رابعا ـ حصن التواصل

رابعا ـ حصن التواصل

دخلنا الحصن الرابع، فرأينا على بابه صورا لنوافذ كثيرة ترسم حروف قوله تعالى:{ وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}(النحل:78)

قلت للمعلم: ما هذا الحصن؟ وما علاقة الآية به؟

قال: هذا حصن التواصل.. فالله تعالى جعل في جسم الإنسان وروحه ما يمكنه من التواصل مع العالم الذي يعيش فيه.. والآية الكريمة تمن على الخلق بهذه النعمة.. نعمة التواصل.

قلت: بين لي سر كون التواصل نعمة.. فلا يدرك الشكر إلا بإدراك النعمة.

قال: لا قيمة للوجود بلا تواصل..

قلت: كيف ذلك؟

قال: أرأيت لو عزلت عن هذا العالم عزلا تاما.. فلا ترى ما فيه ولا تسمع، بل ولا تلمس ولا تشم، ولا تدرك ما فيه من حقائق وجمال.. فهل يكون لوجودك أي معنى؟

قلت: لا.. إني في تلك الحالة أشبه بالجماد.

قال: ولذلك كان التواصل وأدوات التواصل من النعم الكبرى التي تمد حياتك بالحياة، ووجودك بالوجود.

قلت: أدركت هذا، وفقهته.. لكن ما علاقة هذا بالصحة، وبحصون الصحة.

 قال: لقد أمدنا الله بوسائل الإدراك لنرتقي بها في سلم الوصول إليه.. ولنؤدي بها الوظائف التي كلفنا بها.. وكل ذلك يستدعي حفظها.. فبحفظها يحفظنا الله.

قلت: أحفظنا لأدوات التواصل التي أمدها الله لنا هو سبب حفظنا؟

قال: أجل.. ألم تسمع قوله صلى الله عليه وآله وسلم:(من يضمن لي ما بين لحييه وما بين رجليه أضمن له الجنة)([1]).. فقد ضمن صلى الله عليه وآله وسلم الجنة لمن ضمن حفظ جوارحه وأدوات تواصله.

قلت: هذا في الآخرة.

قال: ومثل ذلك الدنيا.. فلا تحفظ الدنيا، ولا يستثمر ما فيها من الخير إلا بحفظ أدوات التواصل وتوجيهها الوجهة الصحيحة.

قلت: كيف ذلك؟

قال: سأضرب لك مثالا بسيطا.. ألستم تعتقدون بأن المدارس والجامعات هي المزرعة التي تنبت فيها الأجيال التي تكمل مسيرة الأمة وتحفظ وجودها.

قلت: أجل.. ذلك صحيح.. ولو أني ـ على حسب ما أرى من الواقع ـ هناك تقصير كبير في هذ المجال.

قال: ما سببه؟

قلت: أسبابه سلوكية في أكثر الأحيان.. فجامعاتنا لا تنقصها الأجهزة والوسائل.. ولكن ينقصها الطلبة المهيئون للتعامل مع تلك الأجهزة والوسائل؟

قال: وما سبب عدم تهيئتهم؟

قلت: انصراف نفوسهم عن التوجه الصادق للعلم.. وانشغالهم بما تتطلبه نفوسهم من أسباب اللهو.

قال: هم يطلبون التواصل الخاطئ إذن.

قلت: ألهذا الأمر علاقة بالتواصل؟

قال: أجل.. وهو من الاستعمال الخاطئ لأدوات التواصل التي خلقها الله لنا للتعرف على حقائق العالم.. ألم يقل الله تعالى:{ قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ }(يونس:101) لقد أمر الله تعالى في هذه الآية المؤمنين بالنظر في السموات والأرض.. فإلام ينظر شبابكم؟

قلت: إلى صنوف المعارض التي تزخر بها جامعاتنا ومدننا.

قال: تلك المعارض هي التي حجبتهم عن الله، وعن علوم أهل الله.. والتوجيه الخاطئ لأبصارهم هو السبب في كل ذلك.

قلت: ما البصر إلا نافذة واحدة من نوافذ التواصل؟

قال: والأعداء لا يهمهم أن يخترقوا أسوارك من باب أو نافذة.

***

 رأيت ستة نوافذ تطل على عوالم كثيرة، سألت المعلم عنها، فقال: هذه نوافذ التواصل.. كل نافذة تطل على من عوالم الله.

قلت: ولكني أعلم أن النوافذ خمسة.

قال: هي هنا ستة.. وسنطل عليها لترى ما تتطلبه هذه النوافذ من السلوك المرتبط بالصحة.

النظر

اقتربنا من النافذة الأولى من نوافذ الاتصال، وقد اتخذت صورة عين حوراء جميلة، قلت للمعلم: أهذه عين من عيون الحور العين؟

قال: لا.. هذه العين تشير إلى نافذة البصر، ومنها نطل على جمال الأشياء التي تراها العين.

قلت: لتسر العين.

قال: ولتبعث برسائل السرور إلى القلب، ومنه إلى الجسد، فيملتئ بالجمال.

قلت: فيصح بالجمال.

قال: وتكون له من القوة ما يواجه به كل علة.

قلت: فمن أين نستمد هذا النوع من العلاج؟

قال: من كتاب الله الناطق الذي دلنا على نواحي الجمال في كتابه الصامت، ألم تقرأ ما ورد في القرآن الكريم من الحث على النظر، والإشارة إلى نواحي الجمال التي تمتلئ بها لأشياء؟

قلت: بلى، فقد قال تعالى يصف السماء، ويحث على النظر إليها، والامتلاء بجمالها:{ أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ}(قّ:6)، وقال تعالى:{ وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ}(الحجر:16)، وقال تعالى:{ تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً وَقَمَراً مُنِيراً}(الفرقان:61)  

قال: وقال يصف الأرض وما احتوته من زينة:{ وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ}(قّ:7)، وقال تعالى:{ أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ}(النمل:60)

قلت: وقد وصف الحيوانات وما احتوت عليه من الجمال، موجها النظر إليها، قال تعالى:{ وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ}(النحل:6)

قال: وقد وصف الإنسان وما زينه الله به من أنواع الزينة، فقال تعالى:{ اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَاراً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ}(غافر:64)، وقال تعالى:{ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ}(التغابن:3)

قلت: إن مظاهر الجمال في القرآن الكريم عامة شاملة لا يمكن حصرها، فالله تعالى ذكر تزيينه وإتقانه لكل شيء، قال تعالى:{ وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ}(النمل:88)، وقال تعالى:{ الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ } (السجدة:7)).

قال: لأن ما في الكون أثر من آثار البديع، ونفحة من نفحات المصور.

***

 بينما نحن كذلك إذ ربت على كتفي رجل شدني إليه لباسه، فقد حوى كل الألوان، ومع ذلك بدت فيه متناسقة لا تنافر بينها ولا خصام.

قلت: لا شك أنك معلم الألوان.

قال: ومن أين عرفت ذلك؟

قال: سلام الألوان معك وتناسقها دليل على أنك معلمها.

قال: أنا معلمها وطبيبها، أنا طبيب لا أعالج إلا بالألوان.

قلت: أتسقي مرضاك ألوانا.. فكيف ينزل إلى معدهم، وكيف تمتصه دماؤهم؟

قال: أسقي عيونهم، فإذا تشربت ألواني سرت أطيافها إلى قواهم لتملأها بالنشاط، فتقضي على العلة، وتمسح آثارها.

قال: ولكن هل في طاقة الألوان أن تعالج، وما هي إلا موجات تختلف طولا وقصرا.

فقال: لولا القدرات العجيبة التي أو دعها الله فيها ما ذكر خبرها في القرآن الكريم، فليس في القرآن الكريم إلا مجامع الحقائق؟

قلت: فماذا ورد؟

قال: ألم يقل الحق تعالى في خطابه لبني إسرائيل:{ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ} (البقرة:69)؟

ألم ينبه القرآن الكريم إلى اختلاف الألوان، فقال تعالى عما ذرأ في الأرض:{ وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ}(النحل:13)

وقال عن ألوان الشراب:{ ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}(النحل:69)

وقال عن ألوان الثمار:{ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَاماً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ}(الزمر:21)

وقال عن ألوان الجبال:{  أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ}(فاطر:27)

وقال عن ألوان الناس والدواب والأنعام:{ وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ}(فاطر:28)

وفي القرآن الكريم نجد لونا خاصا لقي عناية خاصة، هو  اللون الأخضر، فالله تعالى يصف أهل الجنة وهم على فرشهم في جو رفيع من البهجة والمتعة بقوله تعالى:{  مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ} (الرحمن:76)، ويصف ألوان ثيابهم بقوله تعالى:{عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً} (الانسان:21)

قلت: صحيح.. لقد أخبر الله تعالى عن كل هذا.

قال: لقد أشار القرآن الكريم به إلى صيدلية من صيدليات التداوي.

قلت: فلنفرض أن الله تعالى ذكر هذا لنستعمله دواء، فكيف نستعمله؟

قال: لقد ترك الله الكيفيات لكم، فأنتم أعلم بامور دنياكم.

قلت: بلى.. ولكن البحث في مثل هذا صعب.. صعب جدا.

قال: ولكنه يسير على من يسره الله له.

قلت: ولكن قومي لن يقبلوه.

قال: بل قبلوه، وهم يبحثون عن أسراره.

قلت: قبلوه!

قال: أجل.. فقد أثبت العلم الحديث([2]) أهمية اللون في التدخل في صحة الإنسان، وقد قال أحد علماء النفس وهو أردتشام:(إن تأثير اللون في الإنسان بعيد الغور، وقد أجريت تجارب متعددة بينت أن اللون يؤثر في إقدامنا وإحجامنا، ويشعر بالحرارة أو البرودة، وبالسرور أو الكآبة، بل يؤثر في شخصية الرجل وفي نظرته إلى الحياة) 

ويسبب تأثير اللون في أعماق النفس الإنسانية فقد أصبحت المستشفيات تستدعي الاخصاصيين لاقتراح لون الجدران الذي يساعد أكثر في شفاء المرضى، وكذلك الملابس ذات الألوان المناسبة.

وقد بينت التجارب أن اللون الأصفر يبعث النشاط في الجهاز العصبي، أما اللون الأرجواني فيدعو إلى الاستقرار، واللون الأزرق يشعر الإنسان بالبرودة، عكس الأحمر الذي يشعره بالدفء، ووصل العلماء إلى أن اللون الذي يبعث السرور والبهجة وحب الحياة هو  اللون الأخضر، لذلك أصبح اللون المفضل في غرف العمليات الجراحية لثياب الجراحين والممرضات.

قلت: لقد ذكرتني بجسر (بلاك فرايار)

قال: ما به؟

قلت: هو  موجود بلندن.

قال: وما يفيدني وجوده بلندن أو بالمريخ؟

قلت: لقد كان يعرف بجسر الانتحار، لأن أغلب حوادث الانتحار تتم من فوقه، وقد كان لونه أغبر قاتما، فلما حول لونه إلى اللون الأخضر الجميل انخفضت حوادث الانتحار بشكل ملحوظ.

قال: هذا صحيح، فاللون الأخضر يريح البصر، وذلك لأن الساحة البصرية له أصغر من الساحات البصرية لباقي الألوان، كما أن طول موجته وسطي، فليست بالطويلة كاللون الأحمر، وليست بالقصيرة كالأزرق.

بينما نحن كذلك إذ جاء شيخ هرم، يلبس لباسا أميل إلى الصفرة، فقلت لمعلم الألوان: من هذا؟ أهوشيخك أم صاحبك؟

قال: هو  تلميذ من تلاميذي، ولكن له آراؤه الخاصة التي قد لا أشاركه فيها جميعا، ومع ذلك فهو لا يكف عن صحبتي، وتعجبني جرأته في الكلام في الحقائق.

قلت: فمن هو؟

قال: هو  ينتمي إلى ما يسميه قومك بالطب البديل.

قلت: إنهم يبالغون في أشياء كثيرة.

قال: ذاك عيبكم، تنعتون بالمبالغة ما لا تفهمونه، أو ما تعجزون عن فهمه.

قلت: فمم ينطلق أصحاب هذا العلم في العلاج بالألوان([3]

قال: هو  ذا الشيخ يجيبك.

قال الشيخ: لقد مزج الله تعالى بنية الانسان بعناصر وتموجات كهربائية وإشعاعات ذاتية، بحيت تتجانس كلية مع العناصر الموجودة في الكون المحيط به من موجات كهرومغناطيسية وإشعاعات كونية وذبذبات لونية، وكلاهما مكون من درجات مختلفة من الذبذبات الموجية،  مما يؤهل الإنسان الى الحياة بواسطة هذه الطاقات الكهربائية والإشعاعية.

قلت: قد لا يخالفك في هذا الكلام أحد، فالإشعاعات والتموجات يمتلئ بها الكون، بما فيه الإنسان.

قال: لكن الجديد الذي لم تهتموا به، أو لم تعرفوه، هو  أن لكل شخص إشعاعات تختلف في طول موجتها وعدد ذبذبتها وتردداتها عن غيره، وبذلك يكون كل شخص مستقلا عن غيره في الصفات والطبائع، وبذلك يكون لكل شخص لون خاص يتميز به، أو طول موجة وذبذبة ترددية خاصة به مثلما هو  الأمر بالنسبة لبصمات الأصابع.

قلت: وهذا أيضا ليس غريبا، فتميز أفراد الإنسان ليس بالبصمات وحدها، بل كل فرد يتميز عن غيره تميزا تاما، وهو من دلالات عظمة الخالق، فالخالق لا يكرر، بل يبدع.

قال: وانطلاقا من ذلك، فإن كل إنسان تنبعث منه إشعاعات خاصة به، ويستقبل إشعاعات من الكون من الإشعاعات والذبذبات اللونية التى تحيط به في البيئة التي يعيشها، وكذلك تسبب الإشعاعات الموجية والذبذبات الصحة والمرض – بإذن الله – والحب والكراهية، وبذلك لو كانت الموجات المرسلة والمستقبلة بين شخص وآخر متقاربة نتج عن ذلك تفاهم ومحبة قوية، وكلما تنافرت كلما نتج عنها خلاف وكراهية.

قلت: هذا تفسير جميل لسر المودة والبغض، وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم:(الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف وماتناكر منها اختلف)([4])

قال: وانطلاقا من هذا أخذت مع زملائي من علماء الألوان ـ مستعينين بمعلم الألوان ـ في إجراء الدراسات على تأثير الألوان على حالتنا النفسية والصحية، وطريقة تفكيرنا.

قلت: هذا مبحث مهم، ولكن كيف تعرفون ما يناسب كل شخص من الألوان؟

قال: ذلك سهل، فالشخص الذي يفضل لونا معينا ـ مثلا ـ على لون آخر يكون له علاقة بتأثير ذلك اللون على إحساس ذلك الشخص.

قلت: ولكن.. كيف يؤثر هذا اللون على الصحة؟

قال: عندما يدخل اللون ـ الذي هو  عبارة عن ضوء أو طاقة مشعة مرئية ذات طول موجي معين ـ إلى المستقبلات الضوئية في العين تنبه الغدة النخامية والصنوبرية، وهذا يؤدي الى إفراز هرمونات معينة، تقوم بإحداث مجموعة من العمليات الفيسولوجية.

قلت: هذا تفسير جميل.. وهو سهل الهضم والقبول.

قال: وهذا التفسير يشرح سبب سيطرة الألوان على أفكارنا ومزاجنا وسلوكياتنا.

قلت: كل هذا جميل، ولكنه يكاد يكون متفقا عليه، فما الجديد الذي أضفتموه لتصبح الألوان علاجا؟

قال: لقد استقرأنا تأثيرات الألوان على الصحة، وانطلاقا من ذلك قسمناها إلى ألوان موجبة وألوان سالبة([5]).

الألوان الموجبة:

قلت: فما الألوان الموجبة؟

قال:هي الألوان التي تمتاز بتفاعلاتها الحمضية حيث تكون إشعاعاتها منشطة ومثيرة، وهي اللون الأحمر، والبرتقالي والأصفر وتحت الأحمر، والأسود.

قلت: فما تأثيراتها الصحية؟

قال: أما اللون الأحمر فنعالج به فقر الدم (الانيميا) والضعف العام، والكساح، وهو يساعد على التئام الجروح، ويشفي الإكزيما والحروق وبعض الحميات الحادة مثل الحمرة والحمى القرمزية والحصبة، وهو يقوي مناعة الجسم للأمراض، ويزيد معدل ضربات القلب والنشاط الموحي للمخ ومعدل التنفس.

وهو لون العواطف والطاقة وهو يساعد على الشفاء التهاب المثانة البولية والمشاكل الجلدية.

ولهذا، فإن على الذين يعانون من عيوب في الحركات التناسقية ألا يجلسوا في الغرف ذات الديكور الأحمر، ويرتدوا اللون الاحمر، ومثلهم الذين يعانون من ارتفاع ضغط الدم، وعلى عكسهم من يعانون من انخفاض ضغط الدم.

قلت: الله.. أللون الأحمر كل هذه التأثيرات؟

قال: أجل، فقد ثبت لدينا كل ذلك.. وكل لون من الألوان له تأثيراته الخاصة.

قلت: فالبرتقالي؟

قال: هو مقو للقلب، ومنشط عام ومضاد للإحساس بالهبوط والفتور والاكتئاب والنعاس والاضطهاد واليأس وكافة المشاعر السيئة، ويساعد على الشفاء من أمراض القلب والاضطرابات العصبية والتهابات العينين مثل القرنية.

وهو من أحسن الألوان، وذلك لفتحة للشهية، وخاصة لرفع معدل الشهية عند المرضى، ولذلك يوضع مفارش برتقالية على الطاولة، وعند الشعور بالتعب أو الارهاق حاول ارتداء البرتقالي فذلك من شأنه أن يرفع من مستوى طاقتك.

قلت: فالأصفر؟

قال: هو  من أشد الألوان ايقاعاً في الذاكرة، فكلما أردت أن تتذكر شيئاً اكتبه على ورقة صفراء، ولكنه يرفع ضغط الدم، ويزيد معدل نبضات القلب، ولكن بصورة أقل من الأحمر، ولكنه لون مثير للطاقة، ويساعد على التخلص من الاكتئاب وأمراض الجهاز التنفسي كالبرد والحلق والسعال، وهو يؤثر على البنكرياس والكبد والطحال حيث يساعد على إعادة بناء الانسجة فيها، ولكن يحظر استعماله للحوامل لأنه يؤثر على عمل الكليتين.

قلت: فاللون تحت الأحمر؟

قال: هذا اللون لا يستعمل بتاتاً في حالات الاحتقان، ولكنه يساعد في بناء كريات الدم الحمراء، ويستعمل كمهدئ لآلام التهاب الأعصاب، ويشفي ـ بإذن الله ـ أمراض فقر الدم والسل.

قلت: فالأسود؟

قال: هذا اللون غير موجود في ألوان الطيف، وهو ضد اللون الأبيض، وينطلق من المواد المخدرة والسامة، ويسمى بلون القوة، ويعطي إحساسا بالقوة والثقة بالنفس، ولكنه محبط للشهية، فإذا أردت إنقاص وزنك فافرش طاولة طعامك بغطاء أسود.

الألوان السالبة:

قلت: فما الألوان السالبة؟

قال: هي الألوان التي تمتاز بتفاعلاتها القلوية، حيث تكون إشعاعاتها باردة ومهدئة، وهي الأزرق، والنيلي، والبنفسجي، والوردي، واللون فوق البنفسجي، واللون الأبيض، والأخضر، وفوق الأخضر.

قلت: فما اكتشفتم من تأثيرات اللون الأزرق؟

قال: هو  لون مهم، فهو مجدد لنشاط الجهاز العصبي بالجسم ومهدئ للأشخاص المفرطين في العصبية والمصابين بارتفاع ضغط الدم والأمراض الروماتزمية وتصلب الشرايين، ويؤدي الى الاسترخاء، ويخفض من عدد مرات التنفس.

وقد أجريت تجربة على هذا اللون، فعندما أتوا بأطفال عدوانيين، ووضعوهم في فصل دراسي أزرق، لاحظوا هدوءا نسبيا وانخفاضا في العدوانية.

وقد لاحظوا أن اللون الأزرق يلطف الجو، ويبرده للناس الذين يعيشون في الأجواء الحارة الرطبة، وهو يساعد على تخفيف آلام القرح والظهر والروماتيزم والاضطرابات الالتهابية.

قلت: فالنيلي؟

قال: هو يشابه اللون الأزرق في التأثير، وهذا اللون منشط للذاكرة والتفكير، ويشفي ـ بإذن الله ـ الاضطرابات المعوية، ويؤثر على الجهاز التنفسي والشرايين، ويشفي كافة اضطرابات التنفس.

قلت: فالبنفسجي؟

قال: هو  مهدئ بوجه عام، وخاصة في الأمراض العصبية والنفسية، ولكن يجب استخدام جرعات صغيرة منه، فهذا اللون يؤثر على الأذن اليمنى والأسنان والعظام والمثانة والطحال.

وهو يعالج الأمراض المعدية وتحلل الخلايا والأنسجة، ويزيد من استفادة الجسم بالغذاء، وهو يوفر جوا يبعث على الإحساس بالسلم والأمان، ولكنه محبط للشهية، وهو جيد لأمراض فروة الرأس ومشاكل الكلى وأنواع الصداع النصفي.

قلت: فالوردي؟

قال: له تأثير ملطف على الجسم، حيث يقوم بإرخاء العضلات، وقد وجد أنه مهدئ للعدوانيين والذين يميلون للعنف، ولهذا عادة ما يستخدم في السجون والمستشفيات ومراكز الأبحاث ومراكز علاج الإدمان.

واللون الوردي ـ زيادة على هذا ـ لون مناسب لغرف النوم، حيث أنه يصنع جواً رومانسيا جميلا.

قلت: فاللون فوق البنفسجي؟

قال: له تأثير سالب، فهو مضر في حالة الإصابة بأمراض القلب والرئتين، ويسبب الإنفصال الشبكي بالعين، ولا يستعمل في علاج السرطان.

وهو مع ذلك يشفي ـ بإذن الله ـ من الكساح، وهو مطهر وقاتل لبعض الجراثيم.

قلت: فالأبيض؟

قال: هو يشمل كافة ألوان الطيف الضوئي، ويستخدم لعلاج مرض الصفراء وخاصة للمصابين بها من الأطفال حديثي الولادة، حيث يسلط الضوء الأبيض الشديد عليهم فوق منطقة الكبد، فيتم الشفاء بإذن الله.

وينصح الأطباء مرضى الدرن الرئوي بالتريض في ضوء الشمس القوي وارتداء الثياب البيضاء.

قلت: فالأخضر؟

قال: يستعمل لتهدئة الالآم في حالة الإصابة بالسرطان، وهو يؤثر على اللسان والمخ والصفراء ويريح الإضطرابات العصبية والإنهاك ومشاكل القلب.

ولهذا عندما تكون ـ لاسمح الله ـ مريضاً حاول أن تجلس بجانب الهضاب أو منطقة خضراء، وركز تفكيرك على الجزء المصاب الذي تتمنى شفاءه.

قلت: فاللون فوق الأخضر؟

قال: هو قاتل للجراثيم ويلحم الانسجة الحية والجروح، وهذا الإشعاع أقوى من كافة الألوان الأخرى، وهو موجود في كافة المضادات الحيوية.

***

بعد أن أنهى الرجل كل ما لديه، تدخل المعلم، فقال: أهذا ما اكتشفتموه؟

قال الشيخ: وهل هناك أشياء في طي الغيب لم تكشف؟

قال: إن كل شيء لم يكشف.. أنتم تجلسون أمام محيط عميق، وتحملون ملعقة صغيرة، تغترفون بها من المحيط، وتنشغلون بها عن المحيط.

قال الشيخ: فعلمني علم الألوان.

قال: أنا معلم السلام، لا معلم الألوان.

ثم صاح بصوت هو  أقرب إلى الهمس منه إلى الإعلان: يا أيها الذين لا يزال في قلوبهم رحمة.. ولا يزال في أجسادهم روح الإنسان: حافظوا على ألوان الكون قبل أن يدمرها جشع الإنسان..وحرص الإنسان..وصراع الإنسان.

السمع

اقتربنا من النافذة الثانية من نوافذ الاتصال، فسمعت ألحانا عذبة مادت لها كل خلاياي، قلت للمعلم: ما هذه الأصوات الجميلة التي تترنح لها الكائنات، أهي بقايا من مزامير آل داود؟

قال: هذه أصوات عذبة مزجت من ألسنة الكائنات، واستخدمت في هذا المستشقى ليعالج بها المرضى، وتحفظ بها صحة الأصحاء.

قلت: أيعالجون الآذان؟

قال: بل يعالجون الإنسان.. أليست الأذن منفذا من منافذ الإنسان التي يتطلع بها إلى العالم.

قلت: أجل..

قال: فهي منفذ من منافذ الصحة.

قلت: ألمجرد كونها منفذا من منافذ الإنسان تصير منفذا من منافذ الصحة؟

قال: أجل.. هي منفذ للصحة، ومنفذ للمرض.

قلت: لم أفهم ـ يا معلم ـ  ما تقصد.

قال: إن الحكماء من الأطباء لا يتركون وسيلة ينتفع بها المريض إلا وعالجوه بها، وهم ينطلقون من المنافذ التي تجعلهم يصلون إلى باطن الإنسان.

قلت: ليعالجوا باطنه؟

قال: ليعالجوا باطنه وظاهره.. فالإنسان واحد لا مركب، وكل لا أجزاء.

قلت: أهناك علم العلاج بالأمواج الصوتية، يشبه علم العلاج بالألوان.

قال: العلاج بالأصوات مقدم على العلاج بالألوان، ولا يمكن العلاج بالألوان قبل العلاج بالأصوات.. ألم يرد في القرآن الكريم تقديم السمع على البصر؟

قلت: بلى، ففي كل القرآن الكريم نجد تقديم حاسة السمع علي حاسة الإبصار، وقد ثبت علميا سبقها في مراحل خلق الإنسان‏([6]).‏

قال: ليس ذلك فقط.. ولكن تأثيرات السماع تفوق بكثير تأثيرات البصر.. فمجال السمع واسع جداً([7]).

قلت: أجل، فبه يتعلم طلاب العلم أكثر من 90 بالمائة من علومهم، كما أن أكثر من 90 بالمائة من العلوم الإنسانية قد قامت عليه.. ولكن ما سر ذلك؟

قال: لأن البصر يتشت على المرئيات المختلفة، ولا يمكن ضبطه، ولا تركيزه إلا بعناء، بخلاف السمع، فإنه لا يسمع إلا شيئا واحدا، فلذلك هو  كالدواء المركز الذي لم يخلط بشيء.

قلت: ولكن الإنسان قد يسمع أشياء كثيرة في نفس الوقت؟

قال: ولكن تركيزه مع شيء واحد، وصوت واحد.

قلت: ألهذا ـ إذن ـ يرد السمع في القرآن الكريم بصيغة المفرد، بينما يرد البصر بصيغة الجمع([8]) في أكثر القرآن الكريم، كما قال تعالى: { خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}(البقرة:7)، وقال تعالى: { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ }(الأنعام:46)، وقال تعالى: { قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ }(يونس:31)

قال: هذا سر من أسرار ذلك.

قلت: هناك من يعلل ذلك بما تقول الفيزياء الحديثة من أن الأمواج الصوتية المسموعة معدودة لا تتجاوز عشرات الآلاف، بينما أمواج النور والألوان المرئية تزيد على الملايين.

قال: هذا يصب فيما ذكرنا، وهوجزء من أسرار ذلك.

قلت: فما دليل صحة الاستشفاء بالأصوات؟

قال: هو  حصول الشفاء بها.

قلت: أريد تحليلا علميا لذلك.

قال: ما القصد من الأدوية؟

قلت: حصول الشفاء.

قال: ومتى تقبل الأدوية؟

قلت: إذا أثبت العلم ـ بمخابره ـ جدواها.

قال: فلنفرض أن دواء معينا أثبتت المخابر جدواه، لكنه لم يناسب طبائع معينة، أيعد دواء نافعا أم ضارا؟

قلت: بل ضارا، ولهذا يستدرك واضعوا الأدوية، فيضعون المحاذير المرتبطة بأدويتهم.

قال: فالعبرة إذن بحصول الشفاء، لا بما تقول التحاليل.

قلت: إن شئت الحق، فإن المريض لا يهمه أي تحليل، ولذلك يتعلق بأي قشة.

قال: فليتعلق بهذا، فلعله يجده مستندا صالحا.. أليس التجريب أساسا من أسس العلاج؟

قلت: بلى.. ولكن كيف يتم العلاج بالسمع؟

قال: نحن الآن في حصون العافية، لا في أدوية السماء أو الأرض.

قلت: ولكن أدوية القوة يستعملها الأصحاء والمرضى، فهي بالنسبة لهم أنواع من أنواع العلاج.

قال: إن شئت ذلك، فهي نوعان: نوع يرجع إلى معاني الكلام الذي يستقبله السمع، ونوع يرجع إلى الألحان التي تخرج بها الكلمات، فتأثيرالكلام لا يعدو هذين السببين.

قلت: هذا صحيح، وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى في خطاب نساء النبي صلى الله عليه وآله وسلم ونساء الأمة تبع لهن: { يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً} (الأحزاب:32) فقد دعت الآية النساء إلى عدم الخضوع بالقول، وهو ترقيقه وتليينه، وهو بمثابة إعطاء لحن مؤثر له، ودعتهن كذلك إلى الكلام المعروف الذي يحمل المعاني الشرعية الطيبة.

قال: وقد ذكر القرآن الكريم تأثير كلا النوعين في النفوس المريضة، وهو لذلك من الأغذية والأدوية المؤثرة.

الكلام:

قلت: ما مدى تأثير الكلام المجرد في الصحة؟

قال: لإدراك ذلك لا بد أولا من إدراك مدى تأثير الكلام في توجيه الإنسان، وتغييره، وتحويله من صورة إلى صورة، ومن وجهة إلى وجهة.

قلت: لا شك في أن الكلام هو  المؤثر الأكبر في سلوك الإنسان، بل لولا الكلام ما كان إيمان ولا كفر، ولا طاعة ولا معصية.

قال: أينقلب الإنسان بالكلام شخصا آخر؟

قلت: بل لا ينقلب الإنسان شخصا آخر إلا بالكلام، ألم تسمع قوله تعالى وهو يحكي دعاء المؤمنين: { رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ}(آل عمران:193)، فقد أخبروا أن سماعهم هو  الذي ساقهم إلى الإيمان.

 وقد أخبر تعالى عن تأثير السماع في ترقيق القلوب، فقال: { وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ}(المائدة:83)

بل إن الله تعالى حصر الإجابة في المستمعين، فقال: { إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ}(الأنعام:36)

ولهذا كان من نعم الله الكبرى على عباده الصالحين أن يهديهم إلى السماع، كما أن من عقوباته الكبرى على الضالين أن لا يوفقهم إلى السماع المؤثر، كما قال تعالى: { أو لَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَونَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ}(الأعراف:100)، وقال تعالى: { وَلَوعَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأسْمَعَهُمْ وَلَوأَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ}(لأنفال:23)

قال: فإذا كان للكلام هذه القدرة التأثيرية على تغيير الإنسان تغييرا كليا، أفلا يستطيع أن يغير بعض ما يحصل بالإنسان من علل؟

قلت: ما تقصد بذلك؟

قال: من قدر على الكل لن يعجز على البعض.. والمرض بعض، فهو لا يصيب إلا أجزاء من الجسم لا تعدوها.

قلت: فكيف تعالج هذه الأجزاء؟.. أبجرعات كلامية؟

قال: إذا عجزت الجرعات الدوائية، فيمكن الاستعانة بالجرعات الكلامية، ألم تسمع قوله صلى الله عليه وآله وسلم:(إذا دخلتم على المريض فنفسوا له في الأجل، فإن ذلك لا يرد شيئا، وهويطيب بنفس المريض)([9])

قلت: أجل.. وقد كان صلى الله عليه وآله وسلم يسأل المريض عن شكواه، وكان يقولُ له: (لاَ بَأسَ طَهُورٌ إن شَاءَ الله)

قال: فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم يستعمل دواء بث الطمأنينة مع المرضى لعلاجهم، كما استعمل دواء البشارة مع الأصحاء لهدايتهم.

قلت: ولكني أخشى أن يعرض هذا الدواء الذي تصفه على المخابر، فيثبت عدم جدواه.

قال: وهل في قدرة المخابر أن تثبت ذلك؟

قلت: أجل.. سيأتون بعينة تتكون من مائة أو مائتين، أو ألف أو ألفين، ثم يحاولون تجريب هذا النوع من العلاج عليها، فإن ثبت جدواه أقر علاجا، وإن لم يثبت طرح في القمامات، واعتبر من الشعوذة.

قال: وما أدراهم أن العينة التي يختارونها تكون سليمة السمع.

قلت: لا.. هم يتأكدون قبل ذلك عند أطباء الآذان، وقد يزودون قاصري السمع بما يجعلهم يسمعون.

قال: ولكنهم مع ذلك قد يضعون أصابعهم في آذانهم لئلا يسمعوا.

قلت: لا يمكن ذلك، لأنه يمنع على العينة أن تفعل ذلك، وإلا استبعدت.

قال: ومع ذلك قد تظل تسمع، وهي لا تسمع.

قلت: وهل يمكن أن يسمع الإنسان شيئا ثم نقول: إنه لم يسمع؟

قال: أجل.. ألم يقل الله تعالى في وصف الكافر: { يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}(الجاثـية:8)، فهولم يسمع، لأنه لم يرد أن يسمع، ولأن كبره يحول بينه وبين السماع.

قلت: فالسماع المؤثر هو  سماع المستجيب؟

قال: أجل.. فقد أخبر أن سماع العاصي الجاحد المكابر لا ينفعه، كما قال تعالى: { مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ وَلَوأَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلاً}(النساء:46)

قلت: ولكن التجربة ستفشل بذلك.

قال: لماذا؟

قلت: لأن المرضى سيستجيبون جميعا للعلاج، وبالتالي تكون النسبة مائة بالمائة، وهي نسبة لا تختلف عن نسبة الانتخابات العربية.

قال: وما علاقة ما نحن فيه بالانتخابات العربية؟

قلت: يشكك في نسبها، فلذلك يشكك في كل ما اكتملت فيه النسبة، وسيشكك في هذا العلاج نفسه.

العلاج بالوهم:

صاح بي رجل، لست أدري من أين خرج، وقال: احذر.. احذر.. أبعده عن وجهك.. أبعده عن عينيك.

أسرعت بيدي كليهما إلى وجهي وعيني أمسح عنهما، وقد تملكني ذعر شديد، لكني لم أجد شيئا، فنظرت إليه شزرا، وقلت: أتلعب لعب الصبيان في حصون العافية.. كيف أذن لك حرسه الأشداء بالدخول؟

ضحك، وقال: أنا طبيب من أطباء هذا المستشفى، فكيف لا يؤذن لي؟

قلت: طبيب وتسخر بالخلق.

قال: لا.. أنا أسخر بالمرضى فقط.

قلت: المرضى يحتاجون إلى الرحمة، لا إلى السخرية.

قال: وقد تلبس الرحمة لباس السخرية، كما لبست لباس الشدة.

قلت: لا أعلم السخرية إلا نوعا من الهزل الثقيل.

قال: وقد تكون من الجد الجميل.

قلت: كيف ذلك؟

قال: إذا تحقق بها ما لم يتحقق بالجد.. لأن الغرض هو  تحصيل المقاصد، وهي قد تحصل بالجد، وقد تحصل بالهزل.

قلت: أنت منفعي براغماتي إذن.

قال: لا.. تلك منافع تنتج مضار، ومصالح تخبئ مفاسد، أما ما أعالج به فهو مصلحة محضة.. وهو أسلوب كان يستعمله أطباء المسلمون.. ألا تعلم قصة إبرازي طبيب الأمير منصور بن نوح السامي؟

قلت: لا أعرف الطبيب، ولا المريض.

قال: أراد إبرازي علاج الأمير منصور بن نوح السامي من مرض في مفاصل ساقيه أزمن حتى أقعده عن المشي، فجرب كل الأدوية بلا فائدة فعمد إلى حيلة، وهي أنه أجلس الأمير في وسط حمام نهر  جيحون،  وصب عليه ماء فاترا، وسقاه شرابا، وانتظر إلى أن يؤثر الشراب في المفاصل، وكان قد أغلق باب الحمام واستفرد بالأمير، وأخذ يشتمه، ويهدده بأنه سيزهق روحه، فغضب الأمير غاية الغضب، ونهض على ركبتيه، وهو في مكانه، فأخرج إبرازي سكينا، وأوسعه إهانة، فنهض الأمير غضباً أو فرقاً، وشفي من علته.

قلت: هذا علاج باستثارة الانفعالات النفسية إذن؟

قال: نعم.. إن إثارة  الغضب عند الأمير قوت حرارته الغريزية، وحللت الأخلاط التي في المفاصل كما ينص أطباء الإسلام([10])..

قلت: عرفت هذا.. فما اسم الدواء الذي تعالج به؟

قال: الوهم.. البـلاسيـبـوpalcebo.

قلت: تعالج بالوهم؟

قال: أجل، فهوعلاج ناجع.

قلت: ما الأساس الذي تنطلق منه في العلاج؟

قال: قدرة الإنسان على التوهم.. فالتوهم جند من جند الله أمتطيه لعلاج المرضى، والرأفة بالأصحاء.

قلت: وهل يمكن أن يستجيب الإنسان للوهم إلى هذه الدرجة؟

قال: سأضرب لك مثالا.. نزل أحد المصابين بالربو في فندق فخم.. وفي الليل فاجأته الأزمة، وشعر بحاجة للهواء المنعش، فاستيقظ مخنوقاً يبحث عن مفتاح الضوء، وحين لم يجده بدأ يتلمس طريقه للنافذة حتى شعر بملمس الزجاج البارد، ولكنه عجز عن فتح النافذة فكسر الزجاج، وأخذ يتنفس بعمق حتى خفت الأزمة.

وحين استيقظ في الصباح فوجئ بأن النافذة كانت سليمة تماماً، أما الزجاج الذي كسره، فكان خزانة الساعة الضخمة الموجودة في الغرفة!! ما حدث هنا أن الرجل وقع تحت تأثير البلاسيبو، أوالعلاج بالوهم.

قلت: وهل نسبة المستجيبين للوهم كثيرة؟

قال: أجل.. فالوهم يلعب دوراً لا يقل عن 30 بالمائة من أي علاج.. أي أنه لو أخذ تسعة أشخاص حبوب أسبيرين لمقاومة الصداع سيشفى ثلاثة منهم على الأقل قبل أن يبدأ مفعول الاسبرين الحقيقي!

وفي التجارب التي تجريها شركات الأدوية على العقاقير الجديدة يقسم المرضى إلى مجموعتين؛ الأولى تعطى العقار الحقيقي في حين تعطى المجموعة الثانية بدون علمها مواد غذائية تشبه العقار الجديد، وغالباً ما تكون حبوب سكر أو ملح.. وغالباً ما تنتهي التجربة بشفاء 30 بالمائة من المجموعة التي لم تعط غير الحبوب الوهمية، وهذا شيء متوقع.

أما المجموعة الثانية، فيعد العقارناجحاً إذا تجاوز نسبة التأثير الوهمي الـ30 بالمائة وفاشلاً إذا تساوى معها أو قل عنها!!

قلت: أعترف بهذا.. ولكن ذلك مجرد وهم.. أي أن الداء لا يزال ينخر في الجسد.

قال: وما يهم.. إن أكثر ما نستعمله من أدوية من المهدئات، فليكن هذا من المهدئات على الأقل، فهو خال من المضاعفات.

قلت:…. !؟

قال: ومع ذلك، فإن هناك فرضية جديدة تنص على أن هناك تأثيراً مادياً حقيقياً، وليس نفسيا فقط للبلاسيبو.

ففي تجارب وهمية كثيرة بدا، وكأن الجسم استجاب لدواء حقيقي مادي.. خذ مثلاً صديقنا الذي كسر الزجاج ؛ من المعتقد أنه تحسن بالفعل لأن رئتيه تصرفت، وكأن هناك أوكسجين حقيقي دخل الغرفة.

وفي التجارب التي يعطى فيها المرضى أدوية وهمية كحبوب السكر يستجيب الجسم، وكأنه يتلقى بالفعل العلاج الحقيقي!!

قلت: لكن أطباء قومي يرفضون مثل هذا.

قال: هم لا يرفضونه، ولكنهم يخشون أن يغلقوا عياداتهم إن انتشر مثل هذا العلاج.. ولكن الأطباء المخلصين ينظرون بتقدير أكبر لتأثير الوهم في العلاج.. بل إن هناك مدرسة طبية جديدة تنادي بإتاحة الفرصة للجسم ليعالج نفسه بنفسه من خلال تقنيات البلاسيبو..

وقادة هذا التيار على قناعة بأن الجسم يصل إلى حدود مدهشة إن أتيحت له فرصة كهذه؛ ففي مستشفى مونتريال مثلاً قام الأطباء بعمليات جراحية وهمية لمرضى الزهايمر لم يفعلوا خلالها غير فتح الجمجمة، ثم إعادة تلحيمها..

ومن المعروف أن هذا المرض ناجم عن تآكل حقيقي لبعض خلايا الدماغ، ولكن الأطباء أقنعوا المرضى أنهم سيزرعون في أدمغتهم خلايا بديلة.. وحين استيقظوا وشاهدوا آثار جراحة حقيقية شهد ثلثهم تحسناً فورياً!!

غير أن أهم مجال يتفوق فيه البلاسيبو هو تخفيف الألم بخداع الدماغ ذاته، فقد اتضح أن 50 بالمائة من المرضى يخف لديهم الألم إن أقنعتهم أن هذه الحبة أو تلك الحقنة هي فاليوم أو مورفين.

قلت: كيف تفسر هذا؟

قال: ما يحدث هنا هو  أن الدماغ ـ تحت تأثير الوهم ـ يقطع الاتصال مع نهايات الأعصاب، وكأنه واقع بالفعل تحت تأثير الفاليوم أو المورفين.

وليس ذلك فقط، بل إن إحدى الطبيبات كانت تشرف على علاج طفلة مصابة بأنيميا منجلية حادة، وهذا المرض يسبب آلاماً لا تطاق في العظام والمفاصل، وعند اللزوم يعطى الأطفال حقنة بيثيدين كمخدر لتسكين الآلام.. ومع الأيام تعلمت الطفلة أن هذه الحقنة تجلب لها الراحة، فأصبحت تطالب بها باستمرار.

ولكن خشية الإدمان أصبحت الطبيبة تعطيها حقنة ماء وملح على أنه بيثيدين، فأحدث ما تحدث الحقنة الحقيقية من تخفيف الألم فوراً ودخول الطفلة في نوم عميق..

قلت: ما شاء الله.. هذا علاج جيد يقي من مضاعفات الأدوية.. ولكن ماذا لوجربت هذه الطبيبة الصدق مع هذه المريضة، فأخبرتها بأن تلك الحقنة هي ماء وملح.

قال: حصل ذلك.. فقد أفشت إحدى الممرضات سر الحقنة الجديدة، فوصل الخبر للطفلة فتلاشى مفعولها.. ليس هذا وحسب، بل أصبحت على قناعة أنه حتى حقن البيثيدين مجرد خداع فلم تعد تؤثر فيها!

قلت: ما أقسى تلك الممرضة.

قال: جرها الحرص على الصدق على فعل ما فعلت.

قلت: ألم تسأل إذا لم تعلم، فإنما شفاء العي السؤال؟

قال: وعما تسأل؟

قلت: ألم يخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بجواز الكذب في كثير من الأمور إذا ارتبط بالمصلحة، فقد قال صلى الله عليه وآله وسلم:( ليس الكذاب بالذي يصلح بين الناس فينمي خيرا، ويقول خيرا)([11])، وقال صلى الله عليه وآله وسلم:( كل الكذب يكتب على ابن آدم، إلا ثلاثا: الرجل يكذب في الحرب، فإن الحرب خدعة، والرجل يكذب المرأة فيرضيها، والرجل يكذب بين الرجلين ليصلح بينهما)([12]

العلاج بالحقيقة:

قال لي المعلم: ومع ذلك، فإن العلاج بالحقيقة لا يقل عن العلاج بالوهم.

 قلت: كيف ذلك.. لقد عرفت ما للوهم من تأثيرات علاجية.

قال: وللحقيقة التي توضع في قالب جميل مؤثر، وينتهز لها الوقت المناسب هذه التأثيرات.

قلت: كيف ذلك؟

قال: تعرف ذلك بمعرفة سر تأثير الوهم.

قلت: فما سر تأثير الوهم؟

قال: الوهم لا يفعل بذاته.. بل هو  يؤثر في الإرادة، فالإرادة هي التي تفعل، لا الوهم.

قلت: كيف ذلك؟

قال: عندما يقتنع الإنسان بفعل شيء معين يفعله، وعندما يقتنع بضرره يتركه.

قلت: هذا صحيح.

قال: فبم يفعله؟ وبم يتركه؟

قلت: بالإرادة.

قال: فالوهم يحاول إقناع الإرادة بجدواه، فإذا اقتنعت أثرت هي في الأعضاء.

قلت: هذا صحيح.

قال: فلذلك قد نخاطب الإرادة بالحقيقة، ونقنعها بقدرتها على التأثير فيها، فيحدث بها ما حدث بالوهم.

قلت: كيف ذلك؟

قال: لو أقنعنا الطفلة مثلا بأن الدواء المكون من الماء والملح لا يختلف تأثيره عن البيثيدين، وبالتالي ستستعمله مقتنعة بتأثيره، ولا نكون قد كذبنا عليها.

قلت: لا.. نكون قد كذبنا عليها لأن الماء والملح يختلف عن البيثيدين.

قال: فلنقنعها ـ إذن ـ بأنها قد شفيت، ولم تعد بحاجة إلى أخذ هذا الدواء، وأن في أخذها له ضررا بصحتها.

قلت: لا شك أن هذا سيؤثر فيها.

قال: هو لا يؤثر فيها فقط، بل ينفعها، فالدواء بالحقيقة ضروري في أحيان كثيرة.

قلت: لم؟

قال: لأن المريض ـ كما سنرى ـ يحتاج إلى معرفة مرضه، وكيفية التعامل معه، فلا يجدي العلاج إلا بذلك.

الصوت:

قال لي المعلم: ذاك علاج بالكلام، وبمعاني الكلام، وهناك علاج بالأصوات.

قلت: وهل الصوت خلاف الكلام؟

قال: الكلام صوت من الأصوات، وليس كل الأصوات، فخرير المياه صوت، وتغريد العصفاير صوت، ونغمات العود صوت.

قلت: تقصد بالأصوات الألحان الجميلة؟

قال: أجل.. فهي غذاء ودواء.

قلت: ماذا تغذي، وماذا تداوي؟

قال: تغذي الروح والجسد، وتداويهما.

قلت: فهل يعتمد هذا المستشفى العلاج بهذه الوسيلة؟

قال: هو  يداوي بها المرضى، ويعالج بها الأصحاء لئلا يمرضوا.

قلت: أين؟

قال: هناك قاعة خاصة للأصوات، وهناك قاعة خاصة للبحث في الموجات الصوتية التي تتناسب مع الأحوال المختلفة.

قلت: تقصد أن هناك مركز أبحاث في هذا المستشفى يهتم بالعلاج بالموجات الصوتية؟

قال: أجل.. هو  يبحث في تأثيراتها المختلفة حتى يستخلص منها الجرعات المناسبة للأحوال المختلفة.

قلت: ولكن الناس يختلفون في تشرب النغمات المختلفة.

قال: هم يختلفون عندما تختلف طبائعهم، أما عندما توجه طبائعهم وتستقيم، فإنها لا تكاد تختلف.

قلت: فهل للعلاج بالأصوات الجميلة من أصول؟

قال: لقد ذكرت لك بأن الأذن منفذ من منافذ الروح، ومادامت كذلك فهي منفذ من منافذ الجسد، وهي بذلك منفذ من منافذ الصحة.

أمسك بيدي رجل، وقال: لا تشكك في هذا، فإن هذا عندنا معلوم بالضرورة.

قلت: كيف ذلك؟

قال: إن للأصوات الجميلة تأثيرات عجيبة في الأرواح.. فـ (من الأصوات ما يفرح، ومنها ما يحزن، ومنها ما ينوم، ومنها ما يضحك ويطرب، ومنها ما يستخرج من الأعضاء حركات على وزنها باليد والرجل والرأس)([13]

قلت: ذلك ليس غريبا، فباختلاف المعنى يختلف التأثير.

قال: لا أقصد ذلك.. بل أقصد الأصوات لا المعاني، ألم تسمع ما قيل من أن من لم يحركه الربيع وأزهاره، والعود وأوتاره، فهو فاسد المزاج ليس له علاج.

ثم كيف تقول هذا؟ ألا ترى الصبى في مهده كيف يسكنه الصوت الطيب عن بكائه، وتنصرف نفسه عما يبكيه إلى الإصغاء إليه؟

بل إن الجمل مع بلادة طبعه يتأثر بالحداء تأثرا يستخف معه الأحمال الثقيلة، ويستقصر لقوة نشاطه في سماعه المسافات الطويلة، وينبعث فيه من النشاط ما يسكره ويولهه، فتراها إذا طالت عليها البوادي واعتراها الإعياء والكلال تحت المحامل والأحمال إذا سمعت منادى الحداء تمد أعناقها، وتصغى إلى الحادي ناصية آذانها، وتسرع في سيرها حتى تتزعزع عليها أحمالها ومحاملها، وربما تتلف أنفسها من شدة السير وثقل الحمل، وهي لا تشعر به لنشاطها.

قلت: هذا عجيب، وهل ذلك ممكن؟

قال: أجل.. ألم تسمع ما حكى أبوبكر محمد بن داود الدينوري المعروف بالرقي، فقد قال: كنت بالبادية، فوافيت قبيلة من قبائل العرب، فأضافني رجل منهم، وأدخلني خباءه، فرأيت في الخباء عبدا أسود مقيدا بقيد، ورأيت جمالا قد ماتت بين يدي البيت، وقد بقى منها جمل، وهوناحل ذابل، كأنه ينزع روحه، فقال لي الغلام:(أنت ضيف، ولك حق فتشفع في إلى مولاي، فإنه مكرم لضيفه، فلا يرد شفاعتك في هذا القدر فعساه يحل القيد عني)

فلما أحضروا الطعام امتنعت وقلت:(لا آكل ما لم أشفع في هذا العبد)، فقال:(إن هذا العبد قد أفقرني وأهلك جميع مالي) فقلت:(ماذا فعل؟) فقال:(إن له صوتا طيبا، وإني كنت أعيش من ظهور هذه الجمال، فحملها أحمالا ثقالا، وكان يحدوبها حتى قطعت مسيرة ثلاثة أيام في ليلة واحدة من طيب نغمته، فلما حطت أحمالها ماتت كلها إلا هذا الجمل الواحد، ولكن أنت ضيفي فلكرامتك قد وهبته لك)

فأحببت أن أسمع صوته، فلما أصبحنا أمره أن يحدو على جمل يستقى الماء من بئر هناك، فلما رفع صوته هام ذلك الجمل وقطع حباله، ووقعت أنا على وجهي، فما أظن أني سمعت قط صوتا أطيب منه.

قلت: فمن لم يتأثر للصوت الجميل شاذ عن الطبيعة إذن؟

قال: أجل.. لأن تأثير السماع في القلب محسوس، ومن لم يحركه السماع فهو ناقص مائل عن الاعتدال بعيد عن الروحانية، زائد في غلظ الطبع وكثافته على الجمال والطيور، بل على جميع البهائم، فإن جميعها تتأثر بالنغمات الموزونة.. ولذلك كانت الطيور تقف على رأس داود u لاستماع صوته.

قلت: لقد ذكرتني بالمستشفيات الإسلامية، فقد كانت تزود بالموسيقى لراحة المرضى.

قال: نعم، فقد كان كثير من أطباء المسلمين يعالجون بالموسيقى، ومما يروى في ذلك([14]) أن الكندي ـ وقد كان من علماء الموسيقى، وله فيها تأليف مشهور بين فيها تأثيرات الألحان في النفس البشرية ثم في البدن ـ كان له جار تاجر كبير أصيب ابنه فجأة بالسكتة، أي فقدان النطق، وكان الابن هو  المتولي أمور تجارة والده ومعرفة خرجه ودخله، فأصاب الرجل هم كبير، ولم يدع طبيبا إلا لجأ إليه، فلم يستطع أحد له علاجاً، وكان التاجر كثير الازراء على الكندي والطعن عليه، لكنه أضطر إلى الالتجاء إليه.

فتوجه الكندي إلى داره، فلما رأى الولد، وجس نبضه أمر بإحضار بعض تلاميذه في الموسيقى ممن يحسن ضرب العود ويعزف الطرائق المحزنة والمفرحة والمقوية للقلوب والنفوس.. فأمرهم أن يديموا الضرب عند رأسه، وأن يأخذوا في طريقة وقفهم عليها، وأراهم مواقع النغم بها من أصابعهم على الدساتين ونقلها، فلم يزالوا يضربون في تلك الطريقة، والكندي آخذ مجس الغلام، وهوفي خلال ذلك يمتد نفسيه ويقوى نبضه، ويرجع إليه نفسه شيئاً بعد شيء، إلى أن تحرك ثم جلس وتكلم.

قلت: فهل يستعمل أهل هذا المستشفى الموسيقى وسيلة من وسائل العلاج؟

قال: لا.. لقد ابتكروا وسائل صوتية أكثر جمالا..

قلت: أكثر جمالا !؟

قال: أجل.. لأنها من الطبيعة الصرفة، ولا تدخل فيها الآلات التي تستعملونها، ولا أثر فيها للتكلف الذي تمقته الفطرة.

قلت: صدقت، فكثير من هذه الآلات تصيب الأذن بالطنين، والنفوس بالانزعاج، فلا تزيد العليل إلا داء، ولا تزيد الصحيح إلا ضجرا.

قال: ولهذا نعتمد في هذا القسم على القرآن الكريم، فنجعل من معانيه السامية شرابا، ومن الأصوات الجميلة التي يؤدى بها مسوغات.

قلت: فتمزجون بذلك بين العلاج بالكلام، والعلاج بالصوت.

قال: أجل.. ألم يأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بتزيين القرآن الكريم بالأصوات؟

قلت: بلى، فقد قال صلى الله عليه وآله وسلم:(زينوا القرآن بأصواتكم)([15])، وفى لفظ: (فإن الصوت الحسن يزيد القرآن حسناً)، وقال: (ليس منا من لم يتغن بالقرآن)([16])، وقال: (ما أذن الله لشيء، ما أذن لنبي حسن الصوت يتغنى بالقرآن، يجهر به)([17])

الشم

اقتربنا من النافذة الثالثة من نوافذ الاتصال، وقد كانت بشكل زهرة تفوح بجميع أنواع العطور، فاهتزت نفسي لعطورها، وانشرح صدري لأريجها، حتى خلتني أطير في فضاء تشكل الزهور كواكبه، والعطور نجومه.

قلت للمعلم: الله.. ما أعظم نعمة الله على عباده بالعطور.. لكأن الروح تتغذى بها.

قال: أجل.. ألم تسمع إليه صلى الله عليه وآله وسلم، وهويقول:(حبب إلي من دنياكم  النساء والطيب، وجعلت قرة عيني في الصلاة)([18]

قلت: ولهذا كان صلى الله عليه وآله وسلم يكثر التطيب، وتشتد عليه الرائحة الكريهة، وتشق عليه.

قال: ذلك لأن له شبها من الملائكة، فالملائكة تحب الرائحة الطيبة.

قلت: أعرف هذا، ولكني أتساءل عن جدوى الروائح الطيبة في العلاج والقوة.

قال: أليس الشم منفذا من منافذ الجسم؟

قلت: بلى، وهو منفذ من منافذ الروح أيضا.

قال: فما دام كذلك، فكيف لا يستفاد منه في بث القوة في الأعضاء لتستقيم الصحة، وتقهر العلة؟

قلت: هذا صحيح، ولكن..

قال: لقد دل على هذا القرآن الكريم، فلا تخف.

قلت: القرآن الكريم نص على هذا !؟

قال: أجل.. ألم تسمع قوله تعالى على لسان يوسف u: { اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ} (يوسف:93)، فقد كان لرائحة يوسف u تأثيرها في شفاء والده.

قلت: ولكن من علماء عصرنا من اكتشف علاجا للعين من أسرار هذه الآية، وهويرتبط بمادة موجودة بالعرق، لا بالشم.

قال: ما ذهب إليه صحيح، وهو فتح فتح الله به عليه.. ولكن أسرار القرآن الكريم لا نهاية لها.. ولوكان الأمر عائدا إلى نفس العرق دون تأثير الشم وغيره لما بعث له بقميصه، ولا كتفى بأي قميص آخر.

قلت: فهل هناك من يعالج بالعطور؟

قال: أجل.. في هذا المستشفى هيئة خاصة بذلك.. وهي تهتم بالعطور، وتأثيراتها النفسية والصحية، وتحاول البحث عن أحسن العطور وأكثرها مناسبة للصحة.

رأيت رجلا يحمل مجموعة من الأزهار يقلب طرفه فيها، ويجذب بأنفه أريجها، اقتربت منه، فقلت له: أأنت عطار هذا المستشفى؟

قال: لا.. أنا هاو للعطور.. أحبها كما لا أحب شيئا آخر..

قلت: فما سر تعلقك بها؟

قال: هو  السر الذي يجذب المريض إلى طبيبه.

قلت: أتقصد أنك تتداوى بها؟

قال: أتداوى بها.. وأتقوى بها، وقد دفعني هذا إلى التخصص في جمعها، والبحث عن تواريخها وتفاصيلها، ولذلك انتدبتني إدارة هذا المستشفى للعمل في تميز العطور وفوائدها الصحية.

قلت: أهي بدعة ابتدعها هذا المستشفى.. أم هي سنة قديمة؟

قال: بل هي سنة قديمة، ولا يمكن إلا أن تكون سنة قديمة، فكل ما تناسب مع الفطرة قديم قدم الفطرة.

قلت: هل تعرف الشعوب التي استعملت العلاج بالعطور؟

قال: كل الشعوب استعملته، فالزيوت العطرية كانت علاجا في الصين، وفي الحضارة المصرية منذ الآف السنين،كما كانت شائعة الاستعمال في معظم الحضارات القديمة، وعلى رأسها الحضارة الإسلامية.

قلت: كيف تستعمل العطور دواء؟

قال: بالإضافة إلى شمها، أو وضعها في البيوت، يجري استعمالها أثناء القيام بتدليك الجسم، وهنا تكون الافادة مزدوجة، فالزيوت العطرية تدخل الجسم عبر الفتحات الجلديه كما يتم استنشاقها في الوقت نفسه.

قلت: إن معاهد ومراكز التجميل الطبيعية تستعمل مثل هذه الزيوت العطرية على نطاق واسع في بشكل كريمات، أو مراهم أو سوائل.

قال: ليس في مراكز التجميل وحدها، بل إن استخدام الزيوت العطرية أو الطيارة في علاج الامراض نظام طبي قديم جدا يهدف الى المحافظة على صحة الإنسان.

قلت: فما هي استخداماتها العلاجية؟

قال: كثيرة.. فزيت القرنفل ـ مثلا ـ يزيل آلام الأسنان، وزيت النعناع يعالج عسر الهضم، وزيت اليوكاليبتوس استنشاقه يفيد في علاج البرد والرشح والزكام وآلام التنفس.

بالإضافة إلى هذا فإن الكثير من الزيوت العطرية تدخل في صناعة الادهنة المطهرة والقاتلة للجراثيم، والاستنشاقات، ومقويات الشعر ودهانات الأمراض الجلدية ومحمرات الجلد ولعلاج الام الروماتيزم..

قلت: هذا في استخداماتها كأدوية للجسد، فما استخداماتها لأدوية النفس؟

قال: هي أكثر، فالغضب نعالجه بزيوت البابونج والترنجان والورد واليلانج.. والبلادة نعالجها بزيوت الياسمين،والعرعر،والباتشولي،والحصلبان.. والاضطراب التشويشي وصعوبة اتخاذ القرارات نعالجه بزيوت الريحان والسعد ولبان الذكر والنعناع والباتشولي.. ودوام التفكير العميق المقلق في أحداث الماضي المؤلمة نعالجه بزيوت الجاوي ولبان الذكر.. والخوف وجنون الاضطهاد نعالجه بزيوت الريحان والقصعين والياسمين والعرعر.. والحزن نعالجه بزيوت الزوفا والبردقوش والورد.. وزيادة الحساسية النفسية نعالجها بزيوت البابونج والياسمين والترنجان.. والاكتئاب والوسوسة والوهم بالمرض نعالجه بزيوت الياسمين والترنجان.. ونفاذ الصبر والتوتر نعالجه بزيوت البابونج والكافور والسعد واللافندر والبردقوش ولبان الذكر.. والذعر والهستريا نعالجه بزيوت البابونج والقصعين والياسمين واللافندر والبردقوش و….

أمسك المعلم بيدي، وقال: هيا بنا، فلو ظللت اليوم جميعا معه، فلن ينتهي من عد أعشابه وما تعالجه من علل.

قلت: أتنكر عليه ـ يا معلم ـ  استعمال العطور في مثل هذا؟

قال: لا أنكر عليه، ولكني لا أرى كل هذه التفاصيل، فالرياحين كالأغذية، فقد يشتهي هذا ما يعيبه ذاك.

قلت: فالعبرة إذن بانشراح الصدر بالعطر، لا بهذه التفاصيل.

قال: أجل.. فهؤلاء يشبهون من وضعوا القواميس لما يرى في الأحلام، ثم يطبقون ذلك على الخلق جميعا، مع أن تأويل كل حلم يختلف من شخص إلى آخر.

قلت: فلماذا تبحث إدارة المستشفى في هذا إذن؟

قال: هذا من العلم.. وهو مما يرتبط بالصحة، وإدارة هذا المستشفى لا تترك شيئا له علاقة بالصحة إلا استعملته.. ألستم تأخذون بالأحاديث الضعيفة في فضائل الأعمال؟

قلت: بلى.

قال: لم؟

 قلت: تورعا واحتياطا، فقد يكون النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد قال ذلك الحديث، فيفوتنا من الأجر في حال صحته ما يفوتنا.

قال: ولو فرضنا أن الحديث الذي حكمنا عليه بالضعف لم يقله النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حقيقة الأمر؟

قلت: لن نخسر شيئا، فالحديث يصب في فضائل الأعمال، بل سنستفيد فضلا نجازى عليه بحسب نيتنا.

قال: فكذلك هذا المستشفى يقبل اليقيني من الدواء، وما يقاربه، وكل ذلك بشرط واحد هو  عدم إضراره بالمرضى والأصحاء.

الذوق

اقتربنا من النافذة الرابعة من نوافذ الاتصال، وقد علق عليها قوله صلى الله عليه وآله وسلم:( إذا اشتهى مريض أحدكم شيئا، فليطعمه)([19]

فقلت للمعلم: لا شك أن هذه نافذة الذوق.

قال: أجل، فالذوق نعمة من نعم الله، وهو نافذة من نوافذ الإنسان التي يمكن الولوج منها لحفظ قواه.

قلت: أتقصد أن يأكل الإنسان كل ما يشتهي ليحقق ما يتطلبه ذوقه؟

قال: الإنسان المعتدل، صاحب الفطرة السليمة يمكنه أن يفعل ذلك.. أما من انحرفت فطرته، فلو فعل ذلك لهلك.. ألم أخبرك أن منافذ الصحة هي نفسها منافذ المرض.. فالدواء يسلك نفس طريق العلة.

قلت: أجل.. وقد كان هذا هو  هديه صلى الله عليه وآله وسلم في الطعام، فلم يكن (يردُّ موجوداً، ولا يتكلف مفقوداً، وما قُرِّبَ إليه شيءٌ من الطيبات إلا أكله، إلا أن تعافَه نفسُه، فيتركَه من غير تحريم، وما عاب طعاماً قطُّ، إن اشتهاه أكله، وإلا تركه، كما ترك أكل الضَّبِّ لمَّا لَمْ يَعْتَدْهُ ولم يحرمه على الأمة، بل أُكِلَ على مائدته وهوينظر)

قال: فهل ترك صلى الله عليه وآله وسلم شيئا من الطيبات تشتهيه النفوس من باب الزهد الذي ادعاه أقوام منكم.

قلت: لا.. فقد أكل الحلوى والعسل، وكان يُحبهما، وأكل لحم الجزور، والضأن، والدجاج، ولحم الحُبارى، ولحم حِمار الوحش، والأرنب، وطعام البحر، وأكل الشواء، وأكل الرُّطبَ والتمرَ، وشرب اللبنَ خالصاً ومشوباً، والسويق، والعسل بالماء، وشرب نقيع التمر، وأكل الخَزِيرَة([20])، وأكل القِثَّاء بالرُّطَبِ، وأكل الأَقِطَ، وأكل التمر بالخبز، وأكل الخبز بالخل، وأكل الثريد، وهوالخبز باللحم، وأكل الخبز بالإِهالة، وهوالشحم المذاب، وأكل من الكَبِدِ المَشوِيَّةِ، وأكل القَدِيد، وأكلَ الدُّبَّاء المطبوخةَ، وكان يُحبُّها، وأكلَ المسلُوقةَ، وأكلَ الثريدَ بالسَّمْن، وأكلَ الجُبنَ، وأكلَ الخبز بالزيت، وأكل البطيخ بالرُّطَبِ، وأكل التمر بِالزُّبْدِ، وكان يُحبه، ولم يكن يردُّ طَيِّباً، ولا يتكلفه.

قال: رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يمثل الشخصية الإنسانية في أوج اعتدالها، فابحثوا فيما اشتهى، فستجدون علوما نافعة تتوازن بها قواكم، وتحفظ بها صحتكم، ولكن لا تنسوا أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ـ الذي ذكرت عنه ما ذكرت ـ كان يربِطُ على بطنه الحجر من الجوع، ويُرى الهلالُ والهلالُ والهلالُ، ولا يُوقد في بيته نارٌ.

قلت: ما تقصد بهذا ـ يا معلم ـ؟

قال: إن نفرا من قومك استغرقوا في الشهوات، واعتقدوا أنهم يطبقون سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في استغراقهم، فملأت الشهوات قلوبهم قسوة، وصحتهم أدواء.

قلت: ولكن ذلك نقل عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟

قال: أرأيت لوأن شخصا نقل لك أنه انتفع بكأس من دواء معين، فرحت وشربت منه براميل، أينفعك ذلك أم يضرك؟

قلت: بل يضرني.

قال: فكذلك من اختار من السنة ما يتناسب مع هواه، فاختار ما اشتهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الأطعمة، ولم يجع جوعه، ويسغب سغبه، ويعاني معاناته.

قلت: أفمن السنة أن نعصب بطوننا بالحجارة؟

قال: إن كان من السنة أن تتناولوا ما اشتهى، فمن السنة أن تعصبوا بطونكم بالحجارة، ومن السنة أن يمر الهلال والهلال والهلال، ولا توقد في بيوتكم النيران.

قلت: أذلك من الزهد؟

قال: لا.. من الصحة.. أما الزهد، فابحث عنه في كنوز الفقراء.

قلت: وهل لذلك علاقة بنافذة الذوق؟

قال: أجل.. فنافذة الذوق قد تحتاج من الحمية ما يعيد لها سلامتها وقوتها وصلاحها.

قلت: أيمكن أن تفسد هذه النافذة؟

قال: أجل.. فكل شيء معرض للفساد، ألم نقل بأن هذه المنافذ هي منافذ الصحة والمرض، والقوة والضعف؟

قلت: فما علامة صحتها؟

علامة الصحة:

أمسك رجل بيدي، وقال: أنا الذي سأجيبك عن هذا السؤال.

قلت: أأنت معلم الأذواق؟

قال: لا.. أنا ذواقة بهذا المستشفى.. رأوا فطرة ذوقي سليمة، فقبلوني في اللجان المكلفة بالبحث في هذه النافذة.

قلت: فأجبني عن سؤالي.

قال: أي سؤال؟

قلت: لقد ذكر لي المعلم بأن الذوق قد يفسد، فلا تراعى أحكامه، وأن له صحة، وقد سألت عن علامة صحته.

قال: علامة صحته أن تصح أحكامه.

قلت: كيف ذلك؟

قال: لقد جعل الله اللسان أول حماة الجسم، فلذلك ـ كان من علامة صحته ـ أن يشتهي ما يحتاجه الجسم من العناصر، وأن يبتعد عما يضر الجسم منها.

قلت: هذا كلام طيب، ولكنه يحتاج إلى إثبات.

قال: هذا يكاد يكون من المتفق عليه، فالله تعالى برحمته وحكمته جعل في الإنسان دوافع تحفظ عليه صحته، وتحفظ لجسمه حاجته، وهم يسمونها (دوافع فيسولوجية)، وهي  تنشأ نتيجة اختلال في الاتزان العضوي والكيميائي للبدن، وهو ما يعرف في الدراسات الفيسولوجية والنفسية الحديثة بالاتزان الحيوي.

وحينما ينبعث الدافع، فإنه يدفع الإنسان والحيوان  إلى القيام بنشاط توافقي يهدف إلى التخلص من هذا الاختلال، وإلى إعادة البدن إلى حالته السابقة من  الاتزان.

وقد بينت الدراسات التجريبية الحديثة أن وجود نقص في بعض العناصر الغذائية الهامة في البدن يحدث ميلاً  لأنواع معينة من الأطعمة التي تحتوي على هذه العناصر.

قلت: إثبات مثل هذا صعب، فكيف أثبتوه؟

قال: هناك تجارب كثيرة أجريت لإثبات هذه الحقيقة، ففي إحدى التجارب استؤصلت الغدتان  الكظريتان عند بعض الفئران مما جعل أبدانها تفقد كمية كبيرة من الملح.

وقد وضعت أمام هذه الفئران أو عية تحتوي على ماء عذب، وأوعية أخرى تحتوي على ماء مالح، وكانت النتيجة أن هذه الفئران بعد استئصال الغدتين الكظريتين أخذت تشرب كميات كبيرة جدا من الماء المالح تزيد بمقدار عشرين مرة تقريبا عن الكميات التي كانت تشربها قبل إجراء عملية الاستئصال.

وهذا يدل على أن نقص الملح في أبدانها أحدث لديها دافعا لشرب الماء المالح، وهودافع لم يكن موجودا لديها قبل استئصال الغدتين الكظريتين.

قلت: وهل أجريت مثل هذه التجارب على الإنسان؟

 قال: أجل.. لقد أجريت تجارب على مجموعة من الأطفال الصغار أثناء مرحلة الفطام، وقد فحصت حالاتهم الصحية بدقة، وقدرت أوزانهم، ثم ترك لهؤلاء الأطفال الحرية التامة في اختيار الأطعمة التي يشتهونها من بين مجموعة كبيرة من أنواع الأطعمة المختلفة التي وضعت أمامهم.

وبعد فترة من الزمن تبين أن جميع هؤلاء الأطفال تحسنت صحتهم بشكل واضح.

قلت: فما النتيجة النهائية التي خلصت إليها هذه الدراسات؟

قال: لقد خلصت هذه التجارب إلى أن اختلال الاتزان الكيميائي في البدن نتيجة نقص عناصر غذائية معينة يولد ميلا واشتهاء إلى أنواع معينة من الأطعمة التي تحتوي هذه العناصر الغذائية.. ومن الواضح أن تناول هذه الأطعمة يمد البدن بالعناصر  الغذائية التي يحتاجها، وأن ذلك يفيد البدن.

قلت: أهذا ـ إذن ـ ما أشار إليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث الذي جعله هذا المستشفى شعارا لهذه النافذة، فقد قال صلى الله عليه وآله وسلم:(إذا اشتهى مريض أحدكم شيئا، فليطعمه)([21]

 قال: نعم، فشهوة المريض الذي لم تفسد فطرته الذوقية دليل على العناصر الغذائية التي يحتاجها جسمه.

وقد كان هذا أمرا مشتهرا وردت به النصوص، فعن علي  أنه دخل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهورمد، وبين يدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم تمر يأكله فقال:(يا علي أتشتهيه؟)، فأجاب علي  بالإيجاب، فرمى إليه بتمرة، ثم رمى إليه بأخرى، حتى رمى إليه بسبع تمرات، ثم قال:(حسبك يا علي)([22]

وفي هذا دليل على مراعاة شهوة المريض، مع وضع حد لذلك بحيث لا يقع المريض في الإسراف المؤذي.

قلت: ألا يدخل في هذا الباب ما ورد في النصوص من عدم إكراه المريض على الطعام، فقد قال صلى الله عليه وآله وسلم:(لا تكرهوا مرضاكم على الطعام والشراب، فإن الله تعالى يطعمهم ويسقيهم)([23]

قال: أجل.. هذا صحيح.. وهو مكمل لما سبق.. ويدل عليه ما سبق.

قلت: كيف ذلك؟

قال: قوله صلى الله عليه وآله وسلم:(لا تكرهوا مرضاكم على الطعام والشراب)، ليس معناه ألا نطعم المرضى، وإنما يعني عدم إجبارهم على تناول طعام معين، بل يترك لهم تناول ما يرغبون فيه من الطعام.

قلت: ولكن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم علل في نهاية الحديث ذلك النهي بقوله:(.. فإن الله تعالى يطعمهم ويسقيهم)

قال: هذا صحيح.. وهو يصب فيما ذكرنا من جهتين:

أما الجهة الأولى، فهي أن الطبِّ الحديث أثبت أنَّ معظم الأمراض ترافق بنقص الشهية إلى الطعام، ولذلك فإنَّ إجبار المريض على الطعام يعني عدم استفادة المريض منه، فذلك يسبب له عسر هضم، وهي حالة تزيد مرضه سوءاً.

ولا بد من الإشارة هنا إلى أنه إذا كان فقدان الرغبة في الطعام أو نقصانها من دلائل المرض، فإنَّ عودة الرغبة إلى الطعام إلى سابق ما كانت عليه قبل المرض هو  من دلائل الشفاء.

وأما الثانية، فهي أن الطب الحديث يؤكد أن المريض يكسب الطاقة من مصادر داخلية، فيبدأ باستقلاب الغليكوجين المدَّخر في الكبد والعضلات، وهذا المصدر سريع النفاذ، فإذا استمر المرض تحول الجسم إلى المصدر الثاني، وهواستحداث السكر، أي: توليد الغلوكوز من مصارد شحمية وبروتينة، حيث تتحلل البروتينات إلى حموض أمينية، وتتحلل الشحوم إلى حموض شحمية، ومن هنا تنقص الشحوم وتضمر العضلات عند المريض، وهذا ما يظهر خارجياً بالهزال.

على أنه متى عاد المريض إلى رغبته في الطعام قبل المرض يعود الجسم فيدَّخر  الغذاء على شكل شحوم وبروتينات، فيكتنز ما تحت الجلد بالشحوم، وتنموالعضلات([24]).

قلت: فما التعامل السديد مع شهية المريض؟

قال: أن لا ندخل على معدته من الطعام والشراب إلا القدر الذي يستطيع التعامل معه.. فمقدار الطعام مرتبط بمقدار فعالية الجهاز الهضمي وقدرته على العمل.. ولهذا يستحب أن يكون مقدار الطعام قليلاً، ويحدد هذا المقدار رغبة المريض وشهيته.

بالإضافة إلى هذا يستحب أن يكون الطعام سهل الهضم، وسهل الامتصاص أي: يستفاد منه بأقل عمل ممكن من جهاز الهضم، ومثل ذلك الشراب.

قلت: ألا يشير إلى ذلك إعطاؤه صلى الله عليه وآله وسلم التمر لعلي ، عند مرضه؟

قال: أجل.. فالتمر يحوي سكريات سهلة الامتصاص، تعطي المريض كثيرا من الطاقة التي يحتاجها.

علامة الفساد:

قلت للمعلم: عرفت علامات صحة الذوق، فما علامة فساده؟

قاطعني الذواقة، وقال: أنا أنبئك بهذا.. فأنا خبير الذوق.. أنسيت؟

قلت: فما علامة فساد الذوق؟

قال: لتفهم ذلك، وتستنتج قاعدته لا بد أن تجيبني بكل صراحة عما أسألك عنه.

قلت: أتريد أن تستجوبني؟

قال: لا تخف.. لن أستجوبك إلا فيما يتعلق بطعامك وشرابك.

قلت: لا بأس، فلن أكتمك شيئا.. أعاهدك على ذلك.

قال: أعرف أنك قد مررت بأزمة مالية منعتك من شراء اللحم مدة طويلة من الزمن.

قلت: هذا صحيح.. فكيف عرفت؟

قال: لا يهمك ذلك.. ولكن أجبني.. لما فرج الله عليك كربتك، ورزقك من فضله، فأكلت تلك الليلة ذلك العشاء الذي تربع اللحم على عرشه.. بماذا شعرت؟

قلت: الله.. لا تذكرني بتلك الليلة الجميلة.. لقد كنت أنظر إليه كما ينظر العشيق إلى عشيقه.. وعندما وضعته في فمي أحسست بأن كل خلية من خلاياي تتنعم بمطعمه، وتتلذذ بمذاقه.

قال: وبعد ذلك يسر الله عليك، فأكلته ليالي متعددة متتالية..

قلت: أجل.. ولله الحمد والمنة.

قال: فهل بقي تلذذك به مساويا لتلذذك به تلك الليلة؟

قلت: كلا.. فتلك ليلة يتيمة.. ومع أني حاولت إعادتها بتنويع طرق الطبخ إلا أن المذاق الخاص الذي ذقته تلك الليلة لا يتكرر.

قال: أتدري سبب ذلك؟

قلت: دوري الآن في السؤال والتحقيق لا دورك.

قال: أجل.. إن السبب لذلك هو  سلامة فطرة ذوقك في تلك الليلة، وقد صدقت في الإخبار بأن كيانك كله قد تذوقك، فجسمك بخلاياه وأجهزته فرح لذلك القادم، واستقبله واستفاد منه.

قلت: وسائر الليالي؟

قال: ضعفت حاجة جسمك إليه بسبب إسرافك، فلذلك لم يعد يشعر بالحاجة إليه، فأرسل الرسائل إلى لسانك يخبره بذلك، ولم يكن للسانك إلا أن يطيع أو امره.

قلت: هذا كلام جميل.. ولكنه أقرب إلى الخطاب منه إلى العلم.

قال: لم؟

قلت: لوكان الأمر كذلك لما وجد في الدنيا مدمن.

قال: وما علاقة الإدمان بهذا؟

قلت: أليس الإدمان هو  المبالغة في تناول أدوية أو عقاقير معينة؟

قال: أجل.. ويشمل غيرها أيضا كالتدخين والخمر.

قلت: فلوكان الأمر كما ذكرت لأرسل الجسم الرسائل التحذيرية إلى اللسان، فكف عن أكل ما يضر بالصحة.

قال: لا.. أنت لم تفهم الإدمان.. إنه يصب فيما ذكرنا.. فالمدمن بفعل تعاطيه ما تعاطى من العقاقير وغيرها يتغير جسمه ليتناسب مع ما يقتضيه إدمانه.

قلت: كيف هذا؟

قال: ألم تسمع إلى قوله تعالى:{ فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً} (النساء:88)

قلت: هذه الآية تتحدث عن المنافقين، فما علاقتها بما نحن فيه؟

قال: إن ما ينطبق على المنافقين هو  نفس ما ينطبق على المدمنين.

قلت: أتقصد أن كل المنافقين مدمنون.. وما أدراك بهذا؟

قال: لا.. إنما قصدت أن الإدمان هو  نفاق الجسد، وهو لا يختلف في صورته وخطره عن نفاق الروح.

قلت: كيف ذلك؟

قال: المنافق يقلب الحقائق، فتنقلب عليه، فهو يخادع الله، بينما هو  لا يخادع في الحقيقة إلا نفسه.

قلت: والمدمن؟

قال: يفعل نفس الشيء.. يخادع ذوقه.. فينقلب عليه ذوقه.. ويصيبه بالإدمان.

قلت: لن أفهم هذا إلا إذا فهمت الإدمان.

قال: فما هو  الإدمان؟

قال: لن تفهمه حتى تفهم التحمل والاعتماد.

قلت: أنا أعرف  التحمل، فهو مصطلح في علوم الحديث يقصد منه استيعاب الراوي للحديث، وهو ما يمهد لروايته.. ولكن ما علاقته بهذا الباب؟

قال: تحمل المحدثين لا يختلف عن تحمل المدمنين إلا في شيء واحد.

قلت: ما هو؟

قال: المحدثون يتحملون الأحاديث، والمدمنون يتحملون العقارات والأدوية والسموم.

قلت: كيف يحصل ذلك؟

قال: عند جلوسهم إلى مشايخ الحشيش والأفيون ليتلقوا منهم علومهم، يبادرهم هؤلاء المشايخ ببعض العقاقير.

قلت: هبة أم بيعا؟

قال: في أول الأمر يهبونهم، فإذا التهموا ما وهبوه إياهم تقوم أجسامهم التي لا تزال على فطرتها بتحطيم وطرد كل ما يدخلها من عقاقير إلى خارج الجسم.

ولدى تكرار تناوله، فإن مقدرة الجسم على تحطمه وطرده تزداد بسب النشاط الزائد للأنزيمات المحطمة لهذا العقار فى الكبد، مما يستدعي زيادة الكمية المأخوذة فى المرات اللاحقة، وباستمرار، للحصول على نفس المفعول الحادث فى المرات السابقة.

وإذا استمر نفس الشخص بتناول نفس الكمية السابقة من نفس العقار، فإن خلايا جهازه العصبي تعتاد على ذلك العقار، ولا تعود تتأثر به كالسابق، وبالتالي تحتاج إلى كمية أكبر للحصول على التأثير السابق نفسه.

قلت: أتقصد أن زيادة مقدرة الجسم على تحطيم العقار، وتعوده عليه، ثم حاجته ـ نتيجة لذلك ـ إلى كمية أكبر للحصول على نفس التأثير السابق هو  ما يسمي بظاهرة التحمل..

قال: أجل.. هو  ذاك، فإذا حصل هذا دخل الجسم في الاعتماد.

قلت: وما الاعتماد؟

قال: الاعتماد على العقاقير المغيرة للحالة المزاجية للإنسان، وهونوعان: نفسي، وجسدي.

قلت: فما الاعتماد النفسي؟

قال: يتعلق الاعتماد النفسي بالشعور والأحاسيس، ولا علاقة له بالجسد، وهو تعود الشخص على الاستمرار فى تعاطي عقار ما، لما يسببه من الشعور بالارتياح والإشباع دون أن يعتمد عليه فى استمرار حياته.

وبتعبير آخر هو  ظاهرة نفسية اعتاد فيها عقل الشخص وتكيف على تكرار أخذ الجرعة من العقار بصورة متصلة، لتحقيق الراحة واللذة والنشوة ولتجنيب الشعور بالقلق والتوتر.

فالاعتياد على شيء يجعل الترابط متيناً مع هذا الشيء، ويجعل الابتعاد عنه من الأمور الصعبة بل شبه مستحيلة أحياناً.

قلت: فما الاعتماد الجسدي؟

قال: هو ظاهرة تضطرب فيها الأعمال الوظيفية الطبيعية لجسم المدمن بسبب استمراره فى أخذ العقار، بحيث يصبح تناول هذا العقار، بشكل طبيعي دائم ضرورة ملحة لاستمرار حياة الإنسان المدمن وتوازنه بشكل طبيعي.

ويصبح العقار المخدر ضرورياً له كالطعام والشراب والماء، بل أهم من ذلك، بحيث يحدث منعه عنه مصاعب كبيرة جداً وأعراضاً خطيرة قد تدفعه إلى ارتكاب أية جريمة للحصول على العقار المخدر المنشود، أو ربما يسبب له الوفاة المفاجئة أحياناً.

فساد الذوق:

قلت: ألا يمكن أن نصنع مواد معينة، ونخلطها بالأغذية، لنكون منها نمطا معينا من الاستهلاك؟

قال: ذلك ممكن جدا.

قلت: فلم لا يفعل هذا تجار الأعذية، فيبيعون سلعهم من غير حاجة إلى إشهارها؟

قال: ومن قال بأنهم لا يفعلون ذلك؟

قلت: ولم لا يكتفون بذلك.. فهم يبذلون أموالا طائلة في التشهير؟

قال: هم يشهرون ليصطادوا زبائن جددا.

قلت: وكيف عرفت ذلك؟

قال: سأضرب لك مثالا بسيطا، يغرم به قومك.

قلت: ما هو؟

قال: شراب البيبسي.

قلت: أنا محتار في إعجابهم به مع أني لا أجد له في نفسي أي مذاق.. بل أجدني أعافه وأستقذره.

قال: ولكنهم يقبلون عليه، لأن ما يحويه من مواد لها مفعول العقاقير في أذواق الناس الباطنة والظاهرة.

بينما نحن كذلك إذ تدخل رجل، وكأنه كان يتنصت علينا، وقال: لا تذكروني بذلك البيبسي.. فقد دمر حياة أولادي.. وهم الآن جميعا في هذا المستشفى بسببه.

قلت: وكم لك من أو لاد؟

قال: أربعة.. وكلهم في هذا المستشفى بسببه.

قلت: أربعة  !؟.. وكلهم في هذا المستشفى !؟

قال: أجل.

قلت: فماذا حصل للأول؟

قال: أصابه سوء هضم، وضعف بنية، واضطرابات عصبية، وصداع وأرق،  وكآبة، وتشنجات عضلية.

قلت: كل هذه الأمراض حصلت لابنك بسبب البيبسي.

قال: البيبسي والكوكاكولا.. ألا تعلم أن العلبة الواحدة من هذه المشروبات تحتوي على ما يعادل  10 ملاعق سكر، وهي وحدها كافية لتدمير فيتامين (ب)..  والذي يؤدي نقصه إلى ما حصل لولدي من علل.

قلت: والثاني؟

قال: لقد أصيب بعرقلة في عملية الهضم.. فلم يستفد جسمه من كل الطعام الذي بذلت كل جهدي لإحضاره، وبذلت أمه كل جهدها لطبخه.

قلت: لم؟

قال: ألا تعلم أن هذا المشروب المشؤوم يحتوي على غاز ثاني اكسيد الكربون.. وهو يؤدي إلى حرمان المعدة من الخمائر اللعابية الهامة في عملية الهضم، وذلك عند تناولها مع الطعام، أو بعده.. بل إنه يؤدي إلى إلغاء دور الانزيمات الهاضمة التي تفرزها المعدة.. فلا يستفيد الأكل من أكله غير إتعاب معدته.. ألم تسمع بما حصل في  جامعة دلهي في الهند؟

قلت: فما حصل؟

قال: قبل فترة بسيطة تمت مسابقة في تلك الجامعة فيمن يشرب أكبر كمية من بيبسي كولا، وكان الفائز قد شرب ثمان علب من الكوكا كولا.

قلت: فبأي جائزة فاز.. فما أكرم شركة كوكا كولا؟

قال: لقد توفي في نفس المكان.. وذلك لارتفاع نسبة غاز ثاني أوكسيد الكربون في دمه مما أدى إلى عدم تمكنه من الحصول على الأكسجين اللازم.

قلت: والثالث؟

قال: لا تحدثني عنه، ولا تذكرني به، فقد كان على شفير الموت لولا ما من الله علينا به من أطباء هذا المستشفى.

قلت: فما أصابه؟

قال: لقد أصيب بزيادة ضربات القلب، وارتفاع ضغط الدم والسكر، وزيادة الحموضة المعدية، وزيادة الهرمونات في الدم، مما سبب له التهابات وتقرحات للمعدة والاثنا عشر.. وقد ضعف لذلك ضغط صمام المريء السفلي.. والذي أدى إلى ارتداد الطعام والأحماض من داخل المعدة إلى المريء مسبباً له آلاما مبرحة، والتهابات شديدة.

قلت: وما سبب كل هذا؟

قال: ألا تعلم أن هذا السم يحتوي على الكافايين الذي يؤدي إلى كل تلك العلل.

قلت: والرابع؟

قال: ذلك المسكين شاب، وهو لم يعد سن الشباب، وهرم وهولما يعش زهرة عمره.

قلت: ما الذي حصل له؟

قال: لقد تقوس ظهره، وانحنت عظامه، ونخرت أسنانه.

قلت: وما سبب ذلك؟

قال: ألا تعلم أن هذا السم يحتوي على أحماض فسفورية تؤدي إلى هشاشة العظام وضعفها، وخاصة في سن المراهقة.

وهو يحتوي على أحماض الفسفوريك والماليك والكاربونيك التي تسبب تآكل طبقة المينا الحامية للأسنان.

ألا تعلم أن معدل الحموضة في هذا السم تبلغ أربعة درجات، وهذه الدرجة من الحموضة كافية لإذابة الأسنان والعظام مع مرور الوقت، فأجسامنا تتوقف عن بناء العظام بعد مرور الثلاثين، وتبدأ بعد ذلك بالتحلل بنسبة 8-18 بالمائة سنوياً بحسب كمية الأحماض التي نستهلكها في غذائنا.. ونسبة الأحماض لا تعتمد على مذاق طعامنا، ولكنها تعتمد على نسبة كل من البوتاسيوم، الكلور، المنغنيز وغيرها من الأملاح الفسفورية.

ألا تعلم أن الأسنان والعظام هي آخر ما يتحلل من جسم الإنسان، فهي تتحلل بعد موته بعدة سنوات، ولكن هذه المياه الغازية تذيبه خلال أيام قليلة، فتخيل ماذا يمكن أن تفعله في بقايا الخلايا الطرية.

إن شككت في قولي فضع سناً مكسوراً داخل زجاجة بيبسي.. وانتظر عشرة أيام، وقل لي: ماذا ترى؟

قلت: وماذا سأرى؟

قال: تجد السن قد تحللت.

قلت: فلم لم يجعلوه من المحللات، فإنهم سيجدون من يشتريه؟

قال: ليتهم فعلوا ذلك.. بل إن من أقاربي من يفعل ذلك.

قلت: ماذا يفعل؟

قال: خالتي تسكب علبة كوكا كولا في المرحاض، وتتركها لمدة ساعة واحدة، ثم تسحب السيفون، فتزيل بذلك جميع البقع.

قلت: أصحيح ذلك.. فما سره؟

قال: حامض السيتريك يؤدي ذلك بفعالية.. بل إن عمي يزيل الصدأ عن صدام سيارته أو عن صامولة صدئة بفرك قطعة قماش مبللة بالكوكا كولا.

قلت: وخالك ماذا يفعل مع الكوكا كولا؟

قال: خالي ينظف أصابع البطارية من التآكل، فيسكب علبة على أصابع البطارية، فتنطلق فقاعات الغاز.. فهي تعمل بفعالية على تفتيت التآكل وإزالته.

قلت: وجدتك؟

قال: تزيل بقع الدهون عن ملابس جدي، وذلك بإضافة مقدار علبة كوكاكولا إلى مواد الغسيل.. فتلاحظ اختفاء بقع الزيت.

قلت: فعائلتك جميعا في هذا المستشفى إذن؟

قال: لا.. ليس في المستشفى من عائلتي إلا أولادي.

قلت: والباقي.. ألم يصبهم شؤمه؟

قال: لا.. لقد كانت فطر أذواقهم سليمة لم تتدنس، فلذلك أنفوا أن يدخلوا على معدهم ما لا تشتهيه ألسنتهم.

قلت: أرى أنك من عائلة غنية، فكيف تسرفون في استعمال الكوكاكولا كل هذا الإسراف مع غلاء أسعارها؟

قال: ومن قال لك بأننا نشتريها؟

قلت: فكيف حصلتم على كل هذه الكميات؟.. هل عثرتم على بئر كوكا كولا، فأنتم تستقون منه؟

قال: لا.. لقد فاز ابن عمي ـ لا جزاه الله خيرا ـ في مسابقة أجرتها هذه الشركة المشؤومة، وكانت جائزته أن يستفيد هو  وعائلته جميعا من شرابها بالمجان.. فرحنا لذلك نسرف بما شاء لنا الإسراف.

قلت: فأين ابن عمك هذا، لنعاتبه ونشتد عليه، أو لترسل به وزارة الحزم إلى سجونها.

قال: ألم أخبرك عنه؟

قلت: من هو؟

قال: ذلك الذي شرب ثمان علب من الكوكا كولا.

قلت: من؟ أذلك الذي ذكرت أنه شارك في مسابقة جامعة دلهي في الهند؟

قال: أجل.. فهو ابن عمي.

قلت: ولكنك عربي.

قال: هو أيضا عربي.. وقد ذهب المسكين ليحصل علوم الهند، فقتلته علوم الأمريكان.

***

أمسك بيدي شخص آخر، وقال: إن حديثي مع…. لا يقل عن حديثه مع الكوكاكولا.

قلت: وكم لك من الأولاد؟

قال: سبعة..

قلت: وكلهم في هذا المستشفى.

قال: كلهم ما عدا أصغرهم، فهولم يذق منه بعد.

قلت: فما أصابهم؟

بدأ المسكين يتحدث أحاديث طويلة.. أمسك بيدي المعلم، وقال: لو بقيت مع هؤلاء، فلن نخرج..

قلت: فكيف نسحب تأثير هذه العقارات من نفس من اعتمدها، وملكها كيانه؟

قال: بدعوته إلى الإيمان.. ألم نقل بأن المدمن لا يختلف عن المنافق؟

قلت: إيمان الروح.. أم إيمان الجسد؟

قال: كلاهما.. أما إيمان الروح، فيعطيه الإرادة التي تقهر الاعتماد النفسي، وأما إيمان الجسد، فيقهر السموم التي نشرها اعتماد الجسد.

قلت: عرفت إيمان الروح، فما هو  إيمان الجسد.

قال: عودته إلى فطرته الأصلية.

قلت: وكيف ذلك؟

قال: بتخلصه من السموم التي تشوه ذوق لسانه وذوق كيانه.

قلت: فكيف أتخلص من السموم؟

قال: ذلك علم آخر.. ألم تمر عليه في القسم السابق؟

قلت: بلى.. لقد نسيت، فـ { لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً} (الكهف:73)

قال: تعال أريك شيئا قد ينفعك في هذا السبيل.

موازين الأذواق:

رأيت رجلا صينيا بلحيته ولباسه، يحمل خمسة أكياس، وهو يحاول أن يزنها بميزان يحمله، ويدقق في ذلك الميزان، قال لي المعلم: هيا نقترب من ذلك الرجل، فلديه علوم نافعة، ألم تسمع ما قيل:(اطلب العلم ولو بالصين)

قلت: بلى.. وقد استفدنا منهم كثيرا بحمد الله.

اقتربنا منه، فبادرته قائلا: أي أنواع الجواهر تزن؟.. فإني أراك تدقق تدقيقا عجيبا.

قال: أنا أزن جواهر الذوق.

قلت: وهل الذوق جواهر؟.. لا أعرف الجواهر إلا ما تضعه النساء في الحلي، والملوك على التيجان.

قال: فأنت لا تعرف أصناف الجواهر إذن.

قلت: بل أنت الذي تسلك سبيل المجاز، فتسمي الأشياء بغير أسمائها.

قال: أرأيت لو أن ملكا من الملوك فقد أذواقه الخمسة، فلم يعد يستحلي طعاما، ولا يستمرئ شرابا، ثم قيل له: لن نبيعك هذه الأذواق إلا بخمسة من أغلى الجواهر التي تزين تاجك، أفيعطيهم جواهره؟

قلت: لا شك في ذلك.. فلا خير في ملك لا يستحلي طعاما، ولا يلذ له شراب.

قال: فالأذواق إذن أفضل من جميع الجواهر.

قلت: فأنت لهذا تزنها، وتبالغ في التدقيق في وزنها.

قال: أجل.. لأحفظها، فإنه إذا طغى بعضها على بعض انحرفت، فإذا انحرفت فسد مزاجي، وقد رأيت من عواقب فساد الذوق ما رأيت.

قلت: هذا صحيح.. ولكن كيف تزن الأذواق؟.. وكيف تزعم أنها خمسة؟.. فأنا أشعر بمذاقات كثيرة.

قال: هذا علم من علومنا.. إن شئت أن تحمله عنا، فسلم لنا.

قلت: أنا مسلم لكل من يعلمني.. فتحدث، ولن أجادلك.

قال: أتدري لم يسرف الناس في الأكل، فيأكلون مع كونهم مصابين بالتخمة؟

قلت: هي شهوة للأكل.

قال: فما سببها؟

قلت: لوعلمت سرها لخلصت الناس من شر التخمة، ووقيت الفقراء شر المسغبة التي يوقعهم فيها الأغنياء بتخمتهم.

قال: إن سر ذلك كما حفظته عن أجدادي، وهم عن أجدادهم هو أن الجسم يحتاج الى خمس نكهات([25]): الحلاوة، والملوحة، والمرارة، والحموضة، والحرارة.. فالأشياء التي نتذوقها تغذي الأعضاء الداخلية، وإذا نقصت أي من هذه النكهات في الوجبة التي نتناولها، فإن أجسامنا ستكون ناقصة من رغبة التذوق، وهذا سيسبب الرغبة الملحة في الأكل.

قلت: لم أفهم حقيقة تأثير ذلك.

قال: هذه النكهات مقابلة لبعضها بعضاً.. وهي متمة لبعضها بعضاً، فأكل الحلويات ـ مثلا ـ يسبب رغبة في أكل المالح أو المملح، والعكس أيضا يسبب هذا.. فالعملية متضادة.

ولهذا عندما تأكل وجبة تشتمل على جميع النكهات سوف تشعر تماماً بأنك شبعان، ولن تحتاج إلى أكل وجبات اضافية بين الوجبات لإشباع  رغبة توازنك المختل.

قلت: هذا مبدأ مهم.. وهو قمن أن يؤثر في الشهية، بحيث يحد من رغبتها بإعطائها حاجتها.

قال: ولكن الخطأ الذي يقع فيه الناس هو تلبيتهم لهذه الدواعي من غير سبلها الصحيحة.

قلت: كيف ذلك؟

قال: سأضرب لك مثالا يوضح ذلك.. الحلاوة، وهي نكهة من النكهات تعبر عن حاجة معينة من حاجات الجسم.

قلت: عرفت هذا.. فهي تلبي حاجة الجسم إلى سعرات حرارية ليؤدي وظائفه.

قال: ولكن قومك يتلاعبون بهذه النكهة.

قلت: كيف ذلك؟

قال: يخدعونها.

قلت: أيخدعون أنفسهم؟

قال: أجل.. فهم يختارون الحلويات أو المياه الغازية أو المعجنات التجارية التي تباع في الاسواق، والتي تحاول أن تشبع هذه الرغبة.. وهم يقتلون أنفسهم بذلك من حيث لا يشعرون.

قلت: هي حلوياتنا.. وهي رمز لحضارتنا.. ولا بد لنا منها.

قال: ولكن أجسامكم لا تطلب تلك الاشياء.. بل هي يحتاج سكريات طبيعية مثل: الجزر، والذرة الحلوة، البطاطا، والبصل، والقرع الشتوي..

قلت: والتمر والعسل والفواكه..

قال: أجل.. فالبنكرياس الذي ينظم نسبة السكر في الدم يشعر بالراحة والاكتفاء عندما تصله مثل هذه الأطعمة، بخلاف السموم التي يأكلها قومك ويشربوها.. ألا تعلم علة انتشار داء السكري من النوع الثاني في جميع أنحاء العالم؟

قلت: هي علل كثيرة.. لا يمكن حصرها هنا.

قال: أهم علله زيادته ارتفاع استهلاك السكر.. ولن يصعب علي إثبات ذلك.. ففي أثناء الحرب العالمية الثانية، عندما انخفض استهلاك السكر في الولايات المتحدة الأميريكية، سُجل تراجع حاد في حالات الإصابة بهذا النوع من السكري.

أما اليوم، فيشكل هذا النوع من المرض تحديداً 98 بالمائة من حالات الإصابة بالسكري في أميركا، ويُعتقد بأنه على علاقة بالأنظمة الغذائية المتبعة والغنية جدا بالسكريات، فهو يصيب الإنسان عندما تتراجع قدرة الخلايا في الجسم على التجاوب مع مادة الأنسولين المكوّن في البنكرياس، وعلى امتصاص الطاقة من الطعام المستهلك.

ولهذا تتحول السعرات الحرارية الزائدة إلى دهون، وتتراكم على الأنسجة الدموية مسببة مشاكل ومضاعفات صحية خطرة.

ولهذا يُجمع معظم اختصاصيي التغذية على أن الإستهلاك المفرط للسكريات والكربوهيدرات المكررة، هو  السبب الرئيسي للإصابة بهذا المرض.

قلت: فهمت مثال الحلاوة.. فما مثال الملوحة؟

قال: الملوحة لا يلبي حاجتها إلا الملح ذوالنقاوة الجيدة، فهو عند الاعتدال ضروري للهضم، واتصال العصب، وانقباض العضلات، بالإضافة إلى أنه يساعد جهاز المناعة بمنع نمو وازدياد البكتريا المؤذية والفيروسات، والطفيليات، والفطريات.

قلت: فما الملح الذي يلبي هذه الرغبة؟

قال: المصدر الذي علت نقاوته هو  الملح البحري غير المكرر.. وهناك أيضاً مصادر مهمة مثل شوربة الميسو، وأعشاب البحر، وملح السمسم.

قلت: فالحموضة؟

قال: هي نكهة يحتاجها الجسم لتغذية الكبد والمرارة.

قلت: فما مصادرها الصحيحة؟

قال: من أهم مصادرها الليمون، والليم، وهونوع من الليمون الحامض.

قلت: هذه الأطعمة هي من الأطعمة الحامضة، ولكن معظم الناس لا يتناولون هذه الاطعمة بشكل أساسي.

قال: هي تشمل ـ كذلك ـ المخلل، أو الكبيس المخمر بطريقة طبيعية، فهو طريقة سهلة ليعطينا الطعم الحامض والملح المطحون لأي وجبة.. بالإضافة إلى الخوخ البري أو خل الرز البني.. فهذه الاشياء تجعل الطعام ذاحموضة لذيذة عند رشها على الخضار المطبوخ.

قلت: فالمرارة؟

قال: هذه نكهة مهمة، ولكن كثيرا من الشعوب تقصر فيها.

قلت: أجل.. ولكني شاذ عنهم في ذلك.. فالمرارة عندي لا تختلف عن الحلاوة.

قال: فأبشر بصحة مذاقك لهذه النكهة.. فاستحلاء المرارة نعمة.. فالطعام المر يحمي القلب، ولهذا نجد الطب التقليدي يدافع عن هذا، ويؤكد بأن نقصان هذه النكهة من الطعام يساهم في انتشار أمراض القلب.

قلت: فكيف نتدارك نقصان هذه النكهة في أطعمتنا؟

قال: هناك بعض الطرق السهلة لتفادي هذا النقصان مثل إدخال الهندبا في السلطة، أو وضع البقدونس مع شوربة الجارنش، ولا تنسوا أكل عيدان الكرفس، والبقوليات المرة، كالملفوف، والكرنب، واللفت.

قلت: فالحرارة؟

قال: هي ـ مع تقصيركم في حقها ـ مهمة جدا، فهي تساعد الرئة والأمعاء الغليظة.. ومن خصائصها المهمة أنها  تساعد الجسم على تذويب الدهون من الأكلات المشبعة بالدهون، فهي تعمل على امتصاص الزيوت منها.

قلت: فما مصادرها الصحية؟

قال: التوابل.. وبعض الخضروات كالثوم الطازج، والزنجبيل، واللفت، والكراث، والفجل الأحمر، والفجل الحار، والفجل الأبيض.

قلت: فهمت كل هذا.. ولكن هذا يحتاج منا إلى تملك موازين كالميزان الذي تحمله.. فمن أين اشتريته لأشتري مثله؟

ضحك، وقال: لن تحتاج إليه، فالأمر بغاية البساطة، فالوجبة المتوازنة قد تكون وجبة بسيطة خفيفة مثل شوربة الفاصوليا، أو ذرة مطبوخة، أو بقوليات مطبوخة على البخار، ومعها القليل من المخلل أو الكبيس.

اللمس

اقتربنا من النافذة الخامسة من نوافذ الاتصال، وقد علق عليها قوله تعالى: { قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لا مِسَاسَ} (طـه:97)

وقد رأيت على نافذتها ستارا عجيبا لا يمكن وصفه، فقد كان ينم ظاهره عن باطنه، وباطنه عن ظاهره، وفوق ذلك يجعل الباطن محميا من تلوثات الظاهر، ويزين الظاهر بجمبع معاني الباطن.

فاحترت، هل لهذا الستار من موازين العدل ما وفق به بين الظاهر والباطن، أم له من العقل  ما جمع به بين خدمة الظاهر والباطن، فقلت للمعلم: ما هذا الستار العجيب؟

فقال: جلدك..

فتلمست أعضائي، وقلت: هو ذا جلدي يكسو أعضائي، فكيف تحول ستارا يؤلف بين الظاهر والباطن؟

قال: هذا الستار يمثل جلدك، وقد صممه نساجو هذا المستشفى مستوحين حقائق جلدك ووظائفها.. وفيه أشياء كثيرة لم ترها بعد.. ولو رأيتها لزاد عجبك.

قلت: وما سر الآية التي علقت على لافتة هذه النافذة، فإني لا أرى لها محلا هنا.. أليست تتحدث عن عقوبة السامري؟

قال: وما كانت عقوبة السامري.. فقد أجرم جرما عظيما؟

قلت: لقد كانت عقوبته في الدنيا أن يقول: لا مساس.

قال: وما معنى ذلك؟

قلت: لقد ذكر المفسرون أن موسى u دعا على السامري، ولعنه بعد ثبوت جرمه وخطئه، فابتلاه اللّه بـمـرض غـامض خفي جعله ـ ما دام حيا ـ لا يمكن لأحد أن يمسه، واذا مسه فسيبتلى بالمرض، أو أن الـسامري قد ابتلي بمرض نفسي ووسواس شديد، والخوف من كل إنسان، إذ كان بمجرد أن يقترب منه أي إنسان يصرخ:(لا تمسني)

قال: وما كان القصد من هذه العقوبة؟.. أو لم كانت هذه عقوبة؟

قلت: هذه عقوبة خطيرة تستهدف عزله عن المجتمع.. فلا يقرب أحدا.. ولا يقربه أحد.

قال: فقد فهمت إذن سر وضع هذه الآية لافتة على هذه النافذة.

قلت: لقد كنت أفهم الآية قبل أن أجيء إلى هنا.. ولكني لا أفهم سر وضعها هنا.. فالآية في السامري.

قال: عبارتها في السامري، أما إشارتها فيمكن أن تصل إلى كل الناس، وكل الحقائق، فالقرآن الكريم ليس قصصا للسامري، وغير السامري.

قلت: فما موضع الإشارة منها هنا؟

قال: كل من قرأ هذه الآية سيستشعر نعمة الله عليه بقدرته على أنه يمس الناس ويمسونه.. فالعقوبة هي الوجه الخفي المظهر للنعمة.

قلت: أتقصد أن الجلد السليم الذي زود الله به جسد الإنسان نافذة من نوافذ الاتصال؟

قال: أجل.. فهو لا يختلف كثيرا عن السمع والبصر.. فلولاه لعزل الإنسان عن كثير من أحداث العالم.. بل لولاه لعزل عن العالم.

قلت: كيف هذا؟

أمسكت بيدي يد، قال صاحبها: هيا بنا إلى أولئك القوم، فقد وهبهم الله من العلوم ما يقنعونك بهذه المعاني.. لتحمد الله على نعمة هذا الستار.. وتحافظ عليه، فهو ركن من أركان الاتصال.

قلت: ومن أنت؟

قال: أنا مرشد هذه النافذة.. أدل السالكين على النعم المبثوثة فيها.

قلت: فكيف جعلتك إدارة هذا المستشفى مرشدا على هذه النافذة؟

قال: ذلك حديث طويل.. ستعرفه عند رحيلك إلى (عيون الطهارة)

وظائف الجلد:

سرت مع المرشد، فرأيت قوما مجتمعين، قال لي المرشد: هؤلاء قوم يذكرون الله.. وآلاء الله.. وقد اجتمعوا هنا ليتذاكروا نعمة الله عليهم بهذه النافذة من نوافذ الاتصال.

قال أحدهم: من نعم الله في الجلد أنه عضو الإحساس العام، فهو وسيلة استقبال للمؤثرات المختلفة بين الإنسان وبين العالم المحيط به، ألم تسمعوا قوله تعالى:{ وَلَونَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَاباً فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ}(الأنعام:7)، فقد أشارت هذه الآية إلى أن حاسة اللمس أداة يستعين بها الانسان لتحس الأشياء للتعرف عليها.

وليس ذلك فقط.. بل هو  الجيش الذي جعله الله حاميا على ثغور الجسم، فهو يصد كل المؤثرات الخارجية عن الجسم وأعضائه الداخلية.

قلت: كيف هذا؟

نظر إلي، وقال: الجلد يتكون من مجموعة من الطبقات بعضها فوق بعض مؤلفة غطاء كثيفا يحول دون العوامل الممرضة من أن تنفذ إلى الجبهة الداخلية، وبذلك يعتبر الجلد ـ بحق ـ خط الدفاع الأول والأهم لجسم الإنسان، وقد حباه الله تعالى بإمكانات تجعله كفئا لهذه المهمة الخطرة.

فهو حاجز منيع في الاتجاهين الداخلي والخارجي، وله القدرة على حماية الإنسان من الإشعاعات المميتة والمواد الكيماوية السامة والصدمات الفيزيائية بفعل المادة الفردية (الإسفنجية) والألياف التي يحتويها، والتي تعمل كنوابض ماصة للصدمات، ثم تعيد الجلد إلى حالته الأولى بعد زوال المؤثر.

قال آخر: والجلد وسيلة من وسائل الإحساس التي نتعرف بها على العالم، ففيه تتركز المستقبلات العصبية لكافة المؤثرات الخارجية من ألم وحرارة وبرودة وضغط وحفظ لتوازن الجسم والتعرف على البيئة وخصائصها وطريقة التعامل مع كل طارئ، وبالتالي القدرة على التعبير عن الذات بطريقة خاصة لكل شخص.

قال آخر: ويعتبر الجلد مستودعا للدم لغناه بالأوعية الدموية، فلهذا إذا حدث طارئ واحتاج الجسم بأعضائه الحيوية للدم مثل المخ والكليتين تقدم الجلد بكل زهد وتواضع وتخلى عن تسعين بالمئة من حصته من الدم لتعطي للمستحقين حتى يأذن الله بالفرج.

قال آخر: وللجلد قدرات تميزه عن جلد باقي الكائنات الحية مثل انقباض الأوعية الدموية وتوسعها، وإفراز مادة العرق والتي بها يستطيع الإنسان ضبط حرارة جسمه تبعا للمحيط.

قال آخر: ومن قدرات الجلد الوظيفة الاستقلابية مثل إنتاح فيتامين د والتنفس، وهو تناول الأكسجين وطرح ثاني أكسيد الكربون مباشرة من الجو، ولا يستطيع عضو آخر فعل ذلك.

كما أن من وظائفه المهمة الوظيفة المناعية، حيث يحتوي الجلد على خلايا كبيرة لها زوائد وأطراف تمتد لتلتقي مع بعضها البعض مكونة شبكة كاملة كالأسلاك الشائكة أمام الأجسام الغريبة المتسللة، فإذا ما وصل أحدها تم التعرف عليه، وأخبر جهاز المناعة بذلك، فتصنع له أجسام مضادة تقضي عليه وعلى أمثاله.

قال آخر: وللجلد ميزات فريدة حقا، فهو العنصر الأثقل بعد العظام في الإنسان، إذ يبلغ وزنه الإجمالي حوالي عشرة كيلوجرامات في الإنسان البالغ، وكذلك هو  العنصر الأوسع انتشارا إذ يغطي مساحة تبلغ مائة وسبعين سنتميترا مربعا في الإنسان البالغ، ولهذا أهمية كبيرة في حالات فقدان السوائل والجفاف والحروق والالتهابات الحادة والمزمنة، وبالأخص عندما يكون المريض طفلا أو تكون المساحة المصابة واسعة.

قال آخر: وفوق ذلك كله فالجلد، هو  الشاشة أو المرآة التي تنعكس عليها حالة الجسم، ولهذا يعتمد الأطباء في تشخيص أعداد كبيرة من الأمراض عليه، مثل السرطانات الداخلية والسكري والسل وأمراض الكبد والكلى وغيرها.

الجلد والنفس:

قال آخر: ليسوا وحدهم في ذلك، فهو دليل للمتوسمين المتفرسين.

قلت: كيف ذلك؟

قال: الجلد خير مترجم لأحاسيس الناس وانفعالاتهم وشخصيتهم الكامنة وراء ضلوعهم عن طريق تقاطيع الوجه وقسماته.. فكأن الجلد ناطق بلا لسان، ومتكلم بلا بيان.. ولهذا، فإن له علاقة وطيدة بالحالة النفسية للإنسان.

قلت: كيف ذلك؟

قال: سهل أن تستدل على ذلك.. فليس عليك إلا أن ترى تأثير الانفعالات على المظهر الخارجى لأى شخص.

فالخجل ينم عنه الاحمرار الذي يكسو الوجه، والخوف ينم عنه الشحوب والاصفرار.

قلت: ألهذا يستعمل الجلد في أجهزة كشف الكذب؟

قال: أجل.. فالتطبيق المباشر لتأثير الأنفعالات الداخلية على الجلد هو  استخدام ذلك في عمل أجهزة كشف الكذب، حيث تقوم فكرة هذه الأجهزة على وضع أقطاب على سطح الجسم تتأثر بحرارة الجلد وإفراز العرق، وحين يتم استجواب الشخص يتم رصد توصيل الجلد للشحنات الكهربية، فإذا بدأ في الكذب زاد التوتر لديه، وظهر ذلك من خلال توصيل الجهاز.. وانكشف الأمر([26]) !!

قلت: ولكن هذه الأجهزة قد تكذب في كشف الكذب.

قال: هذا صحيح.. فمن الصعب حصر الحالات النفسية.. ولكن مع ذلك فهناك حالات نفسية معينة لا يمكن للجلد أن يكذب فيها.

قلت: وما هي؟

قال: هناك أمراض جلدية تنتج عن الحالة النفسية للشخص.

قلت: أليس منها مرض السامري، فنفسه المريضة التي كانت تريد أن تزاحم نبوة موسى u أثر في إصابتها بذلك المرض الذي عزلها عن الناس.

قال: أنا طبيب مختص بهذا.. فإن شئت أن تحضره إلى عيادتي، فأحضره لأرى مدى صدق ذلك.

قلت: كيف أحضره؟.. إن جسده الآن شوك من الشوك.. أو غبار تتلاعب به الرياح.

قال: فما اهتمامك له إذن؟

قلت: هو  مجرد فضول.

قال: فبدل فضولك هذا تعلم ما ينفعك، ويحمي جلدك، ويجعله ستارا صالحا يحميك، وينم عنك بأحسن ما فيك.

قلت: فعلمني من علوم الجلد ما تطمئن له نفسي، ويرتاح له جسدي.

قال: أتعلم (السيكوساماتك)؟

قلت: ما أو لعكم معشر علماء النفس بهذه المصطلحات، ففسر لي ما تقول فإنه يصعب على لساني نطق ما قلت؟

قال: الأمراض الجلد النفسية.

قلت: فقلها مباشرة.. لم تدخل هذه العجمة على لسانك؟.. فأنت عربي فصيح.

قال: نحن نقول ما علمونا، وما نستطيع أن نفهم به الناس، فهم لا يفهمون إلا إذا رطنت لهم بهذه العجمة.

قلت: فحدثني عنها.

قال: إن ما ذكرناه عن الانفعالات النفسية على الجلد في الحالات السابقة تحدث في الشخص العادى، غير أن هناك بعض الحالات أكثر تعقيداً.

قلت: ما هي؟

قال: الانفعالات النفسية والصراعات الداخلية التي يتم كبتها داخل النفس لوقت طويل تؤثر سلبيا علي الجهاز العصبي الذاتي، وعلي عمل الغدد الصماء في الجسم، ويبدو ذلك في صورة أمراض جلدية أصلها نفسي.

ويطلق علي هذه الحالات في الطب النفسي الأمراض السيكوساماتية أو النفسية الجسدية.

قلت: فاذكر لي أمثلة عنها.

قال: من ذلك الأمراض الجلدية التي تنشأ نتيجة للقلق والغضب والانفعالات الشديدة التي لا يتم التنفيس عنها كالطفح الجلدى المعروف، وحكة الجلد، وزيادة إفراز العرق، وحالات سقوط الشعر، وحب الشباب، ومرض الصدفية، وقائمة طويلة من الأمراض الجلدية ثبت وجود علاقة مباشرة لها مع الاضطراب النفسي والتوتر العصبي.

قلت: فهذه الأمراض تعالج عند النفسانيين ـ إذن ـ لا عند أطباء الجلد؟

قال: قد يتم وصف أنواع من العلاج بالأدوية والدهانات الموضعية لعلاج هذه الحالات.. وكل ذلك لا جدوى منه.. لأن هذه الأمراض نفسية جسدية كما ذكرنا، ويجب التعامل هنا مع الجذور النفسية لهذه الحالات، وليس مع الطفح أو البقع الجلدية السطحية فقط.

قلت: كيف ذلك؟

قال: يفيد التفسير النفسي للأمراض الجلدية في كثير من الاحيان في فهم المغزى وراء ظهور مثل هذه الأعراض، فسقوط الشعر في الأطفال ـ مثلا ـ يحدث عادة بعد وقت قصير من تعرض الطفل لمشاعر الحزن لفقد شخص عزيز لديه كان يرتبط به عاطفيا.

وسقوط الشعر في الكبار الذى يعرف بالثعلبة قد يكون تعبيراً عن مشاعر عدوانية مكبوته وغيظ لم يتم التعبير عنه، وقد وجد أن الحالة تتحسن ويعود الشعر الي النموحين تتاح لهؤلاء فرصة التعبير عن انفعالاتهم المكبوتة.. فلذلك كان للدراسة النفسية للشخص أثرها الكبير في علاجه.

قلت:….

قاطعني، وقال: وهكذا كثير من الأمراض الجلدية، فبعض الأمراض الجلدية مثل الطفح الجلدى المصحوب برغبة شديدة في الاحتكاك هو رمز للبكاء المكبوت ومشاعر الغضب الداخلي.

قلت: فوقاية الجلد إذن وحفظ قواه تستدعي الابتعاد عن هذه الأسباب.

قال: هذا صحيح.. ولهذا كان الإيمان بما يبثه من سكينة في النفس خير علاج للجلد وخير حافظ له.

قلت: أنت في حصون العافية تصف الإيمان علاجا لهذه الحالات.. فما يصف غيرك ممن لم يتشرف بالانتساب لهذا المستشفى؟

قال: كل من عرف الإيمان، فإنه لا يجد علاجا أفضل منه، ولكن من لم يعرفه ينصح عادة بالابتعاد عن مصادر القلق والتوتر والتخلي عن الطموحات والتطلعات غير الواقعية حتي يتجنب المصاب الضغوط النفسية الزائدة.

قلت: ومشاعر الرضا والتفاؤل..

قال: نعم.. وهي لا تقي من الأمراض الجلدية، فحسب، بل إنها تقي من كل أمراض العصر التي تثبت أن العوامل النفسية تكان تكون السبب الرئيسي وراء حدوثها.

الجلد والجمال:

قال آخر: أما أنا، فسأحدثكم عن الجلد والجمال.

قلت: الجلد هو  مظهر الجمال والدمامة.. ولولا الجلد ما تميز جميل عن دميم، ولا أبيض عن أسود.

قال: لقد ابتلانا الله بالألوان ليرى تواضعنا وتكبرنا.. ويرى هل نقتنع بالأقنعة أم نبحث عن اللباب؟

قلت: ولكن الألوان تؤثر في نفوس أصحابها، وهناك المعقدون الذين لم يجرهم إلى العقد إلا ألوان جلودهم، وأشكال جسومهم.

قال: وقد عالج القرآن الكريم هؤلاء المرضى علاجا نفسيا عميقا.. وحل بذلك المشكلة التي يغرق فيها قومك.

قلت: كيف ذلك؟

قال: لقد أخبر الله تعالى أن الجمال جمال الروح، فالله لا ينظر إلى الأجساد، ولكنه ينظر إلى القلوب.

قلت: هم يعرفون هذا، ولكنهم مع ذلك يحزنون.

قال: ألا يتعلمون أن الحزن عدو السلام؟

قلت: هم يعلمون.. ولكنهم لا يجدون إلا أن يحزنوا.

قال: فبشرهم.

قلت: بم؟

قال: بأن ألوانهم بأيديهم يمكن أن يصيغوها كما يشاءون.

قلت: كيف؟ فألوانهم صورها المصور.

قال: ولكن الله تعالى جعل لهم في هذه الدار حرية اختيار اللون الذي يتلونون به في دار القرار.

قلت: كيف ذلك؟

قال: لقد ذكر الله تعالى ألوان الوجوه وهيآتها في الآخرة ليختار كل امرئ ما يشاء من الألوان والهيئات.

قلت: فصل لي ذلك، واملأني به.

قال: لقد تكرر في القرآن الكريم في آيات مختلفة منه أوصاف وجوه المؤمنين ووجوه الكافرين جامعا بينهما، أو مفردا أحدهما عن الآخر، ألم تسمع قوله تعالى في وصف وجوه الذين كذبوا على الله: { وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ}(الزمر:60)؟

بل شبه سواد وجوههم بقطع الليل المظلم،فقال تعالى:{ وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنْ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنْ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أو لَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (يونس:27)

والسواد في الآخرة ليس سوادا طبيعيا، قد يتأقلم معه صاحبه، بل هو  سواد الحزن الدائم والهم المقيم، قال تعالى: { وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ تَرْهَقُهَا قَتَرَة} (عبس:40، 41)

وقال تعالى يبين هذا اللون النفسي الذي يغشى وجوه أهل النار: {وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ} (القيامة:24)، أي كالحة عابسة كئيبة.

ويبين بشاعة منظرهم وشفاههم التي كانوا يتفننون في تمطيطها في الدنيا، وملئها بالسخرية من خلق الله، وكيف يئول مصيرها بقوله تعالى { تَلْفَحُ وُجُوهَهُمْ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ} (المؤمنون:104) والكلوح هو  تقلص الشفتين عن الأسنان.

قلت: هذه وجوه قبيحة.. نعوذ بالله منها.

قال: وعلى عكسها وجوه المؤمنين يوم القيامة فهي وجوه مستنيرة مسفرة ناضرة، ولو كانت في الدنيا سوداء كالحة مظلمة، قال تعالى في وصف وجوه المؤمنين:{ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ} (المطففين:24)، فهي نضرة حسية تنبئ عن رضى نفسي عميق.

وكل أو صاف القرآن لوجوه المؤمنين في الجنة يقترن فيها الحسن الحسي بالرضا والجمال النفسي، قال تعالى:{ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ}(عبس:39)، وقال تعالى:{ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ}(القيامة:22)، وقال تعالى: { لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أو لَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}(يونس:26)

قلت: ما أجمل ما يعالج به القرآن الكريم العقد النفسية.

قال: أجل.. فالقرآن الكريم يجعل المؤمن غير مبال بلونه الدنيوي، ولا هيئته الدنيوية، بل يرفع عنه رداء الكبر بهما، أو الفخر والتطاول بهما على الخلق، ويجعل فرحه ـ إن فرح بهما ـ فرح المستشعر بفضل الله عليه، وهو فرح يسلب عنه كل ما يسيء إلى غيره أو يسيء إلى نفسه، ولهذا كان صلى الله عليه وآله وسلم يقول في دعائه: (اللهم أحسنت خلقي فأحسن خلقي)

قلت: في هذا الدعاء أدب عظيم منه صلى الله عليه وآله وسلم،حيث قدم شكر الله على الطلب، وشكر الله على ما منه وما لا يمكن تغييره، وسأل الله توفيقه لما طلب منه.

قال: هذا الدعاء الذي ورثناه منه صلى الله عليه وآله وسلم  يختصر في إيجاز موقف المؤمن من جسده، فهو نعمة بأي صورة كان، والمؤمن غير مطالب بتغييره، بل هو  مطالب بالرضى به وحمد الله عليه وعدم الإعجاب بأي حسن قد يصرفه عن حقيقته أو وظيفته في هذا الوجود، فكل من فرح بغير الله سيحزن، وكل من رضي بغير الله سيسخط، وكل من نسي الله سينسى نفسه وحقيقته وسيختصر وجوده في قالب طيني سرعان ما يعود إلى أصله،قال تعالى:{ وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أو لَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ}(الحشر:19)

قلت: ولكن الغارقين في أوحال أجسامهم يأبون هذا.

قال: ولذلك يسقطون في شباك تجار الجلود.

قلت: تجار الجلود.

قال: أجل.. أولئك الذين يصنعون المساحيق ومستحضرات التجميل، فالجلود عندهم مناجم ذهب.

قلت: مناجم ذهب !؟

قال: أجل.. فملايين الناس يقعون ضحايا لهذه الصناعات التي لا تزيدهم إلى دمامة.

قاطعنا بعض الحاضرين، وقال بصوت مملوء حزنا: أنا مجرم من مجرمي الإرهاب الجلدي، وقد تبت إلى الله، وقد جعلت لله علي أن لا أدع مجلسا إلا حذرت من سوء أفعالي.

قلت: وماذا فعلت؟.. ومن قتلت؟.. ولم؟

قال: كنت أعمل في شركة من الشركات الكبرى المختصة بمستحضرات التجميل.. ولم نكن نعرف من هذا الجلد الذي وهبه الله نعمة لخلقه سوى ما يعرف الفلاح من أرضه حين يقلبها ويسمدها ويزرعها لتنبت له ما يشاء من الغلال.

كنا نتاجر بالجلود.. وهي تجارة لا تختلف عن تجارة الرقيق..

قال هذا، ثم أجهش بالبكاء، فبادرته الجماعة قائلة: ألا تعلم أن التوبة تجب ما قبلها.. وقد تبت إلى الله؟

قال: كيف تقول ذلك، وقد قتلت المئات، بل الآلاف.. بل إني لا أحصي عدد من ساهمت في تشويههم.

قلت: لعلك تبالغ ـ يا رجل ـ فحدثنا عن شأنك.

قال: كنت موظفا خطيرا في شركة (….) لمستحضرات التجميل، وكانت وظيفتي في هذه الشركة تشبه وظيفة المهندس الفلاحي.. وقد كانت مزرعتي التي أجري عليها تجاربي هي جلود الناعمات..

قلت: فماذا كنت تفعل؟

قال: لم أكن أبالي من أي مادة أحضر مستحضراتي.. ولم أكن أبالي بالآثار الصحية التي تحدثها تلك المواد.. بل كانت همتي لا تتعدى ما يمليه علي رؤسائي.. وهي الألوان البراقة المغرية.. كانت المرأة بالنسبة لي دمية أتفنن في تزيينها وعرضها من غير أن أعرف لذلك علة ولا سببا.. وكان النساء يتهافتن على ما نعرضه من سلع.. ولا يبالين بشيء.

قلت: ولكنك لست وحدك في هذا، فلولا الإعلانات التي تساهم فيها وسائل الإعلام ما استطعتم أن تعملوا شيئا.

قال: أجل.. وهي وسائل إعلام شرهة، تعلم ما تقول الدراسات العلمية عن المستحضرات التي نعدها، ولكنها مع ذلك تحاول التكتم عليها لتبقى محافظة على ما تدره عليها إعلاناتنا من أموال.

قلت: الدراسات العلمية !؟.. وما علاقة الدراسات العلمية بهذا؟

قال: لقد كشفت الدراسات العلمية سر ألاعيبنا، والمخاطر التي تحتوي عليها المواد التي نصنعها، وكيفية تصنيعنا لها.

قلت: فاذكر لنا ما تقول هذه الدراسات.

قال: إذن لن تخرج من هنا.

قلت: فحدثنا من الأمثلة عنها ما تطمئن به قلوبنا، ونعلم أن قد صدقتنا.

قال: مما ذكرته الدراسات في هذا أن تخزين هذه المستحضرات يسهم بقدر كبير في تسلل الميكروبات إلى البشرة، حيث إن بعضها يتعرض أثناء التخزين لتحليل المكونات الدهنية، وبالتالي إلى التعفن، وهوما يسهم في أن تكون البشرة أرضا خصبة لنمو الميكروبات والإصابة بالحساسية وانتشار البقع وغير ذلك.

ويرى العلماء أنه فيما يختص بالبودرة وأحمر الشفاه، فإن فترة تخزين هذه النوعيات لا يجب أن تتعدى ثلاث سنوات، أما المستحضرات التي تختص بالعين فلا يجب أن تزيد فترة تخزينها على ثلاثة أو أربعة أشهر نظرا لحساسية العين، وهنا ينصح الأطباء بعدم استخدام الماسكرا إذا ما جفت، وعدم تخفيفها بإضافة الماء، لأن ذلك يعمل على تلوثها وتساقط الرموش.

قلت: ولكن المرأة يمكن أن تشتري مستحضرات تجميل جديدة، فتتفادى هذا الخطر.

قال: قد تتفادى هذا الخطر لتقع في غيره.

قلت: وما غيره؟.. وهل هناك غيره؟

قال: ألم أقل لك: لوجنحنا إلى التفصيل، فلن تخرج.

قلت: فاذكر لي بعض غيره.

قال: من ذلك ما ذكره المختصون من خطر هذه المستحضرات على الإنجاب، فقد حذروا من استخدام أنواع معينة من العطور وطلاء الأظفار وبخاخات تثبيت الشعر، التي تحتوي على مادة كيماوية تسبب اعتلالات في الخصوبة.

وأوضحوا فى نشرة أصدرتها مجموعة العمل البيئي في واشنطن من أن على النساء في سن الإنجاب تجنب استخدام مستحضرات التجميل التي تحتوي على مادة (داي بيوتيل فثاليت)، وهي عبارة عن مركب كيماوي صناعي، استخدم سابقاً كمليّن بلاستيكي، ومذيب عضوي في العديد من المنتجات لأكثر من مائة عام، وتوجد أيضاً في ألعاب الأطفال والمنظفات الكمياوية ومواد تعليب الطعام وغيرها.

وقال هؤلاء الخبراء: إن هذا التحذير مبني على نتائج دراسة حديثة أجرتها المراكز الامريكية للوقاية والسيطرة على المرض، أكدت وجود مستويات عالية من هذا المركب الأيضي بين النساء في سن الإنجاب، مما يدل على أن التعرض لمركبات (فثاليت) أكثر شيوعاً مما كان يعتقد سابقاً.

ويرى الباحثون أن المستويات العالية من هذه المواد عند النساء في سن الإنجاب يرجع إلى استخدام مستحضرات التجميل مثل العطور وطلاء الأظفار وبخاخات الشعر، إذ يؤدي الاستخدام الطويل لهذه المنتجات بين النساء بشكل عام، إلى استنشاق وامتصاص هذه المادة الكيماوية عبر الرئتين([27]).

قلت: لا بأس.. فهذا على الأقل سيحدد نسلنا.. فنحن ننتشر في الأرض كما ينتشر الذباب.. ويوشك أن تضيق الأرض بنا كما ضاقت قبلنا بالديناصور.

قال: لن أناقشك في هذا.. ولكني سأذكر لك مثالا واحدا لن تنبس بعده ببنت شفة.

قلت: فما هذا المثال؟

قال: عندما ظهر جنون البقر حذرت هيئات طبية كثيرة من احتواء مستحضرات التجميل على مسببات جنون البقر، فيما لوكانت الحيوانات المصنعة منها هذه المواد حاملة للمرض.

وقد نشرت السلطات الأمريكية تحذيرات عدة، بعضها على الإنترنت، تدعو فيه الأمريكيين إلى عدم استخدام مستحضرات التجميل المصنعة في أوروبا، لأن احتمال انتقال مرض جنون البقر من خلال هذه المستحضرات وارد جداً كما قالت.

قلت: وعلماؤنا.. ألم يعرفوا هذا؟ ألم ينشروا تحذيرات من هذا؟

قال: بلى حذروا.. ولكن قل من يسمعهم.. فقد أكد علماء مصريون هذه الحقيقة الخطيرة، وأصدرت النقابة العامة للأطباء البيطريين قبل أسابيع تقريراً خطيراً، نصحت من خلاله المصريين، بعدم استعمال مساحيق ومستحضرات التجميل، والأدوية الواردة من أو روبا، والمجهزة من منتجات حيوانية! وقالت النقابة في تقريرها إن هذه المواد يمكنها أن تنقل مرض جنون البقر.

قلت: فما مستحضرات التجميل التي مسها هذا التحذير؟

قال: كل مستحضرات التجميل التي تدخل في تصنيعها الشحوم الحيوانية مثل أحمر الشفاه، وكريمات تفتيح البشرة، وكريمات الشعر التي يدخل في تصنيعها الجيلاتين الحيواني([28]).

قلت: الحمد لله.. فقد كان هذا المرض محصورا.. ولعله قد مات في مهده.

قال: ومن قال بأنه محصور.. لقد حذَّرت منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة (فاو) من أن الأبقار في أكثر من 100بلد في العالم، ربما كانت قد تعرَّضت للإصابة بمرض جنون البقر، المعروف علمياً باسم مرض التهاب الدماغ البقري ذي الشكل الإسفنجي (بي إس إي).

وقالت: إن هذا المرض المهلك الذي يصيب الدماغ قضى على ما يقرب من 180 ألف رأس من البقر، وبسببه أيضاً مات أكثر من 80 من البشر منذ أن تم التوصل إلى تشخيصه في بريطانيا عام 1985م.

وقال تقرير المنظمة: إن هناك قلقاً حقيقياً من انتشار المرض في أوروبا الشرقية والشرق الأوسط وآسيا، خصوصاً بعدما قامت الدول التي لديها المرض بتصدير أمصال، ولقاحات، وربما لحوم وغيرها لهذه الدول.

وقد صدَّرت بريطانيا كميات كبيرة من أعلاف الحيوانات التي ربما كانت ملوثة، بعد أن تم منع استهلاكها محلياً عام 1986م، كما صدَّرت لقاحات وأمصالا.

قلت: ومع ذلك.. فإن هذه التحذيرات الشديدة قد ساهمت في قتله في مهده، أو القضاء على أكثر أخطاره.

قال: فنلفرض ذلك.. ألا يحتمل أن يظهر جنون الماعز؟

قلت: جنون الماعز !؟.. وما جنون الماعز؟

قال: أتحسب البقر وحده يجن؟.. فقد يجن الماعز والدجاج والأرانب.. إن الحضارة التي تعيش فيها تتقن صناعة الجنون.

قلت: وجنون البشر !؟

قال: ذلك أخطر من جنون البقر.. ألا تعلم أنه مع كل التحذيرات التي لا يتوانى الأطباء من التصريح بها والتلميح إلا أن نصف البشر لا يبالي بالأطباء.. ولا يسمع إلا لدواعي الجنون التي تنشرها الحضارة.. قد كشفت المناقشات التي دارت في مصر حول هذا الأمر، أن جنون البشر وخصوصاً النساء، فاق كل التصورات، حيث تستورد الدول العربية مستحضرات تجميل بأرقام مخيفة، فمثلاً اقتربت قيمة واردات مصر من مستحضرات التجميل فقط من مليار جنيه مصري (نحو385 مليون دولار) خلال عام 2000م، بخلاف ما تم تهريبه من المستحضرات ذاتها، والذي تقترب قيمته من المبلغ نفسه، وهوما يعني أن مصر وحدها تستهلك أكثر من 700 مليون دولار سنوياً مستحضرات تجميل مستوردة!!.

وإذا كان هذا هو  حال مصر، فكم تصرف بقية الدول العربية والإسلامية على هذه المساحيق التي تأكد أنها تسبب جنون البشر قبل أن يصابوا بجنون البقر؟!.

التفت للمعلم، وقلت: فما ترى ـ يا معلم ـ  في هذه المستحضرات.. هل تنصح العلماء بالإفتاء بتحريمها؟

قال: لقد أفتوا بحرمة ما هو  أقل منها خطرا وإضرارا، فكيف لا يفتون بتحريمها، وهي لا تحوي مفسدة واحدة.. بل مفاسدها لا تنحصر.. ولكنهم مساكين لا يملكون من أمرهم شيئا.. ولا تملك فتاواهم شيئا.

قلت: فمن يملك؟

قال: من ملكه الله.

قلت: الحكام؟

قال: الحكام والأغنياء والأطباء.

قلت: فبم تأمر الحكام؟

قال: بسن القوانين التي تحمي جلود الرعية وتحفظ أموالها.

قلت: فبم تأمر الأغنياء؟

قال: بأن يطهروا أموالهم من ربا الجلود، فهو أخطر من ربا النسيئة.

قلت: فبم تأمر الأطباء؟

قال: بالتوعية والتعليم، والبحث في البدائل التي تغني عن هذه النجاسات.

قلت: فما البدائل الشرعية؟

رفع أحد الحاضرين صوته، وقال: أنا لها.. أنا لها، فاسألوني عنها، فإني بها خبير.. وقد هداني الله إلى بدائل تغني النساء عن كل مستحضر.

قالوا: ما شاء الله.. بورك لك في هذا العلم.. من أي أهل العلم حصلته؟

قال: حصلته من خزانة البديع.. ومن رجل من أهلها اسمه (عبد البديع)، وقد طوفت معه في الآفاق، وتجولت في خلايا الأزهار والخضر والحقول.. فرأيت من بدائع البدائل ما يغني النساء عن جنون كل بقر وماعز وأرنب.

قالوا: فصف لنا ما تعلمته مما نزين به نساءنا.

قال: ذلك يطول.. ولو استرسلت في وصف ما تعلمته ما خرجتم من هذا القسم.

قالوا: فصف لنا بعضه.

قال: أتعرفون الجزر؟

قالوا: ومن لا يعرفه، فهومن أرخص الخضر ثمنا.

قال: وهو من أغلى الخضر منافع.. وهو من أقدم الخضروات التي عرفها الإنسان، وأقبل على تناولها بعد أن أدرك‏ ما لها من فوائد صحية عظيمة.. وقد روى لي معلمي عبد البديع: أن الإغريق والرومان هم أو ل من أخبروا عن فوائد الجزر، فقد جاء ذلك‏ في كتاباتهم منذ نحو230 سنة قبل الميلاد.

قالوا: فما علاقته بالتجميل؟

قال: يعتبر الجزر من وسائل التجميل الأساسية، نظراً لأنه من أغنى النباتات بفيتامين (أ).. هذا الفيتامين الضروري لصحة وسلامة الجلد، ولذلك‏‏‏‏ ‏‏‏‏‏‏ فإنه يدخل في العديد من المستحضرات الطبيعية للعناية بالبشرة.

وقد ذكر لي معلمي أن تناول عصير الجزر الطازج بصفة منتظمة له أثر واضح كمضاد لبُقع وشوائب البشرة، ويعمل على تحسين لون البشرة وصفائها بوجه عام.. ولا تقتصر فوائد الجزر على البشرة فحسب، فهو غذاء مفيد كذلك لصحة الشعر والعينين لحاجتهما الضرورية لفيتامين (أ).

قالوا: ماشاء الله.. ما أعظم فضل الله علينا في هذا الجزر.

قال: والخيار لا يقل عنه شأنا، فهو زينة خيار النساء.

قالوا: وهو أرخص بكثير من مستحضرات التجميل التي يتفنن النساء في  التكرم عليها.

قال: وهو مع ذلك يتميز بفوائد صحية وجمالية عديدة كثيرا ما يغفل عنها..وقد أخبرني معلمي أنه له أثرا واضحا كقابض لمسام البشرة الواسعة، ولذلك فإنّه يدخل في عمل العديد من الأقنعة، بالإضافة إلى أنه يناسب تماماً ذوات البشرة الحساسة على وجه الخصوص.

وللخيار مفعول واضح في تبييض البشرة، والتخلص من الهالات الغامقة التي قد تظهر تحت العينين، والتخلص من البقع والشوائب التي قد تصيب الوجه.. وفي فترات الصيف، يستخدم عصير الخيار كغسول لعلاج حروق الشمس وترطيب البشرة.

قالوا: ما شاء الله.. بورك فيك.

قال: والخس.. أتعرفون الخس؟

قالوا: هو  سلطتنا التي نزين بها موائدنا، ونرطب بها أفواهنا.

قال: وهوكذلك سلطة جلودكم، فلذلك يدخل في تحضير العديد من مستحضرات التجميل، حيث يتميز بمفعول مرطِّب للبشرة، وبذلك يفيد في عمل طبقة عازلة تقي الجلد من حرارة الشمس وتأثير الرياح، ونظراً لثرائه بفيتامينات عديدة وخواصه ذات التأثير المنظف فإنه يدخل في تحضير العديد من مغذيّات الجلد ومنظفات الوجه.

وقد أخبرني معلمي أن له شهرة تاريخية كبيرة.. فقد أشاد قدماء المصريين بفوائده كغذاء مفيد.. كما أنّه كان من الأغذية الرئيسية للإغريق.

قالوا: ما شاء الله.. بورك في الخس، فما أكثر منافعه.

قال: والباطاطا.. أتعرفون البطاطا؟

قالوا: ومن لا يعرفها.. هي غذاؤنا الذي لا بد لنا منه.

قال: وهي غذاء ودواء للجلد.. فهي من أفضل المنظفات والمرطبات لذوات البشرة الحسّاسة.. بل إن لها أثراً في علاج الحساسية الجلدية بدهان الموضع المصاب بعصير البطاطس أو بعمل كمادات من شرائحها..

وهي تستخدم لعلاج حروق الشمس.. وذلك باستعمالها في صورة شرائح طازجة تستخدم ككمادات للعين.. ولها فوق ذلك تأثير في زوال التورّم الذي يظهر تحت العينين..

قالوا…. ! !

قال: والطماطم.. وقد كانت تسمى تفاح الحب (Love apple) وقد أخبرني معلمي أنّها عُرفت في أوروبا كغذاء نافع منذ القرن السادس عشر وانتشرت في أو ل الأمر في إيطاليا.

قالوا: هي من أرخص الخضر.. فبين لنا كيف نستعملها.

قال: من خصائص الطماطم الفريدة في مجال التجميل أنها تناسب البشرة شديدة الدهنية وكذلك البشرة شديدة الجفاف، ولذلك فهي كثيراً ما تستخدم في عمل الأقنعة.

وهي علاج مهم لمن يعاني اتساع المسام بجلده في الوجه أو بمناطق أُخرى مما يسيىء إلى منظر البشرة.. فإنه يمكن الاعتماد عليها لتضييق هذه المسام.. وذلك عن طري استعمالها في صورة شرائح أو عصير.

قالوا: ! !.. !

قال: المقدونس.. وما أدراك ما المقدونس.. فهو غسول ممتاز لشطف الشعر الغامق.. وهو مضاد لقشر الشعر.. كما يستخدم منقوع المقدونس في تنظيف البشرة الدهنية أو المصحوبة بظهور حب الشباب، لما له من أثر فعال في تخليص المسام من الدهون الزائدة والقاذورات المترسبة بها.

كما يعتبر منقوع المقدونس من أفضل ما يمكن استعماله كغسول أو كغرغرة للفم، وللتغلب على الروائح الكريهة والمنفرة لبعض المأكولات (كالثوم) تُستخدم غرغرة المقدونس، أو يكتفى بمضغ بضعة أعواد من المقدونس.

قالوا:.. !

قال: والنعناع.. لقد اخبرني معلمي أن أو ل من عرفه قدماء المصريين، كما استعمله الإغريق والرومان.. وكان يستخدم زيته في دهان الجسم.. ويضاف لحمامات الماء.. كما استخدم كمادة عطرية.

وللنعناع فوائد صحية وجمالية عديدة، فهو يستخدم كمنقوع لعلاج اضطربات القولون، وكشراب مهدىء.. كما يستخدم هذا المنقوع البارد كغسول ومرّطب للبشرة، وله مفعول مقاوم للبقع وحبوب الوجه.. كما يستخدم النعناع في عمل الحمامات كمادة منعشة ومُجمِّلة للبشرة. ويعتبر زيت النعناع من أهم الزيوت العطرية التي تدخل في صناعة الروائح والصابون.

قالوا: ! !.. !

قال: والليمون.. وما أدراك ما الليمون.. فهو يستخدم في أغراض شتى.. فهو يستخدم كمادة قابضة للمسام، وبذلك يفيد ذوات البشرة الدهنية حيث تتعرض لترسب الدهون الزائدة وما يلتصق بها من قاذورات بمسام الجلد.. ولهذا الغرض تستعمل طبقة رقيقة من العصير في دهان الوجه، ثم تشطف بالماء الفاتر بعد أن تجف تماماً.. ويكرر هذا الدهان. كما يستخدم عصير الليمون كمضاد للنمش أو بُقع الوجه حيث يساعد على إخفائها.. ويستخدم كذلك لإزالة صُفرة الأسنان، بدعكها بالعصير بصفة متكررة.

قالوا: بورك فيك.. فزدنا مما علمك الله..

قال: سأختم لكم حديثي بخاتمة مسك.. أتعرفون الشجرة المباركة؟

قالوا: تلك التي قال الله عنها:{ وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ}(المؤمنون:20)

قال: أجل.

قالوا: عرفنا فوائدها الغذائية والصحية.. فهل لها فوائد جمالية؟

قال: كونها مباركة يدخلها في كل المجالات.

قالوا: فحدثنا عنها.

قال: زيت الزيتون من أفضل الزيوت النباتية لأغراض التجميل، فهو يمتاز بقدرته على امتصاص أشعة الشمس الضارة (الأشعة فوق البنفسجية) ولذا يستعمل كمستحضر واق من أشعة الشمس.. ويستخدم كذلك في دهان الاظافر لعلاج التشققات.. ويستخدم في دهان الشعر لتقويته وتطريته خاصة إذا عُمل به حمام للشعر.. وذلك بدهان الشعر بالزيت، ثم لفّه بمنشفة دافئة لمدة نصف ساعة.

 كما يدخل زيت الزيتون في تركيب العديد من مستحضرات التجميل كالأقنعة، والكريمات، وكذلك يضاف لعمل الحمامات لتطرية الجلد وتغذيته.

قالوا: فزدنا زادكم الله علما.

قال: حسبكم في هذا اليوم ما استفدتموه.. فانصحوا نساءكم ورجالكم بزيارة الحقول واقتطاف ما فيها من مستحضرات التجميل.. وإياكم وتلك الصالونات التي صنعتها الشياطين لتفتك بجلودكم وأموالكم وأخلاقكم.

قال أحد الحاضرين: أتعلم يا معلم الجمال ما ذكرته الدراسات عن الأخطار التي يتعرض لها العاملون في هذه الصالونات؟

قال: وما قالت؟

قال: لقد ذكرت أن التعرض للإسبراي والرغوات يجعل العاملات في الصالونات التجميل أكثر عرضة للإصابة بنوع نادر السرطانات في الغدد اللعابية.

 وتؤكد د.ماري سوانسون مديرة مركز السرطان بجامعة فيتشجان أن العلاقة بين الإصابة بسرطانات الغدد اللعابية وبين العمل في صالونات التجميل عموماً كبيرة حيث تزيد الإصابة بين النساء العاملات في مجال التجميل عن العاملات هي المجالات الاخرى بنسبة 7/2 مرة فقد وجد الباحثون أن 7/2 من بين 79 أمرأة مريضة بسرطان الغدد اللعابية تعمل أو كانت تعمل في إحدى صالونات التجميل تتراوح الى ما يقرب من 8 سنوات.

قالوا: وما الأسباب التي أرجعت لها تلك الدراسات هذه الحالات.

قال: لأن هذه المهنة تقتضي التعرض لاستنشاق الكيمياويات والرغوات والإسيراي، فتتأثر العدد اللعابية لديهم نتيجة لاستنشاق تلك المواد المسببة للسرطان، ولا تزال الأبحاث مستمرة للتوصل الى معرفة ماهية المواد الكيمائية التي تتسبب هذه الأورام من بين المواد العديدة المستخدمة في تلك الأماكن.

قال المعلم: هذه سنة الله في التعامل مع أمثال هؤلاء.. وما هذه الرغوات إلا جند من جند الله.

قلت: فإن اكتشفوا علاجها.

قال: جاءهم من جند الله من يقوم مقامها حتى يرجعوا، ألم يقل الله تعالى:{ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ}(الأعراف:133)

قلت: ولم لا يرسل عليهم العذاب دفعة واحدة؟

قال: إن الله تعالى بلطفه لا ينزل بلاءه الذي يربي به عباده دفعة واحدة، بل يرسله دفعات مختلفة حتى ينتبهوا ويتأدبوا.. ألم تقرأ ما ورد في تفسير تلك الآيات؟

قلت: بلى.. فقد روي عن ابن عباس قال: لما أتى موسى u فرعون قال له: أرسل معي بني إسرائيل، فأرسل اللّه عليهم الطوفان وهوالمطر، فصب عليهم منه شيئاً خافوا أن يكون عذاباً، فقالوا لموسى: ادع لنا ربك يكشف عنا المطر فنؤمن لك ونرسل معك بني إسرائيل، فدعا ربه فلم يؤمنوا ولم يرسلوا معه بني إسرائيل، فأنبت لهم في تلك السنة شيئاً لم ينبته قبل ذلك من الزروع والثمار والكلأ، فقالوا: هذا ما كنا نتمنى، فأرسل اللّه عليهم الجراد فسلّطه على الكلأ، فلما رأوا أثره في الكلأ عرفوا أنه لا يبقي الزرع، فقالوا: يا موسى ادع لنا ربك فيكشف عنا الجراد فنؤمن لك ونرسل معك بني إسرائيل، فدعا ربه فكشف عنهم الجراد، فلم يؤمنوا ولم يرسلوا معه بني إسرائيل، فداسوا وأحرزوا في البيوت فقالوا قد أحرزنا، فأرسل اللّه عليهم القمل وهو(السوس) الذي يخرج منه، فكان الرجل يخرج عشرة أجربة إلى الرحى فلا يرد منها إلا ثلاثة أقفزة، فقالوا: يا موسى ادع لنا ربك يكشف عنا القمل فنؤمن لك ونرسل معك بني إسرائيل، فبينما هو  جالس عند فرعون إذ سمع نقيق ضفدع، فقال لفرعون: ما تلقى أنت وقومك من هذا؟ فقال: وما عسى أن يكون كيد هذا؟ فما أمسوا حتى كان الرجل يجلس إلى ذقنه في الضفادع، ويهم أن يتكلم فيثب الضفدع في فيه، فقالوا لموسى: ادع لنا ربك يكشف عنا هذه الضفادع فنؤمن لك ونرسل معك بني إسرائيل، فدعا ربه فكشف عنهم فلم يؤمنوا، وأرسل اللّه عليهم الدم فكانوا ما استقوا من الأنهار والآبار وما كان في أو عيتهم وجدوه دماً عبيطاً، فشكوا إلى فرعون فقالوا: إنا قد ابتلينا بالدم وليس لنا شراب، فقال: إنه قد سحركم، فقالوا: من أين سحرنا ونحن لا نجد في أو عيتنا شيئاً من الماء إلا وجدناه دماً عبيطاً؟ فأتوه وقالوا: يا موسى ادع لنا ربك يكشف عنا هذا الدم فنؤمن لك ونرسل معك بني إسرائيل، فدعا ربه فكشف عنهم فلم يؤمنوا ولم يرسلوا معه بني إسرائيل.

قام أحد الحاضرين، وقد كان من أغرب من رأيت في ذلك المستشفى، فقد كان مكسو الجلد بغابة كثيفة تمتلئ نمورا وأسودا، فقال: من عرفني، فقد عرفني، ومن لم يعرفني، فسأعرفه بنفسي، فقد جعلت من توبتي لله أن أحذر مما حاق بي.

قال أحد الحاضرين: استر ما ستر الله.. فالله عفو غفور.

قال: آمنت بالله.. ولكني آليت أن لا أدع مسلما من نصيحتي.

قلت: فمن أنت؟ وما قصتك؟

قال: كنت من عبدة الشياطين، وكان من أركان ديننا أن نتعبد لإبليس بتعذيب جلودنا.. نقهرها كما لا يقهر العدو عدوه.

ثم كشف لنا عن ظهره، فإذا به قد امتلأ ندوبا، فصحت: ما هذا؟

قال: إنه الوشم الذي حذر منه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، بل لعن فاعله، ألم تسمع ما ورد في الحديث عن عَائِشَةَ  أنها قالت: نَهَى رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وآله وسلم عَنِ الْوَاشِمَةِ وَالْمُسْتَوْشِمَةِ وَالْوَاصِلَةِ وَالْمُسْتَوْصِلَةِ وَالنّامِصَةِ وَالْمُتَنَمّصَةِ)([29])  

قلت: بلى.. فلم خالفت هذا الحديث؟

قال: الشيطان الذي قال:{ وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ }(النساء:119) هو  الذي سول لي هذا..

قلت: فكيف اتبعته في هذا من دون خلق الله.

قال: ومن قال بأنني اتبعته وحدي.. إن خلقا كثيرا اتبعوه في هذا([30]).. وقد عرفت أن قدماء المصريين كانوا يعتقدون أنه يشفي من الأمراض وأنه يدفع العين والحسد.. وأنه نوع من افتداء النفس، فقد كان من تقاليد فداء النفس للآلهة أو الكهنة أو السحرة الذين ينوبون عنها قديماً أن الشاب أو الرجل تتطلب منه الظروف في مناسبات  خاصة أن يعرض  جسمه لأنواع من التشريط والكي على سبيل الفداء، ولتكسبه آثار الجروح مناعة، وتجلب له الخير.

بل ذكرت الإحصائيات أنه من 5-9  بالمائة من النصارى والمسلمين يستوشمون، رغم تحريم الديانتـين للوشم..

قلت: تحريم الديانتين !؟

قال: أجل.. فالإسلام تشدد في تحريمه، ولعن فاعلية، أما النصرانية ـ هدى الله أهلها إلى الدين الحق ـ فقد حرمته منذ  مجمع نيقية، ثم حرمه المجمع الديني السابع  تحريمـًا مطلقًا باعتباره من العادات الوثنية.

بل تنبهت كثير من الدول التي تحترم شعوبها إلى ضرره فتم تحريمه، فقد تقدم مارتن مادون عام 1969 بمشروع قانون بتحـريم الوشم رسميـًا في انجلترا، وأصدرت الحكومة اليابانية عام 1870 مرسومًا يحرم الوشم.

قلت: فلم اجتمعت كل هذه الجيوش على تحريمه؟

قال: سأضرب لك مثالا عن مخاطر الوشم فيه الغنية([31])، لقد حذرت اللجنة الأوروبية من أن هواة رسم الوشوم على أجسامهم يحقنون جلودهم بمواد كيمياوية سامة بسبب الجهل السائد بالمواد المستخدمة في صبغات الوشم.

وقالت: إن غالبية الكيمياويات المستخدمة في الوشم هي صبغات صناعية، صنعت في الأصل لأغراض أخرى مثل طلاء السيارات أو أحبار الكتابة، وليس هناك على الإطلاق بيانات تدعم استخدامها بأمان في الوشم أو أن مثل هذه البيانات تكون شحيحة.

وقد سألت اللجنة في بيان مصاحب لتقرير عن المخاطر الصحية للوشم وثقب الجسم:(هل ترضى بحقن جلدك بطلاء السيارات؟) 

وقال التقرير: إنه ـ إضافة إلى مخاطر العدوى بأمراض مثل فيروس إتش.آي.في المسبب للإيدز والتهاب الكبد أو الإصابات البكتيرية الناجمة عن تلوث الإبر ـ فإن الوشم يمكن أن يتسبب في الإصابة بسرطان الجلد والصدفية وعرض الصدمة الناتج عن الالتهاب الحاد بسبب التسمم أو حتى تغيرات سلوكية.

قلت: فما قصة توبتك، فقد شوقتنا؟

قال: ذلك سر من أسرار الطهارة.. ستعرفه عند رحلتك إلى (عيون الطهارة)

قام أحدهم، وقال: أما أنا.. فأحدثكم عن سر توبتي.. لقد كنت من الشطار.. وكنت لا أرحم امرأة ولا رجلا.. ولا بيتا ولا بنكا إلى أن ابتلاني الله بحريق التهم كل ما جمعته.. وليته اقتصر على ذلك.. بل راح إلى جلدي ينهش منه ما ينهش.. ولم يبق منه إلا صبابة أتبلغ بها.

ثم كشف لنا عن ظهره ما روعنا، وقال: هذا أثر الحريق.. فهل رأيتموه؟

قلت: رأيناه.. فلا تحزن، فسيبدلك الله خيرا منه في الجنة.

قال: إني أنظر إليه كل صباح.. وأحمد الله كلما رأيته.

شدهوا متعجبين، فقال: لا تعجبوا.. فهذا هو  الواقع.. فقد كان هذا الحريق حصنا حماني الله به من حريق جهنم.. لقد ذقت من ألم هذا الحريق ما أسمع بصيرتي قوله تعالى:{ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَاراً كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزاً حَكِيماً}(النساء:56)

قالوا: فأنت تعرف تفسير هذه الآية إذن.

قال: أنا خبير فيها.. ومختص في تفسيرها، وقد هداني الله من حقائقها ما جعلني أقف على بابه وقفة المنيب التائب.

قالوا: فاذكر لنا حقائقها لنسمع أسرارها.

قال: لا طاقة لي بذلك.. فكلام الله لا يحاط به..

قالو: فاذكر لنا بعض ما سمعت.

قال: أما ذلك فنعم، لقد سمعتم من إخواني بأن الجلد هو  العضو الأكثر إحساسا بالألم، فلا يوجد عضوآخر له هذه الميزة حتى الدماغ.

قالوا: فما سر ذلك([32]

قال: توجد في بشرة الانسان خلايا حسية كثيرة مختلفة الشكل والوظيفة، وهي متخصصة لاستقبال أنواع معنية من الاحساسات، فبعضها يحس بالحرارة، وبعضها يحس بالبرودة، وبعضها يحس باللمس والضغط، وبعضها يحس بالألم.

وقد أشار القرآن الكريم إلى وجود أعضاء الحس الخاصة بالألم في جلد الانسان، وذلك في الآية التي كانت سبب توبتي.

قالوا: فبين لنا وجه الإعجاز في الآية.

قال: الآية الكريمة توحي إلى أن السبب في تبديل الله جلود الكافرين المحترقة بغيرها هو أن يذوقوا أشد العذاب طيلة وجودهم في النار.

قالوا: هذا واضح.. ولكن ما السر العلمي لذلك؟

قال: تعلقي بالآية.. وكونها سبب هدايتي جعلني أبحث في هذا.. وقد علمني معلم التشريح ـ الذي هو  جندي من جنود الهداية ـ بأن الجلد عضو غني بالألياف العصبية التي تقوم باستقبال ونقل جميع أنواع الحس من المحيط الخارجي، وذلك إما عن طريق النهايات العصبية الحرة، أو المعمدة.

وهي توجد في جميع طبقات الجلد من البشرة والأدمة والنسيج تحت الأدمة، وهي تنقل حس الألم والحرارة والضغط والبرودة وحس اللمس، وهناك نهايات عصبية ذات وظيفة إفرازية ومنظمة تعصب غدد الجلد والجريبة الشعرية والأوعية الدموية.

والجلد عندما يتعرض للحرق يؤدي ذلك للأحساس بألم شديد جداً لأن النار تنبه مستقبلات الألم، والتي هي النهايات العصبية الحرة، كما ينبه ـ إضافة لذلك ـ مستقبلات الحرارة، والتي هي جسيمات توجد في الأدمة وتحت الأدمة،  وتكون آلام الحرق على أشدها عندما يبلغ الحرق النسيج تحت الأدمة، ويسمى بالحرق من الدرجة الثالثة، وإذا امتد الحرق للأنسجة تحت الجلد يصبح الألم أخف، لأن هذه الأنسجة أقل حساسية للألم.

وهكذا أشارت الآية القرآنية إلى أكثر أعضاء الجسم غنى بمستقبلات الألم هو  الجلد، كما أن الحروق هي أشد المنبهات الأليمة.

قالوا: هذه إشارة واضحة دقيقة.. وسر الإعجاز فيها لا يحتاج أي تكلف.

قال: ويزيده توضيحا وتأكيدا قوله تعالى:{ مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفّىً وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هو  خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ}(محمد:15)

قالوا: هذه الآية تذكر بعض نعيم الجنة، وبعض عذاب النار، فما علاقتها بذلك؟

قال: علاقتها تأكيد ما ذكرناه.

قالوا: كيف؟

قال: عندما ذكر الله تعالى الأمعاء قال:{ فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ }، ولم يقل:(فبدل أمعاءهم).. لأن الأمعاء خالية من الأعصاب الحسية، فإذا أدخلنا ناظورا داخل الجهاز الهضمي لا يشعر الإنسان بأي ألم، فقط ألم البلعوم أثناء دخول الناظور، وما عدا ذلك لا يشعر المريض بأي ألم بالأمعاء.

قالوا: فلم قال:{ فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ }؟

قال: المريض يشعر عندما تكون عنده ثقوب في الأمعاء كقرحة منثقبة، لذلك قال:{ فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ }، فانظروا إلى التعبير الدقيق البليغ.

قالوا: فما سر وصف عذاب الأمعاء بالتقطيع؟

قال: لأن الأمعاء خالية من الإحساس، والأعصاب موجودة في الغشاء البريتوني، فعندما يحدث انثقاب في الأمعاء يحصل الألم الشديد، ولذلك نجد المريض الذي يُصاب بانثقاب في الجهاز الهضمي يُصاب بألم شديد، وتصبح بطنه في حالة تُسمى Board Like rigidity مثل اللوح، وهي حالة جراحية طارئة يجب أن تجرى له عملية فورية، لأن محتويات الأمعاء خرجت إلى البريتون، والبريتون توجد فيه نهاية الأعصاب والإحساس، فيشعر بألم شديد فتتوتر بطنه.

قالوا: ما شاء الله.. فهذه الآية تحوي معجزة أخرى.

قال: وهناك آية أخرى تؤكد كل هذا.

قالوا: فما هي؟

قال: ألا ترون من رحمة الله بالمتألم أن يفقد وعيه؟

قالوا: أجل.

قال: فلهذا كان من عذاب أهل النار أنهم كما وصف القرآن الكريم {  لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا}(فاطر:36)، فالقصد من العذاب هو الألم، وليس الإهلاك، ولهذا ذكر القرآن الكريم في الآيتين السابقتين قصر العذاب على مواطن الألم.

قالوا: ما شاء الله.. وبورك لك في توبتك.. فقد جعلتك من أهل القرآن الكريم، وأهل القرآن الكريم هم أهل الله.

تقدم أحدهم ليتكلم.. قال: أما أنا..

جذب المعلم بيدي، وقال: هيا بنا إلى نافذة أخرى.. فلو بقينا مع هؤلاء، فلن نخرج.

الاستبصار

اقتربنا من النافذة السادسة من نوافذ الاتصال، وقد علق عليها قوله تعالى:{ وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا } (الشمس:8)

وبمجرد أن اقتربت منها أحسست بمراء كثيرة تدعوني لرؤيتها، وأصوات غريبة تدعوني لسماعها، فقلت للمعلم: ما هذا؟ ما الذي يجذبني إليه.. إني أكاد أختطف من نفسي.

قال: فهل تجد لذة لانجذابك أم ألما؟

قلت: بل أجد نوعا من اللذة.. ولكنه يختلف عن سائر ما أعرفه من اللذات.

قال: فقرب لي صورة ما تستشعره لأعرفك به.

قلت: هو  شيء قريب من الرؤية.. ولكنها رؤية لا تحتاج إلى عيني.. لا.. بل هو  قريب من الصوت.. وهو صوت لا يحتاج إلى أذني.

قال: فتلك نافذة أخرى من نوافذ ذاتك تصلك بالعوالم التي لا يراها بصرك، ولا تسمعها أذنك.

قلت: أليس هي من الحواس الخمس.. فإني لا أعرف من الحواس إلا هذه الخمس؟

قال: لا.. الحواس الخمس حواس المحجوبين.. وهي لا تختلف عن حواس الحمير والكلاب.. ولكن هذه الحاسة حاسة الروح المجردة.. وهي أعظم من كل الحواس التي عرفتها.

قلت: ولم؟

قال: لأن علاقتها بأصلك.. لا بالدابة التي تمتطيها.

قلت: فقرب لي صورة ما تقول، فإني لا أكاد أفهم.

قال: سنرجع إلى السيارة وسائقها لتفهم حقيقة هذا..

قلت: نعم.. فمثال سيارة ييسر الفهم لي ولقومي.. آه.. ما أحلى مثال السيارة.

قال: ألم نتفق من قبل على أن هذا البدن هو  مطية للروح..

قلت: أجل.. وهو بذلك يشبه السيارة.. وسائقها يشبه روحه.

قال: وضوء السيارة يشبه عين البدن، وأصوات أجراسها تشبه اللسان..

قلت: وعين صاحبها وحواسه من تشبه؟

قال: تشبه هذه الحاسة التي نقف بجانبها.. حاسة الاستبصار.. وإن شئت سمها حاسة الاستسماع.

قلت: فهي أهم الحواس إذن؟

قال: أجل.. فقد يفقد الإنسان سمعه وبصره، ولكنه يظل يتمتع ببصيرته.

قلت: ألهذا ينفي القرآن الكريم السمع والبصر على من لم تكن له هذه الحاسة؟

قال: أجل.. لأنه إن ركب السيارة أعمى أصم يظل أعمى ولوأبصرت مصابيح سيارته أو سمعت.

قلت: فنعمة الله علينا بهذه الحاسة أعظم من سائر نعمه؟

قال: أجل.. ولتعرف سر ذلك أجبني: ما موقف النصوص المقدسة من العمى الحسي؟

قلت: لقد ورد في أحاديث كثيرة اعتبار العمى الحسي بلاء قد يجعل صاحبه ـ إن رضي وصبر ـ من أهل الجنة، فقد ورد في الحديث القدسي قوله صلى الله عليه وآله وسلم:(قال الله تعالى: إذا ابتليت عبدي بحبيبتيه ـ يريد عينيه ـ ثم صبر عوضته منهما الجنة)([33])

وفي حديث آخر، قال صلى الله عليه وآله وسلم:(إن الله تعالى يقول: إذا أخذت كريمتي عبدي في الدنيا لم يكن له جزاء عندي إلا الجنة)([34])

وفي حديث آخر يخبر صلى الله عليه وآله وسلم عن مغفرة الله لمن صبر على فقد عينيه، قال صلى الله عليه وآله وسلم:( لن يبتلى عبد بشيء أشد من الشرك، ولن يبتلى بشيء بعد الشرك أشد من ذهاب البصر، ولن يبتلى عبد بذهاب بصره فيصبر إلا غفر الله له)([35])

بل قد ورد في القرآن الكريم ما يشير إلى أن الأعمى حسيا أولى ـ في حال استعداده ـ من المبصرين، قال تعالى:{ عَبَسَ وَتَوَلَّى أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى } (عبس:1 ـ 2) الآيات.

قال: وما موقفها من عمى الروح؟

قلت: لقد ورد ذم عمى الروح بأبلغ صيغ الذم، قال تعالى:{ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أو آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} (الحج:46)

قال: وما موقفها من صمم الروح؟

قلت: لايختلف عن موقفها عن عماها، ألم تسمع قوله تعالى:{ وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ} (لأنفال:21)

قال: بل  أخبر الله تعالى أن آيات الله المبثوثة في كل شيء لا يسمع تراتيلها إلا من كانت له طاقة سمع الروح، قال تعالى:{ هو  الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} (يونس:67)، وقال تعالى:{ وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} (النحل:65)، وقال تعالى:{ أو لَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ أَفَلا يَسْمَعُونَ} (السجدة:26)

قلت: وعيت هذا وفهمته، ولكني لم أدرك سر وضع هذه النافذة في مستشفى.. فعهدي بالمستشفى يعالج الأجساد لا الأرواح.

قال: فإذا توقف صلاح الأجساد على الأرواح.. أو كانت جذور العلل في الأرواح أنكتفي بطلاء الأجساد بالمراهم، وترك الروح للجراثيم؟

قلت: لا.. فذلك نفاق.

قال: فلذلك تعمد مستشفيات النفاق إلى الأجساد.. أما مستشفيات السلام، فتنطلق من الأرواح لتصلح الأجساد.

قلت: فهل يصنع هذا المستشفى أجهزة للاتصال بعالم الأرواح؟

قال: لا.. هذا المستشفى يرشد السالكين إلى هذه الحواس ليحفظوها ويستثمروها.. فلا خير فيمن ألهاه بصره عن بصيرته.

قلت: فما سر وضع قوله تعالى:{ وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} (الشمس:8) على هذه النافذة؟

قال: هذه آية هذه النافذة.. فمن بحرها يرتشف المستبصرون..

قلت: فما الأسرار التي تنطوي عليها.. فإن فهمي لها محدود لا يكاد يجاوز ألفاظها.

قال: هيا بنا إلى مجلس المستبصرين لنسمع ما يحدثونا به عن بعض حقائقها..

رأيت مجلسا مهيبا، داخلتني منه هيبة لست أدري سرها، فقلت للمعلم: ألا يمكن أن نبقى هنا.. ونسمعهم بسمع أرواحنا؟

قال: لا.. لا تخالف حكم الله في خلقه ألم يأمرنا صلى الله عليه وآله وسلم بأن ننزل الناس منازلهم، ألم تقل الملائكة ـ عليهم الصلاة والسلام ـ:{ وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ}(الصافات:164)؟

قلت: بلى..

قال: فكيف تريد أن تكلف بصيرتك بوظيفة بصرك.

 قلت: أجل.. فهيا نقترب منها.. والله في عوني.

حقيقة الاستبصار:

اقتربت من جماعة الاستبصار، وقد امتلأ قلبي رعبا من أن يكشفوا من أسراري ما لا أتحمل فضيحته، أو يعرفوا من حقائقي ما يحطموا به جميع ما أدعيه.. فقلت بيني وبين نفسي: اللهم استرني، ولا تفضحني.. اللهم أسبل علي من سترك ما يحميني من أعينهم الخفية.

توجه إلي أحدهم، وكأنه سمع ما دعوت به، وقال: لا تخف.. فأولياء الله لا يفضحون خلق الله..

وقال آخر: وأولياء الله لا يرون إلا ما يريهم الله.. ولا يسمعون إلا ما يسمعهم..

وقال آخر: ألم تسمع قوله صلى الله عليه وآله وسلم:(إن الله تعالى قال: من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه وإن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن يكره الموت، وأنا أكره مساءته)([36]

قلت: بلى.. فما فيه من العلم؟

قال: لقد أخبر الله تعالى بأنه يكرم أولياءه، فيسمعون بالله، ويبصرون بالله.. فهل يتخذ من آتاه الله هذا السمع، وهذا البصر، هذه النعمة العظمى وسيلة لفضح عباد الله.

قال آخر: إن الله لا يهب كرمه إلا لمن تخلق بخلقه.. أليس الله حيي ستير؟

قلت: ولكني ـ يا من ملأتم قلبي محبة وشوقا ـ تذكرت قوله صلى الله عليه وآله وسلم:( اتقوا فراسة المؤمن، فإنه ينظر بنور الله).. وقد كان لي من التقصير في حق الله ما كان.. فاستحييت منكم.

قال أحدهم: وهل تحسبنا من الكمل الذين استقام لهم دينهم، أو وفوا حق ربهم.. إن لنا من التقصير ما تنهد له الجبال.. وتندك له الأرض.. وتنشق له الصخور.

قلت: ولكن الله وهبكم ما لم يهب كثيرا من عباده.

قالوا: وما وهبنا مما لم يهب عباده؟

قلت: الاستبصار.. ألستم المستبصرون؟

قال: بلى.. ولسنا وحدنا في ذلك.

قلت: ومن معكم؟

قال أحدهم: النحل..

ضحكت، وقلت: النحل.. هل هو  من المستبصرين؟

قال: أجل.. ألم تسمع قوله تعالى:{ وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ}(النحل:68)، فالنحل يتلقى تعاليم حضارته من الله تعالى.

قال آخر: ألا تعرف الحياة الاجتماعية والتمدن العجيب الذي يعيشه النحل، والذي يفوق تمدن الانسان في بعض نواحيه.

فالعمران والبناء يتم عنده بدقة كاملة، وطبقاً للمواصفات الهندسية([37]).. وكيفية تجميع العسل وتهيئة وادخاره وحفظه من التلوث.. وكيفية تربية الصغار، والتعذية الخاصة للملكة، والتحقق من عدم تلوث بعض النحل بالزهور الملوثة.. وكيفية الدفاع ضد العدو، وكيفية إِخبار أعضاء الخلية عن الزهور بواسطة النحل الملكف بالبحث، وإعطاء المواصفات الدقيقة من حيث المسافة والانحراف وذلك للحركة الجماعية نحوذلك المصدر، وغير ذلك من الامور العجيبة هل يمكن لهذه الحشرة الصغير أن تفعل كل هذا بدون إلهام يهديها؟

قلت: لا.. لا يمكن تفسير ذلك إلا بذلك، بل إنه قد تم التعرف على 4500 نوعاً من أنواع هذه الحشرة، وهي جميعا تتبع طريقة واحدة في كيفية البناء والمَصّ والتغذية من الزهور.. ولا يمكن أن تتفق هذه جميعا لولا الإلهام الإلهي.

قال آخر: وليس ذلك خاصا بالنحل.. فهناك نوع من الأسماك يسمى (النُقْط) يغادر البحر المالح الى أنهر عذبة ـ أي الاماكن التي ولدت فيها نفسها ـ وقد يقتضي ذلك أن تسير عكس اتجاه حركة المياه، أو تصعد الشلالات من أسفلها، وقد يبلغ عددها حداً بحيث تملأ النهر، وعندما تصل الى المحل المقصود تبيض ثم تموت..فكيف تشق هذه الأسماك طريقها الى الانهار المناسبة، وهي تفتقد الخارطة، كما أن بصرها تحت الماء محدود، ولم يدلها أحد على الطريق، وبالرغم من ذلك فهي تصل إلى النهر المقصود([38]).

قال آخر: ومثل ذلك كثير من الطيور المهاجرة، فهي تجتاز طرقاً ومسافات طويلة، وبعضها يجتاز طريق أوربا إلى إفريقيا الجنوبية دون خطأ في الاتجاه.

وقد أثبت بعض العلماء ـ بعد التحقيق والتجارب على هذه الطيور ـ أنّها تهتدي إلى الطريق بواسطة مواقع النجوم.

وقد أثبت التجارب أنها تعرف مواقع النجوم، وتعلم تغير مواقعها حسب فصول السنة، وحتى عندما تتلبد السماء بالغيوم، فان وميض بعض من النجوم يكفيها للاهتداء في الطريق.

قلت: لقد أثبتت بعض التجارب أنها ورثت معرفتها عن الفلك ومواقع النجوم.

 قال: كيف ترث ذلك؟ وهي لم تشاهد السماء سابقاً، أم كيف ترث ذلك والسماء تتغير أشكالها بمرور الزمان، ثم من أين حصل الجيل القديم على هذه المعلومات([39])؟!

قال آخر: ألم تسمع بـ(آكسك لوب)؟

قلت: وما هو؟

قال: هو  طير عجيب، قال عنه العالم الفرنسي (وارد):(إِني درست حالات هذه الطيور، فوجدت من خصائصها أنها تموت بعد أن تبيض، ولا ترى أفراخها أبداً، كما أن الأفراخ لا ترى أمهاتها الحنونات، وعندما تفقس البيوض تخرج كالدود بلا أجنحة ولا ريش، ولا قدرة لها على تحصيل الطعام، ولا قدرة لها للدفاع عن نفسها من الحوادث والمخاطر التي تهدد حياتها، ولهذا ينبغي أن تبقى في مكان محفوظ فيه طعام يكفيها لمدة سنة، ولهذا السبب، فالأم عندما تشعر أنها على وشك أن تبيض تبحث عن قطعة من خشب ثم تثقبها ثقباً عميقاً، وتجمع فيها المؤونة الكافية، فتجمع أو لا أوراق الأشجار ما يكفي لفرخ واحد لمدة سنة وتلقيها في نهاية الثقب العميق، ثم تضع عليها بيضة وتبني عليها سقفاً محكماً من معجون خشبي. ثم تبدأ ثانياً في جمع مؤونة فرخ آخر لمدة سنة وبعد جمعها المؤونة ووضعها على سطح الغرفة الاولى، تضع بيضة ثانية عليها وسقفاً آخر، وهكذا تبني الغرفة بعد الغرفة حتى تموت)([40]

فمن الذي علم هذا الطير هذا الحجم من المعلومات رغم أنه لم ير أمه ولا أفراخه؟

قال آخر: ليس ذلك فقط، بل إن في عالم الحيوانات ـ التي نعدها في مستوى أدنى من مستوانا ـ تُشاهد آثار أحاسيس وإِدراكات يعجز البشر عن إدراكها، فإنا نعلم أن بعض الحيوانات تضطرب قبل حدوث الزلزلة، وتصرخ بصورة جماعية أحياناً، وتارة تحدث أصواتاً مروعة حاكية عن قرب وقوع حدث مفجع، هذا كله بسبب تحلّيها بحاسة تستطيع بواسطتها أن تكشف قرب وقوع الزلزلة، الأمر الذي تعجز عن كشفه أحدث تكنولوجيا في العصر الحاضر.

قال آخر: وبعض الحيوانات تتنبأ بتغييرات الأحوال الجوية للأشهر القادمة، فتبني بيوتها وفقاً لتلك الاحوال في الأشهر المقبلة عليها، وتعد الطعام الذي يتناسب مع طول فصل المطر والشتاء، فاذا كان طويلا ـ مثلا ـ يختلف مقداره عمّا لوكان قصيراً!

كما أن بعض الطيور قادرة على الهجرة الجماعية من المناطق القطبية الى الاستوائية أو بالعكس، وقد يتمّ ذلك في الليل، بل وحتى في الليالي وفي السماء الملبدة بالغيوم، مع أن الانسان لا يمكنه السير في هذا الطريق وينجح باجتيازه بنسبة واحد بالمائة، إلاّ بالاستعانة بالوسائل الدقيقة، وكذا الأمر بالنسبة لبعض الحيوانات حيث تطلب صيدها في ظلام الليل الدامس، وأحياناً تحت أمواج المياه وغير ذلك من الأمثلة التي يصعب على الانسان تصديقها، إِلاّ أن العلم أثبت صحتها.

وظيفة الاستبصار:

قلت: فهمت هذا كله واستوعبته.. ومع ذلك يظل استبصار الإنسان أعظم من كل استبصار.. لأن استبصاره تبع لحقيقته ووظيفته.

قال أحدهم: ووظيفته وحقيقته تدعوه لوضع استبصاره في محله، فلا يجاوز به محله.

قلت: فما محله؟

قال: عندما طلبت من معلمك أن تبقى في محلك لتستمع دون أن تحضر مجلسنا ماذا قال لك معلمك؟

قلت: اطلاعك على ذلك يغنيك عن إجابتي.

قال: فكذلك الأمر هنا.. فلا ينبغي أن تجاوز بالاستبصار ما وظف له، ألم تسمع قول الحكيم:(تشوفك إلى ما بطن فيك من العيوب، خير من تشوفك إلى ما حجب عنك من الغيوب)

قلت: بلى.. فهو يعني أن التطلع بعين البصيرة إلى ما بطن وخفي، من العيوب والأمراض القلبية خير من الاطلاع على ما حجب عن الإنسان من الغيوب.

قال: لأن الاطلاع على الغيوب حظ النفس، والاطلاع على العيوب حظ الروح.. ولا ينبغي تقديم النفس على الروح.

قلت: فكيف توظف هذه الحاسة؟

قال: لهذه الحاسة وظائف الإنسان، لأنها في حقيقتها هي الإنسان..

قلت: فما الإنسان؟

قال: الخليفة.. ألم يقل الله تعالى للملائكة u:{ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً }(البقرة:30)

قلت: بلى.. فما الخليفة؟

قال: ستعرفه عندما ترحل إلى (بنيان الله)، فلا تعجل.

قلت: والآن.. ماذا عساي أن أعرف؟

قال: تعرف سر الإلهام الذي تحصن به صحتك، وتعافي به روحك.

قلت: فما سر الإلهام الذي يهبني هذا؟

نبهني المعلم، وقال: سر هذا لا تعرفه هنا.. فهؤلاء المستبصرون.. وهم يتقلبون في بحار الكون السبعة.. ولن تطيق فهم ما يقولون.

قلت: فمن أين أعلمه؟

قال: تعال إلى رجل من قومك يحكي لك ما توصلوا إليه من معارف في هذا الباب، وستنهل منها ما يحفظ الصحة، ويحصن البنيان.

اقتربنا من رجل يحمل مجهرا دقيقا، وهو يوجهه إلى جماعة المستبصرين، ثم يدون ما يلاحظه في دفتر كبير يحمله.. فسألت المعلم عنه، فقال: هذا عالم من علماء قومك ممن تسمونهم (علماء النفس)، وهو يبحث عن قوانين الاستبصار من ملاحظة المستبصرين.

قلت: أبالمجهر يبحث عنه؟

قال: هذا مجهر عجيب اخترعه مهندسو هذا المستشفى.. فلا تسأله عنه، وأسأله عما ينفعك، وينفع قومك.

قلت: يا عالم النفس.. ما سر وجودك في نافذة الاستبصار؟

قال: هذا هو  محلي الذي لا أفارقه.. فما سر وجودك أنت؟

قلت: أنا أبحث عن وظيفة الاستبصار([41]).

قال: سأحدثك على ضوء اختصاصي عن علم نسميه (الباراسكولوجيا).. أتدري ما الباراسكولوجيا؟

قلت: قل لي: ما هي، فما أو لعكم ـ معشر علماء النفس ـ بالعجمة؟

قال: هي علم النفس المرتبط بالخوارق..

قلت: ولكن الظواهر الخارقة ظواهر استثنائية تختلف عن الظواهر الطبيعية، فهي ظواهر نادرة وغير مألوفة.. وهي ليست في نفس الوقت مرضا.. فما علاقتكم بها؟

قال: هذا المظهر بالذات هو  الذي جعل منها ظواهر ذات قيمة استثنائية للعلوم المختلفة.. إذ أن من يتتبع المعارف العلمية المختلفة يراها كثيرا ما تطورت نتيجة لدراسة ظواهر نادرة الحدوث لاحظها العلماء مصادفة خلال دراستهم لظواهر أخرى مألوفة.

قلت: هذا صحيح.. فمتى بدأ اهتمامكم بها؟

قال: لقد تأخر هذا الاهتمام، فقد بقي اهتمام الانسان بالظواهر الطبيعية وما فوق الطبيعة اهتماما سطحيا حتى مجيء عصر النهضة العلمية في أوروبا حيث بدأ الانسان بدراسة ما يرى من ظواهر الطبيعة بشكل منهجي دقيق.

وبدأ بالتالي بالتخلص من كثير من مفاهيمه الخاطئة عن هذه الظواهر ليستبدلها بمفاهيم مبنية على دراسة منهجية، وبهذا نجح في تطوير علوم عديدة مثل الفيزياء والكيمياء والأحياء وغيرها، حتى وصلت الحضارة الى ما وصلت إليه اليوم من تقدم مذهل.

إلا أن هذا الاهتمام الجدي الذي جعل الانسان يفهم الظواهر الطبيعية لم يرافقه اهتمام مماثل بدراسة الظواهر فوق الطبيعية والقدرات الخارقة بشكل علمي يجعلها تلقي بأنوارها على زوايا المعرفة التي لا تستطيع الظواهر الطبيعية إلقاء الضوء عليها.

قلت: فما توصلت إليه هذه الدراسات من هذا العلم الخفي؟

قال: لقد عرف العلماء المختصون بهذا الجانب كثيرا من الظواهر الخارقة، وهي في مجموعها تنقسم إلى قسمين، هما: التحريك الخارق، والإدراك الحسي الفائق.. أو ما نسميه Psychokinesis.

التحريك الخارق:

قلت: فماذا تريدون بالتحريك الخارق؟

قال: هو  القدرة الخارقة لبعض الأشخاص على التأثير على جسم ما عن بعد دون استخدام أي جهد عضلي أو نشاط للجهاز الحركي في الجسم.

قلت: ماذا تقصد؟

قال: أقصد أن لبعض الأشخاص القدرة على تحريك الأجسام من غير لمسها بشكل مباشر باليد، أو بأي من أجزاء الجسم الأخرى، ولا باستخدام أي شيء من الوسائط التقليدية لنقل التأثيرات الحركية إلى الجسم كالاستعانة بآلة أو الهواء عن طريق النفخ..

فالشخص الذي لديه قدرة التحريك الخارق غالبا ما يستطيع تحريك الأجسام عن بعد بالقيام بنوع من التركيز العقلي، ولذلك فإن هذه الظاهرة يشار إليها بالعبارة الشهيرة (العقل فوق المادة) أو ما يقال له بالعجمة (Mind over matter)، وان كان هذا لا يعني بالضرورة أن العقل هو  المؤثر الفعلي في الظاهرة.

قلت: أليس من هذا الباب تلك القدرة الفائقة التي أظهرها صاحب سليمان u الذي أحضر له العرش في طرفة عين، كما قال تعالى مخبرا عنه:{ قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرّاً عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ}(النمل:40)

قال: بلى.. فقد كان من المستبصرين، وفي إخبار الله تعالى بأنه من عنده علم من الكتاب دليل على أن لهذا قوانين علمية لم نتوصل إليها بعد.

قلت: أيمكن التوصل إليها في يوم من الأيام؟

قال: لا يستبعد ذلك.. ولا أكتمك بأن سر وجودي في هذه النافذة، وحملي لهذا المجهر هو  البحث عن القوانين التي تتحكم في هذا.

قلت: وما تريد من معرفة ذلك؟.. أتريد إحضار البيت الأبيض ليتوب إلى الله كما أسلم عرش بلقيس عند هيكل سليمان u؟

قال: لو استطعت ذلك لفعلت.. ولكني أبحث في أمر أهم شأنا من ذلك.

قلت: وما هو؟

قال: أن أتوصل إلى علاج المرضى وإجراء العمليات الجراحية الدقيقة من غير استعمال سكاكين أو مخدرات.

قلت: كيف ذلك؟

قال: ألم يكن المسيح u يبرئ الأكمه والأبرص؟

قلت: بلى.. وهي أمراض خارقة.. ولكن ذلك معجزة خاصة به.

قال: هي معجزة.. ولكنها لا تخرق سنن الله.

قلت: كيف ذلك؟

قال: ستعرف سر ذلك عندما ترحل إلى (مفاتيح المدائن)

قلت: والآن؟

قال: أخبرتك أن غرضي الشخصي من البحث في علم الكتاب الذي استطاع به صاحب سليمان u إحضار العرش لأستعمله في شفاء العلل.

قلت: ألا يمكن أن يكون لاكتشافك ـ في حال اكتشافك ـ أضرار خطيرة على المجتمع والمدنية؟

قال: كيف ذلك؟

قلت: ألا يمكن أن يستولي بعض الناس على أسرار هذا العلم ليمرضوا به الأصحاء، ويقلبوا به الموازين، وقد يحملون به الحجر الأسود ليضعوه في البيت الأبيض.

قال: صدقت.. وهذا ما يخيفني من بحثي.. ولكني مع ذلك أسارع في البحث عن هذا العلم خشية أن تصل إليه بعض الأيدي الآثمة.. فيكون لها من السبق ما تقتل به الإنسان، وحضارة الإنسان.

قلت: أيمكن أن تسبق إليه الأيدي الآثمة؟

قال: ألا تعرف الدجال وقدرات الدجال؟

قلت: أجل.. فهل أوتي من هذا العلم ما جعله أخطر فتنة على الناس؟

قال: أجل.. فالدلائل كلها تدل على ذلك.

قلت: فهل يمكن أن نتوصل إلى المعارف التي تحطم كيد الدجال؟

قال: ذلك علم المسيح.. فهو ينسخ علم الدجال..

قلت: فهل يمكن أن نصل إلى المعارف التي قتل بها المسيح u الدجال؟.. لنقتل كل دجال.

قال: ذلك ستعرفه عندما تصير من (أنصار المسيح) ألم يقل للمسيح u:{ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ }(الصف:14)

قلت: بلى.. ولكن تلك المقولة قالها للحواريين.

قال: له حواريون في المرحلة الأولى من حياته، وله حواريون في مرحلته الثانية.

قلت: فكيف أكون منهم؟

قال: ستعرف ذلك عندما ترحل إلى (أنصار المسيح)

قلت: والآن؟

قال: سنعود إلى (الباراسكولوجيا)

الإدراك الحسي الخارق:

قلت: لقد ذكرتني.. فما القسم الثاني منها؟

قال: الإدراك الحسي الفائق، أو ما نعبر عنه بالأعجمية بـ (Extrasensory Perception)، وقد استخدم هذا المصطلح لأول مرة في منتصف العشرينات، وقد بدأ استخدامه بشكل واسع بعد أن نشر جوزيف راين في عام 1934 كتابه المشهور الذي أسماه باسم هذه الظواهر.

وقد تضمن حصيلة سنين من تجاربه العلمية على هذه الظواهر في جامعة ديوك.. وقد كان لهذا الكتاب تأثير كبير على الوسط العلمي حيث ساعد في التعريف بهذه الظواهر، وبين كيفية إخضاعها للبحث العلمي باستخدام أساليب ومناهج البحث العلمية التقليدية.

قلت: فما يقول علماء النفس في هذا النوع من الاستبصار؟

قال: هم يقسمون ظواهر الإدراك الحسي الفائق الى ثلاثة أنواع: توارد الأفكار، والإدراك المسبق، والاستشعار.

قلت: فما توارد الأفكار؟

قال: نحن نسميه Telepathy، وهي ظاهرة انتقال الأفكار والصور العقلية بين شخصين من دون الاستعانة بأية حاسة من الحواس الخمس.

قلت: أعرف هذا.. وهو ظاهرة شائعة بين عدد كبير من الناس العاديين الذين ليست لديهم في العادة قدرات خارقة.

قال: أجل.. ولهذا اهتم الباحثون بهذه الظاهرة بشكل استثنائي، فاستحوذت على أكبر نسبة من البحث التجريبي الذي قام به العلماء على الظواهر الباراسكولوجية.

والملاحظة المهمة التي لاحظها العلماء من تجاربهم هي أن هذه الظاهرة تحدث بشكل أكبر بين الأفراد الذين تربط بينهم علاقات عاطفية قوية، كالأم وطفلها والزوج وزوجته.

قلت: فما الإدراك المسبق؟

قال: هو  القدرة على توقع أحداث مستقبلية قبل وقوعها.

قلت: أتقصد به استبصار المستقبل من خلال دراسة المعطيات المرتبطة به.

قال: لا.. لا أقصد ذلك.. فليس ذلك من الخوارق، بل هو  مبني على أسس عادية، ولذلك قد تتخلف نتائجه، وقد تثبت.

قلت: فما تقصد؟

قال: أقصد قدرة شبيهة بالإدراك المسبق تعرف بالإدراك الاسترجاعي retrognition.

قلت: أنت تفسر الغامض بالغامض، فما الإدراك الاسترجاعي؟

قال: هو  القدرة على معرفة أحداث الماضي من دون الاستعانة بأي من الحواس أو وسائل اكتساب المعلومات التقليدية.

قلت: أتقصد بالإدراك المسبق نوعا من علم الغيب؟

قال: أجل.. هو  ذاك.. وقد قربت الفيزياء الحديثة هذا المعنى، حيث أنها تعد الزمن البعد الرابع الذي تتحرك فيه الأجسام.

ولهذا، فإن العديد من علماء الباراسيكولوجيا يعتقدون أن كلتا الظاهرتين إدراك الماضي والمستقبل تمثلان تجاوزا أو تغلبا على حاجز الزمن، فالإدراك المسبق هو  تجاوز الحاضر نحو المستقبل، بينما الإدراك الاسترجاعي هو  حركة عكسية في بعد الزمن نحو الماضي.

قلت: فما الاستشعار؟

قال: هو ما يطلق عليه بالعجمة Chairsentience، وهوالقدرة على اكتساب معلومات عن حادثة بعيدة أو جسم بعيد من غير تدخل أية حاسة من الحواس.

قلت: تقصد تجاوز بعد المكان.

قال: أجل.. فكما أن ظواهر الإدراك المسبق تعد تجاوزا لحاجز الزمن، فإن ظواهر الاستشعار تجاوز حاجز المكان.

قلت: لقد أشار القرآن الكريم إلى هذا في قصة يعقوب u حينما شم ريح ابنه يوسف u، قبل أن تصل القافلة إليه، كما قال تعالى:{ وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ}(يوسف:94)، فقوله تعالى:{  فَصَلَتِ } يعني أنه بمجرد أن تحركت القافلة من مصر أحس يعقوب u بالأمر وتغيرت أحواله.

ويدل لهذا قوله تعالى:{ قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ}(يوسف:95)، وكأنهم يقولون له:(أليس هذا بـرهـانا واضحا على ضلالك حيث مضت سنين طويلة على موت يوسف لكنك لا زلت تزعم انه حي، وأخيرا تقول: إنك تشم رائحته من مصر؟)

قال: أجل.. ويشير لهذا ما ذكره القرآن الكريم من معجزات عيسى u التي أخبر بها، ومنها أنه كان يخير الناس بما يأكلون في بيوتهم من طعام وما يدخرون فيها من أشياء، كما قال تعالى على لسان المسيح u:{ وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرائيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}(آل عمران:49)

قال: وقد وردت النصوص الكثيرة في كتب السنة وطبقات الصالحين تعد نماذج جيدة عن الإدراك الحسي الخارج عن نطاق الحواس.

قلت: من ذلك ما ورد في الحديث من قوله صلى الله عليه وآله وسلم:(أتموا الركوع والسجود، فوالله إني لأراكم من بعد ظهري إذا ما ركعتم واذا ما سجدتم)([42])، وفي حديث آخر قال صلى الله عليه وآله وسلم:(هل ترون قبلتي ها هنا؟ فوالله ما يخفي على خشوعكم ولا ركعوكم من وراء ظهري)([43]

قال: وهذه الخوارق ـ على حسب ما تدل عليه الدراسات ليست خاصة بالمؤمنين فقط، فقد تم إخضاع بعض هذه الحالات لبحوث علمية مكثفة.

ومن أشهر التجارب على هذه الظواهر تلك التي قام بها عالم الفيزياء هارولد بتهوف ورسل تارغ في مختبرات معهد بحث ستانفورد.. حيث تم اختبار قابليات أحد الأشخاص الموهوبين، حيث كان يطلب منه وصف تفاصيل مكان ما، بعد أن يعطي موقع المكان بدلالة خطي الطول والعرض.

وكان هذان الباحثان يختاران أماكن تحتوي على معالم لا توضع عادة على الخرائط لضمان أن لا يكون الشخص الذي تحت الاختبار قد شاهدها.

وقد لاحظا القدرة على وصف الكثير من هذه الأماكن بدقة شديدة أكدت امتلاكه لقدرات فائقة.

قلت: أنبئني.. وأرجوأن تكون صريحا.

قال: لولم تكن لدي الصراحة ما أذن لي في دخول هذا المستشفى، فسل عما بدا لك.

قلت: عهدي بالباحثين في هذه الميادين لا يختلفون عن الباحثين عن الذهب، فهل يطلبون شيئا من هذا القبيل.. أما أن مطلوبهم شريف كشرف مطالب أولياء الله المستبصرين؟

قال: لوكان مطلوبهم مطلوب المستبصرين لحصلوا البصيرة، وحصلوا الولاية.. ولكن مطالب أكثرهم ـ على حسب ما عرفتهم ـ لا تعدوا المطالب الدنيوية البسيطة، ولعل أقلها شأنا ما في الإنسان من ميل للغرابة وفضول لاستكشاف العالم الآخر.

قلت: فهل تذكر لي ما يؤيد استنتاجك هذا؟

قال: إن أهمية الظواهر الباراسيكولوجية جعلت منها إحدى مجالات البحوث السرية التي قامت بها الدول خلال فترة الحرب الباردة، وبالذات خلال السبعينات، إذ كانت هناك دراسات كثيرة في المعسكرين الغربي والشرقي لبحث استخدام مثل هذه القدرات لأغراض تجسسية.

قلت: فهل ترى من مستقبل لهذا العلم.. أم أنه سيموت في مهده؟

قال: أحسب أن العالم يتجه إلى هذا العلم.. فهناك مؤشرات كثيرة على أن علم الباراسيكولوجيا يمكن أن يكون العلم الواعد الذي ستقوم على أسسه الحضارة الإنسانية الجديدة.

قلت: وذلك سيقربها من الدين.

قال: وقد يبعدها.

قلت: كيف ذلك؟

قال: سيسقط الكثيرون في أحضان السحرة والدجالين.. ولعل حضارة الدجال هي حضارة الباراسيكولوجي.. فخوارقه لا تعدو خوارق الباراسيكولوجي.

قلت: فهل هذا النوع من القوى عام يغفل الناس عنه، أم هو  خاص بالفطرة عند بعضهم.. فلا يشمل غيرهم؟

قال: هذا ما أبحث عنه.. فسل معلمك.      

التفت إلى معلمي، فلم أجده، فامتلأ قلبي رعبا، وقلت: يالله.. من سيكون دليلي في هذه الحصون؟ ومن سيكون معلمي في رحلتي إلى السلام؟

ما استتممت كلامي حتى رأيته قد جاء مع بعض المستبصرين، فصحت فيه: لقد ملأت قلبي رعبا ـ يا معلم ـ  كيف تتركني؟

قال: هو ذا الغزالي.. وقد كان مع المستبصرين..  وقد أبى إلا أن يأتي ليجيبك عن سؤالك.

قلت: أي سؤال؟

حجب الاستبصار:

قال: أنت تبحث عن حجب الاستبصار.

قلت: وما حجب الاستبصار؟.. لا أظن أني سألت مثل هذا السؤال.

قال: لقد تساءلت عن مدى عمومية مثل هذه الخوارق.

قلت: هذا صحيح.

قال: والجواب عن ذلك هو  معرفتك بحجب الاستبصار.

قلت: تقصد أن الاستبصار عام.. ولكن الحجب هي التي تحول بين الخلق وبينه.

قال: أجل.. ألم تعرف بأن الاستبصار هو  سماع الروح وبصر الروح؟

قلت: بلى..

قال: فهل نفخ الله في بعض الخلق أرواح بشر، وفي بعضهم أرواح حجارة؟

قلت: بل كل البشر يملكون أرواح بشر.

قال: ولذلك.. فإن لكل البشر الاستعداد التام للاستبصار.

قلت: ولكني لا أراهم كذلك.

قال: لأنهم وضعوا الحجب على بصائرهم.

قلت: فما هي هذه الحجب، وكيف تزال؟

قال: هو  ذا الغزالي قد جاء معي ليجيبك عنها.

مددت يدي لمصافحة الغزالي، فأحسست بنفحة من نفحات الإيمان تسري في أعماقي، فلم أشأ أن أقبض يدي، وكان بمحل من الأدب، فلم يجذب يده، قال: لن أطيل معك.. أنا أعلم اهتمامك واهتمام قومك بالتمثيل، ولذلك اسمع مني هذا المثال.

ثم جذب يده من يدي، وأخرج خمس مراء، وقال: أترى هذه المرائي الخمسة؟

قلت: أعمى أنا إن لم أرها.

قال: فاعلم أن محل العلم هو  القلب.. فهو اللطيفة المدبرة لجميع الجوارح.. وهي المطاعة المخدومة من جميع الأعضاء، وهي بالإضافة إلى حقائق المعلومات كالمرآة بالإضافة إلى صور المتلونات.

قلت: فما وجه التشبيه بين القلب الذي هو  محل العلم وبين المرآة؟

قال: كما أن للمتلون صورة ومثالا لتلك الصورة ينطبع في المرآة، ويحصل بها، فكذلك لكل معلوم حقيقة، ولتلك الحقيقة صورة تنطبع في مرآة القلب وتتضح فيها.

وكما أن المرآة غير، وصور الأشخاص غير، وحصول مثالها في المرآة غير، فكذلك حقائق الأشياء في القلب، وحصول نفس الحقائق فيه، وحضورها فيه.

فالعالم عبارة عن القلب الذي فيه يحل مثال حقائق الأشياء، والمعلوم عبارة عن حقائق الأشياء، والعلم عبارة عن حصول المثال في المرآة.

قلت: فهمت هذا.. وهو مثال واضح جميل.. ولكن ما دام القلب بهذه الصفة فلماذا تنحجب دونه الحقائق.. أم أن لكل شخص مرآته الخاصة به؟

قال: أترى هذه المرائي الخمسة التي أحملها؟

قلت: أجل.. وأنا محتار في سر إحضارك لها، فقد كانت تكفيك واحدة.

قال: أنا لم أحضرها لأرى وجهي فيها، بل أحضرتها لأعلمك بها.

قلت: وما تعلمني؟

قال: حجب الاستبصار.

قلت: كيف ذلك؟ ولماذا كانت المرائي خمسة؟

قال: انظر إلى هذه المرآة الأولى، وقل لي ماذا ترى؟

فنظرت، فلم أر فيها غير شكل المرآة، لقد كانت من الحديد الذي أكله الصدأ، قلت: ماذا أرى.. لا أرى غير الصدأ.

قال: هل ترى وجهك فيها؟

قلت: لا أراه.. لقد أخبرتك أني لا أرى غير الصدأ.

قال: فهذا هو  الحجاب الأول.

قلت: فماذا يمثل هذا الحجاب؟

قال: يمثل كدورة المعاصي والخبث الذي يتراكم على وجه القلب من كثرة الشهوات، فإن ذلك يمنع صفاء القلب، وجلاءه فيمتنع ظهور الحق فيه لظلمته وتراكمه، ألم تسمع قوله تعالى:{ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُوا الْجَحِيمِ ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ}(المطففين:10 ـ 17)

قلت: بلى.. فالآية تتحدث عن علة تلك العقوبة العظيمة، وهي أن هؤلاء الذين يتعرضون لصنوف الهداية من المرسلين أو من ورثتهم ينحجبون بالغفلة التي أفرزتها الأهواء في قلوبهم عن رؤية الحق أو الاستماع له، فلذلك ينسبون تلك الآيات التي يتلوها المؤمنون إلى أساطير الأولين.

وهم في ذلك يشبهون ذلك الممتحن الذي يلطخ صفحته البيضاء الطاهرة بصنوف العبث والعشوائية.

قال: ثم بينت الآيات السبب لذلك، وهو لا يختلف عن السبب الذي جعل الممتحن يلطخ ورقة إجابته، وهو ما نص عليه قوله تعالى:{ كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ } أي أن كسبه وعمله وحركة قلمه هي التي ملأت فطرته بقعا منحرفة حالت بينها وبين التعرف على الحق أو سلوكه.

قلت: وقد فسر صلى الله عليه وآله وسلم الآية بقوله:(إن العبد إذا أذنب ذنباً كانت نكتة سوداء في قلبه، فإن تاب منها صقل قلبه، وإن زاد زادت، فذلك قول اللّهتعالى:{ كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ })([44])

قال: فهذه الآية والحديث الذي يفسرها يمثل الحجاب الأول.

قلت: فأرني المرآة الثانية.

فأراني مرآة إنما هي جوهر حديد، لم يدور، ولم يشكل، ولم يصقل، وقال لي: انظر إلى هذه المرآة، وقل لي: ماذا ترى؟

قلت: هذا حديد يمكن أن يصبح مرآة لو وجد من يصقله.. أما الآن، فهوكصبي لم يجاوز المهد.

قال: فهذا هو  الحجاب الثاني.

قلت: أي حجاب؟

قال: هذا نقصان في ذات المرآة، وهي كقلب الصبي، فإنه لا تتجلى له المعلومات لنقصانه.

قلت: فهمت هذا.. ولا لوم على الصبي في هذا.. ولكن ليته يجد حدادا ماهرا يصقل مرآة قلبه.

قال: لا تخف على هذا.. فلن يحتاج صقل ذلك إلى حداد، ألم تسمع قوله تعالى:{ وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}(النحل:78)

فالله تعالى هو  الذي تولى صقل مرآة القلب لتتجلى فيها الحقائق.

قلت: ألا يمكن أن نفهم من هذا المثال أن القلوب أنواع منها ما اكتمل، فصار مستعدا لتجلي الحقائق، ومنها ما بقي قاصرا دون ذلك، فهوكالحديد الذي لم يصقل؟

قال: لا.. لقد أخبر الله تعالى أنه زود البشر جميعا بطاقة التلقي للحقائق، ألم تسمع قوله تعالى:{ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْأِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} (الأحزاب:72)

قلت: بلى.. فما فيها من العلم المربتط بهذا؟

قال: أشارت هذه الآية الكريمة إلى أن له للقلب الإنساني ـ والذي هو  الإنسان بحقيقته الكاملة ـ خاصية تميز بها عن السموات والأرض والجبال.. وبها صار مطيقا لحمل أمانة الله تعالى، وتلك الأمانة هي المعرفة والتوحيد، وقلب كل آدمي مستعد لحمل الأمانة، ومطيق لها في الأصل، ولكن يثبطه عن النهوض بأعبائها والوصول إلى تحقيقها أسباب أخرى غير هذا السبب.

قلت: ألا يشير إلى هذا قوله صلى الله عليه وآله وسلم:(كل مولود يولد على الفطرة حتى يعرب عنه لسانه، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه)([45]

قال: وقبل ذلك يشير إليه قوله تعالى:{ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ}(الروم:30)، فقد أخبر الله تعالى بأن الفطرة الأصلية فطر عليها الناس جميعا، وأنه لا تبديل لخلق الله.

قلت: فهمت هذا.. فأرني المرآة الثالثة.

أمسك الغزالي بمرآة لم أر مثلها جمالا وصفاء، فقلت، قبل أن يريني وجهي: أما هذه، فنعم فهي من معدن خالص الصفاء كانت مخبأة كالدر المكنون.

لكن الغزالي عدل بها عن وجهي، وقال: قل لي: ماذا ترى؟

قلت: وما أرى؟ اسأل الحائط الذي وجهتها إليه.

قال: فهذا هو  الحجاب الثالث.

قلت: لم أفهم وجه كون هذا حجابا.

قال: إذا عدل بالمرآة عن وجهة الحقائق لم ترها، فالمرآة لا ترى إلا ما تقابله، وما تتوجه الهمة إليه.

قلت: فاضرب لي على ذلك مثالا يقرب لي مثال المرآة.

قال: قد ترى قلب المطيع الصالح، وهو وإن كان صافيا ـ إلا أنه لا يتضح فيه جلية الحق، لأنه لا يطلب الحق، ولا يوجه مرآته شطره.

قلت: كيف ذلك.. وهو صالح قانت؟

قال: قد يكون متسوعب الهم بتفصيل الطاعات البدنية، أو بتهيئة أسباب المعيشة، ولا يصرف فكره إلى التأمل في حضرة الربوبية والحقائق الخفية الإلهية، فلا ينكشف له إلا ما هو  متفكر فيه من دقائق آفات الأعمال وخفايا عيوب النفس إن كان متفكرا فيها، أو مصالح المعيشة إن كان متفكرا فيها.

فإذا كان تقييد الهم بالأعمال وتفصيل الطاعات مانعا عن انكشاف جلية الحق، فما ظنك فيمن صرف الهم إلى الشهوات الدنيوية ولذاتها وعلائقها، فكيف لا يمنع عن الكشف الحقيقي؟

قلت: فهمت هذا.. فأرني المرآة الرابعة.

أمسك الغزالي بمرآة لا تقل عما قبلها جمالا وصفاء، وقربها من وجهي، ولكني ما كدت أبصر وجهي فيها حتى وضع يده بيني وبينها، فقلت: ارفع يدك، يا غزالي، فكيف لي أن أرى، ويدك بيني وبينها.

قال: هذا هو  الحجاب الرابع.

قلت: ما تقصد؟

قال: قد تكون مرآة القلب صافية، لكنها صاحبها يضع بينه وبين الحقائق حجبا كثيفة تحول بينه وبين إدراكها.

قلت: كيف هذا، وهو مطيع صادق؟

قال: المطيع القاهر لشهواته المتجرد الفكر في حقيقة من الحقائق قد لا ينكشف له ذلك لكونه محجوبا عنه باعتقاد سبق إليه منذ الصبا على سبيل التقليد أو القبول بحسن الظن، فإن ذلك يحول بينه وبين حقيقة الحق، ويمنعه من أن ينكشف في قلبه خلاف ما تلقفه من ظاهر التقليد.

قلت: فهل هناك من حجبوا بهذا؟

قال: أكثر الخلائق محجوبون بهذا، فهذا أعظم الحجب، فأكثر المتكلمين والمتعصبين للمذاهب.. بل أكثر الصالحين المتفكرين في ملكوت السموات والأرض محجوبون باعتقادات تقليدية جمدت في نفوسهم ورسخت في قلوبهم وصارت حجابا بينهم وبين درك الحقائق.

قلت: ألا يدخل في هؤلاء كثير من أطباء قومي ممن عرفوا وجوها من العلاج.. فأنكروا جميع ما يخالفها ولو دلت الحقائق عليها؟

قال: بلى.. فكل من ينكر الحقائق محجوب ولو حاز العلوم، واحتوى الفنون، بل إن جمعه المجرد للعلوم دون تحقيق وتمحيص هو الحائل الأكبر بينه وبين الحقائق.

قلت: فهمت هذا.. فأرني المرآة الخامسة.

قال: خذ هذه المرآة، وحاول أن تعكس عليها قسم الغيبة.. ألم تمر بقسم الغيبة في ابتسامة الأنين؟

قلت: بلى.. ولكني لا أذكر في أي جهة كان، فقد مررت بقاعات كثيرة وحصون حصينة، وليس لي من الذاكرة ما أطيق به تحديد جهة ذلك القسم.

قال: فهذا هو  الحجاب الخامس.

قلت: فما هو  هذا الحجاب؟

قال: هو الحجاب الناشئ عن الجهل بالجهة التي يقع منها العثور على المطلوب، فإن طالب العلم لا يمكنه أن يحصل العلم بالمجهول إلا بالتذكر للعلوم التي تناسب مطلوبه، حتى إذا تذكرها ورتبها في نفسه ترتيبا مخصوصا يعرفه العلماء بطرق الاعتبار، فعند ذلك يكون قد عثر على جهة المطلوب، فتنجلي حقيقة المطلوب لقلبه.

قلت: فسر لي هذا.

قال: العلوم المطلوبة ـ التي ليست فطرية ـ لا تقتنص إلا بشبكة العلوم الحاصلة، بل كل علم لا يحصل إلا عن علمين سابقين يأتلفا ويزدوجان على وجه مخصوص، فيحصل من ازدواجهما علم ثالث.

قلت: فالعلم الكسبي ضروري إذن للعلم الوهبي.

قال: أجل.. ولولاه ما أمرنا بالتعلم والقراءة.

قلت: والعمل؟

قال: لا خير فيمن لا يعمل بما يعلم.


([1])   البخاري.

([2])    انظر: مع الطب في القرآن الكريم، للدكتور عبد الحميد دياب، و الدكتور أحمد قرقوز.

([3])   انظر:: كتاب الوصفة الطبية للعلاج بالتغذية، ود.م / يحيى حمزة كوشك.

([4])   البخاري ومسلم.

([5])   انظر:: كتاب الوصفة الطبية للعلاج بالتغذية، ود.م / يحيى حمزة كوشك.

([6])   لقد ثبت أن حاسة السمع تعمل عقب الولادة مباشرة حيث يستطيع الوليد ان يسمع الأصوات العالية عقب ولادته مباشرة – بينما يحتاج إلى فترة من الزمن لكي يستطيع أن يرى الأشياء بوضوح إذ أن نمو التكوين الشبكي بالعين لا يكتمل إلا بعد 4-6 شهور من الولادة.

([7])   من التعليلات الأخرى التي ذكرها العلماء لسر تقديم البصر على السمع:

أولا: أن السمع أهم من البصر في عملية الإدراك الحسي والتعلم وتحصيل العلوم – فمن الممكن للإنسان إذا فقد بصره أن يتعلم اللغة ويحصل العلوم – ولكنه إذا فقد سمعه تعذر عليه ذلك – ومما يدل على أهمية السمع في الإدراك وفي تعلم اللغة – أن القرآن ذكره وحده مع العقل للدلالة على العلاقة الوثيقة بينهما:{ وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ) (الملك:10)، كما يذكر القرآن في كثير من الآيات السمع بمعنى الفهم والتدبر والتعقل:{ ربنا أننا سمعنا مناديا ينادى للأيمان ان آمنوا بربكم فأمنا } ( آل عمران / 193) { وأنا لما سمعنا الهدى آمنا به } ( الجن /13)

ثانيا: أن حاسة السمع تؤدي وظيفتها إذا أغمض الإنسان عينيه أو إذا نام ويستطيع الصوت الشديد أن يوقظ الإنسان من نومه – ولذلك فقد ذكر الله تعالى في قصة أهل الكهف أنه ضرب على آذانهم في الكهف سنين عددا.

ثالثا: أن حاسة السمع تعمل في كل الأوقات سواء في الضوء أو في الظلام بينما حاسة البصر لا ترى ويذكر القرآن السمع مفردا، بينما يذكر الأبصار في معظم الآيات في صيغة الجمع – وذلك من أدلة الأعجاز في أسلوب القرآن حيث أن حاسة السمع تستقبل الأصوات الصادرة من جميع الجهات بينما العين لا ترى إلا إذا اتجه الإنسان نحو الشيء الذي يريد أن يراه وإذا حدث صوت في مكان يجتمع فيه جمع من الناس فانهم يسمعون نفس الصوت في وقت واحد بينما هم يرون الشيء الموحدون زوايا مختلفة بمعنى أن رؤيتهم للشيء الواحد لا تكون مماثلة.

([8])   وقد جاء السمع والبصر بصيغة المفرد كقوله تعالى: { أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ}(الجاثـية:23)

([9])   الترمذي وابن ماجة.

([10])   جهاز مقالة (أربع مقالات) للنظامي العروضي السمرقندي (القاهرة 1949 ص 79-.8).

([11])   البخاري ومسلم.

([12])   الطبراني في الكبير وابن السني في عمل اليوم والليلة.

([13])   الإحياء: 2/275.

([14])   انظر: جمال الدين القفطي، أخبار الحكماء (ص 376- 377 من الطبعة الأوروبية التي أعيد نشرها في بغداد)

([15])   أحمد وأبو داود والنسائي وابن حبان والحاكم.

([16])   البخاري.

([17])   البخاري ومسلم.

([18])   البخاري ومسلم.

([19])   ابن ماجه كتاب الطب باب المريض يشتهي الشيء رقم (3440) ص).

([20])   وهي حَسَاء يتخذ من اللبن والدقيق.

([21])   ابن ماجه.

([22])   ابن السني وأبو نعيم معا في الطب وسنده حسن.

([23])   الترمذي وابن ماجة والحاكم.

([24])   انظر: انظر: الإعجاز الطبي في السنة النبوية، للدكتور: كمال المويل.

([25])   انظر في هذا: مقالة للكاتب (لينور بوم) Lenore Y. Baum، M.A من موقع طبيعي للطب البديل.

([26])   هناك نوعان من أجهزة كشف الكذب:

 نوع قديم يسمى بالانجليزية Polygraph او Lie detection machine، وهو يتطلب توصيل عدة أسلاك بالشخص المراد التحقق من صدق أو كذب حديثه، ويقوم الجهاز بقياس التغيرات الطفيفة التى تطرأ على جسم الشخص من حيث ضربات القلب والتنفس وتصفد العرق، ويقوم المحلل بعدها بتحليل هذه القراءات لتظهر له بعد فترة النتيجة.

أما النوع الثاني، وهو الأحدث، فهو عبارة عن منظومة حاسب آلى، ويسمى اختصارا CVSA أو Computerized Voice Stress Analysis، وهذا النظام لا يتطلب توصيل أسلاك بالشخص المراد التحقق من صدق حديثه، ويعطى نتيجة فورية، وقد تم تطوير نسخ حديثة تعمل على جهاز حاسب نقال، وكل ما هو مطلوب أن يحوى الجهاز بطاقة صوت وناقل للصوت أو ميكروفون.

 ومن أهم مزايا هذا النظام أن بإمكانه تحليل تسجيلات صوتية مما ساعد فى حل حالات جنائية قديمة.

ويقوم النظام بقياس التغير في الذبذبات المنخفضة للصوت، فيحدث ما يسمى بالإجهاد أو التركيز على نغمات معينة عند الكاذب، فعند الكذب يحدث نوع من المط للصوت.

وقد كشف بعض الباحثين، وهو م/ محمد خالد الكيلانى، من بنغازى بليبيا، وهو مهندس إلكترونيات وحاسب آلى، على وجه الإعجاز القرآني في هذا الجهاز من نص قوله تعالى :{ وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ}(محمد:30)

ففي هذه الآية الكريمة إشارة صريحة إلى أن للحن القول دلالة على الشخص، ومن هذه الدلالات على الكذب.

([27])   المجتمع: 1431.

([28])   هذا بالإضافة إلى الأمصال، واللقاحات الحيوانية، ومنها أمصال الحمى الفحمية، والحمى القلاعية، والطاعون البقري، ومصل الكلب، وهذه الأمصال تستخدم لعلاج الحيوانات بالإضافة إلى أمصال الدفتيريا، والسعال الديكي، والتيتانوس، وكذلك الأدوية التي يستخدم فيها الجيلاتين الحيواني، ويصل عددها إلى أكثر من 600 دواء.

ويُضاف إلى قائمة المحظورات كما يقول مسؤول نقابة البيطريين المصرية الهرمونات الطبية المستخلصة من غدد الحيوانات مثل الهرمونات الجنسية كالإستروجين والبروجستيرون، والتستوسيزون، بالإضافة إلى هرمونات الغدة الكظرية، والكروتيزونات، وهرمونات الغدة النخامية، وهرمونات جونلوووترفين التي تستخدم في تتنشيط غدد الجسم، وهرمونات النمو، وهرمونات البروستاجلانين، التي تستخدم في عمليات الولادة، انظر: المجتمع 1441.

([29])   النسائي.

([30])   انظر: موقع قناة الجزيرة 17/7/2003، والشبكة الإسلامية مقالة للشيخ عبد السلام البسيوني حول الوشم.

([31])   ورد هذا في تقرير نشره موقع قناة الجزيرة نقلاً عن شبكة رويترز الإخبارية ليوم الخميس 17/7/2003م.

([32])   انظر: مع الطب في القرآن الكريم، تأليف الدكتور عبد الحميد دياب  الدكتور أحمد قرقوز، ندوة للدكتور محمد جميل الحبال على قناة الجزيرة في برنامج الشريعة و الحياة تاريخ الحلقة الاثنين 12/2/1422هـ الموافق 6/5/2001م.

([33])   أحمد والبخاري.

([34])   الترمذي.

([35])   البزار.

([36])   رواه البخاري.

([37])   الحجُرات المبنية من قبل النحل بنيت بشكل يتطلب مواد بناء أقل، رغم سعة محتواها، لوجود ثلاثة أشكال فقط من بين الاشكال الهندسية المتعددة يمكن بناء البيوت على أساسها من دون حصول فراغ بينها، والإشكال هي، المثلث متساوي الاضلاع والرباعي، والسداسي الاضلاع، وقد كشفت الدراسات الهندسية أن سداسي الاضلاع يتطلب مواد بناء أقل مع شدة مقاومته، ولهذا السبب رجحه النحل على الشكلين الآخرين.

([38])   انظر: البحر، بيت العجائب: 116 و 117.

([39])   حواس الحيوانات الغامضة، تأليف (ويتوس دروشر)، ترجمة لاله زاري الصفحة 167 ـ 71 (ملخص)

([40])   «المتلبسون بالفلسفة» الصفحة 229.

([41])   انظر: علم دراسة الخوارق.. التاريخ والظاهرة، د.علاء الدين بدوي فرغلي، اخصائي الطب النفسي، واحة النفس المطمئنة.

([42])   مسلم.

([43])   البخاري.

([44])   الترمذي والنسائي، وقال الترمذي: حسن صحيح.

([45])   أبو يعلى والطبراني في الكبير والبيهقي.

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *