سابعا ـ الأحبار

فتحت دفتر الغريب على فصله السابع، فوجدت عنوانه (الأحبار)، فقلت: أليس الأحبار هم رجال الدين؟
قال: أجل.. هم رجال الدين من اليهود والمسيحيين.. وقد يقصد به غيرهم.
قلت: من الصعب أن يسلم مثل هؤلاء الرجال لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم.
قال: أجل.. فما هم فيه من السلطان والجاه والتعصب يقف حائلا بينهم وبين الإسلام.. ولكن مع ذلك هناك من هؤلاء من تغلب على هواه، وطلق جاهه، وجميع الدنيا العريضة التي أتيحت له، ليتمتع بجمال شمس محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
قلت: لقد ذكر الله تعالى هؤلاء، وأثنى عليهم ثناء حسنا في القرآن الكريم، فقال تعالى:{ لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آَمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (82) وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آَمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83) وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (84) فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (85)} (المائدة)
وقال فيهم:{ وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنزلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنزلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلا أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِِ } (آل عمران:199)
وقال فيهم:{ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ } (القصص:52-55)
قال: ولهذا تراني اهتممت في هذا الدفتر بالبحث عن هؤلاء.. فهم ـ بالنسبة لنا معشر رجال الدين ـ من أعظم الشهود على صدق النبي صلى الله عليه وآله وسلم..
قلت: أراك وضعت أسماء كثيرة من غير عصرنا.. بل هي من عصر النبوة، فكيف التقيت بها؟
قال: لقد التقيت بها في أسانيد الثقاة.. فهذه الجموع الكثيرة التي امتلأت قلوبها تعظيما لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وحيا للإسلام يستحيل أن تجتمع على الكذب.
قلت: فهل ترى نبدأ بهؤلاء.. أم نعرج إلى المعاصرين؟
قال: ليس من الأدب أن نتخطى رقاب الصديقين.. فلنبدأ بهؤلاء.
كان من أول الأسماء التي وصعت في هذا الفصل اسم (سلمان الفارسي)، فسألت الغريب عن سر اختياره لسلمان، فقال: سلمان ليس فردا.. بل هو معنى.. ومعنى عظيم يشير إلى الصادقين من رجال الدين.
قلت: ما تعني؟
قال: لقد أمضى سلمان شطرا من عمره ليس له من هم غير البحث عن الحقيقة.. فلذلك صار رمزا للباحث عن الحقيقة.
قلت: صدقت في هذا.. وقد ألف بعضهم رواية بهذا الاسم، وكان موضوعها سلمان.
قال: لقد كان أول سلمان أول من وضع رواية الباحث عن الحقيقة.. أو مذكرات الباحث عن الحقيقة.. فهلم نسمع له..
قلت: وكيف نسمع له، وقد رمم.
قال: آذان الروح يمكن أن تسمع كل شيء..
ثم التفت إلي، وقال: حاول أن تتخلص من جلباب جسدك.. ولترحل إلى ذلك الزمن الجميل الذي جلس فيه سلمان يحدث عن نفسه.
أصابني نوع من الغيبة اللذيذة، رحت خلالها أسمع الغريب، وهو يحدثني بلسان سلمان، وكأني كنت جالسا في تلك اللحظة مع سلمان نفسه.
قال سلمان: كنت رجلا من أهل فارس من أصبهان، من جي، ابن رجل من دهاقينها، وكان أبي دهقان أرضه، وكنت أحب الخلق إليه، فأجلسني في البيت كالجواري، فاجتهدت في المجوسية ـ فكنت في النار التي توقد فلا تخبو، وكان أبي صاحب ضيعة، وكان له بناء يعالجه في داره،، فقال لي يوما: يا بني، قد شغلني ما ترى فانطلق الى الضيعة، ولا تحتبس فتشغلني عن كل ضيعة بهمي بك، فخرجت لذلك، فمررت بكنيسة النصارى وهم يصلون، فملت إليهم وأعجبني أمرهم، وقلت: هذا والله خير من ديننا، فأقمت عندهم حتى غابت الشمس، لا أنا أتيت الضيعة، ولا رجعت إليه، فاستبطأني وبعث رسلا في طلبي، وقد قلت للنصارى حين أعجبني أمرهم: أين أصل هذا الدين؟ قالوا: بالشام.
فرجعت الى والدي، فقال: يا بني، قد بعثت اليك رسلا، فقلت: مررت بقوم يصلون في كنيسة، فأعجبني ما رأيت من أمرهم، وعلمت أن دينهم خير من ديننا.
فقال: يا بني، دينك ودين آبائك خير من دينهم، فقلت: كلا والله.
فخافني وقيدني.
فبعثت الى النصارى وأعلمتهم ما وافقني من أمرهم، وسألتهم إعلامي من يريد الشام، ففعلوا فألقيت الحديد من رجلي، وخرجت معهم، حتى أتيت الشام، فسألتهم عن عالمهم، فقالوا: الأسقف، فأتيته، فأخبرته، وقلت، أكون معك أخدمك وأصلي معك؟قال: أقم.
فمكثت مع رجل سوء في دينه، كان يأمرهم بالصدقة، فإذا أعطوه شيئا أمسكه لنفسه، حتى جمع سبع قلال مملوءة ذهبا وورقا، فتوفي، فأخبرتهم بخبره، فزبروني، فدللتهم على ماله فصلبوه، ولم يغيبوه ورجموه، وأحلوا مكانه رجلا فاضلا في دينه زهد ورغبة في الاخرة وصلاحا، فألقى الله حبه في قلبي، حتى حضرته الوفاة، فقلت: أوصى، فذكر رجلا بالموصل، وكنا على أمر واحد حتى هلك.
فأتيت الموصل، فلقيت الرجل، فأخبرته بخبري، وأن فلانا أمرني باتيانك، فقال: أقم، فوجدته على سبيله وأمره حتى حضرته الوفاة، فقلت له: أوصي، قال: ما أعرف أحدا على ما نحن عليه الا رجلا بعمورية.
فأتيته بعمورية، فأخبرته بخبري، فأمرني بالمقام وثاب لي شيئا، واتخذت غنيمة وبقيرات، فحضرته الوفاة، فقلت: إلى من توصي بي؟ فقال: لا أعلم أحدا اليوم على مثل ما كنا عليه، ولكن قد أظلك نبي يبعث بدين إبراهيم الحنيفية، مهاجره بأرض ذات نخل، وبه آيات وعلامات لا تخفى، بين منكبيه خاتم النبوة، يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة، فإن استطعت فتخلص إليه، فتوفي.
فمر بي ركب من العرب، من كلب، فقلت: أصحبكم وأعطيكم بقراتي وغنمي هذه، وتحملوني الى بلادكم؟فحملوني الى وادي القري، فباعوني من رجل من اليهود، فرأيت النخل، فعلمت أنه البلد الذي وصف لي، فأقمت عند الذي اشتراني، وقدم عليه رجل من بني قريظة فاشتراني منه، وقدم بي المدينة، فعرفتها بصفتها، فأقمت معه أعمل في نخله، وبعث الله نبيه صلى الله عليه وآله وسلم، وغفلت عن ذلك حتى قدم المدينة، فنزل في بني عمرو بن عوف، فاني لفي رأس نخلة إذ أقبل ابن عمر لصاحبي، فقال: أي فلان، قاتل الله بني قيلة، مررت بهم آنفا وهم مجتمعون على رجل قدم عليهم من مكة، يزعم أنه نبي، فوالذي ما هو الا أن سمعتها، فأخذني القر ورجفت بي النخلة، حتى كدت أن أسقط، ونزلت سريعا، فقلت: ما هذا الخبر؟فلكمني صاحبي لكمة، وقال: وما أنت وذاك؟ أقبل على شأنك، فأقبلت على عملي حتى أمسيت، فجمعت شيئا فأتيته به، وهو بقباء عند أصحابه، فقلت: اجتمع عندي، أردت أن أتصدق به، فبلغني انك رجل صالح، ومعك رجال من أصحابك ذوو حاجة، فرأيتكم أحق به، فوضعته بين يديه، فكف يديه، وقال لأصحابه: كلوا.
فأكلوا، فقلت: هذه واحدة، ورجعت.
وتحول الى المدينة، فجمعت شيئا فأتيته به، فقلت: أحببت كرامتك فأهديت لك هدية، وليست بصدقة، فمد يده فأكل، وأكل اصحابه، فقلت: هاتان اثنتان، ورجعت.
فأتيته، وقد تبع جنازة في بقيع الغرقد، وحوله أصحابه، فسلمت، وتحولت أنظر الى الخاتم في ظهره، فعلم ما أردت، فألقى رداءه، فرأيت الخاتم، فقبلته، وبكيت، فأجلسني بين يديه، فحدثته بشأني كله كما حدثتك يا ابن عباس، فأعجبه ذلك، وأحب أن يسمعه أصحابه، ففاتني معه بدر وأحد بالرق، فقال لي: كاتب يا سلمان عن نفسك، فلم أزل بصاحبي حتى كاتبته، على أن أغرس له ثلثمائة ودية وعلى أربعين أوقية من ذهب، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (أعينوا أخاكم بالنخل)، فأعانوني بالخمس والعشر، حتى اجتمع لي، فقال لي: (فقر لها ولا تضع منها شيئا حتى أضعه بيدي)، ففعلت، فأعانني أصحابي حتى فرغت، فأتيته، فكنت آتيه بالنخلة فيضعها، ويسوي عليها ترابا، فانصرف، والذي بعثه بالحق فما ماتت منها واحدة، وبقي الذهب، فبينما هو قاعد إذ أتاه رجل من اصحابه بمثل البيضة، من ذهب أصابه من بعض المعادن، فقال: (ادع سلمان المسكين الفارسي المكاتب)، فقال: (أد هذه) فقلت: يا رسول الله، واين تقع هذه مما علي؟وروى أبو الطفيل، عن سلمان، قال: أعانني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ببيضة من ذهب، فلو وزنت بأحد لكانت أثقل منه([1]).
من الأسماء التي رأيتها في دفتر الغريب في هذا الفصل اسم (عبد الله بن سلام)، فسألت الغريب عنه، فقال: هذا الرجل من كبار أحبار اليهود، وهو من ذرية يوسف الصديق عليه السلام، وكان اسمه الحصين، فغيره النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وكان عالم أهل الكتاب، وكان إسلامه في اليوم الذي دخل فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دار أبي أيوب أول ما قدم([2]).
وقد حدث عن نفسه بخبر إسلامه، فقال: لما سمعت برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعرفت صفته واسمه وهيئته وزمانه الذي كنا نتوكف له([3])، فكنت مسرا بذلك صامتا عليه حتى قدم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المدينة فلما قدم نزل بقباء في بني عمرو بن عوف، فأقبل رجل حتى أخبر بقدومه، وأنا في رأس نخلة لي أعمل فيها، وعمتي خالدة بنت الحارث تحتي جالسة.
فلما سمعت الخبر بقدوم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كبرت، فقالت عمتي حين سمعت تكبيري: (لو كنت سمعت بموسى بن عمران ما زدت )، فقلت لها: (أي عمة وهو، الله أخو موسى بن عمران، وعلى دينه، بعث بما بعث به)
ثم قالت: ( يا ابن أخي، أهو النبي الذي كنا نخبر أنه يبعث مع نفس الساعة؟)، فقلت لها: (نعم)، قالت: (قذاك إذا)
قال: فخرجت إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلما تبينت وجهه عرفت أنه ليس بوجه كذاب، فكان أول شئ سمعته يقول: (افشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام)([4])
وقد أخبر أنس عن السر الذي جعله يقبل على الإسلام، فقال: سمع عبد الله بن سلام بقدوم النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: إني سألك عن خلال لا يعملهن إلا نبي: ما أول أشراط الساعة، وما أول طعام أهل الجنة؟ وما بال الولد ينزع إلى أبيه أو إلى أمه؟
فقال صلى الله عليه وآله وسلم: أخبرني بهن جبريل آنفا.
فقال عبد الله: جبريل ؟قال صلى الله عليه وآله وسلم: نعم، فقال عبد الله: عدو اليهود من الملائكة، ثم قرأ أنس:{ قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدىً وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ) (البقرة:97)
قال صلى الله عليه وآله وسلم: أما أول أشراط الساعة: فنار تخرج على الناس من المشرق (تسوقهم) إلى المغرب، وأما أول طعام يأكله أهل الجنة: فزيادة كبد حوت، وأما الولد: فإذا سبق ماء الرجل ماء المرأة نزع الولد وإذا سبق ماء المرأة ماء الرجل نزعت الولد.
فقال عبد الله: أشهد ألا إله إلا الله وأنك رسول الله.
ثم رجع إلى أهل بيته فأمرهم فأسلموا وكتم إسلامه.
ثم خرج إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا رسول الله، إن اليهود قد علمت أني سيدهم وابن سيدهم، وأعلمهم وابن أعلمهم، وأنهم قوم بهت، وأنهم إن يعلموا بإسلامي قبل أن تسألهم عني بهتوني، وقالوا في ما ليس في، فأحب أن تدخلني بعض بيوتك.
فأدخله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعض بيوته، وأرسل إلى اليهود فدخلوا عليه، فقال: (يا معشر يهود يا ويلكم اتقوا الله، فوالله الذي لا إله إلا هو إنكم لتعلمون أني رسول الله قد جئتكم بالحق فأسلموا)
فقالوا: ما نعلمه.
فقال: أي رجل فيكم الحصين بن سلام؟قالوا: خيرنا وابن خيرنا وسيدنا وابن سيدنا وأعلمنا وابن أعلمنا.
فقال: أرأيتم إن أسلم.
قالوا: أعاذه الله من ذلك.
فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (يا ابن سلام اخرج إليهم)
فخرج عبد الله فقال: (أشهد ألا إله إلا الله وأشهد أن محمد رسول الله، يا معشر يهود اتقوا الله واقبلوا ما جاءكم به، فوالله إنكم لتعلمون أنه لرسول الله حقا، تجدونه مكتوبا عندكم في التوراة: اسمه وصفته، فإني أشهد أنه رسول الله وأؤمن به وأصدقه وأعرفه)
قالوا: كذبت أنت شرنا وابن شرنا، وانتقصوه.
قال: هذا الذي كنت أخاف يا رسول الله، ألم أخبرك أنهم قوم بهت، أهل غدر وكذب وفجور؟
قال عبد الله: وأظهرت إسلامي وإسلام أهل بيتي، وأسلمت عمتي خالدة بنت الحارث وحسن إسلامها([5]).
***
قلبت بعض الصفحات، بحثا عن أسماء لأحبار من عصرنا، أو قريبين من عصرنا.
وكان من الأسماء التي وجدتها (القس إسحق هلال مسيحه)([6])، فسألت الغريب عنه، فقال: لقد تشرفت بالالتقاء به بعد ما سمعت بإسلامه في إطار الوظيفة التي أخبرتك عنها، وكان من تصريحاته لي قوله: بدأت علاقتي مع بعض المسلمين سراً، حيث بدأت أدرس وأقرأ عن الإسلام، وقد طُلب منّي إعداد رسالة الماجستير حول مقارنة الأديان، وأشرف على الرسالة أسقف البحث العلمي في مصر سنة 1975، واستغرقت في إعدادها أربع سنوات، وكان المشرف يعترض على ما جاء في الرسالة حول صدق نبوة الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأميته وتبشير المسيح بمجيئه.
وأخيراً تمّت مناقشة الرّسالة في الكنيسة الإنكليكيّة بالقاهرة، واستغرقت المناقشة تسع ساعات وتركزت حول قضيّة النّبوّة والنّبي صلى الله عليه وآله وسلم علماً بأن الآيات صريحة في الإشارة إلى نبوّته وختم النّبوّة به.
قلت: فهل منحوك هذه الرسالة مع هذا؟
قال: نعم منحوني الرسالة بيد، وأخذوها مني باليد الأخرى.. لقد صدر القرار بسحب الرسالة منّي وعدم الاعتراف بها.
قلت: فماذا فعلت؟
قال: أخذت أفكر في أمر الإسلام تفكيراً عميقاً حتّى تكون هدايتي عن يقين تام، ولكن لم أكن أستطيع الحصول على الكتب الإسلامية، فقد شدّد (.. !؟) الحراسة عليّ وعلى مكتبتي الخاصّة.
قلت: فكيف وصلت إلى أشعة محمد مع هذا التضييق؟
ابتسم، وقال: أصدقك القول.. إنهم كلما ضيقوا على الإسلام، كلما اتسع وازداد انتشاره..
في يوم من أيام عام 1978م كنت ذاهباً لإحياء مولد العذراء بالإسكندريّة، وأثناء ركوبي في الحافلة بملابسي الكهنوتية، وبصليب يزن ربع كيلو من الذهب الخالص وعصاي الكرير صعد صبيّ صغير يبيع كتيبات صغيرة، فوزعها على كلّ الركّاب ماعدا أنا.
عندما انتهى من التوزيع والجمع، فباع ما باع وجمع الباقي، قلت له: (يا بنيّ لماذا أعطيت الجميع بالحافلة إلا أنا)، فقال: (لا يا أبونا أنت قسيس)
وهنا شعرت، وكأنّني لست أهلاً لحمل هذه الكتيّبات مع صغر حجمها.. فألححت عليه ليبيعني منها، فقال: (لا هذه كتب إسلاميّة) ثم نزل.
وبنزول هذا الصّبي من الحافلة شعرت وكأنّني جوعان، وفي هذه الكتب شبعي، وكأنّني عطشان وفيها شربي.. نزلت خلفه، فجرى خائفاً منّي، فنسيت من أنا وجريت وراءه حتّى حصلت على كتابين.
عندما وصلت إلى الكنيسة الكبرى بالعبّاسيّة (الكاتدرائيّة المرقسيّة) ودخلت إلى غرفة النّوم المخصّصة بالمدعوّين رسميّاً كنت مرهقاً من السفر، ولكن عندما أخرجت أحد الكتابين، وهو (جزء عم) وفتحته وقع بصري على سورة الإخلاص، فأيقظت عقلي وهزت كياني..
لقد بدأت أرددها حتى حفظتها، وكنت أجد في قراءتها راحة نفسية واطمئناناً قلبياً وسعادة روحية، وبينا أنا كذلك إذ دخل عليّ أحد القساوسة وناداني: (أبونا إسحاق)، فخرجت وأنا أصيح في وجهه:{ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } دون شعور منّي.
بعد ذلك ذهبت إلى الإسكندريّة لإحياء أسبوع مولد العذراء يوم الأحد.. وأثناء صلاة القداس المعتاد، وفي فترة الراحة ذهبت إلى كرسي الاعتراف لكي أسمع اعترافات الشعب الجاهل الذي يؤمن بأن القسيس بيده غفران الخطايا.
ومن ضمن من جاء امرأة تعض أصابع الندم، وهي تقول: (إني انحرفت ثلاث مرات، وأنا أمام قداستك الآن أعترف لك رجاء أن تغفر لي، وأعاهدك ألا أعود لذلك أبداً).. ومن العادة المتبعة أن يقوم الكاهن برفع الصليب في وجه المعترف ويغفر له خطاياه.
وما كدت أرفع الصليب لأغفر لها حتى وقع ذهني على العبارة القرآنية الجميلة:{ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ }، فعجز لساني عن النطق، وبكيت بكاءً حارّاً، وقلت: (هذه جاءت لتنال غفران خطاياها منّي فمن يغفر لي خطاياي يوم الحساب والعقاب)
هنا أدركت أن هناك كبير أكبر من كل كبير، إله واحدٌ لا معبود سواه.
ذهبت على الفور للقاء الأسقف وقلت له: (أنا أغفر الخطايا لعامة الناس، فمن يغفر لي خطاياي)، فأجاب دون اكتراث: (البابا)، فسألته: (ومن يغفر للبابا)، فانتفض جسمه ووقف صارخاً وقال: (أنت قسيس مجنون، والذي أمر بتنصيبك مجنون حتّى وإن كان الغريب، لأنّنا قلنا له لا تنصّبه لئلاّ يفسد الشعب بإسلاميّاته وفكره المنحل) بعد ذلك صدر القرار بحبسي في دير (ماري مينا) بوادي النطرون.
قلت: أحصل هذا !؟
قال: حصل ما هو فوق هذا.. لقد أخذوني معصوب العينين، وهناك استقبلني الرهبان استقبالاً عجيباً كالوا لي فيه صنوف العذاب علماً بأنّني حتّى تلك اللحظة لم أسلم، كل منهم يحمل عصا يضربني بها وهو يقول: (هذا ما يصنع ببائع دينه وكنيسته)
استعملوا معي كل أساليب التعذيب الذي لا تزال آثاره موجودةً على جسدي، وهي خير شاهدٍ على صحّة كلامي حتّى أنّه وصلت بهم أخلاقهم اللاإنسانيّة أنهم كانوا يدخلون عصا المقشّة في دبري يوميّاً سبع مرّات في مواقيت صلاة الرهبان لمدّة سبعة وتسعين يوماً، وأمروني بأن أرعى الخنازير.
وبعد ثلاثة أشهر أخذوني إلى كبير الرهبان لتأديبي دينياً وتقديم النصيحة لي، فقال: (يا بنيّ.. إن الله لا يضيع أجر من أحسن عملاً، اصبر واحتسب. ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب)، قلت في نفسي ليس هذا الكلام من الكتاب المقدس ولا من أقوال القديسين.
وما زلت في ذهولي بسبب هذا الكلام حتى رأيته يزيدني ذهولاً على ذهول بقوله: (يا بنيّ نصيحتي لك السر والكتمان إلى أن يعلن الحق مهما طال الزمان)
لقد احترت في المعني الذي يشير إليه هذا الرجل، وهو كبير الرهبان، ولم يطل بي الوقت حتى فهمت تفسير هذا الكلام المحيّر.
لقد دخلت عليه ذات صباح لأوقظه فتأخر في فتح الباب، فدفعته ودخلت، وكانت المفاجأة الكبرى التي كانت نوراً لهدايتي لهذا الدين الحق دين الوحدانيّة عندما شاهدت رجلاً كبيراً في السنّ ذا لحية بيضاء، وكان في عامة الخامس والستّين، وإذا به قائماً يصلي صلاة المسلمين (صلاة الفجر).
تسمرتُ في مكاني أمام هذا المشهد الذي أراه، ولكنّي انتبهت بسرعة عندما خشيت أن يراه أحد من الرهبان، فأغلقت الباب.
جاءني بعد ذلك وهو يقول: (يا بنيّ استر عليّ ربّنا يستر عليك)، ثم أضاف: (أنا منذ 23 سنة على هذا الحال.. غذائي القرآن.. وأنيس وحدتي توحيد الرحمن.. ومؤنس وحشتي عبادة الواحد القهّار.. الحقّ أحقّ أن يتّبع يا بنيّ)
بعد أيّام صدر الأمر برجوعي لكنيستي بعد نقلي من سوهاج إلى أسيوط، لكن الأشياء التي حدثت مع سورة الإخلاص وكرسي الاعتراف والراهب المتمسّك بإسلامه جعلت في نفسي أثراً كبيراً، لكني كنت محتارا ماذا أفعل، وأنا محاصر من الأهل والأقارب وممنوع من الخروج من الكنيسة بأمر (.. !؟)
بعد مرور عام، جاءني خطاب يأمرني بالذهاب كرئيس للّجنة المغادرة إلى السودان في رحلة تنصيريّة، فذهبنا إلى السودان في الأوّل من سبتمبر 1979م وبقينا به ثلاثة شهور، وحسب التعليمات البابويّة بأن كلّ من تقوم اللجنة بتنصيره يسلّم مبلغ 35 ألف جنيه مصريّ بخلاف المساعدات العينيّة، فكانت حصيلة الذين غرّرت بهم اللجنة تحت ضغط الحاجة والحرمان خمسة وثلاثين سودانيّاً من منطقة واو في جنوب السودان.
وبعد أن سلّمتُهم أموال المنحة البابويّة اتّصلت بالبابا من مطرانيّة أم درمان فقال: (خذوهم ليروا المقدسات المسيحيّة بمصر (الأديرة))، وتم خروجهم من السودان على أساس أنهم عمّال بعقود للعمل بالأديرة لرعي الإبل والغنم والخنازير وتم عمل عقود صوريّة حتّى تتمكّن لجنة التنصير من إخراجهم إلى مصر.
بعد نهاية الرحلة، وأثناء رجوعنا بالباخرة في النّيل، قمت أتفقّد المتنصرين الجدد وعندما فتحت بعض الأبواب على الباخرة، فوجئت بأن المتنصر الجديد الذي أطلقنا عليه عبد المسيح (وكان اسمه محمّد آدم) يصلّي صلاة المسلمين.
تحدّثت إليه فوجدته متمسّكاً بعقيدته الإسلاميّة، فلم يغره المال، ولم يؤثّر فيه بريق الدنيا الزائل.. ومما أذكره أني قلت له: (يا عبد المسيح لماذا تصلّي صلاة المسلمين بعد تنصّرك ؟!)، فقال: (بعت لكم جسدي بأموالكم، أمّا قلبي وروحي وعقلي فملك الله الواحد القهّار لا أبيعهم بكنوز الدنيا وأنا أشهد أمامك بأن لا إله إلا الله وأنّ محمّد رسول الله)
بعد هذه الأحداث التي أنارت لي طريق الإيمان، وهدتني لأعتنق الإسلام وجدت صعوبات كثيرة في إشهار إسلامي نظراً لأنّني قس كبير ورئيس لجنة التنصير في إفريقيا، وقد حاولوا منع ذلك بكل الطرق لأنه بالنسبة لهم فضيحة كبيرة.
من الأسماء التي رأيتها في دفتر الغريب في هذا الفصل اسم (إبراهيم خليل فلوبوس)([7])، فسألت الغريب عنه، فقال: هذا أشهر من نار على علم..كان أستاذا بكلية اللاهوت الإنجيلية.. وقد نشأ في الكنيسة.. وترقى في مدارس اللاهوت.. وتبوأ مكانة مرموقة في سلم التنصير..
قلت: فحدثني عن لقائك به، وحديثك معه.
قال: لقد تشرفت بالالتقاء به، والحديث معه عن سر إسلامه، وكان مما ذكره لي قوله: ولدت في الإسكندرية عام 1919.. ونشأت فيها نشأة نصرانية ملتزمة وتهذبت في مدارس الإرسالية الأمريكية، وتصادف وصولي مرحلة (الثقافة) المدرسية مع اندلاع الحرب العالمية الثانية، وتعرض مدينة الإسكندرية لأهوال قصف الطائرات.. فاضطررنا للهجرة إلى أسيوط حيث استأنفت في كليتها، وقد دفعتني أخبار الحرب والنكبات لأن أنظر إلى العالم نظرة أعمق قادتني للاتجاه إلى دعوة السلام وإلى الكنيسة.. التي كانت ترصد رغباتي وتؤجج توجهاتي.. فالتحقت بكلية اللاهوت سنة 1945م وأمضيت فيها ثلاث سنين.
قلت: الأصل في مثل هذه الكلية أن تعمق فيك التوجه للمسيحية..
قال: أجل.. ذلك صحيح.. لقد درسنا مقدمات العهد القديم والجديد، والتفاسير والشروحات وتاريخ الكنيسة.. ولكنا لم نكتف بذلك، فنظام الكلية يدرس تاريخ الحركة التنصيرية وعلاقتها بالمسلمين، ولهذا درسنا القرآن الكريم والأحاديث النبوية …
قلت: أكانت هذه الدراسة لمجرد الاطلاع العلمي؟
قال: لا.. لا يمكن أن تهدف كلية مثل تلك الكلية لهذا الهدف النبيل.. لقد كانوا يهيئوننا للحوار المستقبلي مع المسلمين، لنستخدم معرفتنا لنحارب القرآن بالقرآن، والإسلام بالنقاط السوداء في تاريخ المسلمين.
لقد كنا نحاور الأزهريين وأبناء الإسلام بالقرآن لنفتنهم، فنستخدم الآيات مبتورة عن سياقها، لنخدم أهدافنا.. لقد كان لدينا في هذا كتب ننهل منها..
قلت: منها.. !؟
قال: هي كثيرة.. لعل أهمها كتاب (الهداية) وهو في 4 أجزاء، و(مصدر الإسلام).. إضافة إلى استعانتنا واستفادنا من كتابات عملاء الاستشراق أمثال طه حسين الذي استفادت الكنيسة من كتابه (الشعر الجاهلي) مائة في المائة، وكان طلاب كلية اللاهوت يعتبرونه من الكتب الأساسية لتدريس مادة الإسلام.
وعلى هذا المنهج كانت رسالتي في الماجستير تحت عنوان (كيف ندمر الإسلام بالمسلمين) سنة 52 والتي أمضيت 4 سنوات في إعدادها من خلال الممارسة العملية للوعظ والتنصير بين المسلمين من بعد تخرجي عام 48.
قلت: أنا أعجب لك.. كيف يمكن لرجل يكتب مثل هذه الرسالة، ويتوجه هذا التوجه ينقلب ذلك الانقلاب الذي انقلبته.
قال: لا تعجب.. فالهداية من الله وبالله.. لقد من الله علي، فتعرضت لشمس النبوة التي نسخت تلك الأحقاد التي ملأتنا بها الكنيسة.
قلت: فحدثني كيف أشرقت عليك أنوار الهداية.
قال: في مؤتمر تبشيري دعيت للكلام، فأطلت الكلام في ترديد كل المطاعن المحفوظة ضد الإسلام، وبعد أن انتهيت من حديثي بدأت أسأل نفسي: لماذا أقول هذا وأنا أعلم أنني كاذب ؟! واستأذنت قبل انتهاء المؤتمر، خرجت وحدي متجهاً إلى بيتي، كنت مهزوزاً من أعماقي، متأزماً للغاية، وفي البيت قضيت الليل كله وحدي في المكتبة أقرأ القرآن، ووقفت طويــلاً عنـد الآية الكريمة:{ لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآَنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (الحشر:21)
في تلك الليلة اتخذت قرار حياتي فأسلمت، ثم انضم إلي جميع أولادي، وكان أكثرهم حماساً ابني الأكبر (أسامة) وهو دكتور في الفلسفة، ويعمل أستاذاً لعلم النفس في جامعة السوربون.. وبإسلامهم زادت بيوت الإسلام بيتاً.
قلت: تلك النهاية التي انتهيت إليها، وأنا أسألك عن البداية.
قال: في شهر يونيو تقريباً عام 1955م استمعت إلى قول الله سبحانه:{ قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآَنًا عَجَبًا (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآَمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا (2) وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا (3)} (سورة الجن).. هذه الآية الكريمة من الغريب أنها رسخت في القلب، ولما رجعت إلى البيت سارعت إلي المصحف وأمسكته وأنا في دهشة من هذه السورة..
قلت: لقد كنت تقرأ القرآن من قبل، بل تستخدمه لحرب القرآن والإسلام، فكيف أثرت فيك هذه الآيات خصوصا.
قال: لست أدري.. ربما كنت حينها في لحظة من لحظات الصدق.. أو ربما أشرقت علي حينها شمس الهداية..
في ذلك الحين تحولت إلى إنسان آخر.. لقد عدت لأقرأ القرآن بغير النية التي كنت أقرؤه بها.. فاستوقفني قوله تعالى:{ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آَمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } (الأعراف: 157).. وقوله تعالى:{ وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ }(الصف:6)
هذه النصوص جعلتني أرجع للكتاب المقدس لأتأكد مما يذكره القرآن..
قلت: فماذا وجدت؟
قال: لقد ظللت لعدة سنوات أدرس هذه التنبؤات إلى أن وجدتها حقيقة لم يمسها التبديل والتغيير، لأن بني إسرائيل ظنوا أن النبوة لن تخرج عن دائرتهم..
على سبيل المثال جاء في (سفر التثنية) وهو الكتاب الخامس من كتب التوراة (أقيم لهم نبياً من وسط إخوتهم مثلك، وأجعل كلامي في فمه فيكلمهم بكل ما أوصيه به)([8]) توقفت أولاً عند كلمة (إخوتهم) وتساءلت: هل المقصود هنا من بني إسرائيل؟لو كان كذلك لقال (من أنفسهم) أما وقد قال (من وسط إخوتهم) فالمراد بها أبناء العمومة، ففي سفر التثنية (إصحاح 2 عدد 4) يقول الله لسيدنا موسى عليه السلام: (أنتم مارون بنجم إخوتكم بني عيسو …) و(عيسو) هذا الذي نقول عنه في الإسلام (العيس) هو شقيق يعقوب عليه السلام، فأبناؤه أبناء عمومة لبني إسرائيل، ومع ذلك قال (إخوتكم) وكذلك أبناء (إسحق) وأبناء (إسماعيل) هم أبناء عمومة، لأن (إسحق) شقيق (إسماعيل) عليهما السلام ومن (إسحق) سلالة بني إسرائيل، ومن (إسماعيل) كان (قيدار) ومن سلالته كان سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وهذا الفرع الذي أراد بنو إسرائيل إسقاطه وهو الذي أكدته التوراة حين قالت (من وسط إخوتهم) أي من أبناء عمومتهم.
وتوقفت بعد ذلك عند لفظة (مثلك) ووضعت الأنبياء الثلاثة: موسى، وعيسى، ومحمد ـ عليهم الصلاة والسلام ـ للمقابلة فوجدت أن عيسى عليه السلام مختلف تمام الا ختلاف عن موسى وعن محمد ـ عليهما الصلاة والسلام ـ وفقاً للعقيدة النصرانية ذاتها والتي نرفضها بالطبع، فهو الإله المتجسد، وهو ابن الله حقيقة، وهو الأقنوم الثاني في الثالوث، وهو الذي مات على الصليب.. أما موسى عليه السلام فكان عبدالله، وموسى كان رجلاً، وكان نبياً، ومات ميتة طبيعية ودفن في قبر كباقي الناس وكذلك سيدنا رسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وإذاً فالتماثل إنما ينطبق على محمد صلى الله عليه وآله وسلم، بينما تتأكد المغايرة بين المسيح وموسى ـ عليهما السلام ـ ووفقاً للعقيدة النصرانية ذاتها!فإذا مضينا إلى بقية العبارة: (وأجعل كلامي في فمه..) ثم بحثنا في حياة محمد صلى الله عليه وآله وسلم فوجدناه أمياً لا يقرأ ولا يكتب، ثم لم يلبث أن نطق بالقرآن الكريم المعجزة فجأة يوم أن بلغ الأربعين.. وإذا عدنا إلى نبوءة أخرى في التوراة سفر أشعيا إصحاح 79 تقول: (أو يرفع الكتاب لمن لا يعرف القراءة ولا الكتابة ويقول له اقرأ، يقول ما أنا بقاريء..) لوجدنا تطابقاً كاملاً بين هاتين النبوءتين وبين حادثة نزول جبريل بالوحي على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في غار حراء، ونزول الآيات الخمس الأولى من سورة العلق:{ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)} (العلق)
قلت: هذا عن التوراة، فماذا عن الإنجيل؟
قال: إذا استثنينا نبوءات برنابا الواضحة والصريحة ببعثة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالاسم، وذلك لعدم اعتراف الكنيسة بهذا الإنجيل أصلاً، فإن المسيح عليه السلام تنبأ في إنجيل يوحنا تسع نبوءات، و(البرقليط) الذي بشر به يوحنا مرات عديدة … هذه الكلمة لها خمسة معاني: المعزّي، والشفيع، والمحامي، والمحمد، والمحمود، وكل هذه المعاني ينطبق على سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تمام الانطباق فهو المعزّي المواسي للجماعة التي على الإيمان وعلى الحق من بعد الضياع والهبوط، وهو المحامي والمدافع عن عيسى ابن مريم عليه السلام وعن كل الأنبياء والرسل بعدما شوه اليهود والنصارى صورتهم وحرفوا ما أتوا به وهو الإسلام.. ولهذا جاء في إنجيل يوحنا [14 /16 و17] (أنا أصلي إلى الله ليعطيكم معزياً آخر ليمكث معكم إلى الأبد روح الحق).. وقال في نبوءة أخرى (16 /13 ـ 14] (وأما متى جاء ذاك الروح الحق فهو يرشدكم إلى جميع الحق لأنه لا يتكلم من نفسه بل كل ما يسمع يتكلم به. ويخبركم بأمور آتية، ذاك يمجدني)
لقد وجدت أن هذه النبوءة تنطبق تماما على قوله تعالى:{ قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا } (الكهف:110)
قلت: فقد كانت البشارات التي وردت في الكتاب المقدس هي دليلك إلى الإسلام.
قال: لقد كانت بعض أدلتي.. وإن شئت قل: لقد كانت هي منبهي الأول الذي جعلني أبحث عن الحقيقة.. فقد انطلقت منها إلى مقارنات جادة بين الإسلام والمسيحية.. وقد كات تلك المقارنات هي الأساس الذي بني عليه إسلامي.
قلت: فحدثني عن بعض مقارناتك.
استجمع ذهنه قليلا، ثم قال: لقد قرأت بتأمل قوله تعالى:{ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ }(الزمر:53)..ثم قارنت بينها وبين ما ورد في الإنجيل عن الغفران: (بدون سفك دم لا تحصل مغفرة) وبالقول: (هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الحبيب لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية).
قارنت بين العقيدتين.. فعرفت أن المغفرة في عقيدتنا مقيدة بقيود: من جانب الله ببذل ابنه الحبيب، ومن جانب المرء بضرورة الإيمان بهذا الابن.
ومن هذه العقيدة نشأت فريضة كنيسية تعرف بسرّ الشكر، وفيها يؤمن المسيحي باستحالة الخبز إلى جسد المسيح واستحالة الخمر إلى دم المسيح حقيقة، وبتناولهما تصير فيه حياة أبدية، ومن هذه العقيدة نشأت صكوك الغفران.. إنها بدعة وخروج عن الحق الإلهي الذي ندّد به زعماء الإصلاح في القرن الخامس عشر.. فحمدت الله على رحمته الواسعة ومغفرته اليقينية بدون قيد ولا شرط مادي، بل بتوبة صادقة وعزم على الحياة الطاهرة([9]).
قلت: هل هناك مقارنة غيرها جعلتك تؤثر الإسلام؟
قال: كثيرة هي مقارناتي.. منها أني قرأت قول الله تعالى:{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ }(الحجرات:13)، ثم قارنته بما جاء بالإنجيل: (إذن لسنا أولاد جارية، بل أولاد حرة)
لقد زال عني بتلك المقارنة العجب عن التفرقة العنصرية عند الأمريكيين في أيامنا هذه بين البيض والسود، وزاد إعجابي وإجلالي للمسلمين.. فسيد القوم عندهم يقف بجانب المواطن العامل والمزارع والتاجر والموظف كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضًا، راكعين ساجدين، يخشون ربهم ويرجونه الرضا والعفو، فأيقنت أن مجد الإسلام والمسلمين في هذا التساند الجميل والتآخي الحبيب([10]).
بالإضافة إلى هذا، فقد استوقفني كثيرًا نظام التوحيد في الإسلام، وهو من أبرز معالم الإسلام.. إن التوحيد يجعلني عبدًا لله وحده لست عبدًا لأي إنسان، التوحيد في الإسلام يجرّد الإنسان ويجعله غير خاضع لأي إنسان، وتلك هي الحرية الحقيقية، فلا عبودية إلا لله وحده.
بالإضافة إلى هذا، فإن الإسلام دين المنطق والعقل، لم يجعل وساطة بين الله والإنسان، ولم يترك مقادير الناس تحت رحمة نفر منهم يلوحون لهم بسلطان الكنيسة.
قلت: ألا تزال تذكر اللحظة التي أعلنت فيها عن إسلامك؟
قال: لن أنسى ذلك ما حييت..
قلت: فحدثني عنها..
قال: بعد أن وصلت إلى اليقين وتلمست الحقائق بيدي كان عليّ أن أتحدث مع أقرب الناس إلي.. وكان أقربهم إلي زوجتي.. لكن الحديث تسرب عن طريقها إلى الإرسالية للأسف، وسرعان ما تلقفوني ونقلوني إلى المستشفى وتحت مراقبة صارمة مدعين أني مختل العقل.. ولأربعة شهور تلت عشت معاناة شديدة جداً، ففرقوا بيني وبين زوجتي وأولادي، وصادروا مكتبتي وكانت تضم أمهات الكتب والموسوعات … حتى اسمي كعضو في مجمع أسيوط، وفي مؤتمر (سنودس) شُطب، وضاع ملفي كحامل ماجستير من كلية اللاهوت … ومن المفارقات العجيبة أن الإنجليز في هذه الآونة كانوا قد خلعوا الملك طلال من عرش الأردن بتهمة الجنون … فخشيت أن يحدث معي الأمر ذاته.. لذلك التزمت الهدوء والمصابرة وصمدت حتى أطلق سراحي، فقدمت استقالتي من الخدمة الدينية، واتجهت للعمل في شركة أمريكية للأدوات المكتبية، لكن الرقابة هناك كانت عنيفة جداً، فالكنيسة لا تترك أحداً من أبنائها يخرج عليها ويسلم، إما أن يقتلوه أو يدسوا عليه الدسائس ليحطموا حياته.. وفي المقابل لم يكن المجتمع المسلم حينذاك يقدر على مساعدتي … ففي حقبة الخمسينات والستينات كان الانتماء للإسلام والدفاع عنه لا يعني إلا الضياع!
لذلك كان عليّ أن أكافح قدر استطاعتي، فبدأت العمل التجاري، وأنشأت مكتباً تجارياً هرعت بمجرد اكتماله للإبراق إلى (د. جون تومسون) رئيس الإرسالية الأمريكية حينذاك، وكان التاريخ هو الخامس والعشرين من ديسمبر 1959 والذي يوافق الكريسماس، وكان نص البرقية: (آمنت بالله الواحد الأحد، وبمحمد نبياً ورسولاً) لكن إشهار اعتناقي الرسمي للإسلام كان يفترض عليّ وفق الإجراءات القانونية أن ألتقي بلجنة من الجنسية التي أنا منها لمراجعتي ومناقشتي.
وفي الوقت الذي رفضت جميع الشركات الأوربية والأمريكية التعامل معي تشكلت اللجنة المعنية من سبعة قساوسة بدرجة الدكتوراه.. خاطبوني بالتهديد والوعيد أكثر من مناقشتي!وبالفعل تعرضت للطرد من شقتي لأنني تأخرت شهرين أو ثلاثة عن دفع الإيجار، واستمرت الكنيسة تدس علي الدسائس أينما اتجهت.. وانقطعت أسباب تجارتي.. لكني مضيت على الحق الذي اعتنقته … إلى أن قدر الله أن تبلغ أخباري وزير الأوقاف حينذاك عبدالله طعيمة، والذي استدعاني لمقابلته وطلب مني بحضور الأستاذ الغزالي المساهمة في العمل الإسلامي بوظيفة سكرتير لجنة الخبراء في المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية.
ولما بلغت الستين، بدأت عملي كداعية إسلامي متفرغ، وكان أول ما نصرني الله به أن ألتقيت مع الدكتور جميل غازي ـ رحمه الله ـ بـ 13 قسيساً بالسودان في مناظرة مفتوحة انتهت باعتناقهم الإسلام جميعاً، وهؤلاء كانوا سبب خير وهداية لغرب السودان حيث دخل الألوف من الوثنيين وغيرهم دين الله على أيديهم.
من الأسماء التي رأيتها في دفتر الغريب في هذا الفصل اسم (الدكتور وديع أحمد)، فسألت الغريب عنه، فقال: لقد كان شماسا، وقد التقيت به في مصر.. وقد حدثتني عن رحلته إلى الإسلام، وكيفية تخلصه من الشبهات الكثيرة التي وضعت في طريقه، فقال: لقد مررت برحلة طويلة قاربت 40 عاما الى أن هدانى الله للإسلام..
في البداية.. كنت من عائلة متدينة، وقد أصر أبي ـ وقد كان واعظا فى جمعية أصدقاء الكتاب المقدس، وكانت مهنته التبشير فى القرى المحيطة والمناطق الفقيرة لمحاولة جذب فقراء المسلمين الى المسيحية ـ أن أنضم الى الشمامسة منذ أن كان عمرى ست سنوات، وأن أنتظم فى دروس مدارس الأحد.
وفيها تلقيت أخطر الشبهات عن الإسلام والمسلمين، ومنها أن المسلمين اغتصبوا مصر من المسيحين وعذبوا المسيحين.. ومنها أن المسلمين يضطهدون النصارى لكى يتركوا مصر ويهاجروا.. ومنها أن المسلم أشد كفرا من البوذى وعابد البقر.. ومنها أن القرآن ليس كتاب الله ولكن محمد اخترعه.. وغير ذلك من الشبهات التى تزرع الحقد الأسود ضد المسلمين فى القلوب.
لكن الله شاء أن يقيض لنا في هذه الفترة من يقف في وجه هذه الشبهات.. وقد كان أبي هو ذلك النور المبدد لظلمات الشبهات.. لقد كان في هذه الفترة المحرجة يتكلم معنا سرا عن انحراف الكنائس عن المسيحية الحقيقية التى تحرم الصور والتماثيل والسجود للبطرك والاعتراف للقساوسة.
قلت: كيف يكون ذلك، وقد ذكرت لي أنه هو الذي أصر على أن تكون من الشمامسة؟
قال: لست أدري.. ولكني لا أزال محتارا في شأنه.. لقد كان يمارس في حياته أشياء كثيرة لا تدل إلا على أنه مسلم يكتم إسلامه.. وقد كان ذلك من أهم أسباب هدايتي.
فقد هجر الكنائس والوعظ والجمعيات التبشيرية تماما.. وكان يرفض تقبيل أيدي الكهنة (وهذا أمر عظيم عند النصاري).. وكان لايؤمن بالجسد والدم (الخبز والخمر) أي لا يؤمن بتجسيد الإله.. وبدلاً من نزوله صباح يوم الجمعة للصلاة أصبح ينام ثم يغتسل وينزل وقت الظهر.. وكان ينتحل الأعذار للنزول وقت العصر والعودة متأخرا وقت العشاء.
ومما قوى هذا الموقف عندي أنه صار ينطق بألفاظ جديدة لم يكن يقولها مثل (أعوذ بالله من الشيطان) (لا حول ولا قوة الا بالله)..
وقد وجدت بعد موته عام 1988 بالإنجيل الخاص به قصاصات ورق صغيرة يوضح فيها أخطاء موجودة بالأناجيل وتصحيحها.. بل عثرت علي إنجيل جدي (والد أبي) طبعة 1930 وفيها توضيح كامل عن التغيرات التي أحدثها النصاري فيه منها تحويل كلمة (يا معلم) و(يا سيد) إلى (يا رب) ليوهموا القارئ أن عبادة المسيح كانت منذ ولادته.
قلت: إن كل ما ذكرته أدلة قوية تشير إلى إسلامه.. ولكن لم كان يكتمه؟
قال: ألم تسمع بقول اللورد هدلي؟
قلت: تقصد قوله: (إنني أعتقد أن هناك آلافاً من الرجال والنساء أيضاً، مسلمون قلباً، ولكن خوف الانتقاد والرغبة في الابتعاد عن التعب الناشئ عن التغيير، تآمروا على منعهم من إظهار معتقداتهم)
قال: أجل.. ولو أن هذه الحواجز النفسية رفعت لرأيت غير ما ترى، وسمعت غير ما تسمع.
قلت: فكيف أزلت أنت هذه الحواجز النفسية؟
قال: ذلك فضل الله.. وتلك هدايته التي ملأ بها قلبي، مع أني تعرضت لحواجز كثيرة اجتمعت على أن تحول بين قلبي وبين الإيمان.. لكن الله بفضله وكرمه رفعها عني.
لقد صرت أستاذاً في مدارس الأحد ومعلما للشمامسة، وكان عمري 18 سنة وكان علي أن أحضر دروس الوعظ بالكنيسة والزيارة الدورية للأديرة (خاصة في الصيف) حيث يتم استدعاء متخصصين في مهاجمة الإسلام والنقد اللاذع للقرآن ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم.
لقد كانوا في تلك الاجتماعات يذكرون لنا أن القرآن مليء بالمتناقضات، ثم يذكروا نصف آية مثل:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ }(النساء:43) ويقطعوها لنتوهم أن القرآن ينهى عن الصلاة.
بل كانوا ـ أكثر من ذلك ـ يذكرون أن القرآن مليء بالألفاظ الجنسية ويفسرون كلمة (نكاح) علي أنها الزنا أو اللواط.
وكانوا يذكرون لنا يقولون أن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قد أخذ تعاليم النصرانية من (بحيرا) الراهب، ثم حورها واخترع بها دين الإسلام، ثم قتل بحيرا حتى لا يفتضح أمره..
وقد كنت في تلك الفترة أسمع أسئلة محيرة من الشباب الحاضر كانت ـ هي الأخرى ـ من أهم أسباب هدايتي.
من ذلك أن شابا سأل أحد القساوسة قائلا: ما رأيك بمحمد؟
فقال القسيس: هو إنسان عبقري وذكي.
فقال الشاب: هناك الكثير من العباقرة مثل (أفلاطون، سقراط ، حامورابي….) ولكن لم نجد لهم أتباعاودينا ينتشر بهذه السرعة الي يومنا هذا؟ لماذا؟
فيتهرب القسيس من الإجابة.. أو يغالطه بطريقة ذكية تصرفه عن سؤاله.
ومنها أن شابا سأل قسيسا: ما رأيك في القرآن؟
فأجاب القسيس: كتاب يحتوي علي قصص للأنبياء ويحض الناس علي الفضائل ولكنه مليء بالأخطاء.
فقال الشاب: لماذا تخافون أن نقرأه، وتكفرون من يلمسه أو يقرأه؟
فيصر القسيس أن من يقرأه كافر دون توضيح السبب.
ومنها أن آخر سأل: إذا كان محمد كاذباًَ فلماذا تركه الله ينشر دعوته 23 سنة؟ بل ومازال دينه ينتشر الي الآن مع انه مكتوب في كتاب موسي (كتاب ارميا) ان الله وعد بإهلاك كل إنسان يدعي النبوة هووأسرته في خلال عام؟
فييجيب القسيس: لعل الله يريد أن يختبر المسيحيين به.
بالإضافة إلى هذا.. فقد مررت في حياتي بمواقف كثيرة محيرة.. كلها كانت أشعة اهتديت بها إلى شمس محمد.
منها أن البطرك (.. !؟) أصدر في عام 1971 قرارا بحرمان الراهب (.. !؟) ـ وهو راهب بدير مينا ـ من الصلاة لأنه لم يذكر اسمه في الصلاة، وقد حاول إقناعه الراهب (.. !؟) بالصلاة فانه يصلي لله، وليس للبطرك ولكنه خاف من البطرك أن يحرمه من الجنه أيضا.
وقد تسائل هذا الراهب: هل يجرؤ شيخ الأزهر أن يحرم مسلما من الصلاة؟
لقد كان أشد ما يحيرني هو معرفتي بتكفير كل طائفة مسيحية للأخرى، فلهذا سألت القمص (.. !؟)، وهو أب اعترافي، فأكد هذا وأن هذا التكفير نافذ في الأرض والسماء.
فسألته متعجبا: هل معني هذا أننا كفار لتكفير بابا روما لنا؟
أجاب: للأسف.. نعم.
سألته: وباقي الطوائف كفار بسبب تكفير بطرك الإسكندرية لهم؟
أجاب: للأسف.. نعم.
سألته: وما موقفنا إذا يوم القيامة؟
أجاب: الله يرحمنا !!!
وفوق هذا كنت كلما دخلت الكنيسة، ووجدت صورة المسيح وتمثاله يعلو هيكلها سألت نفسي: كيف يكون هذا الضعيف المهان الذي استهزأ به اليهود وعذبوه رباًوإلهاً !؟
المفروض أن أعبد رب هذا الضعيف الهارب من بطش اليهود، وتعجبت حين علمت أن التوراة قد لعنت الصليب والمصلوب عليه وأنه نجس وينجس الأرض التي يصلب عليها، كما في (تثنية 21: 22 – 23)
وفوق هذا كله فقد كان لي جار مسلم وكنت كثير الجدل معه، وذات يوم كلمني عن العدل في الإسلام (في الميراث، في الطلاق، القصاص….) ثم سألني هل عندكم مثل ذلك؟ فأجبت لا.. لايوجد..
وبدأت أسأل نفسي: كيف أتي رجل واحد بكل هذه التشريعات المحكمة والكاملة في العبادات والمعاملات بدون اختلافات؟.. وكيف عجزت مليارات اليهود والنصاري عن إثبات أنه مخترع؟
بالإضافة إلى هذا كله كنت أسمع أحاديث الدكتور محمد الشاطبي ـ وقد كنت حينها طبيبا في مستشفي (صدر كوم الشقافة) ـ وقد كان دائم التحدث مع الزملاء عن أحاديث محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وكنت في بداية الأمر أشعر بنار الغيرة، ولكن بعد مرور الوقت أحببت سماع هذه الأحاديث التي كانت قليلة في ألفاظها كثيرة في معانيها، جميلة الألفاظ والسياق.. وقد شعرت وقتها أن محمدا نبي عظيم.
وكان بالقرب من عيادتى مسجد.. اقترب منه، وأخذت أنظر بداخله، فوجدته لا يشبه الكنيسة مطلقا (لا مقاعد – لا رسومات – لا ثريات ضخمة – لا سجاد فخم – لا أدوات موسيقى وايقاع – لا غناء لا تصفيق) ووجدت أن العبادة فى هذه المساجد هى الركوع والسجود لله فقط، لا فرق بين غنى وفقير يقفون جميعا فى صفوف منتظمة وقارنت بين ذلك وعكسه الذى يحدث فى الكنائس فكانت المقارنة دائما لصالح المساجد.
ثم حبب الله إلى القرآن.. فاشتريت مصحفا، وتذكرت أن صديقى أحمد الدمرداش ذكر أن القرآن:{ لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ) (الواقعة:79)، فاغتسلت([11]) ولم أجد غير ماء بارد وقتها، ثم قرأت القرآن، وكنت أخشى أن أجد فيه اختلافات (بعد ما ضاعت ثقتى فى التوراة والانجيل)، وقرأت القرآن فى يومين ولكنى لم أجد ما كانوا يعلمونا إياه فى الكنيسة عن القرآن.
بل رأيت أن من يكلم محمدا صلى الله عليه وآله وسلم يخبره أنه سوف يموت.. ولا يجرؤ أن يتكلم هكذا الا الله..
بعد كل هذا دعوت الله أن يهدين ويرشدني..
وذات يوم غلبني النوم، فوضعت المصحف بجوارى.. وقرب الفجر رأيت نورا فى جدار الحجرة، وظهر رجل وجهه مضىء اقترب منى، وأشار الى المصحف، فمددت يدى لأسلم عليه لكنه اختفى.. وقد وقع فى قلبى أن هذا الرجل هو النبى محمد صلى الله عليه وآله وسلم يشير الى أن القرآن هو طريق النور والهداية.
وقد كان ذلك من الأسباب الكبرى لإسلامي.
قلت: لم تكتف بما يفعل الكثير من التكتم على إسلامهم.
قال: أجل.. لقد سألت أحد المحامين عن كيفية دخول الإسلام، فدلني علي قسم الشئون الدينية لمديرية الأمن.. ولم أنم تلك الليلة التي امتلأت فيها بوساوس الشياطين.
لكني لم أهتم لها.. خرجت في السادسة صباحا ودخلت كنيسة (.. !؟) وكانت الصلاة قائمة، وكانت الصالة مليئة بالصور والتماثيل للمسيح ومريموالحواريين وآخرين إلي البطرك السابق (.. !؟) فكلمتهم: (لو أنكم علي حق وتفعلون المعجزات كما كانوا يعلمونا فافعلوا أي شيء.. أي علامة أو إشارة لأعلم أنني أسير في الطريق الخطأ).. وبالطبع لم أجد أي إجابة.
لقد بكيت ـ حينها ـ كثيرا علي عمر طويل ضاع في عبادة هذه الصور والتماثيل.. وبعد البكاء شعرت أنني تطهرت من الوثنية، وأنني أسير في الطريق الصحيح طريق عبادة الله حقا.
من الأسماء التي رأيتها في دفتر الغريب في هذا الفصل اسم (أبو بكر موايبيو)، فسألت الغريب عنه، فقال: هذا مارتن جون موايبوبو.. اسمه الأصلي (مارتن جون موايبوبو)، وقد أصبح بعد إعلانه الإسلام معروفاً باسم (الحاج أبو بكر جون موايبوبو)، وهو رئيس الأساقفة اللوثريِّ التنزانيِّ.
قلت: فهل التقيت به؟
قال: أجل..
قلت: كيف تم ذلك؟.. وماذا قال لك؟
قال: كنت في ذلك اليوم الذي أعلن فيه هذا الرجل إسلامه في تنزانيا.. لقد كان ذلك في الثالث والعشرين من شهر كانون الأوَّل لعام 1986.. أي قبل يومين من أعياد الميلاد..
لقد كنت في الكنيسة مع حشد من المصلين نستمع إليه، وهو يعزف آلاته الموسيقيَّة بطريقةٍ تثير مشاعر الجميع.. ولم نكن نعرف ذلك الحين ما يجول في خاطر الأسقف.
فجأة نهض، وأعلن إسلامه بقوة لا نظير لها، وكأنه يتحدانا، أو كأنه يتحدى نفسه التي كانت تحول بينه وبين ذلك الإعلان.. أو كأنه يتذكر يوم الزينة الذي فاجأ فيه السحرة فرعون والناس جميعا بإعلان إسلامهم لله.
ما إن فعل ذلك حتى وقع حشد المصلِّين في حالة شللٍ تامٍّ للصدمة الَّتي أصابتهم لسماع هذا الخبر، إلى درجة أنَّ مساعد الأُسقف قام من مقعده فأغلق الباب والنوافذ، وصرَّح لأعضاء الكنيسة بأنَّ رئيس الأساقفة قد جُنّ.
وفورا اتَّصلوا بقوات الأمن لأخذ الرَّجل المجنون.. فجاءوا، وتحفَّظوا عليه في الزنزانة حتَّى منتصف الليل، إلى أن جاء الشَّيخ أحمد شيخ ـ وهو الرَّجل الَّذي حثَّه على دخول الإسلام ـ وكفله لإطلاق سراحه.
ولم يكن ذلك إلى بداية للآلام الكثيرة التي تعرض لها..
لقد تعرفت هناك على صحفي اسمه (سيمفيوي سيسانتي)، وهو صحفيٌّ من صحيفة القلم، وقد أخبرني بلقائه به، وقد ذكر لي أن هذا الأسقف لم يكن رجلا عاديا، ولا رجل دين بسيط..
فهو لم يحصل فقط على شهادتي البكالوريوس والماجستير في اللاهوت، بل لديه شهادة الدكتوراه في اللاهوت والتي حصل عليها من الإدارة الكنسيَّة من إنجلترا، بالإضافة إلى باقي الدَّرجات العلميَّة التي حصل عليها من برلين في ألمانيا.
ولهذا المستوى العلمي نصب أمينا عاما لمجلس الكنائس العالميِّ لشؤون إفريقيا ـ والتي تشمل تنزانيا وكينيا وأوغندا وبوروندي وأجزاء من أثيوبيا والصُّومال ـ وكان منصبه في مجلس الكنائس يفوق الرئيس الحاليَّ للجنة حقوق الإنسان الجنوب إفريقيَّة بارني بيتيانا، ورئيس لجنة المصالحة الوطنيَّة الأُسقف ديسموند توتو.
وذكر لي أن الرجلٍ وُلد قبل 61 عاماً في بوكابو، وهي منطقةٌ على الحدود مع أوغندا من عائلة اهتمت بتنشئته تنشئة دينية، فبعد سنتيْن من ولادته قامت عائلته بتعميده؛ وبعد خمس سنواتٍ كانت تراقبه بفخرٍ وهو يصبح خادم المذبح في القُدَّاس.
وقد أخبر أبو بكر عن رغبة والده في انضمامه للكنيسة، وقد حصل هذا في الخامسة والعشرين من عمره، حيث استسلم لرغبة والده الذي كان يقول له: (يا بنيّ، قبل أن أغمض عيني (أموت)، سأكون مسروراً إنْ أصبحتَ راهباً)
وهذا القرار هو الَّذي قاده إلى إنجلترا عام 1964 للحصول على الدبلوم في إدارة الكنائس؛ وبعد ذلك بسنةٍ سار إلى ألمانيا للحصول على البكالوريوس، وبعودته بعد عامٍ أصبح أُسقفاً عاملاً، وفيما بعد رجع ليحصل على الماجستير.
وقد كان إلى هذا الوقت مقلدا محضا، ولكنه في أثناء تحضير للدكتوراه بدأ يخرج من ربقة التقليد، وقد ذكر لي أنه قال له: (بدأت أتساءل باندهاش، فهناك المسيحيَّة والإسلام واليهوديَّة والبوذيَّة، وكلُّ دينٍ منها يدَّعي أنَّه الحقّ؛ فما هي الحقيقة؟ كنت أريد الحقيقة)
وهكذا بدأ بحثه حتى اختزله إلى الأديان الرئيسيَّة الأربعة.. ثم حصل على نسخةٍ من القرآن الكريم..
وقد ذكر موايبوبو ذلك قائلاً: (حين فتحت القرآن الكريم، كانت الآيات الأولى الَّتي أقرأها هي سورة الإخلاص:{ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ(1)اللَّهُ الصَّمَدُ(2)لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ(3)وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ(4)}
وقد كانت هذه الآيات هي البذور التي نبتت بها بعد ذلك شجرة إسلامه.. وفي ذلك الوقت اكتشف بأنَّ القرآن الكريم هو الكتاب المقدَّس الوحيد الَّذي لم يحصل له أي تشويه.
قال: (وهذا ما قُلْته كخاتمةٍ في رسالتي للدكتوراه. ولم يكن يهمُّني إنْ كانوا سيمنحوني الدكتوراه أم لا، لأنَّ هذه هي الحقيقة؛ وأنا كنت أبحث عن الحقيقة)
وفي حالته الذهنيَّة هذه، ذهب إلى أُستاذه المحبوب فان بيرغر، وقد أخبر عن نص الحوار الذي جرى بينهما، فقال: (أغلقت الباب، ثمَّ نظرت إليه في عينيه، وسألته: من كلِّ الأديان الَّتي في الدُّنيا، أيُّها هو الدِّين الحقّ؟ فأجابني: (الإسلام)، فسألته: (فلماذا أنت إذاً لست مسلماً؟) فقال لي: (أوَّلاً: أنا أكره العرب؛ وثانياً: هل أنت ترى كلَّ هذا الترف الَّذي أنعم فيه؟ فهل تعتقد بأنِّي سأتخلَّى عن كلِّ ذلك من أجل الإسلام؟) وعندما تفكَّرت بجوابه، بدأت أتفكَّر بحالتي الخاصَّة أيضاً)
فمنصب موايبوبو، وسياراته، كلُّ ذلك خطر على باله.. ولذلك لم يستطيع إعلان إسلامه.. وهكذا ظل لسنةٍ كاملةٍ ممتلئا بهذه المخاوف إلى أن استطاع أن يقف في وجهها في تلك اللحظة الحرجة.
وقد ذكر لهذا الصحفي عن فضل الله الذي تداركه برُؤى بدأت تلاحقه، وآياتٌ من القرآن الكريم دوامت على الظُّهور أمامه، وأُناسٌ موشحون بالبياض يأتون إليه، خاصَّةً في أيَّام الجُمَع، حتَّى لم يستطع أن يقاوم أكثر.
قلت للصحفي: ألم تكن تلك الرؤى.. ومخاوفه منها ترجع للطَّبيعة الخُرافيَّة للأفارقة؟
قال لي الصحفي: لقد سألت موايبوبو هذا السؤال، فأجابني: لا؛ لا أظنُّ بأنًّ كلَّ الرُؤى سيِّئة.. فإنَّ هناك تلك الرُؤى الَّتي تهديك للاتجاه الصَّحيح، وتلك الَّتي لا تفعل ذلك.. أمَّا هذه -على وجه الخصوص- فقد قادتني إلى الطَّريق الصَّحيح، إلى الإسلام)
بعد فترة سمعت بما حصل لهذا الأسقف نتيجة إشهار إسلامه، فقد علمت بأن الكنيسة قامت بتجريده من بيته وسياراته، ولم تستطع زوجه تحمُّل ذلك، فحزمت حقائبها وأخذت أولادها وتركته، وذلك على الرغم من تأكيد موايبوبو لها بأنَّها ليست مُلزمةً بدخول الإسلام. وعندما ذهب إلى والديه، الَّلذيْن كانا أيضاً قد سمعا بقصَّته، وقد طلب منه أبوه انتقاد الإسلام علانيةً، ومثل ذلك أمه، ولكنه ظل ثابتا على موقفه.
بعد أن أصبح وحيدا اضطر إلى الرحيل حيث تنتمي عائلته أصلاً على الحدود بين تنزانيا ومالاوي.. وخلال رحلته جَنَح إلى بروسيل حيث التقى بزوجته، وهي راهبةٌ كاثوليكيَّةٌ اسمها الأخت (جيرترود كيبويا)، وهي تُعرف الآن باسم الأخت زينت، ومعها سافر إلى كاييلا، حيث أخبره العجوز الَّذي منحه المأوى في الليلة السَّابقة بأنه هناك سيجد مسلمين آخرين، ولكن قبل ذلك، وفي صباح ذلك اليوم رفع الآذان للصَّلاة، وهو الشيء الَّذي جعل القرويِّين يخرجون من منازلهم سائلين المضيف كيف يؤوي رجلاً مجنوناً.
لكن الراهبة ـ التي تزوج بها بعد ذلك ـ هي التي صرفت عنهم هذه النظرة، وقد كانت هي الَّتي ساعدته فيما بعد على دفع النَّفقات العلاجيَّة لمشفى الإرساليَّة الأنجليكانيَّة حين كان مريضاً جدّاً.
وأخبرني أنه سألها: لماذا ترتدي الصَّليب في سلسلةٍ على صدرها، فكان أن أجابت بأنَّ ذلك لأنَّ المسيح قد صُلب عليه، وقد رد عليها بأنه (لنَقُل أن أحدهم قتل أباك ببندقيَّةٍ، فهل كنت ستتجوَّلين حاملةً البندقيَّة على صدرك؟)
لقد جعل ذلك الراهبة تفكِّر.. وحين عرض عليها الأُسقف الزواج لاحقاً، كان جوابها بالإيجاب، فتزوَّجا سرّاً، وبعد أربعة أسابيع كتبت إلى مسؤوليها تُعلِمهم بأنَّها تركت الرَّهبنة.
وقد سمع الشَّيخ الَّذي قدَّم لهما المأوى ـ وهو خال الرَّاهبة ـ بهذا الزواج؛ وفي لحظة وصولهما إلى بيته نُصحا بالهرب، لأنَّ الشَّيخ كان يُعبِّىء بندقيَّته، وكان والد الرَّاهبة غاضباً ومتوحِّشاً كالأسد.
انتقل موايبوبو من رفاهية منزل رئيس الأساقفة ليعيش في بيتٍ مبنيٍّ من الطِّين، وبدلاً من راتبه الكبير كعضوٍ في المجلس الكنسيِّ العالميِّ كأمينٍ عامٍّ لشرق إفريقيا، بدأ بكسب قوته كحطَّابٍ، وحرَّاثٍ لأراضي الآخرين.
وفي الأوقات الَّتي لم يكن يعمل فيها كان يدعو إلى الإسلام علانية، ممَّا قاده إلى سلسلةٍ من الأحكام القصيرة بالسِّجن لعدم احترام المسيحيَّة.
وحين كان يؤدِّي فريضة الحجِّ في عام 1988، حدث بلاء آخر، حيث فُجِّر بيته، وترتب على ذلك قتل أطفاله التوائم الثلاثة.
وقد ذكر أن من المتسببين في ذلك الأُسقف ـ الذي هو ابن خالته ـ ويذكر أنَّه بدلاً من أن يحبطه ذلك فقد فعل العكس، لأنَّ عدد الَّذين كانوا يعلنون إسلامهم كان يزداد، وهذا يشمل حماه أيضاً.
وفي عام 1992 اعتُقِل لمدَّة عشرة أشهرٍ مع سبعين من أتباعه، اتُّهموا بالخيانة، وكان ذلك بعد تفجير بعض محلات بيع لحم الخنزير الَّتي كان قد تحدَّث ضدَّها([12])، وبعد ذلك مباشرةً هاجر إلى زامبيا منفيّاً؛ وذلك بعد أن نُصِحَ بأنَّ هناك مؤامرة لقتله.
وذكر بأنَّه في كلِّ يومٍ كان يُطلق فيه سراحه، كانت الشرطة تأتي لتعتقله مُجدَّداً، يقول موايبوبو: (لقد قالت النِّساء بأنَّهن لن يسمحن بذلك! وبأنَّهم سيقاومن اعتقالي من قبل قوات الأمن بأجسادهن، وكانت النِّساء أيضاً هنَّ اللواتي ساعدنني على الهرب عبر الحدود مُتخفياً؛ فقد ألبسنني ملابس النِّساء!)
وهذا هو أحد الأسباب التي جعلته يُقدِّر دور النِّساء: (يجب أن تُعطى النِّساء مكانةً رفيعةً، وأن يُمنحن تعليماً إسلاميّاً جيِّداً، وإلا فكيف يمكن للمرأة أن تتفهَّم لماذا يتزوَّج الرَّجل أكثر من امرأةٍ واحدة.. لقد كانت زوجي زينب هي من اقترحت عليَّ بأنِّي يجب أن أتزوَّج بزوجي الثَّانية ـ صديقتها شيلا ـ حين كان يتوجَّب عليها السَّفر إلى الخارج من أجل الدِّراسات الإسلاميَّة)
وقد صادف أن لقيته مرة بعد هذا، وهو يخطب في جمع من المسلمين، وهو يقول لهم ناصحا: (إنَّ هناك حرباً على الإسلام.. وقد أغرقوا العالم بالمطبوعات.. والآن بالتحديد يعملون على جعل المسلمين يشعرون بالعار بوصفهم لهم بالأُصوليِّين، فيجب على المسلمين ألا يقفوا عند طموحاتهم الشَّخصيَّة، ويجب عليهم أن يتَّحدوا، فعليك أن تدافع عن جارك إن كنت تريد أن تكون أنت في أمان)
سمعته يقول ذلك، وهو يحضُّ المسلمين على أن يكونوا شجعاناً، مُستشهداً بالمركز الإسلاميِّ العالميِّ للدَّعوة وبدور الشَّيخ أحمد ديدات الذي كان شديد الإعجاب به، وقد سمعته يقول عنه يخاطب المسلمين: (ذلك الرَّجل ليس مُتعلِّماً، لكن انظر إلى الطَّريقة الَّتي ينشر بها الإسلام)
من الأسماء التي رأيتها في دفتر الغريب في هذا الفصل اسم (الراهب ماركو كوربس)، فسألت الغريب عنه، فقال: هذا رجل من الفلبين، وقد صادفته في رحلة من رحلاتي، فرأيته شديد الحماس للإسلام، متألما لما مضى من عمره بعيدا عنه، وقد لاحظت في حديثه نفحة الصدق التي حدثني عنها معلم السلام، فرحت أسأله عنه، وعن سر ذلك الجرص على الدعوة للإسلام، فقال:
كنت من طائفة وثنية.. وكان جدي وعمتي مُعالِجَيْن روحانيَّيْن يعبدان الأصنام والأرواح، وقد شهدت الكثير من المرضى الَّذين جاءوا إليهما من أجل العلاج، وكيف كانوا يبرأون، ولذلك فقد تسبَّبا في اتباعي ما يؤمنان به.
وعندما وصلت السابعة عشرة من عمري، لاحظت بأنَّ هناك الكثير من الأديان، والَّتي تحوي أنواعاً مختلفةً من التعاليم، وكلٌّ منها يدَّعي بأنَّه الدِّين الحقّ.
عندها تساءلت: (هل يتوجَّب عليَّ أن أبقى على دين عائلتي، أم أنِّي يجب أن أُجرِّب الاستماع إلى الأديان الأخرى؟)
وفي أحد الأيام دعاني ابن عمي لحضور عيد الخميس في الكنيسة، وكان دافعي هو مشاهدة ما يفعلونه داخل الكنيسة، فشاهدتهم يغنُّون، ويصفِّقون، ويرقصون، ويبكون رافعين أيديهم في دعائهم ليسوع.. ثم قام الراهب بالوعظ بخصوص الإنجيل.. ثم ذكر الفقرات الأكثر شيوعاً، والَّتي يقتبسها كلُّ المبشِّرين، وهي تلك الَّتي تتعلَّق بأُلوهيَّة المسيح مثل ما في (يوحنا 1:12، ويوحنا 3:16، ويوحنا 8:31-32)، وفي ذلك الوقت، ولدت من جديد كمسيحيّ، وقَبِلْتُ يسوع المسيح إلها ومُخلِّصا.
كان أصدقائي يزوروني كلَّ يومٍ للذهاب إلى الكنيسة، وبعد شهرين تمَّ تعميدي، فأصبحت عضواً منتظماً في صلاتهم، وبعد مرور خمسة أعوام، أقنعني راهبنا بالعمل في الكهنوت كعاملٍ متطوِّع، ثم أصبحت المنشد الرئيسي، ثم القائد في الصَّلاة، ثم معلِّماً في مدرسة الأحد، ثم أصبحت أخيراً راهباً رسميّاً في الكنيسة.
وكان عملي خاضعاً لبعثة التبشير الإنجيليَّة القرويَّة الحرَّة (.. !؟) وهي بعثةٌ تبشيريَّة مثل بعثة (يسوع هو الله)، و(الناصري)، و(خبز الحياة).. وغيرها من الجمعيات.
بدأت تعليم الناس الإنجيل وتعاليمه، وأجبرت نفسي على حفظ أجزاءٍ وآياتٍ منه عن ظهر قلبٍ من أجل الدِّفاع عن الدِّين الَّذي كنت أُومن به.
وقد أصبحت فخوراً بنفسي لهذا المنصب الَّذي حظيت به، وكنت غالباً ما أرى أنِّي لا أحتاج إلى أيِّ تعاليم أو نصوص أخرى عدا الإنجيل، ولكن مع ذلك، كان هناك فراغٌ روحيٌّ في داخلي.
صلَّيت، وصُمْت، واجتهدت لإرضاء مشيئة الإله الَّذي كنت أعبده، ولم أكن أجد السعادة إلَّا عندما كنت أتواجد في الكنيسة.. لكن هذا الشعور بالسعادة لم يكن مستمرّاً، وحتى عندما كنت أتواجد مع عائلتي.
ومما زاد في آلامي هذه أنَّ بعض أصدقائي من الرُّهبان ماديُّون، فهم يغمسون أنفسهم في الشهوة الجسديَّة والفساد، والتعطُّش للشهرة.
وعلى الرغم من كلِّ ذلك فقد واصلت مقلدا اعتناقي الدِّين بقوَّة، وذلك لأنني كنت أعرف ـ حسب ما تقوله التعاليم ـ بـ (أنَّ الكثيرين يُدْعَوْن، ولكنَّ القليل منهم يُخْتارون)
كنت دوماً أُصلِّي ليسوع المسيح ليغفر لي ذنوبي، وكذلك ذنوبهم، فقد كنت أظنُّ بأنَّه هو الحلُّ لكلِّ مشكلاتي، ولذلك فإنَّه يستطيع الاستجابة لكلِّ دعائي.
مع ذلك ـ وبالنظر إلى حياة زملائي من الرُّهبان ـ لا تستطيع أن تجد بينهم أمثلةً جيّدةً مُقارنةً بالرعيَّة الَّتي يعظونها، وهكذا بدأ إيماني يخفت، وناضلت بصعوبة بالغة على العمل في خدمة الصَّلاة الجماعيَّة.
في أحد الأيام، فكرت في السفر إلى الخارج، وليس ذلك من أجل العمل فقط، بل ـ وأهم من ذلك ـ من أجل نشر اسم يسوع كإله ـ بناء على قناعتي في ذلك الوقت ـ وكان في خطتي الذهاب إمَّا إلى تايوان أو كوريا، إلَّا أنَّ مشيئة الله تعالى كانت في حصولي على تأشيرة عملٍ في بلد مسلم، ووقَّعت في الحال عقداً لمدَّة ثلاثة أعوام للعمل فيه.
بعد أسبوعٍ من وصولي لاحظت أُسلوب الحياة المختلف، كاللغة، والعادات والتقاليد، حتى الطعام الَّذي يأكلونه، فقد كنت جاهلاً تماماً بثقافات الآخرين.
والحمد لله، فقد حدث أن كان لديَّ زميلٌ فلبينيٌّ في المصنع، وهو مسلمٌ يتكلَّم العربيَّة، لذلك -ومع أنِّي كنت متوتِّراً، إلَّا أنِّي حاولت سؤاله عن المسلمين، وعن دينهم ومعتقداتهم. فقد كنت أعتقد بأنَّ المسلمين من عُتاةِ القَتَلة، وأنَّهم يعبدون الشيطان والفراعنة ومحمَّداً كآلهةٍ لهم ـ وحدَّثته عن إيماني بالمسيح، وكردِّ فعلٍ على ذلك أخبرني أنَّ دينه يختلف تماماً عن ديني، واقتبس لي آيتيْن من القرآن الكريم كانهتا المفتاح الأول لإسلامي:
أما الأولى، فمن سورة المائدة، وهي الآية الَّتي جاء فيها:{ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً } (المائدة:3)
وأما الثانية، فمن سورة يوسف:{ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ } (يوسف:40)
لقد أصابتني هاتان الآيتان بصدمةٍ قويَّة.. كانت هي البداية لإسلامي.
بعد ذلك بدأت بملاحظة حياة صاحبي المسلم.. وكلَّ يومٍ كنَّا نتحدث.. كلٌّ منا يتحدث عن دينه، حتى أصبحنا في النِّهاية صديقيْن حميميْن.
وفي إحدى المناسبات ذهبنا إلى البلد لإرسال بعض الرسائل. وهناك حدث أن رأيت جمهرةً من أُناسٍ كثيرين يشاهدون فيلماً لمناظرةٍ لأحد أفضل المبشِّرين لديّ.
وقد أخبرني صديقي المسلم بأنَّ هذا الَّذي أدعوه بأفضل مبشِّرٍ لديّ كان الشيخ أحمد ديدات، وهو داعيةٌ إسلاميٌّ مشهور، فأخبرته بأنَّ رهباننا في الوطن جعلونا نعتقد بأنَّه مبشِّرٌ عظيمٌ فقط؛ وأخفوا عنَّا شخصيَّته الحقيقيَّة بأنَّه داعيةٌ مسلم، ومهما كانت نيَّتهم، فإنَّها بالتأكيد كانت لإبعادنا عن معرفة الحقيقة.
على الرغم ممَّا عرفته، فقد اشتريت أشرطة الفيديو، وبعض الكتب أيضاً لأقرأ عن الإسلام.
وفي مكان إقامتنا، حدَّثني صديقي عن قصص الأنبياء، وكنت حقيقةً مُقتنعاً، لكنَّ كبريائي أبقاني بعيداً عن الإسلام.
وبعد مُضيِّ سبعة أشهر، حضر إليَّ في غرفتي صديقٌ آخر، وهو مسلمٌ من الهند، وأعطاني نسخةً من ترجمة معاني القرآن الكريم بالإنجليزيَّة. وفيما بعد قادني إلى البلد، ثم اصطحبني إلى المركز الإسلاميّ.
هناك قابلت أحد الإخوة الفلبينيِّين؛ ودار بيننا نقاشٌ حول بعض المسائل الدينيَّة، وقام بربط ذلك بمقارنةٍ لحياته قبل الإسلام ـ حين كان مسيحيّاً ـ وبعده؛ ثم شرح لي بعض تعاليم الإسلام.
وفي تلك الليلة المباركة، دخلت الإسلام، وأعلنت دخولي الإسلام بترديد الشهادتين)
سرد لي قصته، ثم قال: كنت سابقاً أتَّبع ديناً أعمى، أمَّا الآن فإنِّي أرى الحقيقة المطلقة، وهي أنَّ الإسلام هو الطريقة الأفضل والكاملة للحياة المصمَّمة لكلِّ البشريَّة.
من الأسماء التي رأيتها في دفتر الغريب في هذا الفصل اسم (الدكتور جاري ميلر) ([13])، فسألت الغريب عنه، فقال: قال: هذا (جاري ميلر).. أو كما يحب أن يسمى (عبد الأحد عمر).. وهو كندي الأصل.. وقد كان قسيساً نشيطا يدعو للمسيحية، بالإضافة إلى اهتمامه بالرياضيات.. بل كونه عالما فيها.
وقد كان أول لقاء لي معه أني كنت في ساحة (.. !؟) أستمع إليه، وهو يتوجه بخشوع للملتفين حوله يقول لهم: أيها المسلمون، لو أدركتم فضل ما عندكم علي ما عند غيركم لحمدتم الله أن أنبتكم من أصلاب مسلمة ورباكم في محاضن المسلمين وأنشأكم علي هذا الدين العظيم.
ثم أضاف: إن معني النبوة، ومعني الألوهية، ومعني الوحي، ومعنى الرسالة، ومعنى البعث، ومعنى الحساب.. كل تلك المعاني ليست إلا عندكم.. والفرق بين ما عندكم فيها، وما عند غيركم، كالفرق مابين السماء والأرض.
بعدما انتهى من خطابه الذي يفيض من قلب ممتلئ بالخشوع الصادق اقتربت منه لأتنسم سر رائحة الصدق التي نبعت من كلامه.
قال لي: لقد جذبني لهذا الدين وضوح العقيدة، ذلك الوضوح الذي لا أجده في عقيدة سواها.
قلت: هذه الجملة.. فما التفاصيل؟
قال: لقد كنت أحب الرياضيات حبا شديدا.. وقد كان سر حبي لها هو حب المنطق أو التسلسل المنطقي للأمور..
قلت: فهل قادتك الرياضيات للإسلام؟
قال: تستطيع أن تقول ذلك.. في يوم من الأيام أردت أن أطبق المنهج المنطقي مع القرآن.. لقد قرأته بحثا عن بعض الأخطاء التي تعزز موقفي عند دعوتي للمسلمين للمسيحية… وكنت أتوقع أن أجد القرآن كأي كتاب بشري تلوح عليه آثار المؤلف، وآثار البيئة التي أبدع فيها.
قلت: فما وجدت؟
قال: وجدت ما بهرني.. لقد وجدت أن القرآن ذلك الكتاب القديم الذي كتب منذ 14 قرنا لا يتكلم عن الصحراء ولا عن البيئة العربية.. بل ولا عن محمد وحياة محمد كشأن الكتاب المقدس عندنا.. بل هو كتاب يحتوي على أشياء لا توجد في أي كتاب آخر في هذا العالم.
كنت أتوقع أن أجد بعض الأحداث العصيبة التي مرت على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مثل وفاة زوجته خديجة أو وفاة بناته وأولاده.. لكني لم أجد شيئا من ذلك.
بل وجدت فوق ذلك.. وهو ما أوقعني في حيرة عظيمة.. أن هناك سورة كاملة في القرآن تسمى سورة مريم، وفيها تشريف لمريم ـ عليها السلام ـ ولا يوجد مثيل لها في كتب المسيحيين ولا في أناجيلهم.. وفي نفس الوقت لم أجد سورة باسم عائشة أو فاطمة.
ومثل ذلك وجدت أن عيسى عليه السلام ذكر بالاسم 25 مرة في القرآن في حين أن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لم يذكر إلا 4 مرات فقط.
ثم أخذت أقرأ القرآن بتمعن أكثر لعلي أجد مأخذا عليه.. لكني لم أجد إلا ما يبهرني:
لقد قرأت مرة قوله تعالى:{ أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً } (النساء:82)، فملأتني بالحيرة.. فمن المبادئ العلمية المعروفة في الوقت الحاضر مبدأ إيجاد الأخطاء أو تقصي الأخطاء في النظريات إلى أن تثبت صحتها Falsification test.. والعجيب أن القرآن الكريم يدعوا المسلمين وغير المسلمين إلى إيجاد الأخطاء فيه ولن يجدوا.
ومع كثرة بحوثي ومطالعاتي لم أجد مؤلفا في العالم يمتلك الجرأة، ليؤلف كتابا، ثم يقول عنه (هذا الكتاب خالي من الأخطاء).. ولكن القرآن على العكس تماما لا يقول لك (لا يوجد أخطاء) فقط، بل يعرض عليك أن تجد فيه أخطاء، ولن تجد.
ومن الآيات التي استوقفتني، وبهرتني:{ أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ} (الانبياء:30)
لقد وجدت أن هذه الآية هي بالضبط موضوع البحث العلمي الذي حصل على جائزة نوبل في عام 1973، وكان عن نظرية الانفجار الكبير، وهي تنص أن الكون الموجود هو نتيجة انفجار ضخم حدث منه الكون بما فيه من سماوات وكواكب.. فالرتق هو الشي المتماسك في حين أن الفتق هو الشيء المتفكك ([14]) ..
ومن الآيات التي استوقفتني قوله تعالى:{وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ (210) وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ(211)} (الشعراء)، وقوله تعالى:{ فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ } (النحل:98)
التفت إلي، وقال: أرأيت.. هل هذه طريقة الشيطان في كتابة أي كتاب.. يؤلف كتابا، ثم يقول قبل أن تقرأ هذا الكتاب يجب عليك أن تتعوذ مني.
إن هذه الآيات من الأمور الإعجازية في هذا الكتاب المعجز.. وفيها رد منطقي لكل من قال بهذه الشبهة.
ومن السور التي استوقفتني سورة المسد:{ تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ (2) سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ (3) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4) فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ (5)} (المسد)
لقد علمت أن هذا الرجل أبا لهب كان يكره الإسلام كرها شديدا، لدرجة أنه كان يتبع محمدا صلى الله عليه وآله وسلم أينما ذهب ليقلل من قيمة ما يقوله الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.. فإذا رأى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم يتكلم إلى أناس غرباء، فإنه ينتظر حتى ينتهي الرسول من كلامه ليذهب إليهم ثم يسألهم ماذا قال لكم محمد؟.. لو قال لكم أبيض، فهو أسود، ولو قال لكم ليل فهو نهار.
وقبل 10 سنوات من وفاة أبي لهب نزلت هذه السورة، وهي تقرر أن أبا لهب سوف يذهب إلى النار ، أي بمعنى آخر أنه لن يدخل الإسلام.
وخلال عشر سنوات كاملة كل ما كان على أبي لهب أن يفعله هو أن يأتي أمام الناس ويقول: (محمد يقول أني لن أسلموسوف أدخل النار، ولكني أعلن الآن أني أريد أن أدخل في الإسلام وأصبح مسلما.. الآن مارأيكم هل محمد صادق فيما يقول أم لا؟هل الوحي الذي يأتيه وحي إلهي؟)
لكن أبا لهب لم يفعل ذلك، مع أن كل أفعاله كانت هي مخالفة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لكنه لم يخالفه في هذا الأمر.
لقد كانت لدية عشر سنوات ليهدم الإسلام بدقيقة واحدة، ولكن لأن هذا الكلام ليس كلام محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولكنه وحي ممن يعلم الغيب ويعلم أن أبا لهب لن يسلم فإن أبا لهب لم يسلم.
كيف لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم أن يعلم أن أبا لهب سوف يثبت ما في السورة إن لم يكن هذا وحيا من الله؟.. بل كيف يكون واثقا خلال عشر سنوات كاملة أن ما لديه حق لو لم يكن يعلم أنه وحيا من الله؟
لكي يضع شخص هذا التحدي الخطير ليس له إلا معنى واحد هذا وحي من الله([15]).
وقد ذكر لي هذا الدكتور الفاضل أن من المعجزات الغيبيبة التي استوقفته، وجعلته يراجع نفسه التحدي القرآني للمستقبل بأشياء لايمكن أن يتنبأ بها الإنسان وهي خاضعة لنفس الاختبار السابق ألا وهو Falsification tests أو مبدأ إيجاد الأخطاء حتى تتبين صحة الشيء المراد اختباره.
فالقرآن ـ مثلا ـ يذكر أن اليهود هم أشد الناس عداوة للمسلمين، وهذا مستمر الى وقتنا الحاضر، فأشد الناس عداوة للمسلمين هم اليهود.
وهذا يعتبر تحديا عظيما، ذلك أن اليهود لديهم الفرصة لهدم الإسلام بأمر بسيط ألا وهو أن يعاملوا المسلمين معاملة طيبة لبضع سنين، ويقولون عندها: (ها نحن نعاملكم معاملة طيبة، والقرآن يقول إننا أشد الناس عداوة لكم ، إذن القرآن خطأ!، ولكن هذا لم يحدث خلال 1400 سنة !! ولن يحدث، لأن هذا الكلام نزل من الذي يعلم الغيب وليس كلام إنسان)
التفت إلي، وقال: هل رأيت أن الآية التي تتكلم عن عداوة اليهود للمسلمين تعتبر تحديا للعقول، فالله تعالى يقول:{ لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ } (المائدة:82)
ومن الآيات التي ذكر لي هذا الدكتور الفاضل أنها استوقفته تلك الآيات التي تنبئ عن وحي الله لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بما في القرآن من الغيوب.. فالله تعالى يقول:{ ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ } (آل عمران:44)، ويقول:{ تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ) (هود:49)، ويقول:{ ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ) (يوسف:102)
لقد قال لي الدكتور ميلر بعد أن قرأ علي هذه الآيات: (لا يوجد كتاب مما يسمى بالكتب الدينية المقدسة يتكلم بهذا الأسلوب، كل الكتب الأخرى عبارة عن مجموعة من المعلومات التي تخبرك من أين أتت هذه المعلومات ، على سبيل المثال الكتاب المقدس عندما يناقش قصص القدماء فهو يقول لك الملك فلان عاش هنا وهذا القائد قاتل هنا معركة معينة وشخص آخر كان له عدد كذا من الأبناء وأسماءهم فلان وفلان..
والكتاب المقدس دائما يخبرك إذا كنت تريد المزيد من المعلومات يمكنك أن تقرأ الكتاب الفلاني أوالكتاب الفلاني لأن هذه المعلومات أتت منه.
وهذا كله بعكس القرآن الذي يمد القارىء بالمعلومة، ثم يقول: لك هذه معلومة جديدة.. بل ويطلب منك أن تتأكد منها إن كنت مترددا في صحة القرآن بطريقة لا يمكن أن تكون من عقل بشر.. والمذهل في الأمر هو أهل مكة في ذلك الوقت ـ أي وقت نزول هذه الآيات ـ ومرة بعد مرة كانوا يسمعونها ويسمعون التحدي بأن هذه معلومات جديدة لم يكن يعلمها محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولا قومه ،، بالرغم من ذلك لم يقولوا: هذا ليس جديدا بل نحن نعرفه ، أبدا لم يحدث أن قالوا مثل ذلك ولم يقولوا: نحن نعلم من أين جاء محمد بهذه المعلومات ، أيضا لم يحدث مثل هذا ، ولكن الذي حدث أن أحدا لم يجرؤ على تكذيبه أو الرد عليه لأنها فعلا معلومات جديدة كليا، وليست من عقل بشر، ولكنها من الله الذي يعلم الغيب في الماضي والحاضر والمستقبل)
قلت: أرى أن النبوءات التي ملأتك بالانبهار في القرآن؟
قال: ليست وحدها.. بل كل القرآن بهرني.. كل آية من آياته، بل كل كلمة من كلماته..
أذكر أنه قبل بضع سنوات، وصلتنا قصَّةٌ إلى تورونتو بكندا عن رجلٍ كان بحَّاراً في الأسطول التجاريّ، ويكسب رزقه من عمله في البحر، وقد أعطاه أحد المسلمين ترجمةً لمعاني القرآن الكريم ليقرأها، ولم يكن هذا البحَّار يعرف شيئاً عن تاريخ الإسلام، لكنَّه كان مهتمّاً بقراءة القرآن الكريم. وعندما أنهى قراءته، حمله وعاد به الى المسلم الَّذي أعطاه إياه، وسأله: (مُحمَّدٌ هذا.. أكان بحَّاراً؟)، فقد كان الرجل مندهشاً من تلك الدِّقَّة الَّتي يصف بها القرآن العاصفة على سطح البحر. وعندما جاءه الردُّ: (لا، في الحقيقة لم يكن. فمحمَّدٌ عاش في الصَّحراء)
لقد كان هذا كافياً له ليُعلن إسلامه على الفور، لقد كان مُتأثِّراً جدّاً بالوصف القرآنيِّ للعاصفة البحريَّة، لأنَّه بنفسه كان مرَّةً في خِضَمِّها، وكان لذلك يعلم أنَّه أيّاً من كان الَّذي كتب هذا الوصف، فإنَّه لا بُدَّ وقد عاش هذه العاصفة بنفسه، فالوصف الَّذي جاء في القرآن عن العاصفة لم يكن شيئاً يستطيع أن يكتبه أيُّ كاتبٍ من محض خياله، والموج الَّذي من فوقه موجٌ من فوقه سحاب لم يكن شيئاً يمكن لأحدهم تخيُّله والكتابة عنه، بل إنَّه وصفٌ كتبه من يعرف حقاًّ كيف تبدو العاصفة البحريَّة.
التفت إلي، وقال: هذا مثلٌ واحدٌ على أنَّ القرآن ليس مرتبطاً بزمان أو مكان، ومن المؤكد أنَّ الإشارات العلميَّة الَّتي يُعبِّر عنها لا يمكن أن يكون أصلها من الصَّحراء قبل أربعة عشر قرناً مضت.
لقرونٍ عدَّةٍ قبل ظهور رسالة محمَّدٍ صلى الله عليه وآله وسلم، كانت هناك نظريَّةٌ معروفةٌ عن الذرَّة وضعها الفيلسوف اليوناني ديموقريتوس، فهذا الفيلسوف والَّذين جاءوا من بعده افترضوا أنَّ المادَّة تتكوَّن من دقائق صغيرةٍ غير مرئيَّةٍ وغير قابلةٍ للانقسام تسمى الذرَّات. وكان العرب أيضاً قد أَلِفُوا هذا المفهوم، فكانت في الواقع كلمة (ذرَّة) في العربيَّة تعني أصغر جزءٍ كان معروفاً للإنسان.
أمَّا الآن فإنَّ العلم الحديث قد اكتشف بأنَّ هذه الوحدة الأصغر للمادَّة ـ وهي الذرَّة الَّتي تحمل نفس خصائص المادة الَّتي تنتمي إليها ـ يمكن تقسيمها إلى مُكوِّناتها.
وهذه حقيقةٌ جديدةٌ تُعدُّ نتاجاً للتطوُّر في القرن الماضي، فمن المثير جدّاً للاهتمام أنَّ هذه المعلومة كانت قد وُثِّقت فعلاً في القرآن الكريم قبل ذلك بأربعة عشر قرناً، والَّذي يقول الله تعالى فيه:{ وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) (يونس:61)
فبلا أدنى شك أنَّ مثل هذا التصريح لم يكن شيئاً مألوفاً حتَّى للعربيِّ في ذلك الوقت، فبالنسبة له كانت الذرَّة هي أصغر شيءٍ موجود، وهذا دليلٌ على أنَّ القرآن لم يعف عليه الزَّمن.
قلت: أرى لك اهتماما آخر بالإعجاز العلمي الذي يذكر المسلمون بأنه موجود في القرآن؟
قال: أجل.. إنَّ فهم القرآن الكريم بطريقةٍ علميَّةٍ حقيقيَّةٍ ممكنٌ للغاية، وذلك لأنَّ القرآن الكريم يقدِّم شيئاً لا تقدِّمه الكتب السماويَّة الأخرى خاصَّة أو الأديان الأخرى عامَّة. إنَّ في القرآن ما يطلبه العلماء. هناك الكثير في هذه الأيَّام ممَّن لديهم نظريَّاتٍ عن طريقة عمل الكون، إنَّهم في كلِّ مكان من حولنا، لكنَّ مجتمع أهل العلم لا يكلِّف نفسه حتَّى بالاستماع إليهم. وذلك لأنَّ المجتمع العلميَّ -وخلال القرن الماضي- وضع شرطاً لقبول مناقشة النظريَّات الجديدة، وهو ما يُسمَّى (اختبار الزَّيف) فهم يقولون: (إن كانت لديك نظريَّة، فلا تزعجنا بها حتى تحضر لنا مع هذه النظريَّة طريقةً ما تُثبت إن كنت على صوابٍ أم على خطأ)
مثل هذا الاختبار كان بالتأكيد هو السَّبب الَّذي جعل العلماء يستمعون لإينشتاين في مطلع هذا القرن. لقد جاء بنظريَّةٍ جديدةٍ، وقال: (أنا أعتقد بأنَّ الكون يعمل بهذه الطَّريقة، وها هي ثلاث طُرُقٍ لتُثبت إنْ كنت مخطئاً!) بعدئذٍ وضع العلماء نظريَّته تحت الاختبار لمدَّة ستِّ سنوات، فنَجَحَتْ في اجتياز الاختبارات، وبالطُّرق الثَّلاث كلِّها.
طبعاً، هذا لم يثبت أنَّه كان عظيماً، بل أثبت فقط أنَّه يستحقُّ أنْ يُستمع له، لأنَّه قال: (هذه هي نظريَّتي، وإنْ أردتم إثبات أنِّي مخطئٌ فافعلوا هذا أو جرِّبوا ذاك)
وهذا هو بالضَّبط ما يقدِّمه القرآن الكريم.. بعض هذه الاختبارات أصبحت مفروغاً منها حيث إنَّها أثبتت صحَّتها، والبعض الآخر ما زال قائماً إلى يومنا هذا. إنَّ القرآن يشير أساساً إلى أنَّه إذا لم يكن هذا الكتاب هو ما يدَّعيه، فما عليكم إلَّا أن تفعلوا هذا أو ذاك لتثبتوا أنَّه مُزيَّف، وخلال ألفٍ وأربعمائة سنة مرَّت لم يستطع أحد بالطبع أن يفعل هذا أو ذاك فيثبت ذلك، لذلك ما زال يعتبر صحيحاً وأصيلاً.
ولهذا أنا أقترح على من يريد أن يدخل في مناظرةٍ حول الإسلام مع أحد من غير المسلمين ـ الَّذين يدَّعون أنَّ لديهم الحقيقة وأنَّ المسلمين على الباطل ـ أن يضع بدايةً كلَّ الحُجَجِ الأخرى جانباً وأن يسأله ما يلي: (هل يوجد أيُّ اختبارٍ للزَّيف في دينك؟ هل يوجد في دينك ما يمكن أن يُبيِّن أنَّكم على خطأ إن استطعت أنا أن أُثبت ذلك؛ هل يوجد أيُّ شيء؟!
التفت إلي، وقال: أستطيع أن أعدك منذ الآن أنَّه لن يكون لدى أيٍّ منهم أيُّ اختبار أو إثبات؛ لا شيء!وذلك لأنَّهم ليس لديهم أدنى فكرةٍ أنَّه يتوجَّب عليهم حين عرضهم ما يؤمنون به على النَّاس أن يقدِّموا لهم الفرصة لإثبات أنهَّم مخطئون إن استطاعوا.
ومع هذا، فإنَّ الإسلام يقدِّم لهم ذلك. ومثالٌ رائعٌ على كيفيَّة تزويد القرآن الكريم الإنسان بفرصةٍ ليتثبَّت من أصالته، وأن (يثبت زيفه) جاء في السُّورة الرابعة. وأقول بصدق أنِّي كنت مندهشاً حين اكتشفت هذا التحدِّي لأوَّل مرَّة:{ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْءَانَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا } (النساء 82)
فهذا يمثِّل تحدِّياً واضحاً لغير المسلمين، لأنَّه (وبطريقةٍ غير مباشرة) يدعوهم لإيجاد أيِّ خطأ. وحقَّاً -إن وضعنا الجديَّة أو الصُّعوبة في هذا التحدِّي جانباً- فإنَّ تقديم مثل هذا التحدِّي -في المقام الأوَّل- ليس حتَّى من طبيعة البشر، فهو يتعارض مع تكوين الشخصيَّة البشريَّة. فالإنسان لا يتقدَّم لاختبارٍ في المدرسة، ثمَّ بعد إنهاء الاختبار يكتب ملحوظةً للمُصَحِّحِ يقول فيها: (هذه الإجابات مثاليَّة، ولا يوجد فيها أيُّ خطأ. فجد خطأً واحداً إن استطعت!) فالإنسان ببساطةٍ لا يفعل ذلك. فذاك المعلِّم ما كان ليذوق طعم النَّوم حتى يجد خطأً ما! ومع ذلك فإنَّ هذه هي الطَّريقة الَّتي يصل بها القرآن إلى النَّاس.
سكت قليلا، ثم قال: موقفٌ آخرٌ مثيرٌ للدَّهشة يتكرَّر في القرآن كثيراً، ويتعامل مع نُصح القارئ، فالقرآن يُعْلِمُ القارئ عن حقائق مختلفةٍ ثمَّ يُعطيه النَّصيحة بأنَّه إن كان يريد أن يعرف أكثر عن هذا أو ذاك، أو إن كان يشكُّ فيما قيل، فما عليه عندئذٍ إلَّا أن يسأل أولئك الَّذين يملكون العلم والمعرفة. وهذا موقفٌ مدهش، فمن غير المعتاد أن يُؤلَّف كتابٌ من قِبَلِ إنسانٍ لا يملك أيَّ خلفيَّةٍ جغرافيَّة، أو نباتيَّة، أو أحيائيَّة، ويبحث فيه مثل هذه الموضوعات، وبعدئذٍ ينصح القارئ بأن يسأل أهل العلم إن كان في رَيْبٍ من شيء. يقول الله تعالى في القرآن العظيم:{ وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ } (الأنبياء 7)
في كلِّ عصرٍ من العصور السابقة ـ وحتَّى الآن ـ كان هناك علماء مسلمون يتتبَّعون إرشادات القرآن، وقد توصَّلوا إلى اكتشافاتٍ مذهلة، فإذا نظر أحدنا إلى أعمال العلماء المسلمين لعصورٍ عديدةٍ مضت، فسيجد أنَّهم كانوا ممتلئين بالاستشهادات القرآنيَّة، فأعمالهم تُبيِّن أنَّهم قاموا بالبحث في مكانٍ ما عن شيءٍ ما، وقد أكَّدوا أنَّ سبب بحثهم في مثل هذا المكان أو ذاك بالذَّات لأنَّ القرآن أرشدهم في ذلك الاتجاه.
فمثلاً يشير القرآن إلى خلق الإنسان، ثمَّ يحثُّ القارئ على البحث في ذلك، فهو يعطي القارئ لمحةً أين يبحث، ويخبره بأنَّه سيجد معلوماتٍ أكثر عن ذلك، وهذه هي نوعيَّة الأشياء الَّتي يبدو أنَّ المسلمين اليوم يبحثونها بتوسُّع.
سأضرب لك مثلا على ذلك.. قبل عدَّة سنوات، قام بعض المسلمين بجمع كلِّ الآيات القرآنيَّة الَّتي تتحدَّث عن علم الأَجِنَّة، وهو العلم الَّذي يدرس مراحل نموِّ الجنين في الرَّحم؛ ثمَّ قالوا: (هذا ما يقوله القرآن الكريم. فهل هو حقّ؟)
في الحقيقة، لقد أخذوا في هذا بنصيحة القرآن الكريم:{ فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ }(النحل:43).. وحصل أن اختاروا أستاذاً جامعيّاً في علم الأجنَّة من جامعة تورونتو في كندا، ولم يكن مسلماً. هذا الأستاذ يُدعى (كيث موور)، وهو مؤلِّفٌ للعديد من الكتب في علم الأجنَّة، ويُعدُّ من الخبراء العالميِّين المُبرِّزين في هذا المجال، وجَّهوا له الدَّعوة، ثمَّ قالوا له: (هذا ما يقوله القرآن الكريم فيما يخصُّ تخصُّصَكم. فهل هو صحيح؟.. ماذا تستطيع أن تخبرنا عن ذلك؟).. وأثناء إقامته في بلاد المسلمين، قدَّموا له كلَّ المساعدة الَّتي احتاجها في الترجمة وكلَّ العون الَّذي كان يطلبه.
لقد كان مذهولاً جدّاً بما وجد بحيث أنَّه غيَّر بعض النُّصوص في كتبه، فقد قام في الطبعة الثانية من (تاريخ علم الأجنَّة) بإضافة بعض المواد الَّتي لم تكن موجودة في الطبعة الأولى، وذلك لما وجده في القرآن الكريم، وحقّاً فإنَّ هذا يُصوِّر بوضوحٍ أن القرآن الكريم سابقٌ لزمانه، وأنَّ أولئك الَّذين يؤمنون به يعرفون ما لا يعرفه الآخرون([16]).
ابتسم، ثم قال: لقد كان من دواعي سروري أنِّي أجريت لقاءً تلفازيّاً مع الدكتور كيث موور، وتحدَّثنا مُطوَّلاً حول هذا الموضوع، وكان ذلك بالاستعانة بالصور التوضيحيَّة وغيرها، وقد ذكر بأنَّ بعض الأشياء الَّتي ذكرها القرآن الكريم عن نموِّ الإنسان لم تكن معروفةً إلى ما قبل ثلاثين عاماً، لقد ذكر في الواقع موضوعاً مُعيَّناً بشكل خاص، وهو وصف القرآن الكريم للإنسان بالعلقة في إحدى مراحل نموِّه، وأنَّ هذا الوصف كان جديداً بالنسبة إليه، ولكنَّه عندما تفحَّص الأمر وجده حقيقة، وهكذا أضافه إلى كتابه. لقد قال: (لم يخطر ببالي ذلك أبداً من قبل)، ولهذا فقد ذهب إلى قسم علم الحيوان وطلب صورةً للعلقة، وعندما وجد أنَّها تشبه الجنين تماماً في هذه المرحلة من النموّ، قرَّر أن يضع الصورتين في أحد كتبه (صورة الجنين وصورة العلقة).
بعد ذلك قام الدكتور موور أيضاً بتأليف كتابٍ عن علم الأجنَّة السريريِّ، وعندما نشر هذه المعلومات في تورونتو سبَّبت ضجَّةً كبيرةً في كلِّ أنحاء كندا.
لقد كانت في بعض الصُّحف على الصَّفحات الأولى وفي جميع أنحاء كندا، وبعض العناوين الرئيسيَّة كانت شديدة الطَّرافة. فمثلاً، كان أحد العناوين الرئيسيَّة يقول: (شيءٌ مدهشٌ وُجِدَ في كتابٍ قديم!)
ويبدو واضحاً من هذا المثل أنَّ النَّاس لم يفهموا بوضوحٍ حول ماذا كانت كلُّ تلك الضجَّة، وأحد الأمور الَّتي حدثت حقّاً أنَّ أحد الصحفيين سأل الدكتور موور: (ألا تعتقد أنَّ العرب ربَّما كانوا يعرفون هذه المعلومات عن هذه الأشياء، أي عن وصف الجنين، وعن شكله وكيف يتغيَّر وينمو؟ فربَّما لم يكن هناك علماء، ولكنَّهم ربَّما قاموا بشيءٍ من التشريح الوحشيِّ على طريقتهم – أي قاموا بتقطيع النَّاس وتفحُّص هذه الأشياء)
فأشار له الدكتور على الفور بأنَّه نسي شيئاً في غاية الأهميَّة، وهو أنَّ كلَّ صور الجنين الَّتي عُرضت في الفيلم قد جاءت من صورٍ أُخِذت عن طريق المجهر؛ وأضاف قائلاً: (ليست المسألة هي إنْ كان أحد النَّاس قد حاول اكتشاف علم الأجنَّة قبل أربعة عشر قرناً مضت، ولكنَّها في أنَّه لو حاول ذلك فإنَّه لم يكن باستطاعته رؤية شيءٍ على الإطلاق!)
فكلُّ ما يصفه القرآن الكريم عن شكل الجنين هو عندما يكون صغيراً جدّاً ولا يُرى بالعين المجرَّدة، لذا فالمرء بحاجةٍ إلى مجهرٍ ليرى ذلك، إلَّا أنَّ مثل هذه الآلة لم تُكتشف إلَّا قبل أكثر من مائتي عامٍ بقليل.
وأضاف الدكتور موور ساخراً: (ربَّما كان لدى أحدهم ـ قبل أربعة عشر قرناً مضت ـ مجهراً سرِّيّاً، فقام بعمل هذه الأبحاث، ولم يرتكب أثناء ذلك أيَّ خطأٍ يُذكر، ثمَّ علَّم محمَّداً ذلك بطريقةٍ ما، وأقنعه بأن يضع هذه المعلومات في كتابه؛ وبعدئذٍ حطَّم مجهره، واحتفظ بسرِّه للأبد.. فهل أنت تصدِّق ذلك؟! يجب عليك حقّاً ألَّا تفعل، حتَّى تحضر دليلاً للإثبات، لأنَّ مثل هذه النظريَّة ما هي إلَّا سخافة!)
وعندما سُئِل الدكتور موور: (كيف تفسِّر إذاً وجود مثل هذه المعلومات في القرآن؟) كان ردُّه: (لم يكن هذا ممكناً إلَّا بوحيٍ من الله)
ومع أنَّ هذا المثل عن بحث الإنسان عن معلوماتٍ مُحتواةٍ في القرآن الكريم قام به عالمٌ غير مسلم، إلَّا أنَّه يعتبر صحيحاً، وذلك لأنَّ هذا الرَّجل واحدٌ من أهل الذِّكر في هذا المجال، فلو ادَّعى شخصٌ عاديٌّ بأنَّ ما يقوله القرآن حول علم الأجنَّة صحيح، لما كان لزاماً علينا قبول كلامه.
على أيَّة حال فإنَّ المركز المرموق والاحترام والتقدير الَّذي يكنُّه المرء للعلماء تجعل الإنسان يفترض تلقائيّاً صحَّة النتائج الَّتي يتوصَّلون اليها نتيجة البحث في موضوعٍ ما.
وهذا ما دفع أحد زملاء الدكتور موور ـ يُدْعى مارشال جونسون، ويعمل بشكلٍ مُكثَّفٍ في مجال علم الجيولوجيا (علم طبقات الأرض) في جامعة تورونتو ـ لكي يصبح مُهتمّاً جدّاً بالقرآن الكريم، لأنَّ الحقائق الَّتي ذكرها عن علم الأجنَّة كانت دقيقة، ولذلك سأل المسلمين أن يجمعوا له كلَّ شيءٍ في القرآن الكريم ممَّا له علاقة بتخصُّصه، ومرَّةً أخرى كان النَّاس مندهشين جدّاً من النتائج.
التفت إلي، وقال: إنَّ عدداً كبيراً من الموضوعات مذكورٌ في القرآن الكريم، ممَّا يتطلَّب بالتأكيد وقتاً طويلاً لتفصيل كلِّ موضوعٍ على حدة، فيكفي من أجل الهدف من هذا النِّقاش أن أقول بأنَّ القرآن الكريم يضع تصريحاتٍ واضحةٍ ودقيقةٍ حول موضوعاتٍ متنوِّعةٍ، وأثناء ذلك ينصح القارئ بالتثبُّت من صحَّتها بالبحث عند العلماء، وكلُّ ما صُوِّر في القرآن أثبت صحَّته بوضوح.
سكت قليلا، ثم قال: هناك أمرٌ في القرآن الكريم لا نجده في أيِّ كتابٍ آخر!
قلت: ما هو؟
قال: من المثير للاهتمام أنَّ القرآن الكريم حين يزوِّد القارئ بالمعلومات، فإنَّه كثيراً ما يخبره بأنَّه لم يكن يعلم ذلك من قبل.
اسمع قوله تعالى:{ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً) (النساء:113).. واسمع قوله تعالى:{ كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ } (البقرة:151)
وطبعاً لا يوجد أيُّ كتابٍ مقدَّسٍ يقوم بتقديم مثل هذا الزَّعم، فكلُّ الكتب المقدَّسة والمخطوطات القديمة الَّتي يملكها النَّاس تحوي بالفعل معلوماتٍ كثيرة، ولكنَّها تذكر دوماً من أين جاءت تلك المعلومات.
فمثلاً، عندما يناقش الإنجيل التاريخ القديم، فإنَّه يذكر بأنَّ هذا الملك عاش في المنطقة الفلانيَّة، وأنَّ ذاك خاض المعركة الفلانيَّة، وأنَّ الآخر كان له أبناء كثيرون.
وهو دائماً ينصُّ على أنَّك إنْ أردت الحصول على المزيد من المعلومات، فما عليك إلَّا أن تقرأ الكتاب الفلاني أو العلَّاني، لأنَّه من هناك جاءت المعلومات. وباختلافٍ كبيرٍ عن هذا الأسلوب، فإنَّ القرآن الكريم يزوِّد القارئ بالمعلومات، ثمَّ يقول له إنَّ هذه المعلومات شيءٌ جديدٌ لم يكن يعرفه أحدٌ حين نزوله.
وطبعاً كان هناك دائماً دعوةٌ للبحث في هذه المعلومات، للتأكُّد من صحَّتها وأصالتها (إنَّها وحيٌ من الله تعالى).
ومن المثير للدَّهشة أنَّ مثل هذا الطَّرْح لم يستطع أبداً أنْ يتحدَّاه أحدٌ من غير المسلمين قبل أربعة عشر قرناً مضت، فالواقع أنَّ أهل مكَّة الَّذين كانوا يكرهون المسلمين كرهاً شديداً، وكانوا يستمعون لهذا الوحي المرَّة تلو المرَّة وهو يدَّعي بأنَّ ما يسمعونه شيءٌ جديدٌ لم يعرفوه من قبل، لم يستطع أحدٌ منهم أن يرفع صوته قائلاً: (لا، ليس هذا بجديد. فنحن نعلم من أين جاء محمَّدٌ بهذه المعلومات، فقد تعلَّمناها في المدرسة)
إنَّهم لم يستطيعوا أبداً تحدِّي أصالة القرآن الكريم، لأنَّه فِعْلاً كان شيئاً جديداً.
سكت قليلا، وكأنه يسترجع ذكرياته، ثم قال: في إحدى المرَّات جاءني رجلٌ بعد أن أنهيت محاضرةً ألقيتها في جنوب إفريقيا، لقد كان غاضباً جدّاً لما قلتهُ، ولذلك ادَّعى قائلاً: (سأذهب إلى بيتي الليلة ولا بُدَّ أن أجد خطأً ما في القرآن)، فأجبته طبعاً: (أُهنِّئُك. فهذا هو الشيء الأكثر ذكاءً فيما قلته)
بالتأكيد، هذا هو الموقف الَّذي يجب أن يتَّخذه المسلمون مع أولئك الَّذين يشكُّون في أصالة القرآن الكريم، لأنَّ القرآن الكريم نفسه يُقدِّم هذا التحدِّي، فحتماً بعد القبول بهذا التحدِّي، والاكتشاف بأنَّ القرآن حقّ، فإنَّهم سيؤمنون به لأنَّهم لم يستطيعوا أن يجرِّدوه من صحَّته؛ بل سيكتسب احترامهم لأنَّهم تأكَّدوا من أصالته بأنفسهم.
والحقيقة الأساسيَّة الَّتي يجب أن تُكرَّر كثيراً بخصوص التثبّت من أصالة القرآن الكريم، هي أنَّ عدم قدرة أحدهم على توضيح أيِّ ظاهرةٍ بنفسه لا يلزمه بقبول وجود هذه الظاهرة، أو قبول تفسير شخصٍ آخر لها.
وهذا يعني أنَّ عدم قدرة الإنسان على تفسير شيءٍ ما لا يعني أنَّه يجب بالضرورة أن يقبل بتفسير الآخرين. ومع ذلك فإنَّ رفض الإنسان لتفسير الآخرين يعود بالعبء عليه نفسه ليجد جواباً مُقْنِعاً. هذه النظريَّة العامَّة تنطبق على العديد من المفاهيم في الحياة، ولكنَّها تتناسب بشكلٍ كبيرٍ مع التحدِّي القرآني، لأنَّها تشكِّل صعوبةً كبيرةً لمن يقول: (أنا لا أومن بالقرآن)، ففي اللحظة الَّتي يرفضه فيها، يجد الإنسان نفسه ملزماً بأن يجد التفسير لذلك بنفسه، لأنَّه يشعر بأنَّ تفسيرات الآخرين ليست صحيحة.
في الحقيقة، وخاصَّةً في إحدى الآيات القرآنيَّة الَّتي اعتدت أن أرى أنَّها تُرجمت خطأً إلى الإنجليزيَّة، يذكر الله تعالى رجلاً كان يسمع آيات الله تتلى عليه، إلاَّ أنَّه كان يغادر دون أن يتفحص حقيقة ما سمع، أي أنَّ الإنسان ـ بطريقةٍ أو بأخرى ـ مذنبٌ إذا سمع شيئاً ولم يبحثه أو يتفحَّصه ليرى إن كان صحيحاً.
وهذا جاء في قوله تعالى:{ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } (لقمان:7)
فالإنسان يُفترض منه أن يُعْمِل عقله بكلِّ المعلومات الَّتي ترده، وأن يقرِّر ما هو الهراء منها ليُلْقِيه بعيداً، وما هو المفيد ليحتفظ به ويستفيد منه فيما بعد. فلا يستطيع المرء أن يترك الأمور على اختلاف أنواعها تزدحم في ذهنه هكذا فقط. بل يجب أن توضع الأمور في فئاتها المناسبة وأن تُفهم حسب ذلك.
فمثلاً، إذا كانت المعلومات ما تزال في حاجةٍ إلى تأمُّلٍ، فعندئذٍ يجب أن يُميِّز المرء إن كانت أقرب إلى الصواب، أم هي إلى الخطأ أقرب. ولكن إذا كانت كلُّ الحقائق قد عُرِضَت، فإنَّه عندئذٍ يجب عليه أن يُقرِّر تماماً بين هذين الأمرين. وحتَّى عندما لا يكون المرء إيجابياًّ بخصوص أصالة المعلومة، إلاَّ أنَّه ما زال مطلوباً منه أن يُعْمِل عقله في كلِّ المعلومات ليعترف بأنَّه فقط لا يعرف ذلك على وجه الدقَّة.
ومع أنَّ هذه النقطة الأخيرة تبدو وكأنَّها غير ذات قيمةٍ واقعياًّ، إلاَّ أنَّها مفيدةٌ للوصول إلى نتيجةٍ إيجابيَّةٍ فيما بعد، وذلك لأنَّها تُرغم المرء على الأقلِّ بأن يتعرَّف ويبحث ويعيد النظر في الحقائق. وهذا التآلف مع المعلومات سيزوِّد الإنسان بالحد الفاصل عندما تتمُّ الاكتشافات المستقبليَّة وتُعرض معلوماتٌ إضافيَّة، فالشيء المهمُّ هو أن يتعامل المرء مع الحقائق، لا أن ينبذها ـ هكذا وببساطة ـ وراء ظهره بدافع العاطفة أو اللامبالاة.
سكت قليلا، ثم قال: اليقين الحقيقيُّ بخصوص صحَّة القرآن الكريم واضحٌ من خلال الثِّقة الَّتي تُهَيْمِنُ خلال آياته، وهي الثَّقة الَّتي تأتي بطريقةٍ مختلفة، ألا وهي (استنزاف البدائل)، فالقرآن الكريم أساساً يؤكِّد أنَّه وحيٌ يوحى، فإن كان هناك من لا يصدِّق ذلك، فليثبت له مصدراً آخر! وهذا هو التحدِّي.
لدينا هنا كتابٌ مصنوعٌ من الورق والحبر، فمن أين أتى؟ وهو يقول أنَّه وحيٌ إلهي؛ فإن لم يكن كذلك، فما هو مصدره؟ والحقيقة المثيرة هي أنَّه لا يوجد أحدٌ على الإطلاق لديه تفسيرٌ يصلح ليناقض ما جاء في القرآن الكريم.
في الواقع، لقد تمَّ استنزاف كلِّ البدائل، وحيث أنَّ هذا الفكر قد أُسِّس من قِبَلِ غير المسلمين فقد اختزلت هذه البدائل لتصبح مقصورةً على مدرستين فكريَّتيْن تبادليّاً، مُصرِّين في ذلك على إحداهما أو على الأخرى. فمن ناحيةٍ توجد مجموعةٌ كبيرةٌ من الَّذين بحثوا في القرآن الكريم لمئات السنين والَّذين يدَّعون قائلين: (نحن متأكِّدون من شيءٍ واحد، وهو أن ذلك الرَّجل محمَّداً كان يتوهَّم أنَّه نبي.. فقد كان مجنوناً)، فهم مقتنعون بأنَّ محمَّداً صلى الله عليه وآله وسلم كان مخدوعاً بطريقةٍ ما.
ومن ناحيةٍ أخرى فإنَّ هناك مجموعة أخرى تدَّعي: (بوجود هذا الدَّليل (الجنون)، فإنَّنا يقيناً نعرف شيئاً واحداً، وهو أنَّ ذلك الرَّجل محمَّداً كان كاذباً)
وما هو مدعاةٌ للسخرية أنَّ هاتين المجموعتين لا يبدو أبداً أنَّهما تجتمعان دون تناقض، وفي الواقع، فإنَّ العديد من المراجع الَّتي كُتبت عن الإسلام عادةً تدَّعي النظريَّتين معاً. فهم يبدأون بالقول بأنَّ محمَّداً صلى الله عليه وآله وسلم كان مجنوناً، وينتهون بأنَّه كان كاذباً.
ويبدو أنَّهم لا يدركون أبداً بأنَّه صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن بالإمكان أن يكون الاثنين معاً! لكنَّ الكثير من المراجع في العادة تذكر هذيْن الأمريْن معاً.
فمثلاً، إذا جُنَّ أحد النَّاس وظنَّ حقاًّ أنَّه نبيّ، فإنَّه لن يقضي الليل بطوله مُخطِّطاً: (كيف سأخدع النَّاس غداً ليظنُّوا أنِّي نبيّ؟)، فلأنَّه يؤمن فعلاً بأنَّه نبيّ، هو واثقٌ بأنَّ الإجابة على أيِّ تساؤلٍ ستأتيه عن طريق الوحي.
وفي واقع الأمر، فإنَّ جزءاً كبيراً من القرآن الكريم نزل على شكل ردود على تساؤلات، فكان أحدهم يسأل رسول الله محمَّداً صلى الله عليه وآله وسلم سؤالاً، فينزل الوحي بالإجابة. ومؤكَّدٌ أنَّ أحد النَّاس إن كان مجنوناً ويعتقد بأنَّ ملاكاً سوف يلقي الإجابة في أُذُنه، فإنَّه عندئذ حين يسأله أحد النَّاس سؤالاً سيظنُّ بأنَّ ملاكاً سيأتيه بالإجابة. فلأنَّه مجنون، هو حقّاً سيظنُّ ذلك. ولن يطلب من السائل الانتظار بُرهةً، ثم يذهب إلى أصحابه ليسألهم: (هل يعرف أيٌّ منكم الإجابة؟) فهذا النَّوع من السُّلوك هو ميزةٌ لغير المؤمن بأنَّه نبي.
ما يرفض قبوله غير المسلمين هو أنَّ الإنسان لا يستطيع أن يكون الاثنين معاً، فهو إمَّا أن يكون متوهِّماً وإمَّا كاذباً. وبطريقةٍ أخرى، فهو إمَّا أن يكون واحداً منهما أو لا يكون كلاهما؛ وقطعاً لا يمكنه أن يكون الاثنين معاً! ويجب التأكيد هنا على حقيقة أنَّ هاتين الصفتين ـ بديهيّاً ـ هما سمتان شخصيّتان تبادليَّتان.. أي حيث توجد إحداهما فلا وجود للأخرى.
التفت إلي، وقال: سأذكر لك حوارا يمثل هذه الحلقة المفرغة الَّتي يدور فيها غير المسلمين بشكلٍ دائم. فإذا سألت أحدهم: (ما هو مصدر القرآن الكريم؟)، فإنَّه سيجيبك بأنَّ مصدره هو عقل رجلٍ كان مصاباً بالجنون، وعندئذ تسأله: (إن كان قد جاء به من رأسه، فمن أين حصل على المعلومات المحتواة فيه؟ فمن المؤكَّد أنَّ القرآن الكريم يذكر أشياء كثيرة لم يكن العرب يعرفونها)، ولكي يستطيع أن يفسر الحقيقة الَّتي قدَّمتها له فإنَّه سيغيِّر موقفه ويقول: (حسناً، ربَّما لم يكن مجنوناً، بل ربَّما كان بعض الأعاجم يعطونه تلك المعلومات، وهكذا كذب على النَّاس وأخبرهم بأنَّه كان نبيّاً)
وعند هذه النقطة يجب أن تسأله: (إذا كان محمدٌ كاذباً، فمن أين حصل على ثقته بنفسه؟ ولماذا كان يتصرَّف وكأنَّه كان نبيّاً فِعلاً؟)
وفي النِّهاية ـ وعندما يكون قد حُشر في الزاوية ـ فإنَّه كالقطَّة سيندفع فجأةً وبسرعةٍ بأوَّل ردٍّ يخطر على باله ـ ومتناسياً أنَّه قبل ذلك استثنى ذاك الاحتمال ـ ليدَّعي: (حسناً، ربَّما لم يكن كاذباً. ربَّما كان مجنوناً وحقّاً كان يعتقد أنَّه نبيّ)، وهكذا يبدأ دورانه في الحلقة المفرغة من جديد.
لقد ذكر القرآن الكريم هذا، واعتبره من أساليب الكفار في جحد الحقائق، فالله تعالى يقول:{ أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ(13)ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ(14)} (الدخان)
سكت قليلا، وكأنه يسترجع ذكرياته مع أمثال هؤلاء الجاحدين الذين ملأوا الدنيا بالشبهات الجوفاء، ثم قال: قبل سبع سنواتٍ تقريباً، زارني أحد الرُّهبان في بيتي، وفي تلك الحجرة الَّتي كنَّا نجلس فيها كان هناك قرآنٌ على الطاولة ووجهه إلى الأسفل، فلم يعرف الرَّاهب أيّ كتابٍ هو.
وفي منتصف نقاشنا، أشرت إلى الكتاب قائلاً: (أنا لديَّ الثِّقة بهذا الكتاب)، فأجاب ناظراً إلى القرآن الكريم من غير أن يعرف ما هو: (حسناً، وأنا أقول لك بأنَّه إن كان ذلك الكتاب ليس الإنجيل، فقد أُلِّف من قِبَلِ الإنسان)، فكان ردِّي عليه: (دعني أُحدِّثك شيئاً عمَّا جاء في هذا الكتاب)، وخلال ثلاثٍ أو أربع دقائق فقط ذكرت له ما يتعلَّق ببعض الأمور الموجودة في القرآن الكريم.
وبعد تلك الثَّلاث أو الأربع دقائق فقط غيَّر موقفه تماماً وقال: (أنت على حقّ، فالإنسان لم يؤلِّف هذا الكتاب، بل الشيطان هو الَّذي ألَّفه!)
طبعاً، اتِّخاذ مثل هذا الموقف هو غايةٌ في سوء الطَّالع، وذلك لأسبابٍ عدَّة، منها أنَّه عُذْرٌ مُتسرِّعٌ ورخيصٌ كمَخْرَجٍ فوريٍّ من ذلك الوضع المزعج.
وفيما يتعلَّق بهذا الأمر، هناك قصَّةٌ مشهورةٌ في الإنجيل تذكر كيف أنَّ بعض اليهود في أحد الأيَّام كانوا شهوداً حين أقام يسوع رجلاً من الموت، كان ذلك الرَّجل ميتاً لأربعة أيَّام، وعندما وصل يسوع، قال ببساطة: (انهض)، فقام الرَّجل ومشى في طريقه. وحين رأوا هذا المشهد، قال بعض الشُّهود من اليهود مُنْكِرِيْن: (هذا هو الشيطان. الشيطان هو الَّذي ساعده)
وهذه القصَّة تُكرَّر الآن كثيراً في الكنائس في جميع أنحاء العالم، والنَّاس يذرفون دموعاً غزيرةً لسماعها قائلين: (آه، لو كنت هناك، فما كنت لأكون غبيّاً مثل اليهود!)، ويا للسخرية، فمع هذا فإنَّ هؤلاء النَّاس يفعلون ما فعله اليهود تماماً حين تعرض عليهم ـ في ثلاثٍ أو أربع دقائق ـ جزءًا صغيراً فقط من القرآن الكريم؛ وكلُّ ما يستطيعون قوله هو: (آه، الشيطان فعل ذلك.. الشيطان هو الَّذي ألَّف هذا الكتاب!) لأنَّهم حقّاً يكونون قد حُشِروا في الزَّاوية؛ وحين لا يملكون أيَّ إجابةٍ مقبولة، فإنَّهم يلتجئون إلى أسرع وأرخص حُجَّةٍ مُتاحةٍ لهم.
ومثلٌ آخرٌ على استخدام النَّاس لهذا الموقف الضَّعيف يمكن إيجاده في تفسير كفَّار مكَّة لمصدر رسالة محمَّدٍ صلى الله عليه وآله وسلم فقد اعتادوا القول بأنَّ الشيطان هو الَّذي يُملي عليه القرآن! لكنَّ القرآن ـ كعادته مع أيِّ حُجَّةٍ لهم ـ يقدِّم الإجابة على ذلك: فيقول الله تعالى:{ وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ(25)فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ(26)إِنْ هُوَ إلاَّ ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ(27)} (التكوير)
وهكذا فإنَّ القرآن يعطي ردّاً جليّاً على هذا الادِّعاء، في الواقع، هناك العديد من البراهين في القرآن الكريم جاءت كردٍّ على الادِّعاء بأنَّ الشيطان هو الَّذي أملى على محمَّدٍ صلى الله عليه وآله وسلم رسالته، فمثلاً في سورة الشعراء:{ وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ(210)وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ(211)إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ (212)} (الشعراء)
وفي مكانٍ آخرٍ في القرآن الكريم يعلِّمنا الله تعالى:{ فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْءَانَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ(98) }(النحل)
فهل بهذه الطريقة يكتب الشيطان كتاباً؟.. وهل يقول للإنسان: (قبل أن تقرأ كتابي، اسأل الله أن يحفظك منِّي؟) فما هذا إلاَّ افتراءٌ كبير، كبيرٌ جدّاً.
سكت قليلا، ثم واصل حديثه عن الأساليب التي يمارسها أعداء الإسلام في عرض شبهاتهم، فقال: بالإضافة إلى الحجج الَّتي يقدِّمها غير المسلمين في محاولاتهم التافهة لتبرير وجود الآيات الَّتي لا يفهمونها في القرآن الكريم، فإنَّ هناك هجوماً آخر غالباً ما يظهر كمزيجٍ من النظريَّتين معاً، وهو أنَّ محمَّداً صلى الله عليه وآله وسلم كان مجنوناً وكاذباً، فأولئك النَّاس يقترحون أساساً بأنَّه صلى الله عليه وآله وسلم كان مخبولاً، وكنتيجةٍ لتوهُّمه فقد كذب وضلَّل النَّاس.
ولهذا اسمٌ في علم النّفس، وهو الميثومانيا Mythomania أو المسُّ الأساطيريّ، وهو نزوعٌ مفرطٌ أو غير سويٍّ إلى الكذب والمبالغة، وهو يعني ببساطة أنَّ الإنسان يكذب، ثمَّ يصدِّق ما كذب.
وهذا هو ما يدَّعيه غير المسلمين عمَّا كان يعاني منه محمَّدٌ صلى الله عليه وآله وسلم إلاَّ أن المشكل الوحيد الَّذي يواجهونه بخصوص هذه الحُجَّة هو أنَّ الإنسان الَّذي يعاني من الميثومانيا لا يمكنه التعامل مع الحقائق مطلقاً، مع أنَّ القرآن الكريم كلّه قائمٌ تماماً على الحقائق، فكلُّ ما فيه يمكن بحثه والتثبُّت من صحَّته، في حين أنَّ الحقائق تعتبر مشكلاً كبيراً للمصاب بالميثومانيا.
فعندما يحاول الطبيب النفسيُّ علاج أحد الَّذين يعانون من هذا المرض، فإنَّه باستمرارٍ يواجهه بالحقائق، فمثلاً، إذا كان أحدهم مريضاً نفسيّاً ويدَّعي قائلاً: (أنا ملك إنجلترا)، فإنَّ الطبيب النفسيَّ لا يقول له: (لا، أنت لست كذلك، بل أنت مجنون!) فالطبيب لا يفعل ذلك، بل بدلاً من ذلك يواجهه ببعض الحقائق قائلاً: (حسناً، أنت تقول بأنَّك ملك إنجلترا، لذا قل لي أين هي الملكة اليوم؟ وأين رئيس وزرائك؟ وأين هم حرَّاسك؟)
وعندما يكون لدى هذا المريض مشكلٌ في محاولته التعامل مع هذه الأسئلة، سيحاول إيجاد الأعذار: (آه…الملكة…ذهبت إلى بيت أُمِّها.. آه…رئيس الوزراء….حسناً، لقد مات)
وفي النِّهاية سيشفى من مرضه تماماً لأنَّه لم يستطع التعامل مع الحقائق، فإذا استمرَّ الطبيب النفسيُّ بمواجهته بحقائق كافية، فإنَّه بالنِّهاية سيواجه الواقع قائلاً: (أظنُّ بأنِّي لست ملك إنجلترا)
والقرآن يصل إلى كلِّ إنسانٍ يقرأه بنفس الطريقة الَّتي يعالج بها الطبيب النفسيُّ مريضه بالميثومانيا. يقول الله تعالى:{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ } (يونس:57)
للوهلة الأولى قد يبدو هذا التصريح غامضاً، ولكنَّ المعنى لهذه الآية يتَّضح عندما يُنْظر إليها على ضوء المثل السابق، فالإنسان يُشفى أساساً من أوهامه بقراءة القرآن الكريم. فهو في جوهره علاجٌ يشفي الضَّالِّين تماماً وذلك بمواجهتهم بالحقائق.
سكت قليلا، ثم قال: في الواقع، يوجد مرجعٌ مثيرٌ للاهتمام بخصوص هذا الموضوع في الموسوعة الكاثوليكيَّة الجديدة. ففي فقرةٍ بخصوص موضوع القرآن الكريم تُصرِّح الكنيسة الكاثوليكيَّة: (عبر القرون الماضية قُدِّمت نظرياتٌ كثيرةٌ عن أصل القرآن.. واليوم لا يوجد إنسانٌ عاقل يقبل بأيٍّ منها)
فها هي الكنيسة الكاثوليكيَّة المٌعمِّرَةِ، والماثلة هنا وهناك لقرونٍ عديدة، تنكر تلك المواقف التافهة لدحض أصل القرآن الكريم.
القرآن الكريم بالطبع يمثِّل مشكلاً للكنيسة الكاثوليكيَّة، فهو يصرِّح بأنَّه وحيٌ من الله تعالى، ولذلك هم يدرسونه، ومن المؤكَّد أنَّهم يودُّون إيجاد برهانٍ على أنَّه ليس كذلك، ولكنَّهم لا يستطيعون، فهم لا يستطيعون إيجاد تفسيرٍ مقبول، لكنَّهم على الأقلِّ شرفاء في بحثهم، ولا يقبلون بأوَّل تفسيرٍ غير مدعومٍ بدليلٍ يأتي إليهم.
فالكنيسة تصرِّح بأنَّه ـ وخلال أربعة عشر قرناً ـ لم يُقدَّم بعد تفسيرٌ معقول. فهي بذلك على الأقلِّ تعترف بأنَّ القرآن الكريم ليس موضوعاً سهل الإنكار.
لكن هناك بالتأكيد آخرون ممَّن هم أقلُّ شرفاً حين يقولون على عَجَل: (آه، لقد جاء القرآن من هنا، أو من هناك)
وهم حتَّى لا يتفحَّصون مصداقية ما يصرِّحون به في معظم الأحيان. وطبعاً، فإنَّ مثل هذا التصريح من الكنيسة الكاثوليكيَّة يسبِّب للمسيحيِّ العاديِّ شيئاً من الصُّعوبة، وذلك لأنَّه ربَّما يكون لديه أفكاره الخاصَّة عن أصل القرآن، ولكنَّه كعضوٍ في الكنيسة لا يستطيع التصرُّف حقّاً حسب نظريَّته. فمثل هذا التصرُّف قد يكون مناقضاً للخضوع والإخلاص والولاء الَّذي تطلبه الكنيسة. فبموجب عضويَّته في الكنيسة، يتوَّجب عليه قبول ما تعلنه الكنيسة الكاثوليكيَّة دون سؤال، وأن يجعل تعاليمها كجزءٍ من روتينه اليوميّ. لذا، فجوهرياًّ إذا كانت الكنيسة الكاثوليكيَّة في عمومها تقول: (لا تستمعوا لتلك التقارير غير المؤكَّدة حول القرآن)، فما يمكن أن يقال حول وجهة النَّظر الإسلاميَّة؟ فحتَّى غير المسلمين يعترفون بأنَّ هناك شيئاً في القرآن ـ شيئاً كان يجب أن يكون معترفاً به ـ إذاً فلماذا يكون النَّاس عنيدين، وهجوميِّين، وعدائيِّين، حين يقدِّم المسلمون نفس النظريَّة؟ هذا بالتأكيد شيءٌ لأولي الألباب ليتأمَّلوا فيه.. شيءٌ للتأمُّل لأولئك الَّذين يعقلون!
قام حديثاً واحدٌ من المفكِّرين القياديِّين في الكنيسة الكاثوليكيَّة ـ يدعى هانز ـ بدراسة القرآن الكريم، وأدلى برأيه فيما قرأ. هذا الرَّجل أثبت حضوره القوي على الساحة ولزمنٍ طويل، وهو ذو منزلةٍ رفيعةٍ في الكنيسة الكاثوليكيَّة، وبعد تفحُّص دقيقٍ نشر ما وجده مستنتجاً: (إنَّ الله قد كلَّم الإنسان من خلال الإنسان، محمَّدٍ)
ومرَّةً أخرى يأتي هذا الاستنتاج من مصدرٍ غير مسلمٍ ـ وهو مفكِّرٌ قياديٌّ كبيرٌ في الكنيسة الكاثوليكيَّة نفسها! أنا لا أظنُّ بأنَّ البابا يتَّفق معه، ولكن على الرغم من ذلك فإنَّ رأي مثل هذه الشخصيَّة العامَّة ذائعة الصِّيْت وذات السُّمعة الحسنة يجب أن يكون له وزنه في الدِّفاع عن الموقف الإسلاميّ. ويتوَّجب التَّصفيق له لمواجهته الواقع بأنَّ القرآن الكريم ليس شيئاً يمكن أن يلقى بعيداً بسهولة، وبأنَّ الله تعالى حقّاً هو مصدر كلماته.
التفت إلي، وقال: يتَّضح من كلِّ ما تقدَّم سابقاً بأنَّ كلَّ البدائل قد استنزفت، ولذا فالفرصة لإيجاد إمكانيَّةٍ أخرى لإنكار القرآن الكريم لا وجود لها، لأنَّ هذا الكتاب إن لم يكن وحياً، فإنَّه عندئذٍ خداع؛ وإن كان خداعاً، فإنَّ على الإنسان أن يتساءل: (فما هو مصدره؟ وفي أيِّ جزءٍ منه يقوم بخداعنا؟)
وطبعاً فإنَّ الإجابات الصحيحة على هذه التساؤلات تُلقي الضَّوء على أصالة القرآن الكريم، وتُسكت ادعاءات الكفَّار اللاذعة وغير القائمة على دليل.
ومن المؤكَّد أنَّه إذا استمرَّ أولئك النَّاس بالإصرار على أنَّ القرآن الكريم ما هو إلاَّ خداع، فإنَّه يتوَّجب عليهم تقديم البرهان الَّذي يدعم ادعاءهم. فعبء إيجاد البرهان يقع على عاتقهم، وليس على عاتقنا! فلا يُفترض من أحدهم أبداً أن يقدِّم نظريَّةً بدون حقائق كافية تعزِّزها؛ لذا فأنا أقول لهم: (أروني خداعاً واحداً! أروني أين يخدعني القرآن الكريم! أروني ذلك، وإن لم تفعلوا، فلا تقولوا لي بأنَّه خداع!)
من الأسماء التي رأيتها في دفتر الغريب في هذا الفصل اسم (فوزي صبحي سمعان)([17])، فسألت الغريب عنه، فقال: التقيت به في مصر، وقد ذكر لي أن سبب إسلامه هو تلك الألغاز الكثيرة التي تمتلئ بها الكنيسة، ولا يطيق العقل أن يجد لها أي تفسير.
لقد ذكر لي أن هذه الخواطر المملوءة بالشبهات بدأته منذ صغره.. حيث كان يخدم كاتدرائية كنيسة (ماري جرجس) في مدينة الزقازيق المصرية.
فخلف أسوار تلك الكاتدرائية كان يجلس فوزي الشاب ـ وهو يحلم بأن يحصل على رتبة (القس) ـ يستمع إلى القس الأكبر.
ولكنه لم يكن منفعلا لما يسمع.. بل كان شارداً تتنازعه أفكار ثقيلة كلما انتبه لصوت قسيس الكنيسة مناجياً المسيح: (يا ابن الله يا مخلصنا وإلهنا)
وقد ذكر لي أنه كان ينتفض طارداً الفكرة، لكنها تلح عليه مرة أخرى.
لقد كان يقول لنفسه، أو كانت نفسه تقول له: (لقد قالوا لنا إن المسيح صلب وعذب ولم يكن قادراً على تخليص نفسه من الصلب والتعذيب المبرح.. فكيف يتأتى له أن يخلصنا ؟!)
ولم تتوقف مثل هذه الخواطر عند ذلك العمر وعند ذلك الحد..
لقد امتدت خواطره أو وساوسه إلى الأسرار السبعة متعجبا منها:
السر الأول، وهو (التعميد) ببئر داخل الكنيسة.. صلى عليها فحل بها الروح القدس.. الطفل يغمس فيها فيصبح مسيحيا بكل بساطة..
السر الثاني: وهو (الاعتراف) إذ يجلس النصراني المذنب أمام نصراني أكبر منه رتبة (قس – مطران – بطريك – بابا) ليعترف أمامه بكل شيء ويضع الأخير عصاه على رأسه ويتمتم ببعض الكلمات مانحاً إياه صك الغفران..
وقد أخبرني عن حوار دار بين بعض القسس، وبين طبيب نصراني، يقول الطبيب: القس يغفر لي، فمن يغفر للقس؟.. قال: الغريب… قال: ومن يغفر للبابا؟ قال: الله.. قال: فلماذا لا نعترف لله مباشرة ليغفر لنا؟!.. لماذا نفضح أنفسنا أمام الناس وقد سترنا الله؟!
السر الثالث: هو الشرب من دم المسيح هكذا.. حيث يأتي النصراني بالنبيذ ليصلي عليه القس فيتحول إلى دم مبارك هو دم المسيح ليشربه النصراني بِوَلَهٍ وخشوع.
ويتساءل صاحبنا: إذا كان المسيح مخلصنا، فلماذا نشرب من دمه؟
السر الرابع: هو أكل لحم المسيح، قرابين تصنع من الدقيق ليرتل عليها القس فتتحول إلى جزء من جسد المسيح يأكلونه، وتساءلت النفس المتمردة.. لماذا نأكل لحم المسيح وهو إلهنا وأبونا؟!
والأسرار الثلاثة الأخيرة هي الأب والابن والروح القدس.. ويقولون تثليث في توحيد.. وكل ذلك لا يمكن أن يقبله عقل.
وأخبرني أن نفسه كانت تتألم، وهو يسمع صوت القس ومعه جموع المخدوعين بقانون الإيمان.. وهم يقولون (بالحقيقة نؤمن).. بـ (إله واحد).. الأب.. ضابط الكل.. خالق السماء والأرض.. ما يرى وما لا يرى.. نؤمن برب واحد يسوع المسيح.. ابن الله الوحيد.. المولود من الأب قبل كل الدهور.. نور من نور.. إله حق.. إله حق.. مولود غير مخلوق.. تساوى الأب في الجوهر.. هذا الذي كان به كل شيء.. هذا الذي كان من أجلنا – نحن البشر – نزل من السماء فتجسد من الروح القدس ومن مريم العذراء.. وصلب وقبر عنا.. وقام من بين الأموات في اليوم الثالث كما في الكتاب.. و.. و..
لقد كان يتعجب من ذلك التناقض، فهم يقولون: إله واحد، ثم يقولون المسيح ابن الله الوحيد؟!.. كيف وكل مولود مخلوق!!
ويقولون: صلب وقبر من أجلنا.. فكيف يليق بالرب خالق الكون أن يصلبه ويعذبه أحد خلقه؟!
وأخبرني عن كيفية دخوله الإسلام، فذكر أنه مضى إلى الهيكل مباشرة حيث لا يرى من بداخله.. وسجد مثلما يسجد المسلم.. وبكى بحرقة، وابتهل إلى رب الخلق أجمعين الواحد الأحد، وقال: ربي.. أنت تعلم أنني في حيرة شديدة، فإن كانت النصرانية هي الحق فاجعل روح القدس تحل عليّ الآن.. وإن كان الإسلام هو الحق فأدخله في قلبي.
وقد أخبرني أنه ما إن قال حتى انشرح صدره للإسلام.
وقبل أن يخرج من الكنيسة عرج على القس وألقى عليه بعض التساؤلات.. لم يجبه ولكن سأل: هل تقرأ القرآن؟ فقال: نعم.. اكفهر وجه القس وصرخ: نحن فقط الذين نقرأ القرآن أما أنت والعامة فلا.. وخرج ولم يعد للكنيسة.
وأخبرني بالبلاء الذي تعرض له بعد إسلامه، وبأنواع الفضل التي وهبها الله له هدية لإسلامه.
من الأسماء التي رأيتها في دفتر الغريب في هذا الفصل اسم (رحمة بورنومو)([18])، فسألت الغريب عنه، فقال: لقد كان قبل إسلامه قسا وورئيساً للتبشير في كنيسة (بيتل إنجيل سبينوا)([19]).. وهو من عائلة دينية، فقد كان جده قسيساً ينتمي إلى مذهب البروتستانت، وكان أبوه قسيساً على مذهب بانتي كوستا، وكانت والدته معلمة الإنجيل للنساء.
وقد كان حديثه ـ في بحثه عن الحق ـ يشبه حديث سلمان الفارسي، وسأورده عليك كما ذكره لي:
لقد ذكر لي أنه في البدء أنه كان قد امتلأ بما يمتلئ به الكثير من رواد الكنيسة والقائمين عليها من حقد على الإسلام.. قال: لم يخطر ببالي ولو للحظة واحدة أن أكون من المسلمين، إذ أنني منذ نعومة أظفاري تلقيت التعليم من والدي الذي كان يقول لي دائماً: (إن محمداًً رجل بدوي صحراوي ليس له علم ولا دراية، ولا يقرأ وأنه أمي)، هكذا علمني أبي، بل أكثر من ذلك فقد قرأت للبروفسور الدكتور ريكولدي النصراني الفرنسي قوله في كتاب له بأن محمداً رجل دجال يسكن في الدرك التاسع من النار، وهكذا كانت تساق المفتريات الكثيرة لتشويه شخصية الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، ومنذ ذلك الحين تكونت لدي فكرة مغلوطة راسخة تدفعني إلى رفض الإسلام، وعدم اتخاذه ديناً.
وقد كانت هذه الشبهات هي السبب في تأخر إسلامه.. فهو لم يكتشف الإسلام إلا بعد أن مر على مذاهب مختلفة، وديانات مختلفة.
قلت: ما الذي جعله يفكر في تغيير دينه؟
قال: لقد ذكر لي قصة ذلك، فقال: (في يوم من الأيام أرسلتني قيادة الكنيسة للقيام بأعمال تبشيرية لمدة ثلاثة أيام ولياليها في منطقة (دايري) التي تبعد عن عاصمة (ميدان) الواقعة في شمال جزيرة (سومطرة) بضع مئات من الكيلومترات، ولما انتهيت من أعمال التبشير والدعوة أويت إلى دار مسئول الكنيسة في تلك المنطقة، وكنت في انتظار وصول سيارة تقلني إلى موقع عملي، وإذا برجل يطلع علينا فجأة، لقد كان معلماً للقرآن، وهو ما يسمى في إندونيسيا مطوع في الكُتَّاب، وهو المدرسة البسيطة التي تعلم القرآن، لقد كان الرجل ملفتاً للأنظار، كان نحيف الجسم، دقيق العود يرتدي كوفية بيضاء بالية خلقة، ولباساً قد تبدل لونه من كثرة الاستعمال، حتى أن نعله كان مربوطاً بأسلاك لشدة قدمه، اقترب الرجل مني، وبعد أن بادلني التحية بادرني بالسؤال التالي، وكان سؤالاً غريباً من نوعه، قال: (لقد ذكرت في حديثك أن عيسى المسيح إله، فأين دليلك على ألوهيته؟)، فقلت له: (سواء أكان هناك دليل أم لا فالأمر لا يهمك: إن شئت فلتؤمن، وإن شئت فلتكفر) وهنا أدار الرجل ظهره لي، وانصرف، ولكن الأمر لم ينته عند هذا الحد، فقد أخذت أفكر في قرارة نفسي، وأقول: هيهات هيهات أن يدخل هذا الرجل الجنة، لأنها مخصصة فقط لمن يؤمن بألوهية المسيح فحسب، هكذا كنت أعتقد جازماً آنذاك.
ولكن عندما عدت إلى بيتي وجدت أن صوت الرجل يجلجل في روعي، ويدق بقوة في أسماعي، مما دفعني إلى الرجوع إلى كتب الإنجيل بحثاً عن الجواب الصحيح على سؤاله)
ثم ذكر لي أنه أخذ يدرس الأناجيل الأربعة ليبحث فيها عن الدليل.. قال: (فماذا وجدت؟ هذا إنجيل متَّى ماذا يقول عن المسيح عيسى عليه السلام؟ إننا نقرأ فيه ما يلي: (إن عيسى المسيح ينتسب إلى إبراهيم وإلى داود.. إلخ) (1-1) إذن من هو عيسى؟ أليس من بني البشر؟ نعم إذن فهو إنسان، وهذا إنجيل لوقا يقول: (ويملك علي بيت يعقوب إلى الأبد، ولا يكون لملكه نهاية) (1-33)، وهذا إنجيل مرقس يقول: (هذه سلسلة من نسب عيسى المسيح ابن الله) (:1) وأخيراً ماذا يقول إنجيل يوحنا عن عيسى المسيح عليه السلام؟ إنه يقول: (في البدء كان الكلمة، وكان الكلمة عند الله، وكان الكلمة الله) (1:1)، ومعنى هذا النص هو في البدء كان المسيح، والمسيح عند الله، والمسيح هو الله.
قلت لنفسي: إذن هناك خلافا بارزا بين هذه الكتب الأربعة حول ذات المسيح عيسى عليه السلام أهو إنسان أم ابن الله أم ملك أم هو الله؟ لقد أشكل عليَّ ذلك، ولم أعثر على جواب.
ثم واصلت البحث، فوجدت في إنجيل يوحنا نصوصاً تشير إلى دعاء المسيح عليه السلام وتضرعه إلى الله سبحانه وتعالى. فقلت في نفسي: لو كان عيسى هو الله القادر على كل شيء فهل يحتاج إلى هذا التضرع والدعاء الذي ورد في إنجيل يوحنا، هذا هو نص الدعاء: (هذه هي الحياة الأبدية أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك، ويسوع المسيح الذي أرسلته، أنا مجدتك على الأرض، العمل الذي أعطيتني لأعمل قد أكملته) (17-3-4) وهو دعاء طويل يقول في نهايته: (أيها الرب البار، إن العالم لم يعرفك، أما أنا فعرفتك وهؤلاء عرفوا أنك أنت أرسلتني وعرفتهم اسمك، وسأعرفهم ليكون فيهم الحب الذي أحببتني به) (17-25-26).
هذا الدعاء يمثل اعترافاً من عيسى عليه السلام بأن الله هو الواحد الأحد، وأن عيسى هو رسول الله المبعوث إلى قوم معينين، وليس إلى جميع الناس، فأي قوم هم هؤلاء يا ترى؟ نقرأ جواب ذلك في إنجيل متَّى (15-24) حيث يقول: (لم أُرسل إلا إلى خراف بيت إسرائيل الضالة)، إذن لو ضممنا هذه الاعترافات إلى بعضها لأمكننا أن نقول: (إن الله الواحد الأحد، وإن عيسى عليه السلام هو رسول الله إلى بني إسرائيل).
ثم واصلت البحث، فتذكرت أنني حين أكون في صلاتي أقرأ دائماً العبارات التالية: (الله الأب، الله الابن، الله الروح القدس، ثلاثة في أقنوم واحد)، قلت لنفسي: أمر غريب حقاً، فلو سألنا طالباً في الصف الأول الابتدائي (1+1+1=3؟)، لقال: (نعم)، ثم إذا قلنا له: (ولكن أيضاً 3=1)، لما وافق على ذلك، إذ إن هناك تناقضاً صريحاً فيما نقول، لأن عيسى عليه السلام يقول في الإنجيل كما رأينا بأن الله واحد، لا شريك له.
لقد حدث تناقض صريح بين العقيدة التي كانت راسخة في نفسي منذ أن كنت طفلاً صغيراً، وهي: ثلاثة في واحد، وبين ما يعترف به المسيح عيسى نفسه في كتب الإنجيل الموجودة الآن بين أيدينا وهي أن الله واحد أحد لا شريك له، فأيهما هو أحق؟
لم يكن بوسعي أن أقرر آنذاك، والحق يقال، بأن الله واحد أحد، فأخذت أبحث في الإنجيل من جديد لعلي أقع على ما أريد، لقد وجدت في سفر أشعياء النص التالي: (اذكروا الأوليات منذ القديم، لأني أنا الله وليس آخر الإله، وليس مثلي) (46:9) ولشد ما كانت دهشتي عظيمة حين اعتنقت الإسلام فوجدت نفس هذا المعنى مطروقا في سورة الإخلاص.. نعم، مادام الكلام كلام الله فهو لا يختلف حيثما وجد، هذا هو التعليم الأول أو البديهية الأولى في ديانة المسيحية السابقة، إذن (ثلاثة في واحد) لم يعد لها وجود في نفسي)
هذا هو السبب الأول الذي جعله يعيد نظره في ديانته..
أما السبب الثاني، فهو البديهية الثانية في المسيحية، والتي تنص على أن هناك ما يسمى بالذنب الوراثي أو الخطيئة الأولى، ويُقصد بها أن الذنب الذي اقترفه آدم عليه السلام عندما أكل الثمرة المحرمة عليه من الشجرة في الجنة، هذا الذنب سوف يرثه جميع بني البشر حتى الجنين في رحم أمه يتحمل هذا الإثم يولد آثماً.
قال: (لقد أخذت أبحث عن حقيقة ذلك، فلجأت إلى العهد القديم فوجدت في سفر حزقيال ما يلي: (الابن لا يحمل من إثم الأب، والأب لا يحمل من إثم الابن، بر البار عليه يكون، وشر الشرير عليه يكون، فإذا رجع الشرير عن جميع خطاياه التي فعلها، وحفظ كل فرائضي، وفعل حقاً وعدلاً، فحياة يحيا ولا يموت، كل معاصيه التي فعلها لا تذكر عليه) (حزقيال 18:20-21).
وهذا المعنى يتفق تماما مع ما ورد في القرآن الكريم الذي ينص على هذا في قوله تعالى:{ وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ) (فاطر:18)، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (يُولد ابن آدم على الفطرة، وأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه)
هذه هي القاعدة في الإسلام، ويوافقها ما جاء في الإنجيل، فكيف يقال: (إن خطيئة آدم تنتقل من جيل إلى جيل، وأن الإنسان يولد آثماً؟)
أما السبب الثالث الذي دعاه إلى مراجعة معتقداته فهي البديهية الثالثة في التعاليم المسيحية، والتي تقول: إن ذنوب بني البشر لا تغفر حتى يصلب عيسى عليه السلام، يقول: (لقد أخذت أفكر في هذه البديهية، وأتساءل: (هل هذا صحيح؟) وكان الجواب الذي لا مفر منه: بالطبع لا، لأن النص الآنف الذكر من العهد القديم ينفي مثل هذا الاعتقاد بقوله: (فإذا رجع الشرير عن جميع خطاياه التي فعلها، وحفظ كل فرائضي، وفعل حقاً وعدلاً، فحياة يحيا ولا يموت، كل معاصيه التي فعلها لا تذكر عليه)، أي أن الله يغفر ذنوبه دون حاجة إلى أية وساطة من أحد.
بالإضافة إلى هذا، فقد راوده ـ بناء على هذا ـ شك عيظم في المعنى الذي يفهمه المسيحيون من الخلاص المسيحي، قال: (من التعاليم البديهية في الديانة المسيحية أن عيسى عليه السلام هو المنقذ المخلِّص للعالم، أي أنك إذا آمنت بألوهية عيسى فسوف تنجو، وهذا يعني أنك يمكنك أن تفعل ما تشاء غيرَ آبهٍ بالذنوب والمعاصي ما دمت تؤمن بعيسى كمنقذ لك، شريطة أن تكون علي يقين بأنك من التابعين، قلت لنفسي: لا بد أن أبحث في الإنجيل وأعرف الحق من الباطل في ذلك، في سفر أعمال الرسل رسالة بولس الأولى إلى أهل كورينثوس يقول: الله قد أقام الرب وسيُقيمنا نحن أيضاً بقوته (6:14)، والقصة كما وردت في التعاليم المسيحية فيه كالآتي: أنه لما قبضوا على السيد المسيح عرضوه أمام العدالة فحكم عليه بالصلب، ثم دُفن فهنا تأتي الآية مناسبة لتلك القصة.
لقد علق (رحمة بورنومو) على هذا بقوله: (لقد تأملت هذه الآية طويلاً ثم قلت: إذا لم يتدخل الله في إقامة المسيح من القبر لبقي مدفوناً تحت التراب إلى يوم القيامة، إذن ما دام المسيح لم يستطع إنقاذ نفسه فكيف يكون بوسعه إنقاذ الآخرين؟ هل يليق بإله ـ كما يزعمون ـ أن يكون عاجزاً عن ذلك؟)
قلت: كل ما ذكرته أسباب قوية يمكنها أن تزحزح أي مسيحي عن دينه.. فهل انتقل نتيجة لهذا إلا الإسلام؟
قال: لقد ذكرت لك ما امتلأ به الرجل من الشبهات.. ولهذا جعل الإسلام آخر تطوافه الباحث عن الحق.
لقد قال لي: (عند ذلك عزمت على الخروج من الكنيسة وعدم الذهاب إليها، كان ذلك في عام 1969 حيث خرجت فعلاً ولم أعد أتردد على الكنيسة، وليس معنى ذلك أنني خرجت ذلك الحين من الديانة النصرانية نفسها، لأنه كما هو معلوم هناك كنائس ومذاهب شتى في الديانة النصرانية، فهناك الكاثوليك، والبروتستانت، والميثوديست، والبلاي كسلامتن، واليونيتاريان، وغيرها كثير، حتى أنني أستطيع أن أقول بأن هناك أكثر من 360 مذهباً في الديانة النصرانية.
وذات يوم لقيت صديقاً لي فدعاني إلى الكاثوليكية، وأخذ يعدد مميزات لهذا المذهب لم أجد مثلها في مذهبي البروتستانتي، قال صديقي: (في هذا المذهب توجد حجرة الغفران، وهي عبارة عن غرفة في الكنيسة يجلس فيها قس ذو لحية كثيفة يرتدي لباساً أسود، ويقعد على كرسي عال، ومن طلب العفو والغفران ذهب إليه، ورددَ بعض الألفاظ الغير المفهومة، وما أن يكاد يفرغُ من قراءتها حتى يقال له بأنه برئ من ذنوبه، ويرجع كيوم ولدته أمه، وهكذا قال لي صديقي، وأضاف قائلاً: كل ما تقترف يداك من الذنوب خلال أيام الأسبوع كفيل بأن يُغفر لك عند ذهابك إلى الكنيسة يوم الأحد، وحصولك على الغفران. فأنت لا تحتاج إلى الصلاة، ولا إلى العبادة، ولكن إذا تركت ذلك كله وذهبت إلى القس، واعترفت أمامه، غُفرت ذنوبك)
قال رحمة بورنومو: (لقد تذكرت ما يقرره الإسلام في ذلك، وهو أن البشر مهما علت رتبة أحدهم لا يمكن أن يُوكَلَ إليه غفران ذنوب العباد، كما أن التوبة والمغفرة لا تُسقط التكاليف والفرائض، بل لا بد للتائب من أن يؤدي الصلوات الخمس اليومية في أوقاتها، فإذا تركها فلا قيمة لتوبته وعليه إثم كبير لا يمكن أن يتحمله عنه غيره من الناس.
ثم يقول: لقد رأيت الداخلين إلى حجرة الغفران في الكنيسة عليهم أمارات الحزن والكآبة لثقل الذنوب، بينما رأيت من يخرج منها وقد علت وجهه ابتسامة الفرح لاعتقاده بأن ذنوبه قد غفرت له، أما أنا فحين جربت تلك الغرفة دخلتها حزيناً وخرجت منها حزيناً، لأنني كنت أفكر وأتسائل: (هذه ذنوبنا يتحملها القس، ولكن من يتحمل ذنوبه هو؟) وهكذا لم أقتنع بالكاثوليكية فتركتها، وبحثت عن دين آخر.
بعد ذلك تعرفت على طائفة مسيحية أخرى تسمى (شهود يهوه) وهي مذهب آخر من مذاهب المسيحية، لقيت رئيسهم، وسألته عن تعاليم مذهبه، وقلت له: (من تعبدون؟)، قال: (الله)، قلت: (ومن هو المسيح؟) فقال: (عيسى هو رسول الله)، فصادف ذلك موافقة لما كنت أومن به، وأميل إليه، ودخلت كنيستهم فلم أجد فيها صليباً واحداً، فسألته عن سر ذلك، فقال: (الصليب علامة الكفر، لذلك لا نعلقه في كنائسنا)
لقد وصف هذه الفترة من حياته، فقال: لقد أمضيت ثلاثة أشهر كاملة أتلقى تعاليم ذلك المذهب، وفي نهايتها كان لي الحوار التالي مع رئيس الكنيسة، وكان هولنديا، قلت له: (يا سيدي، إذا توفيت على هذا المذهب، فإلى أين مصيري؟) قال: (كالدخان الذي يزول في الهواء)، فقلت متعجباً: (ولكني لست سيجارة، بل أنا إنسان ذو عقل وضمير)، ثم سألته: (وأين أتجه بعد الممات؟)، فقال: (تُوضع في ميدان واسع)، قلت له: (وأين ذلك الميدان؟) قال: (لا أعلم)، قلت: (سيدي إذا كنت عبداً مطيعاً ملتزماً بهذا المذهب، فهل أدخل الجنة؟) قال: (لا)، قلت: (فإلى أين إذن؟) قال: (الذين يدخلون الجنة عددهم 144 ألف شخص فقط، أما أنت فسوف تسكن الأرض مرة أخرى)، وهنا قاطعته قائلاً: (ولكن يا سيدي قد وقعت الواقعة، فالدنيا خربت)، قال: (أنت لا تفهم حقيقة القيامة، لو كان لديك كرسي وفوقه حشرات مؤذية، هل تحرق الكرسي لتخلص من الحشرات؟) قلت: (لا)، قال: (بل تقتل الحشرات ويبقى الكرسي سليماً، وهكذا تبقى الأرض سليمة بعد تطهيرها من الدنس والخطايا، وعندها ينتقل إليها الناس من ذلك الميدان، فليس هناك ما يسمى بالنار).
وهنا أعملت فكري جيداً، ودرست الأمر وقلبته، حتى اتخذت القرار الأخير بترك المسيحية بجميع مذاهبها رسمياً، كان ذلك في عام 1970، وفي أحد الأيام بينما كنت أسير في طريقي بحثاً عن الحق، رأيت معبداً بوذياً جميلاً ضخماً فاقتربت منه فوجدت فيه عدة تماثيل وصور وفي السقف تمثال لتنين، وعلى الجدران مثل ذلك، كما شاهدت أمام البوابة تمثالين على شكل أسد صامت، وما أن دخلت من البوابة حتى جاءني رجل فأوقفني، وسأل: (إلى أين؟) قلت: (أريد أن أدخل)، قال: (اخلع نعليك قبل أن تدخل، هذا معبد لنا فاحترم مكان عبادتنا)
ثم يقول: (لقد جربت الديانة البوذية فترة من الزمن، ولكن سرعان ما تركتها لإحساسي بأنني لم أجد الحق الذي أنشده، ثم اتصلت بالديانة الهندوسية التي بدأت ونشأت في الهند، والتي انتشرت تعاليمها حتى وصلت إلى بعض الجزر الإندونيسية، فأخذت أتنقل بين تلك الجزر التي يوجد فيها نشاط لأتباع هذا الدين، ومكثت معهم فترة من الزمن تعلمت فيها الكثير، وقد نجحت في المرحلة الأولى إلى درجة أنني أخذت أجرى الخوارق كالعبور في النار، والمشي على المسامير الحادة، وإدخال المسامير في أعضاء الجسم إلى غير ذلك، ولكن أيضاً ليس هذا هو ما كنت أبحث عنه)
ثم يضيف: وذات يوم سألت رئيس المعبد الهندوسي: (ماذا تعبدون؟)، قال: نعبد (برهما، ويشنو، وشيوا)، برهما: إله الخلق، ويشنو: إله الخير، وشيوا: إله الشر، ثلاثة آلهة تجلت في جسد إنسان واحد اسمه كريشنا الذي يعتبر المنقذ للعالم عند الهندوس، قلت لنفسي: (إذن فلا فرق في أمر الألوهية بين الهندوسية والنصرانية، ولو اختلفت الأسماء فهما يناديان ثلاثة في واحد).
قلت للكاهن الهندوسي: (اشرح لي نشأة كريشنا)، فقال: كان في الهند سنة ألفين قبل الميلاد ملك جبار ظالم لا يرحم حتى أبناءه، فيقتل مولده الذكر خوفاً من أن يحتل عرشه غصباً، وفي إحدى الليالي الظلماء كان الملك جالساً أمام قصره، وإذا بكوكب مضئ يطلع في السماء فوق رأسه، وكان يسير بسرعة مذهلة، ثم توقف في الفضاء وأرسل نوره الباهر على حظيرة الأبقار، فلما سأل الملك رجال العلم والدين، راجعوا كتبهم المقدسة، فقالوا: إن ذلك دليل على تجلي الآلهة في جسم إنسان اسمه سري كريشنا، فقلت في نفسي: هذه القصة بحذافيرها مع تغيير الأشخاص موجودة في الديانة المسيحية، وكنت أحدث بها الناس وأنا قس، والفرق أن القرية المشار إليها هي بيت لحم، والإنسان عندنا هو المسيح، فلا فرق إذن بين القصتين ولا بين العقيدتين في قضية أساسية هي قضية الألوهية، وقضية هوية المنقذ للعالم.
لقد واصلت حواري مع الكاهن الهندوسي فقلت له: (يا سيدي إذا توفيت وأنا على دينكم، فإلى أين مصيري؟) قال: (لا أعلم، ولكن عليك أن تمتنع عن قتل الحشرات من أمثال النمل والبعوض وغيرها)، وقال: (قد تكون هذه الحشرات آباءك وأجدادك الموتى)
ثم يقول: (وفي النهاية قررت أن أترك كل تلك الديانات، ولم يكن أمامي إلا الإسلام الذي لم أكن أريد اعتناقه لما غُرس في نفسي منذ طفولتي من نفور وكراهية لهذا الدين الذي لم أكن أعرف عنه إلا الشبهات، كنت أريد البحث عن الحق المجهول وهذا البحث يلزم الجهد والصبر، وذات يوم قلت لزوجتي: اعتباراً من هذه الليلة لا أريد أن يزعجني أحد، أريد أن أصلي وأتضرع إلى الله، وهكذا أقفلت باب حجرتي ورفعت يدي إلى الله خاشعاً متضرعاً قائلاً: (يا رب.. إذا كنت موجوداً حقاً فخذ بناصيتي إلى الهدى والنور، واهدني إلى دينك الحق الذي ارتضيته للناس)
لقد ذكر لي أنه استمر على ذلك زمناً طويلاً، حوالي ثمانية أشهر، قال: وفي ليلة الحادي والثلاثين من شهر أكتوبر عام 1971م الموافقة للعاشر من رمضان من نفس العام، وبعد أن فرغت من دعائي المعتاد رحت في نوم عميق، وعندها جاءني نور الهدى من الله عز وجل، إذ رأيت العالم حولي في ظلام دامس، ولم يكن بوسعي أن أرى شيئاً، وإذا بجسم شخص يظهر أمامي، فأمنعت النظر فيه، فإذا بنور حبيب يشع منه يبدد الظلمة من حولي، لقد تقدم الرجل المبارك نحوي، فرأيته يلبس ثوباً أبيض وعمامة بيضاء، له لحية جعدة الشعر، ووجه باسم لم أر قط مثله من قبل جمالاً وإشراقاً، لقد خاطبني الرجل بصوت حبيب قائلاً: (ردد الشهادتين)، وما كنت حينئذٍ أعلم شيئاً اسمه الشهادتين، فقلت مستفسراً: (وما الشهادتان؟) فقال: (قل: أشهد أن لا إله إلا الله ، وأشهد أن محمداً رسول الله) فكررتهما وراءه ثلاث مرات، ثم ذهب الرجل عني.
ولما استيقظت من نومي وجدت جسمي مبللاً بالعرق، وسألت أول مسلم قابلته: (ما هي الشهادتين، وما قيمتهما في الإسلام؟)، فقال: (الشهادتان هما الركن الأول في الإسلام، ما أن ينطقهما الرجل حتى يصبح مسلماً)، فاستفسرت منه عن معناهما فشرح لي المعنى.
وبعد عشرين يوماً من ذلك الحادث وكانت ليلة عيد الفطر سمعت صيحات التكبير يرددها المسلمون من المساجد القريبة من دارنا، فاقشعر بدني واهتز قلبي، ودمعت عيناي لا حزناً على شيء، بل شكراً لله على هذه النعمة، فالحمد لله الذي هداني أخيراً إلى ما كنت أبحث عنه منذ سنين، لقد تم ذلك في عام 1971م وقد خَيَّرتُ زوجتي بين الإسلام والمسيحية، فاختارت الإسلام، والجدير بالذكر أنها كانت في طفولتها مسلمة ومن عائلة مسلمة تنصرت بسبب إغراءات المبشرين، وتبعاً لجهلها بأمور دينها الحنيف، كما تبعنا أبناؤنا فاعتنقوا الإسلام، ومنذ الثاني من شهر فبراير عام 1972م ونحن مسلمون والحمد لله.
من الأسماء التي رأيتها في دفتر الغريب في هذا الفصل اسم (عزت اسحاق معوض) ([20])، فسألت الغريب عنه، فقال: وقد التقيت به في مصر.. وقد لاحظت في كلامه نفحات الصدق التي أخبرني عنها معلم السلام، فسألته عنه، فقال لي: كنت عزت اسحاق معوض.. وأنا الآن محمد أحمد الرفاعي.. وكنت قُمُّصاً مسيحيا لا أهدأولا أسكن عن الدعوة إلى المسيحية.. وأنا الآن بحمد الله مسلم لا أمارس إلا حرفة واحدة هي الدعوة إلى الله، وإلى الإسلام العظيم الذي شرفني الله به.
قلت: فما قصة إسلامك؟
سكت قليلا، يسترجع ذكرياته، ثم قال: نشأت في أسرة مسيحية مترابطة والتحقت بقداس الأحد وقد كان عمري حينها أربع سنوات.. وفي سن الثامنة كنت أحد شمامسة الكنيسة، وتميزت عن أقراني بإلمامي بالقبطية وقدرتي على القراءة من الكتاب المقدس على الجماهير.
ثم تمت إجراءات إعدادي للالتحاق بالكلية الأكليريكية، لأصبح بعدها كاهناً، ثم قُمُّصاً، ولكنني عندما بلغت سن الشباب بدأت أرى ما يحدث من مهازل بين الشباب والشابات داخل الكنيسة وبعلم القساوسة([21])، وبدأت أشعر بسخط داخلي على الكنيسة، وتلفت حولي، فوجدت النساء يدخلن الكنيسة متبرجات ويجاورن الرجال، والجميع يصلي بلا طهارة وهم يرددون ما يقوله القس بدون أن يفهموا شيئاً على الإطلاق، وإنما هو مجرد تعود على سماع ذلك الكلام.
وعندما بدأت أقرأ أكثر عن المسيحية وجدت أن ما يسمى (القداس الإلهي) ـ الذي يتردد في الصلوات ـ ليس له دليل من الكتاب المقدس.
بالإضافة إلى هذا الخلافات الكثيرة بين الطوائف المختلفة، بل وداخل كل طائفة على حدة،وذلك حول تفسير (الثالوث) وغيره..وكنت أشعر بنفور شديد من مسألة تناول النبيذ وقطعة القربان من يد القسيس والتي ترمز إلى دم المسيحوجسده.
قلت: فكيف انجذبت إلى الإسلام؟
قال: بينما كان الشك يراودني في المسيحية بسبب طقوسها وعقائدها وانحرافاتها كان يجذبني شكل المسلمين في الصلاة والخشوع والسكينة التي تحيط بالمكان برغم أنني كنت لا أفهم ما يرددون.. وكنت عندما يُقرأ القرآن يلفت انتباهي لسماعه وأحس بشئ غريب داخلي برغم أنني نشأت على كراهية المسلمين.. وكنت معجباً بصيام شهر رمضان وأجده أفضل من صيام الزيت الذي لم يرد ذكره في الكتاب المقدس، وبالفعل صمت أياماً من شهر رمضان قبل إسلامي.
ثم بعد ذلك.. بدأت الشعور بأن المسيحية دين غير كاملومشوه يشتد علي، غير أنني ظللت متأرجحاً بين المسيحية والإسلام ثلاث سنوات انقطعت خلالها عن الكنيسة تماماً، وبدأت أقرأ كثيراً وأقارن بين الأديان، وكانت لي حوارات مع إخوة مسلمين كان لها الدور الكبير في إحداث حركة فكرية لديّ.. وكنت أرى أن المسلم غير المتبحر في دينه يحمل من العلم والثقة بصدق دينه ما يفوق ما لدى أي مسيحي، حيث إن زاد الإسلام من القرآنوالسنة النبوية في متناول الجميع رجالاً ونساءً وأطفالاً، في حين أن هناك بعض الأسفار بالكتاب المقدس ممنوع أن يقرأها المسيحي قبل بلوغ سن الخامسةوالثلاثين، ويفضل أن يكون متزوجاً حين قراءتها([22]).
قلت: فكيف بدأت نقظة التحول في حياتك؟.. أو كيف استطعت أن تقهر تلك السدود والحجب التي كانت تحول بينك وبين الإسلام؟
قال: كانت نقطة التحول في حياتي في أول شهر سبتمبر عام 1988 عندما جلست إلى شيخيوأستاذي (رفاعي سرور) لأول مرة وناقشني وحاورني لأكثر من ساعة،وطلبت منه في آخر الجلسة أن يقرئني الشهادتين ويعلمني الصلاة، فطلب مني الاغتسال، فاغتسلت ونطقت بالشهادتين وأشهرت إسلامي وتسميت باسم (محمد أحمد الرفاعي) بعد أن تبرأت من اسمي القديم (عزت إسحاق معوض)([23])وألغيته من جميع الوثائق الرسمية.. كما أزلت الصليب المرسوم على يدي بعملية جراحية([24])..
قلت: فهل ابتليت في دينك كما ابتلي الكثير ممن أعلنوا إسلامهم؟
قال: لقد كان أول بلاء لي في الإسلام هو مقاطعة أهلي لي.. ورفض أبي أن أحصل على حقوقي المادية وعن نصيبي في شركة كانت بيننا، ولكنني لم أكترث، ودخلت الإسلام صفر اليدين، ولكن الله عوضني عن ذلك بأخوة الإسلام، وبعمل يدر عليّ دخلاً طيباً.
قلت: فما الذي ترجو؟
قال: كل ما آمله من حياتي ألا أكون مسلماً إسلاماً يعود بالنفع عليّ وحدي فقط، ولكن أن أكون نافعاً لغيري وأساهم بما لديّ من علم بالمسيحية والإسلام في الدعوة لدين الله تعالى.
قال ذلك بروحانية أحسست تأثيرها في قلبي.. ثم انصرف بعد أن منحني أشعة جديدة من شمس محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
من الأسماء التي رأيتها في دفتر الغريب في هذا الفصل اسم (القس عيسي بياجو)، فسألت الغريب عنه، فقال: لقد تشرفت بالالتقاء به في رحلة لي إلى الفلبين في مهمة تبشرية، وقد تعجبت من كثرة من يدخل الإسلام من الفلبينيين، وقد جرى لي معه هذا الحديث:
قلت: لقد سمعت أنك كنت قساً كاثوليكياً.
قال: أجل.. أنا كريسانتو بياجو.. هذا هو اسمي الأصلي.. وقد درست في المعهد اللاهوتي، وحصلت على درجة الليسانس في اللاهوت، وعملت كقس كاثوليكي.
قلت: إن الإسلام يتعرض في هذه البلاد لتشويهات كثيرة، فما الذي جعلك تنصرف عن تلك الشبهات؟.. أو ما الذي جعل الشبهات يضعف تأثيرها فيك؟
قال: صدقت.. وقد أثرت في تلك الشبهات تأثيرا كبيرا جعلت إسلامي يتأخر كثيرا.. لقد كنت أسمع عن المسلمين كمجموعة من الناس، ولم تكن عندي فكرة عما يدينون به.. وفي ذلك الحين كنت لا أطيق حتى مجرد سماع اسمهم نظراً للدعاية العالمية التي توجه ضدهم.. وحتى المسلمون المنتمون إلى (.. !؟) في الفلبين كان يُعطى الإيحاء بأنهم قراصنة وهمجيون، يسهل عليهم العدوان وسفك الدماء.
ولم يكن هذا الشعور خاصا بي.. بل كان يشاركني فيه معظم مسيحيي الفلبين الذين يمثلون 90% من السكان.
وذات يوم حضرت محاضرة ألقاها منصّر أمريكي اسمه (بيتر جوينج) عن الإسلام، فأخذتني الرغبة في التعرف على هذا الدين، وانطلقت لأقرأ بعض الرسائل عن أركان الإيمان، وأركان الإسلام، وعن قصص الأنبياء، فدهشت من أن الإسلام يؤمن بالإنبياء الذين من أهمهم المسيح عليه السلام.. وقد كانت تلك المحاضرة هي بداية الشوق الذي وضعه الله في قلبي للبحث عن الإسلام.
وقد كانت مشكلتي نقص الكتب التي تتكلم عن الإسلام وعن القرآن ولكني لم أيأس، لأنني كنت أستحضر من كلام المبشر الأمريكي قوله (إن التوراة فيها أخطاء)، مما أدخل الشك في نفسي، فبدأت أكوّن فكرتي عن الدين الحق الذي أومن به.
ولم أجد الإجابات عن الأسئلة التي جالت آنئذٍ في صدري حول الإنجيل، وكلما حللت مشكلة أو أجبت عن سؤال، ظهرت مشاكل كثيرة وأسئلة أكثر.. فلجأت إلى تفريغ ذهني من كل فكرة مسبقة، ودعوت الله أن يهديني إلى الحق.
وكان من المفارقات العجيبة أنني كقسيس كنت أعلّم الناس ما لا أعتقده، فمثلاً لم أكن على الإطلاق مقتنعاً بفكرة الخطيئة الأصلية، والصّلب، إذ كيف يحمّل الله إنساناً ذنوب الآخرين؟هذا ظلم، ولماذا لا يغفرها الله ابتداءً؟وكيف يفعل الأب هذا بابنه؟ أليس هذا إيذاءً للأبناء بغير حق؟ وما الفرق بين هذا وبين ما يفعله الناس من إساءة معاملة الأطفال؟
بدأت أبحث عن الوحي الحقيقي، فتأملت نص التوراة فلم أجد إلا كلاماً مليئاً بالأخطاء والتناقضات لا ندري من كتبه ولا من جمعه، فأصل التوراة مفقود، وهناك أكثر من توراة.
اهتزت عقيدتي تماماً، ولكني كنت أمارس عملي، لئلا أفقد مصدر دخلي وكل امتيازاتي.. ومرت سنتان وأنا على هذا الحال حتى جاء يوم لقيت فيه جماعة من المسلمين يوزعون كتيبات عن الإسلام، فأخذت منهم واحداً قرأته بشغف، ثم سعيت إلى مناقشة تلك الجماعة التي كانت توزع تلك الكتيبات، فقد كنت أحب الجدال والمناظرة، وهذا ليس غريباً، ففي الفلبين جماعات مسيحية متصارعة يقارب عددها 20 ألف جماعة وكثيراً ما كنت أمارس الجدال والمناظرة مع بعض تلك الجماعات.
فلما جلست مع ذلك الفريق المسلم في إحدى الحدائق فوجئت بأن الذي يحاورني كان قسيساً كبيراً دخل الإسلام، فأخذت أنصت لكلامه عن النظام السياسي في الإسلام، فأعجبني لأنني كنت أحب المساواة التي لم أجدها في النظم البشرية، ولكني حينئذٍ وجدتها في دين مبني على كلام الله ووحيه إلى خلقه.
سألت المتحدث عن سبب اعتناقه للإسلام، ثم عن الفرق بين القرآن والإنجيل فأعطاني كتاباً لرجل اسمه أحمد ديدات.. قرأت الكتاب فوجدت فيه الإجابة عن كل تساؤلاتي حول الإنجيل واقتنعت تماماً، ثم أخذت أقابل ذلك الرجل كل يوم جمعة بعد الظهر لأسأله عن كل شيء، وكان من فضولي أن سألته عن محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وهل هو من نسل إسماعيل؟ فذكر لي أن في التوراة الموجودة حالياً ذكر محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وأعطاني مقاطع كثيرة من التوراة في هذا الصدد.
أخذت أبحث لأقتنع، وكان من دواعي اطمئناني أن إيماني بعيسى عليه السلام يجعلني أقبل الإيمان بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم، واستمر بحثي شهرين، شعرت بعدهما ببعض التردد، لخوفي على مستقبلي لأنني أعلم يقيناً أنني لو أسلمت فسأخسر كل شيء: المال، ودرجتي العلمية، والكنيسة، وسأخسر والديّ وإخوتي، وكان الشيء الذي هزني هو عجزي عن تدريس الناس العقيدة المسيحية إذ أصبحت بارداً جداً وغير مقتنع بما أقول.
تركت قراءة التوراة حتى لاحظ والداي ذلك، ثم لقيت صديقي المسلم، وسألته عن الصلاة، فقال لى: الشهادة أولاً، فرفعت أصبعي بتلقائية وقلت خلفه: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، ولم أكن أعرف معنى هذا القول حتى شرحه هو لي بعد ذلك، وقلت: وأشهد أن عيسى رسول الله.
كان في المجلس مسلمون كثيرون من جنسيات مختلفة فقام الجميع وعانقوني وهنأوني، فقلت في نفسي: كل هؤلاء مسلمون رغم اختلاف جنسياتهم وألوانهم، لقد جمعهم الإسلام بلا تمييز، فلماذا التمييز في المسيحية حتى تجد جماعات مسيحية للبيض وجماعات مسيحية للسود؟
فرجعت إلى بيتي ونطقت بالشهادة باللغة الانجليزية بيني وبين الله تعالى فليس يهمني الناس، بقيت على إسلامي من غير أن يعلم أحد من معارفي، وكنت أدخل الكنيسة لمدة ستة أسابيع، لأنزع بعد ذلك فتيل القنبلة وأعلن إسلامي، فغضب والداي أشد الغضب.
وجاء الكاهن الأكبر إلى المنـزل ليناقشني، فعرضت عليه ما عندي من تناقضات الإنجيل، فكلمني عن بعض الشبهات التي تثار حول الإسلام فقلت له: أقنعني أولاً أن محمداً ليس رسولاً من عند الله، فوعدني ولكن لم يرجع، وسمعت بعد ذلك أن الكنيسة كلها تصلي من أجلي لأرجع إلى عقلي، وكأنني صرت مجنوناً.
بدأت بعد ذلك أثبّت قدمي في الإسلام ـ دراسة وتعلماً ـ وكنت ألقي بعد ذلك برامج إسلامية في التلفزيون والإذاعة المحلية التي تمولها الجهات الإسلامية.
واعتنق الإسلام بعد ذلك أبي وأمي وأختي وزوجها وابن أخي وبنت أختي .. وأحمد الله على أن كنت سبب هدايتهم إلى الصراط المستقيم.
سألته عن المدى الذي ينتشر فيه الإسلام في الفلبين، فقال لي: يدخل في الإسلام كل شهر أكثر من أربعمائة من مسيحيي الفلبين حسب السجلات الرسمية، أما العدد الحقيقي فالمرجح أنه أكثر من ذلك.. ومعظم أهل الفلبين مسيحيون بالاسم فقط ولايجدون من يدعوهم إلى الإسلام، ومنهم من يقتنع بالإسلام، ولكن يعوقه عن اعتناقه عامل الخوف من المستقبل لأنه سيفقد الأسرة وسيفقد العمل، فالناس هناك لا تقبل توظيف من ترك المسيحية.
سألته عن السر في هذا الإقبال الشديد على الإسلام في هذه البلاد، فقال: إنها المعاملة الطيبة.. إنها أخلاق الإسلام.. فكثير ممن أسلموا كان دافعهم إلى الاقتراب من عقيدة التوحيد معاملة المسلمين الحسنة لهم، كأن يكون صاحب العمل مسلماً حسن المعاملة، أو زميلاً لمسلم حسن الصحبة ودمث الأخلاق.. وكثير ممن أسلموا في الفلبين لم يسلموا إلا بعد أن عادوا إلى بلادهم بعد العمل في بلد إسلامي، إذ أحسوا بالفرق عندما فقدوا المناخ الإسلامي، فتبخرت كل أوهامهم وشكوكهم حول الإسلام، فأعلنوا إسلامهم بعيداً عن كل ضغط أو تأثير.
وقد ذكر لي أن من أسباب ذلك الإقبال الشديد على الإسلام هو تأثر الناس برؤية منظر المسلمين وهم يصلّون.
وقد سألته عن سر انتشار الإسلام بين المثقفين ثقافة دينية، فقال: من السهل دعوة هؤلاء.. فيكفي مثل هذا أن نأخذ بيده، وندعوه إلى مقارنة أسفار الكتاب المقدس، ودراسة مقارنة الأديان، فتلك أفضل الوسائل لإقناعه.
وقد سألته عن العقبات التي تحول دون دخول الناس في الإسلام، فقال: أول ما يصد الناس هو الفكرة الخاطئة التي تعشش في أذهانهم عن الإسلام.. بالإضافة إلى سلوكيات كثير من المسلمين، الذين يعطون صورة سيئة عن الإسلام، ثم الفتاوى الجاهلة التي تصدر من بعض المسلمين من غير علم.. وأخيرا الشبهات التي تثار حول الإسلام من كونه يدعو إلى الإرهاب، ويسيء معاملة المرأة، فيدعو الرجل إلى طلاقها، وإلى الزواج بغيرها، وأنه يحرمها من حقوقها ويقهرها ولا يعطيها حريتها.
من الأسماء التي رأيتها في دفتر الغريب في هذا الفصل اسم (كرست راجا) ([25])، فسألت الغريب عنه، فقال: هو رجل قرأ القرآن ليجعله وسيلة لبث الشبه عن الإسلام، ولكن الله هداه بتلك القراءة، فتحول إلى الإسلام.
وقد التقيت به في ولاية (تملنادو) بأقصى جنوب الهند ـ وذلك في فترة تواجدي بالهند، والتي حكيت لك بعض أخبارها ـ وقد وجدته عميق المعرفة بالكتاب المقدس، ومما ذكره لي من قصة إسلامه قوله: كنت في ولادتي الأولى أحمل اسم (كرست راجا).. وقد ولدت فى عائلة مسيحية فى قرية من ولاية تلمنادور، ولغتى التاميلية وأعرف عدداً من اللغات، منذ صغر سنى كنت أحب المسيحية.. وأمثلها أحب المسيح حباً شديداً.. وقد كنت أدعو الله دائما أن يحول المسلمين جميعا إلى المسيحية.
وفى أحد الأيام التقيت بعالم مسلم، فاعتبرتها فرصة عظيمة، لكى أناقشه في بعض الأمور المتعلقة بالإسلام والمسيحية، لكنه سرعان ما تحدانى قائلا: لن تجد شيئاً فى القرآن يخالف العقل، أو يخالف الفطرة.
لقد كان هذا التحدى سبباً لأقرأ القرآن الكريم، فقرأت ترجمة المعانى فى اللغة التاميلية مرتين، فعرفت أن الإسلام هو الدين الصحيح، وأن المسيحية محرفة، فقبلت الإسلام ديناً.
قلت: بهذه السهولة !؟
قال: أجل.. القرآن الكريم هو كتاب الدعوة الأكبر.. لقد قال تعالى فيه:{ فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَاداً كَبِيراً } (الفرقان:52)
قلت: فهل تعرضت للبلاء كما تعرض الكثير من إخوانك ممن أسلموا؟
قال: البلاء سنة الله لتمحيص الصادقين.. وقد تعرضت بفضل الله لبعض البلاء الذي تجاوزته بحول الله وقوته.. فالناس كانوا ينظرون إلى نظرة السخرية، وكانوا يقولون لي: إنك صرت مجنونا، وقد ضحكوا على لأننى أطلقت اللحية بعد أن كنت متعودا على حلقها([26])، وتحملت جميع هذه المشاكل من قومى، وصبرت عليها لأننى كنت أقرأ فى القرآن قصص الدعاة والمصلحين من الآنبياء والرسل وتحملهم الأذى والمصائب فى سبيل التبليغ الدعوة إلى الله.
قلت: وأهلك.. أقرب الناس إليك !؟
قال: لقد من الله عليهم، فأسلموا.. لقد أسلمت زوجتى، وثلاثة من أولادى، وقد أسلم على يدى بالإضافة إليهم بعض الأخوة الآخرين.
قلت: فما الحرفة التي اتخذتها بعد إسلامك؟
قال: أنت تعلم جيدا أن أحبار النصارى وعلماءهم ودعاتهم يتمتعون بكل نعيم فى الدنيا، ويعيشون عيشة رضية بما يحصلون عليه من المعونات الهائلة من الدول المسيحية.
وقد تركت كل ذلك طمعا بما أعد الله لى فى الآخرة من نعيم فى الجنة، والآن أتجول فى القرى والمدن ماشيا، وألتقى بالناس أفراداً وجماعات أوجه الدعوة إليهم، وأدعوهم إلى الإسلام، وأبين لهم أباطيل دينهم، وأبذل جهدى لإيصال ترجمة معانى القرآن الكريم إلى كل شخص من غير المسلمين، لأننى على يقين أنهم إذا قرأوا القرآن مرة واحدة من أوله إلى آخره فسيدخلون فى دين الله.
قلت: فأنت تابع لبعض المراكز الإسلامية إذن؟
قال: أجل.. فأنا أشتغل ـ بحمد الله ـ كداعية فى مركز الدعوة للمسلمين الجدد التابع لجمعية أهل القرآن والحديث فى ولاية تملنادوا جنوب الهند، والتى تبذل جهدها فى نشر الدعوة إلى الله بين المسلمين وغيرهم.
قلت: هل ترضيك جهود المسلمين الدعوية؟
نظر إلي بحزن، ثم قال: إن آلاف القلوب فى هذه المنطقة تنتظر الفرصة للدخول فى الإسلام، وعلى المسلمين مسئولية كبرى، يجب عليهم أن يتمثلوا صورة الإسلام الصحيحة أولا، ثم يقوموا بالدعوة المستمرة، ويبذلوا جهدهم فى تعريف الإسلام لغير المسلمين من النصارى والهندوس وغيرهم، وعلى المؤسسات والهيئات الإسلامية فى داخل البلاد وخارجها التى تهتم بالشئون الدينية أن تقوم بتوزيع ترجمة معانى القرآن بكية كبيرة.
وأعتقد أن المسلمين هم المسئولون أمام الله لتأخر دخولى فى الإسلام، فقد كنت جاهلا به أكثر من ثلاثين سنة، وذلك بسبب تقصير المسلمين فى دعوتى للإسلام وبيان معانيه، وإننى أخشى أن يقول الناس جميعاً يوم القيامة أمام الله تعالى مثل قولى هذا.
من الأسماء التي رأيتها في دفتر الغريب في هذا الفصل اسم (آرثر ميلاستنوس) ([27])، فسألت الغريب عنه، فقال: وهو دكتور في اللاهوت، وكان الرجل الثالث في مجمع كنائس قارة آسيا، وقد التقيت به في بعض رحلاتي، فلاحظت في كلامه نفحات الصدق، فسألته عن سرها، فقال: في أثناء عملي بالتنصير عام 1983 خطر على بالي خاطر يقول لي: أي ضير في قراءة القرآن من أجل الرد على المسلمين؟
وتلبية لهذا الخاطر توجهت إلى أحد المسلمين سائلاً إياه أن يعيرني كتابهم المقدس، فوافق المسلم مشترطاً علي أن أتوضأ قبل كل قراءة([28]).
وعندما قرأت القرآن أول مرة، شعرت بصراع عنيف في أعماقي، فثمة صوت يناديني ويحثني على اعتناق هذا الدين، الذي يجعل علاقة الإنسان بربه علاقة مباشرة، لا تحتاج إلى وساطات القسس، ولا تباع فيها صكوك الغفران.
وفي يوم توضأت، ثم أمسكت بالقرآن فقرأت:{ أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} (محمد:24)، فأحسستُ بقشعريرة، ثم قرأت:{ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً }(المائدة:3)، فحلّت السكينة في روحي الحيرى، وشعرت أني قد خُلقت من جديد.
في تلك الليلة لم أصبر حتى تطلع الشمس، بل اتجهت حالاً إلى منزل صديقي المسلم لأسأله عن كيفية الدخول في الإسلام، وبين حيرة الصديق ودهشته نطقت بالشهادتين.
من الأسماء التي رأيتها في دفتر الغريب في هذا الفصل اسم (عبدالأحد داود)، فسألت الغريب عنه، فقال: لم ألتق به، ولكني التقيت بعض أحفاده، وقد حدثني عنه، فذكر أن اسمه قبل إسلامه كان (دافيد بنجامين الكلداني)([29]) .. وكان أستاذا في علم اللاهوت، وكان قسيس الروم الكاثوليك لطائفة الكلدانيين الموحدة، وكان يتكلم عدة لغات.
وقد ولد عام 1868م، في أروميا من بلاد فارس، وتلقى تعليمه الابتدائي في تلك المدينة، وبين عامي 1886 – 1889م كان أحد موظفي التعليم في إرسالية أساقفة (كانتر بوري) المبعوثة إلى النصارى النسطوريين في بلدته.. وفي عام 1892م أرسل إلى روما حيث تلقى تدريبا منتظما في الدراسات الفلسفية واللاهوتية في كلية (بروبوغاندافيد).. وفي عام 1895م تم ترسيمه كاهنا، وفي هذه الفترة شارك في كتابة سلسلة من المقالات التي تم نشرها في بعض الصحف المتخصصة، وبعد عودته من روما توقف في إستانبول عام 1895م، وأسهم في كتابة ونشر بعض المقالات عن الكنائس الشرقية في الصحف اليومية الإنجليزية والفرنسية.
لم يمكث طويلا في إستانبول، بل عاد في نفس العام إلى بلدته، وانضم إلى إرسالية (لازارست) الفرنسية، ونشر لأول مرة في تأريخ الإرسالية منشورات فصلية دورية باللغة السريانية.
وبعد ذلك بعامين انتدب من قبل اثنين من رؤساء أساقفة الطائفة الكلدانية في بلده لتمثيل الكاثوليك الشرقيين في مؤتمر (القربان المقدس) الذي عقد في مدينة (باري لو مونيال) في فرنسا، وفي عام 1898م عاد إلى قريته ديجالا وافتتح مدرسة بالمجان.
وفي عام 1899م أرسلته السلطات الكنسية إلى سالماس، لتحمل المسئولية، حيث يوجد نزاعات بين بعض القياديين النصارى هناك، وفي عام 1900م ألقى موعظة بليغة شهيرة، حضرها جمع غفير من طائفته وغيرها، وكان موضوعها (عصر جديد ورجال جدد) انتقد فيها تواني بني قومه عن واجبهم الدعوي.
وقد أخبرني حفيده هذا، بأنه كتب رسالة يجيب فيها من سأله عن دوافع إسلامه، وقد رأيت تلك الرسالة، ومما ورد فيها قوله: إن اهتدائي للإسلام لا يمكن أن يعزى لأي سبب سوى عناية الله عز وجل بي، وبدون هداية الله فإن كل القراءات والأبحاث، ومختلف الجهود التي تبذل للوصول إلى الحقيقة لن تكون مجدية، واللحظة التي آمنت بها بوحدانية الله، وبنبيه الكريم صلوات الله عليه، أصبحت نقطة تحولي نحو السلوك النموذجي المؤمن.
ومن الأسباب التي ذكرها في تلك الرسالة، والتي جعلته يعلن عصيانه على الكنيسة، ما تطلبه ممن يؤمن بها من الشفاعة بين الله وبين خلقه في عدد من الأمور، كالشفاعة للخلاص من الجحيم، وكافتقار البشر إلى الشفيع المطلق بصورة مطلقة، وأن هذا الشفيع إله تام وإنسان تام، وأن رهبان الكنيسة أيضا شفعاء مطلقون، كما تأمره الكنيسة بالتوسل إلى شفعاء لا يمكن حصرهم.
وقد ذكر فيها أنه من واقع دراسته لعقيدة الصلب وجد أن القرآن ينكرها والإنجيل المتداول يثبتها، وكلاهما في الأصل من مصدر واحد، فمن الطبيعي ألا يكون بينهما اختلاف، ولكن وقع بينهماالاختلاف والتضاد، فلا بد من الحكم على أحدهما بالتحريف، فاستمر في بحثه وتحقيقه لهذه المسألة حتى توصل إلى الحقيقة، حيث يقول: (ولقد كانت نتيجة تتبعاتي وتحقيقي أن اقتنعت وأيقنت أن قصة قتل المسيح عليه السلام وصلبه ثم قيامه من بين الأموات قصة خرافية)
ومن الأسباب التي ذكرها اعتقاد النصارى بالتثليث، وادعاؤهم أن الصفة تسبق الموصوف..
بالإضافة إلى هذا كله فقد ذكر أنه التقى بعدد من العلماء المسلمين، وبعد مواجهات عديدة معهم اقتنع بالإسلام واعتنقه.
وقد ذكر أنه نتيجة لذلك اعتزل الدنيا في منزله شهراً كاملاً، يعيد قراءة الكتب المقدسة بلغاتها القديمة وبنصوصها الأصلية مرة بعد مرة، ويدرسها دراسة متعمقة مقارنة ضمّن بعضها في كتابه الفذ (محمد في الكتاب المقدس)
وقد أدته تلك العزلة الباحثة إلى اعتناق الإسلام في مدينة استانبول.. وقد ذكر في ختام رسالته قوله (في اللحظة التي آمنت فيها بوحدانية الله، وبنبيه الكريم صلوات الله عليه، بدأت نقطة تحولي نحو السلوك النموذجي المؤمن.. فـ (لا إله إلا الله محمد رسول الله) هذه العقيدة سوف تظل عقيدة كل مؤمن حقيقي بالله حتى يوم الدين … وأنا مقتنع بأن السبيل الوحيد لفهم معنى الكتاب المقدس وروحه، هو دراسته من وجهة النظر الإسلامية)
من الأسماء التي رأيتها في دفتر الغريب في هذا الفصل اسم (محمد فؤاد الهاشمي) ([30])، فسألت الغريب عنه، فقال: وهو صاحب كتاب (الأديان في كفة الميزان).. وقد ذكر لي سبب إسلامه، فقال: (لقد كان قصدي من البحث في الإسلام استخراج العيوب التي أوحى إلي بها أساتذتي، لكن وجدت أن ما زعموه في الإسلام عيوباً هو في الحقيقة مزايا، فأخذ الإسلام بلبي، فانقدت إليه، وآمنت به عن تفكّر ودراسة وتمحيص، وبها كلها رجحت كفة الإسلام، وشالت كفة سواه)
من الأسماء التي رأيتها في دفتر الغريب في هذا الفصل اسم (فردريك دولامارك)، فسألت الغريب عنه، فقال: لقد كان هذا الرجل كبير أساقفة جوهانسبرج، وقد اهتزت دوائر التبشير العالمية بعد إسلامه، فقد أعلن في صحن المركز الإسلامي الكبير بجنيف عن إسلامه، مؤكداً إستعداده للبدء فوراً في قيامه بالتعريف بحقيقة الإسلام، والعمل على نشر تعاليمه في أنحاء القارة الإفريقية.
وسادت الدهشة والذهول أركان الكنيسة الكاثوليكية، بعد أن أعلن أنه عندما درس الإسلام وجد صورة أخرى مختلفة للمسيح عليه السلام مما أحدث في نفسه أعمق الأثر..
وقد خشيت الكنيسة من تأثر عدد كبير من قادة العمل التبشيري بتلك المفاجأة، حيث اشتهر (فردريك) برجاحة عقله وإنصافه للحقيقة.
والمثير للانتباه أن (فردريك) قد وصلت غيرته على الإسلام إلى حد التأكيد على ضرورة تطوير أساليب الدعوة والاهتمام بدعمها، حيث أن هناك قصوراً في هذا الصدد ينبغي معالجته.. وقد صرح بهذا المعنى في قوله: (من المؤسف حقاً أن الجهود التنصيرية لا تشكو من أي نقص تنظيمي أو حركي أو مالي أو معنوي، وهذا ما نفتقده عند دعاة الإسلام، فضلاً عن المصاعب السياسية والاقتصادية والاجتماعية)
من الأسماء التي رأيتها في دفتر الغريب في هذا الفصل اسم (أشوك كولن يانج) ([31])، فسألت الغريب عنه، فقال: هذا هو الكاردينال أشوك كولن يانج.. وقد كان أمين عام مجلس الكنائس العالمي لوسط وشرق إفريقيا، وقد احتفظ باسمه، وذكر لي أن سبب ذلك يعود إلى ما ذكره الفقهاء من أنه لا حرج في احتفاظ المسلم باسمه القديم ما لم يحو على دلائل الكفر.. والثاني، هو تحقيق أهداف دعوية، تجعل المسيحيين يثقون فيه، ويقبلون قوله.
وقد التقيت به بعد اعتناقه الإسلام، وسألته عن رحلته للإسلام، فقلت: تغيير الإنسان عقيدته ليس أمراً سهلاً، خاصة إذا كان هذا الإنسان يحتل قمة الهرم الذي يدعو إلى هذه العقيدة.. فما الذي قادك إلى التغيير، ومن ثم اعتناق الإسلام؟
تأمل قليلا فيما ذكرته له، ثم قال: الإنسان ـ مهما علا شأنه ـ إذا كان صادقاً وجاداً في البحث عن الحقيقة، فإنه حتماً سيصل إليها يوماً ما، وهذه الحقيقة التي سيصل إليها إما أنها تعزز ما يؤمن به، أو تهديه إلى سبيل آخر..
قلت: أعلم تأثير الصدق ودوره الخطير في الوصول إلى النتائج العظيمة.. وقد قال الصالحون (من صدق وجد).. ولكني أسألك عن طريق ذلك الصدق.
قال: تلك قصة طويلة..
قلت: من أين تبدأ؟
قال: من الأناجيل.. فمن صدق في قراءة الإنجيل.. فستهديه لا محالة إلى القرآن.
قلت: هذه الأناجيل التي بين أيدينا !؟
قال: أجل.. هذه الأناجيل التي بين أيدينا.. فقد كانت هي النور الأول الذي وصلت به إلى شمس محمد.
قلت: كيف تم ذلك؟
قال: من خلال أقوال المسيح التي وردت في الأناجيل، فقد جاء في إنجيل يوحنا في الإصحاح الثامن فقرة 40 عندما همَّ اليهود بقتله: (ولكنكم الآن تطلبون أن تقتلوني وأنا إنسان قد كلمكم بالحق الذي سمعه من الله).. لقد لاحظت أن المسيح في هذا النص يخبر أنه إنسان اختاره الله وحمّله رسالة وجعله نبياً، ولذلك يقول ـ كما جاء في الإصحاح الثامن فقرة 42 ـ: (لو كان الله أباكم لكنتم تحبونني، لأني خرجت من قبل الله وأتيت، لأني لم آت من نفسي بل ذلك أرسلني، لماذا لا تفهمون كلامي؟)
بل صرحت بعض الأناجيل بنبوة عيسى كما جاء في لوقا ـ الإصحاح السابع فقرة 16 ـ: (فأخذ الجميع خوف ومجدوا الله قائلين: قد قام فينا نبي عظيم)، وجاء في متى ـ الإصحاح الحادي والعشرين فقرة (9، 10، 11) ـ: (ولما دخل أورشليم ارتجت المدينة كلها قائلة: من هذا؟ فقالت الجموع: هذا النبي الذي من ناصرة الجليل)
وهذه النصوص تتفق مع قوله تعالى في القرآن الكريم:{ مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ } (المائدة:75)
قلت: فأنت ترى أن هذه النصوص التي وردت في الأناجيل كفيلة بتغيير عقيدة المسيحيين من المسيحية إلى الإسلام؟
قال: ذلك صحيح لمن صدق في البحث.. ولم يتوقف عند هذا..
قلت: لم أفهم ما تقصد.
قال: الإيمان برسالة سيدنا عيسى عليه السلام يكون بتصديقه فيما أخبر، فلا نرد خبره ولا نكذب قوله ولا نخالفه.
قلت: كل المسيحيين يزعمون أنهم يعتقدون هذا.
قال: لقد جاء المسيح عليه السلام لأمرين مهمين.. كلاهما غفل عنه إخواننا المسيحيون.
قلت: ما هما؟
قال: أما أولهما، فهو تعلم الأمة التي بعث إليها كيف تتقرب إلى الله وتعبده، أما معرفة الله فيذكر المسيح عليه السلام أن الله واحد لا شريك له ولا نظير له ولا شبيه له، فقد جاء في إنجيل (مرقص:12/30) لما سأله الكتبة: أي وصية هي أول الكل؟ فأجابه يسوع: (إن أول كل الوصايا هي: اسمع يا إسرائيل.. الرب إلهنا رب واحد، وتحب الرب إلهك من كل قلبك ومن كل نفسك ومن كل فكرك ومن كل قدرتك هذه هي الوصية الأولى، وثانية مثلها هي أن تحب قريبك كنفسك، ليس وصية أخرى أعظم من هاتين فقال له الكاتب: صحيح يا معلم حسب الحق تكلمت فإن الله واحد لا آخر سواه)، وتتأكد هذه الحقيقة عن ذات الله بما جاء في إنجيل (متى: 23 /8) حيث يقول المسيح عليه السلام: (وأما أنتم فلا تدعوا لكم أباً على الأرض لأن أباكم واحد الذي في السماء).. وجاء في يوحنا في (20 /18) قال المسيح: (إني أصعد إلى أبي وأبيكم وإلهي وإلهكم)، وكلمة الأب (أبي وأبيكم) تعني في لغة الإنجيل الرب أي ربي وربكم.
التفت إلي، وقال: ولهذا تجدني أخاطب دائما محبي المسيح قائلا لهم: ألم تتضمن وصايا المسيح عليه السلام تعريفاً واضحاً لذات الله العلي الكبير المتفرد، وهو يوافق تماما ما جاء في القرآن، فالله تعالى يقول:{ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4)}(الإخلاص)، كما جاء في القرآن الكريم أيضاً:{ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} (الانبياء:25)
قلت: علمت المهمة الأولى.. فما المهمة الثانية؟
قال: المهمة الثانية للمسيح عيسى عليه السلام هي أن يهدي الأمة التي بعث إليها إلى عبادة الله، وهي أمة بني إسرائيل، أما غيرهم من الأمم فلا تعنيهم شريعة عيسى، وهذا ما تقرره الأناجيل المسيحية، فقد جاء في إنجيل متى (15 /5) قول يسوع: (لم أُرسل إلا لخراف بني إسرائيل الضالة)، وجاء في متى (10 /5): (هؤلاء الاثنا عشر أرسلهم يسوع وأوصاهم قائلاً: (إلى طرق أمم لا تمضوا، وإلى مدينة السامريين لا تدخلوا، بل اذهبوا بالحرى إلى خراف بنى إسرائيل الضالة)
قلت: فما تفيد هذه المعرفة؟
قال: هذه المعرفة تجعل كل مسيحي يبحث عن الرسول الخاتم الذي أرسل للبشر جميعا.. وكل من بحث عن هذا الرسول.. فلن يجد غير محمد، فهو الوحيد الذي جاء في كتابه المقدس:{ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ } (سـبأ:28)، وجاء فيه:{ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ } (الانبياء:107)
قلت: حدثني عن تلك اللحظة الخطيرة التي اتخذت فيها أخطر قرار يمكن أن يتخذه إنسان.
سكت قليلا يسترجع ذكرياته، ثم قال: حينما قررت اعتناق الإسلام، ذهبت إلى الكنيسة وتقدمت بطلب إجازة لكي أقضيها مع أسرتي، فطلب مني أن أنتظر حتى تعتمد لي الكنيسة من 50 إلى 100 ألف دولار، لكي أنفقها على أولادي، فقلت لهم أنا لا أريد مالكم، وكانت عندي للكنيسة عمارتان وأموال تبلغ مليونين و400 ألف دولار أمريكي، و320 مليون جنيه سوداني، فقمت بتسليمها إلى راعي ميزانية التنصير، فكانت مفاجأة كبيرة للكنيسة.
وبعد ذلك قضيت يومين مع أسرتي نفكر في هذا الأمر ونناقشه، وقد كانت أسرتي المكونة من زوجتي وأربعة أبناء تدرك أنني أفكر في اعتناق الإسلام، وحينما أبلغتهم أن الوقت قد حان، كان ردهم أنت أعلم منا ونحن نثق بك وقرارك قرارنا، وبالفعل ذهبنا إلى أحد المساجد المجاورة.. وهو مسجد النور.. وأشهرنا الإسلام.
قلت: فهل خسرت جميع تلك الثروة؟
قال: صحيح أنني خسرت أموالاً كثيرة غير أنني كسبت الإيمان والراحة النفسية بعد 40 سنة قضيتها في الباطل.
قلت: فما فعلت الكنيسة بعد علمها بإسلامك؟
قال: لقد فعلت ما تعودت أن تفعله مع أمثالي.
قلت: ألم تكتف بما أخذته منك من مال؟
قال: لقد رمتني بالجنون.. وهذه سنة قديمة أخبر القرآن أنها ديدن جميع الغافلين.
قلت: أنت إلى الآن لم تحدثني عن الطريق الذي سلكته للتعرف على الإسلام.. أم أنك تتهرب من ذكر ذلك.
ابتسم، وقال: أنا لا أتهرب.. ولكن تلك الذكريات المريرة التي كنت فيها بعيدا عن الإسلام من الصعب اجترارها.
قلت: فحدثني عنها.
قال: لقد شاء الله أن أدرس مقارنة الأديان، وكان الهدف منها أن أتعرف على الأديان السماوية وغير السماوية من أجل ممارسة التنصير بعلم وخبرة ومنهجية، لكن الله أراد شيئاً آخر، فقد درست الأديان السماوية وهي معروفة، كما درست غير السماوية وهي البوذية والهندوسية وعبادة النار والشمس والشيطان والأصنام.
وخلال مرحلة الدراسة كانت تتكشف أمامي الحقائق عن الإسلام أولا ًبأول، وبدأ تكويني الديني يتشكل وأفكاري تتغير وتتداخل.
وفي إحدى مراحل الدراسة أيقنت أن الإسلام هو الدين الصحيح، فكنت حينما أسمع الأذان أتوقف عن إلقاء المحاضرة احتراماً للنداء الإلهي، وحينئذ أصبحت شخصاً بوجهين، وجه يرى أن الإسلام الدين الحق، وأن الله واحد لا شريك له، ووجه يغالط نفسه ويواصل انخراطه في الأعمال الكنسية والتمتع بأموالها الطائلة.
ولما بدا تعاطفي مع الإسلام اجتمع مجالس القساوسة والرهبان والكاردينالات، واجتمع رأيهم على أنني أميل للإسلام.. وهنا مارس مجلس الكنائس ضغوطاً كثيرة عليَّ، ولما فشل قرر إيقافي عن العمل بالكنيسة، وصدر قرار من الكنائس بأن الجنون قد أصابني، قلت لهم: إنني لست مجنوناً، فأنا أخاف الله الواحد ربي وربكم ورب محمد وعيسى، إنني أخاف من عذاب الله، إنني أخاف من الله، وعلمت بعد ذلك أن تقرير الأطباء أثبت أنني لست مجنوناً، ولكنني أتطلع إلى اعتناق الإسلام.
قلت: لقد وصلت في الكنيسة إلى درجة كاردينال، كما احتل والدكم هذا المنصب.. فماذا يعني هذا المنصب.. وما وظيفته في الكنيسة؟
قال: لقد تقلدت مناصب كبيرة في الكنيسة، ومن بين ذلك أني كنت كاردينالاً كما كان والدي كذلك، وهذا المنصب في الكنيسة الكاثوليكية يوازي وظيفة المفتي في الإسلام.
قلت: هذا منصب رفيع..
قال: ولهذا.. فأنا أتحدى أياً كان من كبار القساوسة الشرقيين أو الغربيين أن يحاججني، بل أنا على استعداد لمناظرة صاحب أي درجة عالية في الكنيسة لإثبات صحة الإسلام وأحقيته بالاتباع، فأنا لم أسلم عاطفياً أو عبثاً، وإنما أسلمت بعد دراسة معمقة للأديان، وصلت في نهاية الدراسة إلى أن الإسلام هو الدين السماوي الذي ختم الله به الرسالات السماوية، وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم خاتم الأنبياء والمرسلين، وأن عيسى عليه السلام إنسان من البشر وهو نبي ورسول وليس أكثر من ذلك، قال تعالى في القرآن الكريم:{ مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ } (المائدة:75)
وأنا لست أول من يسلم من القساوسة، فقد سبقني إلى الإسلام عدد كبير من القساوسة والمبشرين، وعلى رأسهم الأمين العام لمجلس مؤتمر المطارنة في الكنيسة الكاثوليكية، ورئيس القساوسة في الولاية الشرقية.
قلت: ما الفرق بين وظيفتك الجديدة كداعية للإسلام.. وبين وظفيتك السابقة كداعية للمسيحية؟
قال: في السابق كان كل همي تنصير المسلمين أو إبعادهم عن دينهم حتى لو فسدوا وارتكبوا كل الموبقات، فلم يكن مهماً أن يكون المسلم إنساناً صالحاً أو سوياً في المجتمع حتى بعد تحوله عن الإسلام، والكنيسة لا تهتم بدعوة النصارى إلى الالتزام، فجل اهتمامها أن يحمل الإنسان كلمة مسيحي، وليس شرطاً أن يكون متديناً أو ملتزماً، أما الآن فالمرء في الإسلام محاسب على كل صغيرة وكبيرة، وكل من يعتنق الإسلام عليه أن يكون صاحب عقيدة سليمة وعبادة صحيحة.
شد انتباهي في هذا الفصل عنوان يحمل اسم (ثاني أكبر قسيس في غانا)، فسألت الغريب عنه، فقال: لا أذكر اسم هذا الرجل، ولكني أذكر جيدا الوظيفة الخطيرة التي كان يتولاها.. وقد التقيت به في غانا، ولم أعلم منه، أو من الجمع الذين كانوا يتحدثون عنه إلا أنه كان ثاني أكبر قسيس في غانا كلها، وقد حدثني عن قصته مع الكنيسة والإسلام، فقال: في صغري كنت طفلا فقيرا معدما ألبس الرث من الثياب، وبالكاد أجد لقمة يومي، وقد أخذني بعض المبشرين، وربوني في ملاجئهم، ودرسوني في مدارسهم، وما إن لحظوا مني نباهة حتى جعلوني من أولويات اهتماماتهم.
تعلمت في مدارسهم حتى نلت أكبر الشهادات.. وكان ذلك مقابل ديني الذي أعرف انتمائي له، لكني تلفت يمنة ً ويسرة ً في وقت العوز والحاجة، فما وجدت أحدا إلا المبشرين..
بعد مدة أصبحت قسيسا لامعا في بلدي، لي ـ كما يقولون ـ لسان ساحر وأسلوب جذاب ومظهر لامع، وبريق عيني يقود من رآني لا محالة إلى المسيحية.
وفي ذلك اليوم الذي أراد الله فيه هدايتي أخذت أتساءل بيني وبين وبين نفسي، وأقول: أنا لم أترك ديني لقناعة في الديانة المسيحية، وإنما الجوع هو الذي قادني، والحاجة هي التي دفعتني، والعوز هو الذي ساقني، وعلى الرغم من رغد العيش الذي أنا فيه، والرفاهية التي أتمتع بها إلا أنني لم أجد الانشراح ولم أشعر وأنعم بالراحة والسعادة والطمأنينة إذ ما فتئت أقلق من المصير بعد الموت، ولم أرس على بر أمان أو قاعدة صلبة تريح الضمير حول ما في الآخرة من مصير.
لماذا لا أتعرف على الإسلام أكثر؟.. لماذا لا أقرأ القرآن مباشرة، بدلا من الاكتفاء بمعلوماتي عن الإسلام من المصادر المسيحية التي ربما لم تعرض الإسلام بصورته الحقيقة.
وهنا شرعت أقرأ القرآن، وأتأمل وأقارن، فوجدت فيه الإنشراح والإطمئنان، وانفرجت أساريري وعرفت طريق الحق وسبيل النور:{ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (16)} (المائدة)
وهنا اتخذت قراري الحاسم، وعزمت على التصدي لكل عقبة تحول دون إسلامي.. لقد ذهبت إلى الكنيسة، وقابلت الرجل الأول فيها القسيس الأوروبي الكبير، وأخبرته بقراري، فظن أنني أمزح.. لكني عندما أكّدت له أني جاد في رغبتي هذه، جن جنونه وأخذ يزبد ويرعد ويهدد.. ثم لما هدأ، أخذ يذكرني بما كنت عليه، وما صرت إليه، وما فيه أنا الآن من نعمة ويسر، وحاول إغرائي بالمال، وأنه سيزيد راتبي، ويعطيني منحة حالا، ويزيد من المنحة السنوية، ويزيد من صلاحياتي، وغيرها كثير.
ولكن دون جدوى.. فجذوة الإيمان قد تغلغلت في شغاف القلب، واستقرت في سويداء الضمير، وكذلك بشاشة الإيمان إذا خالطت القلب استقرت.
لم يجد كبير القسس إلا أن قال لي: إذن تـُرجع لنا كل ما أعطيناك وتتجرد من كل ما تملك.
فقلت: أما ما فات فليس لي سبيل إرجاعه، وأما ما لدي الآن فخذوه كله، وكان تحت يدي أربع سيارات لخدمتي، وفيلا كبيرة وغيرها، فوقعت تنازلا عن كل ما أملك، لقد كنت أنفذ في هذا قوله تعالى:{ إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } (التوبة:111)
اغتاظ القسيس الكبير وجردني حتى من ملابسي، وطردني من الكنيسة شر طردة، وظن أنهي سأكابد الفقر يومين، ثم أعود مستسمحا، كيف لا يظن ذلك وهم المادّيّون حتى الثمالة.
لكني خرجت من الكنيسة، وأنا لا ألبس سوى ما يستر عورتي، ولا أملك سوى هذا الدين العظيم الإسلام، وشعرت حينئذٍ أنني أسعد مخلوق على هذه البسيطة.
سرت ماشيا باتجاه المسجد الكبير وسط البلد، وفي الطريق أخذ الناس يمشون بجانبي مستغربين، ويقول بعضهم: لقد جن القسيس، وأنا لا يرد على أحد حتى وصلت المسجد، فلما هممت بالدخول حاولوا منعي متسائلين: إلى أين؟ وإذا بالجواب الصاعقة: جئت أُعلن إسلامي.
فتعجب الجميع قائلين (القسيس الأشهر في البلاد الذي تنصر على يديه المئات، الذي يظهر في شاشة التلفاز مرتين أسبوعيا، الذي يمثل المسيحية في البلد، يأتي اليوم ليُعلن إسلامه.. إنها سعادةٌ لا توصف، وفرحة لا تعبر عنها الكلمات، ولا تقدر على تصويرها الجمل والعبارات، إنه أنسٌ غامر، وإشراقة منيرة)
لقد فرح المسلمون فرحا شديدا بإسلامي، ثم أعطوني من الألبسة ما دخلت به المسجد، وألقيت بالمسلمين المتواجدين خطبة أعلنت فيها إسلامي، وقد انطلقت على إثرها صيحات التكبير، وارتفعت خلالها أصوات التهليل والتسبيح، استبشارا وفرحا بإسلام مَن طالما دعاهم إلى الضلال، إذا به اليوم يدعوهم إلى الهداية والإسلام.
وخلال يومين رجع الكثير الكثير ممن تنصروا إلى واحة دينهم الإسلام الوارفة الظلال، حيث ينعمون في ظله وكنفه بآثار الهداية وطمأنينة سلوك السبيل القويم وراحة البال والضمير والخير العميم:{ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ } (الرعد:28)
بعد يومين من إعلان إسلامي بدأ الحاقدون من المسيحيين يبحثون عني ليقتلوني وتهددوا وتوعّدوا، فقام المسلمون بتهريبي إلى سيراليون سرا، حيث أ ُعلِن عبر الإذاعة التي تملكها لجنة مسلمي أفريقيا الكويتية أني سأُلقي خطابا للأمة بمناسبة إسلامي، وأخذ الجميع يترقّب هذا الخطاب والكنيسة كانت ضمن المترقبين، وقد توقعت أن أقوم بمهاجمتها أشد المهاجمة وإخراج كثير من أسرارها أمام الملأ والتجني عليها، هذا ما كانت تتوقعه، وقد أعدّت قبل خطابي مسودة لبيان سوف تنشره، وكان يرتكز على أنها وجدتني معدما فقيرا، وقامت بمساعدتي وتربيتي، وتكفلت بتعليمي حتى بلغت أعلى المستويات العلمية، ثم ها أنا أقوم بنكران الجميل وخيانة الأمانة ورد المعروف بالإساءة.
لكن الله خيّب فألهم وأغلق عليهم الطرق، حيث قمت بإلقاء خطاب خلاف توقعهم بدأ فيه بشكرهم على كل ما قدّموا له، وذكرت ما قدّموا لي من رعاية ومأوى وتعليم وغيرها بالتفصيل، ودنت لهم بعد الله بالفضل، إلا أني أشرت بطريقة لبقة إلى أن العقيدة وحرية الدين لا تسير وفق العواطف وفضل الله تعالى فوق كل فضل، ونعمة الله تعالى فوق كل نعمة، وذلك بصياغة تجعل كل مَن خَدَمَتهُ الكنيسة يُعِيدُ النظرَ في هذه الخدمة والرعاية وأنها ليست مقياسا لصحة العقيدة، وليست العامل المرجّح لاختيار الدين.
بعد الخطاب بيومين كان هناك حفل افتتاح مسجد الجامعة، حيث حضر هذا الحفل في باحة الجامعة رئيس جمهورية سيراليون وجمع من المسئولين وبعض رجال الكنيسة الذين دعتهم الجامعة لتكريس التسامح الديني ولتلطيف الجو بعد الخطاب الذي ألقاه القس الذي أسلم.
وفي الحفل بعد تلاوة القرآن الكريم قام الشيخ طايس الجميلي ممثل لجنة مسلمي إفريقيا التي تكفلت ببناء المسجد بألقاء كلمة أشار فيها إلى إسلامي وضمنها قوله تعالى:{ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ } (المائدة:82)
وعندما شرع في شرح هذه الآية ووصل بشرحه عند الآية ترى أعينهم تفيض من الدمع والمترجم يترجم على الفور، رأيت القساوسة الذين حضروا أخرجوا مناديلهم يمسحون دموعهم.
وقد
قال أحد القساوسة لزميله الذي بجانبه: أقسم أن هذا هو من أرشد ذلك القسيس ليجعل
خطابه بالصورة التي ظهر عليها وأحرجنا.
([1]) رواه ابن إسحق وغيره.
([2]) كما في رواية عبد العزيز بن صهيب عند البيهقي.
([3]) توكف الخبر: إذا انتظر، انظر: النهاية: 5 / 221.
([4]) رواه البخاري.
([5]) رواه البيهقي.
([6]) هو القس المصري السابق اسحق هلال مسيحه، رئيس لجان التنصير بأفريقيا، وهو راعي كنيسة المثال المسيحي، ورئيس فخري لجمعيات خلاص النفوس المصرية بإفريقيا وغرب آسيا.
([7]) إبراهيم خليل أحمد قس مبشر من مواليد الإسكندرية عام 1919، يحمل شهادات عالية في علم اللاهوت من كلية اللاهوت المصرية، ومن جامعة برنستون الأمريكية. عمل أستاذًا بكلية اللاهوت بأسيوط. كما أرسل عام 1954 إلى أسوان سكرتيرًا عامًا للإرسالية الألمانية السويسرية. وكانت مهمته الحقيقية التنصير والعمل ضد الإسلام. لكن تعمقه في دراسة الإسلام قاده إلى الإيمان بهذا الدين وأشهر إسلامه رسميًا عام 1959. كتب العديد من المؤلفات، أبرزها ولا ريب (محمد في التوراة والإنجيل والقرآن)، (المستشرقون والمبشرون في العالم العربي والإسلامي)، و(تاريخ بني إسرائيل)، و(المسيح إنسان لا إله) و(الإسلام في الكتب السماوية) و(اعرف عدوك اسرائيل) و(الاستشراق والتبشير وصلتهما بالإمبريالية العالمية) و(الغفران بين المسيحية والإسلام)
([8]) انظر تفاصيل الاستدلال بهذه النبوة في رسالة (أنبياء يبشرون بمحمد) من هذه السلسلة.
([9]) انظر: محمد في التوراة، ص 10 – 11، بتصرف.
([10]) محمد في التوراة، ص 11.
([11]) ذكرنا في مناسبات كثيرة أن هذا ليس شرطا في قراءة القرآن، ومن اشترطه فقد بعد كثيرا عن الصواب، ذلك أن الاغتسال يتطلب نية بالصفة الشرعية، والنية المرادة هي التقرب إلى الله، وذلك لا يكون إلا بالإسلام.
وقد فصلنا المسألة بتفاصيلها في السلاسل الفقهية خاصة (الأبعاد الشرعية لتربية الأولاد)
([12]) لا نرى من النصح للإسلام أن يتحدث المسلم في الأرض التي فيها غير مسلمين عن مثل هذه المواضيع، فذلك يشوه صورة الإسلام من جهة، ويعرض المسلمين الذين قد يشكلون أقلية للأذى من جهة أخرى.
وقد نصح صلى الله عليه وآله وسلم معاذا عن مواضيع الدعوة وتدرجها.. وذلك هو الأسلوب النبوي الأمثل، انظر في هذا رسالة (النبي الهادي) من هذه السلسلة.
([13]) هو الدكتور جاري ميلر (عبد الأحد عمر) عالمٌ في الرياضيات واللاهوت المسيحيِّ ومُبشِّرٌ سابق، وقد كان الدكتور ميلر في إحدى فترات حياته نشطاً في التبشير المسيحيّ، ولكنَّه بدأ مبكِّراً باكتشاف تناقضاتٍ كثيرةٍ في الإنجيل.
وفي سنة 1978، حصل أن قرأ القرآن الكريم مُتوقِّعاً بأنَّه أيضاً سيحوي خليطاً من الحقيقة والزَّيْف. لكنَّه ذهل باكتشافه أنَّ رسالة القرآن الكريم كانت مُطابقةً لنفس جوهر الحقيقة الَّتي استخلصها من الإنجيل. فدخل الإسلام، ومنذئذ أصبح نشطاً بتقديمه للناس، بما في ذلك استخدام المذياع والبرامج التلفازيَّة. وهو أيضاً مؤلِّفٌ للعديد من المقالات والنشرات الإسلاميَّة، نذكر منها:( ردٌّ موجَزٌ على المسيحيَّة – وجهة نظر المسلم”،و”القرآن العظيم”،و”خواطر حول (براهين) أُلوهيَّة المسيح”،و”أُسُسُ عقيدة المسلم”،و”الفرق بين الإنجيل والقرآن”،و”المسيحيَّة التبشيريَّة – تحليلٌ لمسلم”.
([14]) انظر التفاصيل العلمية المرتبطة بهذه الآية في (معجزات علمية) من هذه السلسلة.
([15]) انظر المزيد من النبوءات الغيبية وتفاصيلها في رسالة (معجزات حسية) من هذه السلسلة.
([16]) انظر التفاصيل العلمية المرتبطة بهذا، وبأقوال هذا الدكتور في رسالة (معجزات علمية) من هذه السلسلة.
([17]) انظر: مجلة الفيصل في عددها الصادر في أكتوبر 1992.
([18]) انظر: مجلة الفيصل في عددها الصادر في أكتوبر 1992.
([19]) انظر: كتاب (علو الهمة) للشيخ محمد بن إسماعيل ص (239-254) بتصرف.
([20]) انظر: صحيفة (المسلمون) ـ الصادرة في 4 / 10 / 1991 (بتصرف)
([21]) انظر بعض الشهادات المرتبطة بهذا في الرسالة السابقة.
([22]) انظر فصل (الأدب) من رسالة (الكلمات المقدسة) من هذه السلسلة.
([23]) لقد ذكرنا أنه ليس ضروريا تغيير المنتمي للإسلام اسمه، فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يغير أسماء الكثير من الصحابة، والذين غير أسماءهم لم يغيرها إلا بإذنهم، بل هناك من الصحابة من لم يرض بتغيير اسمه.. فلا ينبغي على المسلمين التشدد في هذا، لأنه قد يكون حجابا من الحجب عن الإسلام.
([24]) وهذا أيضا ليس شرطا.. بل إنه يحرم إذا أدى ذلك إلى ضرر في بدنه.
([25]) انظر: المجلة الخيرية، العدد: 74، محرم 1417 هـ.
([26]) لقد ذكرنا أنه لا ينبغي التشدد مع من أسلم في هذه الأمور، حتى لا تكون سببا في حجاب الناس عن الإسلام.
([27]) انظر: ربحت محمداً ولم أخسر المسيح، د.عبدالمعطي الدالاتي.
([28]) ذكرنا في المباحث الفقهية المرتبطة بهذا أنه لا ينبغي التشدد مع غير المسلمين في مثل هذا إلا إذا رأينا ذلك في مصلحة الدعوة الإسلامية كتعريفهم بحرص الإسلام على الطهارة.
([29]) انظر: (محمد في الكتاب المقدس) عبد الأحد داود ص (162) – (عظماء ومفكرون يعتنقون الإسلام) محمد طماشي.
([30]) عن ( الإسلام) الدكتور أحمد شلبي ص (288)
([31]) انظر: مجلة المجتمع العدد 1644.