سابعا ـ الخطيب

قلت: فحدثني عن رحلتك السابعة.
قال: بعد خروجي من تلمسان سرت قاصدا مدينة (فاس).. تلك المدينة العريقة التي تشرفت بأن بناها حفيد من أحفاد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ([1]).. قدم إليها بما معه من الحرص على دين الله ليبني فيها أسس حضارة نشرت أشعتها على جميع المغرب العربي.. بل امتد شعاعها إلى جميع العالم الإسلامي فترة طويلة من الزمان.
كان الظرف الذي نزلت فيه هذه المدينة قاسيا.. فقد كانت الأحقاد الصليبية التي مثلها المستعمر تملأ المدينة بأجواء من الرعب والفتنة..
في ذلك الجو الذي أحسست بضيقه على نفسي.. كما أحسست بضيقه على نفوس الناس.. التقيت حامل مشعل (الخطابة) من مشاعل الهداية النبوية.. وهو العلامة الأديب الخطيب المناضل (محمد علال الفاسي)([2])
لقد استعمل الصليبيون الحاقدون كل ما لديهم من أساليب لقمع سكان مدينة فاس الطيبين.. فلم يعد أحدهم يجرؤ على أن ينبس ببنت شفة منافحا عن حق، أو صادا عن باطل..
لقد كان الصوت الوحيد الذي يسمعه أهل فاس صباحهم ومساءهم هو أصوات الحقد المحمية بالقنابل والمدافع وجميع ما أنتجته هذه الحضارة من وسائل الدمار.
لكن محلا واحدا غفل عنه أولئك الصليبيون، أو اطمأنوا إلى سكونه، فلم يخطر على بالهم إلزامه بما ألزموا به غيره من الصمت.. كان ذلك المحل هو المنارة التي استطاعت أن تطفئ جميع الظلمات التي نشرها المستعمر الصليبي الحاقد.
لقد كان ذلك المحل هو المسجد.. وكانت المنصة التي قاومت جميع الأحقاد، وكانت السبب الأكبر في تطهير فاس من رجسها، هي المنبر الذي اعتلاه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليؤسس من خلاله مدينة الإسلام وحضارة الإسلام وقيم الإسلام.. وكان الرجل الذي ورث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أحسن وراثة في اعتلائه ذلك المنبر هو (محمد علال الفاسي)
دعني أقص عليك قصة التقائي به من البداية..
كنت أسير في بعض الأحياء في تلك المدينة.. ممتلئا إعجابا بما ضمته من حضارة عريقة..
وقفت قرب جامع القرويين أتأمل شموخ بنيانه، وصمود أركانه رغم كل تلك السنين الطوال التي مرت به([3]).. ولست أدري كيف رحت، والغضب قد استفزني، أخاطب نفسي، وكأنني أنفس عنها ما امتلأت به من ضيق.. لقد رحت أقول ـ وأنا أجتهد أن أكتم أنفاسي قدر ما استطعت ـ: ارحلوا أيها الحاقدون من هذه البلاد.. فهذه البلاد ليست بلادكم.. وهذه الأرض ليست أرضكم.. وهؤلاء الناس الطيبون ليسوا شعبكم..
ارحلوا.. وإن شئتم أن ترجعوا بعدها، فارجعوا إخوانا لا أعداء، وتلاميذ لا أساتذة، فهؤلاء الذين تغزونهم وتستعمرونهم وتستسخرونهم هم مشاعل النور التي يهتدى بها، وهم مسالك السلام التي تحفظ البشر والأرض من الصراع..
بينما أنا كذلك أخاطب نفسي بهذا ومثله.. وفي قلبي من الغليان ما لا يعلمه إلا الله.. شعرت بشخص يقترب مني، ثم يخاطبني بصوت جهوري جميل قائلا: ارفع بها صوتك.. لتعلو برفعه الرايات، وتنتشر المكرمات.
قلت: أنت صاحب المشعل الثامن من مشاعل الهداية إذن؟
قال: إن كان الخطيب هو صاحب ذلك المشعل، فأنت أمامه؟
قلت: لكني لا أرى للخطابة أي تأثير..
قال: عندما يكون الخطيب ميتا، فلن يكون لخطبته أي تأثير، فلا يمكن للميت الذي لا يملك الحياة أن ينشر الحياة في غيره.
قلت: أيمكن أن يعلو ميت تلك الخشبة المقدسة التي تشرفت بصعود رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على درجاتها؟
قال: ما أكثرهم.. ما أكثر أولئك الميتين الذي ينشرون الموت.
قلت: فكيف يحيون؟
قال: أترى هذا الجامع؟
قلت: أجل.. وكيف لا أراه.. إنه جامع القرويين.. قد كنت أسمع أحاديث عذبة عنه، وأنا الآن بين يديه.
قال: في هذا المسجد نجمع الخطباء لنعيد لهم الحياة.. ولنعيد لخطبهم الحياة.
قلت: بم؟.. ألديكم الإكسير الذي ينشر الحياة في الموتى؟
قال: أجل.. لقد ترك لنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هديا كثيرا، وقد اهتدينا به للوصول إلى هذا الإكسير.. فإن شئت أن تنال شيئا منه لتبشر به، فهلم معي.
قلت: وأولئك الغلاظ.. أتراهم مطمئنين إلى ما أنتم فيه؟.. ألا تخشى أن يداهموننا ليخرجوننا إلى المعتقلات والسجون، أو يصبوا فينا ما علمتهم الشياطين من فنون سفك الدماء؟
قال: لقد ترك لنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من فنون الحكمة ما نتقي به شرهم..
قلت: أتحتالون عليهم؟
قال: كما احتال الغلام على الساحر.. وكما احتال نعيم بن مسعود على جيوش المشركين.. نحن هنا لا نتقن شيئا كما نتقن فنون الحيل.. فلا يمكن لمن تعوزه مثل هذه الفنون أن يفعل شيئا.
قلت: لكني لا أزال أسمع بذم الحيل.. وقد ذكر الله تعالى عن أهل السبت ما ذكر.
قال: تلك حيل أهل السبت، وهي حيل من إملاء الشياطين لخدمة أهواء النفوس.. أما حيلنا فليس لها من هدف إلا رفع رايات الحق، ونشر مكرمات الفضائل.
قلت: فما العلوم التي تعلمونها في هذا الجامع؟
قال: كثيرة..
قلت: لقد شرفني الله، فتعلمت في كثير من مدارس الإسلام..
قاطعني، وقال: لذلك ستقتصر هنا على تعلم الخطابة.. فلا يمكن لمن يريد أن يكون داعية إلى الله أن يغفل عن تعلم هذا العلم.
***
دخلنا جامع القرويين، فرأيت فروعا كثيرة، فسألت الفاسي عنها، فقال: في كل ركن من هذه الأركان نعلم فنا من فنون الهداية وعلما من علومها.
قلت: فأين ركن الخطابة.. ذلك الذي تريد مني أن أتعلمه؟
قال: لن تدخله إلا بعد أن تمر على بعض الناس، فإن رأوك أهلا له أذنوا لك بالدخول، وإلا ردوك بالتي هي أحسن.
ذهب بي الفاسي إلى محل اختبار الخطباء، وطلب منهم النظر في قدراتي، ومدى استعدادها لهذا الفن من فنون الهداية.
بعد اختبارات كثيرة منها ما يرتبط بالعلم، ومنها ما يرتبط بالقدرات الصوتية، ومنها ما يرتبط بالنضج التربوي، ومنها ما يرتبط بالنواحي الأمنية.. أذن لي بالدخول إلى قاعة الخطابة، وقد تعجبت إذ وضعوا على عيني عصابة حتى لا أرى شيئا.
وبعد أن سرت في سراديب كثيرة، فتحوا العصابة عن عيني، فوجدت نفسي في مغارة تملأ النفس رعبا، التفت، فرأيت ناسا كثيرين، كل منهم يعتلي صخرة، ويخطب بقوة، وكأنه أمام الجماهير العريضة من الناس.
سألت الفاسي عن سر هذا، فقال: نحن هنا نعلم الخطباء جميع فنون الخطابة.
قلت: فلم اخترتم هذه المغارة؟.. ولم عسرتم السبيل إليها كل ذلك التعسير؟
قال: لسببين: أما أولهما، فهو ما رأيته من أولئك المصارعين الذين ملأوا الأرض لهيبا والنفوس ظلمات.. وأما الثاني، فما عبر عنه الحكيم بقوله:(ادفن وجودك في أرض الخمول، فما نبت مما لم يدفن لن يتم نتاجه)
قلت: فهمت الأول، ولم أفهم الثاني؟
قال: ألم تتعلم في مدرسة أبي مدين ما يحمله الجاه من بذور الانحراف؟
قلت: بلى.. لقد عرفت أنه سم زعاف، لا يحل بنفس إلا أوردها المهالك.
قال: فالمنبر الذي يرتقي عليه الخطيب هو المزرعة التي يستنت فيها الجاه.. ألا تراه كيف يصعد أعلى درجاته ليقول للناس:
أنا ابن جلا وطلاع الثنايا |
متى أضع العمامة تعرفوني |
قلت: عهدي بالإسلام يحرم كل ما يغذي الشر في النفوس، فكيف ترك المنبر مع خطره هذا؟
قال: كما ترك المال ترك المنبر.. فالنفس تحب المال كما تحب الجاه.. وقد جاء الشرع بتهذيب حب المال حتى لا تتحقق به إلا المصالح، وجاء بتهذيب الجاه فجعل جاه المسلم في جاه دينه.
قلت: ما تعني بذلك؟
قال: إن المسلم الذي امتلأ قلبه حبا لله لا يصعد هذه المنابر ليقول للناس:(اعرفوني)، ولكن يصعده ليقول للناس:(إني أمثل أعظم دين في الدنيا، وأمثل أقدس القيم، فاعرفوها)
قلت: فأنتم تعلمون هؤلاء هذا؟
قال: أجل.. ولا نجيزهم إلا بعد أن نعلم لهم من الصدق ما يحول بينهم وبين طلب الجاه الشيطاني الذي يختصر جميع القيم في ذواتهم.
اقتربنا من أحد الخطباء، وقد كان صاعدا على صخرة كبيرة، فسمعناه يردد بصوت عال أول خطبة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم خطبها في مكة المكرمة، والتي رواها ابن عباس قال: لما نزلت:{ وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} (الشعراء:214) صعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم الصفا، فجعل ينادي: (يا بني فهر، يا بني عدي) لبطون قريش حتى اجتمعوا، فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولا لينظر ما هو، فجاء أبو لهب وقريش، فقال: (أرأيتكم، لو أخبرتكم أن خيلا بالوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقي؟)، قالوا: نعم، ما جربنا عليك إلا صدقا، قال: (فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد)، فقال أبو لهب: تبا لك سائر اليوم، ألهذا جمعتنا؟ فنزلت:{ تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ (2) سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ (3)} (المسد)([4])
وقال رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم – في هذه الخطبة أيضا: (يا بني كعب بن لؤي، أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني مرة بن كعب، أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني عبد شمس أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني عبد مناف أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني هاشم أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني عبد المطلب أنقذوا أنفسكم من النار، يا فاطمة أنقذي نفسك من النار؛ فإني لا أملك لكم من الله شيئا غير أن لكم رحما سأبلها ببلالها)([5])
تعجبت من ترديد الخطيب لمثل هذه الخطبة، وقلت للفاسي: ما هذا؟.. أهذا الرجل ممثل أم خطيب؟
قال: بل هو خطيب.
قلت: وهذه الخطبة.. هل تريدون منه إلقاءها إلى الناس؟
قال: وما يمنعها من ذلك؟
قلت: إنها خطبة تاريخية لا واقعية.
قال: كل ما قاله نبيك صلى الله عليه وآله وسلم حياة وواقع.. وقد رأينا أنه لا يصلح الواقع إلا كلام نبينا صلى الله عليه وآله وسلم
قلت: ولكن الناس لن يعوه.
قال: بل الناس لا يعون شيئا كما يعون كلام نبيهم، ولا يفهمون أحدا كما يفهمون نبيهم.
قلت: فحدثني عما في هذه الخطبة مما لم أنتبه إليه.
قال: أولا.. انظر.. لقد كانت هذه الخطبة أشهر خطب النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وبها انتقلت الدعوة من السر إلى العلن، ومع ذلك لم تؤد إلا بكلمات قلائل، ووقت يسير.
قلت: فما مبادئ الخطابة التي تحملها([6])؟.. أليس لكل شيء مبادئه وقوانينه؟
لست أدري كيف خرج لي بعض الرجال، وكأنهم كانوا يتصنتون لما أقول، قال أحدهم: لقد شملت هذه الخطبة مع اختصارها كل مبادئ الخطبة الناجحة، ففيها يتجلى مبدأ التبشير والإنذار، فالخطيب المسلم هو الذي يبشر الناس، ويفتح أمامهم آفاق الأمل، ولا يثبط هممهم، وهو أيضا ينذرهم من سوء المصير لمن لم يعتبر بالآيات والسنن، وأتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأماني.
قال آخر: انظر كيف اختار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أعلى وسيلة تختصر مساحات المكان، وتخاطب أكبر عدد من الناس في أسرع وقت ممكن، فصعد جبل الصفا.
قال آخر: لقد كانت كلمة:(يا صباحاه) التي استهل بها الرسول صلى الله عليه وآله وسلم خطبة الصفا غاية البدايات الجيدة، والاستهلاك الحسن، والمدخل المثير للانتباه والاهتمام، والمحرك للوعي، والملفت للنظر في مجتمع ديدنه الحروب التي كانت تنشب بين قبائله لأتفه الأسباب.
قال آخر: ثم انظر قدرته صلى الله عليه وآله وسلم على بث الثقة في الجمهور.. فهي من أهم عوامل الإقناع في الاتصال، وهذا يعني ثقة القائم بالاتصال بما عنده، وبقيمه، وأهدافه، وغاياته السامية، وثقة الناس في صدقه، وأمانته، وعدله، وهذه الدلالة تؤكد على أهم مؤهلات القائم بالاتصال، والقائم بالاتصال في هذه الخطبة هو الرسول صلى الله عليه وآله وسلم الذي انتزع الله له إجماعا عاما من قريش بأنه الحكم العدل والصادق الأمين.
قال آخر: ثم انظر كيف كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يلح عليهم ويكرر.. فالتكرار أسلوب من أساليب الإعلام، وهو التكرر الذي يساعد العمل الإعلامي على الانتشار بين الجماهير، ويعد من أجدى الأساليب الإعلامية، وأكثرها فاعلية في تغيير اتجاهات الرأي العام إذا أتقنه القائم بالاتصال، وأخذ في اعتباره الأوقات التي يتم فيها التكرار، والوسائل الإعلامية الملائمة، والظروف المرتبطة بها، والسوابق الإعلامية، والتأثير الممكن حدوثه.
انصرف الرجال، فسألت الفاسي عنهم، فقال: هؤلاء أساتذة هذه المغارة.. إنهم يدرسون الخطب، ومدى تأثيرها، وهم يستعملون لذلك كل ما فتح الله به على البشرية من علوم.
تركنا الخطيب الأول، وانتقلنا إلى خطيب آخر، رأيته يرتقي منبرا كالمنابر التي أراها في المساجد، ولكنه كان منبرا بسيطا لا تكلف فيه ولا زخرفة، وقد عجبت منه إذ رأيته يردد أول خطبة جمعة للرسول صلى الله عليه وآله وسلم في المدينة المنورة في بني سالم بن عمرو ، قال: (الحمد لله أحمده وأستعينه وأستغفره وأستهديه وأومن به، ولا أكفره، وأعادي من يكفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق والنور والموعظة، على فترة من الرسل، وقلة من العلم، وضلالة من الناس وانقطاع من الزمان، ودنو من الساعة، وقرب من الأجل من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصهما فقد غوى وفرط وضل ضلالا بعيدا، وأوصيكم بتقوى الله فإنه خير ما أوصى به المسلم المسلم أن يحضه على الآخرة، وأن يأمره بتقوى الله عزوجل، فاحذروا ما حذركم الله عز وجل من نفسه، ولا أفضل من ذلك نصيحة ولا أفضل من ذلك ذكرى وإنه تقوى لمن عمل به على وجل مخافة، وعون صدق على ما تبتغون من أمر الآخرة، ومن يصلح الذي بينه وبين الله تعالى من أمر السر والعلانية لا ينوي بذلك إلا وجه الله تعالى يكن له ذكرا، فإنه من يتق الله يكفر عنه سيئاته ويعظم له أجرا، ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما، وإن تقوى الله توقي مقته وتوقي عقوبته، وتوقي سخطه، وإن تقوى الله تبيض الوجه، وترضي الرب، وترفع الدرجة، خذوا بحظكم، ولا تفرطوا في جنب الله، قد علمكم الله كتابه، ونهج لكم سبيله ليعلم الذين صدقوا وليعلم الكاذبين، فأحسنوا كما أحسن الله إليكم وعادوا أعداءه وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتبابكم وسماكم المسلمين ليهلك من هلك عن بينة ويحيي من حي عن بينة ولا قوة الا بالله، فأكثروا ذكر الله، واعملوا لها بعد الموت، فإنه من أصلح ما بينه وبين الله تعالى يكفه ما بينه وبين الناس، ذلك بأن الله يقضي على الناس، ولا يقضون عليه، ويملك من الناس ولا يملكون منه، الله أكبر ولا قوة إلا بإلله العلي العظيم)([7])
ويردد بعدها خطبة أخرى لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جاء فيها بعد بعد حمد الله والثناء عليه بما هو أهله:(أما بعد أيها الناس: فقدموا لأنفسكم تعلمن والله ليصعقن أحدكم ثم ليدعن غنمه ليس لها راع ثم ليقولن له ربه، ليس له ترجمان ولا حاجب يحجبه دونه: ألم يأتك رسولي فبلغك، وآتيتك مالا وأفضلت عليك، فما قدمت لنفسك؟ فينظر يمينا وشمالا فلا يرى شيئا، ثم ينظر قدامه فلا يرى غير جهنم فمن استطاع أن يقي وجهه من النار ولو بشق من تمرة فليفعل، ومن لم يجد فبكلمة طيبة فإن بها تجزى الحسنة عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، والسلام عليكم وعلى رسول الله ورحمة الله وبركاته)([8])
بعد أن انتهى من خطبته، قال بعض الأساتذة الذين كانوا يلتفون حوله: انظروا براعة الاستهلال والبداية المثيرة للانتباه في هذه الخطبة …انظروا كيف ابتدأت الخطبة بذكر المسلمات الفكرية والعقدية لجماعة المسلمين لتبني الرأي العام على أساس عقيدة الإيمان بالله الواحد الأحد..
قال آخر: وفي هذه الخطبة نرى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كيف يستثير الدوافع الإيمانية والإنسانية في المخاطبين، فقد جاءت الوصية بالتقوى ومراقبة الله تعالى في السر والعلانية في جميع روايات الخطبة.. وجاءت استثارة الدوافع الإنسانية في الدعوة للتكافل في المجتمع الإسلامي والبذل للمحتاجين.
قال آخر: وانظروا كيف راعى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أحوال المخاطبين.. يؤكد ذلك أسلوب الدعوة إلى التعاون بعد التأكيد على قضايا الإخلاص لله تعالى وتقواه في السر والعلانية، وقد جاء هذا الأسلوب في صياغة بارعة تربط التآلف والتكافل الاجتماعي بالإيمان بالله الواحد الأحد والإيمان باليوم الآخر والجزاء والحساب في الدار الآخرة.
تركناهم يستنبطون من الخطبة ما يستنبطونه من المعاني، ورحنا إلى مجموعة من الخطباء، كان يبدو عليهم الانفعال الشديد:
أما أولهم، فقد سمعناه يردد خطبة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم بدر، والتي قال فيها بعد أن حمد الله وأثنى عليه:(أما بعد: فإني أحثكم على ما حثكم الله عز وجل عليه، وأنهاكم عما نهاكم الله عز وجل عنه، فإن الله عز وجل عظيم شأنه، يأمر بالحق ويحب الصدق، ويعطي على الخير أهله، على منازلهم عنده، به يذكرون، وبه يتفاضلون، وإنكم قد أصبحتم بمنزل من منازل الحق، لا يقبل الله فيه من أحد إلا ما ابتغى به وجهه. وإن الصبر في مواطن البأس مما يفرج الله عز وجل به الهم وينجي به من الغم، وتدركون به النجاة في الآخرة، فيكم نبي الله يحذركم ويأمركم، فاستحيوا اليوم أن يطلع الله عز وجل على شيء من أمركم يمقتكم عليه، فإن الله عز وجل يقول:{ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ } (غافر: 10)، انظروا إلى الذي أمركم به من كتابه، وأراكم من آياته، وأعزكم بعد الذلة، فاستمسكوا به يرضى به ربكم عنكم، وأبلوا ربكم في هذه المواطن أمرا، تستوجبوا الذي وعدكم به من رحمته ومغفرته، فإن وعده حق، وقوله صدق، وعقابه شديد، وإنما أنا وأنتم بالله الحي القيوم، إليه ألجأنا ظهورنا، وبه اعتصمنا، وعليه توكلنا، وإليه المصير، يغفر الله لي وللمسلمين)([9])
وسمعنا آخر يردد خطبته صلى الله عليه وآله وسلم يوم الفتح، والتي قال فيها بعد أن حمد الله وأثنى عليه:(إن الله حبس عن مكة الفيل، وسلط عليها رسوله والمؤمنين، وإنها لن تحل لأحد كان قبلي، وإنها حلت لي ساعة من نهار، وإنها لن تحل لأحد بعدي، فلا ينفر صيدها، ولا يختلى شوكها، ولا تحل ساقطتها إلا لمنشد، ومن قتل له قتيل فهو بخير النظرين، إما أن يفدى، وإما أن يقتل)([10])
وردد خطبته صلى الله عليه وآله وسلم في ذلك اليوم حين وقف على باب الكعبة يقول:(لا إله إلا الله وحده لا شريك له، صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، ألا كل مأثرة أو دم أو مال يدعى فهو موضوع تحت قدمي هاتين إلا سدانة البيت، وسقاية الحاج، ألا وقتيل الخطأ شبه العمد، بالسوط والعصا، ففيه الدية مغلظة، مائة من الإبل أربعون منها في بطونها أولادها، يا معشر قريش: إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعظامها بالآباء، الناس من آدم وآدم من تراب، ثم تلا صلى الله عليه وآله وسلم هذه الآية:{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} (الحجرات:13)، يا معشر قريش، ما ترون أني فاعل بكم؟ قالوا: خيرا، أخ كريم، وابن أخ كريم، فقال صلى الله عليه وآله وسلم:(اذهبوا فأنتم الطلقاء)([11])
وسمعنا آخر يردد خطبته صلى الله عليه وآله وسلم في غزوة تبوك، والتي جاء فيها:(أيها الناس، أما بعد، فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأوثق العرى كلمة التقوى، وخير الملل ملة إبراهيم، وخير السنن سنة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وأشرف الحديث ذكر الله، وأحسن القصص هذا القرآن، وخير الأمور عوازمها، وشر الأمور محدثاتها، وأحسن الهدي هدي الأنبياء، وأشرف الموت قتل الشهداء، وأعمى العمى الضلالة بعد الهدى، وخير الأعمال ما نفع، وخير الهدي ما اتبع، وشر العمى عمى القلب، واليد العيا خير من اليد السفلى، وما قل وكفى خير مما كثر وألهى، وشر المعذرة حين يحضر الموت، وشر الندامة يوم القيامة، ومن الناس من لا يأتي الجمعة إلا دبرا، ومنهم من لا يذكر الله إلا هجرا، ومن أعظم الخطايا اللسان الكذوب، وخير الغنى غنى النفس، وخير الزاد التقوى، ورأس الحكمة مخافة الله عز وجل، وخير ما وقر في القلوب اليقين، والارتياب من الكفر، والنياحة من عمل الجاهلية، والغلول من جثى جهنم، والكنز كي من النار، والشعر من إبليس، والخمر جماع الإثم، والنساء حبالة الشيطان، والشباب شعبة من الجنون، وشر المكاسب كسب الربا، وشر المأكل مال اليتيم، والسعيد من وعظ بغيره، والشقي من شقي في بطن أمه، وإنما يصير أحدكم إلى موضع أربعة أذرع، والأمر إلى الآخرة، وملاك العمل خواتيمه، وشر الروايا روايا الكذب، وكل ما هو آت قريب، وسباب المؤمن فسوق، وقتاله كفر، وأكل لحمه من معصية الله عز وجل، وحرمة ماله كحرمة دمه، ومن يتأل على الله يكذبه، ومن يغفر يغفر له، ومن يعف يعف الله عنه، ومن يكظم الغيظ يأجره الله، ومن يصبر على الرزية يعوضه الله، ومن يبتغ السمعة يسمع الله به، ومن يصبر يضعف الله له، ومن يعص الله يعذبه الله، اللهم اغفر لي ولأمتي – قالها ثلاثا – ثم قال: أستغفر الله لي ولكم)([12])
ثم مررنا على خطباء كثيرين كل منهم يردد الخطب المختلفة التي قالها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في مواطن الشدة التي مر بها، سألت الفاسي عن سر هذه الخطب الكثيرة، وكيفية تعاملهم معها، فقال: هذه الخطب هي زادنا، وهي طريقنا إلى الناس، وهي في نفس الوقت حصننا ضد هؤلاء المصارعين الذين جاءوا بأحقادهم ليملأوا حياتنا ضيقا وضنكا.
قلت: فكيف كانت زادا لكم؟
قال: إن هذه الخطب تذكرنا بالآلام العظيمة التي مر بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه، وتذكرنا بالهمم التي كانوا يحملونها في ظل تلك الآلام.. ولهذا نحن نتزود من تلك الهمم ما نرفع به هممنا.
قلت: فكيف كانت طريقكم إلى الناس؟
قال: الناس يختلفون في كل شيء إلا في نبيهم صلى الله عليه وآله وسلم.. فلذلك لا يعون شيئا كما يعون حديثه.. ونحن نستثمر ذلك في توعيتهم وتربيتهم وملأ قلوبهم بأنوار الهداية.
قلت: وعيت كل هذا، ولا أحسب أني أخالفك فيه.. ولكنك ذكرت أن هذا هو حصنكم من المصارعين، فكيف يكون ذلك؟
قال: المصارعون يعتبرون حديثنا عن نبينا من الدين المحض الذي لا يرون حرجا من الحديث فيه.. فلذلك نحن نستغل غفلتهم في هذا.. فنملأ حياتنا بالمناسبات المختلفة التي نملأ بها قلوب الناس وعيا وتربية وهداية.
المصارعون يرونها مناسبات دينية محضة، ولا يعلمون أن الهمم العالية تولد في تلك المناسبات.. ولا يغلب المصارع شيء كما تغلبه الهمم العالية.
***
مكثت فترة طويلة مع الفاسي أتعلم منه أسرار الخطب النبوية، وفقهها، وما تحمله من المعاني الرفيعة.. وقد اهتديت من خلال صحبتي له إلى أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو سيد الخطباء ومعلمهم.. وأن الخطابة المؤثرة والفاعلة لا تكتمل إلا لمن اهتدى بهديه فيها، فلم ينشغل بزخرفة ألفاظه، ولا أهواء نفسه عن المعاني الرفيعة التي كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يرتقي المنابر لأجلها.
***
ما استتم صاحبي حديثه هذا حتى وجدنا أنفسنا قد قطعنا المرحلة السابعة من الطريق من غير أن نشعر بأي عناء أو تعب.. ولم يخطر على بالي طيلة هذه المرحلة ما كنا نقطعه من غابات موحشة، ومن سباع عادية تتربص بنا من كل اتجاه.
لقد تنزلت
علي بمجرد قطعي لتلك المرحلة أشعة جديدة اهتديت بها بعد ذلك إلى شمس محمد صلى الله
عليه وآله وسلم.
([1]) تأسست مدينة فاس عام 193هـ، على يد مولاي إدريس بن إدريس من نسل الحسن بن علي الذي اتخذها عاصمة له.. وقد ظلت في أكثر عهودها عاصمة للمغرب حتى احتل الفرنسيون المغرب في عام 1912.
([2]) نشير به إلى محمد علال الفاسي (1326 – 1394 هـ)، وهو أحد رواد الفكر الإسلامي، وبطل النضال الزعيم السياسي والمقاوم الصامد والأستاذ الخطيب الأديب محمد علال ابن العلامة الخطيب المدرس الكاتب المفتي عبد الواحد عبد السلام بن علال الفهري نسبا، القصري ثم الفاسي مولدا ودارا ومنشأ.. وكان خطيبا شاعرا صاحب قضية قضى حياته كلها من أجلها.. ولذلك اخترناه لهذا الفصل، بالإضافة إلى كونه من رواد التقريب بين المذاهب الإسلامية.
([3]) يعتبر جامع القرويين بفاس من بين المعاهد العلمية التي ظلت تقوم بدورها التعليمي منذ إنشائها إلى زماننا هذا، بل يُعد أقدم جامعة علمية في العالم، وذلك بدليل أن جامعة بولونيا الإيطالية أسست عام 1119م، 513هـ، وجامعة أكسفورد الإنجليزية عام 1229م، 627هـ، وجامعة السوربون الفرنسية أُسست في القرن الثالث عشر الميلادي، وتم بناء مبناها في القرن السابع عشر الميلادي.
بينما أسس جامع القرويين في الأول من رمضان عام 245هـ، 30 نوفمبر عام 859م.
([4]) رواه البخاري ومسلم.
([5]) رواه مسلم.
([6]) من مراجع هذا الفصل كتاب (الجوانب الإعلامية في خطب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم)
([7]) رواه ابن جرير.
([8]) رواه البيهقي.
([9]) رواه ابن المنذر وابن أبي حاتم.
([10]) رواه البخاري ومسلم.
([11]) رواه ابن إسحق.
([12]) رواه البيهقي في الدلائل وابن عساكر في تاريخه.