سابعا ـ الشمول

في اليوم السابع.. خرجت ظهرا بعد أن أنهيت أشغال يومي، لأزور بعض المراكز العلمية الموجودة بالإسكندرية، فقد كان لي منذ صباي اهتمام بجميع العلوم التي أبدعتها الإنسانية في مختلف أطوارها.. بل كان لي شغف لأن يكون لي عقل موسوعي يشمل جميع تلك العلوم ويحيط بها.. لهذا كنت أكره التخصص وأمقته، لأنه يحول بين عقلي وبين رحاب واسعة من المعارف يشتاق إليها عقلي اشتياقا.
وصلت إلى هذا المركز.. وقد كان ـ على حسب ما يبدو ـ يضم في تلك الأيام نشاطا علميا محترما..
كانت هناك إعلانات كثيرة معلقة عن المحاضرات التي يضمها هذا النشاط، وعن الأساتذة الذين سيلقونها، اقتربت من أحدها، وقرأت لائحة المواضيع والمحاضرين، فوجدتها كلها تدور حول القرآن، وما يحتويه من المعارف والعلوم.
لقد كانت أول مرة أرى فيها كتابا مقدسا يبحث فيه بهذه الطريقة.. لقد رأيت عناوين غريبة وشاملة وموسوعية تتناسب مع احتياجاتي العقلية والنفسية والاجتماعية.
ففي اللائحة محاضرات عن العلوم النفسية والعلوم الاجتماعية.. بل والعلوم الطبية والجغرافية والفلكية والجيولوجية.. كل تلك العلوم وعلاقتها بالقرآن.. والإشارات القرآنية أو التصريحات القرآنية لما يرتبط بها من حقائق.
لم أفاجأ بتلك العناوين فحسب، وإنما فوجئت بأن المحاضرين الذي يتناولون هذه المواضيع بالدراسة والبحث أساتذة لهم قيمتهم في البحث العلمي.. لقد كانوا كلهم خبراء في اختصاصاتهم.. ويبعد أن يتكلم الخبير فيما لا يعلم.
لكني مع ذلك.. ولست أدري لم.. لم أكن أتصور أن يكون كل ذلك صادقا، بل ولا بعضه صادقا.. فكيف لكتاب جاء من تلك القرون الطويلة، من بيئة بدوية، ومن رجل أمي أن تكون له هذه الموسوعية والشمولية.
بينما أنا أسير تلك الخواطر إذ أمسك بي رجل، ظن أني لم أعرف قاعة المحاضرات، وقال: تعال معي لأدلك على قاعة المحاضرات.. أنا سائر الآن إليها.. في هذا المساء محاضرة ممتازة عن أسباب سقوط الحضارات من خلال القرآن الكريم.
لم أدر إلا وأنا أسير معه، ولكني ـ خشية أن يتعامل معي كمسلم ـ قلت له: أنا مسيحي.. فهل يأذنون للمسيحيين بدخول هذه المحاضرات؟
ابتسم، وقال: ومن تظنني!؟.. أنا مسيحي مثلك.. بل فوق ذلك.. ستستمع إلى محاضر مسيحي.. ولكنه مسيحي منصف..
قلت: كيف ينصر مسيحي دين غيره؟
قال: هو لا ينصر.. ودين محمد لا يحتاج من ينصره.. لقد جاء لتقديم هذه المحاضرة بعد أن اقنع اقتناعا تاما بالعلاج القرآني لهذه الظاهرة.. ظاهرة سقوط الحضارات.. بل فوق ذلك كله، فإن هذا الرجل لإخلاصه لم يتقاض ما يقدم لغيره من الأساتذة من مكافآت على محاضراته.. بل فوق ذلك كله طلب أن يوضع نصيبه من المكافأة في خدمة البحوث المرتبطة بالقرآن.
قلت: ما الذي دعاه إلى كل هذا الزهد؟
قال: أنا أعرف هذا الرجل.. بل تشرفت بالتلمذة عليه في يوم من الأيام.. فهو مع مسيحيته المتجذرة ـ إلا أنه يفتخر بانتمائه للحضارة الإسلامية.. هو يعتبرها الحضارة الإنسانية الوحيدة على الأرض.. وهو لذلك ينتقد الحضارة الغربية انتقادا شديدا.. بل يراها أعظم الحظارات خطرا على المسيحية.
قلت: لقد شوقتني لسماع هذا المحاضر..
قال: هيا ندخل.. لقد وصلنا إلى قاعة المحاضرات..
دخلنا.. وما لبثنا حتى صعد المحاضر إلى المنصة.. وقد كان أول ما بدأه أن قرأ بصوت جميل قوله تعالى:{ وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً}(الاسراء:16)
فرحت فرحا شديدا لابتدائه بهذه الآية.. لقد كانت هذه الآية سهما من السهام التي يسلطها قومي على المسلمين.. فقد كانوا يفهمون منها بأن الله إذا أراد هلاك قرية بعث رسالة إلى مترفيها، أو بعث فيهم نبيا يطلب منهم أن يفسقوا فيها لينزل عليهم العذاب، فيدمرهم.
لكن الرجل بدأ يذكر من الأسرار المرتبطة بهذه الآية ما نفى عنها كل شبهة.. بل ما جعل منها فوق ذلك تضم قواعد مهمة تدل على أسباب سقوط الحضارات المعبر عنها في القرآن بالقرى.
واسمح لي أن أذكر لك بعض ما ذكره في تلك المحاضرة.
لقد بدأ بذكر ما ورد في كلمة ( الأمر ) من أقوال، وهي ثلاثة:
الأول: أنه من الأمر، وفي الكلام إضمار، تقديره: أمرنا مترفيها بالطاعة، ففسقوا، ومثله في الكلام: أمرتك فعصيتني، فقد علم أن المعصية مخالفة الأمر.
والثاني: كثَّرنا يقال: أمرت الشيء وآمرته، أي: كثَّرته، ومنه قولهم: مهرة مأمورة، أي: كثيرة النتاج، يقال: أَمِرَ بنو فلان يأمرون أمراً: إذا كثروا.
والثالث: أنَّ معنى أَمرنا أمّرنا، يقال: أَمرت الرجل، بمعنى، أمّرته، والمعنى: سلّطنا مترفيها بالإمارة.
ثم أخذ في تطبيقها على الآية.. وعلى المجتمعات:
فاستنتج من المعنى الأول أن الترف يؤدي لا محالة إلى الفسوق.. ذلك أن للترف من التسلط على أتباعه ما يمنع من رؤية الحق أو الإذعان له، وذلك لأن المترف لا يرى من الحياة إل جانبها الجسدي، ولا يرى من جانبها الجسدي إلا ما يملأ عليه شهواته التي لا تنتهي، فهو في شغل عن عبادة الله أو الاستماع لأوليائه، ولذلك جاء في القرآن:{ وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ( (المؤمنون:33).. ففي قوله:{ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ } دليل على أهم لم يكونوا يرون من نبيهم إلا الطعام الذي يأكله، والشراب الذي يشربه.. بل كانوا يتصورون أن معجزة النبي ينبغي أن تكون طعاما فارها، وأن كتابه المقدس ينبغي أن يكون كتاب طبخ يدلهم على أجمل الوصفات التي ترضي شهواتهم.. فلذلك تجد خشوعهم أمام من يصف لهم المطاعم والمشارب أعظم من خشوعهم أمام من يؤدبهم بآداب الله، ويهديهم إلى سبيله.
واستنتج من المعنى الثاني أن الترف يشبه الفيروس الذي ينشر العدوى بين الناس، فلا يكتفي بالأغنياء يستل ما في خزائنهم من ثروات، بل يلجأ إلى الفقراء يستل ما في جيوبهم منها.. ولهذا ما إن يقدم غني من الأغنياء على عرف من الأعراف يستحدثه حتى يسرع الفقراء إلى كتب أولادهم ودفارتهم يبيعونها ليشتروا بدلها الترف الذي ابتدعه الغني.. وهو ما يتسبب بعد ذلك في انحرافات اجتماعية كثيرة تؤدي لا محالة إلى انهيار القرى والحضارات.
واستنتج من المعنى الثالث أن انتشار فكر الترف بين العامة والذي دل عليه المعنى الثاني يعميهم عن الصالحين، فلا يرون صالحا للحكم غير المترفين، كما أشار إلى ذلك قوله تعالى عن الطريقة التي تربع بها فرعون على العرش:{ فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ} (الزخرف:54).. فقد ربط تعالى بين استخفافه وفسقهم، فلولا فسقهم، ما استخف بهم.
انتهى المحاضر من محاضرته بعد أن ملأها بالشواهد التاريخية الكثيرة التي تؤكد ما ورد في القرآن.. ثم طبق ما تقع فيه الحضارة الغربية على ما ورد في القرآن من حضارات مختلفة ليبين أن مصير هذه الحضارة لا يختلف عن مصير تلك الحضارات.
لقد كانت محاضرة استفدت منها كثيرا.. ورأيت امتلاء الكثيرين من الحاضرين بالبشر لشعورهم بما تضمنته المحاضرة من معلومات منطقية مدعمة.
بعد انتهائه من المحاضرة، وانصرافه، حثثت الخطى حتى وصلت إليه، وانتحيت به جانبا بمعزل عن المحيطين به، وعرفته بنفسي، ففرح بي كثيرا، فقلت له: أنا أدعوك الآن لتحاضر لنا في بعض مؤسساتنا عن نفس الموضوع.. ولكن بحسب نظرة الكتاب المقدس، لا بحسب القرآن.
اكفهر وجهه، وقال: أعتذر إليك يا أخي.. أنا باحث علمي.. والباحث لا يتكلم إلا بما يهديه إليه بحثه، فإن شئت أن أقدم لكم محاضرة بحسب ما يهديني إليه بحثي فعلت.
قلت: ونحن لا نطلب إلا ذلك.
قال: ولكنها لا ترضيكم.
قلت: كيف لا ترضينا.. نحن نحب الحقائق ونبحث عنها.
قال: أرأيت نتيجة هذه المحاضرة؟
قلت: أجل.. لقد كانت نتيجتها طيبة.. وذلك ما رغبني في أن تتناول هذا الموضوع، فإن لطريقة بحثك تأثيرا عظيما في النفوس.
قال: لا.. أنت تنسب الأمور لغير أهلها.. القرآن هو صاحب الحقائق.. أما أنا، فلم يكن لي من دور إلا كشفها وتبيينها والبرهنة عليها.
قلت: فافعل ذلك مع الكتاب المقدس..
قال: أتراني ـ وأنا مسيحي ـ لو وجدت في كتابي ما يهديني إلى هذا وغيره أكون مقصرا..
لقد بحثت هذه النقطة بالذات في الكتاب المقدس قبل أن أبحث عنها في القرآن.. لقد كان الموضوع الأصلي الذي أعددته هو في استنباط سقوط الحضارات من خلال الكتاب المقدس.. لكني لم أجد ما يرويني.. بل وجدت ما يثنيني، فعدت إلى القرآن لا لأظهر محاسنه، بل بنية أن أجد فيه ما وجدت في كتابنا المقدس.. لكني بهرت بما رأيت فيه من حقائق مدعمة بكل الأدلة.. وقد دعاني الإنصاف لأذكر ما ذكرت.
قلت: لقد ورد في الكتاب المقدس ذم الترف.. وذم المترفين.. وتبيين ما وقع لبني إسرائيل من السقوط بسبب فسوقهم وعصيانهم.. ألم يكن ذلك كافيا؟
قال: لقد رأيت ما يناقضه.. الكتاب المقدس كتب بأيدي مختلفة متناقضة.. فلا تتكلم عن شيء إلا وجدت من يرد عليك من الكتاب المقدس نفسه.. وأنا لست مستعدا لأن أدافع عن شيء يحمل دلائل إدانته.
سكت قليلا، وقال: بالنسبة لما ذكرت.. جمعت الكثير من النصوص الدالة على ذلك وحللتها.. لكني سرعان ما وجدت الكتاب المقدس يناقضها مناقضة تامة.. فهو يصف داود وسليمان بكل الرذائل.. ثم بعد ذلك يكرمهما كل التكريم.
وهو يصف لوطا بالنبي المصلح، ثم ينثني ليتهمه بالزنا بابنتيه وبشرب الخمر..
هو هكذا في كل الأمور لا يملأك سرورا حتي ينثني ليملأك حزنا.
فكيف تريد مني أن أتكلم عن موضوع كل الناس يعرفون تكلفي في الكلام عنه..
أنا شخص أحترم تخصصي وموقفي، وأعتبر أن الكلمة أمانة، فلذلك لا أتكلم إلا بما يهديني إليه بحثي.. فاعطني كتابا مقدسا منقحا.. وسأتكلم لك عما تريد.
قال ذلك، ثم انصرف ليتركني في حيرتي، وببعض نور محمد..
***
سرت بتلك الحيرة، ومعها ذلك النور مطأطئ الرأس خجلا من نفسي.. بينما أنا كذلك إذ ناداني رجل كان مستلقيا على عشب في ساحة ذلك المركز، وقال: أرى في عينيك الهموم.. ما بالك؟.. أأنت حزين؟.. إن كنت كذلك، فسأعطيك دواء يرفع عنك كل الهموم، ويمسح عن قلبك كل الغموم.
قلت: أفي الدنيا علاج مثل هذا؟
قال: نعم.. وقد عولج به ملايين الناس، فشفاهم، بل ملأهم بسعادة يحسدهم عليها الملوك.
قلت: ما هذا الدواء العجيب الذي لم أتشرف بمعرفته؟
أخرج من جيبه مصحفا، وقال: هذا هو الدواء.. هذا هو القرآن الكريم.. هذا هو ربيع القلوب.. وربيع العقول.. وربيع الأرواح.
قلت: أنا مسيحي.. ولي كتابي الذي هو ربيع قلبي.
ابتسم وقال: هل أنت صادق في ذلك؟.. وأين تجد ربيع قلبك.. أفي الأنساب، أم في الأوصاف، أم في الحكايات، أم في الآثام؟
قلت: لا يحق لك أن تتهجم على كتابي المقدس.
قال: الكتاب المقدس كتاب الجميع.. وليس كتابك وحدك.. وأنا مسيحي مثلك، ولكني أرغمت على قول هذا.
قلت: من أرغمك.. أخبرني عن هؤلاء المجرمين الذي يكرهون الناس على الاستهزاء بأديانهم.
قال: ليس المجرمون هم الذين أكرهوني.. الكتاب المقدس هو الذي أكرهني.. لقد كنت أقرؤه.. ولكني لا ألبث أن أمل من قراءته.. فلما جربت القرآن وجدته يتحدث معي وعني وعن كل شيء.. وجدته يعطيني الإجابات الشافية التي ترضي عقلي وقلبي وروحي ونفسي.. لم أجد فيه أي شيء يتناقض مع حقيقتي أو حقيقة الكون، بل فوق ذلك وجدته يشبه الكون.. هو شامل كشمول الكون، واسع كسعته.
في القرآن الكريم كل حقائق الوجود، وكل من تعلم من مدرسة القرآن الكريم لم يشعر تلك المشاعر المحيرة التي تنتاب من دخل كل الجامعات ونسي أن يدخل جامعة القرآن الكريم، لقد ذكر القرآن هذه الناحية المهمة فيه، بل صرح بهذه الحقيقة التي هي أم الحقائقن فقال:{ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ }(النحل: 89)
بل أخبر أن القرآن أنزل بعلم الله الشامل، فقال:{ لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً}(النساء:166)، وقال:{ قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً}(الفرقان:6)
بل أخبر أن أول من يعرف القرآن وحقائق القرآن هم أهل العلم، اسمع:{ وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ}(سـبأ:6)
قلت: لقد قرأت القرآن.. فلم أجد فيه ما تقول.
قال: لقد ذكر الغزالي هذا.. لا شك أنك تعرفه.. ذلك القديس المسلم الذي سبح في بحار القرآن ليستنبط منها اللآلئ..
لقد ذكر سر ما وقعت فيه، فقال.. وكأنه يخاطبك، ويخاطب أمثالك:( إني أنبهك على رقدتك أيها المسترسل في تلاوتك، المتخذ دراسة القرآن عملا، المتلقف من معانيه ظواهر وجملا.. إلى كم تطوف على ساحل البحر مغمضا عينيك عن غرائبها، أوما كان لك أن تركب متن لجتها لتبصر عجائبها، وتسافر إلى جزائرها لاجتناء أطايبها، وتغوص في عمقها، فتستغني بنيل جواهرها.. أوما تعير نفسك في الحرمان عن دررها وجواهرها بإدمان النظر إلى سواحلها وظواهرها، أوما بلغك أن القرآن هو البحر المحيط، ومنه يتشعب علم الأولين والآخرين، كما يتشعب عن سواحل البحر المحيط أنهارها وجداولها.. أوما تغبط أقواما خاضوا في غمرة أمواجها، فظفروا بالكبريت الأحمر، وغاصوا في أعماقها فاستخرجوا الياقوت الأحمر والدر الأزهر والزبرجد الأخضر، وساحوا في سواحلها، فالتقطوا العنبر الأشهب، والعود الرطب الأنضر، وتعلقوا الى جزائرها واستدروا من حيواناتها الترياق الأكبر والمسك الأذفر )([1])
قلت: أنا أعرف الغزالي وأحترمه وكثير من قومي يحترمونه، ولكنه يعبر عن وجهة نظره الشخصية.. وربما تطغى الذاتية على صاحبها، فتحول بينه وبين الحقائق.
قال: فما الذي جعلك تعتبر كلامه صادرا من ذاته.. لا من الحقيقة التي عاش من أجلها.
قلت: أرى أن هذا الكتاب مهما حوى من التفاصيل إلا أنه أقصر من أن يضم جميع الحقائق التي تروي الحاجات البشرية.. إن الحاجات البشرية كمحيط واسع لا تكفيه جميع بحار الدنيا.. فكيف يكفيه كتاب يضم كلمات محدودة وصفحات معدودة؟
قال: لقد تحدث الإمام بديع الزمان عن هذا.. لا شك أنك تعرفه.. لقد أرسل رسالة إلى بابا الفاتيكان في حياته.. وأنتم لا تكنون له إلا الاحترام.
قلت: أجل.. أعرفه.. لا شك في صدقه.. فما قال؟
قال: لقد رد على ما وقع في نفسك من تلك الشبهة بقوله:( نعم! انك اذا نظرت الى الآيات الكريمة من خلال وضعك الحاضر الذي استنار بنور القرآن منذ ذلك العصر حتى غدا معروفاً، واضاءته سائر العلوم الاسلامية، حتى وضحت بشمس القرآن. أي اذا نظرت الى الآيات من خلال ستار الأُلفة، فانك بلا شك لا ترى رؤية حقيقية مدى الجمال المعجز في كل آية، وكيف انها تبدد الظلمات الدامسة بنورها الوهاج. ومن بعد ذلك لا تتذوق وجه اعجاز القرآن من بين وجوهه الكثيرة )
وكعادته في استعمال الأمثال، فقد ذكر المثال المقرب لهذه الحقيقة، فقال:( واذا أردت مشاهدة اعظم درجة لأعجاز القرآن الكثيرة، فاستمع الى هذا المثال وتأمل فيه: لنفرض شجرة عجيبة في منتهى العلو والغرابة وفي غاية الانتشار والسعة؛ قد اُسدل عليها غطاء الغيب، فاستترت طي طبقات الغيب.
فمن المعلوم أن هناك توازناً وتناسباً وعلاقاتِ ارتباط بين اغصان الشجرة وثمراتها واوراقها وازاهيرها – كما هو موجود بين اعضاء جسم الانسان – فكل جزء من أجزائها يأخذ شكلاً معيناً وصورة معينة حسب ماهية تلك الشجرة.
فاذا قام احدٌ – من قِبل تلك الشجرة التي لم تُشاهَد قط ولا تُشاهد – ورسم على شاشةٍ صورةً لكل عضو من اعضاء تلك الشجرة، وحدّ له، بأن وضع خطوطاً تمثل العلاقات بين اغصانها وثمراتها واوراقها، وملأ ما بين مبدئها ومنتهاها – البعيدين عن بعضهما بما لايحد – بصورٍ وخطوط تمثل اشكال اعضائها تماماً وتبرز صورها كاملة.. فلا يبقى ادنى شك في أن ذلك الرسام يشاهد تلك الشجرة الغيبية بنظره المطلع على الغيب ويحيط به علماً، ومن بعد ذلك يصوّرها.
قلت: ما علاقة هذا المثال بالقرآن؟.. أو كيف طبق هذا المثال على القرآن؟
قال: لقد ذكر بديع الزمان ذلك، فقال:( فالقرآن المبين – كهذا المثال – ايضاً فان بياناته المعجزة التي تخص حقيقة الموجودات (تلك الحقيقة التي تعود الى شجرة الخلق الممتدة من بدء الدنيا الى نهاية الآخرة والمنتشرة من الفرش الى العرش ومن الذرات الى الشموس) قد حافظت – تلك البيانات الفرقانية – على الموازنة والتناسب واعطت لكل عضو من الاعضاء ولكل ثمرة من الثمرات صورة تليق بها بحيث خَلُص العلماء المحققون – لدى إجراء تحقيقاتهم وابحاثهم – إلى الانبهار والإنشداه قائلين: ما شاء الله.. بارك الله. ان الذي يحل طلسم الكون ويكشف معمّى الخلق إنما هو أنت وحدك ايها القرآن الحكيم!
سكت قليلا، ثم قال: لا شك أنك تريد مثالا على ذلك.
قلت: أجل.. فبالمثال يتضح المقال.
قال: أنت ترى علوما كثيرة وحقائق كثيرة تمتلئ بها الكتب أوالمصنفات على امتداد التاريخ وامتداد الوجود.. أليس كذلك؟
قلت: لا شك في ذلك.. فما علاقة القرآن بهذا؟
قال: القرآن يربط بين جميع الحقائق التي قد نتوهم الصراع بينها.. لقد ذكر النورسي هذا.. لقد قال في مثال الشجرة:( فنرى أن القرآن الكريم يبين تلك الحقيقة النورانية بجميع فروعها وأغصانها وبجميع غاياتها وثمراتها بياناً في منتهى التوافق والانسجام بحيث لا تعيق حقيقةٌ حقيقةً اخرى ولا يفسد حكمُ حقيقةٍ حُكْماً لأُخرى، ولا تستوحش حقيقة من غيرها. وعلى هذه الصورة المتجانسة المتناسقة بيّنَ القرآن الكريم حقائق الاسماء الإلهية والصفات الجليلة والشؤون الربانية والافعال الحكيمة بياناً معجزاً بحيث جعل جميع أهل الكشف والحقيقة وجميع اولي المعرفة والحكمة الذين يجولون في عالم الملكوت، يصّدقونه قائلين امام جمال بيانه المعجز والاعجابُ يغمرهم:( سبحان الله! ما اصوبَ هذا! وما اكثر انسجامه وتوافقه وتطابقه مع الحقيقة وما اجمله وأليقه )
قلت: لقد قرأت اهتمام المسلمين بما ورد في القرآن من الحقائق، بل إنهم يذكرون أنه ما من رطب ولا يابس إلا وفي القرآن نبأه .. أفلست ترى في ذلك تكلفا؟
قلت: لا.. لا أراه التكلف.. لقد ذكر النورسي هذا.. وأجاب عنه.. اسمع ما قال ذلك الرجل الرباني:( نعم! في القرآن كل شئ. ولكن لا يستطيع كل واحد أن يرى فيه كلَّ شئ. لأن صور الاشياء تبدو في درجات متفاوتة في القرآن الكريم، فأحياناً توجد بذور الشئ أو نواه، واحياناً مجمل الشئ أو خلاصته، واحياناً دساتيره، واحياناً توجد عليه علامات. ويرد كل من هذه الدرجات؛ اما صراحة أو اشارة أو رمزاً أو ابهاماً أو تنبيهاً. فيعبّر القرآن الكريم عن اغراضه ضمن أساليب بلاغته، وحسب الحاجة، وبمقتضى المقام والمناسبة )
كان لهذه الأحاديث لذة في نفسي لا تعدلها لذة.. وكان لصدق محدثي وإخلاصه ما رغبني في الجلوس إليه والاستماع منه.
اتكأت على عشب الساحة كما اتكأ رافعا عن نفسي كل كلفة، وقلت: لقد بدأت حديثك عن علاج الكآبة.. فهل في القرآن رقية السرور؟
أمسك المصحف بيده، وقال: ليس هناك رقية تمسح الآلام كهذا الكتاب.. إن شئت سمه (كتاب السعادة الأبدية) إنه لا يحل بواد مقفرا إلا ملأه ريا، ولا بضرع جاف إلا ملأه لبنا، ولا بسواد إلا ملأه بياضا.. إنه كتاب الابتسامة العذبة المشرقة.
قلت: لا يهمني اللبن ولا البياض.. بل تهمني الابتسامة.. أحيانا تمتلئ نفسي بكآبة مخيفة.. أشعر أن باطني أدغال تقيم فيها الغيلان والعفاريت.. فهل في القرآن ما يقيني شر هذه الغيلان، وأذى هذه العفاريت؟ وهل في الخلق من قتل غيلان نفسه بحروف القرآن؟
قال: إن النماذج الرفيعة التي عاشت بالقرآن، وتنعمت بالقرآن وقتلت أحزانها ويأسها وآلامها بالقرآن لا حصر لها، وهي منتشرة في كل مكان، وفي كل زمان، وهي من الكثرة ما يجعل قدرة القرآن على هذا حقيقة علمية تبز جميع الحقائق من جميع الوجوه.
ولكني سأذكر لك عينة وهبها الله من قوة التعبير ما استطاع أن يعبر به عن قوة القرآن العجيبة في استئصال الكآبة وغرس الابتسامة.
وهي لم تعش في القصور، ولم تنعم بما ينعم به أكثر أهل الدنيا من صنوف الرخاء، بل لم يكن لها مما يملكه أكثر أهل الدنيا من أمن واستقرار.
فقد عاش حياة تحوطها المحن وصنوف البلاء ما لا تقوى على تحمله الجبال الرواسي.
ولم يكن لها في هذا الجو الكئيب زوج مؤنس، ولا ولد مشفق، بل حرم في أكثر الأحيان من الصديق والأنيس.
وكانت مع كل هذا معرضة للموت في كل لحظة، فحبال المشانق معدة لها، كما تعد للصوص والمجرمين.
ولكن مع ذلك تطفح من كلامها من صنوف البشر وأمارات السعادة ما لا يصدر من المترفين المنعمين الآمنين.
قلت: رغبتني فيها، فمن هي؟
قال: إنه بديع الزمان النورسي الذي تعرض لصنوف البلاء، لكنه خرج منها جميعا بنور القرآن، وسأذكر لك هنا نموذجا لبعض الأدوية القرآنية التي خرج بها من أحزانه، ومن وقائع الألم التي مر بها، لترى من خلالها قوة القرآن في إحلال السكينة في النفوس المستعدة.
يقول بديع الزمان:( ذات يوم من الايام الأخيرة للخريف، صعدت الى قمـّة قلعة انقرة، التي اصابها الكبر والبلى اكثر مني، فتمثـلـّت تلك القلعة امامي كأنها حوادث تأريـخية متحجرة، واعتراني حزن شديد واسى عميق من شيب السنة في موسم الـخريف، ومن شيبي انا، ومن هرم القلعة، ومن هرم البشرية ومن شيخوخة الدولة العثمانية العلية، ومن وفاة سلطنة الـخلافة، ومن شيخوخة الدنيا )
فهذه الآلام الكثيرة التي قد نبصر مثلها، وقد لا نبصره، ولكنه مع ذلك يعشش في قلوبنا ويملؤنا أسفا وحزنا، دعا بديع الزمان للبحث عن ترياق يعالج به هذه الكآبة، قال:( فاضطرتني تلك الـحالة الى النظر من ذروة تلك القلعة الـمرتفعة الى اودية الـماضي وشواهق الـمستقبل، أنقب عن نور، وابـحث عن رجاء وعزاء ينير ما كنت أحسّ به من اكثف الظلمات التي غشيت روحي هناك وهي غارقة في ليل هذا الهرم الـمتداخل الـمحيط )
وهذا العزاء الذي بحث عنه بديع الزمان يبحث عنه كل إنسان شعر أو لم يشعر، ولكن يختلفون فقط في الجهة التي يولون لها وجوههم للبحث عن هذا العزاء، وكانت الجهة الأولى التي قصدها بديع الزمان هي الجهة التي يولي لها أكثر الناس وجوههم، وهي الجهة البعيدة عن الحقائق القرآنية، وهي بجهاتها الست لا تزيد القلب إلا غما وهما، قال بديع الزمان:( فـحينما نظرت الى اليـمين الذي هو الـماضي باحثاً عن نور ورجاء، بدت لي تلك الـجهة من بعيد على هيئة مقبرة كبرى لأبي واجدادي والنوع الانساني، فأوحشتني بدلاً من ان تسلـّيني )
أما اليسار الذي هو الـمستقبل:( فتراءى لي على صورة مقبرة كبرى مظلمة لي ولأمثالي وللجيل القابل، فأدهشني عوضا من ان يؤنسني )
أما الأمام وهو الزمن الـحاضر ( فبدا ذلك اليوم لنظري الـحسير ونظرتي التأريـخية على شكل نعش لـجنازة جسمي الـمضطرب كالـمذبوح بين الـموت والـحياة )
أما القمة التي تمثل قمة شـجرة العمر ( فرأيت ان على تلك الشجرة ثـمرة واحدة فقط، وهي تنظر اليّ، تلك هي جنازتي )
أما الأسفل الذي يمثل جذور شجرة العمر ( فرأيت ان التراب الذي هناك ما هو الاّ رميم عظامي، وتراب مبدأ خلقتي قد اختلطا معاً وامتزجا، وهما يُداسان تـحت الاقدام، فأضافا الى دائي داء من دون ان يـمنحاني دواءً )
أما الخلف الذي يمثل عمر الدنيا ( فرأيت ان هذه الدنيا الفانية الزائلة تتدحرج في اودية العبث وتنحدر في ظلمات العدم، فسكبتْ هذه النظرة السمَّ على جروحي بدلاً من ان تواسيها بالـمرهم والعلاج الشافي )
فهذه الجهات الست، والتي نتصورأنها تمثل الحقائق المطلقة، والتي نعزي أنفسنا بأنه لا محيد عنها، ولا مخرج منها، ثم نهرب منها لأي شيء نجعل ننساها يتكفل العلاج القرآني بمداواتها، قال النورسي يحكي عن تجربته الإيمانية مع القرآن:( وفيما كنت مضطرباً وسط الـجهات الست تتولى عليّ منها صنوف الوحشة والدهشة واليأس والظلمة، اذ بأنوار الإيـمان الـمتألقة في وجه القرآن الـمعجز البيان، تـمدني وتضيء تلك الـجهات الست وتنورها بانوار باهرة ساطعة ما لو تضاعف ما انتابني من صنوف الوحشة وانواع الظلمات مائة مرة، لكانت تلك الانوار كافية ووافية لإحاطتها)
وقد كان أثر أنوار القرآن الكريم عظيما:( فبدّلت – تلك الانوار – السلسلة الطويلة من الوحشة الى سلوان ورجاء، وحولـّت كل الـمخاوف الى انس القلب، وامل الروح الواحدة تلو الاخرى )
فالقرآن الذي هو قبس الإيمان ( مزق تلك الصورة الرهيبة للماضي وهي كالـمقبرة الكبرى، وحوّلـها الى مـجلس منوّر أنوس والى ملتقى الاحباب، وأظهر ذلك بعين اليقين وحق اليقين )
أما المستقبل الذي كان يمثل قبرا واسعا كبيرا، فإنه استحال بالنظرة القرآنية ( مـجلس ضيافة رحـمانية أعدّت في قصور السعادة الـخالدة )
أما تابوت الزمن الحاضر، فقد صوره القرآن الكريم ( متجرا أخرويا، ودار ضيافة رائعة للرحـمن )
أما الثمرة الوحيدة التي هي فوق شـجرة العمر على شكل نعش وجنازة، فإنها بالقرآن لم تبق كذلك، ( وانـما هي انطلاق لروحي – التي هي أهل للـحياة الابدية ومرشحة للسعادة الابدية – من وكرها القديـم إلى حيث آفاق النـجوم للسياحة والارتياد )
حتى تلك الصور المريعة التي كانت الغفلة تصور بها ( عظامي ورميمها وتراب بداية خلقتي ) لم تبق ( عظاماً حقيرة فانية تداس تـحت الاقدام، وإنما ذلك التراب باب للرحـمة، وستار لسرادق الـجنة )
أما أحوال الدنيا واوضاعها الـمنهارة في ظلمات العدم التي نبصرها بنظر الغفلة، فإنها لم تبق كذلك بنور القرآن الكريم ( بل انها نوع من رسائل ربانية ومكاتيب صمدانية، وصحائف نقوش للاسـماء السبحانية قد أتّمت مهامها، وأفادت معانيها، واخلفت عنها نتائجها في الوجود، فأعلمني الإيـمان بذلك ماهية الدنيا علم اليقين )
أما القبر، فلم يبق قبرا، بل هو بنظر القرآن الكريم ( باب لعالـم النور ) ومثله ذلك الطريق الـمؤدي الى الابد، فإن لم يبق ( طريقاً مـمتداً ومنتهياً بالظلمات والعدم، بل انه سبيل سوي الى عالـم النور، وعالـم الوجود وعالـم السعادة الـخالدة )
وهكذا بددت النظرة القرآنية كل الأوهام التي سربتها الغفلة، وأصبح ما كان يتصور داء عين الدواء، يقول النورسي:( وهكذا اصبحت هذه الاحوال دواء لدائي، ومرهماً له، حيث قد بدت واضحة جلية فأقنعتني قناعة تامة )
قلت: وهل عاش هذا الرجل سعيدا؟
قال: أجل.. بل أعظم سعيد.. مع أنه أمضى أكثر حياته منفيا مسجونا يدس له السم كل مرة.. وفوق ذلك يبعد عنه كل قريب.. بل يحرم كل أسباب الحياة.
***
قرأ جميع هذا الكلام.. وسكت.. وغابت عيناه في الأفق البعيد.. ثم راح يقول بينه وبين نفسه: لماذا لم يظهر في قومنا من يذكر مثل هذا؟
ثم راح يرسل ضحكات غريبة، وهو يقول: يا ترى ماذا عساه سيقول هذا المسكين الذي كتب له أن يعيش في ظل تناقضات الكتاب المقدس.
سكت قليلا، ثم قال: إن الكتاب المقدس يبحث عمن يرفع تناقضه وقصوره.. فكيف يكون إجابة الله الشافية لحاجيات عباده التي لا تنتهي؟
احتبست دموع في عيوني منعتني من الكلام.. بقيت واجما لحظة، ثم انصرفت.. وأنا مملوء حيرة..
عندما عدت آخر المساء إلى البيت، مددت يدي إلى محفظتي، فامتدت إلى الورقة التي سلمها لي صاحبك، فعدت أقرأ فيها..
لقد أيقنت حينها أن هذا السور السابع من أسوار الكلمات
المقدسة لم يتحقق به أي كتاب في الدنيا غير القرآن الكريم.
([1]) جواهر القرآن للغزالي.