحب أن يدخل في عقد محمد وعهده دخل فيه، ومن أحب أن يدخل عقد قريش وعهدهم دخل فيه)

قال: هذه معاهدة صلح الحديبية، وقد عقدها صلى الله عليه وآله وسلم حين قدم من المدينة معتمرا، لا يريد حربا، وساق معه الهدي، لكن قريشا ذعرت من هذا الزحف المباغت من المسلمين، وفكرت بجد في منع المسلمين من دخول مكة مهما كلف الأمر ..

قلت: أعرف هذه الحادثة.. فما الذي استفدتم منها؟

قال: لقد اعتبر القرآن الكريم ما حصل في هذه المعاهدة فتحا مبينا مع أن البشر ـ بفهمهم المحدود ـ اعتبروها نوعا من الاستسلام الذليل.

قلت: أعرف هذا.. فما الذي استفدتم منه؟

قال: استفدنا الكثير.. إن هذه المعاهدة جنبتنا الكثير من الويلات، بل فتح لنا بسببها من الفتوح ما لا نزال ننعم به.

قلت: لم أفهم.

قال: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في هذه المعاهدة لم يكن يهمه إلا شيء واحد تخلى من أجله عن كثير من مظاهر النصر الباهت..

قلت: ما هو؟

قال: السلام.. الرسول صلى الله عليه وآله وسلم اعتبر السلام.. وإحلال السلام بينه وبين أعدائه هي فرصة النصر التي يجوز أن يضحى في سبيلها بكل شيء..

قلت: لكن الأعداء فهموا السلام استسلاما؟

قال: فلتمل عليهم عقولهم وأهواؤهم وشياطينهم ما شاء لها أن تملي.. العبرة بمن ينتصر أخيرا.. النصر الحقيقي لا النصر المزيف.. وذلك ما حصل لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

قلت: فكيف استفدتم من هذا؟

قال: رحنا نبحث عن كل جذور العداوة التي بيننا وبين جيراننا.. فاجتثثناها واحدا واحدا.. ورحنا بما أملت علينا أخلاق أهل الإيمان نوثق الصلات بيننا وبينهم حتى صاروا أميل إلى تقديسنا منهم إلى حربنا.

سرت مع محمد المهدي في تلك القاعة طيلة ذلك الصباح، وقد اطلعت على الكثير من الوثائق، وقد جعلني ذلك أقتنع اقتناعا تاما بمبادئ العدالة العظيمة التي مارسها صلى الله عليه وآله وسلم في حياته القيادية.

الشورى:

في ذلك المساء، طلبت منه أن يسير بي إلى (مجلس الشورى)، سار بي إليه، وقد عجبت عندما رأيت كبر القاعة التي خصصت له، وتعدد فروعها، فقلت: ألا ترى أنكم قد بالغتم في كبر هذه القاعة واتساعها.

قال: ومع ذلك، فهي لا تضم كل من هو في مجلس الشوري.. إن مجلس الشورى الحقيقي يضم المدينة جميعا.

قلت: عهدي بمجلس الشورى ألا يضم إلا المنتخبين.

قال: تلك مجالس الشورى الصورية.. مجلس الشورى الحقيقي هو الذي يستشير الرعية كل حين، فقد يوجد في النهر ما لا يوجد في البحر، وقد يرى العامي ما لا يرى المختص.

قلت: على أي نظام ديمقراطي اعتمدتم على هذا؟

قال: على نظام محمد صلى الله عليه وآله وسلم.. فمحمد صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن يميز في شوراه بين الخاصة والعامة.. لقد كان يستشير الكل، وكان الكل يشير عليه، لقد أمره الله بذلك، فقال:{ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} (آل عمران:159)

قلت: إن الآية تشير إلى تأثير الشورى في تأليف القلوب.

قال: ما أعظم أن تتوحد قلوب الرعية مع قلوب حكامها.. إنهم حينذاك يصيرون قوة لا يمكن لأحد قهرها.

سأضرب لك مثالا عن واقعنا استقيناه من واقع النبي صلى الله عليه وآله وسلم..

إن كل ما تراه في المدينة من إنجازات ضخمة بركة من بركات الشورى.. لقد كنا في كل حين نجمع الرعية، ونخاطبها، ونطلب رأيها، وكنا بحمد الله نجد من بركات ذلك ما عاد علينا بالخير والمنفعة.

لقد وجدنا الرعية تقبل على المشاريع تنفذها برغبة تامة، وهي مقتنعة تمام الاقتناع بمدى جدواها.

قلت: من أين استفدتم هذا من واقع محمد؟

قال: من كل حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم.. فقد كان أكثر الناس استشارة للمؤمنين([25])، حتى قال بعض أصحابه: (ما رأيت من الناس أحدا أكثر مشورة لأصحابه من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم)([26])

قلت: أرى في هذه القاعة فروعا كثيرة، فما سرها؟

قال: هناك حالات خاصة لابد فيها من المختصين.. ولذلك لا نستشير فيها إلا المختصين.. فلا يمكن أن نسأل المهندسين عن قضايا الطب.. ولا الأطباء عن قضايا الهندسة.

الإدارة

في اليوم الثاني، وبعد أن امتلأت قناعة بالسياسة الحكيمة التي انتهجها محمد المهدي والفريق الحاكم معه، طلبت منه أن يسمح لي بزيارة مؤسسات مدينته المختلفة، والتي يتم من خلالها الحكم المباشر للرعية، ويتم من خلالها تقديم الخدمات المختلفة، فأذن لي، واعتذر عن عدم إمكانه صحبتي بسبب ما تتطلبه وظيفته من أعمال.

لقد رأيت جميع إدرات المدينة في منتهى الدقة والنظام.. وكانت الرعية بسبب ذلك في غاية الراحة والطمأنية.. فلم تكن حقوقها تضيع، ولا مصالحها يعبث بها.

بعد عودتي في المساء إلى بيت محمد المهدي سألته عن سر ذلك، فقال: ألم أقل لك: إن كل ما تراه في هذه المدينة من استقرار وسعادة ونظام بركة من بركات الاهتداء بسنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم..

قلت: فأي السنن جعل لإدارتكم هذه الكفاءة.

قال: ثلاث سنن من سنن المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم.

الكفاءة:

قلت: فما أولاها؟

قال: الكفاءة.. إن كل من رأيتهم من الموظفين لم يعينوا إلا بسبب كفاءتهم.

قلت: أهذه سنة من سنن محمد؟

قال: هذه من أعظم سنن محمد صلى الله عليه وآله وسلم.. ولا يكون الوارث وارثا حتى يكون له الحظ الوافر منه.

 قلت: والطبقية.. تلك العقبة الكؤود التي تحول بين الكفاءات والمناصب التي تصلح لها.

قال: إن كل وارث يسمع  قوله تعالى:{ عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى (2) وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) ‏أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى (4) أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى (5) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6) وَمَا عَلَيْكَ ‏أَلَّا يَزَّكَّى (7) وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى (8) وَهُوَ يَخْشَى (9) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (10)} ‏‏(عبس) يقول لكل ضعيف مستضعف إذا رآه: (مرحبا بمن عاتبنى فيه ربى) ([27])

لقد كان التعالى على الطبقية بجميع أنواعها هو سنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم.. ففي الوقت الذي كان يفرق فيه بين الموالي والأحرار آخى النبي صلى الله عليه وآله وسلم في أول الهجرة بين عمه حمزة ومولاه زيداً ‏.. وجعل خالد بن رويحة الخثعمي وبلالا بن رباح أخوين([28]).

وبعث زيداً أميراً في غزوة مؤته، وجعله الأمير الأول، يليه جعفر بن أبي طالب، ثم عبد الله بن رواحه الأنصاري، على ثلاثة آلاف من المهاجرين والأنصار.

وكان آخر عمل من أعماله صلى الله عليه وآله وسلم أن أمَّر أسامة بن زيد على جيش ‏لغزو الروم، يضم كثيرا من المهاجرين والأنصار، فيهم أبو بكر وعمر وسعد بن أبي وقاص وغيرهم.

وقد تململ بعض الناس من إمارة أسامة وهو حدث، وفي ذلك قال ابن عمر: بعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعثاً أمر عليهم أسامة بن زيد ‏ فطعن بعض الناس في إمارته، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (إن تطعنوا في إمارته فقد كنتم تطعنون في إمارة أبيه من قبل، وأيم الله إن كان ‏لخليقاً للإمارة، وإن كان لمن أحب الناس إليّ. وإن هذا لمن أحب الناس إلي) ([29]

ولما لغطت ألسنة بشأن سلمان الفارسي، وتحدثوا عن الفارسية والعربية، بحكم ‏إيحاءات القومية الضيقة، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (سلمان منا أهل البيت) ([30])

ولما وقع بين أبي ذر الغفاري وبعض الصحابة ما أفلت معه لسانه بكلمة: (يا ابن السوداء) غضب لها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم غضباً ‏شديداً؛ وقال: (ليس لابن ‏البيضاء على ابن السوداء فضل) ([31])

وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول عن عمار بن ياسر وقد استأذن عليه: (ائذنوا له مرحباً بالطيب المطيب)، وقال عنه: (ملئ عمار إيماناً ‏إلى مشاشه)

 وكان ابن مسعود يحسبه الغريب عن المدينة من أهل بيت رسول الله، عن أبي ‏موسى  قال: قدمت أنا وأخي من اليمن، فمكثنا حيناً وما نرى ابن ‏مسعود وأمه إلا من أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من كثرة دخولهم ‏على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولزومهم له.

وجليبيب ـ وهو رجل من الموالي ـ كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يخطب له ‏بنفسه ليزوجه امرأة من الأنصار. فلما تأبى أبواها قالت هي: أتريدون أن تردوا ‏على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمره؟ إن كان قد رضيه لكم فأنكحوه. ‏فرضيا وزوجاها.

وقد افتقده رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الوقعة التي استشهد فيها بعد فترة ‏قصيرة من زواجه، فعن أبي برزة الأسلمي  قال: كان رسول الله ‏ صلى الله عليه وآله وسلم في مغزى له، فأفاء الله عليه. فقال لأصحابه: (هل ‏تفقدون من أحد؟) قالوا: نعم فلاناً وفلاناً وفلاناً. ثم قال: (هل تفقدون من ‏أحد؟)، قالوا: نعم. فلاناً وفلاناً وفلاناً. ثم قال: (هل تفقدون من أحد؟)، ‏فقالوا: لا. قال: (لكني أفقد جليبيباً)، فطلبوه، فوجدوه إلى جنب سبعة قد ‏قتلهم ثم قتلوه. فأتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فوقف عليه، ثم قال: (قتل سبعة ‏ثم قتلوه. هذا مني وأنا منه. هذا مني وأنا منه)، ثم وضعه على ساعديه، ليس له ‏سرير إلا ساعدا النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ثم حفر له، ووضع في قبره([32]).

التحفيز:

قلت: عرفت السنة الأولى، فحدثني عن السنة الثانية.

قال: السنة الثانية هي التحفيز.. فالكفاءة التي لا تجد التحفيز الكافي لا تستطيع أن تؤدي أي عمل نافع.. بل يقف الإحباط بينها وبين أي إنجاز ناجح.

قلت: أعرف قيمة التحفيز.. فهل مارسه محمد في حياته الإدارية.. وكيف ذلك، وهو داعية آخرة، لا داعية دنيا؟

قال: التحفيز مرتبط بالحياة.. والحياة تشمل الدنيا والآخرة.. وليس الكمال إلا في التحفيز الذي يشملهما جميعا([33]).

قلت: فحدثني عن بعض ما روي عن محمد في ذلك.

فكر قليلا، ثم قال: في تحرك من تحركاته صلى الله عليه وآله وسلم بجيشه نحو حُنين قال صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه: (ألا فارس يحرسنا الليلة؟).. عندما قال هذا أقبل أنيس بن أبي مرثد الغنوي على فرسه فقال: أنا ذا يا رسول الله، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (انطلق حتى تقف على جبل كذا وكذا، فلا تنزلن إلا مصلياً أو قاضي حاجة، ولا تغرن من خلفك)، قال: فبتنا حتى أضاء الفجر وحضرنا الصلاة، فخرج علينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: (أأحسستم فارسكم الليلة؟)، قلنا: لا والله، فأقيمت الصلاة فصلى بنا، فلما سلّم رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ينظر خلال الشجر، فقال: (أبشروا جاء فارسكم)، وعندئذ جاء الفارس، وقال: يا رسول الله إني وقفت على الجبل كما أمرتني، فلم أنزل عن فرسي إلا مصلياً أو قاضي حاجة حتى أصبحت، فلم أحس أحداً، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (ما عليه أن يعمل بعد هذا عملاً)([34])

نظر إلي، وقال: انظر كيف عمد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى التخيير وبث روح المنافسة بين فريق عمله، فقال: (ألا فارس يحرسنا الليلة؟)

كما أنه استقبل حديث أنيس، وهو يتحدث عن دوره وإجادته في تنفيذه بنفس طيبة، فلم يتهمه النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو يعرض موقفه بنقص في إخلاصه لا سيما وأنه يدلي بهذا الحديث أمام جمع من صحابته، ثم يبادر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بتشجيعه وتحفيزه بقوله: (ما عليه أن يعمل بعد هذا عملا)([35])

قلت: يستطيع محمد أن يقول مثل هذا.. ولكن أنتم ما عساكم تقولون، وأنتم لم تطلعوا على الغيب.

قال: لقد ترك لنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثروة من النصوص المقدسة.. جعلناها شعارا لنا في كل دوائرنا.. فنحن نشجع بواسطتها على إتقان الأعمال، باعتبار ذلك من الجهاد في سبيل الله..

لقد أخبر صلى الله عليه وآله وسلم بأن أي حركة ـ مهما كانت بساطتها ـ ما دامت في سبيل الله فهي خير من الدنيا وما فيها، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (لغدوة في سبيل اللَّه أو روحة خير من الدنيا وما فيها)([36])، وقال صلى الله عليه وآله وسلم: ( رباط يوم في سبيل اللَّه خير من الدنيا وما عليها، وموضع سوط أحدكم من الجنة خير من الدنيا وما عليها، والروحة يروحها العبد في سبيل اللَّه تعالى أو الغدوة خير من الدنيا وما عليها)([37])

وأخبر صلى الله عليه وآله وسلم عن الجزاء المعد للمرابط في سبيل الله، فاعتبره لا يقل عن جزاء الصائم القائم القانت الذي لا يقعد عن ذلك طيلة غياب المجاهد في سبيل الله، فقد قيل لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يا رَسُول اللَّهِ ما يعدل الجهاد في سبيل اللَّه؟ قال: (لا تستطيعونه)، فأعادوا عليه مرتين أو ثلاثاً كل ذلك يقول: (لا تستطيعونه)، ثم قال: (مثل المجاهد في سبيل اللَّه كمثل الصائم القائم القانت بآيات اللَّه لا يفتر من صلاة ولا صيام حتى يرجع المجاهد في سبيل اللَّه)([38])

بل أخبر صلى الله عليه وآله وسلم أن اليوم والليلة من المرابط في سبيل الله خير من صيام شهر كامل وقيامه، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه، وإن مات فيه جري عليه عمله الذي كان يعمل، وأجري عليه رزقه، وأمن الفتان)([39])

بل أخبر صلى الله عليه وآله وسلم بما هو فوق ذلك، فقال: (رباط يوم في سبيل اللَّه خير من ألف يوم فيما سواه من المنازل)([40])

التفت إلي، وقال: أليست هذه أجور عظيمة؟

قلت: كيف لا تكون عظيمة؟

قال: فإن هذه الأجور هي التي حركت القلوب المؤمنة المحتسبة للنهوض بأي عمل مهما كان دقيقا أو جليلا.. وهذه النصوص نفسها هي التي أخبرت بأن للعامل إن احتسب من الأجر ما لا يقل عن أجر المجاهد:

فقد رأى بعض الصحابة شاباً قوياً يسرع إلى عمله، فقالوا: لو كان هذا في سبيل الله! فرد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عليهم بقوله: (لا تقولوا هذا ؛ فإنه إن كان خرج يسعى على ولده صغاراً فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على أبوين شيخين كبيرين فهو سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على نفسه يعفُّها فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى رياء ومفاخرة فهو في سبيل الشيطان)([41])

بل صرح صلى الله عليه وآله وسلم بلفظ الجهاد، فقال لبعض أصحابه: (أبشر، فإن الجالب إلى سوقنا كالمجاهد في سبيل الله، والمحتكر في سوقنا كالملحد في كتاب الله)([42])

قلت: أيكتفي عمالكم بأجور الآخرة وتحفيزاتها؟

قال: لا خير فيمن لا يقدر أجور الآخرة حق قدرها..

قلت: ولكن لابد من أجور الدنيا.

قال: لقد ذكرت لك أن الآخرة لا تنفي الدنيا.. كما أن الدنيا لا تنفي الآخرة.

قلت: فهل سن محمد في تحفيز الدنيا شيء؟

قال: بل سن أشياء كثيرة، وأعطانا قاعدة لذلك، فقال: (من لم يشكر الناس لم يشكر الله)([43])، وفي رواية أخرى: (لا يشكر الله من لا يشكر الناس)([44])

بل ورد في حديث آخر ما هو أعظم من ذلك، حيث عبر بأفعل التفضيل ليدل على أن من الكمال شكر وسائط الجود الإلهي، ليني ما قد يتوهم من أن ذلك مناف للتوحيد، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (إن أشكر الناس لله تعالى أشكرهم للناس)([45])

 وفي هذا المجال، دعا صلى الله عليه وآله وسلم إلى مقابلة الإحسان بالشكر والثناء والاعتراف بالفضل لأهل الفضل، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (من أعطى عطاء فوجد فليجز به، فإن لم يجد فليثن فإن من أثنى فقد شكر، ومن كتم فقد كفر)([46])، وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (من أولى معروفا فليذكره فمن ذكره فقد شكره، ومن كتمه فقد كفره)([47])، وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (من لم يشكر القليل لا يشكر الكثير، ومن لم يشكر الناس لا يشكر الله والتحدث بنعمة الله شكر وتركها كفر)([48])

بل اعتبر صلى الله عليه وآله وسلم المثني على الخير والشاكر له في درجة العامل به، فعندما أعجب المهاجرون بأخلاق الأنصار وتضحياتهم في سبيل الله، قالوا لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يا رسول الله ذهب الأنصار بالأجر كله؟ ما رأينا قوما أحسن بذلا للكثير، ولا مواساة في القليل منهم، ولقد كفونا المؤونة، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: ( أليس تثنون عليهم به وتدعون لهم؟)  قالوا: بلى، قال: (فذاك بذاك)([49])

قلت: كيف يستوي العامل والشاكر مع أن الشاكر ليس له من العمل شيء؟

قال: لأن التشجيع على الخير بذكره ونشره والثناء عليه من أكبر وسائل نشره والدعوة إليه والحض على الثبات عليه، وهو بذلك ينطبق مع قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الدال على الخير كفاعله)([50])، فالشاكر على الخير مقر به دال عليه، فلذلك اعتبر مساويا للفاعل له.

بل إن الشخص قد يشكر على القليل، فيدعوه ذلك لبذل الكثير، بل قد يشكر على ما لم يفعله، فيجد نفسه مسارعا لفعله، بل قد يشكر على شيء معلقا على شيء، فيسرع إلى رفع التعليق ليستوفي الشكر كاملا.

النظام:

قلت: فما السنة الثالثة؟

قال: النظام.. فلولا النظام ما أمكن أن ينجح أي عمل من الأعمال.

قلت: فمن أين استلهمتم النظام؟

قال: من كثرة ما ورد في النصوص من الاهتمام بتنظم الصفوف.. لقد قال الله تعالى يأمر بذلك:{ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} (الصف:4)

وقال واصفا ملائكته:{ يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفّاً لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَاباً} (النبأ:38)، وقال:{ وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً} (الفجر:22)

وقد حثنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على الاقتداء بالملائكة ـ عليهم السلام ـ في هذه العبودية المنظمة، فقال: (ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربها؟)، قالوا: (يا رسول الله، وكيف تصف الملائكة عند ربها؟)، فقال: (يتمون الصفوف الأول، ويتراصون في الصف)([51])

لقد كان هذا الحديث أساسا لجميع الأنظمة التي تقوم عليها إدارة هذه المدينة وجميع مؤسساتها.

قلت: كيف ذلك؟

قال: لقد رأينا أن الصفوف ورصها وتنظيمها وربطها ببعضها البعض تختصر الكثير من الجهود، وتنظمها، وتجعل منها جهودا إيجابية، فلذلك رحنا نرتب الرعية كلها بنظام الصفوف.

ابتسمت، وقلت: كيف ذلك.. أأخرجتم الرعية إلى الشوارع وطلبت منهم إقامة الصفوف؟

قال: أرواح الصفوف هي التي تنظم الرعية، لا أجسادها؟

قلت: فكيف تعاملتم مع أرواح الصفوف؟

قال: لقد أحصينا الرعية.. ثم رتبناهم مراتب مختلفة.. ثم وضعنا كل مرتبة منها في محلها الخاص..

قلت: تقصد إنزالهم منازلهم.

قال: أجل.. لقد وضعنا الفقراء في محالهم، ورتبناهم بحسب حالتهم وعوزهم.. ورتبنا الأغنياء بحسب ثرواتهم.. ورتبنا طلبة العلم بحسب طاقاتهم.. ورتبنا العلماء بحسب إنجازاتهم وتخصصاتهم.. وهكذا..

قلت: لم كل هذا؟

قال: حتى نتعامل مع كل صنف بما يحتاجه من معاملة.. فلا يمكن أن نكلف الفقير بوظيفة الغني.. ولا الغني بوظيفة العالم.

قلت: ولكن الغني قد يكون عالما.. فماذا تفعلون؟

قال: نضعه بين الأغنياء، وبين العلماء.. فإذا احتجنا إلى غناه قصدناه.. وإذا احتجناه إلى علمه سألناه.

القضاء

في اليوم الثالث، طلب مني محمد المهدي أن أسير معه للمحكمة، فتعجبت من ذلك، وقلت: لقد تصورت ـ بسبب ما رأيته من عدالة في سياستكم ـ أن القضاء عندكم منفصل عن الحكم..

قال: ما الذي تقصد بانفصاله؟

قلت: أقصد أن الحاكم لا يحق له أن يتدخل في شؤون القضاء.. إن هذا هو الذي تنص عليه قوانين العدالة التي ابتكرها أهل العصر الحديث.

قال: هذا لم يبتكره أهل العصر الحديث.. بل هذا ما جاء به محمد صلى الله عليه وآله وسلم.. وهو ما طبقه ورثة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.. لقد قال الله تعالى يأمر بذلك:{ إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا (105) وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (106) وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا (107) يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا (108) هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا (109)} (النساء)

لقد روي في سبب نزول هذا الآيات الكريمة ما يدل على وجوب استقلال سلطة القضاء في الإسلام عن سلطة الحكم.. ففي الحديث عن ابن عباس  قال: إن نفرا من الأنصار غزوا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في بعض غزواته، فسرقت درع لأحدهم، فأظن بها رجل من الأنصار، فأتى صاحب الدرع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: إن طُعْمةَ بن أُبَيْرق سرق درعي، فلما رأى السارق ذلك عمد إليها، فألقاها في بيت رجل بريء، وقال لنفر من عشيرته: إني غَيَّبْتُ الدرع وألقيتها في بيت فلان، وستوجد عنده. فانطلقوا إلى نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم ليلا فقالوا: يا نبي الله، إن صاحبنا بريء، وإن صاحب الدرع فلان، وقد أحطنا بذلك علما، فاعذُرْ صاحبنا على رؤوس الناس وجادل عنه، فإنه إلا يعصمه الله بك يهلك، فقام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فبرأه وعذرَه على رؤوس الناس، فأنزل الله هذه الآيات([52]).

قلت: فما حاجتك إلى الذهاب إلى المحكمة إذن؟

قال: أنا ذاهب إلى المحكمة باعتباري فردا من هذه المدينة، لا باعتباري حاكما لها.

ابتسمت، وقلت: وهل يمكن للحاكم الذي انتخب حسب مواثيق العدالة أن يكون مجرد مواطن عادي كسائر الناس؟

قال: أجل.. هو في منصة حكمه حاكم.. ولكنه فيما عدا ذلك مواطن كسائر الناس.

قلت: فما حاجتك للذهاب إلى المحكمة؟

قال: لقد ادعى بعضهم بأني ظلمته.. وقد استدعاني القاضي للتحري في مظلمته.. ويلزمني الذهاب طاعة للقاضي، كما قال تعالى:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ } (النساء: 59)

قلت: لقد حيرتني.. هل أنت ولي الأمر أم هو؟

قال: هو ولي أمري في شؤون القضاء.. وأنا ولي أمره في الشؤون التي يتطلبها الحكم.. ولا ينبغي لأحد منا أن يبغي على الآخر.. لقد قال صلى الله عليه وآله وسلم يشير إلى هذا، ويدعو إلى مراعاته: (أنزلوا الناس منازلهم)([53]).. إن هذا الحديث هو القاعدة التي تحكم هذه المدينة قبل أن أحكمها أنا، وقبل أن يحكمها أي مجلس من المجالس.. فلكل منزلة أهلها، ولا يمكن أن نتدخل في شؤونهم إلا إذا اقتضت العدالة ذلك.

سرت مع محمد المهدي إلى قاعة المحكمة، وهناك وجدنا قسمان كبيران:

التثبت:

دخلنا الأول، وكان اسمه قسم التثبت.. وقد كتب على بابه قوله تعالى:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} (الحجرات:6)، وبجانبها كتب قوله تعالى:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً} (النساء:135)

في داخل القاعة وجدنا مجموعة رجال واقفين، وقد صنفوا صنفين، وقد عرفت فيما بعد أنهم الشهود..

وقف محمد المهدي حيث أمره المحقق أن يقف، ثم توجه المحقق إلى أولئك الشهود قائلا: اسمعوني جيدا.. أنا مجرد ناصح.. إن شئتم أن تقبلوا نصيحتي، فافعلوا، وإلا فإن لله يوما يسأل فيه الإنسان عن كل فعل فعله، وعن كل كلمة قالها.

فلهذا أدعوكم ـ قبل أن نتوجه لمجلس العدالة ـ أن تتثبتوا جيدا مما ستشهدون به، لقد قال الله تعالى داعيا إلى ذلك:{ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ } (الطلاق: 2)

ونهى عن قول الزور، فقال:{ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} (الحج: 30)، وأخبر عن صفات الصالحين، فقال:{ وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً} (الفرقان:72)

ونهى أن يخبر الإنسان بما لا برهان له عليه، فقال:{ وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} (الاسراء:36)

وأخبر عن خطور الكلمة، فقال:{ مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} (قّ:18)

وأخبر صلى الله عليه وآله وسلم عن الخطر الذي يقع فيه من شهد شهادة زور، فقال في مجلس مثل هذا المجلس: (ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ ‏قلنا: بلى يا رسول الله، قال: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين).. وكان متكئاً فجلس، وقال: (ألا وقول ‏الزور، ألا وشهادة الزور).. فما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت)‏ ([54])

وقال: (من حلف على يمين هو فيها فاجر ليقتطع بها مال امرئ مسلم لقي الله وهو عليه غضبان)([55])

قال رجل من القوم تظهر عليه الحدة: لكأني بك تريد أن تثنينا عن الشهادة التي نريد أن ندلي بها ضد هذا الرجل بحجة أنه أمير هذه البلدة.

قال المحقق: معاذ الله أن أقول ذلك، أو أنوي ذلك.. إن ما أقوله لك هو ما سبق أن قلته لغيرك من الشهود ممن يريدون الشهادة عكس شهادتك.

ثم كيف أقول ذلك.. وقد نهينا عن كتمان الشهادة، قال تعالى:{ وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} (البقرة: 283)، ونهى الله تعالى الشهداء من التهرب من الشهادة، فقال:{  وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا } (البقرة: 282)

لست أدري كيف حدثتني نفسي حينها، وقلت: ما أسهل أن يخترق مثل هذا القضاء، وما أيسر أن يحتال عليه.. إن الأمر لا يعدو فيه نصائح تلقى، ثم تضيع الحقوق بعدها.

لقد قلت ذلك في نفسي، ويشهد الله أنه لم تتحرك به شفتاي، لكن المحقق نظر إلي، والابتسامة تملأ فمه، ثم قال: ليس ذلك صحيحا يا بني.. نعم نحن نعتمد النصيحة ثقة في الشهود.. ولكنا لا نكتفي بها..

لقد علمنا أقضى القضاة كيف نحتال في التحري عن الحقائق.. ومن ذلك ما روي أن ابني عفراء لما تداعيا قتل أبي جهل، قال لهما صلى الله عليه وآله وسلم: (هل مسحتما سيفيكما؟)، قالا: لا، قال: فأرياني سيفيكما.. فلما نظر فيهما، قال لأحدهما: هذا قتله، وقضى له بسلبه.

انظر كيف اعتمد صلى الله عليه وآله وسلم على دراسة الآثار.. وتعرف من خلالها على القاتل.. لقد اقتفى أثره في هذا ورثته.. فقد كانوا يستعملون كل وسائل التحري للوصول إلى الحقيقة التي لا يمكن أن تقوم العدالة إلا عليها..

سأحدثك عن أحد تلاميذه صلى الله عليه وآله وسلم لترى كيف كان التحري والتثبت قبل إرسال الأحكام.. إنه علي  ذلك القاضي الذي هو مرجع قضاة الإسلام.. 

لقد حدث عبيد الله بن أبي رافع قال: خاصم غلام من الأنصار أمه إلى عمر فجحدته، فسأله البينة، فلم تكن عنده، وجاءت المرأة بنفر، فشهدوا أنها لم تتزوج وأن الغلام كاذب عليها، وقد قذفها.. فأمر عمر  بضربه، فلقيه علي  فسأل عن أمرهم، فأخبر فدعاهم، ثم قعد في مسجد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وسأل المرأة فجحدت، فقال للغلام: اجحدها كما جحدتك، فقال: يا ابن عم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إنها أمي، قال: اجحدها، وأنا أبوك والحسن والحسين أخواك، قال: قد جحدتها، وأنكرتها.. فقال علي لأولياء المرأة: أمري في هذه المرأة جائز؟ قالوا: نعم، وفينا أيضا، فقال علي: أشهد من حضر أني قد زوجت هذا الغلام من هذه المرأة الغريبة منه، يا قنبر ائتني بطينة فيها درهم، فأتاه بها، فعد أربعمائة وثمانين درهما، فدفعها مهرا لها، وقال للغلام: خذ بيد امرأتك، ولا تأتنا إلا وعليك أثر العرس، فلما ولى، قالت المرأة: يا أبا الحسن، الله الله هو النار، هو والله ابني، قال: وكيف ذلك؟ قالت: إن أباه كان زنجيا، وإن إخوتي زوجوني منه، فحملت بهذا الغلام، وخرج الرجل غازيا فقتل، وبعثت بهذا إلى حي بني فلان، فنشأ فيهم، وأنفت أن يكون ابني، فقال علي: أنا أبو الحسن، وألحقه بها، وثبت نسبه.

وذكر الأصبغ بن نباتة أن شابا شكا إلى علي بن أبي طالب  نفرا، فقال: إن هؤلاء خرجوا مع أبي في سفر، فعادوا ولم يعد أبي، فسألتهم عنه، فقالوا: مات، فسألتهم عن ماله؟ فقالوا: ما ترك شيئا، وكان معه مال كثير، وترافعنا إلى شريح، فاستحلفهم وخلى سبيلهم، فدعا علي بالشرط، فوكل بكل رجل رجلين، وأوصاهم ألا يمكنوا بعضهم أن يدنو من بعض، ولا يدعوا أحدا يكلمهم، ودعا كاتبه، ودعا أحدهم، فقال: أخبرني عن أبي هذا الفتى: في أي يوم خرج معكم؟ وفي أي منزل نزلتم؟ وكيف كان سيركم؟ وبأي علة مات؟ وكيف أصيب بماله؟ وسأله عمن غسله ودفنه؟ ومن تولى الصلاة عليه؟ وأين دفن؟ ونحو ذلك، والكاتب يكتب، ثم كبر علي فكبر الحاضرون، والمتهمون لا علم لهم إلا أنهم ظنوا أن صاحبهم قد أقر عليهم.

ثم دعا آخر بعد أن غيب الأول عن مجلسه، فسأله كما سأل صاحبه، ثم الآخر كذلك، حتى عرف ما عند الجميع، فوجد كل واحد منهم يخبر بضد ما أخبر به صاحبه، ثم أمر برد الأول، فقال: يا عدو الله، قد عرفت غدرك وكذبك بما سمعت من أصحابك، وما ينجيك من العقوبة إلا الصدق، ثم أمر به إلى السجن، وكبر، وكبر معه الحاضرون، فلما أبصر القوم الحال لم يشكوا أن صاحبهم أقر عليهم، فدعا آخر منهم، فهدده، فقال: يا أمير المؤمنين، والله لقد كنت كارها لما صنعوا، ثم دعا الجميع فأقروا بالقصة، واستدعي الذي في السجن، وقيل له: قد أقر أصحابك ولا ينجيك سوى الصدق، فأقر بمثل ما أقر به القوم، فأغرمهم المال، وأقاد منهم بالقتيل.

وهكذا، فإن للقاضي أن يستعمل كل الوسائل التي يستطيع بها أن يصل للحقيقة.

قلت في نفسي: وهذا أيضا قد يكون طريقا من طرق الجور.. فالقاضي الذي يعذب المتهم سيستخرج منه لا محالة ما شاء من الاعترافات.

التفت إلي، والابتسامة تملأ فمه، وقال: الكل يمكن أن يفعلوا ذلك.. الكل يمكنوا أن يظلموا ليتسنى لهم أن يعدلوا إلا محمدا صلى الله عليه وآله وسلم.. وإلا ورثة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فإن ما ملأ الله به قلوبهم من رحمة تمنعهم من أن يفعلوا ذلك..

الحكم:

بعد أن استعمل المحقق كل ما أمكنه من وسائل للتثبت من الشهود والبينات خرجنا إلى القسم الثاني، وقد كان قاعة كبيرة تشبه قاعات المحاكم المعروفة، وكانت  مليئة بالحضور([56]).

وكان أول متحدث فيها رجل تبدو عليه سيما الصلاح، وقف في الجمع خطيبا، وقال: أيها الجمع المبارك.. أنتم تعلمون أن هذه المحكمة بقضاتها، وكل من يعملون فيها، وبعد أن بذلوا كل جهودهم للبحث عن قضاء عادل يحقق قيمة العدل السامية في أعلى درجاتها لم يجدوا قوانين عادلة كالقوانين التي جاء بها الإسلام.. ولم يجدوا قاضيا عادلا بلغ به عدله أكمل الدرجات كرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. لذلك ساروا خلفه، واعتبروه أسوتهم الأعلى، وقدوتهم الأرفع.. وصارت همة الكل هو السعي للتحقق بوراثة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

وقد وقفت هنا بينكم ـ قبل أن يذكر القاضي الأحكام التي وصل إليها بعد التحري والتثبت والتدقيق ـ لأذكر لكم قيمة العدل وخطورة الظلم.. ليرتدع كل ظالم وجائر سواء كان من المتهمين أو من القضاة:

التفت إلى المنصة التي جلس فيها القضاة، وقال يخاطبهم: أما القضاة، فقد أخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الخطر الذي يتعرضون له إن هم أعرضوا عن العدالة التي بذلوا جهودهم للوصول إليها.. فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (ما من حاكم يحكم بين الناس إلا جاء يوم القيامة وملك آخذ بقفاه حتى يقف على جهنم ثم يرفع رأسه إلى الله فإن قال الله تعالى ألقه ألقاه في مهواه أربعين خريفا)([57])

وفي حديث آخر قال صلى الله عليه وآله وسلم: (من جعل قاضيا بين الناس فقد ذبح بغير سكين)([58])

وقال: (ليأتين على القاضي العدل يوم القيامة ساعة يتمنى أنه لم يقبض بين اثنين في تمرة قط)([59])

والنبي صلى الله عليه وآله وسلم بهذا التشديد ينبه إلى خطورة هذا المنصب حتى لا يطلبه إلا من أنس من نفسه القدرة عليه، أو أنس فيه ولي الأمر القدرة عليه، ولهذا قال صلى الله عليه وآله وسلم: (من ابتغى القضاء، وسأل فيه شفعاء وكل إلى نفسه، ومن أكره عليه أنزل الله تعالى ملكا يسدده)([60])

ولهذا.. فإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قسم القضاة إلى ثلاثة أقسام، ففي الحديث الشريف: (القضاء ثلاثة: واحد في الجنة، واثنان في النار، فأما الذي في الجنة: فرجل عرف الحق،  فقضى به فهو في الجنة، ورجل عرف الحق فلم يقض به وجار في الحكم فهو في النار، ورجل لم يعرف الحق فقضى للناس على جهل فهو في النار)([61])

وقد نهى صلى الله عليه وآله وسلم أن يحول بين القضاة والعدل الذي كلفوا بتنفيذه أي حائل، ففي الحديث: أن امرأة سرقت في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في غزوة الفتح، فقالوا: من يكلم فيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ فقيل: ومن يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد حب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ ففزع قومها إلى أسامة بن زيد يستشفعون به إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلما كلمه أسامة فيها تلون وجه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: (أتكلمني  في حد من حدود الله) قال أسامة: يا رسول الله استغفر لي، فلما كان العشي قام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خطيبا فأثنى على الله تعالى بما هو أهله، ثم قال: (أما بعد فانما أهلك الناس أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد والذي نفسي بيده لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها)([62])

وعن علي  قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى اليمن قاضيا، وأنا حدث السن ولا علم لي بالقضاء، فقال: (إن الله سيهدي قلبك ويثبت لسانك، فإذا جلس بين يديك الخصمان فلا تقضين حتى تسمع الآخر كما سمعت من الأول، فإنه أحرى أن يتبين لك القضاء)، قال: فما زلت قاضيا أو ما شككت في قضاء بعد([63]).

وبناء على هذا، فقد أجمع فقهاء الإسلام على أن على القاضي أن يكون حيادياً، فلا ينحاز لأحد ‏دون أحد، وأن يعتبر طرفي الخصومة على قدم المساواة، وأن يتجرد عن كل مصلحة له أو علاقة مع أحدهما.

ونصوا على أن على القاضي أن يساوي بين الخصوم في مجلس القضاء في كل شيء، بالجلوس والسلام والنظر ‏والمخاطبة.

ونصوا على أنه يحرم على القاضي مسارة أحد الخصمين دون الآخر، أو تلقينه حجته، أو تعليمه كيف يدعي إلا أن ‏يترك ما يلزمه ذكره في الدعوى ليتضح للقاضي تحرير الدعوى.

ونصوا على أنه يحرم على القاضي أن يضيف أحد الخصمين أو يستضيفه لئلا يكون إعانة على خصمه وكسر قلبه، وأنه يحرم على القاضي أن يقبل الهدية ممن لم يكن يهديه قبل ولايته أو ممن كانت له حكومة مطلقاً؛ لأن ‏قبولها ممن لم تجر عادته بمهاداته ذريعة إلى قضاء حاجته فيقوم عنده شهوة لقضاء حاجته.

ونصوا على أنه يحرم على القاضي أن يحكم بعلمه منعاً لاتهامه وتحيزه، والطعن في حياده.

وفوق ذلك كله.. فقد أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم القاضي أن يكون في حالة نفسية طيبة تسمح له بالتحقيق وبالحكم، ففي الحديث: (لا يحكم أحد بين اثنين وهو غضبان)([64])، وفي حديث آخر قال صلى الله عليه وآله وسلم: (لا يقضي القاضي إلا وهو شبعان ريان)([65])

قال ذلك متوجها به للقضاة، ثم التفت إلى المحل الذي جلس فيه الخصوم، وقال: وأما أنتم، يا من لجأتم لهذه المحكمة للبحث عن العدالة، فإني أذكركم الله، فإن القاضي لا يحكم إلا بما تظهره له الأدلة.. فمن كان منكم غاشا أو مخادعا أو مزورا، فليحذر من الله، فإن محكمة الله العادلة ستقيم عليه من العدل ما لم تستطع محاكم الدنيا أن تفي به.

  لقد حدثت أم سلمة  أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سمع جلبة خصمين بباب حجرته فخرج إليهما، فقال: (إنما أنا بشر مثلكم وإنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضى له بنحو ما أسمع، فمن قضيت له بشئ من حق أخيه فلا يأخذ منه شيئا، فأنا أقطع له قطعة من النار)، فبكى الرجلان وقال كل واحد منهما لصاحبه: حقي لك، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (أما إذا فعلتما ذلك فاقتسماه وتوخيا الحق ثم استهما ثم تحللا([66]).

وقال رسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم في ذلك: (من ظلم قيد شبر من الأرض طوقه الله من سبع أرضيين)([67])

قال ذلك، ثم أخذ يعظهم بمواعظ تتفتت لها القلوب..

رأيت الدموع تنحدر حارة من بعض الخصوم، ثم إذا بأحدهم يصيح بصوت يملأ أركان قاعة المحكمة: (أستغفر الله.. أنا المذنب.. فطبقوا علي من حدود الله ما يطهرني من ذنوبي.. إن جسمي يطيق عقاب الدنيا.. ولكنه لن يطيق عذاب الآخرة..)

ثم قال آخر مثل ذلك..

ولم يبق أحد في منصة الخصوم إلا قال ذلك إلا الرجل الذي ادعى على محمد المهدي، فقد ظل مصرا على دعواه..

بعد أن انتهى الواعظ من وعظه([68]) جاء دور القضاة.. وقد تقدم أحدهم، وقال: بارك الله في أخينا ابن السماك([69]).. لقد ملأ قلوبنا بالمخافة من الجور والظلم.. ونحن نستغفر الله قبل النطق بأي حكم.. وندعو الخصوم أن يراجعوا أنفسهم، فما غاب عنا لن يغيب عن الله.

قال ذلك، ثم نطق بالحكم.. وقد أسفت كثيرا عندما سمعت القاضي يحكم للمدعي على (محمد المهدي).. لكن محمدا المهدي لم يظهر عليه أي أسف، بل رأيته يتوجه إلى الله حامدا شاكرا.

اقتربت منه، وقلت: لقد حكم قاضيك ضدك.

قال: الحمد لله.. لقد تحققت لي الأسوة برجل امتلأت له حبا من مفرق رأسي إلى أخمص قدمي.

قلت: من هو؟

قال: أمير المؤمنين ابن عم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على بن أبي طالب..   

قلت: ما  الذي حصل له؟

قال:  لقد روي أنه ضاعت منه درع، فوجدها عند نصراني. فأقبل به إلى القاضي (شريح) يخاصمه، وقال علي: هذه الدرع درعي ولم أبع ولم أهب، فقال شريح للنصراني: ما تقول فيما يقول أمير المؤمنين، فقال النصراني: ما الدرع إلا درعي وما أمير المؤمنين عندي بكاذب! فالتفت شريح إلى على وقال: يا أمير المؤمنين، ألك بينة؟ فابتسم علي وقال: أصاب شريح، ما لي بينة، فقضى بالدرع للنصراني، فأخذها ومشى خطوات ثم رجع، فقال: أما أنا فأشهد أن هذه أحكام الأنبياء، أمير المؤمنين يدينني إلى قاضيه فيقتضي فيقضي عليه، أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله.. الدرع والله درعك يا أمير المؤمنين، سقطت منك وأنت منطلق إلى صفين، قال: أما إذ أسلمت فهي لك.

كان خصم محمد المهدي يتنصت علينا ليرى موقف محمد المهدي من حكم القاضي.. فلما سمع ما سمع سقطت دموع حارة من عينيه، ثم جثا على ركبتيه بين يدي محمد المهدي، وقال: هذا ما أردت منك.. هذا ما أردت منك..

أنا نصراني.. لعلي من أحفاد ذلك الرجل الذي خاصم عليا.. وقد قرأت هذه الحادثة، وأثرت في تأثيرا عظيما.. ولكنها لما كانت مجرد أوراق حفظها التاريخ لم تحيي في نفسي ما ينبغي أن تحييه، فلما رأيتها اليوم ماثلة أمامي أحيت ما كان ميتا.. وأنا اليوم أشهدك، وأشهد الجمع بأن الحق لك.. وأني لم أقم بما قمت به إلا اختبارا للعدالة التي جاء بها محمد.. وأنا اليوم أقول ما قال ذلك النصراني لعلي: (أشهد أن هذه أحكام الأنبياء، أمير المؤمنين يدينني إلى قاضيه فيقتضي فيقضي عليه، أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله)

الأمن

في اليوم الرابع، طلب مني محمد المهدي أن أسير معه للثكنة التي يدرب فيها الجند المكلف بحماية أمن المدينة، فقلت: ألهذه المدينة الممتلئة سلاما ثكنة وجيش!؟

قال: لولا أن لها ثكنة وجيشا لطمع فيها أعداؤها.. لقد قال الله تعالى يأمر بإعداد العدة الكافية التي تردع نوازع الشر في المجرمين:{ وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ} (لأنفال:60)

قلت: إن هذه الآية تأمر بالإرهاب([70])!؟

قال: أجل.. ولكنه إرهاب النفوس الأمارة، وما تحمله من نوازع شريرة، لا إرهاب النفوس المطمئنة وما تحمله من سلام..

القوة:

كان أول محل دخلنا إليه في الثكنة مركز للتدريب.. وقد لاحظت شدة التدريبات ودقتها.. ولكني مع ذلك لم ألحظ على الجند أي ضجر أو قلق، بل رأيتهم يقبلون على التدريبات بحيوية ونشاط، والابتسامة تملأ وجوههم، اقتربت من أحدهم، وقلت: أراك تمارس تداريب شاقة.. فلم لا ترحم نفسك.. فليس هناك أي عدو يتربص بكم؟

قال: أنا أطبق أمر الله لنا بالإعداد، ولا يهمني إن كان هناك عدو يتربص بنا أو ليس هناك.. لقد قال صلى الله عليه وآله وسلم يفضل المؤمن القوي على المؤمن الضعيف: (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير.. احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز وإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت كذا لكان كذا وكذا، ولكن قل قدر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان)([71])

بالإضافة إلى هذا، فقد أمرنا الله تعالى بالحذر وبأخذ السلاح حتى لا نترك لأعدائنا أي فرصة.. لقد قال الله تعالى:{ وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُهِيناً} (النساء:102)

انظر كيف تلح هذه الآية الكريمة في ضرورة أخذ السلاح وضرورة أخذ الحذر.

قلت: ذلك في الحرب.

قال: ونحن نتعلم في السلم كيف نأخذ السلاح.. فالسلاح لا يقاتل إلا باليد التي تحمله.

قلت: على أي سلاح تتدربون؟.. هل بالأسلحة التي سنها لكم نبيكم، أم بالأسلحة التي استنبطها أهل العصر الحديث؟

قال: مع أننا نكره ما استنبطه أهل هذا العصر من أنواع الأسلحة المدمرة إلا أننا مضطرون لتعلمها واستعمالها.. لأنه لا يردع الأعداء إلا ذلك.

قلت: وتخالفون دينكم بذلك؟

قال: لا.. لقد أمرنا الله بإعداد القوة مطلقا.. ولم يحدد لنا وسائلها، ولا أساليبها.. ومع ذلك، فقد ورد في سنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما يدل على ضرورة تتبع التطور في هذا المجال مراعاة لإعداد القوة، فقد كان صلى الله عليه وآله وسلم حريصاً على تزويد جيش الإسلام بالأسلحة المعاصرة، والتي لم يألفها العرب من قبل، وعلى تدريب المسلمين عليها، ثم استخدامها في القتال، فقد أرسل صلى الله عليه وآله وسلم بعثة في اثنين من المسلمين هما: عروة ابن مسعود وغيلان بن سلمة إلى (جرش) ليتعلما صنعة العرادات والمنجنيق والدبابات، وكلها من أسلحة القتال التي لم يألفها المسلمون من قبل([72]).

وقد استخدم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ـ كذلك ـ المنجنيق والدبابات في حصار الطائف، كما روي أنه نصب المنجنيق في حصار (خيبر) للتهديد، ولكنه لم يرم به فعلاً.

ومن حرص رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على التقدم في هذا المجال اعتبر صانع السلاح في سبيل الله ومن جهز به غازياً مثل الرامي به، فقال: (إن الله يدخل بالسهم الواحد ثلاثة نفر الجنة، صانعه يحتسب في صنعته الخير، والرامي به، والممد به)([73])

قلت: ولكني سمعت بأن نبيكم سن لكم الرمي.

قال: أجل.. لقد حث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على الرمي واهتم به.. واهتم به ورثته من بعده.. لقد حدث عقبة بن عامر  قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول وهو على المنبر:{ وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} (لأنفال: 60) ألا وإن القوة الرمي)([74]).. وفي الحديث الآخر، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (ارموا واركبوا وأن ترموا أحب إلي من أن تركبوا، ومن تعلم الرمي ثم نسيه فليس منا)([75]).. وفي حديث آخر، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (كل شيء يلهو به ابن آدم فهو باطل، إلا ثلاثة: رميه عن قوسه، وتأديبه فرسه، وملاعبته أهله. فإنهن من الحق)([76])

وقد أشاد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بمن يجيد الرمي، ففي أحد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول لأصحابه: (نبلوا سهيلاً)، يقصد سهيل بن الأحنف  أي اعطوه نبلكم، وذلك لدقته ومهارته في الرمي.

وقد أمر صلى الله عليه وآله وسلم جند المسلمين بالاستمرار في التدريب عليه، وحذر من الانقطاع فقال: (من ترك الرمي بعد ما علمه فإنما هي نعمة جحدها)([77])، وقال: (من علم الرمي ثم تركه فليس منا)([78])

قلت: ولكن الرمي ليس سوى وسيلة واحدة من وسائل الجندي.. والمعركة لا يمكن أن تتم بالرمي وحده؟

قال: الرمي هو أهم أدوات الجندي في المعركة..

قلت: ذلك في القديم.

قال: ليس في هذا قديم ولا جديد.. ألا ترى تلك القنابل التي تنزل مطرا صاعقا على الصبيان والنساء والشيوخ.. وعلى الزرع والضرع..؟

قلت: أراها.. ما بها؟

قال: إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم عندما أمرنا بالرمي يشير إلى هذا.. هو يقول لنا: تعلموا الرمي والتسديد حتى لا تصيبوا بأسلحتكم إلا من واجهكم وأراد قتالكم..

بينما نحن كذلك، إذا بالمدرب يستدعي جنوده، فذهب ذلك الجندي الذي حدثني، وذهبت معه.. بعد أن اجتمعنا عند المدرب قال: لقد جمعتكم لأذكركم بحديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (لايشر أحدكم إلى أخيه بالسلاح فإنه لايدري لعل الشيطان ينزع في يده. فيقع في حفرة من النار)([79]).. وفي حديث آخر قال صلى الله عليه وآله وسلم: (من أشار إلى أخيه بحديدة، فإن الملائكة تلعنه حتى يدعه، وإن كان أخاه لأبيه وأمه)([80]).. وفي حديث آخر قال صلى الله عليه وآله وسلم: (من مر في شيء من مساجدنا أو أسواقنا ومعه نبل فليمسك، أو ليقبض على نصالها بكفه، أن يصيب – أي حتى لايصيب – أحداً من المسلمين منها بشيء)([81])

وعن جابر  قال: (نهى النبي أن يتعاطى السيف مسلولاً)([82])

روى هذه الأحاديث، ثم قال: إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في هذه الأحاديث يحث على ناحية مهمة لها ارتباط بما نحن فيه.. إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يحثنا على مراعاة احتياطات الأمن في التدريب.. فالتزموا سنة نبيكم صلى الله عليه وآله وسلم في هذا.. فلا أفلح من ضيع سنة نبيه.

الأخلاق:

بعد أن امتلأت إعجابا بالتداريب التي كانت تمارس في مركز التدريب سرت حيث كان يجلس محمد المهدي.. فوجدت رجلا يرتدي بذلة الضباط يخاطب جنده قائلا([83]): أيها الجنود البواسل.. يا من نذرتم أنفسكم لحماية أمن هذه المدينة.. اسمعوني أقول لكم كلمات هي أهم لكم من كل التدرايب التي تمارسونها..

إن الإسلام دين أحيا الله به قلوبا أماتتها الشهوات، وأنقذ به عقولا سممتها الشكوك والشبهات، وأحل به من الأغلال أفكارا قيدتها الخرافات وسجنتها التخرصات، وجدع به أنوفا شمخت بها الجاهلية الجهلاء.. وهو دين ينشط الإنسان للعمل، ويحث على طلب العلم، ويدعو لاحترامه واستثماره.. وهو دين العقيدة الرائقة، التي تطهر النفس، وتزكي القلب، وتربي الخلق وتغذي العقل، وتوقف الغريزة عند حدها، وتعطي مطمح من مطامح الإنسان معناه الذاتي وسيره الطبيعي.. وهو عقيدة استعلاء.. تبعث في روح المؤمن الإحساس بالعزة من غير كبر، وروح الثقة من غير اغترار.

والإسلام بجانب هذا.. دين المسالمة مع المسالمين، والردع للمعادين.. هو نور يهدي المسالمين، وهو نار تحرق الطغاة الآثمين.. نعم هو يدعو بالحكمة والموعظة الحسنة، لكنه إذا جد الجد كان الصخرة التي يتحطم عليها كل جبار عنيد.

ولهذا، فإنه يطلب من المسلمين أن يكونوا على حذر في وقت السلم، حتى لا يؤاخذوا على غرة.. ويدعو المسلمين إلى الاستشهاد من أجل عزة الإسلام، ولا يعدل الجهاد في سبيل الله مال، ولا ولد، ولا والد ولا عشيرة، ولا أهل.

لقد تعلمنا من المعارك التي خاضها المسلمون، وانتصرت فيها الجيوش الإسلامية.. سواء في غزوة بدر أو أحد، أو الخندق .. أن الوسائل المادية ليست وحدها هي التي تفصل في المعارك، ولا يوجد ما يصون الاستعداد العسكري إلا العقيدة؛ لأنها هي التي تربط القلوب بالله، وتصل قوة المجاهدين بالقوة الكبرى التي لا تغلب..

ولو انتظر المسلمون في غزوة بدر الكبرى، حتى تتكافأ قوتهم، وقوة خصومهم، ما قامت للمسلمين قائمة.. إنما القلة المؤمنة بعقيدتها.. استعدت بقدر ما استطاعت، ثم خاضت المعركة فكان فيها الفرقان..

لقد خطب عبد الله بن رواحة  في جنده يشجعهم على لقاء العدو، حينما فزعوا من كثرة عَدده، وعُدده في غزوة مؤتة فقال: (يا قوم إن التي تكرهونها لهي الشهادة التي خرجتم تطلبونها، والله ما كنا نقاتل الناس بكثرة عدد، ولا بكثرة سلاح، ولا بكثرة خيول، ما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به.. انطلقوا، فوالله لقد رأيتنا يوم بدر ما معنا إلا فرسان، ويوم أحد ما معنا إلا فرس واحد.. انطلقوا، فإنما هي إحدى الحسنيين، إما ظهور عليهم فذلك ماوعدنا الله ورسوله، وليس لوعده خلف..وإما الشهادة فنلحق بالإخوان، نرافقهم في الجنان)

فمن أراد منكم أن يكون وارث الجندية من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فعليه أن يتحلى بالمبادئ العظيمة التي كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يأمر بها جنده.

قال جندي من الجنود: كلنا يحب أن يكون ذلك الوارث.. فما هي أخلاق جنود رسول الله؟

قال القائد: أولها الإخلاص.. فلا يكون للجندي غرض إلا طاعة الله وخدمة الحق والعدل والسلام.. إياكم أن تكونوا أدوات في يد أي ظالم أو مستبد أو طاغية.. فإن من أعان ظالما حشر معه..

لقد قال صلى الله عليه وآله وسلم يحث على الأخلاص في الجندية ـ وقد سئل عن الرجل يقاتل شجاعة، ويقاتل حمية، ويقاتل رياء أي ذلك في سبيل الله؟ ـ: (من قاتل لتكون كلمة الله تعالى هي العليا، فهو في سبيل الله)([84])

وفي حديث آخر أن رجلا قال: يا رسول الله رجل يريد الجهاد في سبيل الله تعالى، وهو يبتغي عرضا من عرض الدنيا فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا أجر له)، فأعظم ذلك الناس، وقالوا للرجل: عد لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فلعلك لم تفهمه فقال: يا رسول الله، رجل يريد الجهاد في سبيل الله وهو يبتغي عرضا من عرض الدنيا قال: (لا أجر له)، فقال للرجل: عد لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: له الثالثة فقال له: (لا أجر له)([85]

وجاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: أرأيت رجلا غزا يلتمس الأجر والذكر ماله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا شئ له)، فأعادها ثلاث مرات، يقول له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا شئ له)، ثم قال: (إن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصا، وابتغي به وجهه)([86])

قال آخر: فقهنا هذا.. فما الثاني؟

قال: التقوى.. فمن لم يتق الله في قتاله لم يزده قتاله عن الله بعدا.

قال آخر: فكيف نتقي الله في قتالنا؟

قال: لقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ‏إذا أمر الأمير على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله تعالى ومن معه من ‏المسلمين خيراً، ثم قال: (اغزوا باسم الله، في سبيل الله. قاتلوا من كفر بالله. ‏اغزوا ولا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليداً)([87])

وروي أن امرأة مقتولة وجدت في بعض مغازي ‏رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فنهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ‏عن قتل النساء والصبيان([88]).

وعن رجل من جهينة، أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (لعلكم تقاتلون قوماً فتظهرون عليهم فيتقونكم بأموالهم دون ‏أنفسهم وذراريهم، فيصالحونكم على صلح، فلا تصيبوا منهم فوق ذلك، فإنه لا ‏يصلح لكم)([89]

وحدث بعضهم قال: نزلنا مع رسول الله قلعة خيبر، ومعه من معه من ‏المسلمين، وكان صاحب خيبر رجلاً مارداً متكبراً، فأقبل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ‏فقال: يا محمد! لكم أن تذبحوا حمرنا، وتأكلوا ثمرنا، وتضربوا نساءنا؟ فغضب ‏رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقال: (يا ابن عوف اركب فرسك، ثم ‏ناد: إن الجنة لا تحل إلا لمؤمن وأن اجتمعوا للصلاة)، فاجتمعوا. ثم صلى بهم، ثم ‏قام فقال: (أيحسب أحدكم متكئاً على أريكته قد يظن أن الله تعالى لم يحرم شيئاً ‏إلا ما في القرآن! ألا وإني قد وعظت وأمرت ونهيت عن أشياء، إنها لمثل القرآن أو ‏أكثر. وإن الله لم يحل لكم أن تدخلوا بيوت أهل الكتاب إلا بإذن، ولا ضرب ‏نسائهم، ولا أكل ثمارهم، إذا أعطوا الذي عليهم)([90]

قال آخر: ولكن الله تعالى أخبر عن ورثة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنهم أشداء على الكفار، فقال:{ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ } (الفتح: 29)

قال: الشدة لا تعني الوحشية مع الأطفال والنساء والشيوخ والعجزة.. والشدة لا تعني التمثيل بالجثث والأشلاء.. الشدة لا تعني إلا مقاومة المحاربين والضرب على أيديهم.. فمن فعل ذلك، فقد استن بسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. ومن تعداهم إلى غيرهم، فقد استن بسنن الظلمة والمتجبرين الذين لا يرعون حرمة، ولا يحفظون حقا.

التخطيط:

أخذ محمد المهدي بيدي، وقال: هيا بنا نسير إلى قاعة خاصة.. لولا علمي بالهدف النبيل الذي تحمله ما سمحت لك بالدخول إليها.

قلت: ما هي هذه القاعة؟

قال: هي القاعة التي يضع فيها قاعدتنا خططهم العسكرية..

قلت: هل تريد أن تطلعني على أسرار الأمن القومي لهذه المدينة؟

قال: أريد أن أعرفك فقط بأسوتنا في ذلك.. أما ما يرتبط بتفاصيل الأمن المرتبطة بهذه المدينة.. فهي من أسرار الخاصة من الذين وكلوا أنفسهم لهذا الجانب.. وأنا نفسي لا أطلع عليها([91]).

 دخلنا القاعة، فرأيت طاولة كبيرة جلس فيها مجموعة رجال بزي مدني.. قال أحدهم([92]): لقد قمت بما كلفتموني به.. وقد أتيت لكم اليوم بتصوري عن المراحل التي مرت بها سياسة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم العسكرية.. وهي مراحل استنتجتها من خلال الاستقراء التام للغزوات والسرايا التي خاضها رسو الله صلى الله عليه وآله وسلم..

لقد وجدت أن السياسة العسكرية للرسول صلى الله عليه وآله وسلم تضمنت ثلاث مراحل، هي على الترتيب: مرحلة الاستمكان، ومرحلة التعرض والهجوم داخل شبه الجزيرة العربية أو (إنذار أم القرى)، ومرحلة التعرض والهجوم خارج شبه الجزيرة العربية أو (إنذار من هم حول أم القرى)

لقد استلهمت هذه المراحل من قوله تعالى:{ وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} (الأنعام:92)

قال رجل منهم: فما تقصد بمرحلة الاستمكان؟

قال: أشير بها إلى المرحلة الدفاعية التي دافع خلالها الجيش المسلم بقيادة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن المجتمع الإسلامي الوليد، وقد استمرت هذه المرحلة ثلاث سنوات من رمضان في العام الثاني إلى ذي العقدة من العام الهجري الخامس، وقد شملت هذه المرحلة معركة بدر، التي وقعت في رمضان من العام الهجري الثاني وهي المعركة الأولى التي خاضها الجيش المسلم دفاعاً عن المجتمع الإسلامي الوليد.

وشملت معركة أحد التي وقعت في شهر شوال من العام الثالث الهجري، وهي من المعارك التي اختبر الله فيها المؤمنين ليعدهم للمراحل التالية([93])..

وشملت معركة الخندق التي وقعت في شهر ذي القعدة من العام الخامس الهجري، وهي آخر معارك الدفاع ومرحلة الاستمكان.

قال آخر: فما تقصد بمرحلة التعرض والهجوم داخل شبه الجزيرة العربية أو (إنذار أم القرى)؟

قال: في هذه المرحلة بدأ الجيش المسلم في التحول من الأعمال الدفاعية الثابتة إلى الأعمال الهجومية، وقد استمرت هذه المرحلة من رمضان في العام الهجري الثامن إلى شوال من نفس العام.

ومن المعارك التي شملتها هذه المرحلة معركة فتح مكة.. فهذه المعركة تعتبر درة في جبين التاريخ العسكري الإسلامي، حتى يمكننا القول أنها كانت بياناً عملياً عن أسلوب مهاجمة المدن والاستيلاء عليها بأقصى سرعة وبدون خسائر؛ حيث كان نصر الله المبين مصداقاً لقوله تعالى:{ وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً} (الفتح:24)

ومنها معركة وادي حنين، وقد تمت بعد فتح مكة بأيام قليلة بعد أن تجمع المنافقون والكافرون في وادي حنين، وتعتبر هذه المعركة هي المعركة الوحيدة في تاريخ السياسة العسكرية التي وضعها الرسول صلى الله عليه وآله وسلم التي كان الجيش المسلم يتمتع فيها بالتفوق في القوات والعتاد، ومن عجب أيضاً أن الجيش المسلم تعرض للفشل في بداية المعركة، وحيث كان الدور العظيم الذي قام به القائد أثر إعادة لم شمل الجيش واستكمال المعركة، وفي ذلك يقول الله تعالى:{ لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (25) ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (26)}(التوبة)

قال آخر: فما تقصد بمرحلة التعرض والهجوم خارج شبه الجزيرة العربية؟

قال: لقد لاحظت أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد أعد جيشه ودربه استعداداً لتنفيذ هذه المرحلة، وقد توفي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قبل بدايتها.

قال آخر: هل تقصد بالتعرض والهجوم الاستعمار والتوسع؟

قال: أنا أتحدث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولست أتحدث عن نابليون أو نيرون أو هتلر.

قال الرجل: أعلم ذلك.. وذلك الذي حيرني.

قال: أقصد الحرب التحريرية.. فمن مقاصد الجهاد في الإسلام تحرير المستضعفين من نير المستكبرين.. لقد قال الله تعالى يذكر ذلك:{ وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً} (النساء:75)

إن هذا بالضبط هو الهدف الذي قصده رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ..

قال آخر: نعلم ذلك.. وهو من البديهيات.. لقد ذكرت أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم درب جنده للقيام بالمرحلة الثالثة.. متى تم ذلك، وكيف؟

قال: لقد خطط الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أن يتم التحول من مرحلة إلى أخرى في إطار موضوعي وواقعي، وحيث تم إعداد الجيش المسلم وتدريبه على الأعمال الهجومية بعد انتهاء مرحلة الاستمكان واستعداداً للمرحلة التالية من خلال معركة مؤتة، ونفس الشئ تم عند إعداد الجيش المسلم وتدريبه للانتقال للمرحلة الثالثة بعد انتهاء المرحلة الثانية من خلال معركة تبوك.

ففي معركة مؤتة تم تدريب وإعداد الجيش للتحول من مرحلة الدفاع إلى مرحلة التعرض.. وتم من خلالها اكتساب الجيش المسلم مهارات التحرك لمسافات طويلة وأسلوب السيطرة على هذا التحرك، وتوفير الإعاشة للقوات.. كما اكتسب الجيش المسلم خبرة عظيمة في القتال تحت ضغط العدو.

وهذا ما نلاحظه كذلك في معركة تبوك.. فبناء على أن الجيش المسلم سوف ينطلق في المرحلة الثالثة إلى من هم حول أم القرى، وسوف يواجه الجيش المسلم دائما تفوق الطرف الآخر، لذلك ركز الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قبل انتقاله للرفيق الأعلى على موضوع استنفار القوات، وأنتم تعرفون بالطبع قصة الثلاثة الذين تخلفوا عن المعركة، وقام المجتمع المسلم بمقاطعتهم.

***

مكثت في تلك البلدة التي آثرت أن تحكمها قوانين العدالة التي جاء بها النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثلاث سنوات رأيت فيها من عجائب العدالة والرحمة ما لم أره في أي مجتمع من المجتمعات.

قلنا: فكيف ظهر لك أن تغادر هذه المدينة الفاضلة؟

قال: تلك قصة طويلة قد لا يفي هذا المجلس بذكرها.

قلت: فحدثنا عن خلاصتها.

قال: لقد سخر شياطين الإنس والجن بعض من ملأ حب الدنيا قلوبهم، فراحوا يغيرون على ذلك الحكم الراشد ليحولوا منه كسروية وقيصرية، ويعيدوا للاستبداد مجده الذي قضى عليه محمد صلى الله عليه وآله وسلم.. وقضى عليه بعده وارثه محمد المهدي.

قلت: ألم يحسب محمد المهدي حسابه لهذا؟

قال: بلى.. حسب حسابه لهذا.. ولذلك لم يستطع أعداؤه أن يظفروا به.. ولعلكم ستسمعون عن قريب باسمه يعود من جديد ليحطم كرسي قيصر وكسرى، ويحل محله ذلك الحصير البسيط الذي كان يجلس عليه محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو يعلم الأجيال قوانين العدالة.


([1])  أشير به إلى المخلص الموعود به في جميع الملل، وأنبه إلى أني لا أقصده بالضبط، لأنه الوارث الكامل لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وإنما أشير إلى ناحية من نواحي وراثته، وهي القيادة العادلة الرشيدة.

([2])  رواه أبو داود، والترمذي.

([3])   رواه أحمد في الزهد، وابن عساكر.

([4])   رواه ابن سعد.

([5])   رواه ابن إسحاق الزجاجي في تاريخه.

([6])   رواه أحمد وأبو داود والترمذي والحاكم وابن ماجة.

([7])   بالمفهوم النبوي، لا بالمفهوم التاريخي.

([8])   استفدنا الكثير من المعلومات المرتبطة بالقوانين في حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم من كتاب (الإسلام والدستور)

([9])   انظر: تدوين الدستور الإسلامي، أبو الأعلى المودودي في كتابه، ص 21 – 76.

([10])   رواه البخاري ومسلم.

([11])   رواه أحمد، والحاكم.

([12])   رواه أحمد وابن إسحق.

([13])   رواه ابن إسحق.

([14])  تناولت هذه الوثيقة بالدراسة من الناحية السياسية الكثير من الكتب، منها: د. محمد حميد الله: مجموعة الوثائق السياسية في العهد النبوي والخلافة الراشدة، د. محمد سليم العوا: النظام السياسي للدولة الإسلامية، د. منير البياتي: الدولة القانونية والنظام السياسي الإسلامي، د. عون الشريف قاسم: دبلوماسية محمد، د. أحمد حمد: الجانب السياسي في حياة الرسول.. وغيرهم.

([15])  تعرض الدكتور أكرم ضياء العمري في كتابه السيرة النبوية الصحيحة لدراسة طرق ورود الوثيقة، وقال: (ترقى بمجموعها إلى مرتبة الأحاديث الصحيحة) وبين أن أسلوب الوثيقة ينم عن أصالتها (فنصوصها مكونة من كلمات وتعابير كانت مألوفة في عصر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم،  ثم قل استعمالها فيما بعد حتى أصبحت معلقة على غير المتعمقين في دراسة تلك الفترة، وليس في هذه الوثيقة نصوص تمدح أو تقدح فرداً أو جماعة، أو تخص أحداً بالإطراء أو الذم؛ لذلك يمكن القول بأنها وثيقة أصلية وغير مزورة، ثم إن التشابه الكبير بين أسلوب الوثيقة وأساليب كتب النبي صلى الله عليه وآله وسلم يعطيها توثيقاً آخر (انظر: السيرة النبوية الصحيحة (1/275) للعمري)

([16])   وروي أنه صلى الله عليه وآله وسلم آخى بين المسلمين في مكة قبل الهجرة على الحق والمواساة، فآخى بين حمزة وزيد بن حارثة، وبين أبي بكر وعمر، وبين عثمان بن عفان، وعبد الرحمن بن عوف، وبين الزبير بن العوام وعبد الله بن مسعود، وبين عبيدة بن الحارث وبلال الحبشي، وبين مصعب بن عمير وسعد بن أبي وقاص، وبين أبي عبيدة بن الجراح وسالم مولى أبي حذيفة، وبين سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل وطلحة بن عبيد الله، وبينه وبين علي بن أبي طالب.

ويعتبر البلاذري (ت276هـ) أقدم من أشار إلى المؤاخاة المكية، وقد تابعه في ذلك ابن عبد البر (ت463هـ) دون أن يصرح بالنقل عنه، كما تابعهما ابن سيد الناس دون التصريح بالنقل عن أحدهما.

([17])   رواه البخاري.

([18])  أي لا يتركه مع من يؤذيه، ولا فيما يؤذيه، بل ينصره ويدفع عنه.

([19])   رواه البخاري.

([20])  يُبيء هو من البواء، أي: المساواة.

([21])   من الوثائقِ النبوية التي لا تزال محفوظة في أماكنَ متفرقةٍ من أنحاء العالم (رسالة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المقوقس عظيم مصر)، ومنها (رسالة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى هرقل إمبراطور الروم وبيزنطة)، ومنها (رسالة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى نجاشي الحبشة)، ومنها (رسالة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى أمير البحرين)

([22])  من أهم الكتب التي حاولت أن تجمع الوثائق التي كتبت في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما قام به الأستاذ محمد حميد الله الحيدر أبادي من جمعه لمجموعة ما تعلَّق بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وقد حاول الأستاذ محمد حميد الله بإخلاص جمعَ هذه الوثائق من أمهات كتب التاريخ والمتاحف، وقدَّم لنا معلوماتٍ مفيدةً يمكننا الاعتماد عليها كثيرًا..

([23])   أي أن تكف عنا ونكف عنها، فلا تكون بيننا عداوة.

([24])   الإسلال: السرقة الخفية، والإغلال: الخيانة.

([25])   ذكرنا التفاصيل الكثيرة المرتبطة بسنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في هذا في رسالة (النبي المعصوم) فصل (استبداد)

([26])   رواه ابن أبي حاتم والخرائطي.

([27])   بناء على القول بأن الآيات نزلت في النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقد أشرنا إلى ذلك، وتوجيه هذا القول وعدم منافاته للعصمة، وذكرنا قول الشيخ ناصر مكارم الشيرازي في ذلك في [النبي المعصوم]

([28])   النصوص المنقولة هنا والتعليقات المرتبطة بها منقولة من (في ظلال القرآن) ببعض التصرف.

([29])   رواه البخاري وغيره.

([30])   رواه الحاكم والطبراني وغيرهما.

([31])   رواه ابن المبارك في (البر والصلة)

([32])   رواه أحمد وغيره..

([33])   ذكرنا التفاصيل الكثيرة المرتبطة بهذا في رسالة (مفاتيح المدائن)

([34])   رواه الواقدي.

([35])   هذا يعني الثناء على العمل، لا رفع التكليف كما يتوهم البعض، فيتصور أن ثناء الله تعالى ورسوله على الصحابة يعني رفع التكليف عنهم.. بدليل أن بعض من مدح ارتد على أعقابه، وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ} [الأعراف: 175، 176]

([36])  )  رواه البخاري ومسلم.

([37])  )  رواه البخاري ومسلم.

([38])  )  رواه البخاري ومسلم،.

([39])  )  مسلم.

([40])  )  رواه التِّرمِذِيُّ وَقَالَ حَدِيثٌ حَسَن صحيحٌ.

([41])    رواه الطبراني في الكبير.

([42])    رواه الحاكم.

(1) رواه أحمد والترمذي.

(2) رواه أبو داود والترمذي.

(3) رواه أحمد ورواته ثقات والطبراني.

(1) رواه الترمذي وأبو داود وابن حبان في صحيحه.

(2) رواه الطبراني وابن أبي الدنيا.

(3) رواه ابن أبي الدنيا وغيره بإسناد لا بأس به.

(4) رواه أبو داود والنسائي واللفظ له.

(5) رواه الترمذي وقال: غريب.

([51])   رواه أحمد ومسلم وغيرهما.

([52])   ابن مَرْدُويه، وقد رواه الترمذي بغير هذه الصيغة مطولا، ثم قال: هذا حديث غريب لا نعلم أحدا أسنده غير محمد بن سلمة الحراني، ورواه ابن حاتم وابن المنذر في تفسيره، ورواه أبو الشيخ الأصبهاني في تفسيره، ورواه الحاكم، ثم قال: وهذا حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه.

([53])   رواه أبو داود.

([54])   رواه البخاري ومسلم.

([55])   رواه البخاري ومسلم.

([56])  وردت النصوص الكثيرة الدالة على وجوب علانية الجلسات القضائية حرصا على تحقيق العدالة.. فقد كان أمير المؤمنين علي بن أبي طالب  يقضي في السوق..

([57])   رواه أحمد والبيهقي في السنن.

([58])   رواه أحمد والدارقطني والاربعة.

([59])   رواه أحمد.

([60])   رواه أحمد والترمذي وابن ماجه.

([61])   رواه أبو داود والبيهقي.

([62])   رواه البخاري ومسلم.

([63])   رواه أبو داود.

([64])   رواه البخاري.

([65])   رواه الدارقطني.

([66])   رواه البخاري ومسلم وغيرهما من حديث أم سلمة وغيرها.

([67])   رواه البخاري ومسلم.

([68])   السنة المطهرة بحسب ما ذكرنا من حديث أم سلمة  تدل على أهمية تقديم الوعظ قبل الحكم وتأثيرها.

([69])   ابن السماك واعظ من كبار وعاظ الإسلام، وقد كان يعظ بين يدي الحكام.

([70])   تحدثنا بتفصيل عن المعاني السامية التي تحملها هذه الآية ومثيلاتها في رسالة (النبي المعصوم) من هذه السلسة.

([71])   رواه مسلم.

([72])  انظر: (السيرة النبوية)، لأبي الحسن علي الحسني الندوي.

([73])   رواه الترمذي وغيره.

([74])   رواه مسلم وغيره.

([75])   رواه مسلم.

([76])   رواه البخاري ومسلم.

([77])   رواه أبو داود وغيره.

([78])   رواه أحمد ومسلم.

([79])   رواه البخاري ومسلم.

([80])   رواه مسلم.

([81])   رواه البخاري ومسلم.

([82])   رواه أبو داود والترمذي.

([83])   بعض النص المذكور هنا منقول من مقال بعنوان (من وحي القوة في الإسلام)، لفضيلة الشيخ أحمد عبد الرحيم السايح، بتصرف.

([84])   رواه البخاري ومسلم.

([85])   رواه أبو داود.

([86])   رواه النسائي.

([87])   رواه مسلم وأبو داود والترمذي.

([88])   رواه البخاري ومسلم.

([89])   رواه أبو داود.

([90])   رواه أبو داود.

([91])   أشير إلى ضرورة استقلال الناحية العسكرية في الدولة عن الناحية السياسية، وهو ما تدل عليه الأدلة الكثيرة.

([92])   انظر: مخطط السياسة العسكرية، العميد: مصطفى أحمد كمال، وهو عميد أركان حرب بالقوات المصرية.

([93])   أشرنا إلى ما تحمله غزوة أحد من معاني النصر في رسالة (النبي المعصوم) من هذه السلسلة.

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *