سابعا ـ الدولة

سابعا ـ الدولة

في اليوم السابع، قام رجل منا، وقال: سأحدثكم اليوم أنا عن حديثي..

أنا رجل كتب له أن يكون مواطنا بسيطا في أنظمة حكم كثيرة.. تعاملت معه كما يتعامل الخبراء المغفلون مع فئران التجارب.. إلى درجة أني صرت أطلب الموت.. بل أستعمل من الوسائل ما يصلني به.. ولولا أن أمدني الله بلطفه.. وأراني من السلام ما أراني لكنت الآن في عداد الموتى.

وقد شاء الله اللطيف الخبير أن يكون منقذي هو نفسه من يريد أن ينفذ في حكم الإعدام.. وإلى الآن لا يزال عقلي كليلا دون إدراك هذا وفهمه.

قلنا: من كان هذا الذي أنقذك؟

قال: لن أحدثكم عمن أنقذني حتى أحدثكم عمن أرداني، وجعلني بكامل اختياري أطلب الموت.

الصراع

قلنا: فمن هو الذي أرداك؟

قال: لقد ذكرت لكم أنهم كثيرون.

الثيوقراطية:

قلنا: فمن أولهم؟

قال: الثيوقراطيون([1]).

قلنا: ثيوقراطيون!؟.. ما تعني؟

قال: هم رجال كثيرون كانوا يزعمون أنهم ينوبون عن الله في حكم عباده.. كانت لهم مقار كثيرة.. وكان آخرها مقر اسمه الكنيسة.. كان فيها رجال كثيرون لا أزال متعجبا من التناقضات التي كانوا يحملونها، والتي كانت تملؤني بالصراع.

فهم من جهة أصحاب ألسنة عذبة يقولون لنا بها كل حين 🙁 من ضربك على خدك الأيمن، فأدر له الأيسر)

ومن جهة أخرى كانوا يحملوننا كل حين على أن تظل وجوهنا مستديرة لهم، ليصفعوها متى شاءوا، وبما شاءوا.

أذكر في بعض تلك الأيام أن (تشرلس التاسع) أراد سنة 574 م أراد أن ينشر الأمن فى ربوع البلاد، فهادن (الهوجونوث)، وأدنى زعماءهم من حضرته، وتوج هذه الحركة بالرغبة فى تزويج أخته من زعيم لهم، فأثار هذا المسلك ثائرة الكنيسة.

وفى ليلة الزفاف أقبل جموع (الهوجونوث) تترى إلى باريس، فأطلق الرصاص على زعيمهم.

وعندئذ وطد عزمه على التنكيل بمن حاول اغتياله، وخشيت (الكنيسة) مغبة ذلك، فعقدت النية على أن تجعل عيد (القديس بارثلميو) فى 24 أغسطس سنة 1572 م مذبحة يبيدون فيها خصومهم.

وفى منتصف الليل دق ناقوس (كنيسة سان جرمان)  مؤذنا ببدء المذبحة.. فإذا بأشراف الكاثوليك والحرس الملكى وجموع الجماهير تنقض على بيوت (الهوجونوث) والفنادق التى آوتهم، وتأتى على من بها ذبحا.

فلما أصبح الصباح كانت شوارع باريس تجرى بدماء ألفين من النفوس.

وتطايرت أنباء المذبحة المروعة إلى الأقاليم، فإذا بها تستحيل ـ بدورها ـ مجزرة تجرى بدماء ثمانية آلاف من هؤلاء المساكين.. بل قيل: إن هذه المذبحة قد أودت بحياة نيف وعشرين ألفا.

وقد أثار وقوع هذه المذبحة الغبطة والرضا فى أوروبا المسيحية الكاثوليكية كلها، فكاد (فيلب الثاني) يجن من فرط الفرح عندما بلغته أنباؤها، وانهالت التهانى على (تشرلس التاسع) بغير حساب.. وكاد (البابا جريجورى الثالث عشر) يطير من السرور، حتى إنه أمر بسك أوسمة لتخليد ذكراها توزع على وجوه الشعب وعيونه.

وقد رسمت على هذه الأوسمة صورته، وإلى جانبه ملك يضرب بسيفه أعناق الملحدين، وكتب على هذه الأوسمة (إعدام الملحدين)

وإلى جانب هذا أمر البابا بإطلاق المدافع وإقامة القداس فى شتى الكنائس، ودعا الفنانين إلى تصوير مناظر المذبحة على حوائط الفاتيكان، وأرسل تهنئته الخاصة إلى (تشرلس)

هذا ليس إلا مشهدا واحدا من مشاهد الدماء التي كانت تسيل لإرضاء نهم الكنيسة ورجال الدين الذين كانوا يحيون كل حين وصايا العهد القديم بحرب الإبادة، الإبادة التى لا تبقى فى ديار الأعداء إنسانا ولا حيوانا.. حتى لو كان الأعداء مواطنون.

لقد كان أولئك الرجال الذين سفكوا تلك الدماء يعتبرون أنفسهم يقدمون قرابين يطلبون بها رضوان الرب.

لقد كانوا يعتصرون أعناق الضحايا كما يمارسون الصلاة سواء بسواء.. أسوتهم في ذلك ما ورد في سفر (يشوع) عندما قال للشعب: اهتفوا لأن الرب قد أعطاكم المدينة، فتكون المدينة وكل ما فيها محرما للرب.

وكان حين يسمع الشعب صوت البوق أن الشعب هتف هتافا عظيما، فسقط السور فى مكانه، وصعد الشعب إلى المدينة، كل رجل مع وجهه.

وأخذوا المدينة، وحرموا كل ما فى المدينة من رجل، وامرأة، من طفل وشيخ، حتى البقر والغنم والحمير، بحد السيف، وأحرقوا المدينة بالنار مع كل ما بها)

لقد كان يشوع هو أسوتهم.. وكان يشوع هو رجل الدولة الذي صلينا بناره فترات طويلة.

وبما أن يشوع الذي كان يمثل رجال الدين والدولة لم يكن يقيم أي وزن للحياة الدنيا، بل كان يحتقرها ويزدريها ويدعو إلى إهمالها وعدم الالتفات إليها في سبيل الحصول على (الخلاص)، فإن الدين([2]) ـ في صورته الكنسية ـ لم يكن يسعى إلى تحسين أحوال البشر على الأرض، أو إزالة المظالم السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي تقع عليهم، وإنما يدعو إلى الزهد في الحياة الدنيا برمتها، وترك كل شيء على ما هو عليه، لأن فترة الحياة الدنيا أقصر وأضأل وزناً من أن يحاول الإنسان تعديل أوضاعه فيها. إنما يسعى جاهداً إلى الخلاص منها دون أن يعلق بروحه شيء من الآثام. والمتاع ذاته هو من الآثام التي يحاول المتطهرون النجاة منها بالرهبنة واعتزال الحياة.

بل أكثر من ذلك : إن احتمال المشقة في الحياة الدنيا، واحتمال ما يقع فيها من المظالم هو لون من التقرب إلى الله يساعد على الخلاص. ومن ثم دعت الكنيسة الفلاحين للرضا بالمظالم التي كانت تقع في ظل الإقطاع وعدم الثورة عليها لينالوا رضوان الله في الآخرة وقالت لهم : (( خدم سيدين في الحياة الدنيا خير ممن خدم سيداً واحداً ))!

ومن جهة أخرى كان هذا الدين يحصر كيان الإنسان في نطاق محدود محصور أشد الحصر ليبرز جانب الألوهية في أكمل صورة.. ألوهية الله بمعناها السلبي.

ومن ثم فإن فاعلية الإنسان محصورة في الطاعة للأوامر الإلهية _ كما تعرضها الكنيسة بالحق أو الباطل _ لا تتعداها إلى الإنشاء لأنه ليس للإنسان أن ينشئ شيئاً من عند نفسه.

 ومن ثم كذلك كان ثبات الأوضاع في أوروبا في العصور الوسطى لفترة طويلة من الزمان بكل ماتحمل من ألوان الفساد السياسي والاقتصادي والاجتماعي والفكري والروحي على أساس أنها قدر الله الذي لا يجوز للناس تغييره إنما ينبغي الخضوع له والمحافظة عليه تقرباً إلى الله.

قال رجل منا: كيف تقول ذلك عن الكنيسة، وهي لا تزال أزهد الناس في الرئاسة والسلطة، وهي لا تزال تروي كل حين قصة المسيح التي رواها الملهم متى، فقال: (فَذَهَبَ الْفَرِّيسِيُّونَ وَتَآمَرُوا كَيْفَ يُوْقِعُونَهُ بِكَلِمَةٍ يَقُولُهَا. فَأَرْسَلُوا إِلَيْهِ بَعْضَ تَلاَمِيذِهِمْ مَعَ أَعْضَاءِ حِزْبِ هِيرُودُسَ، يَقُولُونَ لَهُ: يَامُعَلِّمُ، نَعْلَمُ أَنَّكَ صَادِقٌ وَتُعَلِّمُ النَّاسَ طَرِيقَ اللهِ فِي الْحَقِّ، وَلاَ تُبَالِي بِأَحَدٍ لأَنَّكَ لاَ تُرَاعِي مَقَامَاتِ النَّاسِ، فَقُلْ لَنَا إِذَنْ مَا رَأْيُكَ؟ أَيَحِلُّ أَنْ تُدْفَعَ الْجِزْيَةُ لِلْقَيْصَرِ أَمْ لاَ؟ فَأَدْرَكَ يَسُوعُ مَكْرَهُمْ وَقَالَ: (أَيُّهَا الْمُرَاؤُونَ، لِمَاذَا تُجَرِّبُونَنِي؟ أَرُونِي عُمْلَةَ الْجِزْيَةِ! فَقَدَّمُوا لَهُ دِينَاراً. فَسَأَلَهُمْ: لِمَنْ هَذِهِ الصُّورَةُ وَهَذَا النَّقْشُ؟ أَجَابُوهُ: لِلْقَيْصَرِ! فَقَالَ لَهُمْ: إِذَنْ، أَعْطُوا مَا لِلْقَيْصَرِ لِلْقَيْصَرِ، وَمَا لِلهِ لِلهِ، فَتَرَكُوهُ وَمَضَوْا، مَدْهُوشِينَ مِمَّا سَمِعُوا) (متى:14/15-21)

    كما أن (بولس) كرر نفس ما قاله السيد  المسيح، فأمرهم بالخضوع لأية حكومة تبسط سلطانها عليهم، وألا يحاولوا إثارة الفتن، لأن تسلط هذه الحكومات عليهم إنما هو بقَدَر من الله، ومن ثم لا ينبغى التمرد على سلطانها، بل عليهم دفع الجزية والجبايات دون أى تذمر : (لِتَخْضَعْ كلُّ نفس للسلاطين العالية، فإنه لا سلطان إلا من  الله، والسلاطين الكائنة إنما رتَّبها الله، فمن يقاوم السلطان فإنما يعاند ترتيب الله، والمعاندون يجلبون دينونة على أنفسهم، لأن خوف الرؤساء ليس على العمل الصالح بل على الشرير، أفتبتغى ألا تخاف من السلطان؟ افعل الخير فتكون لديه ممدوحا لأنه خادمُ الله لك للخير فأما إن فعلتَ الشر فَخَفْ فإنه لم يتقلد السيف عبثا لأنه خادمُ الله المنتقمُ الذى يُنْفِذ الغضب على من يفعل الشر، فلذلك يلزمكم الخضوع لـه لا من أجل الغضب فقط بل من أجل الضمير أيضا، فإنكم لأجل هذا تُوفُون الجزية أيضا، إذ هم خُدّام الله المواظبون على ذلك بعينه، أدُّوا لكلٍّ حقه : الجزية لمن يريد الجزية، والجباية لمن يريد الجباية، والمهابة لمن لـه المهابة، والكرامة لمن لـه الكرامة)

قال: ما تقوله صحيح من حيث النظرية.. ولكن التطبيق كان مختلفا تماما.. لقد استطاعت الكنيسة بنفوذها أن تجعل الملوك والأباطرة طوع إرادتها.. وأعلن البابا (نقولا الأول) (858-867م) بياناً قال فيه : (إن ابن الله أنشأ الكنيسة بأن جعل الرسول بطرس أول رئيس لها، وإن أساقفة روما ورثوا سلطات بطرس في تسلسل مستمر متصل (ولذلك) فإن البابا ممثل الله على ظهر الأرض يجب أن تكون له السيادة العليا والسلطان الأعظم على جميع المسيحيين حكاماً كانوا أو محكومين)

وأعلن البابا جريجوري السابع الذي تولى البابوية من (1073-1085 م ) قائلا: (إن الكنيسة بوصفها نظاماً إلهياً خليقة بأن تكون صاحبة السلطة العالمية، ومن حق البابا وواجبه أن يخلع الملوك غير الصالحين، وأن يؤيد أو يرفض اختيار الحكام أو تنصيبهم حسب مقتضيات الأحوال)

التفت إلى صاحبنا، وقال: لم يكن ذلك مجرد كلام.. لقد كان واقعاً عاشته أوروبا عدة قرون.. لعل أبرز ما يشير إلى تلك الفترة ما حدث بين (جريجوري السابع) هذا والإمبراطور الألماني (هنري الرابع) إذ أن خلافاً نشب بينهما حول مسألة (التعيينات) أو ما يسمى (التقليد العلماني)، فحاول الإمبراطور أن يخلع البابا، ورد البابا بخلع الأمبراطور وأصدر قرار حرمان ضده، كما أحل أتباعه وأمراء مملكته من ولائهم له وألبهم عليه، فعقد الأمراء مجمعاً قررو فيه أنه إذا لم يحصل الإمبراطور على المغفرة لدى وصول البابا إلى ألمانيا فإنه سيفقد عرشه إلى الأبد، فوجد الإمبراطور نفسه مضطراً إلى استرضاء البابا، ولم يستطع أن ينتظر حتى يصل البابا إلى ألمانيا فسافر إليه في (كانوسا)، وظل واقفاً في الثلج في فناء القلعة ثلاثة أيام في لباس الرهبان متدثراً بالخيش حافي القدمين عاري الرأس حتى تعطف عليه البابا، ومنحه مغفرته!

وفي بريطانيا حصل نزاع بين الملك (هنري الثاني) وبين (توماس بكت) رئيس أساقفة كنتربري بسبب دستور رسمه الملك يقضي على كثير من الحصانات التي يتمتع بها رجال الدين، ثم إن رئيس الأساقفة اغتيل فثارت المسيحية على هنري الثاني ثورة عنيفة، فاعتزل الملك في حجرته ثلاثة أيام لايذوق فيها الطعام، ثم أصدر أمره بالقبض على القتلة، وأعلن للبابا براءته من الجريمة وألغي الدستور، ورد إلى الكنيسة كل حقوقها وأملاكها ومع ذلك لم يحصل على المغفرة حتى جاء إلى كنتربري حاجاً مظهراً ندمه، وسار الأميال الثلاثة الأخيرة من الطريق على الحجر الصوان حافي القدمين حتى دميت قدماه، ثم استلقى على الأرض أمام قبر رئيس الأساقفة المقتول وطلب من الرهبان أن يضربوه بالسياط، وتقبل ضرباتهم وتحمل كل الإهانات في سبيل استرضاء البابا وأتباعه.

الميكافيللية:

قلنا: عرفنا الثيوقراطيين.. فمن غيرهم؟

قال: قوم يسمون (ميكافيليين)([3]).

قلنا: ميكافيليون!؟.. ما تعني؟

قال: هم قوم يقودهم رجل كان يقال له (مكيافيلي).. وكان يقودهم كتاب كان يقال له (الأمير)

قال رجل منا: لكن الذي أعلمه هو أن الكل كان يبغض مكيافيلي.. بل إن اسمه أصبح ملازماً للشر دائماً حتى في الفنون الشعبية.. وأول من هاجم مكيافيلي هو (الكاردينال بولس) مما أدى لتحريم الإطلاع على كتاب الأمير ونشر أفكاره، وكذلك أنتقد غانتيه في مؤلفٍ ضخم أفكار مكيافيلي، ووضعت روما كتابه عام 1559 ضمن الكتب الممنوعة وأحرقت كل نسخة منه.

ابتسم، وقال: لقد كان كل ذلك مجرد دعاية للكتاب ولأفكار الكاتب.. فعندما بزغ نور عصر النهضة في أرجاء أوروبا ظهر من يدافع عن مكيافيلي ويترجم كتبه.. لقد مدحه جان جاك روسو، وفيخته، وشهد له هيغل بالعبقرية.. بل إن مكيافيلي اعتبر أحد الأركان التي قام عليها عصر التنوير في أوروبا.. وقد أختار موسوليني كتاب الأمير موضوعاً لأطروحته التي قدمها للدكتوراه.. وكان هتلر يقرأ هذا الكتاب قبل أن ينام كل ليلة.. وهكذا من سبقهم من الملوك والأباطرة كفريدريك وبسمارك وكريستينا وكل من ينشد السلطة.

قلنا: عرفنا الكاتب والكتاب.. ولكنا لم نعرف مذهب الحكم الذي يحمله ويدعو إليه.

قال: كل الكتاب.. وكل المذهب الذي يحمله ليس سوى جوابا عن سؤال واحد هو: (كيف لحاكمٍ أو أمير مُلهم أن يبدأ أو يُحافظ على مُلكه وحكومته؟)

قلنا: فكيف أجاب ميكافيلي على هذا السؤال الخطير؟

قال: يرى مكيافيلي أن القيم والمبادئ الأخلاقية يجب أن تخضع، أو يُتخلى عنها، لصالح الأهداف.. وعليه فهو ينص على أن العالم الذي يعايشه الأمير يجب أن يظل على ما هو عليه، ورجال هذا العالم لايحسنون ولايسيئون. ومهمةُ الأمير هي أن يحصل على أفضل النتائج مع هؤلاء الرجال، من دون أن يعمل على تثقيفهم أو تنويرهم.

وقد تجاهل مكيافيلي أي ترابطٍ بين الأخلاق والسياسة، كما شدّدَ على أن الأمير يجب أن يظهر بمظهر الرحيم، والمتدين، والأمين، والأخلاقي. ولكن واقعياً، فإن مركزه لا يُؤهله لكي يمتاز بأي من الخصال السالفة.

لقد استطاع مكيافيلي أن يعري (السياسة) من ذلك القناع الأخلاقي المستمد من الدين، وكشفها عارية من كل أثر للدين أو الأخلاق!

جاء يشرع الجريمة السياسية ويجعلها أصلاً ينبغي للحكام أن يتبعوه!

لقد كان الحكام يسيرون في سياستهم على أساس أن الغاية تبرر الوسيلة، والغاية طبعاً هي غايتهم هم! ولكنهم كانوا – حين يستخدمون الوسائل غير النظيفة لتحقيق غايتهم غير النظيفة – يستترون وراء عبارات براقة تحوى كل نبيل من القيم والمبادئ والأخلاقيات، أما مكيافيلي فإن الجديد الذي أتى به- وهو خطير في ذاته أنه أعطى الوسائل الخسيسة في السياسة شرعية صريحة لامواربة فيها ولا إنكار.

قال رجل منا: ماذا أضاف مكيافيللي من عنده إلى الواقع؟ ألم يكن الواقع خسيساً في غايته ووسائله؟ فكل ما فعل مكيافيللى أنه كان صريحاً بالدرجة التي كشف بها القناع عن الواقع المزيف وجعله حقيقة واقعة!

قال: الفارق العملي كبير.. وقد لا يتضح الفرق في البداية، لأن البداية تكون مجرد مطابقة النظرية للواقع الموجود.. ولكن الفارق يتبين – ويزداد – مع التطبيق.. حين ترتكب المنكر وأنت شاعر بأنه منكر، فستقتصد في ارتكابه فلا تلجأ إليه إلا تحت ضغط قاهر، وستقف في ارتكابه عند الحد الذي ترى أنه لا يطيح بسمعتك كلها أمام الناس، وقد تحاول الرجوع عنه في يوم من الأيام، أما حين يكتسب المنكر في حسك الشرعية فلماذا تقتصد في ارتكابه، ولماذا تقف عند حد من الحدود ؟!

ونظرة إلى ما وقع في أيام موسولينى وهتلر، وما وقع في الدول الشيوعية منذ الثورة الشيوعية حتى اليوم، كفيلة بأن ترينا إلى أي مدى انحدرت السياسة (الميكافيلية) في تبرير الوسيلة بالغاية، وكلتا الوسيلة والغاية ما أنزل بها من سلطان!

في فاشية موسولينى ونازية هتلر كانت الغاية هي التجمع القومي والعزة القومية وإحلال قومية كل منها مكانها (تحت الشمس)

وفي سبيل هذه الغاية (التي قد تكون مشروعة في ذاتها إذا خلت من العدوان على الآخرين ) استباح كل من الرجلين أن يقتل ألوفاً ومئات الألوف من المعارضين باسم (حركات التطهير ) و(وحدة الصف ) و(القضاء على الثورةالمضادة) و(القضاء على الطابور الخامس) وما أشبه ذلك من التعلات، وفتحت معسكرات التعذيب، وذاق الشعب كله ويلات الجاسوسية والإرهاب.

وفي الثورة الشيوعية كانت الغاية إزالة الظلم (!!) الذي يقع على الناس من جراء الملكية الفردية والصراع الطبقي واستئثار الطبقة المالكة بالحكم والسلطان والمنافع على حساب الطبقة الكادحة ! وإقامة العدل(!) بالوسائل النبيلة (!) التي تدعيها هذه الثورة، ومن بينها ذبح ثلاثة ملايين ونصف مليون من المسلمين في عهد رجل واحد، وإخضاع الشعب كله لألوان من الإرهاب نادرة في التاريخ!

أما الديمقراطية الليبرالية الرأسمالية فهي التي تبيح احتراف المعارضة واحتراف التأييد بحسب موضع كل حزب من الحكم :هل هو بداخله أم خارجه، بصرف النظر عن الحق والعدل والمصلحة الوطنية أو القومية.. وتبيح الكذب من الساسة على شعوبهم في الدعاية الانتخابية ( وغير الانتخابية ) وتبيح استخدام وسائل استراق السمع بحجة المحافظة على الأمن، وهي تقوم أساساً على مساندة الطبقة الرأسمالية في امتصاص دماء الكادحين وإن أخرجت ذلك كله في مسرحية طريفة اسمها (الحرية والإخاء والمساواة!)

وهذا كله في السياسة الداخلية..

أما في السياسة الخارجية فالأمر أدهى وأمر.. فالقرن الجاهلي العشرون هو الذي شهد أبشع حالات قانون الغاب التي يأكل القوي فيها الضعيف!

في حربين عالميتين متتاليتين شهد الناس أفظع فنون العدوان في التاريخ، من غازات سامة وقنابل محرقة وتدمير جماعي وقتل للنساء والأطفال والشيوخ والمدنيين غير المحاربين..إلى أن كانت القمة قنبلتى هيروشيما ونجازاكي الذريتين، اللتين ما تزالان حتى اليوم بعد أكثر من أربعين سنة من إلقائها تنتجان أجنة مشوهة بفعل الإشعاع الذري السام، وذلك غير الخراب المدمر الذي أحدثتاه وقت إلقائهما في مساحة كبيرة من الأرض قتلتا فيها كل من عليها من الأحياء من البشر والدواب والشجر، وحرمتا الحياة فيها لأجل غير معلوم !

والقنبلة الذرية لعبة صغيرة إلى جوار المدمرات التي اخترعت بعد ذلك والتي تهدد الحياة في أي حرب تالية تقوم بين الوحوش ويصلاها الآدميون !

وذلك إلى إباحة الكذب الدولي والخيانة على أنها عملة (شرعية ) في عالم السياسة الدولية!

تبرم المعاهدات لكي تنقض! ويعلم المبرمون جميعاً أنها حبر على الأوراق! وأنه لن يتقيد بها أي طرف إلا ريثما يجد الفرصة السانحة للخروج عليها وإلقائها طعمة للنيران!

وتتكون عصبة للأمم وهيئة للأمم كلتاهما ستار للسياسة العدوانية التي تتخذها (الدول العظمى) ضد الدول الصغار!

وذلك بخلاف الوسائل الفردية التي تستخدمها (الدول العظمى !) بطريقها المباشر لتنفيذ (غاياتها ) النبيلة!

حين قامت ثورة المجر سنة 1956 ميلادية وجدت روسيا في نفسها من (النبل) ماتحرك به الدبابات الشاهقة تهدم به البيوت على أصحابها أحياء وتردمهم في الركام لأنهم تجرأوا فطلبوا أن يمنحوا حرية التصرف بأنفسهم في أمر أنفسهم دون وصاية الدولة الروسية عليهم.. فهل تقاوم الردة إلا بالقتل الجماعي؟!

أما المخابرات الأمريكية فالأرض كلها مجال لمؤامراتها بغير حساب.. نريد انقلابا هناً..ونريد تغيراً هناك! وسرعان ما تنقلب الأرض وتتغير الأحوال وكل الوسائل حلال! الكذب والغش والتصفية الجسدية وشراء الضمائر بالمال ! المهم أن تنفذ الغاية..والغاية والوسيلة كلتاهما غارقة في الأوحال!

العلمانية:

قلنا: عرفنا الميكافيليين.. فمن غيرهم؟

قال: العلمانيون.

قلنا: ما تريد بهم؟

قال: بعد أن انتشرت أفكار ميكافيلي في المصلحة المجردة أخذ الملوك والأباطرة يتمردون على ذلك السلطان القاهر الذي تستذلهم به الكنيسة، ويطالبون (بالسلطة الزمنية) خالصة لهم على أن تقتصر الكنيسة على السلطة الروحية فحسب، وكان مستندهم في ذلك نظرية الحق الإلهي المقدس.

يقول رندال: (نشأت نظرية الحق الإلهي للملوك في أول عهدها كمحاولة لتحرير الحكومة المدنية، أوالعلمانية من رقابة البابا والكهنة، كما أنها كانت رداً على دعواه أن له حقاً إلهياً في السيطرة على الأمور الزمنية)([4])

ونظرية الحق الإلهي تستند إلى نظرية رومانية قديمة تعرف بنظرية (العقد الاجتماعي)

وقد كانت الإمبراطورية الرومانية – كما ضمنت في مجلة الحقوق المدنية – على القول بأن كل السلطة وكل حق في وضع القوانين يعودان للشعب الروماني، غير أن الشعب تنازل بموجب قانون شهير عن هذه الحق للإمبراطور، وهو تفسير طبيعي لمجرى التاريخ الروماني فجميع حقوق الشعب الروماني وجميع سلطاته انتقلت إلى الإمبراطور، وله وحده حق (إصدار) القوانين وحق تفسيرها.

وعندما تم إحياء القانون الروماني في القرون الوسطى انتبه الإمبراطور إلى هذه النظرية واتخذها سلاحاً ضد سيطرة الكنيسة، ثم تبعه في ذلك جميع الأمراء.. وهكذا نشأت نظرية العقد الاجتماعي القائلة بأن كل سلطة مدنية ترتكز في أساسها على الشعب، وأن الشعب قد حولها إلى الحاكم ليمكنه من القيام ببعض الوظائف الضرورية.

قلنا: فما الضير في هذه الأفكار؟

قال: لقد كانت هذه الأفكار وقودا لنيران كثيرة لا نزال نحترق بها.

قلنا: كيف ذلك؟

قال: لقد كانت تلك الأفكار تحمل معاول خطيرة تهدم بها كل القيم النبيلة.. وأولها أن (المفكرين الأحرار) بدأوا يهاجمون فكرة الألولهية وينفون الرسالات والوحي، وينفون الحياة الآخرة والجنة والنار.. ويقولون إن هذه كلها أوهام تبنتها البشرية في غيبة من العقل، والآن وقد صحا العقل فقد آن الأون لنبذها وتركها للهمج المتأخرين.

بل انتشرت الأفكار الإغريقية القديمة التي تذكر أن الآلهة في صراع دائم مع الإنسان.. وأنها تريد أن تقهر الإنسان وتكبته وتحطمه لكي لا يطمح في أن يكون مقتدراً مثلها، فلا تفتأ كلما حقق نجاحاً أن تصب الكوارث فوق رأسه لكي لا يستمتع بثمرات نجاحه، وهو من جانبه دائم التحدي للآلهة، كلما وقع في حفرة من حفائرها عاد يستجمع قواه ليصارعها من جديد.

وتكفي أسطورة بروميثيوس الشهيرة لبيان هذا المعنى بصورة مباشرة، إذ تزعم تلك الأسطورة أن (زيوس) إله الآلهة خلق الإنسان من قبضة من طين الأرض ثم سواه على النار المقدسة (التي ترمز إلى المعرفة) ثم وضعه في الأرض محاطاً بالظلام (الذي يرمز إلى الجهل) فأشفق عليه كائن أسطوري يسمى بروميتوس، فسرق له النار المقدسة لكي ينير له ماحوله، فغضب زيوس على الإنسان وعلى بروميثيوس كليهما.. فأما بروميثيوس فقد وكل به نسراً يأكل كبده بالنهار، ثم تنبت له كبد جديدة بالليل يأكلها النسر بالنهار في عذاب أبدي!

وأما الإنسان فقد أرسل له زيوس (باندورا ) ( التي ترمز إلى حواء ) لكي تؤنس وحشته (في ظاهر الأمر!) وأرسل معها هدية عبارة عن علبة مقفلة، فلما فتحها إذا هي مملوءة بالشرور التي قفزت من العلبة وتناثرت على سطح الأرض لتكون عدواً دائماً وحزناً للإنسان !

ويشير جوليان هكسلي إشارة صريحة إلى هذه الأسطورة في كتاب (الإنسان في العالم الحديثMan in the modern world)، فيقول إن موقف الإنسان الحديث هو ذات الموقف الذي تمثله هذه الأسطورة فقد كان الإنسان يخصع لله بسبب الجهل والعجز، والآن بعد أن تعلم وسيطر على البيئة فقد آن له أن يأخذ على عاتق نفسه ماكان يلقيه من قبل في عصر الجهل والعجز على عاتق الله، ويصبح هو الله)

قلنا: فما المصدر الذي هرب إليه الإنسان بعد هربه من الله؟

قال: لقد اتجه الفكر المنسلخ من الدين إلى البحث عن مصدر آخر للقيم الإنسانية غير الدين! ذلك أن أوروبا لم تكن قد انسلخت بعد من القيم ذاتها كما حدث فيما بعد حين امتد الخط المنحرف فازداد بعداً وانحرافاً، أو لم تكن قد سنحت الفرصة للشريرين أن يعلنوا الحرب المنظمة على كل مقومات (الإنسان ) كما سنحت لهم بعد ظهور الداروينية وإعلان حيوانية الإنسان!

ففي تلك الفترة وجد (الفكر الحر ! ) أنه إن أقر بأن الدين هو مصدر القيم الإنسانية فقد وجب عليه أن يحافظ عليه ولا يهاجمه ولا يسعى إلى تحطيمه ! فينبغي إذن أن يبحث ذلك الفكر عن مصدر آخر يستمد منه القيم ويسندها إليه، لكي لا يقول أحد إنه لا يمكن الاستغناء عن الدين ! وعلى هذا الضوء يمكننا فهم فلسفة (أوجست كومت) من ناحية، وأفكار (جان جاك روسو) من ناحية أخرى، فكلاهما يجهد نفسه ليقول للذين يقفون مدافعين عن الدين: ها قد وجدنا مصدراً آخر تنبع منه القيم الضرورية لحياة الإنسان غير الدين وجدناه في (الطبيعة) وفي (النفس البشرية ) وهو مصدر أفضل _ في إثبات القيم وترسيخها _ من الدين.. فدعونا إذن من الدين، وتعالوا معنا إلى تلك المصادر (الحرة ) التي يقبل عليها الإنسان إقبالاً (طبيعياً) (وذاتياً ) دون أن يحس بالقهر المفروض عليه من قوة أعلى منه!

وفي الوقت ذاته اتجه هذا (الفكر المتحرر) إلى عبادة الطبيعة بدلاً من عبادة الله، ونسبة الخلق إليها بدلاً من الله.. وفي ذات الوقت كذلك اتجه الفن إلى مناجاة الطبيعة بدلاً من مناجاة الله وتأليهها بدلاً من تألية الله.

وعندما جاءت الثورة الصناعية جاء معها المزيد من إبعاد الدين عن الحياة..

ففي العهد الزراعي _ أو الإقطاعي كما يسمونه _ كان ما يزال للدين نفوذ كبير في حياة الناس.

كان الملوك قد استقلوا عن سطان البابا، وقامت (علمانية الحكم ) بفصل الدين عن السياسة ( أي إقصاء رجال الدين عن التدخل في شؤون السياسة ) ولكن الكنيسة كان ما يزال لها سطان ضخم على أخلاق الناس وعاداتهم وأفكارهم رغم كل الصراعات وكل الاعتبارات.

ولكن الثورة الصناعية أحدثت _ أو أريد لها أن تحدث _ هزات عنيفة في حياة الناس.. فقد عملت هذه الثورة على إخراج المرأة إلى العمل وإفساد أخلاق الرجل معها، واستغلال قضية المساواة مع الرجل في الأجر لبث روح الصراع في نفس المرأة وإحراج صدرها من قوامة الرجل والعمل في البيت والتفرغ للأمومة، وما نتج عن ذلك كله من تحطيم الأسرة وتشريد الأطفال والفوضى.. ونسبة ذلك إلى التطور الذي يهدم ما يشاء من القيم ويلغي ما يشاء!

وكانت الطامة العظمى هي الداروينية وإبعاد الإنسان ذاته من عالم الإنسان وإلحاقه بعالم الحيوان ! فعندئذ لم تعد هناك حاجة إلى القيم أصلاً.. لا الدين ولا الأخلاق ولا التقاليد المستمدة من الدين.

قال رجل منا: ولكن ألا ترى في النظام العلماني من المصالح ما قضى به على تلك الآثار الخطيرة التي أنشأها الحكم الديني؟

لقد كان ـ في ظل الحكم الديني ـ النظام الإقطاعي هو السائد، وكانت الكنيسة قد أوهمت الناس أنه هو النظام الرباني الدائم الثابت الذي لايتغير، لأن أوضاع الناس فيه هي الأوضاع التي قدرها الله منذ الأزل ورضي عنها واقتضت مشيئته أن يظل الناس عليها إلى الأبد ! وأنه من رضي بما فيه من هوان ومذلة وشظف ومشقة فقد استحق من الله الجنة والرضوان!

قال: ذلك صحيح.. ولكن الناس حين خرجوا من الدين على خط العلمانية لم يستبدلوا بالإقطاع ماهو خير منه، سواء في الرأسمالية أو الشيوعية، بل ظلوا ينتقلون من جاهلية إلى جاهلية حتى هذه اللحظة، وكلما حاولوا أن يصلحوا الظلم جاءوا بظلم جديد.

فهم ينقسمون أولاً إلى سادة وعبيد، سادة في أيديهم المال والسلطان، يشرعون وحين يشرعون فإنهم يضعون القوانين التي تضمن مصلحتهم وتسخر الآخرين لهم، وعبيد ليس في أيديهم مال ولا سلطان، فلا يشرعون، إنما يقع عليهم ما يضعه السادة من تشريعات، ويسخرون – رضوا أم أبو- لمصلحة أصحاب السلطان..ومن جهة أخرى يصيبهم الخبل والاضطراب والتخبط نتيجة القصور البشري والجهل البشري والعجز عن الإحاطة والعجز عن رؤية المستقبل الذي ينبني على الحاضر، نعم ولكنه مع ذلك غيب لا يمكن التنبؤ به عن يقين.

الديمقراطية:

قلنا: عرفنا العلمانية.. فما غيرها؟

قال: كذبة تسمى (الديمقراطية) ([5])

قلنا: لا نسمع عنها إلا طيبا، فكيف تصفها بهذا([6]) ؟

قال: لأنها كذلك.. إنها أكبر كذبة يمارسها المستبدون ليلعبوا بها على أذقان شعوبهم.

قلنا: كيف ذلك؟

قال: لذلك قصة طويلة لن تفهموا آخرها حتى تفهموا أولها.

قلنا: فحدثنا عن أولها.

قال: لا شك أنكم تعرفون أن أول من مارس الديمقراطية كنظام حكم هم الإغريق في مدينتي أثينا وإسبارطة خلال القرنين الخامس والرابع قبل الميلاد، وذلك بعد تطور سياسي طويل استغرق حوالي سبعة قرون، حيث كانت تقوم في المدينة حكومة، يطلق عليها اصطلاحاً: اسم حكومة المدينة.

لقد كان أفراد الشعب من الرجال يجتمعون كلهم في المدينة، ويشاركون جميعاً في حكمها، أي يجتمعون في هيئة جمعية عمومية، يتشاورون فيها في كل أمور الحكم، مثل: انتخاب الحاكم وإصدار القوانين، والإشراف على تنفيذها، ووضع العقوبات على المخالفين، وربما ساعد على هذا الاجتماع العام: قلة عدد السكان، وبساطة الحياة، وسهولة المشاكل ويسرها، وقد توزعت الاختصاصات التشريعية والتنفيذية والقضائية على الهيئات التالية: الجمعية الشعبية (العمومية)، والمجلس النيابي، والمحاكم الشعبية.

فحكم الشعب في هاتين المدينتين كان مطبقاً بصورة مباشرة، وكانت التسمية (حكم الشعب) مطبقة بصورة مباشرة، ومنطبقة على الواقع انطباقاً كاملاً.

ولكن هذه الصورة من حكم الشعب (الديمقراطية) قد انتهت بانتهاء حكومة المدينة في أثينا وإسبارطة اليونانيتين([7]).

بعد ذلك بفترة طويلة.. وبعد أن عرفت أوربا نظام الإقطاع الذي ظل يحكمها أكثر من ألف عام في ظل الإمبراطورية الرومانية والقانون الروماني، ولما آمنت أوربا بالديانة المسيحية، لم تغير المسيحية من واقع الحياة في الجانب التشريعي والقانوني شيئاً بل مارس رجال الدين النصارى ظلماً وطغياناً تجاه الشعوب الأوربية، وفي ظل النظام الإقطاعي والطغيان الكنسي لم يكن للشعب قيمة أو وزن، بل كان يتعرض لأبشع أنواع الظلم والطغيان.

بعد أن كان الشعب يعاني من ظلم وطغيان الملوك والأمراء الذين كانوا يمارسون الحكم المستبد استناداً إلى نظرية التفويض الإلهي التي اُخترعت لتبرير سلطانهم المطلق، حيث تقول هذه النظرية: (إن الملوك يستمدون سلطانهم من تفويض الله لهم سواءً كان تفويضاً مباشراً أو غير مباشر)، وكان الشعب يعاني أيضاً من ظلم الإقطاعيين ورجال الكنيسة، ونتيجة المظالم المتراكمة تفجرت الثورة الفرنسية، ورفع شعار: (اشنقوا آخر ملك بأمعاء آخر قسيس)

لقد تخلصت أوربا من ظلم الإقطاع والأمراء والملوك ورجال الكنيسة، ولكنها استبدلت نظام الحكم الظالم الذي كان جاثماً على صدرها لعدة قرون بنظام حكم آخر، هو النظام الديمقراطي الذي أخذته من تراثها الإغريقي الروماني.

والأساس الذي استندت إليه أوربا الحديثة في أخذها بمبدأ سيادة الشعب هو نظرية (العقد الاجتماعي) التي صاغها كل من توماس هوبز، وجون لوك، وجان جاك روسو.. وجوهر هذه النظرية: (أن الناس في أول أمرهم كانوا يعيشون حياتهم الفطرية البدائية حياة غير منظمة، تخلو من التشريع الذي يحكمهم، وليس هناك دولة أو مؤسسة تنظم معاملاتهم وأمور حياتهم، ثم نتيجة تطور الحياة احتاج الناس إلى دولة وتشريع حاكم، لأجل ذلك عقدوا فيما بينهم عقداً تنازلوا بمقتضاه عن جميع حقوقهم أو بعضها للمجموع، من أجل إقامة السلطة التي تحكمهم وتنظم شؤون حياتهم وتحفظ حقوقهم وحرياتهم)

والسلطة حسب هذا التصور قامت بناء على الإرادة الشعبية، فالشعب هو صاحب السيادة والسلطة.

وبعد نضال وكفاح استمر فترة طويلة من الزمان استقرت الديمقراطية في أوربا على صورتها الحالية، على اختلاف بينها في الجزئيات لا يؤثر في صورتها العامة ومبادئها الرئيسية.

قال رجل منا: فما الضير في هذا.. أليس من حق الشعب أن يحكم بالقوانين التي تتناسب مع مصالحه؟

قال: ذلك صحيح.. ولكن التاريخ في القديم والحديث لم يذكر لنا أن هذه الخصيصة قد تحققت، فالديمقراطية كنظام للحكم كانت دوماً نظاماً طبقياً، أي كانت ومازالت طبقة واحدة هي التي تفرد إرادتها ومشيئتها على باقي طبقات المجتمع.. ولذلك ذكرت لكم أن الديمقراطية لا تعدو كونها كذبة تفنن المستبدون في التلاعب بها.

قلنا: كيف ذلك؟

قال: في القديم – عند الإغريق- كانت الطبقة المكونة من الأمراء والنبلاء وأشراف القوم هي الطبقة الحاكمة المشرِّعة صاحبة الإدارة العليا، بينما كان بقية أفراد الشعب – وهم الأغلبية- لا تملك من الأمر شيئاً.

وفي الحديث نجد طبقة كبار الأغنياء من أصحاب رؤوس الأموال هم الذين يشكلون الطبقة الحاكمة المشرِّعة صاحبة الإرادة العليا، فهي التي تملك الأحزاب ووسائل الإعلام التي تصنع الرأي العام وتوجهه لصالح القلة الحاكمة.

إن الديمقراطية لعبة الأقلية سواء كانت فئة أو طبقة، وليست حكومة الشعب أو الأغلبية كما جاء في تعريفها، وكما يتوهم كثير من الناس.

ولهذا فإن الديمقراطية قدمت لنا صوراً كثيرة للنظم المستبدة، كالديمقراطية القيصرية، وكنظام نابليون بونابرت، ونظام لويس نابليون 1852م.

بالإضافة إلى هذا، فإن المجلس النيابي – بكل أفراده أو أكثرهم- في النظام الديمقراطي لا يستطيع أن يسنّ تشريعاً صالحاً نافعاً، لتعذر اتفاق عقول جميع النواب على تشريع واحد، ولمّا أدرك هؤلاء النواب استحالة ذلك، جعلوا في المجلس لجنة قانونية، ولها مقرر واحد، حتى يمكن وضع النظام من واحد، ثم يعرض للنقاش من عدد محدود – أعضاء اللجنة القانونية-، ثم يعرض على المجلس لا لوضعه، وإنما لإقراره، بعد نقده من عدة أشخاص، وبعد ذلك يصبح قانوناً من قبل المجلس. وحقيقة الأمر: أن واضع القانون شخص واحد، وناقشه عدة أشخاص، فيكون واضع القانون بضعة أفراد، لا الشعب ولا أكثريته، ولا المجلس النيابي المنتخب نفسه.

وعلى فرض أن نواب الأمة – ممثلي أكثرية الأمة- هم واضعو القوانين، فإن القانون أو النظام الذي وضعوه لا يصلح لأن يعين المصلحة ويحدد المفسدة، التي تقوم عليها علاقات الأمة في المجتمع، لأن النظام أو القانون مصدره العقل، والعقل وحده لا يملك ذلك، لأن عقول الناس متفاوتة ومتباينة من حيث الأفكار وتحديد المصالح والمفاسد.

بالإضافة إلى هذا، فإن الديمقراطية تقوم على مبدأ تقرير الحقوق والحريات للأفراد، ووجوب ضمانها وصيانتها وحمايتها، ولقد ظهرت هذه الحقوق والحريات في البداية لحماية الأفراد في مواجهة سلطة الدولة، واستمدت دعائمها من النظريات التي أوردت قيوداً على سلطان الدولة كنظريتي القانون الطبيعي والعقد الاجتماعي، ولقد استقرت أخيراً هذه الحقوق والحريات وأصبحت جزءاً من النظام الديمقراطي، إذ قررتها من قبل إعلانات الحقوق المختلفة عقب الثورات الإنجليزية والأمريكية والفرنسية، وظهرت في شكل نصوص دستورية في صلب القوانين الأساسية، وهو ما أخذت به أغلب الدساتير. وقررها أيضاً ميثاق هيئة الأمم، والميثاق العالمي لحقوق الإنسان الصادر في 15 ديسمبر 1948م.

قال رجل منا: ما أجمل هذا.. فلم تعيبه؟

قال: أنا لا أعيبه.. ولكني أذكر خطورته.

قال الرجل: فما خطورته؟

قال: سأضرب لك مثالا على هذا فيما يتعلق بالحرية التي كفلتها الديمقراطية في مجال الأخلاق..

أنت تعلم أن حرية الإنسان في أن يفسد حرية مكفولة بالقانون الديمقراطي.. فالسلوك الجنسي مسألة خاصة إلى أبعد حدود الخصوصية، لا يتدخل القانون بشأنها، أي تدخل إلاَّ في حالة واحدة هي جريمة الاغتصاب، لأنها تقع بالإكراه لا بالاتفاق، أما أي علاقة – على الإطلاق- تقع بالاتفاق فلا دخل للقانون بها ولا دخل للمجتمع ولا دخل لأحد من الناس.. فسواء كانت هذه العلاقة سوية أو شاذة، وسواء كانت مع فتاة لم تتزوج أو مع امرأة متزوجة، فهذا شأن الأطراف أصحاب العلاقة، وليس شأن أحد آخر.

تلك هي الحرية التي تقر بها الديمقراطية في بلاد الغرب، وتحميها بالقانون، وتعطيها الشرعية الكاملة.

هذا في مجال السلوك الأخلاقي.. أما الحريات الاقتصادية، فقد أعطت الديمقراطية الفرد حرية مطلقة في الكسب والتملك والثراء والإنفاق، دون ضوابط ولا قيود، ومن هنا كان الربا والاحتكار والكساد والبطالة، والإسراف في إنفاق المال ولو كان على الفساد والرذيلة، وظهر المحتالون على أموال الناس، يأكلونها بالقمار، والرشوة واستغلال السلطة، وعبر المصنوعات التافهة، والتجارة بالمواد المفسدة للفطرة والذوق الإنساني، ومن خلال دور العهر والبغاء، وصالات الرقص والتعري والانحلال، ومن خلال الحروب المصطنعة لإيجاد أسواق تصريف فائض الإنتاج من السلاح ووسائل الدمار، ومن خلال مؤسسات الجنس والسينما والمودة والتقاليع المفسدة للأخلاق والطباع.

بالإضافة إلى هذا، فإن عدم وجود شروط يجب توافرها في الشخص الذي يريد ترشيح نفسه للحكم في الديمقراطية يجعل طلاب السلطة يتنافسون عليها، بل يتقاتلون من أجلها، ويسلكون في سبيل الوصول إلى الحكم كل الوسائل اللاأخلاقية التي من شأنها التأثير على الناخبين وشراء أصواتهم بالأموال المبذولة للعامة، والمناصب الموعودة للكتاب والصحفيين والساسة والزعماء ونحوهم ممن يسير في موكب النفاق للشخص أو الحزب المرشح للحكم.

ثم إن انعدام هذه الشروط تمكِّن غير المؤهلين علمياً وإدارياً وخلقياً -من خلال أموالهم الطائلة وموكب المنافقين السائدين معهم- من الوصول إلى الحكم، وأمثال هؤلاء يكونون لعنة على شعوبهم وبلدانهم، كما نرى في واقعنا المعاصر.

إن الأنظمة والتشريعات التي تصدر عن المجالس البرلمانية الديمقراطية تؤكد أن نسبة الأغلبية التي توافق على هذه التشريعات والأنظمة نسبة تافهة مجردة من القيم والأخلاق، نسبة خاضعة لأهواء ورغبات شياطين الإنس والجن الذين يهمهم تفكيك روابط الأسرة والمجتمع، وهدم قواعد الحق والعدل والأخلاق. وإلا: بماذا نفسر القوانين التي تبيح ما لا يقبله من لديه مسكة من عقل أو ذرة من حياء، كقوانين إباحة اللواط، وعقد الرجل الزواج على رجل آخر كما يعقد الزواج بين الرجل والمرأة، وإباحة الزنا والربا والقمار، وإباحة المشروبات الكحولية المدمرة للفرد والمجتمع، والمسببة للضياع وفقدان الإحساس، ونحو ذلك مما تقشعر منه الفطر والعقول السليمة.

الفاشية:

قلنا: عرفنا الديمقراطية وأوزارها.. فما غيرها.

قال: الفاشية([8]).

قلنا: ما الفاشية؟

قال: هي الصورة الفاضحة للديمقراطية والميكافيلية والعلمانية.. إنها شكل من أشكال الحكومات التي يرأسها دكتاتور يسيطر على الحكومة سيطرة تامة، ويسيطر معها جميع على النشاطات السياسية والاقتصادية والدينية والاجتماعية.

وهو يغذي كل ذلك بكافة أشكال التطرف الوطني، والسياسات النازعة للعسكرية، والتوسّع، والغزو واضطهاد الأقليات.

قلنا: فكيف يسمح لهذا بالمرور؟

قال: يستغل الفاشيون ببراعة ما يحصل في الدولة من أزمات.. فهم يأتون إلى السلطة ـ في أغلب الحالات ـ على إثر حدوث انهيار اقتصادي بالبلاد أو هزيمة عسكرية أو كارثة أخرى.. ويكسب الحزب الفاشي تأييدًا شعبيًا لما يبذله من وعود بأنه سينعش الاقتصاد، وسيسترد كرامة البلاد.. وقد يستغل الفاشيون خوف هذه الشعوب من الأقليات أو من شيء ما.. ونتيجة لذلك قد يستحوذ الفاشيون على السلطة عن طريق انتخابات سلمية أو عن طريق القوة.

وبعد أن يستولي الحزب الفاشي على السلطة، يتسلم أعضاؤه الوظائف التنفيذية والقضائية والتشريعية في الحكومة.. وفي أغلب الحالات يتولى رئاسة الحكومة شخص واحد ـ وغالبًا مايكون ذا نزعة استبدادية وجاذبية لدى الجماهير.. وأحياناً، تتولى قيادة الحكومة هيئة من أعضاء الحزب.. ولايسمح الفاشيون بقيام حزب آخر أو معارضة لسياستهم.

ويؤدي شغف الفاشيين بتمجيد الوطنية إلى ازدياد الروح العسكرية.. وقد يجنحون، عندما تزداد القوات المسلحة قوة، إلى غزو بلاد أخرى واحتلالها.

وتسمح الفاشية، بل وتشجع النشاط الاقتصادي الخاص، ما دام يخدم أهداف الحكومة.. وتحظر الحكومة الإضرابات؛ حتى لا يضطرب الإنتاج. وتحرم الفاشية النقابات العمالية وتستعيض عنها بشبكة من المنظمات في الصناعات الكبرى.. ويطلق على هذه المنظمات التي تتكون من العمال وأصحاب الأعمال، اسم المؤسسات. لكنها تختلف عن تلك التي تنشأ في بلاد أخرى.

ويفترض في المؤسسات الفاشية أن تمثل العمال وأصحاب العمل معًا. وفي حقيقة الأمر فإن هذه المؤسسات تخضع لسيطرة الحكومة، وعن طريقها تحدد الحكومة الأجور، وساعات العمل، وأغراض الإنتاج.

والحرية الشخصية في هذا النظام مقيدة تقييدًا شديدًا، فعلى سبيل المثال، تقيد الحكومة السفر إلى البلاد الأخرى، وتحد من أي اتصال بشعوبها، وتهيمن على الصحف ووسائل الاتصال الأخرى في بلدها، وتبث الدعاية للترويج لسياساتها، وتمارس رقابة صارمة على المطبوعات لقمع الآراء المناوئة لها.. ويفرض على كل الأطفال الالتحاق بمنظمات الشباب، حيث يتدربون على المسيرات ويتعلمون المفاهيم الفاشية.. وتسحق الشرطة السرية أية مقاومة.. وقد تؤدي المعارضة إلى السجن والتعذيب والموت.

ويعتبر الفاشيون كل الشعوب الأخرى أدنى من قوميتهم التي ينتمون إليها، لذلك قد تضطهد الحكومة الفاشية أو تقتل حتى الغجر أو من ينتمون إلى أقليات أخرى.

قلنا: أليست هذه الكلمة التي كان ينادي بها (بنيتو موسوليني)؟

فال: (بنيتو موسوليني) لم يكن إلا داعية من دعاتها.. أما هي كواقع وتطبيق فقد كانت أسبق وأطول عمرا.

السلام

بعد أن ذكر لنا صاحبنا ما ذكر من أنظمة الحكم المختلفة سكت سكوتا عميقا، قطعناه بقولنا: فما غيرها؟

قال: حسبكم ما سمعتم.. لقد كان كل اسم من تلك الأسماء قنبلة نووية جثمت على كياني وكيان الملايين لتفجرنا، وتفجر معنا كل خصائص الإنسان التي جعلها الله له.

قلنا: لقد ذكرت لنا أنك حاولت التخلص من حياتك.

قال: أجل.. عندما رأيت أن حياتي أصبحت مجرد عدد يستغله الأمراء والملوك والمستبدون ليملأوا حياة البشر ظلما وقهرا.. وعندما رأيت أن صوتي أصبح وسيلة من الوسائل التي ينفخ بها المستبدون كير استبدادهم.. عندما رأيت هذا رأيت أن كأس الموتى أحلى، وأن القبر أسلم.. فلذلك لجأت إلى ما لجأتم إليه جميعا.

قلنا: فما فعلت؟

قال: لم يصعب علي البحث عن الموت.. فقد عرفت ما تحبه الأنظمة وما تبغضه.. وعرفت أن الموت يترصد كل من تبغضه.. فلذلك رحت أصيح به.. وما أسرع أن هبت رصاصة نحوي، فأردتني.. ولست أدري هل كان من سوء حظي أو من حسنة أن الرصاصة لم تجهز علي تماما.

قلنا: كيف نجوت منها؟

قال: في غمرة جراحي، وبعد أن ظن من صوب رصاصته نحوي أنه قتلي جاءني رجل ممتلئ بالسلام والنور والصفاء، وراح يمسح على جراحي جرحا جرحا إلى أن برئت تماما.

ولم يكتف هذا الرجل الفاضل بأن يمسح على جراحي.. بل راح يملؤني بمعاني الحكومة العادلة التي أمر الله بها.. والتي مثلها الصديقون والنبيون، وسيعيد تمثيلها خلفاؤهم من الصالحين([9]).

ولم يعد لي هم بعد ذلك إلا أن أكون لبنة تمهد لهذه الحكومة، وصوتا يدعمها.. وقد انتشرت في همة عجيبة.. لكني، وفي غمرة سروري وقوتي بحثت عن الرجل الذي نفخ في من الهمة ما نفخ فإذا بي أسمع أنه قد جاء لهذه البلاد ليدرأ فيها الفتنة العظيمة.. وقد قدمت لقدومه، وساقتني الأقدار إلى ما ساقتكم إليه.

قلنا: فحدثنا عن هذه الحكومة التي بعثت فيك كل هذه الهمة مع أنك لم ترها.

قال: سيطول بي الحديث لو حدثتكم عنها([10])..

قلنا: لا مناص لنا من الحديث عنها.

قال: هي حكومة تقوم على أربعة أسس: الدستور، والحاكم، والرعية، والتنظيمات.

الدستور:

قلنا: فحدثنا عن الدستور.

قال: لقد سألت عن هذا صاحبي المسلم الممتلئ بالسلام، وقد ذكر لي أن النظام السياسي في الإسلام يختلف عن كل الأنظمة في نقطة مهمة وخطيرة غفلت عنها كل الأنظمة، بل هناك من راح يحاربها أو يشوهها.

سألته عنها، فقال: إنه نظام ينطلق من أن العباد عباد الله.. ولا يحق لأحد أن يحكمهم إلا ربهم الذي خلقهم.. { إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ } (الأنعام: من الآية57).. :{ وَهُوَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } (القصص:70).. :{ وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (القصص:88)

وربهم الذي خلقهم أنزل عليهم بفضله وكرمه ورحمته ما يدلهم على مراضيه ليجعلوه دستور حياتهم الذي عليه تقام، وبه تستقر، فلا يحق لأحد أن يتجاوزه أو يقدم رأيه عليه، قال تعالى :{ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آَتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48) وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (49) أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50) } (المائدة)

سألته: ولكن هذا الذي تنص عليه الحكومات الدينية؟

قال: لا.. الحكومات الدينية زعمت أنها تنوب عن الله.. لقد احتالت على الرعايا باسم الله لتلبي مصالحها.

قلنا: فما علاقة هذا بالدستور؟

قال: لقد سألت صاحبي عنه، فقال: أرأيت الآلات الكثيرة التي يتزاحم الناس عليها ابتغاء ما فيها من رفاه؟

قلت: ما بها؟

قال: ألست تجد معها من الدفاتر ما يوضح غرضها، ووجوه استعمالها، وأساليبه.. وكيفية تصحيح ما يقع لها من أعطاب.. وكيفية تجنب تلك الأعطاب قبل حصولها؟

قلت: أجل.. وذلك من المحاسن لا من المساوئ.

قال: أرأيت لو أن مؤسسة ما اخترعت جهازا معقدا غاية التعقيد.. وله من الاستعمالات ما لا يمكن حصره.. وكان فيه في نفس الوقت من الاستعداد للعطب ما يجعله يتأثر لأبسط المؤثرات.. ؟

قلت: إن مثل هذا الجهاز قد لا يحتاج دفترا فقط.. إنه يحتاج فوق ذلك إلى تدريب خاص لمن يمتلكه.

قال: من يقوم بذلك التدريب.. ومن يعين عليه؟

قلت: الجهة المصنعة هي الجهة المسؤولة عن ذلك.

قال: ولو قصرت الجهة؟

قلت: تقصيرها لا يغتفر.. بل تكون إساءتها بالتقصير في هذا ناسخة لمحاسنها في صناعته.

قال: فهكذا الأمر مع صنعة الله.. الإنسان.. بنيان الله الفريد العجيب.. إنه آلة معقدة.. بل هو أعقد الآلات.. ولو جمعنا جميع عقول آلات الدنيا..  فلن تعدل عقل مجنون من مجانين بني آدم..

قلت: سلمت لك بهذا.. فما تريد منه؟

قال: هل ترى الله الرحمن الرحيم الذي خلق هذه الآلة العجيبة.. وأمدها بكل ما تحتاجه.. البسيط والمعقد.. يمكن أن يقصر في هذا، في الوقت الذي لا تقصر فيه أبسط المؤسسات وأحقرها؟

سكت، فقال: ولهذا.. فنحن المسلمين نعتقد أن الله تعالى برحمته أرسل إلى البشرية.. في كل فترة من فترات تاريخها.. وفي كل أمة من أممها ما يدلها على الطريق الصحيح الذي تعبد به ربها، وتمارس به حياتها:

لقد ذكر الله تعالى ذلك، فقال :{ كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (213)} (البقرة)

وقال تعالى عن تقصير بني إسرائيل ـ باعتبارهم نموذجا لرسالة من رسالات الله ـ فيما أنزل إليهم من كتاب:{  ألَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (24)} (آل عمران)

وقال يصفهم :{ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (42) وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (43) إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآَيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44) وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45) وَقَفَّيْنَا عَلَى آَثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآَتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (46) وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (47)} (المائدة)

وعلى هذا النهج والسنة الإلهية أنزل القرآن الكريم ليؤدي الوظيفة التي أدتها سائر الدساتير الإلهية، قال تعالى:{ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آَتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48) وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (49)} (المائدة)

وقد سمى الله تعالى كل خلاف للمنهج الذي اختاره لعباده جاهلية، فقال :{ أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50)} (المائدة)

ابتسمت، وقلت: هل ترى أن الله ينزل من علياء عرشه.. ليحكم هذه الذرات التائهة المسماة (بشرية) ؟

ابتسم صاحبي، وقال: أليس الله هو الذي خلق النمل والنحل والبعوض ووحيدات الخلية، وأمدها بالفطرة السليمة التي تتيح لها أن تحيا الحياة السليمة؟

قد لا تقول بعض الديانات المحرفة بهذا.. أما تصورنا نحن المسلمين، فيقوم على هذا، فالله هو القيوم الذي يقوم به كل شيء من الخلق والأمر.. قال الله تعالى :{ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ) (البقرة:255)

لقد أخبرنا ربنا أن حركات النحل التي تتحركها لتصنع ذلك الشفاء الرباني العجيب لا تتحركها إلا انطلاقا من الوحي الإلهي، قال تعالى :{ وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ(69)} (النحل)

فإذا كان النحل البسيط يحتاج إلى الله في حركاته.. فكيف نستغني نحن عنه؟

قلت: لقد عرفت الله، وعرفت أنه أرفع من أن ينزل إلى عرش قيصر ليحكم بدل قيصر.. فلذلك قال لنا الكلمة: ( دعوا ما لقيصر لقصير، وما لله لله)

قال: أما لقيصر لله، أم ليس لله؟

قلت: ما تقصد؟

قال: أليس البشر الذين يحكمهم قيصر عباد لله.. خلقهم الله وصورهم ووهبهم من أفضالهم ما وهبهم؟

قلت: صحيح ما تقول.

قال: فهم لله.. وليسوا لقيصر.

قلت: ولكن قيصر هو الذي يحكمهم.

قال: أرأيت لو أن رجلا سطا على بيتك.. وجلس على عرشك.. وراح يأمرك وينهاك أكنت تعتقد أن طاعته واجبة عليك لا مناص لك منها؟

قلت: لا.. طاعتي له جريمة.. فكيف أرضى لمن سطا علي أن يتملكني.

قال: فكذلك قيصر.. وكذلك كل القياصرة.. لقد خلقنا الله أحرارا، فرحنا نبيع حريتنا للمستبدين ليحرقونا بنيرانهم.. ثم ننسب ذلك كله لله.

الخليفة:

قلنا: حدثتنا عن الأساس الأول.. فحدثنا عن الثاني.. فهو الذي تتنازع فيه الأنظمة والمذاهب وتمتلئ صراعا.

قال: لقد سألت صاحبي عنه، فقال ـ وهو يشير إلى السماء ـ : ألا ترى السماء.. وأقمارها وكواكبها ونجومها ومجراتها؟

قلت: بلى.. وما علاقتها بهذا؟

قال: ألا ترى كيف نظم الله الكون.. فالقمر تابع للكوكب.. والكوكب تابع للنجم.. والنجم سائر مع المجرة يتحرك وفق حركاتها.. فلا يشذ عنها ولا ينحرف.

قلت: بلى.. فما علاقة ذلك بما نحن فيه؟

قال: إن الحركات المنتظمة تستدعي نقطة مركزية أو محورا.. ولا يمكن أن تنظم الحركات من دون ذلك.

قلت: أتقصد أن الركن الثاني هو تلك النقطة المركزية؟

قال: أجل.. فلا يكفي الدستور وحده لأكثر الناس.. فلذلك هم يحتاجون إلى من ينظم حياتهم وحركاتهم.

قلت: ذلك متفق عليه عند البشر جميعا.. فما ميزة النظام الإسلامي في هذا؟

قال: ميزة الإسلام في هذا أنه وضع القوانين التي تتيح لشخص ما أو لجماعة ما هذه الوظيفة الخطيرة التي تتوقف عليها حياة الناس.

قلنا: فما هذه الضوابط؟

قال: لقد ذكر القرآن الكريم ضابطين عظيمين لذلك، تندرج ضمنهما سائر الضوابط، وذلك في قوله تعالى على لسان يوسف u :{ قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ) (يوسف:55)

لقد ذكر الله في هذه الآية الكريمة ضابطين عظيمين، أما أولهما، فالحفظ، وأما الثاني، فالعلم.

أما الحفظ، فيتمثل في جميع الأخلاق التي تجعل من وكلت إليه هذه المهمة لا يسعى لحظ نفسه.. بل يسعى لحفظ ما وكل به من شؤون الرعية..

وأما العلم.. فيتمثل في جميع القدرات والخبرات التي تمكنه من أداء وظيفته.. فلا يمكن أن تؤدى وظيفة من وظائف الوجود بالجهل.. فالجاهل لا ينفع نفسه، فكيف ينفع غيره؟

قلت: فأين مثل هذا الرجل.. إنه كالدرة اليتيمة.

ابتسم  صاحبي، وقال: جل جناب الحق أن يخلي الأرض من أصحاب القدرات المختلفة.

قلت: فما الذي يحول بينهم وبين الوصول إلى المناصب التي هم أهل لها؟

قال: أصحاب النفوس والأهواء هم الذين يحولون بينهم وبينها.. لقد ذكر الله ذلك فقال حاكيا عن بني إسرائيل وعنصريتهم التي حالت بينهم وبين قبول الحاكم الذي رضيه الله لهم.. قال تعالى :{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (246) وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (247)} (البقرة)

ومع ذلك لم يقبلوا إلى أن رأوا المعجزة التي تدلهم على أنه الحاكم الذي رضيه الله لهم.

ولم يكن الأمر قاصرا على بني إسرائيل.. فأكثر الأمم واجهت أنبيائها الذين هم أشرف الناس وأقدر الناس على تحمل مثل هذه المسؤوليات بالتكذيب والاحتقار لسبب بسيط كهذا السبب الذي أورده القرشيون في رفضهم لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم.. قال تعالى :{ وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ (30) وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآَنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31)} (الزخرف)

وقد رد الله عليهم هذا المنطق، فقال :{ أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (32)} (الزخرف)

وللأسف فإن ما حصل للأمم الأخرى حصل لأمتنا التي أعرضت عن الخلفاء الراشدين الهادين المهديين الذين ارتضاهم الله لهم، واستبدلت بهم ظلمة وطوغيت وملوكا شوهوا دين الله، وانحرفوا به.

الرعية:

قلنا: حدثتنا عن الأساس الثاني.. فحدثنا عن الثالث..

قال: لقد سألت صاحبي عنه، فقال: الرعية.. الرعية هم الذين يتشكل منهم نظام السياسة في الإسلام.

قلت: وفي غير الإسلام.. فلا يمكن أن يكون هناك نظام من غير رعية.

قال: لا أقصد بالرعية الشعب المجرد عن حرية الرأي، وقوة الإرادة، ونفاذ العزيمة.. بل أقصد الشعب الممتلئ بالحرية والوعي والقدرة على أن تكون له إرادته الحرة التي يهابها الحاكم، ويحسب لها حسابها.. بل لا يمكن للحاكم أن يحكم الرعية من دونها.

قلت: تقصد الانتخاب؟

قال: لا أقصد الانتخاب وحده.. بل أقصد كل ما يربط الرعية براعيها حتى عزله إن أرادت.

قلت: أفي الإمكان ذلك؟

قال: أجل.. بل يجب على الرعية أن تعمل على عزل راعيها إن أساء..

قلت: نرى أن للرعية شأنا في النظام الإسلامي.. فما هو؟.. وما منطلقاته؟

قال: للرعية في النظام السياسي الإسلام أربع مسؤوليات([11]): البيعة لمن توفرت فيه الأهلية.. والطاعة في المعروف.. والمعصية في المنكر.. وعزل من لم تتوفر فيه الأهلية.

التنظيمات:

قلنا: فحدثنا عن الأساس الرابع الذي يقوم عليه النظام السياسي الإسلامي..

قال: لقد سألت صاحبي عنه، فقال: أرأيت لو أن رساما رسم على لوحته صورة لحديقة زينها بأجمل الزهور والألوان، ونسقها تنسيقا بديعا.. لكنه تلاعب بالألوان.. فجعل أوراق الأشجار سوداء.. وجعل المياه حمراء.. وجعل الشمس خضراء؟

قلت: لا شك أن هذا رسام هازل.

قال: لا.. هو رسام جاد.. ولكنه أراد أن يبدع.. وقد رأى أن كل الرسامين يرسمون الأوراق خضراء، فراح يحولها إلى سوداء.

قلت: فهذا مجنون إذن.

قال: لم تر جنونه؟

قلت: لأن الإبداع لا يكون بالتلاعب بحقائق الأشياء..

قال: ففيم يكون إذن؟

قلت: في تنسيقه واختياراته والإيحاءات التي تعبر عنها صوره..

ثم أضفت قائلا: ما تريد بكل هذا؟

قال: أريد أن أبين لك العلاقة بين التنظيمات والدستور.. فالدستور  الإلهي دوره أن يبين فطر الأشياء وحقائقها حتى لا يتلاعب الساسة بها.. وأما التنظيمات، فدورها أن تجعل صورة الحياة جميلة حية ممتلئة بالسعادة.

قلت: فما علاقة هذا بالنظام السياسي الإسلامي؟

قال: كما أن الإسلام تشدد في دستوره الذي يحفظ حقائق الأشياء، فإنه في مقابل ذلك تفتح تفتحا تاما على كل ما يخدم الحياة من تنظيمات.. فالحياة لا تستقيم إلا بالتنظيمات الصالحة التي تيسر للرعية حياتها.

***

بعد أن ذكر لنا صاحبنا من أنباء النظام الإسلامي ما ذكر سألناه عن صاحبه، فقال: لقد مكثت معه فترة من الزمن يشرح لي جوانب السلام التي يختزنها الإسلام في جميع مبادئه ونظمه.. وفي اليوم الذي قررت فيه بكل قواي أن أحطم تلك الخراسانات المسلحة التي جثمت على قلبي وعقلي وحالت بيني وبين الإسلام.. في ذلك اليوم لم أر صاحبي.. فرحت أسأل عنه، وأمعن في السؤال، وقد دلني الناصحون على أنه قدم هذه البلاد، وقد قدمت لأجله، وها أنتم ترون ما أصابنا من البلاء.

وأنا لا أحزن على فوات ما فاتني من الدنيا، ولكني أحزن على تلك المبادئ العظيمة التي جاء بها الإسلام كيف تشوه هذا التشويه.


([1])نسبة للثيوقراطية، وتعني حكومة الكهنة أو الحكومة الدينية.. وتتكون كلمة ثيوقراطية من كلمتين مدمجتين هما (ثيو) وتعني الدين و(قراطية) وتعني الحكم.. وعليه فإن الثيوقراطية هي نظام حكم يستمد الحاكم فيه سلطته أو بالأحرى شرعيته مباشرة من الإله.. حيث تكون الطبقة الحاكمة من الكهنة أو رجال الدين.

([2]) استفدنا الكثير من المعلومات التاريخية الواردة هنا من كتاب (العلمانية) لمحمد قطب.

([3]) نسبة لمكيافيلي (Niccolò Machiavelli)، ولد في فلورنسا 3 مايو 1469، وتُوفي في فلورنسا في 21 يونيو 1527، فيلسوف سياسي إيطالي إبان عصر النهضة.. وقد أصبح مكيافيلي الشخصية الرئيسية والمؤسس للتنظير السياسي الواقعي، والذي أصبحت فيما بعد عَصّبَ دراسات العلم السياسي. أشهر كتبه على الإطلاق، كتاب الأمير، والذي كان عملاً هدف مكيافيلي منه أن كتيب تعليمات للحكام، نُشرَ الكتاب بعد موته، وأيد فيه فكرة أن ماهو مفيدٌ فهو ضروري، والتي كان عبارة عن صورة مبكرة للنفعية والواقعية السياسية.

وألف مكيافيلي العديد من (المطارحات) حول الحياة السياسية في الجمهورية الرومانية، فلورنسا، وعدة ولايات، والتي من خلالها برع في شرح وجهات نظر أخرى.

([4]) تكوين العقل الحديث:1/277..

([5]) مصطلح الديمقراطية يونانى الأصل، ويتكون من شقين : الشق الأول (Demoskratia) وتعنى بالعربية: (الشعب)، والشعب فى لسان العرب : القبيلة العظيمة، والجمع شعوب.. أما الشق الثانى من الديمقراطية (Demoskratia): فيعنى حكم أو سلطة بمعنى التحكم فى المصير الشخصى، وأحيانا تعنى مصير الغير.

ومجموع الشقين يعنى : حكم الشعب، أو سلطة الشعب.

ويلاحظ أن الكلمة فى النطق العربى لها أقرب إلى أصلها اليونانى مما هو عليه فى اللغات الأوربية الحية.

ويرى منتسكيو – وهو من أبرز مفكرى عصر النهضة وممن ساهموا فى إرساء نظرية الديمقراطية- أن الديمقراطية  هى حكم الشعب، أو من يمثلونه وفق قواعد نيابية خاصة، فإذا كان الحكم فى أيدى فئة من أغنياء الشعب، فتلك هى الأرستقراطية.

ففى الديمقراطية يستطيع كل شخص وفق قواعد خاصة تمثيل الشعب، أو حكم الشعب باسم الشعب، أما فى حالة الأرستقراطية فإن الحكم محصور فى طبقة معينة أو عدة طبقات لا يتعداها.. وأحسن شكل للحكم الأرستقراطى هو ذلك الحكم الذى يقترب من الحكم الديمقراطى.

أما الحكم الملكى – فى رأى مونتسكيو- فهو الذى يقوم على هيئات تتوسط بين الملك والشعب، وتكون لها اختصاصات محدودة تحديدا دقيقا يحد من سلطان الملك.

(انظر: د حسن سعفان، روح القوانين لمونتسيكو، ص 28، وما بعدها، الهيئة المصرية العامة للكتاب، تراث الإنسانية، 1995م)

([6]) استفدنا هنا من كتاب بعنوان (الديمقراطية)  للدكتور صالح الرقيب.

([7])انظر الديمقراطية الأثينية أ.هـ.م. جونز، ترجمة د. عبد المحسن الخشاب، الهيئة المصرية العامة 1976م ص 121.

([8]) يطلق مصطلح (فاشية) لكل نظام حكم، أو مفهوم سياسي، يشبه حكم بنيتو موسوليني، وأدولف هتلر وسياساتهما.. فقد قامت حكومتان فاشيتان في كل من إيطاليا، بقيادة موسوليني من سنة 1922م إلى سنة 1943م، وفي ألمانيا بقيادة هتلر من سنة 1933م إلى سنة 1945م.

([9]) للأسف الشديد لم يسمح الطغاة والمستبدون والظلمة الذين حكموا الأمة الإسلامية لفترات طويلة بقيام مثل هذه الحكومة الإلهية التي يعم نورها وعدلها الأرض جميعا، ولكن ذلك لا يعني عدم قيامها، فالله وعد بذلك.. والأسف الأخطر من هذا هو على من يشوه هذه الحكومة العادلة بنسبة تطبيقها في الواقع التاريخي الإسلامي حرصا على التاريخ وعلى الحكام الظلمة الذين حالوا بين الأمة وبين الدولة التي أرادها الله لهم.

([10]) تحدثنا عن هذا وما يرتبط به من تفاصيل في رسالة (عدالة للعالمين).. ولذلك اكتفينا هنا ببعض الأسس التي تقوم عليها النظام السياسي في الإسلام، وقد لخصناه بتصرف من الرسالة المذكورة.

([11])  تحدثنا عن هذه المسؤوليات بتفصيل في رسالة (عدالة للعالمين) من هذه السلسلة.

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *