سابعا ـ الإنسان

في اليوم السابع.. كان موضوع المحاضرات يتناول الإنسان في القرآن الكريم.
وخلافا للأيام السابقة، فقد لامست محاضرات هذا اليوم جوانب كثيرة قصرت فيها في الأيام السابقة.. فقد ذكرت ما تناوله القرآن الكريم من معارف عن الإنسان لم يوجد نظير لها في أي فلسفة من الفلسفات، ولا دين من الأديان.
وقد أثرت تلك المحاضرات الجادة في صاحبي الذي وجد نفسه يلقي محاضرة هزيلة عن الإنسان بجانب تلك المحاضرات التي تحدثت عن الإنسان في القرآن.. مع أن محاضرته حازت إعجاب الجميع بما امتلأت به من معلومات علمية دقيقة، وإحصائات ميدانية كثيرة.
لقد كان صاحبي في أصله طبيبا.. وكان مغرما بكتابات ألكسيس كاريل.. وخاصة بكتابه المشهور (الإنسان ذلك المجهول).. وكان أصحابه يدعونه لذلك ألكسيس.. وكان يحب هذه التسمية.. فلذلك كنت لا أناديه إلا بها.
في أول يوم التقيته فيه كان يحمل معه كتاب ألكسيس كاريل.. وكان يحمل معه آلامه كذلك.
قال لي: لم يزدد ألكسيس في هذا الكتاب على أن ناح على الإنسان، وجعلنا ننوح معه.
قلت له: لكنه مع ذلك حرك في أجيال كثيرة ضرورة الاهتمام بالإنسان.
قال لي: أحيانا أشعر أن الإنسان مثل ما نشتريه من الأجهزة والآلات يحتاج دفترا خاصا يشرح محتوياته، ويبين أسراره، ويحل عقده، ويعالج مشاكله.
قلت له: نعم هو كذلك.. ونحن رجال الدين نعتقد أن الله أنزل لنا في كلماته المقدسة تفاصيل الإنسان.. وتفاصيل التعامل مع أجهزة الإنسان.
ابتسم، وقال: نعم.. الدين في الأصل هو الذي يتولى هذا الجانب.. ولكني أرى الكتاب المقدس أقصر من أن يستطع التعريف بالإنسان وبمكنونات الإنسان.
قلت: لم؟
قال: أرأيت لو أنك وجدت كتابا في السوق يدعي أنه يشرح جهازا من الأجهزة الخطيرة غالية الثمن، ثم رأيت في هذا الكتاب جهلا بمبادئ بسيطة يستدعي معرفتها ذلك الجهاز.. هل كنت تثق فيه؟
قلت: لا.. بالطبع.. وإلا عرضت جهازي للعطب.
قال: فقد قرأت الكتاب المقدس قبل أن آتي إليك عشرات المرات.. وكنت كل مرة أقرؤه فيها لأبحث عن الإنسان أجد نفسي بعيدا عن الإنسان.. وبعيدا عن الله.. وبعيدا بعد ذلك عن الكتاب المقدس.
في ذلك اليوم، اتفقت مع حذيفة على أن نلتقي عليا في قمة جبل مشهور قريب من تلك المدينة كان يطل على المدينة وضواحيها جميعا.. وكأنه شاشة لمن يريد أن يرقب حركات الناس ويدرسها.
عندما وصلنا إلى تلك القمة أحسست بشفافية عميقة.. فالجبل كان عاليا، والهواء كان نقيا، والسماء كانت قريبة، وكأننا في برزخ بين السماء والأرض.
لست أدري كيف خطر على بالي أن أسأل صديقي ألكسيس عن حقيقة الإنسان على ضوء المعارف التي تعلمها.
أطلق نفسا عميقا، ثم قال: هل أحدثك بلساني، أم بلسان ألكسيس؟
قلت: كلاكما ألكسيس.. فحدثنا بأيهما شئت.
قال: سأحدثك بلسانه، فهو أفصح من لساني.
قلت: حدثني بلسانكما جميعا.. فلا طاقة لي أن أفهم لسانه وحده([1]).
قال: لا بأس.. سأجعلك ـ كما كنت تفعل مرة ـ تشاركني ذلك الهم الذي شاركت فيه ألكسيس.
لقد تعجب ألكسيس من ذلك التفاوت العجيب بين علوم الجماد وعلوم الحياة، فبينما نرى علوم الفلك والميكانيكا والطبيعة، تقوم على آراء يمكن التعبير عنها، بسداد وفصاحة، باللغة الحسابية، بل أنشأت هذه العلوم عالماً متناسقاً كتناسق آثار اليونان القديمة.. ولكن موقفها من علوم الحياة ـ والتي نتعرف من خلالها على حقيقة الإنسان ـ يختلف عن ذلك كل الاختلاف، حتى ليبدو كأن الذين يدرسون الحياة قد ضلوا فى غاب متشابك الأشجار، أو أنهم فى قلب دغل سحرى.
ولكى نحلل أنفسنا فإننا مضطرون للاستعانة بفنون مختلفة، وإلى استخدام علوم عديدة، ومن الطبيعى أن تصل كل هذه العلوم إلى رأى مختلف فى غايتها المشتركة، فإنها تستخلص من الإنسان ما تمكنها وسائلها الخاصة من بلوغه فقط، وبعد أن تضاف هذه المستخلصات بعضها إلى بعض، فإنها تبقى أقل غناء من الحقيقة الصلبة.. إنها تخلف وراءها بقية عظيمة الأهمية، بحيث لا يمكن إهمالها.
قلت: ولكن العلوم التي يمكن الاستفادة منها للتعرف على الإنسان كثيرة جدا.. فهناك التشريح والكيمياء، والفسيولوجيا. وعلم النفس، وفن التعليم، والتاريخ وعلم الاجتماع، والاقتصاد.. ألم تستطع كل هذه العلوم التوصل إلى حقيقة الإنسان؟
قال: الإنسان أبعد من أن يكون الإنسان الجامد، فالإنسان الحقيقى لا يزيد أن يكون رسماً بيانياً، يتكون من رسوم بيانية أخرى أنشأتها فنون كل علم.
قلت: فأنت ترى أن البشر قصروا في البحث عن أنفسهم وفي حقيقتهم؟
قال: أنا وألكسيس وكل العقلاء الذين صعدوا قمة كقمة هذا الجبل الذي نعتليه يرون هذا.. نعم.. لقد بذل الجنس البشرى مجهوداً جباراً لكى يعرف نفسه، ولكن بالرغم من أننا نملك كنزاً من الملاحظة التى كدسها العلماء والفلاسفة والشعراء وكبار العلماء الروحانيين فى جميع الأزمان، فإننا استطعنا أن نفهم جوانب معينة فقط من أنفسننا.
قلت: إن هناك من يزعم بأن معارفنا عميقة عن الإنسان.. فكيف تخالفه أنت في هذا؟
قال: يمكن أن يقول هذا من يصف الأشياء بألوانها وأحجامها وأشكالها.. ولكن من يريد أن يعرف حقائق الأشياء وأسرارها وأعماقها، فسيقول ما قال ألكسيس، وقال كل العقلاء (إن جهلنا مطبق بالإنسان)
قلت: ولكن لماذا كان جهلنا مطبقاً بحقيقة الإنسان؟ هل كان ذلك لقصور الوسائل العلمية فى فترة من الفترات؟ أم لظروف وقتية من ظروف حياتنا الإنسانية؟ ومن ثم يكون هناك أمل كبير وفرص كثيرة لتكملة تلك الوسائل، وتغيير هذه الظروف، ثم الوصول إلى معرفة الحقيقة الإنسانية كاملة واضحة محددة؟
أم أن هناك أسباباً ثابتة فى طبيعة الحقيقة الإنسانية من جهة، وفى طبيعة تفكيرنا وعقولنا من جهة أخرى، هى التى تنشئ تعذر الوصول إلى هذه الحقيقة بمثل الوضوح والدقة المعهودين فى عالم المادة؟
قال: كل ما ذكرته صحيح.. فقد يعزى جهلنا إلى طريقة حياة أجدادنا، وفى الوقت ذاته إلى طبيعتنا المعقدة، وإلى تركيب عقلنا.
قلت: فأنت ترى أن سر التقدم البطىء فى معرفة الإنسان لنفسه إذا قورن بتفوقه الرائع فى علوم الطبيعة والفلك والكيمياء والميكانيكا يعزى إلى عدم تفرغ أسلافنا للبحث عن الإنسان، وإلى تعقد الموضوع، وإلى تركيب عقولنا.
قال: وهذه العقبات أساسية، وليس هناك أمل فى تذليلها، وسيظل التغلب عليها شاقاً يستلزم جهوداً مضنية.. إن معرفة نفوسنا لن تصل أبداً إلى تلك المرتبة من البساطة المعبرة، والتجرد، الجمال، التى بلغها علم المادة، إذ ليس من المحتمل أن تختفى العناصر التى أخرت تقدم علم الإنسان.. فعلينا أن ندرك بوضوح أن علم الإنسان هو أصعب العلوم جميعاً.
قال ذلك، ثم غاب في أحزان عميقة لا يجد ما يرفعها به.
في ذلك الحين ظهر علي في صورة عالم كبير من علماء المسلمين، لا شك أنك تعرفه.. لقد ظهر في صورة الشيخ عبد المجيد الزنداني.. ذلك العالم الذي طاف الأرض يبشر بالعودة إلى الله.. ويجعل من علم الله الذي نرى آثاره في كتابه دليلا يجذب به العقول والقلوب.
اقترب منا، وراح يقرأ بصوت خاشع قوله تعالى:{ هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (29) وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30) وَعَلَّمَ آَدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (31) قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32) قَالَ يَا آَدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (33) وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (34) وَقُلْنَا يَا آَدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (35) فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (36) فَتَلَقَّى آَدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37) قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (38) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (39)}(البقرة)
رأيت صاحبي ألكسيس يكاد يندمج فيما يسمع، التفت إلي، وقال: إن هذا الرجل يقرأ قصة آدم أبي البشر من القرآن.. أليس كذلك؟
قلت: بلى.. هو كذلك.. أنت تعرف.. فإن المسلمين يقرأون القرآن بهذه الطريقة.. ونظم القرآن يساعدهم على ذلك.
قال: أنا لم أرد طريقة الكلام.. بل أردت الكلمات.. الكلمات نفسها.
قلت: الكلمات التي قرأها تشمل قصة آدم.. وهي تشبه تقريبا ما ورد في التوراة.
انتفض، وقال: لا.. إنها تختلف عنها تماما.. لقد قرأت قصة آدم في التوراة.. لكني لم أشعر بالمشاعر التي أجدها الآن.. لكأن هذه الآيات تخاطبني.. بل لكأنها تجيبني عن تساؤلاتي وتساؤلات ألكسيس المحيرة..
قال ذلك، ثم تحرك نحو علي، وهو يقول: هلموا بنا إلى هذا الرجل القارئ، فإني أرى له شأنا لا يقل عن شأن من لقينا في سائر الأيام من رجال.
اقتربنا من علي، فعرفه ألكسيس بنفسه، وبجماعتنا، ثم قال: لقد سمعتك تقرأ آيات من القرآن.. آيات احترت فيها، وفي المعاني التي تحملها.. هل تراك كنت تدرك ما كنت تقرأ؟
علي: إن كلام الله أعمق من أن يحاط به.. ونحن ـ ما دمنا في هذه الحياة ـ نجلس بين يديه كما يجلس التلميذ بين يدي أستاذه ليتعلم كل يوم جديدا.
ألكسيس: فما تعلمت اليوم؟
علي: في قمة هذا الجبل.. وفي هذا البرزخ الذي نقف فيه بين السماء والأرض ذكرت رجلا كنت أحبه كثيرا.. ومقدرا حبي له، لا يوازيه إلا مقدار أسفي عليه.
ألكسيس: فمن هو هذا الرجل الذي أسرك.. وملأك حبا وأسفا.
علي: اسمه يشبه اسمك الذي ذكرته لي.. إنه رجل من بلادكم التي تغرب منها الشمس.. إنه ألكسيس كاريل.
تعجب ألكسيس من هذه المصادفات العجيبة، وقال: فأنت الآن بين يدي ألكسيس، فما الذي جعلك تتأسف عليه؟
علي: أتأسف لأني لو لاقيته، وبثثت له ما قال قرآن ربنا عن الإنسان لعدل تسمية كتابه.
ألكسيس: فما ترى أنه سيسميه؟
علي: سيسميه (الإنسان ذلك المعلوم)
ألكسيس: إن ما تقوله عجيب.. فالرجل لم يكن رجلا بسيطا.. لقد أتيحت له من فرص التعلم ما حرم منه الكثير.. وقد كان يقول عن نفسه:(إننى مدين لفنون الحياة العصرية، لأنها مكنتنى من مشاهدة هذا المنظر العظيم، كما أتاحت لى فرصة توجيه انتباهى إلى عدة موضوعات فى وقت واحد.. إننى أعيش فى العالم الجديد والقديم أيضاً.. وأمتاز بأننى أقضى معظم وقتى فى (معهد روكفلر للبحث الطبى) كواحد من العلماء الذين جمعهم (سيمون فلكسنر) معاً فى هذا المعهد.. فهناك أفكر فى ظواهر الحياة حين يحللها الخبراء الذين لا يبارون، أمثال (ملتزر) و(جاك لويب) و(نجيوشى)، وكثيرون غيرهم)
علي: لقد ذكر خبراء كثيرين التقى بهم، تتلمذوا هم أيضا على خبراء آخرين.. ولكنه لم يذكر رجلا واحدا تتلمذ على القرآن الكريم.
ألكسيس: أرأيت لو أنه ظفر بمثل هذا التلميذ ماذا كان سيفعل؟
علي: لقد ذكرت لك ما الذي كان سيفعله..أول ما يفعله أن يرفع هالة الحزن التي تكسو وجهه، ليبدلها بفرح سعيد..ثم يتوجه بعدها ليلبس لباس الإنسان الذي جاء القرآن ليعلمنا علمه.
ألكسيس: فلنفرض أنني ألكسيس.. ولنفرض أنك تلميذ القرآن.. وهلم نتحاور لنرى كيف نخلص ألكسيس من ذلك الجهل المطبق بالإنسان.
علي: مع أني لا أزعم شرف التلمذة على القرآن الكريم، ومع ذلك سأقبل هذا الدور.. وسأجيبك وأجيب سميك عن كل ما يخطر على بالكم.. ولن أجيبكم من عندي.. بل سيجيبكم ربي..
ألكسيس: أنت واثق كثيرا من نفسك.
علي: بل أنا واثق كثيرا في ربي.. إن ربي يقول:{ وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (13) أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14)}(الملك)
وهو يقول:{ الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى (32)}(النجم)
ألكسيس: هذه آية عظيمة.. إن الترابط بينها عجيب جدا.. فالقرآن يذكر سر مغفرة الله للخطايا لأنه يعلم تركيبة البشر الأرضية.. ويعلم استعداداتهم الوراثية التي تلقوها، وهم أجنة في بطون أمهاتهم.
علي: ولهذا فإن القرآن يمسح آهات كاريل بأسلوب بسيط، ولكنه غاية في العمق..
إنه يقول له: لا تلم الإنسان على جهله بالإنسان.. فإن الإنسان لن يعرف الإنسان.
ألكسيس: فمن يعرف الإنسان؟
علي: الله الذي خلقه هو الذي يعلمه.. أما الإنسان، فهو أقصر وأضعف من أن يعلم نفسه.
إن الله تعالى يخبرنا بهذا.. إنه يقول:{ وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً} (الاسراء:85)، ويقول:{ قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبّاً وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} (الأنعام:164)، ويقول:{ إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (لقمان:34)
بل إنه يتحدانا، فيقول:{ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً} (النساء:11)
ويعبر عن قصور مداركنا عن معرفة ما ينفعنا وما يضرنا، فيقول:{ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} (البقرة:216)
بل إنه يعتبر الكثير من المعارف التي نتصور أنا نعرف أنفسنا من خلالها من الظنون التي لا تجلب لنا غير الوهم والجهل، فيقول:{ وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} (الأنعام:116)، ويقول:{ فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} (القصص:50)، ويقول:{ وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً} (لنجم:28)
ليس ذلك فقط هو خطر معارفنا عن أنفسنا التي هي عين الجهل، بل إن خطرها يتعدى إلى الكون جميعا، فالله تعالى يقول:{ وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ} (المؤمنون:71)
ألكسيس: ولكن الإنسان تقدم في علوم كثيرة.. فكيف تقدم فيها، ثم تخلف في علمه بنفسه.. أليس ذلك عجيبا؟
علي: لقد أجابت الآيات التي كنت أقرؤها عن ذلك.. فالله تعالى علم آدم أسماء الأشياء وخصائصها وأعطاه القدرة على تسخيرها، بل إنه سخرها له لينتفع بها.. ولا بد أن يرزقه من علمها ما يمكنه من ذلك الانتفاع.
القرآن الكريم ذكر القدرات الممنوحة للإنسان في هذا المجال، واعترف بالعلم الذي أوتيه، ولكنه اعتبره علما قاصرا محدودا.. لقد بدأ الله تعالى فذكر جهل الإنسان، قال تعالى:{ وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} (الروم:6)، ثم استدرك عليك وعلي وعلى ألكسيس وعلى تلك العقول الكثيرة الحائرة، فقال:{ يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} (الروم:7)
فنحن ـ مع ما أوتينا من علوم كثيرة في جميع المجالات ـ لم نؤت إلا علوم التسخير.. فكل علومنا من هذا النوع.. هي علوم تيسر لنا المأكل والمشرب والعافية والحياة الرخية التي توفر لنا بعض التفرغ للعمل الذي انتدبنا له.
ألكسيس: ولكن كيف يعطينا الله علوم الأشياء، ثم يحرمنا من العلم بأنفسنا.
علي: لا.. بل هو أعطانا العلم بأنفسنا، قبل أن يعطينا العلم بالأشياء.
ألكسيس: أراك تقع في التناقض.. فهل قرآنكم هو الذي أوقعكم في هذا التناقض؟
علي: لم أقع في التناقض.. لقد نفيت علم الإنسان بنفسه، وهو ما أثبته الله، ولكني لم أنف تعليم الله لنا حقيقة أنفسنا، وحقيقة وظيفتنا.. بل أعطانا الكثير من المعارف عنا.. والتي لن تتمكن عقولنا البسيطة من معرفتها.
إن مثل ذلك مثل أجير استأجر على عمل.. فهل ترى صاحب العمل يقصر في تعريف الأجير حقيقة وظيفته، ونوع أجره، ومدة عمله..
ألكسيس: لا.. بل سيشرح له ذلك بالتفصيل.
علي: فإذا صادفت العامل في عمله بعض العقبات مما يتعلق بشؤون العمل.. فهل سيستدعي صاحب العمل ليفك له تلك العقبة.. أم يفكها بنفسه وخبرته؟
ألكسيس: ذلك يختلف.. فإن كان لتلك العقبة علاقة بصاحب العمل طلب الاستيضاح منه، وأما إن لم تكن له علاقة بذلك اجتهد رأيه.
علي: فهذا ما عبر عنه القرآن الكريم بالخلافة.. وهذه هي حقيقة وظيفة الإنسان.. فالإنسان مخلوق متفرد عن الكثير ممن حوله.. هذا ما نص عليه القرآن الكريم في تلك الآيات التي كنت أقرؤها.. ولذلك سخر له الكون، ولذلك علم من علوم الكون ما علم، لقد قال تعالى:{ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} (الاسراء:7.)، وقال:{ لَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} (التين:4)
ألكسيس: صدق قرآنكم في هذا.. هذه حقيقة علمية.. فالإنسان كائن فذ فى هذا الكون.. إنه مخلوق غير مكرر فى جميع الخلائق التى عرفناها.. وتميز الإنسان بخصائص لا توجد فى عالم الأحياء هو الذى جعل (جوليان هكسلى) فى (الداروينيه الحديثة) يتراجع عن الكثير من (الداروينية القديمة)، التى قررها(داروين)
وهو لا يتراجع عنها إلا مضطراً أمام ضغط الحقائق الواقعية التى تحتم هذا التراجع، إذ يعترف بأن الإنسان (حيوان خاص) وأنه له (خصائص) لم تلاحظ فى أى حيوان آخر، وأن لهذه الخصائص آثاراً متفردة كذلك.
علي: لقد ذكر الله تعالى سر هذا التفرد الذي تمتع به الإنسان، فقال:{ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (28) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (29)}(الحجر)
فالإنسان ـ بحسب هذه الآية الكريمة، وبحسب آيات أخرى كثيرة ـ حقيقتان: تراب، وروح.. هو تراب من الأرض.. وروح من الملأ الأعلى.. وهذا هو سر جهلنا بالإنسان.. وهذا هو سر عدم إمكانية علم الإنسان بالإنسان.
ألكسيس: كيف ذلك؟
علي: أنت طبيب يأتيك المرضى كما كانوا يأتون ألكسيس.. أليس كذلك؟
ألكسيس: بلى..
علي: فهل يمكن لأنصاف المعلومات أن تؤدي إلى معلومات كاملة؟
ألكسيس: لم أفهم.
علي: إذا جاءك مريض بنصفه فقط.. بل بجزء بسيط منه.. وترك جزأه الأهم لم يأتك به.. فهل يمكن أن تعرفه، أو تعرف ما أصابه؟
ألكسيس: فهمت قصدك.. طبعا.. ومن الناحية العلمية لا تعتبر المعلومة معلومة إلا إذا اكتملت جميع أركانها.. ولهذا ترانا في الطب نبحث في كل الأعضاء، ولو لم يكن لها صلة مباشرة بالمرض.. لاحتمال علاقتها بها.
علي: فانطلق من هذا لتفهم حقيقة الإنسان.. فالإنسان كائن روحي عال من الملأ الأعلى لا نعرفه.. وليس لدينا من الأدوات ما يمكننا من معرفته.. وهو في نفس الوقت كائن ترابي.. يتغير كل حين.. قد ندركه، ولكن لن ندركه إدراكا كاملا.. لأن هذا التراب عند ارتباطه بالروح صار كائنا آخر.. وهذا هو سر جهلنا بالإنسان.. وهذا هو سر حاجتنا إلى الله لنعلم علم الإنسان.
بدت على وجه ألكسيس علامات الاقتناع بما قال علي، فقد سأله قائلا: هل احتقر ربكم الإنسان الترابي؟
علي: الله الخالق لا يحتقر ما خلقه.. لقد ذكر الله تعالى منته على عباده بأن خلقهم من تراب.. وهي منة مقرونة بالدعوة إلى التواضع والعبودية.. قال تعالى:{ إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (آل عمران:59)، وقال تعالى:{ قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً} (الكهف:37)، وقال تعالى:{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مَنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} (الحج:5)، وقال تعالى:{ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ} (الروم:20)، وقال تعالى:{ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجاً وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} (فاطر:11)، وقال تعالى:{ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُسَمّىً وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (غافر:67)
تعجب ألكسيس من قراءة علي لكل هذه الآيات، وقال: أكل هذه الحقائق يذكرها قرآنكم عن الإنسان.. إنها حقائق كثيرة عظيمة تستحق الوقوف عندها..
إن هذه الحقائق تصدق الآية التي ذكرتها من قبل.. فالله عالم بخلقه.
لقد كان الجهل في الزمن الذي جاء فيه محمد مطبقا بالإنسان الترابي.. فكيف تسنت لمحمد كل هذه المعلومات؟
لم أدر كيف ثارت في نفسي نوازع الشبهات، فرحت أقاطعهما بقولي: لقد ذكر القرآن أن الإنسان خلق { مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَأٍ مَسْنُونٍ} (الحجر: 26)
علي: أجل.. وصدق ربي في ذلك.
قلت: ولكن علم الكيمياء يخالف ذلك.
علي: فيم يخالفه؟
قلت: الطين هو سليكات الألمونيوم، وهي مادة لا تذوب في الماء، ومن ثم لا يمكن أن تدخل في تركيب جسم الإنسان.
علي: أولا.. أنت تعلم أن للحبيبات سطوحاً تحمل كاتيونات، وأن بينها مسافات تحتوي هواء، وتمسك بماء تذوب فيه مواد.. بالإضافة إلى ذلك، فخلق الإنسان من طين لا يستلزم خلقه من كل الطين، وإنما يكفي أنه يخلق من أحد محتويات الطين..
إن ذلك يشبه قول أحدنا بأنه يسكن هذه المدينة مع أنه لا يسكن إلا في حي منها، بل في شارع، بل في منزل واحد.
بالإضافة إلى هذا، فقد ذكر الله تعالى أنه خلق الإنسان { مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ} (المؤمنون: 12)، أي من مواد تتسلل من الطين، فهي محتواة فيه.. فالتسلل هو الحركة الخفيفة، واللص المتسلل هو الذي يتحرك فلا يراه أحد، وصيغة (فعالة) تدل على الشيء يفعل فيه فعل ما، فالسلالة ما يسل ويخرج في خفاء، والسلالة ما يسلت من شيء آخر ويفصل عنه.
والخلاصة هي ما يستخلصه وينقي مما يختلط به الطين الذي تتكون حبيباته من سيلكات الألومونيوم فيه مسافات تحتوي ما يمكن أن يحرك ويستخلص، وهو (السلالة) التي عرفنا بالوسائل العلمية أنها ماء ذابت فيه غازات وأيونات وجزيئات صغيرة من أصل عضوي وبعض الأملاح.
ولأهمية المسافات البينية والمسام الموجودة في الطين وصف القرآن هذا الطين بقوله:{ خَلَقَ الْأِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ} (الرحمن:14)، فمن لا يعرف أن الإناء الفخاري يتسلل الماء من داخله إلى خارجه، فيبخر ليبرد الإناء وما فيه.
وإذا كان الماء محتوياً على ملح أو سكر مذاب ترسبت بعض بلوراته على السطح الخارجي بعد تسللها من داخله، وقيل حينئذ إن الإناء نضح بما فيه، وفي الأمثال (كل إناء بما فيه ينضح)
والصلصلة هي الرنينن، وهي ترجيع الشيء للصوت إذا نقرت عليه أو قرعته كصلصلة الجرس، والفخار الجاف يصلصل لوجود الهواء في مسافاته البينيه، بينما لا تسمع صلصلة إذا نقرت على قطعة من الجرانيت الذي تكون سليكات الألمونيوم 60 بالمائة منه، وذلك لتراكم حبيباته والتصاقها بغير مسافات بينيه، كذلك لا تصلصل قطعة من حجر الإردواز، وهو صخر متحول من سليكات الألومنيوم الخالصة فقد مسافاته البينيه بالحرارة والضغط.
ولهذا ـ ونفيا للبس ـ قال الله تعالى:{ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَأٍ مَسْنُونٍ} (الحجر:26)، وقال تعالى:{ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَأٍ مَسْنُونٍ} (الحجر:28)، وقال تعالى:{ قَالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَأٍ مَسْنُونٍ} (الحجر:33) أي من حمأ مسنون من الصلصال.
وبمقارنة هذه الآيات بقوله تعالى:{ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ} (المؤمنون: 12) ندرك أن (الحمأ المسنون) مرادف أو بديل (السلالة من الطين)
وأسلوب التعبير (.. من.. من..)أسلوب شائع في اللغة العربية، ويقصد به التفسير والتفصيل، فيذكر المتكلم الشيء مجملاً أو كلياً ثم يتبعه التخصيص أو الجزئي، كما قال تعالى:{ وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} (لأعراف: 172)، أي أخذ من بني آدم ذريتهم أخذا من مكان خاص في ظهورهم.
حاولت أن أمسك نفسي، حتى لا أقاطع حديثهما، ولكن ما لقنت من شبهات طغت على طبيعتي، فرحت أقول: إن قومي يذكرون أن القرآن وقع في التناقض عندما ذكر مادة خلق الإنسان.. فهو يعطى معلومات مختلفة عن خلق الإنسان.. فمرة يذكر أنه من ماء مهين (المرسلات: 20)، ومرة من ماء (الأنبياء: 30)، ومرة من نطفة (يس: 77)، ومرة من طين (السجدة: 7)، ومرة من علق (العلق: 2)، ومرة من حمأ مسنون (الحجر: 26)، ومرة يذكر أنه لم يك شيئًا (مريم: 67).. فكيف يكون كل ذلك صحيحًا فى نفس الوقت([2])؟
ابتسم علي، وقال: ليس في كل ما ذكرته أدنى تناقض.. وحتى يتضح ذلك، يلزم أن نتبع منهجا علميا فى رؤية هذه المعلومات، التى جاءت فى عديد من آيات القرآن الكريم.. وهذا المنهج العلمى يستلزم جمع هذه الآيات.. والنظر إليها فى تكاملها.. مع التمييز بين مرحلة خلق الله للإنسان الأول آدم u ومرحلة الخلق لسلالة آدم، التى توالت وتكاثرت بعد خلق حواء، واقترانها بآدم، وحدوث التناسل عن طريق هذا الاقتران والزواج..
لقد خلق الله تعالى الإنسان الأول ـ آدم ـ فأوجده بعد أن لم يكن موجودًا.. أى أنه قد أصبح شيئًا بعد أن لم يكن شيئًا موجودًا.
وإنما كان وجوده فقط فى العلم الإلهى.. وهذا هو معنى الآية الكريمة:{ أَوَلا يَذْكُرُ الْأِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً} (مريم:67)
أما مراحل خلق الله تعالى لآدم، فقد بدأت بـ (التراب) الذى أضيف إليه (الماء) فصار (طينًا) ثم تحول هذا الطين إلى (حمأ) أى أسود منتنًا، لأنه تغير والمتغير هو (المسنون).. فلما يبس هذا الطين من غير أن تمسه النار سمى (صلصالاً) لأن الصلصال هو الطين اليابس من غير أن تمسه نار، وسمى صلصالاً لأنه يصلّ، أى يُصوِّت، من يبسه أى له صوت ورنين.
وبعد مراحل الخلق هذه ـ التراب.. فالماء.. فالطين.. فالحمأ المسنون.. فالصلصال ـ نفخ الله تعالى فى مادة الخلق هذه من روحه، فغدا هذا المخلوق إنسانًا هو آدم u.
وعن هذه المراحل تعبر الآيات القرآنية، فتصور تكامل المراحل ـ وليس التعارض المتوهم والموهوم ـ فتقول هذه الآية الكريمة::{ إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (آل عمران:59)، فبالتراب كانت البداية:{ الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْأِنْسَانِ مِنْ طِينٍ} (السجدة:7)، وذلك عندما أضيف الماء إلى التراب:{ فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنَا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ} (الصافات:11)} (4)، وذلك عندما زالت قوة الماء عن الطين، فأصبح لازبًا أى جامدًا.
وفى مرحلة تغير الطين، واسوداد لونه، ونتن رائحته، سمى (حمأً مسنونًا)، لأن الحمأ هو الطين الأسود المنتن.. والمسنون هو المتغير.. بينما الذى (لم يَتَسَنَّه) هو الذى لم يتغير.. وعن هذه المرحلة عبر قوله تعالى:{ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَأٍ مَسْنُونٍ} (الحجر:26)
تلك هى مراحل خلق الإنسان الأول، توالت فيها وتتابعت وتكاملت معانى المصطلحات: التراب.. والماء.. والطين.. والحمأ المسنون.. والصلصال.. دونما أية شبهة للتعارض أو التناقض.
وكذلك الحال والمنهاج مع المصطلحات التى وردت بالآيات القرآنية التى تحدثت عن خلق سلالة آدم u.. فكما تدرج خلق الإنسان الأول آدم من التراب إلى الطين.. إلى الحمأ المسنون.. إلى الصلصال.. حتى نفخ الله فيه من روحه.. كذلك تدرج خلق السلالة والذرية بدءاً من (النطفة) ـ التى هى الماء الصافى ـ ويُعَبَّرُ بها عن ماء الرجل (المنىّ).. إلى (العَلَقَة) التى هى الدم الجامد، الذى يكون منه الولد، لأنه يعلق ويتعلق بجدار الرحم إلى (المضغة) وهى قطعة اللحم التى لم تنضج، والمماثلة لما يمضغ بالفم.. إلى (العظام).. إلى (اللحم) الذى يكسو العظام.. إلى (الخلق الآخر) الذى أصبح بقدرة الله فى أحسن تقويم.
وإذا كانت (النطفة) هى ماء الرجل.. فإنها عندما تختلط بماء المرأة، توصف بأنها (أمشاج) ـ أى مختلطة ـ كما جاء فى قوله تعالى:{ إِنَّا خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً} (الانسان:2)
كما توصف هذه (النطفة) بأنها (ماء مهين) لقلته وضعفه.. وإلى ذلك تشير الآيات الكريمة:{ الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (8)}(السجدة)
وكذلك، وصفت (النطفة) ـ أى ماء الرجل ـ بأنه (دافق) لتدفقه واندفاعه، كما جاء فى الآية الكريمة:{ لْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ (6) } (الطارق)
ألكسيس: إن كل ما قرأته عجيب يحتاج كلاما مفصلا.. إن ما ذكرته يتوافق مع آخر ما وصلت إليه العلوم ..
إن كون الإنسان من تراب لا شك فيه، فإنه لو أرجعنا الإنسان إلى عناصره الأولية، لوجدناه أشبه بمنجم صغير ([3])، يشترك في تركيبه حوالي (21) عنصراً، تتوزع بشكل رئيسي على:
1ـ أكسجين (O) ـ هيدروجين (H) على شكل ماء بنسبة 65 بالمائة ـ 70بالمائة من وزن الجسم
2 ـ كربون (C)، وهيدروجين (H) وأكسجين (O) وتشكل أساس المركبات العضوية من سكريات ودسم ،و بروتينات وفيتامينات، وهرمونات أو خمائر.
3 ـ مواد جافة يمكن تقسيمها إلى:
آ ـ ست مواد هي: الكلور (CL)، الكبريت (S)، الفسفور (P)، والمنغنزيوم (MG) والبوتسيوم (K)، والصوديوم (Na)، وهي تشكل 60 ـ 80 بالمائة من المواد الجافة.
ب. ست مواد بنسبة أقل هي: الحديد (Fe)، والنحاس (Cu) واليود (I) والمنغنزيوم (MN) والكوبالت (Co)، والتوتياء (Zn) والمولبيديوم (Mo).
جـ ـ ستة عناصر بشكل زهيد هي: الفلور (F)، والألمنيوم (AL)، والبور (B)، والسيلينيوم (Se)، الكادميوم (Cd) والكروم (Cr).
وكل هذه العناصر موجودة في تراب الأرض، ولا يشترط أن تكون كل مكونات التراب داخلة في تركيب جسم الإنسان، فهناك أكثر من مئة عنصر في الأرض بينما لم يكتشف سوى (22) عنصراً في تركيب جسم الإنسان.
و ذلك كله يوافق ما جاء به القرآن تمام الموافقة.
علي: لقد ذكر الله تعالى أن الإنسان خلق على أفضل تقويم، فقال:{ لَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} (التين:4)
والله يمن على عباده بما وهب لهم من الصور الحسنة، فيقول: {يَا أَيُّهَا الْأِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} (الانفطار:8)
ويقول:{ اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَاراً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} (غافر:64)
ويقول:{ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} (التغابن:3)
ويقول:{ قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ} (الملك:23)
ألكسيس: صدق القرآن.. فإن هذه حقائق لا شك فيها.. لقد حاول دعاة التطور التستر عليها حينا من الزمن، لكنهم لم يفلحوا..
لقد كان علماء التطور يقولون بوجود مراحل للذكاء، ولكننا لا نعلم بوجود ذلك مطلقاً، بل إنّ ما نعلمه أنَّ 90بالمائة من الناس أذكياء، فعامة الناس أو أكثرهم أذكياء، والنادر هم البلداء أو الأغبياء، وهذا النادر لا حكم له.
كما يزعم علماء التطور المادي بأنّ الإنسان المعروف باسم (إنسان ما قبل التاريخ)، والذي يدّعون أنه انقرض كان يمثل الحلقة الوسطى، فلماذا عاشت هذه الحلقات الدنيا مثل القردة بينما انقرض إنسان ما قبل التاريخ، مع العِلم أنّ المفروض فيه حسب منطوق ومفهوم نظرياتهم أن يكون أرقى من القردة بكثير وأصلح للبقاء.
علي: والقسم الثاني الذي يتركب منه الإنسان هي الروح، وهي من السمو والرفعة ما لا يمكن تصوره.. ولذلك نسبها الله تعالى إليه، فقال:{ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} (الحجر:29)
وقد قطع الله تعالى عنا الجدل الذي يمكن أن نقع فيه إذا ما أردنا أن نبحث عن حقيقة الروح، فقال:{ وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً} (الاسراء:85)
ولذلك أمرنا بدل البحث عن الماهية أن نستثمر الطاقات الكبرى التي تتمتع بها أرواحنا في أداء الأمانة التي كلفنا بها، قال تعالى:{ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْأِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} (الأحزاب:72)
ألكسيس: إن كلامك هذا يذكرني بالتخبط الكبير الذي وقعت فيه البشرية عندما أرادت أن تبحث عن الروح..
أما الماديون.. فقد قطعوا عن أنفسهم هذا الجدل حين اعتقدوا أن الإنسان مجرد كيان مادي مكوَّن من مجموعة من الأجهزة والفعاليات المادية. وعندما يفقد الحياة سينحل ويستهلك في تراب الأرض وتنتهي دورة وجوده في عالم الطبيعة إلى الأبد.
علي: لقد ذكر الله تعالى عقيدة هذا الصنف، فقال:{ وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ} (الأنعام:29)، وقال:{ إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ} (المؤمنون:37)
ألكسيس: لقد اعتبر هؤلاء أن الانسان هو هذا الهيكل المحسوس، وليس ثمة وجود مستقل عن المادة يسمّى بالروح، بل هي من خواص الجسد، وتخضع لجميع القوانين التي تحكمه، ومجموع ظواهر الشعور والعقل والارادة والفكر، ما هي إلاّ وظائف عضوية مثلها كمثل جميع الوضائف البدنية الاُخرى، وكذا الآثار الفكرية والمعرفية عندهم ماهي إلاّ نتائج وآثار فيزيائية وكيميائية للخلايا العصبية والعقلية، وجميع تلك الآثار والنشاطات الروحة تظهر بعد ظهور العقل والجهاز العصبي، وتموت بموت الجسد، فإذا مات الانسان بطلت شخصيته، واندثر بدنه، وزال معه كلّ ما بلغه من محصول عقلي وارتقاء نفسي وكمال روحي.
وتجاهلت الفلسفة المادية الحديثة كل الخصائص والآثار الروحية التي لا تخضع لقانون المادّة، وأعلنت أن الروح ومظاهرها من الشعور والعلم لا وجود لها كوحدة متميزة عن جسم الانسان المادي، وإنّما هي في ذاتها وظيفة له ونتيجة لعلاقته بالعالم الخارجي، وأن الأفكار والأماني لا توجد إلاّ من خلال عملية مادية، كحصول الحرارة نتيجة احتكاك قطعتين من الحديد مثلاً، وأن جميع الخصائص التي يتمتع بها الانسان ما هي الا نتيجة لردّة فعل للعالم الخارجي وأن الوعي بمختلف مظاهره ليس إلاّ نتاج مادة عالية التنظيم، أي نشاط الدماغ ووظيفته.
وقد تمسّك الماديون في الدلالة على مذهبهم القائم على إنكار الروح، بجملة افتراضات غارقة في الغموض وتفسيرات واهية لا تملك أدنى رصيدٍ من الإثبات.
علي: ولكن.. ألا يمكن لقولهم شيء من الوجاهة؟.. لماذا لا نعرضه على المحك العقلي؟.. القرآن يدعونا إلى ذلك.
ألكسيس: إن هؤلاء لا دليل لهم.. ولا يمكن أن يكون هناك أي دليل على ما يقولون..
إن أول ما يرد به على هؤلاء هو الفطرة..
فالفطرة البشرية تقول بوجود الروح.. والدليل على ذلك اتفاق جميع أمم الأرض على ذلك، ولا يمكن لجميع أهل الأرض أن يتفقوا على شيء واحد في مثل هذه الخطورة.
لقد كان سقراط وإفلاطون يعتقدان أنّ الروح جوهر خالد موجود منذ الأزل، وعندما يكتمل الجنين في بطن اُمّه تتعلق به الروح، ثمّ تعود بعد الموت إلى محلّها الأول، ويرى إفلاطون أن هناك روحين: إحداهما الروح العاقلة وهي الخالدة ومحلها الدماغ، والاُخرى غير خالدة ولا عاقلة، وهي قسمان: غضبية ومستقرها الصدر، وشهوية ومكانها البطن.
وذهب أرسطو إلى الاعتقاد بحدوث الروح مع حدوث البدن، فعندما يتكامل البدن توجد الروح دون أن تكون لها سابقة حياة قبل حدوثها، وعدّ ثلاثة صنوف من الأرواح منبثّة في مجموع البدن، وهي: الروح العاقلة ـ أو النفس الناطقة ـ وهو يقول بتجردها، والروح الحاسة أو الحيوانية، والروح الغاذية، ولا يقول بتجرد الأخيرتين.
واهتم ديكارت بتمييز الروح عن الجسم، وتحديد خصائص كلّ منهما، فاعتبر الروح جوهراً أخصّ صفاته الفكر، ولا يتصوّر فيه إمكان التجزّي والانقسام وعدم التجانس في أجزائه، واعتبر الجسم جوهراً أخص صفاته الامتداد، ومن أحواله الصورة والحركة، ويقبل الانقسام والتجزّي والتغير بطبيعته.
وغيرهم من الهنود والصينيون.. اتفقوا على أن حقيقة الإنسان هو كيان روحي مجرَّد عن صفات المادة وخصائصها، وهو غير البدن العضوي والجهاز المادي الذي يؤدي الفعاليات والنشاطات المادية. وهو الذي ينطق عنها الإنسان فيقول (أنا)، فليس (الأنا) الذات الإنسانية هي ذلك الكيان الجسدي، بل هي ذلك الكيان الروحي المستقل.
والكيان الإنساني (الروح) هو القوة المدركة، وهو القوة التي تشعر بالألم واللذّة والخوف والسرور والحزن، وهو القوة الناطقة، وما الجسم إلاّ آلة لتنفيذ مآرب النفس، وليست الأجهزة الحسّية والدماغ إلاّ أدوات يستخدمها الإنسان (الكيان الروحي) لفهم العالم المادي والتعامل معه.
علي: إن ما ذكرته لا يبرهن فقط على الروح .. بل يبرهن فوق ذلك على الحياة الجميلة التي وعد الله تعالى بها هذه الروح في حال طمأنينتها إلى ربها، فقال تعالى:{ يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي (30)}(الفجر)
وهو برهان على الحياة القاسية التي توعد الله بها الروح النافرة من ربها بعد أن تخلع عنها جلباب الجسد، فقال تعالى:{ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آَيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ }(الأنعام:93)
نظرت في وجه ألكسيس، فإذا به يتغير تغيرا شديدا لما سمعه من تلك الآيات.. لقد أحسست بأن أنوار القرآن بدأت تتسرب إلى قلبه.. وأن الغشاوة التي كانت تطغى على قلبه بدأت ترق شيئا فشيئا..
ولذلك راح يطلب من علي أن يعيد ما قرأه من القرآن الكريم عن مراحل الإنسان.
قرأ علي:{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مَنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} (الحج:5)
ألكسيس: إن ما ذكره القرآن من هذه الحقائق عجيب.. فقد ظلت البشرية تائهة عن الحقائق التي ترشد إليها هذه الآيات، فلم تهتد إليها إلا بعد توفير الوسائل الكثيرة التي تعين مدارك الإنسان على الكشف عن الحقيقة ([4]).
لقد توهم الناس أن الجنين يخلق من دم الحيض، وساد هذا الوهم ـ الذي تخيله أرسطو ـ على أفكار البشر طوال ألفي عام، يقول البروفيسور كيث ال. مور:(ويعد كثير من علماء الأجنة ارسطوطاليس مؤسس علم الأجنة على الرغم من حقيقة كونه روج فكرة: أن الجنين يتطور من كتلة عديمة الشكل تنتج عن اتحاد المني بدم الحيض)
وقد توهم الباحثون أن الإنسان يخلق خلقاً تاماً منذ بداية تكوينه؛ لأن جميع ما يشاهده الناس لجميع الكائنات الحية من صور للنمو لا يكون إلا بزيادة حجم الكائن الصغير.
وحتى بعد اكتشاف المجهر (الميكروسكوب)، بقي وهم الخلق التام للإنسان من بداية تكوينه مسيطراً على أفكار علماء النهضة الأوروبية.
وأضافوا إلى هذا الوهم وهماً آخر هو: أن الإنسان يخلق من ماء الرجل فقط، ولا دور للمرأة في الجنين إلا كدور الأرض.
وحتى بعد اكتشاف البييضة عند المرأة بقيت فكرة الخلق التام مسيطرة على عقولهم؛ بالرغم من أن علماء النهضة الأوروبية غيروا رأيهم عن دور الرجل في الإنجاب، فزعموا أن الإنسان يخلق خلقاً تاماً في البييضة في صورة قزم أيضاً، ثم ينمو بزيادة الحجم فقط، دون أي تغيير في الصورة التي بدأت من بداية خلق البييضة، وقرروا أن لا دور للرجل في تكوين الجنين إلا كدور المنبه الذي يستحث النمو.
ولم ينته الجدل بين الفريقين إلا حوالي عام (1775م)؛ عندما أثبت سبالانزاني أهمية كل من الحوين المنوي والبييضة في عملية التخلق البشري.
وبتحرر عقول العلماء في أوروبا من فكرة الخلق التام للإنسان منذ بداية خلقه، ومعرفتهم أن خلق الإنسان يمر بأطوار ومراحل مختلفة في أشكالها وصورها تساءل العلماء متى يأخذ الجنين صورته الإنسانية؟ فوجدوا أنفسهم أمام معضلة كبيرة هي: معضلة تحديد عمر الجنين، فقد كان من العسير على العلماء ـ قبل اكتشاف بييضة المرأة، وزمن خروجها من المبيض عند المرأة ـ أن يحددوا عمر الجنين في بطن أمه، أو عمر الجنين الذي يسقط من بطن أمه؛ بسبب عجزهم عن تحديد زمن بداية الحمل، وكان لابد أن يقعوا في خطأ حسابي يزيد بـ21 يوماً، أو ينقص كذلك بـ21 يوماً ؛ لأن علامة الحمل عند المرأة تعرف ـ عندهم يومذاك ـ بانقطاع حيضها، فإن بدؤوا حساب الحمل من أول الطهر ـ وقد أمكن أن يقع في نظرهم يومذاك في آخره ـ فسيكون الخطأ في تقدير عمر الجنين بزيادة تساوي فترة الطهر أي: 21يوماً، وإن اعتبروا أن الحمل وقع في آخر الطهر ـ مع امكان وقوعه في نظرهم يومذاك في أول الطهر ـ فسيقع النقص في تقدير عمر الجنين بما يساوي 21 يوماً أيضاً.
وكما كان تقدير عمر الجنين متعذراً إلا مع خطأ كبير، فإن تحديد ما يظهر من التطورات في خلق الجنين أثناء جميع مراحل نموه كان كذلك متعذراً، لقلة العينات المتاحة من الأجنة البشرية، ولأنه لا يقبل أحد أن يتبرع بابنه حتى يقوم الأطباء بدراسته، ولما يصاحب ذلك من مشقة كبيرة للمرأة إذا أُسقط جنينها ؛ فآلام السقط قريبة من آلام الولادة.
ولأن تطورات أجهزة وأعضاء الأجنة تنمو باطراد؛ يصعب معه تحديد الفترة الزمنية التي يظهر فيها الجهاز، أو العضو بصورته الآدمية في الجنين.
علي: فكيف تمكن العلماء من تقدير عمر الجنين وتحديد زمن تكون أعضاء الجنين؟
ألكسيس: بعد اكتشاف بييضة المرأة في القرن التاسع عشر الميلادي تمكن الباحثون من تحديد يوم خروجها من المبيض في المرأة، ومكنهم ذلك من تحديد موعد بداية الحمل بخطأ لا يتجاوز زيادة يوم واحد.
وبعد أن تمكن علماء الطب أخيراً من غرس (كاميرا) في رحم المرأة أثناء حملها أمكنهم متابعة الحمل بدقة بالغة، وأمكنهم تحديد زمن ظهور أعضاء جسم الجنين، وزمن تشكلها، وأمكنهم تصوير مراحل تكوين تلك الأعضاء.
علي: لقد ورد في الحديث تحديد للمواعيد التي تمر بها كل مرحلة من مراحل الجنين، فقال صلى الله عليه وآله وسلم:(إذا مر بالنطفة ثنتان وأربعون ليلة بعث الله إليها ملكاً، فصورها، وخلق سمعها، وبصرها، وجلدها، ولحمها، وعظامها، ثم قال: يارب أذكر أم أنثى؟ فيفضي ربك ما شاء ويكتب الملك)([5])
تعجب ألكسيس عجبا شديدا من هذا الحديث، فطلب من علي إعادته عليه، فأعاده، فقال: هذا حديث عجيب.. إن فيه حقائق كثيرة من حقائق علم الأجنة لم تصل إليها البشرية إلا بشدة، وبعد مرور زمن طويل.
أما الحقيقة الأولى، فهي تخلق الإنسان من النطفة المنوية المتكونة من ماء الرجل وبييضة المرأة، وقد أشار إلى ذلك نبيكم في قوله:(إذا مر بالنطفة) أي أن الإنسان يخلق من النطفة لا من دم الحيض، كما كان شائعاً بين الأطباء إلى القرن السابع عشر.
أما الحقيقة الثانية، فهي أن الحديث حدد ليلة معينة من عمر الجنين يدخل بعدها الملك:(إذا مر بالنطفة ثنتان وأربعون ليلة بعث الله إليها ملكاً)
أما الحقيقة الثالثة، فيشير إليها قول نبيكم:(فصورها) أي أن الصورة الآدمية للجنين تبدأ بالظهور بعد الليلة الثانية والأربعين.
أما الحقيقة الرابعة، فيشير إليها قول نبيكم:(وخلق سمعها)، وكذلك يبدأ ظهور الأذن وجهاز السمع.
أما الحقيقة الخامسة، فيشير إليها قول نبيكم:(وبصرها) أي وخلق بصرها ؛ فيبدأ ظهور العين وجهاز البصر.
أما الحقيقة السادسة، فيشير إليها قول نبيكم:(وجلدها) أي أن الجلد يخلق بعد الليلة الثانية والأربعين.
أما الحقيقة السابعة، فيشير إليها قول نبيكم:(ولحمها) أي أن اللحم (العضلات) يخلق بعد نفس الليلة.
أما الحقيقة الثامنة، فيشير إليها قول نبيكم:(وعظامها) حيث يخلق الملك العظام (الهيكل العظمي) بعد نفس الليلة.
أما الحقيقة التاسعة، فيشير إليها قول نبيكم:(ثم قال: يا رب أذكر أم أنثى)، أي أن الملك يبدأ بتشكيل الأعضاء التناسلية الخارجية (الفرج) في الذكر والأنثى، والتي بها يتم التمييز بين الذكر والأنثى وذلك بعد الليلة الثانية والأربعين أيضاً.
أما الحقيقة العاشرة، فهي أن الجنين يمر بأطوار قبل الليلة الثانية والأربعين ؛ وهو ليس في صورة آدمية، ولا توجد فيه الأعضاء والأجهزة التي ذكر الحديث أنها لا تخلق إلا بعد الليلة الثانية والأربعين.
إن ما ذكره نبيكم يصدقه كل علماء الأجنة..
لقد قال البروفيسور جولي سمسن وآخران، وهو أحد كبار علماء الوراثة والأجنة بأمريكا في بحث ألقي في عدد من المؤتمرات العلمية:(وعند نهاية الأسبوع السادس وقبل اليوم الثاني والأربعين لا تكون صورة الوجه واضحة أو شبيهة بصورة وجه الإنسان وتكون العين والأذن والأعضاء التناسلية الخارجية في صورة أولية ؛ من مراحل تطورها قبل اليوم الأربعين، وهي: لا تعمل، ولا تشبه أعضاء الإنسان)
ثم يقول:(وتقدير عمر الجنين قبل اكتشاف البييضة وارتباط دورة الحيض بها أمر في غاية الصعوبة)
وهذا هو البروفيسور (ت.ف.ن. برساد) من جامعة (مانتوبا ويننج) بكندا وأحد المشاهير والمؤلفين في علمي: أمراض النساء، والأجنة بكندا ؛ يحدثنا عن الجنين بعد اليوم الثاني والأربعين، فيقول:(يتكون في بداية الأسبوع السابع من النمو أي: عند حوالي اليوم الثاني والأربعين: الهيكل العظمي الغضروفي ؛ الذي يعطي الجنين شكله الآدمي الخاص، فيستقيم جذعه، ويتكون له رأس مستدير وتتحرك العينان إلى الأمام في محلهما في الوجه ؛ فيتجلى الشكل الآدمي للجنين ويتم ذلك أيضاً بالنسبة للأنف الذي يأخذ المظهر الآدمي، أما الأذرع التي ظهرت على شكل براعم في نهاية الأسبوع الرابع، فتصبح أكثر طولاً بعد اليوم الثاني والأربعين، وتظهر أصابع واضحة لم تكن موجودة قبل ذلك، أما مؤخرة العمود الفقري البارزة، فتتراجع، وتعتدل تاركة أثراً لا يكاد يلاحظ)
علي: إن تفضلت.. فإن القرآن الكريم ذكر المراحل المختلفة التي يمر بها الجنين في مواضع مختلفة، فأرجو أن تفسرها الي.
ألكسيس: يشرفني ذلك.. إن كتابكم يملأ القلب بالعجب، والنفس بالأنس.
علي: فلنبدأ بالمرحلة الأولى.. مرحلة النطفة، لقد قال الله تعالى فيها:{ خَلَقَ الْأِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ} (النحل:4)، وقال:{ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ} (المؤمنون:13)، وقال:{ إِنَّا خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً} (الانسان:2)
ألكسيس: إن هذه الآيات تشير إلى حقائق كثيرة.. فلنبدأ بالآية الأخيرة التي قرأتها.. أليست تقرر أن الجنين يخلق من نطفة أبيه ونطفة أمه.
علي: أجل.. فكلمة أمشاج تعني الأخلاط، وقد روي أن يهودياً مرّ بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو يحدث أصحابه، فقالت قريش: يا يهودي، إن هذا يزعم أنه نبي، فقال لأسألنّه عن شيء لا يعلمه إلا نبي فقال: يا محمد مِمِّ يخلق الإنسان، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (يا يهودي من كلٍ يخلق من نطفة الرجل ومن نطفة المرأة)، فقال اليهودي هكذا كان يقول من كان قبلك (أي الأنبياء) ([6])
ألكسيس: إن ذكر هذا لعجيب.. لقد كان شائعاً إلى وقت قريب أن الجنين يخلق من ماء الرجل، ولا دور لماء المرأة في عملية تكوين الجنين، وما رحم المرأة إلا كأرض خصبة قد هُيّئت لأن يرمي الرجل فيها البذرة، فيتكون الجنين، وظلت النظرية التي تقول: بأن الجنين موجود بصورة مصغرة في الحيوان المنوي للرجل، وليس للمرأة أي دور في تكوينه، سوى التغذية والرعاية حتى القرن السابع عشر الميلادي.
ثم جاءت النظرية التي تقول: بأن الجنين موجود بصورة مصغرة في البويضة، أما الحيوان المنوي للرجل فليس له دور سوى التنشيط للبويضة.
وبقيت المعارك مستمرة بين أنصار النظريتين حتى ظهر سبالانزاني(1729-1799) و(ولف) (1733-1749)، اللذان أثبتا بتجارب عديدة أن الذكر والأنثى يساهمان جميعاً في تكوين الجنين.
وبهذا يتضح أن الإنسانية بعلومها التجريبية والفلسفية لم تكن تعلم شيئاً عن النطفة الأمشاج، ولا في أواخر القرن التاسع عشر وتأكد ذلك في أوائل العشرين، وأنها لم تكن تدري أن الجنين الإنساني يمُّر بأطوار مختلفة من الخلق.. خلقاً من بعد خلق ،ولم تعرف ذلك إلا عام (1769) عندما قدم ولف ملاحظاته، ولم تتأكد هذه الملاحظات إلا بعد أن جاء شوان وشليدان وأوضحا دور الخلايا في بناء الأنسجة وذلك عام 1839، وفي عام 1883 تمكن (فان بنرن) من، إثبات أن كلا البويضة والحيوان يساهمان بالتساوي في تكوين الجنين، وفي أوائل القرن العشرين عرفت مراحل الجنين ودور الصبغات والجينات في تكوين الجنين وصفاته الوراثية…
علي: لقد ورد في الحديث قوله صلى الله عليه وآله وسلم:(ما من كل الماء يكون الولد، إذا أراد الله خلق شيء لم يمنعه شيء) ([7])
ألكسيس: صدق نبيكم.. إن هذا الحديث حديث عجيب، فلم يكن أحد يعلم أن جزءا يسيرا من المني هو الذي يخلق منه الولد.
فلم يكن أحد يتصور أن في القذف الواحد من المني ما بين مائتين إلى ثلاثمائة مليون حيوان منوي، وأن حيواناً منوياً فقط هو الذي يقوم بتلقيح البويضة.
فالحديث صريح في أنه ليس من كل الماء يكون الولد.. وإنما من جزء يسير منه.. وأنى لمن عاش في تلك الصحراء في ذلك الزمن البعيد أن يعلم هذه الحقيقة التي لم تعرف إلا في هذا القرن.
علي: لقد دل على معنى هذا الحديث قوله تعالى:{ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ} (السجدة:8)، فالسلالة هي الخلاصة.. وخلاصة الماء المهين هي التي يكون منها الولد.
ألكسيس: صدق قرآنكم، فإن النطاف أول ما تخرج يكون عشرين بالمائة منها غير صالح للتلقيح، ثم يموت في المهبل عدد كبير منها.. ثم يموت على عنق الرحم عدد آخر.. ثم تذهب مجموعة كبيرة منها.. ثم يموت على عنق الرحم عدد آخر.. ثم تذهب مجموعة منها تكون البويضة.. فتهلك تلك التي ذهبت إلى غير مكان البويضة.. ولا يصل في النهاية إلى البويضة إلا ما يقرب من خمسمائة حيوان منوي فقط، وهنا يقع اختبار آخر لحيوان منوي واحد فقط من بين هؤلاء ليتم به تلقيح البويضة.
وفي البويضة كذلك اصطفاء وانتقاء.. إذ يبلغ عدد البويضات في مبيض الأنثى وهي لا تزال جنيناً في بطن أمها ستة ملايين بويضة أولية.. ولكن كثيراً منها يذوي ويموت قبل خروجها إلى الدنيا.. ثم تستمر في اندثارها حتى إذا بلغت الفتاة المحيض لم يبق منها إلا ثلاثين ألف فقط.
وفي كل شهر تنمو مجموعة من هذه البويضات.. ولكن لا يكتمل النمو إلا لواحد فقط، وفي حياة المرأة التناسلية لا يزيد ما تغرزه المرأة عن أربعمائة بويضة فقط، فهناك اصطفاء وانتقاء للحيوان المنوي.
علي: لقد وصف الله تعالى الماء الذي يخرج من الرجل بأنه ماء دافق، فقال:{ فَلْيَنظُرْ الْإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ(5)خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ(6)} (الطارق)، فالقرآن يسند التدفق للماء نفسه مما يشير إلى أن للماء قوة دفق ذاتية.
ألكسيس: لقد أثبت العلم الحديث أن المنويات التي يحتويها ماء الرجل لابد أن تكون حيوية متدفقة متحركة وهذا شرط للإخصاب، وقد أثبت العلم أيضاً أن ماء المرأة الذي يحمل البييضة يخرج متدفقاً إلى قناة الرحم (فالوب)، وأن البييضة لابد أن تكون حيوية متدفقة متحركة حتى يتم الإخصاب.
علي: لقد وصف القرآن الكريم عملية التلقيح بالحرث، فقال تعالى:{نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} (البقرة:223)
وقد أخبر صلى الله عليه وآله وسلم عن مرحلة الانغراس، وهو الوقت الذي تصير في النطفة أمشاجاً، فقال:(يدخل الملك على النطفة بعدما تستقر في الرحم بأربعين أو خمسة وأربعين يوماً) ([8])
ألكسيس: صدق ربكم ونبيكم، ففي نهاية مرحلة الأمشاج ينغرس كيس الجرثومة في بطانة الرحم بما يشبه انغراس البذرة في التربة في عملية حرث الأرض.
وبهذا الانغراس يبدأ طور الحرث ويكون عمر النطفة حينئذ ستة أيام.
وفي الحقيقة تنغرس النطفة (كيس الجرثومة) في بطانة الرحم بواسطة خلايا تنشأ منها تتعلق بها في جدار الرحم والتي ستكون في النهاية المشيمة كما تنغرس البذرة في التربة.
ويستخدم علماء الأجنة الآن مصطلح (انغراس) في وصف هذا الحدث، وهو يشبه كثيراً في معناه كلمة (الحرث) في العربية.
وطور الحرث هو آخر طور في مرحلة النطفة، وبنهايته ينتقل الحميل من شكل النطفة، ويتعلق بجدار الرحم ليبدأ مرحلة جديدة، وذلك في اليوم الخامس عشر.
وعليه فقد وصف القرآن كل جوانب مرحلة النطفة من البداية إلى النهاية، مستعملاً مصطلحات وصفية علمية دقيقة لكل طور من أطوارها.
ويستحيل علمياً كشف التطورات وعمليات التغير التي تحدث خلال مرحلة النطفة من غير استخدام المجاهر الضخمة، نظراً لصغر حجم النطفة.
علي: لقد ذكر الله تعالى المرحلة الثانية، فقال: { ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً} (المؤمنون: 14)، وقال:{ خَلَقَ الْأِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ} (العلق:2)، ولفظة (علقة) مشتقة من (علق) وهو: الإلتصاق والتعلق بشيء ما.. والعلقة ـ كذلك ـ دودة في الماء تمتص الدم، وتعيش في البرك، وتتغذى على دماء الحيوانات التي تلتصق بها.
ألكسيس: كل ما ذكره القرآن في هذا ينطبق على هذه المرحلة.. حيث تستغرق هذه العملية أكثر من أسبوع حتى تلتصق النطفة بالمشيمة البدائية بواسطة ساق موصلة تصبح فيما بعد الحبل السري.. وفي أثناء عملية الحرث تفقد النطفة شكلها لتتهيأ لأخذ شكل جديد هو: العلقة، الذي يبدأ بتعلق الجنين بالمشيمة.. وهذا يتفق مع المعنى (التعلق بالشيء) الذي يعتبر أحد مدلولات (كلمة علقة)، أما إذا أخذنا المعنى الحرفي للعلقة (دودة عالقة) فإننا نجد أن الجنين يفقد شكله المستدير ويستطيل حتى يأخذ شكل الدودة.. ثم يبدأ في التغذي من دماء الأم، مثلما تفعل الدودة العالقة، إذ تتغذى من دماء الكائنات الأخرى، ويحاط الجنين بمائع مخاطي تماماً، مثلما تحاط الدودة بالماء.
ويبين اللفظ القرآني (علقة) هذا المعنى بوضوح طبقاً لمظهر وملامح الجنين في هذه المرحلة.
وطبقاً لمعنى (دم جامد أو غليظ) للفظ العلقة، نجد أن المظهر الخارجي للجنين وأكياسه يتشابه مع الدم المتخثر الجامد الغليظ، لأن القلب الأولي وكيس المشيمة، ومجموعة الأوعية الدموية القلبية تظهر في هذه المرحلة.
علي: بالإضافة إلى هذا، فإن الدلالات الواردة في الآيات المذكورة فيما يتعلق بالفترة التي تتحول فيما النطقة إلى علقة، تأتي من حرف العطف (ثم) الذي يدل على انقضاء فترة زمنية حتى يتحقق التحول إلى الطور الجديد.. فقد أظهر القرآن الكريم التحول البطيء من النطفة إلى العلقة باستعمال حرف العطف (ثم)
علي: لقد ذكر الله تعالى المرحلة الثالثة من مراحل الجنين، والتي سماها المضغة، فقال:{ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ} (الحج: 5)، وقال:{ فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً} (المؤمنون: 14)
والمضغة في اللغة تأتي بمعان متعددة منها: (شيء لاكته الأسنان)، وفي قولك (مضغ الأمور) يعني صغارها، وقد ذكر عدد من المفسرين أن المضغة في حجم ما يمكن مضغه.
ألكسيس: لقد صدق القرآن في هذا وسبق.. وإن ذلك لعجب عظيم.. وفوق ذلك نرى دقة القرآن في اختيار المصطلحات.
فعند اختيار مصطلحات لمراحل نمو الجنين، ينبغي أن يرتبط المصطلح بالشكل الخارجي، والتركيبات الداخلية الأساسية للجنين، وبناء على هذا فإن إطلاق اسم مضغة على هذا الطور من أطوار الجنين يأتي محققاً للمعاني اللغوية للفظها.
كما أوضح علم الأجنة الحديث مدى الدقة في اختيار تسمية (مضغة) بهذا المعنى، إذ وجد أنه بعد تخلق الجنين والمشيمة في هذه المرحلة يتلقى الجنين غذاءه وطاقته، وتتزايد بذلك عملية النمو بسرعة، ويبدأ ظهور الكتل البدنية المسماة فلقات التي تتكون منها العظام والعضلات.
ونظراً للعددي من الفلقات (الكتل البدنية) التي تتكون فإن الجنين يبدو وكأنه مادة ممضوغة عليها طبعات أسنان واضحة فهو مضغة.
ولا تتمايز الفلقات في البداية، ولكنها سرعان ما تتمايز إلى خلايا تتطور إلى أعضاء مختلفة، وبعض هذه الأعضاء والأجهزة تتكون في مرحلة المضغة، والبعض الآخر في مراحل لاحقة.
وإلى هذا المعنى تشير الآية القرآنية الكريمة:{ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ..} (الحج:5)
علي: لقد وصف القرآن الكريم التحول السريع للجنين من طور العلقة إلى طور المضغة باستخدام حرف العطف (ف) الذي يفيد التتابع السريع للأحداث.. فما يقول العلم في ذلك؟
ألكسيس: وهذا سبق آخر.. فالجنين في اليومين 23-24 يكون في نهاية مرحلة العلقة، ثم يتحول إلى مرحلة المضغة في اليومين 25-26 ويكون هذا التحول سريعاً جداً، ويبدأ الجنين خلال آخر يوم أو يومين من مرحلة العلقة إتخاذ بعض خصائص المضغة، فتأخذ الفلقات في الظهور لتصبح معلماً بارزاً لهذا الطور.
علي: لقد ذكر الله تعالى المرحلة الرابعة من مراحل الجنين، والتي تتشكل فيها العظام واللحم، فقال:{ فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً} (المؤمنون: 14)، وقال في الآية الأخرى التي تصف البعث:{ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْماً} (البقرة: 259)
فهاتان الآيتان تشيران إلى أن طور العظام يأتي بعد طور المضغة، وأن المضغة قد تطورت لديها عناصر هيكلية، وقد سمى القرآن الكريم الطور الذي يلي المضغة بالعظام، لأن الجنين يأخذ شكل العظام، بانتشار الهيكل العظمي في هذا الطور.
ويشير حرف العطف (ف) في الآية الكريمة إلى أن طور العظام ينمو بعد طور المضغة بفترة قصيرة.
ألكسيس: لقد صدق القرآن في هذا وسبق.. وإن في ذلك لعجبا.. فقد ظل المختصون في علم الأجنة، حتى فترة قريبة يفترضون أن العظام والعضلات تتكون في وقت واحد ولكن الأبحاث المكروسكوبية المتطورة التي أمكن إجراؤها بفضل التطور التقني كشفت أن الحقيقة ما ذكرته هذه الآيات.
فقد أثبتت هذه الأبحاث الميكروسكوبية أن تطور الجنين داخل رحم الأم يتم كما وصفته آيات القرآن، فأولاً تتكون الأنسجة الغضروفية التي تتحول إلى عظام الجنين، ثم تكون بعدها خلايا العضلات ثم تتجمع مع بعضها، وتتكون لتلتف حول العظام([9]).
علي: لقد استعمل القرآن الكريم مصطلح الكساء باللحم، فهل وجد العلماء ما يؤكد هذا المعنى؟
ألكسيس: لا تأخذ العظام واللحم (العضلات) شكلها الواضح المعروف في الأربعين يوماً الأولى، وتظهر في هيئتها المعتادة في الأسبوع السابع، ويشكل الجنين فتتميز لدينا مرحلة محددة مختلفة في مظهرها وتركيبها عن المرحلة السابقة (المضغة)
وتلي مرحلة العظام مرحلة أخرى تتميز عنها بكساء الهيكل العظمي باللحم من جميع جوانبه، فتتعدل الصورة الآدمية للجنين، وتتناسق الأعضاء بصورة أدق، وبذلك يبدأ الجنين بالحركة في نهاية الأسبوع الثامن.
وهذه مرحلة متميزة عن مرحلة العظام في التركيب والتناسق والصورة، وقدرة الجنين على الحركة.
وتبدأ هذه المرحلة من أواخر الأسبوع السابع إلى تمام الأسبوع الثامن. وتأتي عقب مرحلة العظام مباشرة.
وهكذا جاء النص القرآني دالاً على التتابع السريع بين المرحلتين باستعمال حرف العطف (ف) الذي يفيد تعاقب الأحداث التي يربط بينها.
وتشير الآية أيضاً إلى أن مرحلة الكساء باللحم تمثل نهاية لمرحلة من مراحل نمو الجنين لتبدأ بعدها مرحلة النشأة بفترة من الزمن يدل عليها استعمال حرف العطف (ثم) الدال على الترتيب والتراخي في الزمن بين الأفعال التي يربط بينها.
علي: لقد ورد في الحديث تحديد العمر الذي يحصل فيه هذا، فقال صلى الله عليه وآله وسلم:(إذا مر بالنطفة ثنتان وأربعون ليلة، بعث الله إليها ملكاً فصورها خلق سمعها وبصرها وجلدها ولحمها وعظامها)([10])
ألكسيس: صدق نبيكم.. فقبل اليوم الثاني والأربعين يصعب تمييز الجنين البشري عن أجنة كثير من الحيوانات، مع أنه يكون مميزاً بوضوح في مظهره، وتبدأ بعض الخلايا غير المتخصصة للجنين في التخصص، وتتحول إلى أجزاء وظيفية متنوعة.
وينجم عن هذه العملية تكون الأعضاء وتهيئتها اللازمة للحياة، ويصبح سطح الجسم أكثر استواءً في طور العظام، ويتخذ في هذا الطور مظهراً أكثر استقامة.
علي: لقد ذكر القرآن الكريم ذلك، فقال يمن على الإنسان:{ الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ } (الانفطار:7)
علي: لقد ذكر الله تعالى المرحلة الخامسة من مراحل الجنين، والتي سماها النشأة، أو مرحلة الخلق الآخر، فقال:{ ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ} (المؤمنون: 14)
وكلمة (نشأة) مشتقة من فعل (نشأ) ولها عدة معان منها: (بدأ)، و(نما)، و(ارتفع، ربا).. وقد ورد حرف العطف (ثم) مع (أنشأنا) في الآية ليفيد أن مرحلة النشأة تأتي بعد مرحلة الكساء باللحم على التراخي في الزمن بصورة تدريجية.. وفي هذه المرحلة يقع نفخ الروح كما ورد في الحديث السابق.
ألكسيس: لقد صدق القرآن في هذا، وسبق.. فإن الجنين في نهاية الأسبوع الثامن تظهر عليه خواص بشرية، فتكسي العظام بالعضلات التي يغطيها الجلد، وتتميز بعد ذلك بشكل واضح كل أعضاء الجسم، وتبدأ بالعمل.
وتبدأ مرحلة النشأة في الأسبوع التاسع، ويكون معدل النمو بطيئاً حتى بداية الأسبوع الثاني عشر وحينئذ يدخل طوراً جديداً من النمو السريع والتغير الكبير.
علي: لقد ورد في القرآن الكريم الحديث عن التعديلات والصورة التي تكتسب في هذه المرحلة، فقال تعالى:{ الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ(7)فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ(8)} (الانفطار:7-8)
فالكلمة (سواك) في الآية الكريمة تعني جعل الشيء مستوياً ومستقيماً ومهيأً لأداء وظائفه، وتعني كلمة (عدلك) تغير الشكل والهيئة لتكوين شيء محدد.
والحرف (ف) قبل كلمة (عدلك) يشير إلى التسلسل المباشر، ويكون المعنى بذلك: (وبعد ذلك عدل هيئتك) لأن (عدلك) تبينها الآية التي تليها (في أي صورة ما شاء ركبك)
ألكسيس: لقد صدق القرآن في هذا وسبق.. ففي مرحلة النشأة تختلف مقاييس الجسم، وتتخذ ملامح الوجه المقاييس البشرية المألوفة، فتنتقل الأذن على سبيل المثال من الرقبة إلى الرأس، وتتحرك العينان إلى مقدمة الوجه، ويصبح الطرفان السفليان أكثر طولاً مقارنة بالجسم، وتستمر عملية التعديل والتصوير حتى الولادة بل وبعدها.
علي: لقد ورد في القرآن الكريم والحديث النبوي ثلاث خطوات تحدد نمو الخصائص الجنسية (التذكير والتأنيث)
أما الخطوة الأولى، فتحدث في مرحلة النطفة، وهي مرحلة التقدير في النطفة.
والخطوة الثانية، وهي تمايز غدتي التناسل على شكل خصيتين أو مبيضين، وهي تحدث خلال مرحلة الكساء باللحم.
أما الخطوة الثالثة، وهي تميز الأعضاء التناسلية الخارجية خلال مرحلة النشأة، وقد نص عليها قوله صلى الله عليه وآله وسلم:(إذا مر بالنطفة ثنتان وأربعون ليلة بعث الله إليها ملكاً فصورها، وخلق سمعها، وبصرها، وجلدها، ولحمها، وعظامها، ثم قال يا رب أذكر أم أنثى، فيقضي ربك ما شاء ويكتب الملك} ([11])
فالحديث يفيد أن الملك يستأذن الله تعالى في جعل الجنين ذكراً أم أنثى بعد خلق السمع والبصر واللحم والعظم والجلد، فيأذن الله له بذلك.
وهذا يتحقق بخلق الأعضاء التناسلية الخارجية التي يتم بها التمييز النهائي للذكورة والأنوثة، وتكتمل بها أطوار تحديد الجنس.
علي: وقد ذكر الله في القرآن الكريم، وهو يمن على عباده، تيسير ولادتهم، فقال:{ قُتِلَ الْإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ (17) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20) ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21)} (عبس 17 ـ 20)
فتيسير سبيله عند خروجه من الرحم هو أحد المفاهيم التي تدل عليها الآية الكريمة([12])، وهي تبدي هذه الرعاية الربانية للنطفة ثم بعد اكتمالها في خروجها وتيسير سبيلها.
ألكسيس: لقد صدق قرآنكم في هذا.. فتيسير السبيل في الولادة أمر عجيب، لأنه حير القدماء.. إذ كيف يمر الجنين في ذلك الممر الضيق.. وعنق الرحم لا يسمح في العادة لأكثر من إبرة لدخوله.. فيتسع ذلك العنق ويرتفع تدريجياً في مرحلة المخاض حتى ليسع أصبع ثم إصبعين ثم ثلاثة فأربعة فإذا وصل الاتساع إلى خمسة أصابع فالجنين على وشك الخروج.
ليس ذلك فحسب، ولكن الزوايا تنفرج لتجعل ما بين الرحم وعنقه طريقاً واحداً وسبيلاً واحداً ليس فيه اعوجاج كما هو معتاد حيث يكون الرحم مائلاً إلى الأمام بزاوية درجتها تسعين درجة تقريباً.
ولا يقتصر معنى تيسير السبيل على هذا، وإنما يستمر ذلك التيسير بعد الولادة حيث يسر للرضيع لبن أمه، وحنانها، ثم يسر له عطف الوالدين وحبهم، ثم يستمر التيسير لسبل المعاش من لحظة الولادة إلى لحظة الممات.
علي: ومن المراحل التي ذكرها القرآن الكريم مرحلة الطفولة، فقال تعالى:{ ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً} (الحج: 5)
وقد اعتبر القرآن الكريم هذه المرحلة من مراحل الضعف، فقال تعالى:{ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ} (الروم:54)
ولذلك، فقد شرع التشريعات الكثيرة المرتبطة بصحة الولد وتقويته، ومن ذلك إلزامه أمه بالإرضاع، فقال تعالى:{ وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} (البقرة:233)
وقد اعتبر الله تعالى هذا الضعف في الصغير، فلم يرهقه بالتكليف، بل ترك له الفرصة ليتعرف على المحيط من حوله بيسر ورفق ([13]).
علي: ومن المراحل التي ذكرها القرآن الكريم مرحلة القوة، وهي مرحلة تجمع بين مرحلتي الشباب والكهولة، قال تعالى:{ ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ} (الحج: 5)، وقد سماها الله بهذا الاسم، فقال:{ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ} (الروم:54)
وبما أن هذه المرحلة هي مرحلة القوة، فقد جعلها الشرع محل التكليف والمسئولية، وامتدحت النصوص من سعى لتقوية نفسه بكل ما أمكنه من صنوف التقوية.
علي: لقد ذكر الله تعالى مرحلة الشيخوخة([14])، واعتبرها مرحلة ضعف، فقال:{ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ} (الروم:54)
وذكر بعض مظاهر الضعف الذي يميز هذه المرحلة، فقال تعالى:{ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} (يوسف:78)، وقال:{ قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ} (هود:72)
بل إن الله تعالى سمى هذه المرحلة بما تتميز به من ضعف أرذل العمر، فقال:{ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ} (النحل:70)، وقال:{ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مَنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً} (الحج: 5)
ألكسيس: صدق كتابكم في هذا.. ففي مرحلة الشيخوخة تتجلى كل أنواع الضعف بأرفع درجاتها.
ففي طور الشيخوخة يضعف الجسم شيئاً فشيئاً وتهاجمه الأمراض البدنية المختلفة في كل مكان، فيضعف من بعد قوة.
وإذا امتدت الشيخوخة وصل الجسم إلى مرحلة الشيخوخة المتأخرة التي هي أشد وطأة على الجسم والنفس معاً، وأكثر ألماً وضعفاً وأكثر عجزاً.
ذلك أن عوامل الهدم في الجسم تصير أكثر من عوامل البناء، ويصاحب ذلك تغيرات بيولوجية في خلايا الجسم تقلل من كفاءتها كثيراً.. لذلك ما أن تدب الشيخوخة في الجسم حتى يصاحبها الشعور بالضعف، ويتحول الجسم إلى مرعى خصيب لكثير من العلل والأمراض التي ربما تطول إقامتها فيه، وقد لا تبرحه قط.
وما يحدث في خلايا جسم الإنسان يحدث في خلايا كل كائن حي.. فكل كائن حي يمر بأطوار الطفولة والشباب والشيخوخة.. ففي عالم النبات مثلاً نجد هذه الأطوار في كل نبتة وكل شجرة.
علي: لقد ورد في النصوص أن هذه المرحلة تمر بها العوالم الأخرى المصاحبة للإنسان.. ومنها عالم النبات، فقد قال تعالى:{ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَاماً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ} (الزمر:21)، وقال تعالى:{ اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} (الحديد:20)
ألكسيس: ذلك صحيح.. فالشيخوخة تحدث في النبات كما تحدث في الإنسان والحيوان ذلك أن الشيخوخة من سنن الكون الذي نعيش فيه..
فالذي ينظر إلى إلى الكون يجد الشيخوخة طورا زمنيا حتميا في دورة حياة كل مخلوق، أو دورة خلق كل موجود، فالشيخوخة من فطرة الخالق في هذا الكون، من أول الخلية الحية التي لا ترى إلا بالمجهر إلى خلق المجرة الهائلة في الفضاء الكوني.
علي: لقد ربط الله تعالى بين رقة العظام والشيخوخة ([15])، فقال تعالى على لسان نبيه زكريا u:{ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيّاً} (مريم:4)
ألكسيس: هذه حقيقة علمية.. فهشاشة العظام هي أحد أمراض العظام، وهو تعبير يطلق على نقص غير طبيعي واضح في كثافة العظام (أي كمية العظم العضوية وغير العضوية)، وتغير نوعيته مع تقدم العمر، ويتألف العظم أساساً من بروتين ومعدن عظمي يحتوي على الكالسيوم.
إن العظام في الحالة الطبيعية تشبه قطعة الإسفنج المليء بالمسامات الصغيرة، وفي حالة الإصابة بهشاشة العظام يقل عدد المسامات وتكبر أحجامها، وتصبح العظام أكثر هشاشة وتفقد صلابتها، وبالتالي فإنها يمكن أن تتكسر بمنتهى السهولة.
علي: ما صلة هشاشة العظام بالسن؟
ألكسيس: إن عظامنا تتقوى في مقتبل حياتنا، عندما نكون في مرحلة النمو، أما الكثافة العظمية فتصل إلى أعلى مستوياتها عادة في أواخر سن المراهقة أو في العشرينات من العمر، بعد هذا الوقت، تبدأ العظام بالترقق تدريجيا وتصبح أكثر هشاشة طوال الجزء المتبقي من عمرنا.
علي: لهذا كله شرع الله تعالى لهذه المرحلة ما تستدعيه من العناية، وأول ذلك أن أوصى الأولاد برعاية آبائهم، قال تعالى:{ وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً} (الاسراء:23-24)
ألكسيس: إن في هذه المبادئ السامية التي جاء بها القرآن دلالة على ما يرتبط بهذه المرحلة من أحوال نفسية صعبة، تستدعي معاملة خاصة.
علي: ومن ذلك تخفيف التكليف رعاية لقدرات الشيخ، قال تعالى في الصيام:{ أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (البقرة:184)
كان ألكسيس يسمع هذه المعاني الكثيرة المفصلة التي نطق بها القرآن بحرص عظيم، وكأنه قد وجد ضالته التي كان يبحث عنها من زمن بعيد.
قال لعلي: أتدري.. إن ما أوردته من ذكر القرآن لمراحل حياة الإنسان أكد لي ما ذكرته من أن الإنسان لا يعرفه إلا ربه.. لقد فهمت الآن الآية التي قرأتها علي، والتي تقول:{ أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} (الملك:14)
وما قرأته علي من الآية الأخرى:{ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ} (لنجم: 32)
علي: ليس ذلك فقط.. فالقرآن بحر لا ساحل له.. إنه كلام الله، وكلام الله لا يمكن أن يحاط بمعانيه.. إنه يسقيك كل يوم من المعاني بقدر استعدادك.
ألكسيس: لقد اهتم ألكسيس كاريل وأنا وكثير من الفلاسفة والأطباء بالبحث عن وظائف الأعضاء.. وقد تأخر كشف الكثير منها.. فهل في قرآنكم ذكر لهذا؟
علي: أجل.. ما دام هذا مهما.. ففي القرآن ذكره.. وسأذكر لك ما يقول القرآن لتقول لي ما اكتشفتموه في معاملكم.
علي: سأقص عليك قصة ترتبط بي([16]).. لقد كنت أقرأ القرآن الكريم، وأتعجب من وصف الناصية بأنها كاذبة خاطئة في قوله تعالى:{ نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ } (العلق:16)
لقد كنت أقول لنفسي: الناصية لا تنطق، فكيف يسند إليها الكذب؟.. وهي لا تجترح الخطايا، فكيف تسند إليها الخطيئة؟
وقدر الله أن جلست يوما مع البروفيسور محمد يوسف سكر([17])، فأخذ يحدثني عن وظائف المخ، ويقول: إن وظيفة الجزء من المخ الذي يقع في ناصية الإنسان هي توجيه سلوك الإنسان، فقلت له: وجدتها!
قال لي: ماذا وجدت؟
قلت: وجدت تفسير قوله تعالى: {نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ }
فخشي أن يكون قد استعجل، فقال: دعني أراجع كتبي ومراجعي.
وبعد مراجعته لتلك الكتب والمراجع، أكد الأمر وقال: إن الإنسان إذا أراد أن يكذب، فإن القرار يتخذ في الفص الجبهي للمخ الذي هو جبهة الإنسان وناصيته، وإذا أراد الخطيئة، فإن القرار كذلك يتخذ في الناصية.
ثم عرضت الموضوع على عددٍ من العلماء المتخصصين، منهم البرفسور كيث إل مور ([18]) الذي أكد أن الناصية هي المسئولة عن المقايسات العليا وتوجيه سلوك الإنسان، وما الجوارح إلا جنود تنفذ هذه القرارات التي تتخذ في الناصية.
ألكسيس: صدق من حدثك بهذا، فبدراسة التركيب التشريحي لمنطقة أعلى الجبهة وجد أنها تتكون من أحد عظام الجمجمة المسمى العظم الجبهي، ويقوم هذا العظم بحماية أحد فصوص المخ، والمسمى الفص الأمامي أو الفص الجبهي، وهو يحتوي على عدة مراكز عصبية تختلف فيما بينها من حيث الموقع والوظيفة.
وتمثل القشرة الأمامية الجبهية الجزء الأكبر من الفص الجبهي للمخ، وترتبط وظيفة القشرة الأمامية الجبهية بتكوين شخصية الفرد، وتعتبر مركزاً علوياً من مراكز التركيز والتفكير والذاكرة، وتؤدي دوراً منتظماً لعمق إحساس الفرد بالمشاعر، ولها تأثير في تحديد المبادأة والتمييز.
وتقع القشرة مباشرة خلف الجبهة، أي أنها تختفي في عمق الناصية، وبذلك تكون القشرة الأمامية الجبهية هي الموجه لبعض تصرفات الإنسان التي تنم عن شخصيته مثل الصدق والكذب والصواب والخطأ.
وهي التي تميز بين هذه الصفات وبعضها البعض وهي التي تحث الإنسان على المبادأة سواءً بالخير أو بالشر.
علي: وعندما قدم البرفسور كيث إل مور البحث المشترك بيني وبينه حول الإعجاز العلمي في الناصية، في مؤتمر دولي([19]) لم يكتف بالحديث عن وظيفة الفص الجبهي في المخ (الناصية) عند الإنسان، بل تطرق إلى بيان وظيفة الناصية في مخاخ الحيوانات المختلفة، وقدم صورا للفصوص الجبهية في عدد من الحيوانات قائلاً: إن دراسة التشريح المقارن لمخاخ الإنسان والحيوان تدل على تشابه في وظيفة الناصية، فالناصية هي مركز القيادة والتوجيه عندالإنسان وكذلك عند كل الحيوانات ذوات المخ.
حين ذلك صحت من غير أن أشعر: نعم.. لقد وجدتها.. لقد ذكر القرآن الكريم هذا، فالله تعالى يقول:{ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ ءَاخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}(هود:56)
ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول:(اللَّهُمَّ إِنِّي عَبْدُكَ وَابْنُ عَبْدِكَ وَابْنُ أَمَتِكَ نَاصِيَتِي بِيَدِكَ) ([20])، وقوله:(أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ كُلِّ شَيْءٍ أَنْتَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهِ} ([21])، وقوله:(الْخَيْلُ معقود فِي نَوَاصِيهَا الْخَيْرُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} ([22])
فإذا جمعنا معاني هذه النصوص نستنتج أن الناصية هي مركز القيادة والتوجيه لسلوك الإنسان، وكذا سلوك الحيوان.
علي: ومن علم وظائف الأعضاء الذي يمكن استنباطه من القرآن الكريم حديثه عن الجلد([23])، فقد قال تعالى:{ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَاراً كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزاً حَكِيماً} (النساء:56)
ففي هذه الآية الكريمة يخبر الله تعالى عما يعاقب به في نار جنهم من كفر بآياته، وصد عن رسله، بأنه سيدخلهم ناراً دخولاً يحيط بجميع أجرامهم وأجزائهم، ثم أخبر عن دوام عقوبتهم ونكالهم، وأنه كلما احترقت جلودهم، بدلوا جلوداً غيرها.
ألكسيس: إن هذا لا يقوله إلا من يعلم طبيعة الجلد، ومحل الألم.. والشبكة العصبية في الجلد.. فالجلد أكبر أعضاء جسم الإنسان، من حيث المساحة، فهو يحيط بالجسم كله، فيحميه ويكسبه مظهر جميلاً، كما أنه يتلقى المؤثرات الواقعة على الجسم من خارجه، وتظهر عليه انفعالات الجسم.
ويتضح بالتشريح الدقيق للجلد وجود شبكة من الألياف العصبية، توجد بها نهايات عصبية حرة، في طبقات الجلد، وتقوم هذه النهايات باستقبال جميع المؤثرات الواقعة على الجلد من البيئة الخارجية المحيطة به، من درجة حرارة، إلى رطوبة، إلى ضغط، إلى لمس، إلى ألم وغيرها.
ومما يذكر في هذا المقام أن الطبقة السفلى (تحت الأدمة) غنية بالنهايات العصبية المسئولة عن الإحساس بالضغط لكنها ـ أي: أن الطبقة السفلى ـ فقيرة في مستقبلات الألم واللمس وتتبادل هذه النهايات العصبية (المستقبلات) الألم والشعور به، وفيها المسئول عن اللمس والاحتكاك والضغط.
ونتيجة لذلك كله، فالجلد عضو إحساس من الطراز الأول، حيث توجد به خريطة مدهشة من الأعصاب، لم يتم الكشف عنها إلا في القرنين التاسع عشر والعشرين الميلاديين، بعد تقدم وسائل البحوث الحديثة في كل من علم التشريح، وعلم الأنسجة، وغيرها من العلوم.
علي: فكيف يؤثر الحرق في الجلد، ولماذا يكون الألم شديدا؟
ألكسيس: إن المستقبلات الحسية المنتشرة في طبقات الجلد تستقبل المؤثرات البيئية الواقعة عليها طوال اليوم، ويتحول كل مؤثر سواء كان حرارة أو لمسا أو ضغطا أو كيا أوغيرها إلى نبضات كهربائية بداخل الأعصاب التي توجد هذه المستقبلات بأطرافها.
وتنتشر وتنتقل هذه النبضات على امتداد هذه الأعصاب إلى الدماغ (المخ) ـ وهو المركز الرئيسي في الجهاز العصبي للإنسان ـ فتتم ترجمة المؤثر المستقبل، وبيان نوعه، وتحديد الاستجابة المناسب تجاهه، إن كانت بالسلب أم بالإيجاب.
أما في الأولى فتنفعل عضلات الإنسان لإبعاده عن موقع المؤثر السيئ، وأما في الثانية فتنفعل عضلاته نحو هذا المؤثر وتقترب منه أكثر.
ويستطيع الإنسان أن يشعر بالمؤثر الواقع على الجلد طالما يقع هذا المؤثر داخل حدود معينة من الشدة، فإذا انخفضت شدته عن الحد الأدنى لم يشعر به الجلد، وإذا ارتفعت شدته عن الحد الأقصى شعر الجلد بألم، وقد ترتفع شدة المؤثر بدرجات كبيرة فتكون استجابة الجلد عنيفة وتؤدي إلى حدوث صدمة أو هبوط في الدورة الدموية وفقدان للوعي.
سكت ألكسيس قليلا، ثم قال: إن القرآن يشير في هذه الآية إلى حقيقة علمية لم يتوصل العلماء إلى معرفتها إلا حديثاً، بعدما تقدمت علوم التشريح والأنسجة، واخترعت أجهزة التكبير والقياس، فالآية تشير إلى مراكز الإحساس في الجلد، وتشير إلى وجود البروتينات التي تتجلط بحرارة النار الشديدة.
علي: لقد ورد نص آخر في القرآن الكريم قريب من هذا جاء فيه:{ هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارٍ يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُؤُوسِهِمُ الْحَمِيمُ يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ} (الحج:19-20)
ومعنى (يُصهَر)، أي: يذاب، والمعنى أن الحميم (وهو الماء الحار العنيف الحرارة) تنزل فوق رؤوسهم فيخترقها ويسقط في أجوافهم فيهلك أمعاءهم وأحشاءهم كما يتلف جلودهم.
والحميم ـ على النحو المذكور في هذه الآية ـ يذيب جميع المحتوى الداخلي للأجسام، وهذا أشد مما ذكر في آية قرآنية أخرى يقول الله تعالى فيها:{ وَسُقُوا مَاء حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءهُمْ}(محمد:15)
ألكسيس: صدق القرآن في هذا، وسبق فلا بد من تقطيع الأمعاء أو تثقيبها لتتألم، لأن الحميم لا يؤلمها إلا إذا ثقبت، فيخرج منها ويؤثر في مراكز الإحساس بالحرارة الزائدة، كما أن الحميم لا يؤلم إلا بوجود جلد، لأن فيه توجد مراكز ومستقبلات الإحساس بالحرارة الشديدة، ولذلك جاءت من وجهة النظر العلمية لفظة (والجلود) عُقيب (بطونهم)
علي: فهل هناك علاقة بين حروق الجلود وتلف الأحشاء، فقد قال تعالى في الأية السابقة:{ هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارٍ يُصَبُّ}(الحج:19)
ألكسيس: أجل.. فمع صب الحميم فوق الرؤوس وإغراقه لجلد الجسم العام، وإتلافه للجلد، فإن هذا التلف الذي هو في شكل حروق مدمرة تؤدي إلى حدوث اضطرابات وظيفية عنيفة في الجهاز الهضمي، يتبعها حدوث شلل للأمعاء وتمدد حاد لجدار المعدة، ثم ظهور تقرحات عنيفة فيها وفي الإثني عشر، ثم حدوث ثقوب في القناة الهضمية ونزيف داخلي كالذي يحدث عند ابتلاع مادة كاوية، وكذلك حدوث انتفاخ ضبابي للكبد نتيجة تراكم المواد السامة المتخلفة عن احتراق الأنسجة، وكذلك نقص الأكسجين والدم الواصلين إليه.
علي: فقد ذكر القرآن الكريم تأثير إحراق الجلود في التنفس، فقال تعالى:{ فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُواْ فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ}(هود:106)
ألكسيس: هذا ما توصل إليه العلم الحديث، فلقد اكتشف العلماء تغيرات وظيفية (فسيولوجية) تطرأ على الجهاز التنفسي نتيجة لحروق الجلد العنيفة، مما يؤدي إلى اختلاف المعادلة الوظيفية التي تحكم نسبة التهوية التروية.
علي: وقد ذكر الله تعالى تأثير احتراق الجلد في القلب، فقال تعالى:{ كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (4) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ (5) نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ (6) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (7) إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (8) فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ (9)}(الهمزة)
ألكسيس: لقد اكتشف العلماء حدوث تغيرات كبيرة في الفؤاد (القلب) والجهاز الدوراني بجسم المحروق، منها: هبوط انقباضية الفؤاد، هبوط في جانبه الأيسر، أو في جانبه الأيمن، أو في كليهما معاً، كما تحدث تغيرات ضارة جداً في سوائل الدم وخلاياه.
علي: ومن علم وظائف الأعضاء الذي يمكن استنباطه من القرآن الكريم حديثه عن الرحم، وتهيئته للوظيفة الخطيرة التي أنيطت به، فقد قال تعالى:{ أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (20) فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (21) إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ (22) فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ (23)}(المرسلات)، ومثله قوله تعالى:{ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ} (المؤمنون:13)
ألكسيس: لقد صدق القرآن في هذا، وسبق، فهذه الآيات تشير إلى حقيقتين علميتين ثابتتين ليس في علم الأجنة فقط، وإنما في علم التشريح والغريزة أيضاً ([24]).
أما الحقيقة الأولى، فهي وصف الآيات للرحم بالقرار المكين.
وأما الحقيقة الثانية، فهي إشارة إلى عمر الحمل الثابت تقريباً، أو ما أسماه القرآن: القدر المعلوم، وكأني بالقرآن يدعوكم للبحث والتأمل لما تحتويان من الأسرار المرتبطة بذلك القدر المعلوم.
علي: من الوظائف التي ذكرها القرآن الكريم للجلد هي كونه مرآة للنفسة([25])، فالله تعالى يقول:{ وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ} (النحل:58)، وقال تعالى:{ وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ} (الزخرف:17)، وقال تعالى:{ فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ} (الملك:27)، وقال تعالى:{ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ} (الحج: 72)
ألكسيس: صدق القرآن في هذا.. فهذه حقيقة علمية لا شك فيها، فقد قررت الأبحاث الطبية والسيكولوجية أن الوجه حقاً مرآة للنفس، يقول الدكتور جايلورد هاروز:(إن وجهك هو رسولك إلى العالم، ومنه يمكن أن يتعرف الناس على حالك بل يمكنك إذا نظرت إلى المرآة أن تعرف حالتك تحديداً، وأن تسأل وجهك عما يحاج إليه.. فتلك الحلقات السوداء التي تبدوا تحت العينين تدل دلالة واضحة على احتياج الإنسان للتغذية وتنقية الجو الذي يعيش فيه فهو يفتقر على الغذاء والهواء.. وأما هذه التجاعيد التي تظهر بوضوح مدى ما أصاب الإنسان من سنين فهي علامات على كيف تسير حياة صاحب الوجه)
والطب الحديث يقرر أن بالوجه خمساً وخمسين عضلة نستخدمها دون إرادة أو وعي في التعبير عن العواطف والانفعالات، وتحيط بتلك العضلات أعصاب تصلها بالمخ، وعن طريق المخ تتصل تلك العضلات بسائر أعضاء الجسم، وكذلك ينعكس على الوجه كل ما يختلج في صدرك أو تشعر به في أي جزء من جسمك.. فالألم يظهر واضحاً أول ما يظهر على الوجه.. والراحة والسعادة..مكان وضوحها وظهورها هو الوجه.. وكل عادة حسنت أو ساءت تخفر في الوجه أثراً عميقاً، فلذلك فإن الوجه هو الجزء الوحيد من جسم الإنسان الذي يفضح صاحبه وينبيء عن حاله ولا يوجد عضو آخر يمكن به قراءة ما عليه الإنسان.
بل إن العلماء يقولون بإمكان قراءة طبع الشخص وخلقه في تجاعيد وجهه.. فأهل العناد وقوة الإرادة الذين لا يتراجعون عن أهدافهم من عادتهم زم الشفاه فيؤدي ذلك إلى انطباع تلك الصورة حتى حين لا يضمرون عناداً..أما التجاعيد الباكرة حول العينين فترجع إلى كثرة الضحك والابتسام وأما العميقة فيما بين العينين فتدل على العبوس والتشاؤم..و الخطباء ومن على شاكلتهم من محامين وممثلين تظهر في وسط خدودهم خطوط عميقة تصل إلى الذقن، والكتبة على الآلة والخياطون ومن يضطرهم علمهم إلى طأطأة الرأس تظهر التجاعيد في أعناقهم وتتكون الزيادات تحت الذقن.
وقد قال ألكسيس كاريل:(إن شكل الوجه يتوقف على الحالة التي تكون عليها العضلات المنبسطة التي تتحرك داخل الدهن تحت الجلد وتتوقف حالة هذه العضلات على حالة الأفكار)
ويعبر الوجه أيضاً عن أشياء أعمق من نواحي نشاط الشعور فيمكن للمرء أن يقرأ فيه ـ فضلاً عن رذائل الشخص وذكائه ورغبته وعواطفه وأكثر عاداته تخفياً.
علي: ومما ورد في النصوص ذكره، مع أنه لا يزال لغزا عظيما، هو عجب الذنب([26])، فقد ذكره صلى الله عليه وآله وسلم، فقال:(كل ابن آدم يأكله التراب إلا عجب الذنب منه خلق وفيه يركب) ([27])
وقال صلى الله عليه وآله وسلم، وهو يذكر أحداث البعث:(ثم ينزل من السماء ماء فينبتون كما تنبت البقل وليس في الإنسان شيء إلا بلى إلا عظم واحد وهو عجب الذنب) ([28])
وقال صلى الله عليه وآله وسلم:(وإن في الإنسان عظماً لا تأكله الأرض أبداً فيه يركب يوم القيامة) قالوا: أي عظم يا رسول الله؟ قال:(عجب الذنب) ([29])
فهذه الأحاديث تنص على أن الإنسان يخلق من عجب الذنب، وأن عجب الذنب لا يبلى، وأن فيه يركب الخلق يوم القيامة.
وعجب الذنب ـ كما ينص الشراح ـ هو رأس العصعص، وهو مكان رأس الذنب من ذوات الأربع.
ألكسيس: إن ذكر هذا يحتاج علوما كثيرة.. إن هذا إعجاز عظيم.. ولتفهمه، ينبغي أن تفهم أولا أهمية الجزء الذيلي Caudal part من جسم الإنسان.
ولنبدأ بما بدأ به الحديث (منه خلق)..
فبعد أن تنقسم البيضة المخصبة عدة انقسامات تترتب خلايا إلى القرص الأولي المكون من طبقتين من الخلايا: خارجية وداخلية، ثم يستطيل هذا القرص وتستدق نهايته الذيلية مكوناً شكلاً كمثرياً ليبدأ الحدث الأهم في الأسبوع الثالث من حياة الجنين وهو ظهور أخدود طولي في الجزء الذيلي من القرص الجنيني في اليوم الخامس عشر، والذي يعرف باسم الشريط الأولي، والذي تكمن أهميته في كونه الموزع الرئيسي للخلايا المكونة للأنسجة الجنينية الثلاثة حيث تبدأ خلايا بالانفصال عنده هذا الشريط لتتخذ مكاناً لها بين الـ Ectoderm & Endoderm مكونة الطبقة الثالثة الـ Mesoderm.
وهذه الطبقات الثلاث التي تأخذ مواقعها وترتيبها نتيجة النشاط الغزير للشريط الأولي ـ هي الأساس لجميع الأنسجة الجسمية المنوعة.
وهكذا ندرك أهمية الشريط الأولي، إذا علمنا أن لجنة دارنك البريطانية قد اعتبرت الشريط الأولي العلامة الفاصلة للوقت الذي يسمح فيه للأطباء والباحثين بإجراء التجارب على الأجنة المبكرة للإنسان، حيث سمحت اللجنة بإجراء هذه التجارب قبل ظهور الشريط الأولي ومنعته منعاً باتاً بعد ظهوره على اعتبار أن ظهور هذا الشريط يعقبه البدايات الأولى للجهاز العصبي.
وينتهي عمر الشريط الأولي Primitive streak في نهاية الأسبوع الرابع، وإذا حدث خلل ما وبقي هذا الشريط حتى الولادة، فإنه يؤدي إلى ظهور أورام في المنطقة العصعصية ـ تحتوي على أنسجة متنوعة مشتقة من الطبقات الجنينية الأصلية الثلاث (مثل الشعر، الإنسان، عظام، أوعية دموية، وغيرها)، لأنه يحتوي على الخلايا الأم للكائن الحي وهذه المعلومة الطبية الهامة (في علم الأنسجة والأورام) تثبت أن عجب الذنب (عظم العصعص في نهاية العمود الفقري) يحتوي على الخلايا الأم الرئيسة The Stem cells التي تتضمن كافة المعلومات الوراثية عن ذلك الكائن (كالإنسان مثلاً) والتي جاءت وكما ذكرنا سابقاً من ضمور الشريط الأولي في الأسابيع الأولى لخلق الجنين وتمركزها في نهايته والذي سيمثل في المستقبل عظم العصعص (عجب الذنب) والذي يمكن تشبيهه كالصندوق الأسود في الطائرة الذي يحوي كافة المعلومات عنها.
وهذه المعلومة تتلخص بأن جميع الأورام (الحميدة والسرطانية) التي تنشأ من نسيج معين كالعظم أو العضلة أو الغدد اللمفاوية أو الأمعاء تتكون عادة من نفس خلايا ذلك النسيج الذي نشأت منه، فالورم العظمي مثلاً يتكون من خلايا العظم والأورام اللمفاوية من خلايا الغدد اللمفاوية، وهكذا ولكن الورم الذي ينشأ من عظم العصعص (عجب الذنب) يتكون عادة من خليط متنوع من جميع أنسجة وخلايا الجسم ويسمى The Teratoma-Toti potent cells(الورم المتعدد الخلايا) فهو يحتوي على خلايا عظمية ولمفاوية وعضلية وغيرها، وحتى الشعر مما يثبت أن خلايا عجب الذنب تحتوي في أنويتها على الخلايا الرئيسية التي تتألف منها جميع الأنسجة في الجسم.
بالإضافة إلى هذا كله، فإن فكرة إعادة خلق كائن حي من جزء منه كانت غريبة إلى وقت قريب، لكن نجاح استنساخ (استنسال) بعض الحيوانات والأبحاث الجارية حول الاستنساخ البشري ـ الذي يعتبر العلماء أن مسألة نجاحه اليوم باتت مسألة وقت لا غيرها ـ قد أزالت العجب عن هذه الفكرة ـ فكرة إعادة خلق كائن حي من جزء منه وهو نواة خلية واحدة فقط تحمل كافة المورثات (الجينات).
***
ما وصل الحديث بنا إلى هذا الموضع حتى ارتفع آذان المغرب، فبدا سرور عظيم على وجه علي، وقال ـ وكأنه يخاطب قريبا لا نراه ـ: لبيك رب.. فما أعظم فضلك على عبادك.. لقد خلقتنا وسويتنا وكرمتنا ومننت علينا بأن نعبدك ونعرفك ونفرح بك.. يا رب فكما رزقتني الاتصال بك، وكما ملأت قلبي بمحبتك، فارزق عبيدك هذا وإخوانه ما رزقتني..
قال ذلك بروحانية عظيمة.. ثم أخرج مصحفا من محفظته، وسلمه لألكسيس، وقال: هذا المصحف كلام الله.. فاقرأه ليعرفك بالإنسان المعلوم..
لقد كان ألكسيس كاريل هو الذي عرفك بجهلك بنفسك، ليدلك على ربك.. فتحين هذه الفرصة التي فاتت صديقك.
أخذ ألكسيس المصحف، وقال: صدقت.. ولن أفرط فيه ما حييت.
ثم قال: شكرا لك على أن أتحت لنا هذه الجلسة، ولو أن ألكسيس كان بدلي هنا لربما كان قد ضمن كتابه الكثير من الحقائق التي ذكرتها.. أو ذكرها كتابك ونبيك.
علي: هو ليس كتابي ولا نبيي.. هو كتاب الله الذي أسمع به خلقه جميعا.. وهو محمد الذي هو رحمة للعالمين.. ولا شك أنك من هؤلاء العالمين الذين تمتد رحمته إليهم..
أحسست بأنوار عظيمة بدأت تنزل على صاحبي
ألكسيس عالم الإنسان، أو الباحث عن الإنسان.. وبمثله شعرت بأن بصيصا من النور قد
نزل علي.. اهتديت به بعد ذلك إلى شمس محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
([1]) ما نذكره في هذا المطلب من كلام ألكسيس من (الإنسان ذلك المجهول)، وهو ممزوج ببعض التوضيحات والتصرفات.
([2]) هذه الشبهة ترد في المواقع كثيرا.. وهنا يذكر الرد عليها، انظر: شبهات المشككين.
([3]) مع الطب في القرآن الكريم تأليف الدكتور عبد الحميد دياب الدكتور أحمد قرقوز مؤسسة علوم القرآن.
([4]) انظر هذه التفاصيل وغيرها في كتابي الشيخ عبد المجيد الزنداني (بينات علمية) و(علم الأجنة في ضوء القرآن والسنة).. وغيرها من الكتب في هذا الباب.
([5]) رواه مسلم.
([6]) رواه أحمد.
([7]) رواه مسلم.
([8]) رواه مسلم.
([9])انظر: كتاب معجزة القرآن الكريم تأليف هارون يحيى.
([10]) رواه مسلم.
([11]) رواه مسلم.
([12])انظر: كتاب خلق الإنسان بين الطب والقرآن، الدكتور محمد على البار.
([13]) انظر التشريعات الكثيرة المرتبطة بهذا في سلسلة (فقه الأسرة برؤية مقاصدية) للمؤلف، وخاصة في الجزء المعنون بـ (حقوق الأولاد النفسية والصحية)
([14])انظر: الشيخوخة بين القرآن والسنة والعلم الحديث، د / أحمد شوقي إبراهيم، موقع موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة.
([15])انظر: هشاشة العظام حقائق علمية في إشارات قرآنية، الدكتورة نها أبو كريشة، موقع موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة.
([16])انظر: البينة العلمية، وانظر: كتاب (الناصية) إصدار هيئة الإعجاز العلمي.
([17])البرفسور محمد يوسف سكر: عميد الدراسات العليا بكلية الطب في جامعة الملك عبدالعزيز بجدة في حينها وله كتاب باللغة الإنجليزية في وظائف الأعضاء يعد مرجعاً في الكليات الأجنبية.
([18])كيث إل مور من كبار الأطباء في العالم، تدرس بعض كتبه في كليات الطب بعدة لغات وله مرجع كبير في تشريح المخ. وقد أشترك في تقديم عدة بحوث في الإعجاز الطبي في مؤتمرات الإعجاز العلمي العالمية.
([19]) مؤتمر الإعجاز الطبي في القرآن والسنة في القاهرة.
([20]) رواه أحمد.
([21]) رواه مسلم.
([22]) رواه البخاري.
([23])انظر: إعجازات قرآنية في وظائف جلدية، الدكتور كارم غنيم، رئيس جمعية الإعجاز العلمي للقرآن في القاهرة، موقع موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة.
([24])انظر: مع الطب في القرآن الكريم، الدكتور عبد الحميد دياب، والدكتور أحمد قرقوز، مؤسسة علوم القرآن دمشق.
([25])الوجه مرآة النفس، عبد الرزاق نوفل، موقع موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة.
([26])عجـب الذنـب.. مركز التخليق وإعادة التركيب، الدكتور محمد جميل الحبال، موقع موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة.
([27]) رواه مسلم.
([28]) رواه البخاري ومسلم ومالك في الموطأ وأبو داود والنسائي.
([29]) رواه البخاري وغيره.