رابعا ـ المعلم

رابعا ـ المعلم

قلت: فحدثني عن رحلتك الرابعة.

قال: كانت الحاضرة الرابعة من حواضر الإسلام التي قدر لي أن ألتقي فيها بوارث الهدي النبوي في مجال التعليم مدينة (شنقيط)..

وقد بدأت قصة التقائي بورثة هذا الهدي العظيم في صحراء قريبة منها..

كنت أسير في تلك الصحراء التي امتلأت حرا وجفافا، وأتعجب كيف استطاع النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يخرج من مثل هذه الصحراء أساتذة لا تزال جامعات العالم ومدارسه تنهل من علومهم، وتستفيد من حكمتهم، وتطمح لأن يكون لها من اتقاد الذهن، وحدة الذكاء، وصفاء الذاكرة ما كان لهم.

وبالرغم من أن هذه الخواطر كانت تملؤني بالأشواق الجميلة إلا أني مع ذلك كنت أشعر بألم عظيم.. لقد قلت لنفسي: كيف قصرت الأمة في حق هدي نبيها حتى جفت تلك الآبار التي حفرها لنا، فصرنا لا نجد ما نروي به العالم المتعطش إلى أكمل هدي، وأعظم هدي، وأنبل هدي؟

لقد صارت مدارسنا لا تخرج أمثال من تربوا في مدرسة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. وتعلموا فيها.. بل صارت تخرج المشاغبين والمشردين ومشتتي الذهن، وممن يستعملون علومهم لاقتناص الدنيا..

صارت تخرج أمثال بلعم بن باعوراء.. وأمثال أولئك الذين شبههم الله بالحمير التي تحمل أسفارا.

بينما أنا كذلك تتنازعني خواطر مسرة، وخواطر حزن، إذا بي أسمع صوتا عذبا يترنم بلامية الشنفرى الممتلئة بالغريب، ومما سمعته منها قوله:

أقيموا بني أمي، صدورَ مَطِيكم

  فإني، إلى قومٍ سِواكم لأميلُ !‏

فقد حمت الحاجاتُ، والليلُ مقمرٌ

  وشُدت، لِطياتٍ، مطايا وأرحُلُ؛

وفي الأرض مَنْأىً للكريم، عن الأذى

  وفيها، لمن خاف القِلى، مُتعزَّلُ

لَعَمْرُكَ، ما بالأرض ضيقٌ على أمرئٍ

  سَرَى راغباً أو راهباً، وهو يعقلُ

ولي، دونكم، أهلونَ: سِيْدٌ عَمَلَّسٌ

  وأرقطُ زُهلول وَعَرفاءُ جيألُ

هم الأهلُ. لا مستودعُ السرِّ ذائعٌ

  لديهم، ولا الجاني بما جَرَّ، يُخْذَلُ

وكلٌّ أبيٌّ، باسلٌ. غير أنني

  إذا عرضت أولى الطرائدِ أبسلُ

وإن مدتْ الأيدي إلى الزاد لم أكن

  بأعجلهم، إذ أجْشَعُ القومِ أعجل

وماذاك إلا بَسْطَةٌ عن تفضلٍ

  عَلَيهِم، وكان الأفضلَ المتفضِّلُ

وإني كفاني فَقْدُ من ليس جازياً

  بِحُسنى، ولا في قربه مُتَعَلَّلُ

ثلاثةُ أصحابٍ: فؤادٌ مشيعٌ،

  وأبيضُ إصليتٌ، وصفراءُ عيطلُ

اقتربت من صاحب الصوت، فوجدته راعيا قد استلقى على رمال تلك الصحراء.. وهو يترنم بتلك الأببات بلذة لا تعدلها لذة، وكأنه يتوهم نفسه في محفل كبير، وقد طرح جلابيب الرعاة، ليرتدي طيالسة الأدباء والبلغاء والعلماء..

حييته، فلم يشعر بتحيتي، فحركته بيدي، وقلت: مرحبا بصديقنا الشنفرى.. هل رضي الشنفرى من حياته بعد عودته بأن يصير راعيا؟

ابتسم، وقال: وهل يمكن أن يتكبر على الرعي أحد بعد رعي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟

ثم أردف يقول: لو أن الشنفرى سمع قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (ما بعث الله نبيا إلا راعي غنم)، فقيل له: وأنت يا رسول الله؟ قال: (وأنا رعيتها لأهل مكة بالقراريط) ([1])

وسمع ما حدث به جابر بن عبد الله من قوله: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نجني الكباث، فقال: عليكم بالأسود منه فإنه أطيبه فإني كنت أجنيه إذ كنت أرعى الغنم، قلنا: وكنت ترعى الغنم يا رسول الله؟ قال: (نعم، وما من نبي إلا وقد رعاها)([2])

وسمع ما حدث به أبو سعيد قال: افتخر أهل الإبل والشاء، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:(بعث موسى وهو راعي غنم، وبعث داود وهو راعي غنم، وبعثت وأنا راعي غنم لأهلي بأجياد)([3])

لو أن سمع كل هؤلاء الشهود لترك رماحه وسيوفه وجلس مع غنماته كما أجلس أنا الآن معها.. وقد كفى العالم من شره، وكفاه العالم شره.

قلت: كيف رضيت لنفسك ـ مع ما منحته من قدرة على التعلم ـ على الجلوس بين الغنم.. ألم يكن الأجدى بك أن تجلس بين يدي تلاميذك، يقبل هذا يدك، ويسعى ذاك لخدمتك، وفوق ذلك تنال من الأجور ما لا تناله من هذه المهنة؟

قال: ومن لهذه الغنم المسكينة يرويها ويطعمها.. ومن للبشر الذين ينتظرون صوفها ولبنها ولحمها..؟

قلت: لكل حرفته التي تصلح له.. وأنا لا أرى هذه الحرفة تصلح لك.

قال: إن كل من تراه في هذه الصحارى مثلي يحفظون ما أحفظ.. ويعلمون ما أعلم.. فهل نترك حرفنا ووظائفنا لنجلس جميعا معلمين وأساتذة؟

قلت: فهل تعلمتم إذن لتصيروا رعاة؟

قال: العلم شيء.. والحرفة شيء آخر.. نحن نتعلم لوجه الله، وابتغاء مرضاة الله، ثم نكل إلى الله أحوالنا.. فإن شاء أن يجعلنا في زمر الأساتذة حمدنا الله على ذلك مع اعتقادنا بعظم المسؤولية المنوطة بنا.. وإن شاء أن يجعلنا رعاة غنم حمدنا الله، واعتقدنا فضل ما نحن فيه.. فلسنا أشرف من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولا أشرف من الأنبياء.

قلت: متى توقفت عن طلب العلم؟

ابتسم، وقال: ومتى توقفت أنت عن أداء الصلاة؟

قلت: كيف تقول هذا؟.. لقد كنت أحسبك ذا علم وذا عقل.. هل يجوز للمسلم أن يتوقف عن أداء الصلاة؟.. إن الصلاة مفروضة في جميع الأحوال، ولو أن تؤديها بالإيماء.

قال: ومثلها العلم.. كلاهما فريضة من فرائض الله.. وكلاهما مما لا يجوز التوقف عن طلبه.. ألم تسمع قوله تعالى مخبرا عن دعاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم :{ وَقُل رَبِّ زِدْني عِلْماً } (طه: 114)، وقوله تعالى وهو يبين رفعة أهل العلم:{ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ } (الزمر: 9)، وقوله تعالى:{ يَرْفَعِ اللهُ الَّذينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ } (المجادلة: 11)، وقوله تعالى وهو يحصر الخشية في أهل العلم:{ إنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ } (فاطر: 28)؟

وفوق ذلك.. فقد أخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأن العلم نوع من أنواع العبادة، بل هو من أفضلها، فقال:(أفضل العبادة الفقه، وأفضل الدين الورع)([4])، وصرح صلى الله عليه وآله وسلم بذلك فقال:(فضل العلم خير من فضل العبادة، وخير دينكم الورع)([5])

وقال صلى الله عليه وآله وسلم في حديث آخر:(قليل العلم خير من كثير العبادة، وكفى بالمرء فقها إذا عبد الله، وكفى بالمرء جهلا إذا أعجب برأيه)([6])

وقال صلى الله عليه وآله وسلم:(ما عبد الله بشيء أفضل من فقه في دين، ولفقيه واحد أشد على الشيطان من ألف عابد، ولكل شيء عماد وعماد هذا الدين الفقه)([7])

قلت: أراك تحفظ الكثير مما ورد في فضل العلم؟

قال: إن هذه الأحاديث وغيرها هي المحرك الذي حرك هممنا وحرك همم الأجيال الكثيرة من ورثة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لطلب العلم.. فكيف لا أحفظها؟

قلت: من رواها لك.. أأخذتها من الثقاة العدول.. أم تراك أخذتها من المدلسين والضعفاء؟

نظر إلي بغضب، وقال: أتتهمني في ديني؟.. كيف أرضى أن آخذ علم ديني وأقوال نبيي من المدلسين والضعفاء.. إن كل ما أرويه لدي أسانيده العالية إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. ولولا خشية الإطالة عليك لذكرتها لك سندا سندا.. وعرفتك برجالها رجلا رجلا..

قلت: أنت محدث إذن.. فكيف ترضى بالرعي؟

قال: أراك تعود إلى ما بتتنا فيه.. أنا عبد لله.. وعبد الله لا يختار إلا ما اختار الله له.. ثم إن كل من تلاقيه من الرعاة والتجار والبنائين والخياطين يعلم ما أعلم، أو يعلم أكثر مما أعلم.. فهل يتركون حرفهم جميعا؟

قال ذلك، ثم انتبه إلى بعض نعجاته، وقد ابتعدت عن صواحبها، فأسرع إليها، وهو يحدو بقول الحافظ العراقي في ألفية السيرة:

مَرُّوا على خَيمَةِ أمِ مَعبَدِ

  وهْيَ علَى طريقِهِمْ بمَرْصَدِ

وعندَها شَاةٌ أضرَّ الجَهْدُ

  بِها وما بِها قوًى تَشتَدُّ

فَمَسَحَ النبيُّ منها الضَرْعَا

  فَحَلبَتْ ما قدْ كفَاهُمْ وُسعَا

وَحَلَبَتْ بعدُ إناءً ءاخرَا

  تركَ ذاكَ عندَها وَسَافَرَا

جزى الله ربُّ الناس خيرَ جزائه

  رفيقين حَلاّ خيمتَي أم معبد

هما نزلاها بالهدى فاهتدت به

  فقد فاز من أمسى رفيق محمد‏

فما حملت من ناقة فوق رَحْلِها

  أبرّ وأوفى ذمة من محمد

عادت الشاة إلى حيث صواحبها، فاقتربت منه، وقلت: أرى الشاة قد أطاعتك، أترى فهمت ما كنت تقرؤه عليها؟

قال: وما يمنعها أن تفهم.. إن لله في خلقه من الأسرار ما لا تطيق عقولنا أن تحيط به.

قلت: لقد كنت تقرأ من ألفية العراقي في السيرة.. فما تحفظ منها؟

ابتسم، وقال: أحفظها ـ بحمد الله ـ جميعا..

صحت متعجبا: أتحفظ ألف بيت كاملة؟

ابتسم، وقال: وما ألف بيت.. إنها أيسر علينا بحمد الله من شربة ماء..

قال ذلك، ثم نظر إلي، وقال: إن الذي تراه أمامك يحفظ عشرات الآلاف من أبيات الشعر والنظم.. وأذكر أن أمي كانت تسكتني في صباي بألفية ابن مالك؟

قلت: أأمك تحفظها؟

قال: وكيف لا تحفظها؟.. وما لها لا تحفظها؟.. ألم تحفظ لنا الألفية النحو الذي نطق به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟

قلت: بلى..

قال: فلذلك ترى الجميع يحفظها هنا.

قلت: أراكم انشغلتم بعلوم الآلات عن علوم المقاصد؟

قال: وما علوم المقاصد؟

قلت: حفظ القرآن الكريم مثلا.. أليس الأجدر بكم بذل الجهد في حفظه بدل حفظ الأشعار التي لا تصلح إلا للأسمار.

قال: نحن لا نتحدث عن حفظ القرآن..

قلت: لم؟.. لقد يسره الله للذكر، فكيف عسر عليكم؟

قال: أرأيت لو أن من أهل بلدك من راح يعدد في محفوظاته سورة الفاتحة، ويفخر بها.. ما ترى موقف الناس منه؟

قلت: سيضحكون من بلاهته.

قال: فهكذا الأمر عندنا.. لو راح أحدنا يذكر حفظه للقرآن لأضحك الناس عليه.

قلت: أبلغ بهم احتقار القرآن الكريم إلى هذه الدرجة؟

قال: لا.. هذا من تعظيم القرآن لا من احتقاره.. هم يعتقدون أن حفظه فريضة لا نافلة، ولا يحق لأحد أن يزهو بأدائه الفريضة.

قلت: ما سر هذه الذاكرة العجيبة التي أوتيتموها من دون الناس؟

قال: نحن بحمد الله أخلصنا لله، وسلمنا أمورنا له.. ثم جلسنا بين أيدي ورثة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نتأدب على أيديهم، وننهل من علومهم، وكأنا بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  فرزقنا الله من الفتوح على أيديهم ما لم نكن نحلم به.

قلت: فدلني عليهم.. فأنا لا همة لي في حياتي إلا البحث عن ورثة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

قال: هم كثيرون، فأيهم تطلب؟

قلت: لقد ذكر لي معلم الهداية فما لعل هذه الحاضرة هي بلده.. ولعل ورثتها هم حملة مشعله.

قال: إن كان قد ذكر لك الفم الذي طهر لسانه بماء الحقائق، وزين بمواثيق الرقائق، وعتق من سجون العلائق، فصار بين الناس كالبدر المتلألئ، تنشق له حجب الظلمات، وتندك له صروح الطغاة.. فهذه البلاد هي بلاده، وهذه الأرض هي أرضه، وهذه الحاضرة هي حاضرته.

قلت: بلى.. لقد ذكر لي هذا.. إنك تحفظ ما قاله حرفا حرفا.. فهل التقيت بمعلم الهداية؟

قال: دعك من الفضول، فما وصل للأصول من تعلق بالفضول.

قلت: فأين أجد حامل هذا المشعل من مشاعل الهداية النبوية؟

قال: اذهب إلى مركز هذه المدينة.. وزر أي محضرة من محاضرها.. وستجد كل واحد منهم فمه هو ذلك الفم.. ووظيفته هي تلك الوظيفة.

***

سرت إلى حيث أرشدني الراعي، وأنا ممتلئ عجبا وإعجابا.. لقد أزاح ذلك الراعي ما تراكم على نفسي من الهموم والأحزان.. بل جعلني أشعر بأن البئر التي تركها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. بل الآبار التي تركها.. لا تزال ممتلئة بالمياه العذبة التي يمكن أن تسقي كل من يفد إليها ليرتوي من ينابيعها.

لا يمكنني أن أحدثك عن كل من لاقيته من الأساتذة والطلبة.. ولكني سأكتفي برجلين من الورثة.. أما أحدهما، فعرفت من صحبتي له قيمة الأدب وارتباط العلم بالأدب والأخلاق والروحانية.

وأما الثاني، فعرفت من صحبتي له أنواع المعارف وقيمتها وعلاقتها بالهدي النبوي.

الآداب

أما أول الرجلين، فقد كان اسمه محمد الأمين.. وكان رجلا ممتلئا بالحكمة والأدب والالتزام التام بالهدي النبوي..

لقد كان أول رجل لاقيته عندما دخلت حاضرة (شنقيط).. فقد دخلت أول محضرة من محاضر العلم فيها.. وقد كتب على بابها قوله تعالى:{ مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ} (آل عمران:79)

في مدخلها التقيته، وقد كان عليه سيما المتوسمين، ونور ورثة النبيين.. سلمت عليه، وقد أصابني من هيبته ما منعنى من الاقتراب منه أو الحديث معه مع ما كان يظهر عليه من التواضع والبساطة.

لكنه دعاني، وقال: مرحبا بك في بلدك، وأمام أهلك.. ومبارك لك تخرجك من مدرسة الحوار الغزالية، فقل من يتخرج من تلك المدرسة هذه الأيام.

قلت: كيف عرفت ذلك؟.. أنا لم أر أحدا لأخبره.

قال: ألم ينبهك الراعي إلى أن لا تسأل مثل هذه الأسئلة؟

قلت: أجل.. وأعتذر إليك.. لاشك أنك صاحبي الرابع الذي أرشدني إليه معلم الهداية.

قال: أنا أحدهم.. فكل من تراه في هذه المدينة ورثة من ورثة الهدي النبوي في التعليم.. ولذلك ترى بركاته علينا معشر الشناقطة.

قلت: بمن أبدأ منكم.. فإني الآن في متاهة..

قال: بي تبدأ.. وبي يبدأ كل طلبة العلم في هذه الحاضرة من حواضر الإسلام.

قلت: لم؟

قال: أنا الذي أكسو الطلبة حلة أهل العلم.. ولا يمكن للطالب الذي لم يكتس بهذه الحلة أن يقبله أي معلم في هذه المدينة.

قلت: أعمامة هي تلك الحلة، أم قميص؟.. وهل تشبه حلة الأزهر، أم تشبه حلة القرويين؟.. أم تراها تشبه تلك الحلة التي أهداها الصالحي لمحمد الوارث([8]

قال: هذه الحلة هي حلة سيد المرسلين.. فلا يمكننا أن نلقن طالبا أي علم من العلوم ما لم يتحل بتلك الحلة المباركة.

قلت: فأين وجدتموها؟

قال: في هديه صلى الله عليه وآله وسلم.. وفي هدي ورثته من بعده.. فنحن ننهل منهما، ونربي عليهما، ونبدأ بهما.

قلت: فما أثواب هذه الحلة؟

قال: أربع.. ولا تكتمل الحلة إلا بها.

قلت: فما هي؟

قال: العبودية.. والمجاهدة.. والسمت.. والإفادة([9]).

قلت: أهذه سنة سننتموها في هذه الحاضرة من حواضر الإسلام، أم هي هدي تلقاه سلفكم عن خلفكم؟

قال: بل هي هدي تلقاه سلفنا عن خلفنا.. لقد كانت الأمة جميعا، وإلى فترة قريبة لا تعرف في العلم إلا هذا الهدي([10]) إلى أن غزتها شلة المراهقين، فحولت مدارسها إلى مدارس المشاغبين.

قلت: ولكني أرى أن مدراس المشاغبين أكثر تطورا من هذه المحاضر التي أراها في هذه المدينة؟

قال: نعم هي أكثر منها تطورا في العمران.. ولكنها أعظم انحدارا في الإنسان.

قلت: فلم لم تجعلوها متفوقة في العمران؟

قال: لقد قعدت بنا الفاقة دون ذلك.. ثم إنا رأينا أن أكثر ما في ذلك العمران ترف، ولا يمكن للطالب أن يجمع بين الحقائق والترف.

قلت: فهل تسمح لي أن أستفيد منك ما ذكرته من حلة طلاب العلم النبوية؟

قال: ذلك واجب علي وعليك.. على أن تلتحق بطلبة هذه المحضرة.. لتنهل من آدابها ما يؤهلك لسائر المحاضر.

العبودية:

كان أول فرع من فروع الآداب بدأنا به دراستنا في محضرة الآداب هو فرع (العبودية)، وقد سألت الشنقيطي عن سر البدء بالعبودية، فقال: لقوله تعالى:{ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} (العلق:1).. فلا يمكن أن يتعلم من يتعلم إلا بتعليم الله.. ولا يحق لمن تعلم بتعليم الله أن يغفل عن الله، أويحاد الله، أو ينشغل بعلمه عن الله.

قلت: فما أركان العبودية التي سنتعلم آدباها في هذا القسم؟

قال: اثنان: التجرد، والعمل.. فلا تتحقق العبودية إلا لمن تجرد بعلمه لله، ثم عمل بما يقتضيه علمه لوجه الله.

قلت: فهل ستعلمني علوم ذلك؟

قال: اجلس مع زملائك من طلبة العلم، وستتعلم معهم أسرار هذين الركنين.

التجرد:

جلست مع زملائي في حلقة العلم، وقد بدا لي أنهم كلهم جدد، فلم يكن أحد منهم يعرف الآخر.. لم نلبث إلا قليلا، حتى جاء الشنقيطي، وسلم علينا بأدب وتواضع، ثم راح يردد قوله صلى الله عليه وآله وسلم:(إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امريءٍ ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها، أو امرأةٍ ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه)([11])

ثم قال: إن هذا الحديث الذي دأب أهل العلم على استفتاح مجالسهم ومصنفاتهم به هو الأساس الذي ينبغي أن تبدأ حياتكم به.. فلا يمكن للعالم ولطالب العلم أن يتحقق بعبودية العلماء حتى يعيشه ويتذوقه وتسير عليه حياته جميعا.

لقد ورد عن نبينا صلى الله عليه وآله وسلم الأحاديث الكثيرة المنبئة عن خطر قصد غير الله بطلب العلم، ففي الحديث الصحيح يصور رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مشهدا من مشاهد الآخرة، فيقول:(إن أول الناس يقضى عليه يوم القيامة رجل استشهد فأتى به فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: قاتلت فيك حتى استشهدت. قال: كذبك ولكنك قاتلت ليقال فلان جريء، فقد قيل ثم أمر ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار، ورجل تعلم العلم وعلمه وقرأ القرآن فأتى به فعرفه نعمه فرفعها قال: قال: فما عملت فيها؟ قال: تعلمت العلم وعلمته ومن قرآت فيك القرآن. قال: كذبت ولكنك تعلمت ليقال عالم، وقرأت القرآن ليقال هو قارئ فقد قيل ثم أمر بن فسحب على وجهه حتى ألقي في النار، ورجل وسع الله عليه وأعطاه من أصناف المال كله فأتى به فعرفه نعمه فعرفها. قال: فما عملت فيها؟ قال: ما تركت سبيل تحب أن ينفق فيها إلا أنفقت فيها لك قال: كذبت ولكنك فعلت ليقال هو جواد فقد قيل، ثم أمر فسحب على وجهه حتى ألقي في النار)([12])

وفي حديث آخر قال صلى الله عليه وآله وسلم:(ثلاثة مهلكون عند الحساب: جواد وشجاع وعالم)([13])

وقال صلى الله عليه وآله وسلم:(إذا جمع الله الأولين والآخرين ليوم لا ريب فيه نادى مناد من كان أشرك في عمل عمله لله أحدا فليطلب ثوابه من عنده فإن الله أغنى الشركاء عن الشرك)([14])

وفي الحديث القدسي يقول صلى الله عليه وآله وسلم:(قال الله تعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه، إذا كان يوم القيامة أتي بصحف مختمة فتنصب بين يدي الله تعالى، فيقول الله لملائكته: اقبلوا هذا وألقوا هذا، فتقول الملائكة: وعزتك ما رأينا إلا خيرا، فيقول: نعم لكن كان لغيري ولا أقبل اليوم إلا ما ابتغي به وجهي)([15])

وفي رواية أخرى:(إذا كان يوم القيامة يجاء بالأعمال في صحف مختمة، فيقول الله ـ عز وجل ـ: اقبلوا هذا وردوا هذا، فتقول الملائكة وعزتك ما كتبنا إلا ما عمل، فيقول: إن عمله كان لغير وجهي، وإني لا أقبل اليوم إلا ما كان لوجهي)

وفي رواية أخرى:(إن الملائكة يرفعون عمل العبد من عباد الله يستكثرونه حتى يبلغوا به إلى حيث شاء الله من سلطانه فيوحي الله إليهم: إنكم حفظة على عمل عبدي وأنا رقيب على ما في نفسه، إن عبدي هذا لم يخلص لي في عمله فاجعلوه في سجين، ويصعدون بعمل العبد يستقلونه ويحقرونه حتى يبلغوا به إلى حيث شاء الله من سلطانه فيوحي إليهم إنكم حفظة على عمل عبدي وأنا رقيب على نفسه، إن عبدي هذا أخلص لي عمله فاجعلوه في عليين)([16])

وفي حديث آخر قال صلى الله عليه وآله وسلم:(إن الله يحب الأبرار الأتقياء الأخفياء الذين إذا غابوا لم يفتقدوا وإذا حضروا لم يدعوا ولم يعرفوا مصابيح الهدى يخرجون من كل غبراء مظلمة)([17])

وفي حديث آخر قال صلى الله عليه وآله وسلم:(تعوذوا بالله من جب الحزن واد في جهنم تتعوذ منه جهنم كل يوم أربعمائة مرة يدخله القراء المراءون بأعمالهم، وإن أبغض القراء إلى الله تعالى الذين يزورون الأمراء)([18])

قال بعض الطلبة: فكيف نتقي هذا الخطر العظيم الذي يهدد أهل العلم؟

قال: لا يتحقق ذلك إلا بأن تتجردوا لله، فلا تقصدوا بعلمكم أي غرض دنيوي، من تحصيل مال أو جاه أو شهرة أو سمعة أو ‏تميز عن الأقران.. وغير ذلك مما تشتهيه النفوس..

قلت: ألا ترى ـ يا شيخنا الجليل ـ أن ذلك قد يقف بعجلة العلم؟

قال: ولم؟

قلت: نحن نرى في واقعنا أن طللبة العلم لا يستحثهم إلا الجاه، والشهادات العالية، والمناصب الرفيعة، والأموال التي تدر عليهم من كل محل.. وفوق ذلك كله نيلهم الجوائز العالمية الكبرى التي يسيل لها لعاب الحريصين.

قال: لا حرج أن يسلم الطالب المجد، والعالم الفحل كل تلك الجوائز.. ولكن الخطر الكبير في أن يقصدها.

قلت: ما الفرق بينهما؟

قال: لقد فرق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بينهما عندما قيل له: أرأيت الرجل يعمل العمل من الخير، ويحمده الناس عليه؟ فقال: (تلك عاجل بشرى المؤمن)([19])

قلت: فما سر هذا التفريق؟

قال: عندما تقصد شيئا، وتجعله هدفا بين عينيك، فإنك لن تتحرك إلا من خلاله، وذاك يحجزك عن خير كثير .. وقد يضعك بين يدي شر كثير.

قلت: فاضرب لي مثالا على ذلك.

قال: لقد كنت في المدرسة الغزالية.. ولعلك سمعت الغزالي، وهو يقول:(كم من بلدة ليس فيها طبيب إلا من أهل الذمة، ولا يجوز قبول شهادتهم فيما يتعلق بالأطباء من أحكام الفقه، ثم لا نرى أحداً يشتغل به، ويتهاترون على علم الفقه لاسيما الخلافيات والجدليات والبلد مشحون من الفقهاء بمن يشتغل بالفتوى والجواب عن الوقائع؛ فليت شعري كيف يرخص فقهاء الدين في الاشتغال بفرض كفاية قد قام به جماعة وإهمال ما لا قائم به؟ هل لهذا سبب إلا أن الطب ليس يتيسر الوصول به إلى تولي الأوقاف والوصايا وحيازة مال الأيتام وتقلد القضاء والحكومة والتقدم به على الأقران والتسلط به على الأعداء؟)([20])

قلت: بلى.. سمعت هذا.

قال: أرأيت لو أن هؤلاء الطلبة الذين انشغلوا بما كفوا.. وضعوا بين أعينهم طاعة الله، فراحوا يبحثون في فروض الأعيان والكفاية ما يحققها.. هل ترى مثل هؤلاء يتركون لأهل الذمة الانشغال بهذه العلوم دونهم؟

قلت: لا.. لا أحسبهم يفعلون ذلك..

قال: وحينذاك ستكفى الأمة هذه الناحية كما تكفى غيرها من النواحي، ولا يتحقق ذلك إلا ببركة الإخلاص والتجرد.

قلت: صحيح ما ذكرت.. ولو أنهم فعلوا ذلك لكنا الآن أحسن حالا.. ولكن الوضع الآن مختلف.

قال: لا.. الوضع واحد.. الإنسان واحد في جميع الأزمان.

قلت: كيف ذلك.. ونحن نرى أن أكثر ما وصلنا إليه من تطور لم نصل إليه إلا ببركات حب الجاه والمال والشهرة؟

قال: ولكن شؤم حب المال والجاه والشهرة جعل هذا التطور الذي تفخر به البشرية تطورا ممحوق البركة.. ولو أنها رعته بالإخلاص والتجرد لكان شأنها الآن مختلفا تماما.

قلت: كيف ذلك؟

قال: نحن ننظر إلى ما أوتينا، ولم ننظر إلى ما لم نؤت.. فانشغلنا بما أوتينا، وتصورنا أنه النهاية.. ولو فكرنا فيما لم نؤت مع قدرتنا على أن يكون لنا لاعتبرنا أنفسنا متخلفين لا متقدمين، وفقراء لا أغنياء، وجهلة لا متعلمين.

قلت: كيف ذلك؟

قال: سأضرب لك مثالا على ذلك.. ألا ترى أن الشركات والأفراد.. وكل مراكز البحث تحتكر الكثير من بحوثها.. بل تشح به حتى يبقى غيرها تابعا لها.. وحتى تنسب براءات الاكتشاف والاختراع إليها لا إلى غيرها.

قلت: أجل.. أرى ذلك.

قال: ألا ترى أن ذلك يقف في وجه البحث العلمي؟

قلت: بلى..

قال: وكيف يكون الحال لو أن هذه الجهات تحلت بالإخلاص، فراحت تنشر بصدق كل ما توصلت إليه من علم، لا يهمها هل نسب إليها أم لم ينسب؟

قلت: حينها يختلف الوضع تماما.. حينها ستتحول الأرض جميعا إلى مركز أبحاث موحد.. وحينها سيكون الإنتاج العلمي مضاعفا.

قال: ذلك بعض بركات الإخلاص..

قلت: وما جميع بركاته؟

قال: الإخلاص يحول بين العلماء وطلبه العلم وبين الأهواء.. فلذلك سيخدم العلم الحاجات التي تتطلبها الحكمة، لا الحاجات التي يتطلبها الهوى.

قلت: وحينها ماذا سيحصل؟

قال: حينها لن تكون هناك قنابل نووية، ولا تلوت بيئة، ولا انحراف إنترنت، ولا قنوات ماجنة، ولا صحف فضائح..

قلت: تقصد أن يمتلئ العالم بالسلام.

قال: أجل.. حينها يعم السلام الذي جاء به الإسلام العالم.. فلن تشعر البشرية بلذة السلام إلا في رحاب الإسلام.

قلت: كل ما ذكرته جميل.. ولكن.. ألم تقرأ ما ذكر الغزالي من أن الجاه محبوب بالطبع؟

قال: بلى.. قرأت ذلك.

قلت: أتريد منا أن نقهر طبعنا، أم تريد من البشرية أن تتمرد على الفطرة التي فطرت عليها.

قال: لقد ذكر لنا نبينا صلى الله عليه وآله وسلم ما نملأ به هذه الفطرة.. وبما هو أكمل وأعظم من كل جاه ومنصب.

قلت: فحدثني حديث ذلك.

قال: من ذلك ما أخبر صلى الله عليه وآله وسلم عنه وهو يعدد فضل طالب العلم، فقال:(من سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له طريقا إلى الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضا بما يصنع، وإن العالم ليستغفر له من في السم؟وات ومن في الأرض حتى الحيتان في الماء، وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء، إن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما إنما ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر)([21])

وقال صلى الله عليه وآله وسلم:(ما من رجل تعلم كلمة، أو كلمتين، أو ثلاثا، أو أربعا، أو خمسا مما فرض الله عز وجل فيتعلمهن ويعلمهن إلا دخل الجنة)([22])

وأخبر صلى الله عليه وآله وسلم عن بعض صور التكريم التي يقابل بها الملأ الأعلى أهل العلم، فقال مخاطبا من جاءه يطلب العلم: (مرحبا بطالب العلم إن طالب العلم تحفه الملائكة بأجنحتها ثم يركب بعضهم بعضا حتى يبلغوا السماء الدنيا من محبتهم لما يطلب)([23])

بل إنه صلى الله عليه وآله وسلم أخبر أن درجة أهل العلم تداني درجة الأنبياء، فقال:(من جاءه أجله وهو يطلب العلم لقي الله ولم يكن بينه وبين النبيين إلا درجة النبوة)([24])

وأخبر أنه يوازي درجة الشهداء، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا جاء الموت لطالب العلم وهو على هذه الحالة مات وهو شهيد)([25])

أما الأجور المعدة لأهل العلم، فإنها أضعاف مضاعفة، قال صلى الله عليه وآله وسلم:(من طلب علما فأدركه كتب الله له كفلين من الأجر، ومن طلب علما فلم يدركه كتب الله له كفلا من الأجر)([26])

ومن أكبر ميزات أجر العلم أن أجره غير منقطع، قال صلى الله عليه وآله وسلم:(إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له)([27])

العمل:

بقينا فترة مع الشنقيطي نتعلم أسرار التجرد لطلب العلم حتى شعرنا بأنفسنا ترق، وبعقولنا تتقدس، وبأرواحنا تطمح إلى ما طمحت إليه أرواح الهمم العالية..

بعد أن رأى الشنقيطي منا ذلك، قال في حلقة من الحلقات، بعد أن أجرى لنا بعض الاختبارات: مبارك لكم فهمكم لسر الإخلاص والتجرد.. فهلموا إلى العمل.. فلا ينفع الإخلاص من دون عمل.

لقد ورد في النصوص الكثيرة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم اعتبار العمل ركنا من أركان العلم النافع.. فلا يكمل العلم إلا بالعمل، كما لا يصلح العمل إلا بالعلم.

ولهذا كان صلى الله عليه وآله وسلم يستعيذ من العلم الذي لا ينفع، وهو العلم الذي لا يستفيد منه صاحبه عملا صالحا يقربه إلى ربه، قال صلى الله عليه وآله وسلم:(اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع، ومن نفس لا تشبع، ومن دعوة لا يستجاب لها)([28])

وأخبر صلى الله عليه وآله وسلم عن بعض مشاهد المعاناة التي يجدها من لم يعمل بعلمه، فقال:(يجاء بالرجل يوم القيامة، فيلقى في النار، فتندلق أقتابه فيدور بها كما يدور الحمار برحاه، فيجتمع أهل النار عليه فيقولون: يا فلان ما شأنك؟ أليس كنت تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر؟ فيقول: كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن الشر وآتيه)([29])

وقال صلى الله عليه وآله وسلم:(الزبانية أسرع إلى فسقة القراء منهم إلى عبدة الأوثان، فيقولون: يبدأ بنا قبل عبدة الأوثان؟ فيقال: لهم ليس من يعلم كمن لا يعلم)([30])

وقال صلى الله عليه وآله وسلم:(إن أناسا من أهل الجنة ينطلقون إلى أناس من أهل النار فيقولون: بم دخلتم النار، فوالله ما دخلنا الجنة إلا بما تعلمنا منكم؟ فيقولون: إنا كنا نقول ولا نفعل)([31])

وقال صلى الله عليه وآله وسلم:(كل علم وبال على صاحبه إلا من عمل به)([32])

وقال صلى الله عليه وآله وسلم:(أشد الناس عذابا يوم القيامة عالم لم ينفعه علمه)([33])

وأخبر صلى الله عليه وآله وسلم أن من الأسئلة الخطيرة التي يسأل عنها العبد يوم القيامة، وعلى أساسها يقرر مصيره، سؤاله عن علمه فيما عمل فيه، قال صلى الله عليه وآله وسلم:(لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن عمره فيم أفناه، وعن علمه فيم فعل، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه، وعن جسمه فيم أبلاه)([34])

وقال صلى الله عليه وآله وسلم:(لا تزول قدما ابن آدم يوم القيامة حتى يسأل عن خمس: عن عمره فيم أفناه، وعن شبابه فيم أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه، وماذا عمل فيما علم)([35])

وقال صلى الله عليه وآله وسلم:(ما من عبد يخطب خطبة إلا الله عز وجل سائله عنها ما أراد بها)([36])

ولهذا اعتبر صلى الله عليه وآله وسلم من لم يعمل بعلمه شر الناس، فقد سئل صلى الله عليه وآله وسلم: يا رسول الله أي الناس شر؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم:(اللهم اغفر، سل عن الخير ولا تسل عن الشر، شرار الناس شرار العلماء)([37])

وفي الحديث عن عمار بن ياسر قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى حي من قيس أعلمهم شرائع الإسلام، قال: فإذا هم قوم كأنهم الإبل الوحشية طامحة أبصارهم ليس لهم هم إلا شاة أو بعير، فانصرفت إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا عمار ما عملت؟ فقصصت عليه قصة القوم وأخبرته بما فيهم من السهوة، فقال: (يا عمار ألا أخبرك بأعجب منهم؟ قوم علموا بما جهل أولئك، ثم سهوا كسهوهم)([38])

وشبه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من يعلم الناس الخير، وينسى نفسه بالسراج الذي يضيء لغيره، وهو يحرق نفسه، قال صلى الله عليه وآله وسلم:(مثل الذي يعلم الناس الخير، وينسى نفسه كمثل السراج يضيء للناس ويحرق نفسه..)([39])

بل إنه صلى الله عليه وآله وسلم ـ وفق ذلك كله ـ سماه منافقا، فقال:(إني لا أتخوف على أمتي مؤمنا ولا مشركا، فأما المؤمن فيحجزه إيمانه، وأما المشرك فيقمعه كفره، ولكن أتخوف عليكم منافقا عليم اللسان، يقول ما تعرفون، ويعمل ما تنكرون)([40])

وفي حديث آخر نفى صلى الله عليه وآله وسلم الإيمان على من لم يجمع بين العلم والعمل، فقال:(ما آمن بالقرآن من استحل محارمه)([41])

وهكذا حذر جميع الأنبياء عليهم السلام، كما وردت الآثار عنهم بذلك، فمما روي عن عيسى u قوله: (مثل علماء السوء كمثل صخرة وقعت على فم النهر لا هي تشرب الماء ولا هي تترك الماء يخلص إلى الزرع، ومثل علماء السوء مثل قناة الحش ظاهرها جص وباطنها نتن، ومثل القبور ظاهرها عامر وباطنها عظام الموتى)

وقال:(كيف يكون من أهل العلم من مسيره إلى آخرته، وهو مقبل على طريق دنياه، وكيف يكون من أهل العلم من يطلب الكلام ليخبر به لا ليعمل به؟)

وقال: (مثل الذي يتعلم العلم ولا يعمل به كمثل امرأة زنت في السر فحملت فظهر حملها، فافتضحت فكذلك من لا يعمل بعلمه يفضحه الله تعالى يوم القيامة على رؤوس الأشهاد)

وفي أخبار داود u حكاية عن الله تعالى:(إن أدنى ما أصنع بالعالم إذا آثر شهوته على محبتي أن أحرمه لذيذ مناجاتي، يا داود لا تسأل عني عالماً قد أسكرته الدنيا، فيصدك عن طريق محبتي، أولئك قطاع الطريق على عبادي، يا داود إذا رأيت لي طالباً فكن له خادماً؛ يا داود من رد إلي هارباً كتبته جهبذاً، ومن كتبته جهبذاً لم أعذبه أبداً)

وذكر لنا أن رجلاً كان يخدم موسى u، فجعل يقول: حدثني موسى صفي الله، حدثني موسى نجي الله، حدثني موسى كليم الله، حتى أثرى وكثر ماله، ففقده موسى u فجعل يسأل عنه، ولا يحس له خبراً حتى جاءه رجل ذات يوم وفي يده خنزير وفي عنقه حبل أسود، فقال له موسى u: أتعرف فلاناً؟ قال: نعم، قال: هو هذا الخنزير، فقال موسى: يا رب أسألك أن ترده إلى حاله حتى أسأله بم أصابه هذا؟ فأوحى الله عز وجل إليه: لو دعوتني بالذي دعاني به آدم فمن دونه ما أجبتك فيه، ولكن أخبرك لم صنعت هذا به؟ لأنه كان يطلب الدنيا بالدين.

التفت إلينا الشنقيطي، وقال: أتدرون سر كل هذه التشديدات؟

قلنا: ما سرها؟

قال: شيئان: أما أحدهما، فيرتبط بالعالم الذي انشغل بالعلم عن العمل، وأما الثاني، فبالذين يرون العالم، ويسمعون منه.

قلنا: فحدثنا عن الأول.

قال: لقد ضرب الله تعالى لذلك مثلين، فقال في أولهما:{  وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } (لأعراف:175 ـ 176)، فهو مثال على من تبحر في علوم كثيرة، ربما نال منها ثمرات غيرت مسار حياته المادية، ولكنه لم يلتفت إلى حقيقته التي تحولت كلبا إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث، انسلخ من إنسانيته لأنه انسلخ قبل ذلك من آيات ربه.

ولذلك ورد في الآثار تشبيهه بالسراج الذي يضيئ لغيره، بينما هو يحترق.

أما الثاني، فقوله تعالى عن بني إسرائيل:{ مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } (الجمعة:5)، فبنو إسرائيل حملوا كتبهم وعرفوا ما فيها، ولكنهم نسوا ما فيها من الهدي، ولم يشتغلوا بما يخرج حقيقتهم عن البهيمية التي أوقعتها فيها شهواتهم.

قلت: فكيف تطبق هذين المثلين على ما ورد في النصوص المقدسة من عقوبة الذي لم يعمل بعلمه؟

قال: إن القرآن الكريم يخبرنا عن الحقيقة من منبعها الصافي.. هو لا يستعمل ألوان الطلاء التي نملأ بها حياتنا خداعا وغرورا.. إنه يواجهنا بالحقيقة.. إنه يقول بصراحة لمن تعلم العلوم الكثيرة، واجتهد في أن يقرأ المجلدات الضخمة: تريث قليلا، وانظر إلى نفسك في مرآة الحقائق، واقرأها.. ولا تنشغل بالقراءة عنها، فلعلك تجد فيها من الأدواء ما يعيد لها استقامتها وصحتها وعافيتها.

قلت: ولكن القرآن الكريم يشبه هذا الذي يصيح فيه بهذا بالحمار والكلب؟

قال: أجل.. إنه يقول له: إن لم تفعل ذلك، فلا فرق بينك وبين الحمار والكلب.. فالحمار يحمل العلوم لكنه لا يستوعبها، ولا يعيشها.. والكلب ليس له من هم إلا اللهث، إن تحمل عليه يلهث، أو تتركه يلهث.

وهكذا طالب العلم الذي يظل يلهث وراء العلوم غافلا عن التحقق بها، أو لاهثا وراء مكاسب العلوم المرتبطة بالطين، غافلا عن مكاسب العلوم المرتبطة بحقيقته.

قلت: ولكن كيف يهان العالم وطالب العلم كل هذه الإهانة؟

قال: هو الذي أهان نفسه..

قلت: كيف ذلك؟

قال: أرأيت لو لقنا آلة جميع المعارف والعلوم.. ووهبنا لها من الذكاء الصناعي ما يجعلها تستطيع أن تقوم بأي عمل.. هل يخرجها ذلك من كونها آلة؟

قلت: لا.. نعم هي آلة ثمينة.. ولكنها تظل آلة.. ولو عرضت نفسها على المرآة، فلن ترى غير آلة.

قال: فهكذا العالم الذي لم يعمل بعلمه.. إنه كسائر الناس.. له شهواتهم وأهواؤهم ومطامحهم، هو في الظاهر اختلف عنهم بعلمه، لكنه في الحقيقة بقي هو هو.. بل ربما يكون قد غذى لطائفه بالكبر والخداع والغش، فزاد في انحرافه على انحراف العوام.. ولذلك إذا ذهب إلى محكمة الله، فإنه لن يرى في مرآتها إلا حقيقته التي سترها بالألفاظ التي أجاد استعمالها والتلاعب بها.

قلنا: وعينا هذا.. وأدركنا خطره.. فحدثنا عن السر الثاني المرتبط بالذين يرون العالم، ويسمعون منه.

قال: هذا مما يزيد طين العالم بلة.. إن العالم في هذا المحل كاللص، بل هو أخطر من ذلك.. هو كالمجرم.. لا.. بل هو كالمحارب.. بل هو أعظم من ذلك بكثير.

قلنا: كيف ذلك؟

قال: لقد عبر بعضهم عن ذلك فقال:(احذروا زلة العالم لأن قدره عند الخلق عظيم فيتبعونه على زلته)

قلت: زلة العالم هي خطؤه في علمه.. وخطؤه لا علاقة له بسلوكه.. ففرق بين الخطأ والخطيئة.

قال: الزلة زلتان: زلة الخطأ وزلة الخطيئة، وكلاهما مما لا ينجو منهما من لم يعمل بعلمه..

لقد أشار الله تعالى إلى ذلك، فقال:{ أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} (الحديد:16)

وبين في موضع آخر سبب قسوة قلوبهم، فقال:{ فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ }  (المائدة:13)

لقد ذكر الله في هاتين الآيتين أن أول ما يصيب العالم قسوة القلب.. ذلك أن مقصد العلوم تهذيب الطباع وتليين القلوب.. فمن لم يلن قلبه مع أدوية العلوم، فلن يلين أبدا.

قلت: عرفت قسوة القلب.. وهي الخطيئة.. فأين زلة الخطأ؟

قال: لقد ذكرت الآية الثانية ذلك.. لقد ذكرت أن قسوة القلب أورثت فيهم خصلتين مذمومتين: أما إحداهما، فتحريف الكلم من بعد مواضعه.. وأما الثانية، فنسيانهم حظاً مما ذكروا به.

قلت: كيف ذلك؟

قال: العالم الذي لم يعمل بعلمه، سيجعل من علمه شباكا تصيد له ما يطلبه هواه، فلذلك قد يكتم ما أمر بنشره، وقد يحرف ما أمر بحفظه.

قلت: تقصد الفتاوى الضالة؟

قال: وأقصد الخطب الضالة والمواعظ الضالة والاحتساب الضال.. إن الانحراف يدخل على كل مشاعل الهداية إذا انحرف صاحبها.

قلت: أهذه فقط زلة الخطأ؟

قال: هناك زلة أخطر وأعمق.. إن الناس لا يسمعون بقدر ما يرون.. فلذلك تجدهم يتأثرون بسلوك العالم أكثر من تأثرهم بكلماته.. ومثل هذا العالم لن ينتج إلا المنحرفين.

وهناك صنف أخطر وأعظم يحول من العالم المنحرف معولا يهدم به الحقائق.

قلت: كيف ذلك؟

قال: ألا ترى كيف تنهار الأحزاب الكبرى نتيجة للفضائح التي يقع فيها رؤساؤها؟

قلت: ذلك صحيح.

قال: فالعالم ـ في أذهان الناس ـ ممثل للدين وللقيم، فإذا انحرف كان ذلك فرصة لمن يريد ضرب الدين أو تشويهه.

قال بعض الطلبة: لقد روي في هذا أن رجلا قال لابن عباس : أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، فقال:(إن لم تخش أن تفضحك هذه الآيات الثلاث فافعل، وإلا فابدأ بنفسك، ثم تلا:{ أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ} (البقرة:44)، وقال تعالى:{  يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (3)} (الصف)، وقوله تعالى حكاية عن شعيب u:{ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} (هود: 88)

قال بعض الطلبة: وعينا ـ يا شيخنا ـ كل ما ذكرته من ضرورة مزج العلم بالعمل، وقد ملأتنا شوقا إلى العمل، كما ملأتنا رهبة من تركه.. فما الذي ييسر علينا العمل الذي يجعلنا نتحقق بالعبودية؟

قال: ستدرسون هنا عشرة علوم.. كلها علوم عمل.. ولن تخرجوا من هذا القسم حتى تتقنوها جميعا.

قلت: فما أولها؟

قال: أن يشغلكم علم العمل عن علم الجدل .. لقد ضرب الغزالي لذلك مثالا، فقال:(فمثال من يعرض عن علم الأعمال، ويشتغل بالجدال مثل رجل مريض به علل كثيرة، وقد صادف طبيباً حاذقاً في وقت ضيق يخشى فواته، فاشتغل بالسؤال عن خاصية العقاقير والأدوية وغرائب الطب، وترك مهمه الذي هو مؤاخذ به، وذلك محض السفه)([42])

وفي هذا روي أن رجلاً جاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: علمني من غرائب العلم، فقال له: ما صنعت في رأس العلم؟ فقال: وما رأس العلم؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم:(هل عرفت الرب تعالى؟) قال: نعم، قال: (فما صنعت في حقه؟) قال: ما شاء الله، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (هل عرفت الموت؟) قال نعم، قال: (فما أعددت له؟) قال: ما شاء الله، قال صلى الله عليه وآله وسلم:(إذهب فأحكم ما هناك، ثم تعال نعلمك من غرائب العلم)([43])

قال آخر: فما الثاني؟

قال: أن لا تشينوا العلم بشيء من الطمع.. فلا أضيع للعلم من الطمع..

قال آخر: فما الثالث؟

قال: أن تتعلموا المداومة على مراقبة الله تعالى في السر والعلانية، والمحافظة على خوفه في جميع الحركات والسكنات والأقوال والأفعال.. فإن العلم أمانة، وقد قال تعالى آمرا هذه الأمة:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (لأنفال:27)، وقال مخبرا عن علماء بني إسرائيل ضاربا لنا المثل بهم:{ إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ }  (المائدة:44)..

قال آخر: فما الرابع؟

قال: أنتتعلموا المحافظةعلى القيام بشعائر الإسلام، وظواهر الأحكام، كإقامة الصلوات في مساجد الجماعات، وإفشاء السلام ‏للخواص والعوام، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والصبر على الأذى بسبب ذلك، صادعين بالحق عند السلاطين، ‏باذلين أنفسكم لله لا تخافون فيه لومة لائم، ذاكرين قوله تعالى:{ يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ }  (لقمان:17)، ذاكرين ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وغيره من الأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ من الصبر على الأذى، وما كانوا يتحملونه ‏في الله تعالى حتى كان لهم العقبى.

قال آخر: فما الخامس؟

قال: أن تتعلموا القيام بإظهار السنن، وإخماد البدع، والقيام لله في أمور الدين، وما فيه من ‏مصالح المسلمين على الطريق المشروع، والمسلك المطبوع، لا ترضون من أفعاله الظاهرة والباطنة بالجائز منها، بل تأخذون أنفسكم بأحسنها وأكملها، فإن العلماء هم القدوة..

قال آخر: فما السادس؟

قال: أن تكثروا من الصلاة على ‏النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتعظيمه، فإن محبته وإجلاله وتعظيمه صلى الله عليه وآله وسلم واجب، والأدب عند سماع اسمه وذكر سنته مطلوب ‏وسنة.

قال آخر: فما السابع؟

قال: أن تلازموا تلاوة القرآن الكريم، وأن تتعلموا الفكر في معانيه، وأوامره ونواهيه، ووعده ووعيده، والوقوف عند حدوده.

قال آخر: فما الثامن؟

قال: أن تتعلموا كيف تستعملون الرخص في محالها وعند الحاجة إليها، ووجود سببها ليقتدي به ‏نجيها، فإن الله تعالى يحب أن تؤتى رخصه، كما يحب أن تؤتى عزائمه.

قال آخر: فما التاسع؟

قال: أن تطهروا قلوبكم من كل غش، ودنس، وغل، وحسد، وسوء عقيدة وخلق، ليصلح بذلك لقبول ‏العلم وحفظه والاطلاع على دقائق معانيه وحقائق غوامضه، فإن العلم كما قال بعضهم: صلاة السر، وعبادة القلب، ‏وقربة الباطن، فكما لا تصح الصلاة التي هي عبادة الجوارح الظاهرة إلا بطهارة الظاهر من الحدث والخبث، فكذلك لا ‏يصح العلم الذي هو عبادة القلب إلا بطهارته عن خبث الصفات وحدث مساوئ الأخلاق ورديها..

قال آخر: فما العاشر؟

قال: أن تأخذوا أنفسكم بالورع في جميع شؤونكم، وتتحروا الحلال في الطعام والشراب واللباس والمسكن، وفي جميع ما تحتاجون إليه لتستنير قلوبكم، وتصلح لقبول العلم ونوره، والنفع به.

المجاهدة:

بعد أن مكثنا مدة في الفرع الأول نتعلم علومه، ونتدرب على آدابه، انتقلنا إلى الفرع الثاني، وهو فرع المجاهدة، وقد سألنا ـ  ونحن في الركن المرتبط بهذا من محضرة الآداب ـ شيخنا محمد الأمين الشنقيطي عن سر اعتبار المجاهدة ركنا من أركان آداب طلبة العلم وأهله، فقرأ قوله تعالى:{ وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} (العنكبوت:69)

ثم قال: هذه الآية تجيبكم على سؤالكم.. لقد وعد الله المجاهدين فيه أن يهديهم لسبيله.. فلذلك لا يمكن لطالب العلم أن يهتدي لسبل الله ما لم يجاهد نفسه في ذات الله.

ألستم ترون أن أول ما فعل جبريل u مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في أول لقاء له به أن غطه ثلاث مرات حتى بلغ منه الجهد([44]

قلنا: بلى.

قال: وكان بالإمكان في أول مرة أن يقول له:{ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} (العلق:1)؟

قلنا: بلى.

قال: ألم يكن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا نزل عليه جبريل u بالوحي يتفصد عرقاً في اليوم الشديد البرد، ‏فإذا كان على ناقة جثت الناقة، وأصاب عنقها الأرض من شدة ما يناله صلى الله عليه وآله وسلم ‏عند نزول الوحي؟

قلنا: بلى.. ذلك كذلك.. فما سره؟ وما علاقته بالمجاهدة؟

قال: العلم ثقيل، فلا ينبغي أن يستخف به، ورسالة عظمى، فلا ينبغي إهانتها.

قلنا: وكيف يستخف به؟ وكيف تهان؟

قال: إذا لم يعطه طالبه حقه من الجهد والبحث والنظر والمعاناة كان مستخفا به، وكان مستهينا بالرسالة التي يحملها.

قلت: فما حقه من الجهد؟

قال: لقد جعل الله لكل مسألة من مسائل العلم مفتاحها من المجاهدة، فمن لم تبلغ مجاهدته حق مفتاحها، فإنه لن يظفر من ذلك العلم إلا بالظواهر التي تملؤه بالغفلة، وتملأ نفسه بالغرور.

قلت: ألهذا سمى العلماء الباحث في مسائل العلم مجتهدا؟

قال: أجل.. ولم يطلقوا عليه هذه اللقب العظيم إلا بعد أن عانى الأمرين في البحث عن حقيقة العلم الذي صار مجتهدا فيه.

قلت: ما نوع هذا الجهد؟

قال: يختلف باختلاف المسائل: قد يكون رحلة تحقيق، وقد يكون اجتهاد تحصيل ومراجعة ومطالعة، وقد يكون معاناة تأمل، وقد يكون معاناة حفظ.

الرحلة:

قلت: فحدثنا عن الرحلة.. هل هي شرط في المجاهدة؟

قال: قد تكون شرطا.. فمن لم يظفر بالعلم في أرضه، فعليه أن يرحل إلى غيرها.. إن طالب العلم كتلك الشياه التي رأيتها في الصحراء، إذا لم نجد لها كلأ في محل بحثنا لها عن كلأ في غيره.

قلت: فهل في السنة ما يدل على ذلك؟

قال: كل السنة تدل على ذلك.. لقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:(اطلبوا العلم ولو بالصين، فإن طلب العلم فريضة على كل مسلم)([45])، إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في هذا الحديث يأمرنا بالرحلة، ولو إلى الصين.. فكل مكان يمكن أن ننال منه من العلم ما لم نكن نحلم بالتعرف عليه.

وقال في حديث آخر:(يوشك أن يضرب الناس أكباد الإبل يطلبون العلم، فلا يجدون أحدا أعلم من عالم المدينة)([46])

قلت: لقد ذكرتني برحلة موسى u الطويلة من أجل البحث عن بعض مسائل العلم.. لقد مشي على قدميه إلى مجمع البحرين قاصداً الخضر u حتى بلغ منه الجهد، ومع ذلك لم يستقر، ‏ولم يهدأ له بال حتى بلغ مكان العالم الذي ذكره الله له.

قال أحد الطلبة: وقد ذكر الله تعالى رحلة ذي القرنين الطويلة، وهي ممتلئة بالبحث عن العلم وأسبابه([47])، قال تعالى:{ وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا (83) إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآَتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا (84) فَأَتْبَعَ سَبَبًا (85) حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا (86) قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا (87) وَأَمَّا مَنْ آَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا (88) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (89) حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا (90) كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا (91) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (92)} (الكهف)

قال آخر: هذه رحلة موسى ورحلة ذي القرنين عليهما السلام.. فهل رحل محمد صلى الله عليه وآله وسلم في طلب العلم؟

قال: أجل.. ألم يتلق محمد صلى الله عليه وآله وسلم في رحلة الإسراء والمعراج من العلوم ما لم يتلق مثله في مكة المكرمة؟

قلنا: بلى.. وقد ذكر الله تعالى ذلك، فقال عن الإسراء:{ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (الاسراء:1)، فاعتبر علة إسرائه هو أن يريه من آيات الله، وكل العلوم آيات الله.

وقال عن المعراج:{ النَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2) وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى (6) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى (7) ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9) فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10) مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11) أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى (12) وَلَقَدْ رَآَهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14) عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى (15) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى (16) مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى (17) لَقَدْ رَأَى مِنْ آَيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى (18)} (النجم)، فاعتبر رؤية آيات ربه الكبرى من مقاصد رحلته إلى السموات العلى.

قال: وهكذا وردت الآثار الكثيرة من هدي أهل الله من ورثة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. فقد أجمعوا على أنه لن ينال العلم من اكتفى بالراحة دون الرحلة إلى أهل العلم.

التحصيل:

قلت: عرفنا الرحلة.. فحدثنا عن التحصيل والمراجعة.. وهل هي شرط في المجاهدة؟

قال: أجل.. هي شرط لا مناص منه لطالب العلم.. لقد أشار القرآن الكريم إليها، فقال تعالى مخبرا عن حرص رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ألا ينسى حرفا واحدا مما يوحى إليه:{ وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا } (طه: 114)، وقال:{ لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآَنَهُ (17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآَنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ (19)} (القيامة)

وبمثل هذا وردت الأسانيد، فعن ابن عباس قال: كان رسول الله  يعالج من التنزيل شدة، فكان يحرك شفتيه، فأنزل الله عز وجل:{ لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ } أي جمعه في صدرك، ثم تقرأه، { فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ } فاستمع له وأنصت، { ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} فكان بعد ذلك إذا انطلق جبريل قرأه كما أقرأه([48]).

قلت: ولكن الله طمأن نبيه صلى الله عليه وآله وسلم إلى أنه لن ينسى حرفا مما قرأه، فقال مبشرا نبيه : { سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى} (الأعلى:6)

قال: ولكن الله تعالى لم يبشرنا بما بشر به نبيه صلى الله عليه وآله وسلم.. فلذلك لا ينبغي أن يفتر طالب العلم لحظة عن علمه.. لقد أشار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى ذلك، فقال:(إن مثل صاحب القرآن كمثل صاحب الإبل المعقلة، إن عاهد عليها أمسكها، وإن أطلقها ذهبت)([49])، وفي حديث آخر قال صلى الله عليه وآله وسلم:(تعاهدوا القرآن، فوالذى نفسي بيده لهو أشد تفصيا من قلوب الرجال من الإبل من عقلها)([50])

قلت: فما الذي يعيننا على تحقيق هذا؟

قال: سبعة أمور إن فعلتموها يسر الله لكم ذلك.

قلت: فما أولها؟

قال: أن يبادر طالب العلم شبابه وأوقات عمره فيصرفها إلى التحصيل، ولا يغتر بخدع التسويف والتأمل، فإن كل ساعة تمضي من ‏عمره لا بدل لها ولا عوض عنها.

لقد حكى عن ثعلب: أنه كان لا يفارفه كتاب يدرسه، فإذا دعاه رجل إلى دعوة شرط عليه أن يوسع له ‏مقدار سورة يضع فيها كتاب ويقرأ.

وكان أبو بكر الخياط النحوي يدرس جميع أوقاته حتى في الطريق، وكان ربما سقط في جرف أو خبطته ‏دابة.

وكان بعضهم إذا دخل الحمام يجعل من خارجه قارئاً يقرأ عليه.‏

قلت: فما الثاني؟

قال: أن يقطع طالب العلم ما يقدر على قطعه من العلائق الشاغلة والعوائق المانعة عن تمام الطلب وبذل ‏الاجتهاد وقوة الجد في التحصيل، فإنها كقواطع الطريق، ولذلك استحب الورثة التغرب عن الأهل والبعد عن الوطن ‏تقليلاً للشواغل، لأن الفكرة إذا توزعت قصرت عن درك الحقائق، وما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه، ولذلك يقال‏:(العلم لا يعطيك بعضه حتى تعطيه كلك)‏

قلت: فما الثالث؟

قال: أن يقنع من القوت بما تيسر، وإن كان يسيراً، ومن اللباس بما ستر مثله، وإن كان خلقاً.. فبالصبر على ضيق العيش، ‏ينال سعة العلم، ويجمع شمل القلب عن متفرقات الآمال، فتفجر فيه ينابيع الحكم.

قلت: فما الرابع؟

قال: أن يقسم أوقات ليله ونهاره، ويغتنم ما بقي من عمره، فإن بقية العمر لا قيمة لها، ‏وأجود الأوقات للحفظ الأسحار، وللبحث الأبكار، وللكتابة وسط النهار، وللمطالعة والمذاكرة الليل، وحفظ الليل ‏أنفع من حفظ النهار، ووقت الجوع أنفع من وقت الشبع، وأجود الأماكن للحفظ كل مكان بعيد عن الملهيات، ‏كالنبات، والخضرة، والأنهار، وقوارع الطرق، وضجيج الأصوات، لأنها تمنع من خلو القلب غالباً.

قلت: فما الخامس؟

قال: أكل القدر اليسير من الحلال، لأن كثرة الأكل جالبة لكثرة الشرب، وكثرته جالبة للنوم والبلادة، ‏وقصور الذهن، وفتور الحواس، وكسل الجسم.

والأولى أن ‏يكون أكثر ما يؤخذ من الطعام ما ورد في الحديث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال:(ما ملأ ابن آدم وعاء ‏شراً من بطن، حسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه، فإن كان لا محالة فثلث لطعامه، وثلث لشرابه، وثلث لنفسه)([51])، فإن زاد فهو إسراف، وقد قال تعالى: { يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ } (لأعراف:31)

قلت: فما السادس؟

قال: أن يقلل نومه ما لم يلحقه ضرر في بدنه وذهنه، ولا يزيد في نومه في اليوم والليلة عِلى ثمان ساعات، وهي ثلث ‏الزمان، فإن احتمل حاله أقل من ذلك فعل.

ضحك بعض أصحابي، وقال: لقد ذكرتني برجل قال لخالد بن صفوان: مالي إذا رأيتكم تذاكرون الأخبار وتدارسون الآثار وتناشدون ‏الأشعار وقع عليَّ النوم؟ فقال: لأنك حمار في مسلاخ إنسان.

وذكر عن سليمان الداري قال: إذا رأيت الرجل ينام عند الحديث، فأعلم أنه لا يشتهيه، فإن كان يشتهيه ‏طار نعاسه.

قال: ومع ذلك ينبغي لطالب العلم أن يريح نفسه وقلبه وذهنه وبصره بتنزه وتفرج في المستنزهات بحيث يعود إلى حاله، ولا يضيع عليه زمانه، فقد كان بعض أكابر العلماء يجمع أصحابه ‏في بعض أماكن التنزه في بعض أيام السنة، ويتمازحون بما لا يضرهم في دين ولا عرض.

وينبغي أن يتجنب ما يعاب من الهزل ‏والبسط بالفعل وفرط التمطي، والتمايل على الجنب والقفا والضحك الفاحش بالقهقهة.‏

قلت: فما السابع؟

قال: أن يترك كثرة المخالطة، فإن تركها من أهم ما ينبغي لطلب العلم، وخصوصاً لمن كثر لعبه ‏وقلت فكرته، فإن الطباع شر آفة، وآفة العشرة ضياع العمر بغير فائدة، وذهاب المال والعرض إن كانت لغير أهل، ‏وذهاب الدين إن كانت لغير أهله.

والذي ينبغي لطالب العلم أن لا يخالط إلا من يفيد أو يستفيد منه، كما روي عن ‏النبي صلى الله عليه وآله وسلم:(اغد عالما أو متعلما أو مستمعا أو محبا ولا تكن الخامس فتهلك)([52])

فإن احتاج إلى من يصحبه فليكن صالحاً، ديناً، تقياً، ورعا، كثير ‏الخير، قليل الشر، حسن المداراة، قليل المماراة، فإن نسي ذكره، وإن ذكر أعانه، وإن احتاج واساه، أو ضجر صبره.

التأمل:

قلت: عرفنا ضرورة بذل الجهد للتحصيل.. فحدثنا عن التأمل.. وما مرادك منه؟ وهل هو شرط في المجاهدة؟

قال: أجل.. فلا ينبغي لطالب العلم أن يشغل جسده، ويترك عقله كسولا لا يبحث ولا يتأمل ولا يفكر.

قلت: فهل لهذا من دليل؟

قال: كل الأدلة مع هذا.. إن القرآن الكريم لا يحض على شيء كما يحض على استعمال العقل والتأمل، لقد قال تعالى مبينا الغرض من نزول القرآن الكريم:{ كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} (صّ:29)

فلآلئ الحقائق وجواهرها لا يمكن أن ينالها من قعد به عقله عن التفكير والتأمل، التفكر الذي لا ينشغل بالظواهر عن البواطن، أو ينشغل بالطلاء على الحقيقة.

ألم تسمع إلى الغزالي، وهو يقول في (جواهر القرآن):(إني أنبهك على رقدتك أيها المسترسل في تلاوتك، المتخذ دراسة القرآن عملا، المتلقف من معانيه ظواهر وجملا، إلى كم تطوف على ساحل البحر مغمضا عينيك عن غرائبها، أو ما كان لك أن تركب متن لجتها لتبصر عجائبها، وتسافر إلى جزائرها لاجتناء أطايبها، وتغوص في عمقها، فتستغني بنيل جواهرها، أوما تعير نفسك في الحرمان عن دررها وجواهرها بإدمان النظر إلى سواحلها وظواهرها)([53])

قلت: بلى.. وقد سمعته ينقل عن بعضهم قوله:(من بلغه القرآن فكأنما كلمه الله، وإذا قدر ذلك لم يتخذ دراسة القرآن عمله بل يقرؤه كما يقرأ العبد كتاب مولاه الذي كتبه إليه ليتأمله ويعمل بمقتضاه)

قال: لا تحسبن هؤلاء الورثة مبتدعين في هذا، فإن القرآن كلام الله، وكلام الله لا يمكن لأحد أن يحصي أغراضه..

ولكن تحصيل كل هذا يحتاج إلى التأمل والتدبر والمعاناة.. فلا يمكن لعقول كسول أن يخرج بالقرآن عن كسوة الألفاظ التي جاء بها.. ولهذا، فإن المعلم الكامل هو الذي يربي تلاميذه على استعمال عقولهم، لا الذي يحضهم على التقليد.

ولهذا يعقب الله تعالى على القضايا التي لا يمكن للعقل أن يعرفها بادئ الرأي بكونها من اختصاص أولي الألباب.

ولهذا، فإن الأستاذ الماهر المستن بسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو الذي لا يكتفي بأن يعطي تلاميذه المعلومة جاهزة من دون أن يمنحهم فرصة للتأمل والاجتهاد للوصول إليها، بل يدع لعقولهم فرصا كثيرة للنظر والبحث والتأمل.

قال بعض الطلبة: لقد ذكرتني بحديث لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم دخل المسجد، فدخل رجل فصلى، ثم جاء فسلم على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فرد النبي صلى الله عليه وآله وسلم عليه السلام قال: ارجع فصل فإنك لم تصل، فرجع الرجل فصلى كما كان صلى، ثم جاء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فسلم عليه، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:(وعليك السلام) ثم قال:(ارجع فصل فإنك لم تصل) حتى فعل ذلك ثلاث مرات، فقال الرجل: والذي بعثك بالحق! ما أحسن غير هذا علمني، فقال صلى الله عليه وآله وسلم:(إذا قمت إلى الصلاة فكبر، ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن، ثم اركع حتى تطمئن راكعاً، ثم ارفع حتى تعتدل قائماً، ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً، ثم ارفع حتى تطمئن جالساً، ثم افعل ذلك في صلاتك كلها)([54])

فقد علم صلى الله عليه وآله وسلم هذا الرجل الذي أساء في صلاته، ولم يحسن فيها بأسلوب عملي يجعل المتعلم يكتشف الخطأ الذي وقع فيه بنفسه.

الحفظ:

قلت: عرفنا التأمل.. فحدثنا عن الحفظ، ولم كان شرطا في المجاهدة؟

قال: إن طالب العلم المتفرغ له هو الذي يستعمل جميع ما وهبه الله من طاقات في خدمة العلم الذي يطلبه.. وبما أن الذاكرة من طاقات الإنسان، فإن طالب العلم يستثمرها أعظم استثمار.

فالعالم يحتاج إلى إحضار المعارف المختلفة في كل حين ليستنتج منها معارف جديدة، أو ليخدم بها من يريد أن يخدمه، وما لم تكن هذه المعارف حاضرة في ذهنه، فإنه لا يمكن أن يفيد بها أحدا، بل لا يمكن أن يستفيد هو نفسه منها.

قلت: فهل ورد في النصوص المقدسة ما يدل على ذلك؟

قال: أجل.. ألم تسمع قوله تعالى:{ بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآياتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ} (العنكبوت:49)؟

قلت: بلى..

قال: إن هذه الآية تحمل دعوة عظيمة للحفظ، فلا يمكن أن يتعلم من لم يحفظ.. ولهذا ربطت الآية بين الحفظ في الصدور، وبين أهل العلم، وكأنها تقول لطالب العلم: إن أردت أن تصير من أهله، فاشحذ ذاكرتك، ووسع صدرك ليصبح مخزنا للعلوم.

قلت: هذا في القرآن.. فهل ورد في السنة ما يدل عليه؟

قال: السنة تمتلئ بذلك.. فالرسول صلى الله عليه وآله وسلم ـ تشجيعا على الحفظ ـ يقدم حافظ القرآن على غيره في الإمامة وغيرها، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:(يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله، فإن كانوا في القراءة سواء، فأعلمهم بالسنة، فإن كانوا في السنة سواء، فأقدمهم هجرة، فإن كانوا في الهجرة سواء، فأقدمهم سلما([55])، ولا يؤمن الرجل الرجل في سلطانه، ولا يقعد في بيته على تكرمته إلا بإذنه)([56])

وعن جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يجمع بين الرجلين من قتلى أحد، ثم يقول: أيهما اكثر أخذا للقرآن؟ فإن أشير إلى أحدهما قدمه في اللحد([57]).

قلت: هذا في حفظ القرآن الكريم.. فهل ورد في النصوص ما يدل على حفظ غيره؟

قال: كل ما ذكر في حفظ القرآن يدل على حفظ غيره، فلا يمكن أن يصير العالم عالما، وهو ناس لما تعلمه.

عن حذيفة قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مقاما ما ترك شيئا، يكون في مقامه ذلك إلى قيام الساعة إلا حدث به، حفظه من حفظه، ونسيه من نسيه، قد علمه أصحابي هؤلاء، وإنه ليكون منه الشيء قد نسيته فأراه فأذكره كما يذكر الرجل وجه الرجل إذا غاب عنه، ثم إذا رآه عرفه)([58])

قلت: كل ما ذكرته لا يمكن لأحد أن يجادل فيه.. لكني أرى البعض يتهمون من يحفظ.. ويعتبرونه مجرد وعاء.. وأن الكامل من يفهم، لا من يحفظ.

قال: والأكمل من يجمع بينهما، فيحفظ، ويفهم.. بل إنه لا يعين على الفهم شيء كما يعين عليه الحفظ.. فالحافظ الذي يردد بلسانه ما يحفظه لا محالة سيردده في عقله وقلبه، فيفهمه ويستوعبه، فيجمع بين الحسنيين.

بالإضافة إلى أن الذي لا يحفظ لا يطيق أن يفيد بعلمه كل حين، فهو معلق بكراريسه وكتبه إن حضرت أجاب، وإلا لم يطق جوابا.

قال بعض الطلبة: لقد ذكرتني بحادثة حصلت للغزالي كانت سببا في لجوئه إلى الحفظ، قال يحكي عن نفسه: قطعت علينا الطريق، وأخذ العيارون جميع ما معي ومضوا، فتبعتهم، فالتفت إلى مقدمهم، وقال: ارجع ويحك وإلا هلكت، فقلت له: أسألك بالذي ترجو السلامة منه أن ترد على تعليقتي فقط، فما هي بشيء تنتفعون به، فقال لي: وما هي تعليقتك؟ فقلت: كتب في تلك المخلاة، هاجرت لسماعها وكتابتها ومعرفة علمها، فضحك، وقال: كيف تدعي أنك عرفت علمها وقد أخذناها منك، فتجردت من معرفتها، وبقيت بلا علم، ثم أمر بعض أصحابه، فسلم إلى المخلاة.

قال الغزالي: فقلت: هذا مستنطق أنطقه الله ليرشدني به في أمري، فلما وافيت طوس أقبلت على الاشتغال ثلاث سنين حتى حفظت جميع ما علقته، وصرت بحيث لو قطع على الطريق لم أتجرد من علمي([59]).

قال آخر: وقد قال بعضهم في هذا:(كل علم لا يدخل مع صاحبه الحمام فلا تعده علماً)

قلت: ولكن العلوم كثيرة.. بل هي أكثر من أن تنحصر.. فكيف يمكن حفظ كل ذلك؟

قال: إن الله تعالى بحكمته ورحمته زود الإنسان بطاقات عظيمة لا يمكن تصورها أو حدها.. نحن فقط بكسلنا وضعفنا وقصورنا نتوهم أن الله أعطانا القليل، فلذلك نستسلم للعجز، ونتعلل بالطاقة المحدودة.

لقد قال بعضهم يذكر هذا: إن الرجل ليطلب العلم وقلبه شِعْبٌ من الشِّعَاب، ثم لا يلبث أن يصير واديًا، لا ‏يوضع فيه شيء إلا التهمه.

وقال آخر: كان العلماء يقولون:(كل وعاء أفرغت فيه شيئا فإنه يضيق إلا ‏القلب، فإنه كلما أفرغ فيه أتسع)

قلت: سلمت لك في هذا.. وفي تاريخنا ما يدل عليه.. فما أكثر حفاظ الإسلام.. لكن ما سر ذلك؟

قال: الهمة والصدق والصفاء.. ألا ترى كيف يحفظ قومك الأفلام، فيوردونها مشهدا مشهدا ولقطة لقطة؟

قلت: بلى.. أرى ذلك.

قال: فكم مجلدا هي تلك اللقطات المحفوظة؟

قلت: هي مجلدات كثيرة لا يمكن حصرها.

قال: فأفلام أهل العلم هي تلك الكتب.. لقد ترفعت همتهم عن السفاسف، ففتح الله عليهم من العلوم ومن حفظ العلوم ما ملأ غيرهم بالعجب.

قلت: رغبتنا في الحفظ.. فما الذي يعين عليه؟

قال: أوله الصفاء.. فلا يمكن أن تكتب في أوراق مكتوبة.. قال تعالى:{ كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ} (البقرة:151).. انظر كيف قدم الله تعالى التزكية على العلم.. فلا يمكن لمن تلطخ بالأوزار أن يستوعب الأسرار.

وقال تعالى:{ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (البقرة: 282).. انظر كيف قرن الله التقوى بالعلم.. فلا يتعلم حقيقة العلم إلا من اتقى الله حق التقوى.

قلت: هذا الأول.. فما الثاني؟

قال: تكرير ما تريد حفظه على قلبك.. فلا يثبت الحفظ مثل التكرار.. فعن علي قال: تزاوروا وتدارسوا الحديث، ولا تتركوه يدرس.

قلت: هذا الثاني.. فما الثالث؟

قال: المذاكرة.. مذاكرة ما تحفظ مع غيرك.. ليضبط لك ما لم تضبطه، ويفتح عليك ما ‏نسيته، ويضيف لك جديدا إن كان عنده.. حدث سعيد بن جبير أن ابن عباس كان يقول: يا سعيد اخرج بنا إلي النخل، ويقول: يا سعيد، حدث، قلت: أحدَّث وأنت شاهد؟ قال: إن أخطأت فتحت عليك.

قلت: هذا الثالث.. فما الرابع؟

قال: تعليم الناس ما تحفظ.. فليس شيء أكثر ترسيخا للعلم في الذهن من إنفاقه.. فعن بعضهم قال: من سره أن يحفظ الحديث فليحدث به، ولو أن يحدث به من لا يشتهيه، فإنه إذا ‏فعل ذلك كان كالكتاب في صدره.

السمت:

بعد أن انتهينا من دراسة ما يتطلبه الفرع الثاني من علوم وآداب، انتقلنا إلى الفرع الثالث، وهو فرع (السمت)

وقد سألنا ـ  ونحن في الركن المرتبط بهذا من محضرة الآداب ـ شيخنا محمد الأمين الشنقيطي عن معنى السمت، وضرورته لطالب العلم، فقال: السمت الحسن هو التزام  هيئة الصالحين في أحوالهم جميعا من كلام وفعال ومعاملات وهيئات وحركات وسكنات وغيرها.. فلا يمكن لطالب العلم إلا أن يميز عن غيره ليستفيدوا منه.

قلت: أليس قد أمرنا أن نكون كالناس؟.. فكيف تعتبر التميز شعارا للصالحين؟

قال: التميز نوعان: نوع هو محض كبر وسمعة ورياء.. وهذا قد حذر منه الصالحون..  قال علي: للمرائي ثلاث علامات: يكسل إذا كان وحده، وينشط إذا كان في الناس، ويزيد في العمل إذا أثني عليه، وينقص إذا ذم به.

قلت: هذا السمت الأول.. وهو السمت المذموم، وهو الذي كنت أعنيه، فما الثاني؟

قال: هو في ظاهره كالسمت الأول.. ولكن صاحبه ابتدأ بسمت الباطن، فحسنه وجمله وزينه.. فلما اعتدل باطنه بالطاعات زين الله ظاهره بما يملأ الله القلوب هيبة منه وتوقيرا له.

ولهذا اعتبر صلى الله عليه وآله وسلم هذا النوع من السمت من النبوة، فقال:(الهَدْي الصالح، والسمت الصالح، والاقتصاد جزء من خمسة وعشرين جزءاً من النبوة)([60])

وهذا يبين لنا أن الذي يتحلى بالسمت الصالح والهدي الصالح يُقتدى به ويحاكي بعض صفات النبوة، وكفى بذلك شرفاً.

قلت: أفي القرآن الكريم ما يشير إلى هذا؟

قال: يستحيل على الكتاب الذي فيه بيان كل شيء ألا يكون فيه مثل هذا.

قلت: فأين هو فيه؟

قال: فيه جميعا.. فكل آية في القرآن الكريم تحمل أدبا يزين به الباطن، ليبرز أثره بعد ذلك إلى الظاهر.. ألم تسمع قوله صلى الله عليه وآله وسلم:(أدبني ربي فأحسن تأديبي)([61])

 قلت: بلى.. فاذكر لي نموذجا ييسر لي فهم ذلك.

قال: اقرأ ما ورد في صفات (عباد الرحمن) في القرآن الكريم.

أخذت أقرأ:{ وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً } (الفرقان:63)

قال: حسبك.. ألا ترى أن الآية بدأت وصف عباد الرحمن بكونهم يمشون؟

قلت: بلى.. ولكنها لو اكتفت بمشيهم فقط لما كان لعباد الرحمن في هذا أي ميزة.

قال: فبم وصفت مشيتهم؟

قلت: بالهون.. إنها ذكرت أنهم { يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً }

قال: فهذا هو السمت الحسن الصالح.. والذي هو جزء من النبوة.. والذي نحرص على تعليمه هنا في هذه المحضرة.

قلت: أهو مرتبط بالمشي فقط؟

قال: بكل سلوك من سلوكيات الحياة.. فلكل سلوك هونه الخاص به.

قلت: فما سر بدئكم به قبل التعليم؟

قال: لأنه لا يمكن أن يتعلم من لم يكن له سمت أهل العلم.. فالمدارس المستنة بسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تخرج المتأدبين لا المشاغبين.

قلت: أللسمت الحسن تأثيره في التحصيل؟

قال: لو لم يكن له تأثيره في التحصيل لم نبدأ به.. لقد صحبت الوارث.. ولعله أخبرك عن مجالس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. فحدثنا عما رواه لك من أحاديث في هذا.

قلت: أجل.. لقد حدثنا عن بعضهم قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما يتكلم منا متكلم، كأن على رؤوسنا الطير([62]).

وفي رواية: أتيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأصحابه حوله، وعليهم السكينة، كأنما على رؤوسهم الطير، فسلمت، ثم قعدت، وذكر الحديث([63]).

وحدثنا عن آخر قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في جنازة رجل من الأنصار فانتهينا إلى القبر، ولما يلحد، فجلس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وجلسنا حوله، كأنما على رؤوسنا الطير([64]).

وحدثنا عن آخر قال: كنا إذا قعدنا عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم ترتفع رؤوسنا إليه إعظاما له([65]).

قال: هل كان يمكن لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يعلم أصحابه، ويستفيد أصحابه من أحاديثه وتعليمه في مجلس ترتفع فيه الأصوات، ولا يرعى بعضهم حرمة بعض؟

قلت: لا.. لا يمكن ذلك.

قال: ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يبدأ بالأدب قبل التعليم.. بل إن القرآن الكريم حض عليه وأمر به، فقال:{ إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ} (الحجرات:4)

قال بعض الطلبة: فما الذي سنتعلمه في هذا الفرع؟

قال: أربعة أنواع من السمت لابد لطالب العلم الذي يريد أن يستن بسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم منها، ليبارك له في علمه، وليحصل في أقل مدة ما لا يحصل غيره في أكثر منها.

قلنا: فما هي؟

قال: سمت مرتبط بنفسه، وسمت مرتبط بعلمه، وسمت مرتبط بدرسه، وسمت مرتبط بمعلمه.

مع نفسه:

كان أول ما بدأنا به دراستنا في فرع (السمت) السمت المرتبط بنا، وبسلوكنا تجاه أنفسنا، وكان أول درس جمعنا بشيخنا الشنقيطي قرأ لنا فيه قوله صلى الله عليه وآله وسلم:(طلب العلم فريضة على كل مسلم، وواضع العلم عند أهله كمقلد الخنازير الجوهر واللؤلؤ والذهب)([66])

ثم قال: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في هذا الحديث يدعونا إلى أن نقدم التخلص من الخنزيرية قبل التعلم.. ألا ترون كيف أمرنا بطلب العلم، ثم نهى أن يوضع العلم عند غير أهله، وشبه من يفعل ذلك بمن يقلد الخنازير الجوهر واللؤلؤ والذهب؟

قلنا: ذلك صحيح.. فما المخرج من الخنزيرية؟

قال: لقد حفظ سلفنا عن سلفهم إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في ذلك أربعة سنن، وستتعلمون أصولها وأركانها في هذا الفرع.

قلنا: فما أولها؟

قال: أن يتخلق طالب العلم بما حث الشرع عليه من الزهد في الدنيا، والتقلل منها بقدر الإمكان، فإن ما يحتاج إليه منها على الوجه المعتدل ‏من القناعة لا يعد من الدنيا..

قلت: فما سر احتياج الطالب للزهد([67]

قال: لأن الطالب الذي امتلأ قلبه بالشهوات والأهواء والرغبات لن يبقى فيه محل للاستفادة من العلم.. وكيف يستفيد وآلة العلم هي مرآة القلب.. ومرآة القلب منصرفة إلى الرغبات.

قلنا: فما الثاني؟

قال: أن يتجنب كل خوارم المروءة من دنيء المكاسب ورذيلها، ‏ويتجنب مواضع التهم وإن بعدت، ولا يقيل شيئاً يتضمن نقص مروءة، وما يستنكر ظاهراً، وإن كان جائزاً باطناً، فإنه ‏يعرض نفسه بذلك للتهمة، ويوقع الناس في الظنون المكروهة، فإن اتفق وقوع شيء من ذلك منه ‏لحاجة أو نحوها، أخبر من شاهده بحكمه، وبعذره ومقصوده، كيلا يأثم من رآه بسببه، أو ينفر عِنه، فلا ينتفع بعلمه ولا ‏يستفيد بذلك الجاهل به، ففي الحديث عن أم المؤمنين صفية بنت حييٍ قالت: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم معتكفاً، فأتيته أزوره ليلاً، فحدثته ثم قمت لأنقلب، فقام معي ليقلبني، فمر رجلان من الأنصار، فلما رأيا النبي صلى الله عليه وآله وسلم أسرعا، فقال صلى الله عليه وآله وسلم:(على رسلكما، إنها صفية بنت حييٍ)، فقالا: سبحان الله يا رسول الله؟ فقال: (إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما شراً)([68])

قلنا: فما الثالث؟

قال: أن يطهر باطنه وظاهره من الأخلاق الردية، كالغل، والحسد، والبغي، ‏والغضب لغير الله تعالى، والغش، والكبر، والرياء والعجب، والسمعة، والبخل، والجبن والبطر والطمع، والفخر، ‏والخيلاء، والتنافس في الدنيا، والمباهاة فيها، والمداهنَة والتزين للناس، وحب المدح بما لم يفعل، والعمى عن عيوب ‏النفس، والاشتغال عنها بعيوب الخلق، والحمية، والعصبية لغير الله، والرغبة والرهبة لغيره، والغيبة، والنميمة، والبهتان، ‏والكذب، والفحش في القول، واحتقار الناس ولو كانوا دونه، وغيرها من الصفات الخبيثة، والأخلاق ‏الرذيلة، فإنها باب كل شر، بل هي الشر كله.

قلنا: فما المخرج من هذه الرذائل، وهي لا يكاد تنجو منها نفس؟

قال: لكل علاجه الذي به يعالج.. ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:(إن الله تعالى حيث خلق الداء خلق الدواء فتدواوا)([69])

قلت: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يذكر في هذا الحديث دواء الأجساد.

قال: بل هو يذكر كل الأدوية.. فلا فرق بين مرض الروح ومرض الجسد.

قلنا: فما الرابع؟

قال: أن يعمر باطنه بالأخلاق المرضية، كدوام التوبة، والإخلاص، واليقين، والتقوى، والصبر، والرضى، والقناعة، والزهد، والتوكل، ‏والتفويض، وسلامة الباطن، وحسن الظن، والتجاوز، وحسن الخلق، ورؤية الإحسان، وشكر النعمة، والشفقة على ‏خلق الله والحياء من الله ومن الناس، ومحبة الله تعالى، هي الخصلة الجامعة لمحاسن الصفات.

وكل ذلك لا يتحقق إلا بمتابعة الرسول ‏صلى الله عليه وآله وسلم كما قال تعالى:{ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (آل عمران:31)

مع علمه:

بعد أن درسنا وتدربنا على الآداب المرتبطة بالسمت مع النفس مدة، انتقلنا إلى الفرع الثاني للسمت، وهو السمت مع العلم، وقد بدأ الشنقيطي حديثه عن هذا النوع من السمت بقراءة عشر آيات من القرآن الكريم، يكرر كل واحدة منها مرات كثيرة، وقد سألناه عن سر قراءتها وتكراراها، فقال: لابد لمن يريد أن يدرس هذا النوع من السمت أن يقرأ هذه الآيات، ويكررها على نفسه، ويتدبرها، ويمعن في تدبيرها.

قلنا: لم؟

قال: لأنها الأساس الذي يبنى عليه السمت مع العلم.

قلنا: فما الذي يفهمه طالب العلم من الآية الأولى؟

قال: الآية الأولى، وهي قوله تعالى: { وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ } (البقرة: 120)، وهي تبين أن للعلم من المكانة ما يجعل صاحبه مترفعا عن اتباع غيره، فالعلم يُتبع ولا يتبع.. والعالم يُطلب ولا يطلب.

قلنا: فما الذي يستفيد من الثانية؟

قال: الثانية.. وهي قوله تعالى:{ وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكاً قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} (البقرة:247) تثني على ما آتى الله لوطا من سعة العلم.. وكيف ـ في المقابل ـ احتقره بنو إسرائيل لأنه لم يؤت سعة من المال؟

قلنا: بلى.. ذلك واضح في الآية.

قال: فمن احتقر العلم، وعظم المال، أو جعل العلم وسيلة للمال، فقد سلك سلوك بني إسرائيل في هذا.

قلت: ولكن المال لابد منه، وقد قال الله تعالى تعالى:{ وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً} (النساء: 5)، فقد أخبر الله تعالى أن بالمال تقوم حياة الناس.

قال: فرق بين أن تستعمل المال، وبين أن تعظم المال.. من استعمل المال جعله خادما له، وانتفع بخدمته.. ومن عظم المال استعبده ماله، فصار خادما لماله.. لقد ذكر الله تعالى ذلك، فقال:{ وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (1) الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ (2) يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ (3)} (الهمزة).. وقد أخبر الله تعالى عن مصير من هذا حاله، فقال:{ كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (4) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ (5) نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ (6) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (7) إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (8) فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ (9)} (الهمزة)

قلت: هذا جزاؤه في الآخرة.

قال: وهناك جزاء في الدنيا لمن انشغل بماله عن علمه.. وهو جزاء يكاد يشبه ما ذكره الله تعالى من جزاء الآخرة..

قلنا: فما هو؟

قال: إن هذا الذي استعبده ماله ستحطم إنسانيته بماله، وسيسجن في سجون ماله، وسيحرق بلهب ماله..

لقد اتفق على هذا جميع أهل الله من ورثة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. ولهذا تراهم يحضون على تعظيم العلم واحترامه وعدم الوقوع فيما وقع فيه بنو إسرائيل عندما قدموا المال على العلم.

قال بعض الطلبة: أروي في ذلك ما قاله علي بن أبي طالب لتلميذه النجيب كميل، فقد قال له: (يا كميل، العلم خير من المال، العلم يحرسك وأنت تحرس المال، والعلم حاكم، والمال محكوم عليه، والمال تنقصه النفقة، والعلم يزكو بالإنفاق)

قال آخر: وأروي عن أبي الأسود قوله: (ليس شيء أعز من العلم، الملوك حكام على الناس والعلماء حكام على الملوك)

قلنا: عرفنا ما يفهمه طالب العلم من الثانية، فما الذي يستفيد من الثالثة، وهي قوله تعالى:{ شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (آل عمران:18)؟

قال: ألا ترون كيف عطف الله تعالى أهل العلم على نفسه، وعلى ملائكته؟

قلنا: بلى.. ذلك واضح.

قال: أفترون من شرف بالجلوس في ذلك المجلس الرفيع، وأحل في تلك المكانة الشريفة يرضى بالسفاسف، أو يرى أن هناك مجلسا أفضل من مجلسه، أو محلا أعلى من محله؟

قلنا: لا..

قال: فطالب العلم المستن بسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عليه أن يشهد هذا.. فلا يرى أحدا أفضل منه مجلسا، ولا مكانة..

قلت: ولا الوزراء.. والأمراء.. والمدراء..

قال: وماذا يساوي الوزراء والأمراء والمدراء أمام الله.. إنهم كهباءة.. أو كقلامة.. أو كلا شيء..

وماذا يساوي الوزراء والأمراء والمدراء أمام الملائكة الذين هم رسل الله والمدبرات أمرا والمصطفين الأخيار.

قلت: فهذه الآية تعالج الجاه إذن؟

قال: أجل.. فجاه أهل العلم هو العلم.

قال بعض الطلبة: أروي في ذلك عن سالم بن أبي الجعد قوله: اشتراني مولاي بثلثمائة درهم وأعتقني، فقلت: بأي شيء أحترف؟ فاحترفت بالعلم، فما تمت لي سنة حتى أتاني أمير المدينة زائراً، فلم آذن له.

قال الشنقيطي: بهؤلاء العلماء ارتفعت منارة العلم والدين.. لا الذين يحتبون على أبواب الملوك والأمراء يستجدونهم ويكتبون المعلقات الطوال في مدحهم.

قلنا: عرفنا ما يفهمه طالب العلم من الثالثة، فما الذي يستفيد من الرابعة، وهي قوله تعالى:{ وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْماً عَرَبِيّاً وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا وَاقٍ } (الرعد:37)؟

قال: ألا ترون كيف نفى الله ولايته ووقايته على من اتبع ما يتطلبه الهوى، وغفل عما يتطلبه العلم؟

قلنا: أجل.. ذلك واضح.

قال: فالعلم الذي ترفع على المال وترفع على السلطان لا ينبغي أن يذل أمام الهوى، فقد ذم الله تعالى طالب العلم الذي يقع أسير هواه، فقال:{ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آَتَيْنَاهُ آَيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176)} (الأعراف)

قال بعض الطلبة: بل إن الله تعالى اعتبر الهوى صنما من الأصنام التي تعبد من دون الله، فقال:{ وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولا (41) إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلا (42) أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلا (43)} (الفرقان)

قال آخر: وقد ذكر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذلك، فقال:(ما تحت ظل السماء من إله يعبد من دون الله أعظم عند الله من هوى متبع)([70])

قال الشنقيطي: وذلك لأن صاحب الهوى لن ينتقل من الخطأ إلى الصواب، أو من الصلاح إلى الفساد.. بل هو أسير هواه إن تراجع عن خطأ، فلن يقع إلا في غيره، وإن تاب عن معصية، فلن يقع إلا في غيرها.

قال بعض الطلبة: لقد روي في هذا عن ابن عباس قوله: (كان الرجل يعبد الحجر الأبيض زماناً من الدهر في الجاهلية، فإذا وجد حجراً أحسن منه رمى به وعبد الآخر)([71])

قال: وهكذا عباد الهوى من العلماء: يتوب من صنم الشيوعية ليقع في صنم الليبرالية.. ويتوب من عبودية الحاكم ليقع في عبودية الوزير.. ويتوب من عبودية المال ليقع في عبودية الجاه.. وهكذا يظل يتردد بين عبودية وعبودية.

قلت: فمتى يتحرر؟

قال: إذا طلق الهوى، وكفر به.. وجعل الحقيقة هدفه.. حينذاك فقط سيتحرر.

قلنا: عرفنا ما يفهمه طالب العلم من الرابعة، فما الذي يستفيد من الخامسة، وهي قوله تعالى:{ قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّداً} (الاسراء:107)؟

قال: ألا ترون كيف وصف الله أهل العلم من الذين تحرروا من إسار الهوى؟

قلنا: أجل.. لقد وصفهم بالسجود.

قال: فأي علم لا يدلك على السجود، فهو جهل.. وأي علم لم يملأك بالعبودية فالجهل خير منه.

قلت: ولكن العلم أوسع من أن يختصر في هذا.. فالعلوم كثيرة؟

قال: ألم تسمع قوله تعالى:{ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (6) يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآَخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ (7)} (الروم)؟

قلت: بلى.. فما فيها من العلم؟

قال: ألا ترى كيف نفى الله تعالى العلم عن أكثر الناس.. أي وصفهم بالجهل.. ولكنه استدرك على من يتصور أن ما لديهم من رسوم علما.. فذكر أنه مجرد ظواهر لا تحمل اسم العلم الحقيقي؟

قلت: كيف لا تحمل اسم العلم الحقيقي؟

قال: لأن العلم الذي لا يثبت، ولا يسير مع صاحبه هو إلى الجهل أقرب منه إلى العلم.

قلت: لم أفهم.. فالعلم يظل علما.. ولن يصير جهلا أبدا.

قال: الصبي في صباه له علوم كثيرة.. فهو يظن أن السماء تنتهي حيث انتهى بصره.. وأن لعبته أفضل من تيجان الملوك..

قلت: وهل هذا يسمى علما؟

قال: بالنسبة له هو علم..

قلت: نحن لا نسميها علوما.

قال: فهكذا الأمر بالنسبة للحقائق الأزلية.. فأكثر المعارف التي يزهو بها العلماء لا تختلف كثيرا عن تلك المعارف التي يزهو بها الصبيان.

قلت: فهمت هذا.. فقربه لي.. فإني من قوم عبدوا علومهم، وصار يصعب عليهم فهم مثل هذا؟

قال: أرأيت لو أن البشرية استطاعت في يوم من الأيام أن تنفذ من أقطار السماء.. كيف يصبح ـ حينها ـ صعودها إلى القمر؟

قلت: يصبح مجرد لعبة.. فالبشرية لو وصلت إلى هذا، فإن القمر حينها يصبح جزيرة لا كوكبا.. بل لعل الصبيان ـ حينها ـ يمتطون دراجاتهم للصعود إليه.

قال: فما ورد في النصوص المقدسة من الحقائق عن الكون يجعل من كل ما نراه شيئا هينا لا يكاد يذكر..

قلت: فكيف يدل العلم على السجود؟

قال: من وعى هذا سجد لله لا محالة.. لقد قال الله تعالى يذكر ذلك:{ وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ} (فاطر:28)

قلنا: عرفنا ما يفهمه طالب العلم من الخامسة، فما الذي يستفيد من السادسة، وهي قوله تعالى:{ يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً} (مريم:43)؟

قال: أليس الابن تابعا لأبيه؟

قلنا: بلى.. وقد حدث جابر أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: يا رسول الله، إن لي مالا وعيالا، وأنه يريد أن يأخذ من مالي إلى ماله، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:(أنت ومالك لأبيك)([72])

قال: وفي العلم.. هل يجوز للعالم أن يترك ما هداه إليه علمه في مسألة لأن أباه يقول بها؟

قال بعض الطلبة: لو فعل ذلك لصدق عليه قوله تعالى:{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ} (البقرة:170)

قال: فكما تحرر العالم من سلطان المال والجاه والهوى.. ينبغي أن يتحرر من سلاطين الآباء والأجداد والجذور.. فليس للعالم من سلطان غير سلطان علمه.

قلنا: عرفنا ما يفهمه طالب العلم من السادسة، فما الذي يستفيد من السابعة، وهي قوله تعالى:{ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (الحج:54)؟

قال: ألا ترون كيف وصف الله أهل العلم بالإخبات؟

قلنا: أجل.. ونحن نعلم أن الإخبات هو الخضوع.

قال: متى وصفهم بذلك؟

قلنا: بعد علمهم بأنه الحق.

قال: فالعالم الذي وصف بأنه تخلص من إسار الهوى والسلطان والمال والجذور وصف بالخضوع للحق.

قلنا: ذلك صحيح.

قال: وما كان جزاء من أخبت للحق؟

قلنا: لقد ذكر الله ذلك، فقال:{ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ }

قال: فهذا وعد من الله تعالى لمن لم يخضع إلا لما يطلبه الحق بأن يهديه إلى الصراط المستقيم.

قلنا: ذلك صحيح.

قال: وهذا يعني أن من تكبر على الحق، أو كتم الحق بعد أن علمه، أو لم يسلك السبيل الصحيح التي تهديه إلى الحق، فلن يهتدى سواء السبيل.

قلنا: ذلك كذلك.

قال: فهذه الآية ترسم لنا المنهج الموضوعي في العلم.. وهو المنهج المتحرر من كل قيد سوى قيد البحث عن الحقيقة.. وطالب العلم الذي لم يمتلئ بهذا، لن يزيده علمه إلا نفورا من الحق وإعراضا عنه.

قلت: ولكن المعلمين عندنا يربون تلاميذهم على التقليد؟

قال: من ربى تلاميذه على التقليد، فقد أحدث، ومن أحدث فقد ابتدع، ولا يبتدع إلا ضال.

قلنا: عرفنا ما يفهمه طالب العلم من السابعة، فما الذي يستفيده من الثامنة، وهي قوله تعالى:{ وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً وَلا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ} (القصص:80)؟

قال: ألا ترون كيف تحرر أهل العلم من إسار مجتمعاتهم، فراحوا يأمرونهم بالمعروف وينهونهم عن المنكر لا يبالون في ذلك لومة لائم.

قلنا: أجل.. فقد حكى الله تعالى عن موقف مجتمع هؤلاء لما عاينوا زينة قارون، فقال:{ فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} (القصص:79)

قال: وذكر في نفس الوقت موقف أهل العلم المترفع الناصح.

قلنا: أجل..

قال: فالعالم هو الذي لا يستسلم للتقاليد والأعراف، فلا يخضع لسلطانها، ولا تستعبده بأهوائها، بل تكون له السلطة عليها.. فالعالم مؤثر لا متأثر، وفاعل لا مفعول، ومغير لا متغير.

قال بعض الطلبة: صدقت.. وقد ذكر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعض علماء بني إسرائيل، فقال:(لما وقعت بنو إسرائيل في المعاصي، نهتهم علماؤهم فلم ينتهوا، فجالسوهم في مجالسهم وأسواقهم وواكلوهم وشاربوهم، فضرب الله قلوب بعضهم ببعض، ولعنهم { عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} (المائدة: 78)، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم متكئًا فجلس فقال: (لا والذي نفسي بيده حتى تأطروهم على الحق أطرا)([73])

قال آخر: وفي حديث آخر، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:(إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل كان الرجل يلقى الرجل فيقول: يا هذا، اتق الله ودع ما تصنع، فإنه لا يحل لك. ثم يلقاه من الغد فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده، فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض، ثم قال:{ لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} (المائدة:78)، ثم قال: (كلا والله لتأمرن بالمعروف ولتَنهون عن المنكر، ولتأخذُنَّ على يد الظالم، ولَتَأطرنَّه على الحق أطْرا أو تقصرنه على الحق قصرًا)([74])

قلنا: عرفنا ما يفهمه طالب العلم من الثامنة، فما الذي يستفيد من التاسعة، وهي قوله تعالى:{ وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} (سـبأ:6)؟

قال: ألا ترون كيف وصف الله النهاية التي يبلغها أهل العلم.. أو النتيجة التي يصلون إليها؟

قلنا: أجل.. لقد ذكر الله أن النتيجة النهائية التي يصل إليها أهل العلم هي أن يعلموا أن { الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ }

قال: فالعالم هو الذي لا يغفل عن هذا النوع من العلم.. لأنه لن يصل إلى لباب العلم به.

قلنا: فأين نجد هذا العلم؟

قال: العلوم صنفان: علوم حقائق.. وهي تدلك على أن كل ما أنزل على محمد صلى الله عليه وآله وسلم هو الحق الذي لا مرية فيه.. وعلوم سياسات.. وهي تدلك على أن كل ما أنزل على محمد صلى الله عليه وآله وسلم هو الصراط المستقيم الذي يتوافق مع الفطرة، ولا يصلح الإنسان إلا به.

قلت: فما فائدة هذا لطالب العلم؟

قال: أن لا يقتنع طالب العلم بأي نهاية حتى يصل إلى هذه النهاية.. وهذه النهاية لا حد لها.. فلذلك يظل طول عمره باحثا سالكا سائرا.

قلنا: عرفنا ما يفهمه طالب العلم من التاسعة، فما الذي يستفيد من العاشرة، وهي قوله تعالى:{ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} (آل عمران: 7)؟

قال: ألا ترون كيف وصف الله أهل العلم الراسخين فيه بالتسليم المطلق لله؟

قلنا: بلى.

قال: فطالب العلم لن يرسخ في العلم حتى يسلم هو وعلمه لله.

قلنا: عرفنا إسلام العبد لله.. فكيف يسلم علمه؟

قال: إذا عرف العلم قدره، فلم يتجاوز حدود ما أمر بعلمه، كان مسلما.. ألا ترون كيف سلم الراسخون لله في الحين الذي راح فيه المشاغبون يبحثون عن المتشابه ليجادلوا في دين الله.

قلنا: ذلك صحيح.

قال: فلن يصل طالب العلم للرسوخ في العلم حتى يكون هذا حاله..

مع درسه:

بعد أن درسنا وتدربنا على الآداب المرتبطة بالسمت مع العلم مدة، انتقلنا إلى الفرع الثالث للسمت، وهو السمت مع الدرس، وقد بدأ الشنقيطي حديثه عن هذا النوع بقوله صلى الله عليه وآله وسلم:(ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله تعالى يتلون كتاب الله تعالى ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده)([75])

وحدثنا أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خرج على حلقة من أصحابه فقال: ما مجلسكم؟ قالوا: جلسنا نذكر الله تعالى، ونحمده لما هدانا للإسلام، ومن علينا به، فقال: (أتاني جبريل u فأخبرني أن الله تبارك وتعالى يباهي بكم الملائكة)([76])

وحدثنا أنه بينما كان  رسول الله جالسا في المسجد، والناس معه، إذ أقبل ثلاثة نفرٍ، فأقبل اثنان إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وذهب واحدٌ، فوقفا على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فأما أحدهما، فرأى فرجةً في الحلقة، فجلس فيها وأما الآخر، فجلس خلفهم، وأما الثالث فأدبر ذاهباً. فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال: (ألا أخبركم عن النفر الثلاثة: أما أحدهم، فأوى إلى الله، فآواه الله، وأما الآخر فاستحيا فاستحيا الله منه، وأما الآخر، فأعرض، فأعرض الله عنه)([77])

قلنا: ما سر إيرادك لهذه الأحاديث، وما علاقتها بسمت أهل العلم مع دروسهم؟

قال: هذه الأحاديث هي المنبع الذي منه يستقي طالب العلم ومعلمه ما ينشر فيهما سمت أهل العلم مع دروسهم.

قلنا: كيف ذلك؟

قال: لقد أخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن مجلس العلم مجلس يأوي فيه طلبة العلم إلى الله، فيكونون بجلوسهم فيه ضيوفا على الله.. وأخبر أنه مجلس تحضره الملائكة.. وأخبر أنه مجلس تستجاب فيه الدعوات، وتلبى فيه الطلبات.. ومثل هذا المجلس الذي شرف هذا التشريف ينبغي أن لا تقل هيبته عن هيبة الصلاة.

قلنا: نحن نعرف أركان الصلاة وفضائلها وموانعها ونواقضها.. فهل أثر عن سلفكم من أهل العلم ما يرتبط بمجلس العلم من أحكام؟

قال: أجل.. لقد اتفق جميع أهل الله من ورثة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على أن لمجلس العلم من الحرمة ما لا يقل عن حرمة الصلاة.. فلذلك سنوا فيه من الآداب ما يحفظ حرمته، ويعطيه حقه من التعظيم.

قلنا: فحدثنا عن ذلك.

قال: سأحدثكم عن عشر تجمع أصول ذلك.. أما فروعه فستتدربون عليها في هذا المجلس حتى لا تطردوا من حلق العلم.

قلت: وهل يمكن لمعلم أن يطرد من يتعلم على يديه؟

قال: لقد كان ذلك سنة السلف الصالح.. كانوا لا يرون أحدا يعكر مجلس العلم بالجدال وسوء الأدب إلا طردوه.

قلت: ألا ترى أنهم يقسون عليه بذلك؟

قال: رب قسوة تحمل من الرحمة ما لا تحمله أي رحمة، ألم تسمع الشاعر الحكيم، وهو يقول:

وقسا ليزدجروا ومن يك راحما

  فليقس أحيانا على من يرحم

قلنا: بلى.. فحدثنا عن الأول.

قال: لقد ذكر سلفنا عن سلفهم من أهل العلم أن من آداب الطالب والأستاذ إذا عزم على الجلوس مجلس التدريس أن يتطهر من الحدث، وينظف، ويتطيب، ويلبس من أحسن ثيابه اللائقة به بين أهل ‏زمانه، قاصداً بذلك تعظيم العلم وتبجيل الشريعة.

قلنا: فحدثنا عن الثاني.

قال: أنتم تعرفون صلاة الاستخارة؟

قلنا: وما علاقتها بهذا؟

قال: لقد كان من سلفنا من يقدم على مجلسه هذه الصلاة.

قلنا: لم؟

قال: حتى يكون تحركه للعلم والتعليم بتحريك الله لا بتحريكه.. ثم إن في العلم مجاهيل، فهو يحتاج من الله أن يوفقه لسلوك متاهاتها.. ثم إن في العلم فروعا كثيرة، فهو يحتاج لأن يخير الله له خيرها، وأوفقها بالنسبة له.

قلنا: فحدثنا عن الثالث.

قال: أن ينوي بطلب العلم أو نشره تبليغ أحكام الله تعالى التي ائتمن ‏عليها، وأمر ببيانها والازدياد من العلم، وإظهار الصواب، والرجوع إلى الحق والاجتماع على ذكر الله تعالى والسلام ‏على إخوانه من المسلمين والدعاء للسلف الصالحين.

يحكى عن بعضهم أنه كان يكتب حتى تكل يده، فيضع القلم ثم ينشد من باب الإشارة:

لئن كان هذا الدمع يجري صبابةً
 
على غير ليلى فهو دمع مضيع ‏
  

قلت: حقيق بطالب العلم ومعلمه أن يفرح، فكيف يبكي هذا؟.. ألم يبلغه فضل أهل العلم؟

قال: ألم تسمع قوله تعالى:{ وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60) أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ (61)} (المؤمنون)؟

قلت: بلى.. وقد سئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عنها، فقيل له: أهو الرجل يسرق ويزني ويشرب الخمر، وهو مع ذلك يخاف الله؟ قال: (لا، ولكن الرجل يصوم ويتصدق ويصلي، وهو مع ذلك يخاف الله أن لا يتقبل منه)([78])

قال: فأهل العلم هم أولى بالخشية من غيرهم.. ألم تسمع قوله تعالى:{ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} (فاطر: 28)

قلت: بلى..

قال: فأعظم الخشية هو أن يخاف المؤمن ألا يقبل منه.. لقد قال بعضهم يعبر عن ذلك:(الناس كلهم هلكى إلا العالمون، والعالمون كلهم هلكى إلا العاملون، والعاملون كلهم هلكى إلا المخلصون، والمخلصون على خطر عظيم)

قلنا: فحدثنا عن الرابع.

قال: من آداب طالب العلم ألا يتحرك في طريقه إلى مجلس العلم إلا بصحبة ذكر.. فإذا وصل إليه سلم على من حضر وصلى ركعتين، فإن كان مسجداً تأكدت مطلقاً، ثم يدعو الله تعالى بالتوفيق والإعانة والعصمة، ويجلس مستقبلاً ‏القبلة لقوله صلى الله عليه وآله وسلم:(أكرم المجالس ما استقبل القبلة)([79])

ويكون جلوسه بسكينة، ووقار، وتواضع، وخشوع، متربعاً، أو غير ذلك مما لا يكره من ‏الجلسات، ولا يجلس مقعياً، ولا مستفزاً، ولا رافعاً إحدى رجليه على الأخرى، ولا ماداً رجليه أو إحداهما من غير ‏عذر، ولا متكئاً على يديه إلى جنبه أو وراء ظهره، وليصن بدنه عن الزحف، والتنقل عن مكانه، ويديه عن العبث ‏والتشبيك بهما، وعينيه عن تفريق النظر من غير حاجة، ويتقي المزاح وكثرة الضحك، لأنه يقلل الهيبة، ويسقط الحشمة.

قلت: فهل ورد في السنة ما يدل على كل هذا؟

قال: أجل.. ألم تسمع حديث جبريل u الذي جاء يعلمنا فيه ديننا ([80]

قلت: بلى.. بل أحفظه.

قال: إن هذا الحديث أصل من أصول أدب طالب العلم في درسه.. انظر كيف جلس، وكيف سأل، وكيف سمع، وكيف أجاب.. إن جبريل u لم يعلمنا فقط أصول ديننا، بل علمنا مع ذلك السمت الذي نطلب به علوم ديننا.. فلا يمكن أن نتعلم الدين في مدارس المشاغبين.

قلنا: فحدثنا عن الخامس.

قال: أن يقطع طالب العلم كل ما يحول بينه وبين التفرغ للعلم والتنصت له والتأمل فيه.. فلا يدرس وقت جوعه، أو عطشه، أو همه، أو غضبه، ‏أو نعاسه، أو قلقه، ولا في حال برده المؤلم، أو حره المزعج، فربما سمع ما لم يتحقق من سماعه، أو فهم ما لا يصح أن يفهمه.. وإن كان أستاذا ربما أجاب أو أفتى بغير الصواب، لأنه لا يتمكن ‏من استيفاء النظر.

قلت: أهذا قياس على ما ورد في الحديث من نهيه صلى الله عليه وآله وسلم عن صلاة الحاقن([81]).. ونهيه صلى الله عليه وآله وسلم عن صلاة الحازق([82])، وهو صاحب الخف الضيق.

قال: ليس ذلك قياسا.. بل العلم لا يختلف عن الصلاة.. فكما أن هذه الشواغل تصرف عن الصلاة، وتؤثر في خشوعها، فهي كذلك تصرف عن العلم، وتؤثر على معايشة الطالب ما يتعلمه.. وذلك يحول بينه وبين الاستفادة منه.

قلنا: فحدثنا عن السادس.

قال: أن يعطي لمجلس العلم حقه من الأدب.. لقد قال الله تعالى يشير إلى مجامع ذلك:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} (المجادلة:11).. انظروا كيف ربط الله تعالى بين المجالس والعلم.. وانظروا كيف أمر الله تعالى الجالسين بالطاعة المطلقة لمن يريد أن ينظم مجلسهم، فإذا أمرهم بالفسح فسحوا، وإذا أمرهم بالنشوز نشزوا؟

قلنا: فما هي آداب المجالس التي يجب على طالب العلم أن يراعيها؟

قال: أولها.. أن يجلس حيث انتهى به المجلس، فلا يتخير محلا دون غيره إلا لغرض، ولا ينبغي أن يزاحم من هو أولى منه على مجلسه.. لقد روي في الحديث: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يجلس حيث انتهى به المجلس.. وورد فيه كذلك أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يقول: (لِيَليني منكم أولوا الأحلام والنُّهَى، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم)([83])

قلت: ألا يحمل هذا التقديم نوعا من الجور ؟

قال: يستحيل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يقع في الجور.. بل هذا عين العدل.. أليس العدل هو أن تضع كل شيء في موضعه الذي وضعه الله فيه؟

قلنا: بلى..

قال: فالمجالس كذلك.. إن مجالس العلم قد تحتاج حوارا ومراجعات، ولا يصلح لهذا غير أولي الأحلام والنهى..

إن مجالس العلم كصفوف الصلاة تماما، وقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يقول: (استووا ولا تختلفوا فتختلف قلوبكم، ليليني منكم أولو الأحلام والنُّهى، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم) ([84])

أتدرون لم قدم أولي الأحلام والنهى بهذه المرتبة دون غيرهم؟

قلنا: الحكمة في ذلك يسيرة.. فالإمام قد يحتاج إلى من يفتح عليه، وقد يحتاج إلى من يستخلفه.. ولا يصلح لذلك إلا أولو الأحلام والنهى.

قال: فهكذا مجلس العلم.. قد ينسى المعلم، فيذكر، وقد يخطئ فيصوب، وقد يراجع فيحقق..

قلنا: عرفنا هذا، فهل هناك أدب غيره.

قال: من آداب المجالس التي لا تستقيم مجالس العلم إلا بها أن يحترم الجالس الجلساء، فلا يقيم أحدا من مجلسه ليجلس فيه دون.

قلت: أحفظ في ذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم:(لا يقيم الرَّجُلُ الرَّجُلَ من مجلسه فيجلس فيه، ولكن تَفَسَّحُوا وتَوسَّعوا)([85])

قلنا: وعينا هذا، ووعينا كل ما ورد في السنة من مثله.. فحدثنا عن السابع.

قال: هو ما أشار إليه قوله تعالى:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ } (البقرة:104)

قال بعض الطلبة: لقد نهى الله تعالى المؤمنين في هذه الآية أن يتشبهوا بالكفار في مقالهم وفعالهم، وذلك أن اليهود كانوا يُعَانُون من الكلام ما فيه تورية لما يقصدونه من التنقيص، فإذا أرادوا أن يقولوا: اسمع لنا يقولون: راعنا، يورون بالرعونة، كما قال تعالى مخبرا عنهم:{ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلا قَلِيلا } (النساء: 46)

وهكذا ورد في الأحاديث أنهم كانوا إذا سَلَّموا يقولون: السامُ عليكم، والسام هو: الموت.

قلنا: عرفنا هذا.. فما وجه الإشارة فيه إلى آداب طالب العلم مع درسه؟

قال: لقد ذكر سلفنا عن سلفهم تطبقا لهذا أن أن يصان مجلس العلم عن اللغط، فإن الغلط تحته،.

قلنا: فإن حصل التعدي في هذا.. فماذا على المعلم؟

قال: لقد ذكر سلفنا عن سلفهم في هذا أن يزجر من تعدى في بحثه، أو ظهر منه لدد وسوء أدب، أو ترك إنصافا بعد ظهور الحق، أو أكثر الصياح بغير فائدة، ‏أو أساء أدبه على غيره من الحاضرين أو الغائبين، أو ترفع في المجلس على من هو أولى منه، أو نام أو تحدث مع غيره أو ‏ضحك، أو استهزأ بأحد من الحاضرين، أو فعل ما يخل بأدب الطلب في الحلقة، وكل ذلك بشرط أن لا يترتب على ذلك مفسدة تربو عليه.

قلنا: فحدثنا عن الثامن.

قال: هو ما أشار إليه قوله تعالى:{ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} (البقرة: 223)

قال بعض الطلبة: كيف تستشهد بهذا في هذا المحل؟.. إن هذا ورد في محل أنت تعرفه([86]).

قال: فما قال ابن عباس في التقديم؟

قال الطالب: لقد ذكر أنه قول بسم الله.. وفي حديث آخر جمع التسمية مع الاستعاذة من الشيطان([87]).

قال: فإن كنا قد أمرنا في ذلك المحل الذي قد تنتشر فيه الغفلة أن نقدم لأنفسنا بذكر، فكيف لا نفعل ذلك في مجلس العلم الذي هو محراب من محاريب التعبد لله.

قلنا: فما أثر عن سلفكم من العلماء في هذا؟

قال: لقد اتفق على هذا جميع أهل الله من ورثة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على أن على أهل العلم أن يقدموا على الشروع في البحث والتدريس قراءة شيء من كتاب الله تعالى تبركاً وتيمناً، ويدعو عقيب القراءة لنفسه، وللحاضرين، وسائر المسلمين، ثم يستعيذ بالله من ‏الشيطان الرجيم، ويسمى الله تعالى ويحمده، ويصلي على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ويدعو لنفسه وللحاضرين ووالديهم أجمعين، وهو واقف مكانه إن كان في مدرسة أو نحوها جزاء ‏لحسن فعله وتحصيلاً لقصده.

قلت: ألا ترى أن في هذا تضييعا لوقت كثير؟

قال: الوقت يضيع باللغو.. لا بذكر الله.. والمدرسة عندنا هي المدرسة التي تعمق بالإيمان بالله، وتملأ القلب بحبه، وتملأ النفس بالتهذيب والأدب.. ولم نجد داواء يجمع لنا كل ذلك ككتاب الله وذكر الله، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:(ما اجتمع قوم في مجلس فتفرقوا، ولم يذكروا الله ولم يصلوا على النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلا كان مجلسهم تره عليهم يوم القيامة)([88])

 قال بعض الطلبة: وفي حديث آخر، قال صلى الله عليه وآله وسلم:(ما جلس قوم مجلسا لم يذكروا الله تعالى ولم يصلوا على نبيهم الا كان عليهم ترة فإن شاء عذبهم وإن شاء غفر لهم)([89])

قلت: عرفنا بما يبدأ الدرس، فبم ينتهي؟

قال: لقد اتفق أهل الله من ورثة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على أن يقول المدرس عند ختم كل درس: (والله أعلم)، أو غيرها من الصيغ التي تدل على البراءة من الذات، واللجوء إلى الله.. أو يقول كلاما يشعر بختم الدرس كقوله: (وهذا آخره) أو (ما بعده يأتي إن شاء الله تعالى) ونحو ذلك، ليكون قوله ‏(والله أعلم) خالصاً لذكر الله تعالى ولقصد معناه.

وقد ذكر سلفنا عن سلفهم في هذا أن الأولى للمدرس أن يمكث قليلاً بعد قيام الجماعة فإن فيه فوائد وآداباً له ولهم، منها عدم مزاحمتهم، ومنها أنه إن كان في ‏نفس أحدهم بقايا سؤال سأله.

واستحبوا له إذا قام أن يدعو بقوله:(سبحانك اللهّ، اللهم وبحمدك لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك)

قال بعض الطلبة: لقد نص الحديث على هذا، فقد قال صلى الله عليه وآله وسلم:(من جلس في مجلسٍ، فكثر فيه لغطه، فقال قبل أن يقوم من مجلسه ذلك: سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا الله، أستغفرك وأتوب إليك؛ إلا غفر له ما كان في مجلسه ذلك)([90])

قال آخر: وفي حديث آخر: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول بأخرةٍ إذا أراد أن يقوم من المجلس: (سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك)، فقال رجل: يا رسول الله، إنك لتقول قولاً ما كنت تقوله فيما مضى؟ قال: (ذلك كفارةٌ لما يكون في المجلس)([91])

قلنا: فحدثنا عن التاسع.

قال: هو ما أشار إليه قوله تعالى:{ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ } (لقمان: 19)

قلنا: تقصد خفض الصوت.

قال: بحيث يسمعه السامعون.. فلا يتجاوز به مسامعهم، ولا يقصر به عنها.

قلنا: فما أثر عن سلفكم في هذا؟

قال: لقد اتفق أهل الله من ورثة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على أن على المعلم في درسه ألا يرفع صوته زائداً على قدر الحاجة، ولا يخفضه خفضاً لا يحصل معه كمال الفائدة.

ورووا في ذلك عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قوله:(إن الله يحب الصوت الخفيض، ويبغض الصوت الرفيع)([92])

وذكروا أن الأولى أن لا يجاوز ‏صوته مجلسه، ولا يقصر عن سماع الحاضرين، فإن حضر فيهم ثقيل السمع فلا بأس بعلو صوته بقدر ما يسمع.

وذكروا أنه لا ينبغي له أن ‏يسرد الكلام سرداً، بل يرتله ويرتبه ويتمهل فيه ليفكر فيه هو وسامعه..

قلنا: فحدثنا عن العاشر.

قال: هو ما أشار إليه قوله تعالى:{ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} (آل عمران:159)

قلنا: هذه الآية جامعة من جوامع العلم، فما حظ المعلم منها؟

قال: لقد ذكر سلفنا عن سلفهم في ذلك آدابا:

منها أن يتودد المعلم لكل غريب أو جديد حضر عنده، وينبسط له لينشرح صدره، فإن للقادم دهشة.. ونصحوا بأن لا يكثر الالتفات والنظر إليه استغراباً له، ‏فإن ذلك يخجله.

وذكروا أنه إذا أقيل بعض الفضلاء، وقد شرع المعلم في مسألة أمسك عنها حتى يجلس، وإن جاء وهو يبحث في مسألة ‏أعادها له أو أعاد مقصودها، وإذا أقبل فقيه وقد بقي لفراغه وقيام الجماعة بقدر ما يصل الفقيه إلى المجلس، فليؤخر تلك البقية ‏ويشتغل عنها ببحث أو غيره إلى أن يجلس الفقيه، ثم يعيدها أو يتم تلك البقية كيلا يخجل المقبل بقيامهم عند جلوسه.

ومنها أن يلازم الِإنصاف في بحثه وخطابه، ويسمع السؤال من مورده على وجهه وإن كان صغيراً، ولا يترفع عن سماعه فيحرم ‏الفائدة، ويكلم كل أحد على قدر عقله وفهمه، فيجيب بما يحتمله حال السائل، ويتروى فيما ‏يجيب به، وإذا سئل عما لم يعلمه قال: لا أعلم أو لا أدري فمن العلم أن يقول فيما لا يعلم: لا أعلم، أو الله اعلمِ، فقد ‏قال ابن مسعود : (يا أيها الناس من علم شيئاً فليقل به، ومن لم يعلم فليقل الله أعلم، فإن من العلم أن يقول ‏لما لا يعلم: الله أعلم)، وعن بعضهم: (لا أدري نصف العلم)

قلت: ألا ترى أن في قوله هذا حطا من قدره.. بحيث يتهمه طلبته بالجهل، وهو ما يرفع ثقتهم فيه، ويمنعهم من الاستفادة منه؟

قال: ذلك عند أهل الدينا.. أما عند أهل الدين.. فالأمر مختلف تماما.. إن هذا القول عند أهل الدين والورع يدل على عظم محله، وقوة دينه، وتقوى ربه، وطهارة قلبه، وكمال معرفته، ‏وحسن تثبته.

مع معلمه:

بعد أن درسنا وتدربنا على الآداب المرتبطة بالسمت مع الدرس مدة، انتقلنا إلى الفرع الرابع للسمت، وهو السمت مع المعلم، وقد بدأ الشنقيطي حديثه عن هذا النوع بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (ليس منا من لم يجل كبيرنا، ويرحم صغيرنا، ويعرف لعالمنا حقه)([93])

فسألناه عن حق العالم، فقال: أول حق للعالم أن يعز ويكرم ويرفع قدره.. فرفع قدر العالم رفع لقدر العلم.. ومن أذل عالما، فقد أذل العلم، ومن أذل العلم، فقد أذل ما أمر الله بأن يعز.

قلت: فما علاقة ذلك بالعلم، وما تأثيره فيه؟

قال: لقد قال الشاعر الحكيم يبين سر ذلك:

إن المعلم والطبيب كلاهما

  لا ينصحان إذا هما لم يكرما ‏

فاصبر لدائك إن أهنت طبيبه

  واصبر لجهلك إن جفوت معلما

قلت: ألا يعني إعزاز العالم إذلالا للمتعلم؟

قال: هي ذلة عزة لا ذلة هوان.. لقد عبد الله بن عباس : ذللت طالبا فعززت مطلوبا.. وقال آخر: من لم يحتمل ذل التعلم ساعة بقي في ذل الجهل أبدا .. وقال آخر: إذا قعدت، وأنت صغير حيث تحب قعدت وأنت كبير حيث لا تحب.

قلت: عرفنا الإجمال، فهات التفصيل..

قال: حقوق المعلم سبعة.. وهي بالسبعين أشبه منها بالسبعة.

قلنا: فما أولها؟

قال: أن لا يتكبر طالب العلم عن أخذ العلم عن أي عالم.. كان غنيا أو فقيرا.. معروفا بين الناس أو خاملا.. فرب علم تجده عند خامل، ولا تجد عند معروف.

قال بعض الطلبة: لقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يذكر ذلك:(الكلمة الحكمة ضالة المؤمن حيث وجدها فهو أحق بها)([94])

قال آخر: وقال علي : (خذ الحكمة أنى كانت، فهي تكون في صدر المنافق، فتلجلج من صدره حتى تخرج، فتسكن إلى صواحبها في صدر المؤمن)، وقال: (الحكمة ضالة المؤمن، فخذ الحكمة ولو من أهل النفاق)

قال آخر: وقال علي: (‏الشريف كل الشريف من شرفه علمه، والسؤدد حق السؤدد لمن اتقى ربه، والكريم من أكرم عن ذل النار وجهه)

قلنا: فما الثاني؟

قال: أن يقدر الجهد الذي يبذله معلمه، فيعترف له به، ويشكره عليه، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:(من لم يشكر الناس لم يشكر الله)([95])، وفي رواية:(لا يشكر الله من لا يشكر الناس)([96])

بل ورد في حديث آخر ما هو أعظم من ذلك، حيث عبر بأفعل التفضيل ليدل على أن من الكمال شكر وسائط الجود الإلهي، لينفي ما قد يتوهم من أن ذلك مناف للتوحيد، قال :(إن أشكر الناس لله تعالى أشكرهم للناس)([97])

قال بعض الطلبة: لقد دعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى مقابلة الإحسان بالشكر والثناء والاعتراف بالفضل لأهل الفضل، فقال :(من أعطى عطاء فوجد فليجز به، فإن لم يجد فليثن فإن من أثنى فقد شكر، ومن كتم فقد كفر)([98])

قال آخر: وقال :(من أولى معروفا فليذكره فمن ذكره فقد شكره، ومن كتمه فقد كفره)([99])

قال آخر: وقال :(من لم يشكر القليل لا يشكر الكثير، ومن لم يشكر الناس لا يشكر الله والتحدث بنعمة الله شكر وتركها كفر)([100])

قال آخر، وقد كان أكبر الجماعة سنا: صدق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. لقد مارست في فترة طويلة من عمري التدريس في مدارس الصراع([101]).. وكنت أرى الطلبة كيف يستهينون بمعلميهم، وكيف يحتقرونهم..

وقد كان لي بعض الأصدقاء من المعلمين، اسمه  إبراهيم طوقان، وكان شاعرا، وقد جمعه مجلس ذات يوم مع أحمد شوقي، فأخذ شوقي يترنم بقصيدته المعروفة، والتي يقول مطلعها:

قم للمعلم وفِّه التبجيلا

  كاد المعلم أن يكون رسولا

وقد لاقت القصيدة ترحيبا كبيرا من السامعين إلا من صديقي، الذي قام مغضبا، وراح يقول مرتجلا:

شوقي يقول وما درى بمصيبتي

  قم للمعلم وفِّه التبجيلا)‏

اقعدْ فديتُك هل يكون مُبَجَّلًا

  من كان للنشء الصغار خليلا

ويكاد يقلقني الأمير بقوله

  كاد المعلم أن يكون رسولا)‏

لو جرب التعليمَ شوقي ساعةً

  لقضى الحياةَ شقاوةً وخمولا

حسبُ المعلمِ غمةً وكآبةً

  مرأى الدفاتر بكرةً وأصيلا

مائةٌ على مائةٍ إذا هي صُلِّحتْ

  وجد العمى نحو العيون سبيلا

ولَو آن في التصليح نفعًا يرتجى

  وأبيك لم أكُ بالعيون بخيلا‏

لكن أصلِّح غلطةً نحويةً

  مثلًا وأتخذ الكتاب دليلا

مستشهدًا بالغر من آياته

  أو بالحديث مُفَصلًا تفصيلا

وأغوص في الشعر القديم وأنتقي

  ما ليس ملتبسًا ولا مبذولا

وأكاد أبعث سيبويه من البلى

  وذويه من أهل القرون الأولى

فأرى حمارا بعد ذلك كله

  رفع المضاف إليه والمفعولا

لا تعجبوا إن صِحْتُ يومًا صيحةً

  ووقعت ما بين البنوك قتيلا

يا من يريد الانتحار وجدته

  إن المعلم لا يعيش طويلا

قال آخر: صدقت.. لقد جربت مثلك التدريس في مدارس الصراع، وقد رأيت أن أكبر ما يبذله المعلم من جهد جهد ضائع، وما ذاك إلا لما ينقصهم من إكسير الأدب الذي دعا إليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. وقد كان لي مثلك صديق أديب اسمه عبد الله بن سليم الرُّشَيد، وقد كتب في ذلك شعرا يقول فيه:

أروح وأغدو بالدفاتر مثقلًا

  ويا بؤس من يمسي قرينَ الدفاترِ

أريق عليها أعيني كلَّ ليلةٍ

  بهمة وقَّادٍ وعزمة صابر

وكم وقفةٍ بين التلاميذ قُمتُها

  بلهجة حَضَّاضٍ على الحرب هادر

أمزِّق ساعاتي لترقيع وقتهم

  وأهدر عمري بين جد وذاكر

وأحسب أني بالتلاميذ مُبدِلٌ

  شيوخًا كبحر باللآلئ زاخرِ

فألقاهمُ من بعد شرِّ عصابةٍ

  وإذ بصياحي كان صفقةَ خاسرِ

‏(زواملُ للأشعار لا علم عندهم

  بجيِّدها إلا كعلم الأباعر)‏

قلنا: فما الثالث؟

قال: أن تأخذ من العالم علمه، وما بدا لك من الحكمة منه، وتدع ما سوى ذلك.

قلنا: أذلك واجب أم حق؟

قال: هو واجب وحق.. أما كونه واجبا، فلأن الله تعالى حدد شرط الاتباع بالطاعة لله ورسوله، فقال:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (الحجرات:1)

وأما كونه حقا.. فلأنه لا ينبغي لطالب العلم أن يكلف معلمه عنتا.

قلنا: وما العنت الذي يكلفه في هذا؟

قال: إن من يفعل هذا يطلب ـ من حيث لا يشعر ـ عصمة معلمه، وذلك مما لا يكون إلا فيمن عصمهم الله، ونصت النصوص على عصمتهم، أما من عداهم، فهم عرضة للخطأ، ولا ينبغي لمن هو عرضة للخطأ أن نكلفه بالعصمة.

قال بعض الطلبة: لقد ذكرني حديثكم هذا برجل سمعته يناظر في مجلس حافل، وقد استدل عليه مخالفه بدلالة صحيحة، فكان جوابه عنها أن قال:(إن هذه دلالة فاسدة، وجه فسادها أن شيخي لم يذكرها، وما لم يذكره الشيخ لا خير فيه)، فأمسك عنه المستدل تعجبا ؛ ولأن شيخه كان محتشما.

قال الشنقيطي: لا تحسبن هذا محدودا فيمن رأيت.. فما أكثر من يلبس لباس العلم ظاهرا، بينما هو ـ في حقيقته ـ مقلد بشع التقليد، لا يتعصب إلا لمن ولاهم أمره، فهو يقبل على قوم إقبالا تاما، كان حقا ما جاءوا به أو باطلا، ويدبر عن قوم من المسلمين غيرهم، أو عن أقوام، كان حقا ما جاءوا به أو باطلا.

قال بعض الطلبة: لقد تصرفت مع هؤلاء تصرفا لست أدري مدى صوابه.

قال الشنقيطي: فما فعلت؟

قال: لقد رأيته يبغض الغزالي بغضا تاما، ويقبل على فلان الفلاني إقبالا تاما.. فكنت أبدل الأسماء في نقولي، فأضع مقولات الغزالي باسم من أحبه، فكانت تعجبه، وكان يثني عليها أتم الثناء.. وكنت أضع مقولات من أحبه باسم الغزالي، فكان ينكر عليها إنكارا شديدا، ويستعمل النصوص المقدسة في الإنكار عليه.

قال الشنقيطي: لقد ذكرتني بحادثة وقعت في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. فقد ورد في قصة عبد الله بن سلام أنه بعد أن أسلم رجع إلى أهل بيته فأمرهم فأسلموا وكتم إسلامه، ثم خرج إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: (يا رسول الله، إن اليهود قد علمت أني سيدهم وابن سيدهم، وأعلمهم وابن أعلمهم، وأنهم قوم بهت، وأنهم إن يعلموا بإسلامي قبل أن تسألهم عني بهتوني، وقالوا في ما ليس في، فأحب أن تدخلني بعض بيوتك)

فأدخله رسول الله بعض بيوته، وأرسل إلى اليهود فدخلوا عليه فقال: يا معشر يهود، يا ويلكم اتقوا الله، فوالله الذي لا إله إلا هو إنكم لتعلمون أني رسول الله قد جئتكم بالحق فأسلموا)، فقالوا: ما نعلمه، فقال: (أي رجل فيكم الحصين بن سلام؟)، قالوا: خيرنا وابن خيرنا وسيدنا وابن سيدنا وأعلمنا وابن أعلمنا، فقال: (أرأيتم إن أسلم)، قالوا: أعاذه الله من ذلك، فقال: (يا ابن سلام اخرج إليهم)

فخرج عبد الله فقال: أشهد ألا إله إلا الله وأشهد أن محمد رسول الله، يا معشر يهود اتقوا الله واقبلوا ما جاءكم به، فوالله إنكم لتعلمون أنه لرسول الله حقا، تجدونه مكتوبا عندكم في التوراة: اسمه وصفته، فإني أشهد أنه رسول الله وأؤمن به وأصدقه وأعرفه.

قالوا: كذبت أنت شرنا وابن شرنا، وانتقصوه.

قال: هذا الذي كنت أخاف يا رسول الله، ألم أخبرك أنهم قوم بهت، أهل غدر وكذب وفجور؟ قال: وأظهرت إسلامي وإسلام أهل بيتي، وأسلمت عمتي خالدة بنت الحارث وحسن إسلامها([102]).

قلت: ألأجل هذا ورد نهي العلماء عن اتباعهم اتباعا مطلقا؟

قال: أجل.. لقد خاف العلماء الورعون أن يكونوا حجبا عن أشعة الحقيقة، فلذلك يحذرون من يتعلم على أيديهم من التبعية المطلقة لهم.

قال الشنقيطي: لقد كان قوله تعالى عن أهل الكتاب:{ اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} (التوبة:31) هو الذي جعلهم يذكرون هذا..

قال بعض الطلبة: لقد ورد في تفسيرها عن عدي بن حاتم قوله: أتيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهو يقرأ في سورة براءة:{ اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} (التوبة:31)، فقال: (أما إنهم لم يكونوا يعبدونهم، ولكنهم كانوا إذا أحلوا لهم شيئا استحلوه، وإذا حرموا عليهم شيئا حرموه)([103])

قلنا: فما الرابع؟

قال: هو ما أشار إليه قوله تعالى:{ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً} (الفرقان: 59)

قلنا: فما في هذه الآية من حقوق العالم؟

قال: من حق العالم أن يسأل.. فلا أضيع للعلم من ترك السؤال والبحث والنظر.

قلت: فما تقول في قوله تعالى:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ} (المائدة:101)

ومثلها ما ورد في أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم (كان ينهى عن قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال)([104])

قال: السؤال نوعان: سؤال عن علم يحتاج إليه، فذلك فضل، وهو ما ورد في النصوص الأمر به.

وسؤال هو أقرب إلى الجدل منه إلى العلم، وقد ضرب له القرآن الكريم ببني إسرائيل في قصة البقرة، فقد راحوا يضيقون على أنفسهم حتى ضيق الله عليهم، وقد قال ابن عباس : فلو اعترضوا بقرة فذبحوها لأجزأت عنهم، ولكنهم شددوا وتعنتوا على موسى فشدد الله عليهم.

ولهذا كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يحذر من مثل هذا النوع من الأسئلة، ففي الحديث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم:(إن أعظم المسلمين جُرْمًا من سأل عن شيء لم يحرم، فحرم من أجل مسألته)([105])، ولما سُئِل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن الرجل يجد مع امرأته رجلا فإن تكلم تكلم بأمر عظيم، وإن سكتَ سكتَ على مثل ذلك؛ فكره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعابها، ثم أنزل الله حكم الملاعنة([106]).

ولهذا ورد في الحديث قوله صلى الله عليه وآله وسلم:(ذروني ما تركتكم، فإنما هلك من قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم، وإن نهيتكم عن شيء فاجتنبوه)([107])، وقد قال لهم صلى الله عليه وآله وسلم هذا بعد ما أخبرهم أن الله كتب عليهم الحج، فقال رجل: أكُل عام يا رسول الله؟ فسكت عنه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثلاثًا، ثم قال صلى الله عليه وآله وسلم: (لا، ولو قلت: نعم لوجَبَتْ، ولو وَجَبَتْ لما استطعتم)

قلت: أراك تكر على ما دعوتنا إليه لتنهانا عنه؟

قال: لا.. لقد ميزت بين الأمرين.. فهناك فرق كبير بين أن تسأل لتعمل أو لتتعلم، وبين سؤالك الذي هو أقرب إلى الاقتراح منه إلى السؤال..

لقد قال الله تعالى يذكر الثاني:{  يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنزلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ} (النساء: 153)

وقد ضرب له المثل بسؤال للحواريين، فقال تعالى:{ إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (المائدة:112)

ولهذا نهيت هذه الأمة أن يقع منها ما وقع لأهل الكتاب قبلها، فقال تعالى:{ أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْأِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} (البقرة:108)

وقد حدث أبو العالية في سبب نزول الآية أن رجلا قال: يا رسول الله، لو كانت كَفَّاراتنا كَفَّارات بني إسرائيل! فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم:(اللهم لا نبغيها ـ ثلاثًا ـ ما أعطاكم الله خَيْر مما أعطى بني إسرائيل، كانت بنو إسرائيل إذا أصاب أحدُهم الخطيئة وجدها مكتوبة على بابه وكفَّارتها، فإن كفرها كانت له خزْيًا في الدنيا، وإن لم يكفرها كانت له خزيًا في الآخرة، فما أعطاكم الله خير مما أعطى بني إسرائيل، قال:{ وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا } (النساء: 110)، وقال: (الصلوات الخمس من الجمعة إلى الجمعة كفارات لما بينهن) وقال: (من هم بسيئة فلم يعملها لم تكتب عليه، وإن عملها كتبت سيئة واحدة، ومن هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة واحدة، وإن عملها كتبت له عشر أمثالها، ولا يهلك على الله إلا هالك)، فأنزل الله:{ أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ }

قلنا: فما الخامس؟

قال: هو ما أشار إليه قوله تعالى:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ} (الأحزاب: 53)

قلنا: فما وجه الإشارة فيه؟

قال: أنتم تعلمون أن العلماء ورثة الأنبياء.. ولذلك، فإن هذا النوع من الأدب ليس خاصا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. بل هو مرتبط بورثته من العلماء.

قال بعض الطلبة: أروي في هذا عن علي قوله:(من حق العالم عليك أن تسلم على القوم عامة، وتخصه بالتحية وأن تجلس أمامه، ولا ‏تشيرن بيدك، ولا تغمزن بعينك عنده، ولا تقولن: قال فلان: خلاف قولك، ولا تغتابن عنده أحداً ولا تطلبن عثرته، ‏وإن زل قبلت معذرته، وعليك أن توقره لله تعالى، وإن كانت له حاجة سبقت القوم إلى خدمته، ولا تسار في مجلسه ‏ولا تأخذ بثوبه، ولا تلح عليه إذا كسل، ولا تشبع من طول صحبته، فإنما هو كالنخلة ينتظر متى يسقط عليك منها ‏شيء، وإن المؤمن العالم لأعظم أجراً من الصائم القائم الغازي في سبيل الله، وإذا مات العالم انثلمت في الِإسلام ثلمة لا ‏يسدها شيء إلى يو م القيامة)([108])

قال آخر: وأروي عن بعضهم قوله: (من تعظيم الشيخ، أن لا يجلس إلى جانبه ولا على مصلاه أو وسادته، وإن أمره الشيخ بذلك فلا يفعله إلا ‏إذا جزم عليه جزماً يشق عليه مخالفته، فلا بأس بامتثال أمره في تلك الحال، ثم يعود إلى ما يقتضيه الأدب)‏

قلنا: فما السادس؟

قال: هو ما أشار إليه قوله تعالى:{ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلاً مَسْحُوراً} (الاسراء:47)، وقوله تعالى مقابل ذلك:{ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ} (الزمر:18)، وقوله:{ وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ} (الاحقاف:29)

قلت: هذه آداب الاستماع.

قال: أجل.. وما ذكرته هذه الآيات حاصر لها..

قلت: لاشك أن السماع شرط أساسي للتعلم، فلا يمكن أن يتعلم من لم يسمع.

قال: ولهذا حرص سلفنا من العلماء والصالحين من ورثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم على تعليم طلبتهم حسن الاستماع، فلا يمكن أن يتعلم من لم يحسن الاستماع.

قلنا: فما ذكروا من ذلك؟

قال: مما ذكروا في ذلك أن الطالب إذا سمع الشيخ يذكر حكماً في مسألة أو فائدة مستغربة أو يحكي حكاية، أو ينشد شعراً وهو يحفظ ذلك، ‏أصغى إليه إصغاء مستفيد له في الحال كأنه لم يسمعه قط.

‏فإن سأله الشيخ عند الشروع في ذلك عن حفظه له، فلا يجيب بنعم لما فيه من الاستغناء عن الشيخ فيه، ولا يقل لا لما ‏فيه من الكذب، بل يقول:(أحب إن أستفيده من الشيخ، أو أن أسمعه منه، أو هو من جهتكم أصح)

ونصوا على أن على طالب العلم أن لا يسبق الشيخ إلى شرح مسألة أو جواب سؤال منه، أو من غيره ولا يساوقه فيه ولا يظهر معرفته به ‏أو إدراكه قبل الشيخ، وينبغي أن لا يقطع على الشيخ كلامه أي كلام كان، ولا يسابقه فيه ولا يساوقه، بل يصبر حتى ‏يفرغ الشيخ من كلامه ثم يتكلم ولا يتحدث مع غيره والشيخ يتحدث معه، أو مع جماعة المجلس.

وقد ورد في حديث هند بن أبي هالة، في وصفه للنبي صلى الله عليه وآله وسلم قوله:(‏كان إذا تكلم أطرق جلساؤه، كأن على رؤوسهم الطير، فإذا سكت تكلموا)‏([109])

قلنا: فما السابع؟

قال: هو ما أشار إليه قوله تعالى:{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ} (المجادلة:8)

قلت: هذه الآية تؤكد النهي عن التناجي.. وهو نهي وردت فيه النصوص الكثيرة، وقد ذكر صلى الله عليه وآله وسلم علة النهي عنه، فقال:(إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجَينَّ اثنان دون صاحبهما، فإن ذلك يحزنه)([110])، وفي رواية:(إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون الثالث إلا بإذنه؛ فإن ذلك يحزنه)([111])

قال آخر: وفي الآية نهي عن التحية بما لم يعملنا ديننا أن نحيي به.

قال آخر: وفي الآية نهي أن نتحدث في نفوسنا بما يخالف حديث ألسنتنا.

قال الشنقيطي: إن هذه الآية تتحدث عن جميع الآداب التي ترتبط بالكلام.. وهي في مجلس العلم أوجب منها في غيره، فلا يمكن لمن لم يضبط لسانه بضوابط الآداب أن يستفيد من معلمه شيئا.

الإفادة:

بعد أن انتهينا من دراسة ما يتطلبه الفرع الثالث من علوم وآداب، انتقلنا إلى الفرع الرابع، وهو فرع (الإفادة)

وقد سألنا ـ  ونحن في الركن المرتبط بهذا من محضرة الآداب ـ شيخنا محمد الأمين الشنقيطي عن معنى الإفادة، فقال: إن طالب العلم كما لا يختلف عن النبتة التي تسقى، ويعتنى بها.. فهو لا يختلف ـ كذلك ـ عن النبتة في انتظار ثمارها ونتاجها وفوائدها.

قلنا: إن النباتات تختلف في ثمارها.. فما ثمار طالب العلم المستن بسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟

قال: لقد ذكر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أصناف الثمار، فقال:(إن مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيثٍ أصاب أرضاً فكانت منها طائفةٌ طيبةٌ، قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكان منها أجادب أمسكت الماء، فنفع الله بها الناس فشربوا منها وسقوا وزرعوا. وأصاب طائفةٌ منها أخرى، إنما هي قيعان لا تمسك ماءً ولا تنبت كلأ. فذلك مثل من فقه في دين الله، ونفعه بما بعثني الله به، فعلم وعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأساً، ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به)([112])

ففي هذا الحديث ذكر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثمرتين صالحتين، وثمرة فاسدة.

أما الثمرة الأولى، وهي أصلح الثمار وأكملها، فهي ثمرة انتفعت بالعلم انتفاعا عظيما، حيث أنبتت من غيثه الكلأ والعشب الكثير الذي انتفع به الإنسان وغير الإنسان.

وأما الثمرة الثانية، فأمسكت من الماء ما انتفع به الناس بعد ذلك في سقيهم وزرعهم.

وأما الثمرة الثالثة، فلم تنتفع بشيء.. فلم تنبت كلأ، ولم تسق عطشانا.

قلت: فهل طلبة العلم يتوزعون على هذه الأصناف الثلاثة؟

قال: أجل.. فمن طلبة العلم من يداوم على طلبه ويحرص عليه، ويكون له من الذكاء وجودة الذهن ما يعينه عليه.. فذلك هو المحقق الذي ينتفع به الكل.

ومنهم من يحفظ للأمة دينها، ويحفظ ما جاء به نبيها من هدي، فيبلغه كما حفظه، فيستفيد من حفظه العموم والمحققون..

ومنهم الذي لا يطيق هذا ولا ذاك.. والأولى به أن ينصرف إلى ما قدر عليه من تجارة أو غيرها من المكاسب.

قلنا: فحدثنا عن الثمرتين الأوليين.

قال: لقد عبر العلماء عن علوم الأولى بأنها علوم دراية وتحقيق.. وعبروا عن علوم الثانية بأنها علوم رواية وحفظ.. وقد جمع بينهما صلى الله عليه وآله وسلم في قوله:(نضر الله عبدا سمع مقالتي فوعاها، ثم بلغها عني، فرب حامل فقه غير فقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه)([113])

قلنا: فحدثنا عن واجبات كلا الصنفين ليحقق من الإفادة ما أمر الله به.

قال: هما ثنتان، من تحقق بهما، فقد تحققت له الإفادة بأكمل معانيها.

قلنا: فما هما؟

قال: النصح والتعليم.. فالعالم لا يكتفي بأحدهما عن الآخر.. لأن أحدهما لا يغني عن الآخر.

قلنا: فبأيهما يبدأ؟

قال: هما قرينان لا ينفك أحدهما عن الآخر.. فالنصيحة لا تكون إلا بعلم.. والعلم لا يكون إلا بنصيحة وعن نصيحة.

قلنا: فكيف نجمع بين العلم والنصح، فيكون علمنا نصحا، ونصحنا علما؟

قال: هي سبعة.. من استكملها، فقد استكمل الجمع بينهما، ومن ضيعها، أو ضيع آحادها، فإن له منهما بحسب ما له منها.

النية:

قلنا: فحدثنا عن أولها.

قال: هو ما أشار إليه صلى الله عليه وآله وسلم في حديث النيات.. فقد علمتم أن ذلك الحديث يدخل كل باب من الأبواب.

قلنا: فكيف يدخل هذا الباب؟

قال: من ذلك أن يقصد بتعليم طلبته وتهذيبهم وجه الله تعالى، ونشر العلم، وإحياء الشرع، ودوام ظهور ‏الحق، وخمول الباطل، ودوام خير الأمة بكثرة علمائها، واغتنام ثوابهم، وتحصيل ثواب من ينتهي إليه علمه من بعدهم ‏وبركه دعائهم له، وترحمهم عليه.

قلت: فما علاقة النية بالنصح؟

قال: لا نصح بدون نية.. ألم تسمع قوله تعالى:{ إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} (النساء: 35)؟

قلت: بلى .. وقد كتب بعض الأدباء إلى أخيه: أخلص النية في أعمالك يكفك القليل من العمل.

ويروى عن بعض المريدين، أنه كان يطوف على العلماء يقول: من يدلّني على عمل لا أزال فيه عاملاً للّه تعالى فإني أحبّ أن لاتجيء عليّ ساعة من ليلٍ أو نهار إلاّ وأنا عامل من عمال اللّه تعالى، فقيل له: قد وجدت صاحبك اعمل الخير ما استطعت، فإذا أقترت أو تركته فهمّ بعمله، فإن الهامّ بعمل الخير كعامله.

قال: لقد روي في السنة ما يدل على تصديق ذلك.. فقد جاء في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيما يروي عن ربه، تبارك وتعالى قال: (إن الله كتب الحسنات والسيئات ثم بين ذلك: فمن هم بحسنةٍ فلم يعملها كتبها الله تبارك وتعالى عنده حسنةً كاملةً، وإن هم بها فعملها كتبها الله عشر حسناتٍ إلى سبعمائة ضعفٍ إلى أضعافٍ كثيرةٍ، وإن هم بسيئةٍ فلم يعملها كتبها الله عنده حسنةً كاملةً، وإن هم بها فعملها كتبها الله سيئةً واحدةً)([114])

التبسيط:

قلنا: عرفنا الأولى.. فما الثانية؟

قال: هو ما أشار إليه قوله تعالى:{ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} (القمر:17)

قلنا: فما فيها من العلم المرتبط بهذا؟

قال: إن العالم المستن بسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو الذي يقرب لك المعلومة، ويبسطها، فتفهمها من غير عناء.

قلنا: فهل ورد في السنة ما يدل على ذلك؟

قال: كل السنة تدل على ذلك، فقد سلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في التعليم أساليب تربوية كثيرة تبسط المعلومات وتقربها: فكان تارة يضرب لهم الأمثلة، وتارة يستخدم الإشارة الحسية، كأن يحكي فعل شخص ما، وتارة يلغز لهم لينشطهم، وتارة يقص عليهم من أحوال الأمم الماضية، ليكون في ذلك عبرة لهم، وتارة يعلمهم عمليا، بأن يفعل هو ما يريد فيتابعونه عليه، وتارة يسألهم عن الشيء، ولم يسألوا عنه ثم يجيبهم، وتارة يجيبهم على سؤالهم بأكثر مما أرادوا لأجل فائدة عظيمة لهم، وغير ذلك كثير..

قال بعض الطلبة: مما يروى في ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يستعمل ـ أحيانا ـ الرسوم التوضيحية، فقد خطَّ مرة خطًّا مربعاً، وخطَّ خطًّا في الوسط خارجاً منه، وخطَّ ‏خططا صغاراً إلى هذا الذي في الوسط من جانبه الذي في الوسط، وقال: (هذا الإنسان، وهذا أجله ‏محيط به، أو قد أحاط به، وهذا الذي هو خارج أمله، وهذه الخطط الصغار الأعراض، فإن أخطأه ‏هذا نهشه هذا، وإن أخطأه هذا نهشه هذا)([115])

قال آخر: ومما يروى في ذلك عن عبد الله بن مسعود قال: خط رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خطاً ‏بيده، ثم قال:(هذا سبيل الله مستقيماً)،  وخط عن يمينه وشماله ثم قال:(هذه السبل ليس منها ‏سبيل إلا عليه شيطان يدعو إليه)، ثم قرأ:{ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} (الأنعام: 153)([116])

قال آخر: وكان صلى الله عليه وآله وسلم يضرب المثل ليبسط بها المعلومة، ويقربها، ومما يروى في ذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم:(مثل القائم على حدود الله والواقع فيها ‏كمثل قوم استهموا على سفينة فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا ‏استقوا من الماء مرُّوا على من فوقهم فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً ولم نؤذ من فوقنا، فإن ‏يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً)([117])

التشويق:

قلنا: عرفنا الثانية.. فما الثالثة؟

قال: هو ما أشار إليه قوله تعالى:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} (الصف:10)

قلنا: فما فيها من العلم المرتبط بهذا؟

قال: إن العالم المستن بسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو الذي يشوقك إلى المعلومة، ويحببها لك، فتقبل عليها بكل كيانك، ولن تتحقق بالعلم، ولن تحقق فيه إلا إذا أقبلت عليه بكل كيانك.

قلنا: فهل ورد في السنة ما يدل على هذا؟

قال: كل السنة تدل على هذا.. فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يشوقهم إلى كل خير، ويحببهم فيه، فيقبلون عليه بقلوبهم وعقولهم ونفوسهم وجميع كيانهم.

قال بعض الطلبة: مما يدل على هذا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في أحيان كثيرة كان يطرح المسألة على أصحابه متسائلاً: (أتدرون ما الغيبة؟)([118]).. (أتدرون ما المفلس؟)([119]) .. (إن من الشجر شجرة لا يسقط ورقها، وإنها مثل المسلم فحدثوني ما هي؟)([120])

فهذه الأسئلة، وغيرها كانت تستحث على التفكير والبحث والتأمل.. وهو ما يجعل الدرس مشوقا بعيدا عن كل أسباب الملل.

العناية:‏

قلنا: عرفنا الثالثة.. فما الرابعة؟

قال: هو ما أشار إليه قوله تعالى:{ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} (آل عمران:159)

قلنا: فما فيها من العلم المرتبط بهذا؟

قال: إن العالم المستن بسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو الذي يحل من تلاميذه محل الوالد من ولده، فهو يعطف عليهم، ويرحمهم، ويستعمل كل الوسائل التي تؤلف قلوبهم، لينصرفوا إلى العلم انصراف محب لا مبغض، وانصراف راغب فيه لا راغب عنه.

قال بعضهم: صدقت.. فكم من علوم لم يحل بيننا وبينها إلا سوء خلق معلميها، وكم من علوم لم يحببنا فيها إلا ما طبع الله عليه أساتذتها من خلق ونبل.

قال الشنقيطي: ولهذا، فإن العالم المستن بسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو الذي يستعمل كل الوسائل ليقرب قلوب تلاميذه إليه، وإلى العلم الذي يحمله.

قلنا: فهل ورد في السنة ما يدل على هذا؟

قال: كل السنة تدل على هذا.. وإن شئتم التقريب، فاقرؤوا ما ورد عنه صلى الله عليه وآله وسلم من مراعاته لمستويات الناس وظروفهم المختلفة، فعن أبي رفاعة قال:انتهيت إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو يخطب قال: فقلت: ‏يا رسول الله، رجل غريب جاء يسأل عن دينه لا يدري ما دينه، قال: فأقبل عليَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وترك خطبته حتى انتهى إلي فأتي بكرسي حسبت قوائمه حديداً، قال: فقعد عليه رسول الله ‏صلى الله عليه وآله وسلم وجعل يعلمني مما علمه الله ثم أتى خطبته فأتم آخرها([121]).

الرفق:

قلنا: عرفنا الرابعة.. فما الخامسة؟

قال: هو ما أشار إليه قوله صلى الله عليه وآله وسلم:(إن الله رفيقٌ يحب الرفق في الأمر كله)([122])، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم:(إن الله رفيقٌ يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف وما لا يعطي على ما سواه)([123])، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم:( إن الرفق لا يكون في شيءٍ إلا زانه، ولا ينزع من شيءٍ إلا شانه)([124])

 قلنا: فما فيها من العلم المرتبط بهذا؟

قال: إن العالم المستن بسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو الذي يرفق بتلاميذه أثناء تعليمه، فلا ينهرهم، ولا يكهرهم، ولا يؤذهم، ولا يغضب عليهم، بل يلين لهم، ويعفو عما يبدر منهم إلى أن تهذب نفوسهم وتصفو طباعهم.

قلنا: عرفنا فضل الرفق.. فهل في السنة ما يدل عليه في هذا الباب؟

قال: أجل.. ومن ذلك  ما حدث به بعضهم قال: بينا أنا أصلي مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذ عطس رجل من القوم فقلت: يرحمك الله، فرماني القوم بأبصارهم، فقلت: واثكل أمياه ما شأنكم تنظرون إلي؟ فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم، فلما رأيتهم يصمتونني، لكني سكت، فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فبأبي هو وأمي، ما رأيت معلما قبله ولا بعده أحسن تعليما منه، فوالله ما كهرني([125])، ولا ضربني ولا شتمني، قال: (إن هذه الصلاة لا يصح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التسبيح، والتكبير، وقراءة القرآن)، أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم[126]).

قال آخر: ومما يروى في هذا ما حدث به أبو حميد الساعدي قال: استعمل النبي صلى الله عليه وآله وسلم رجلاً من بني أسد يقال له ابن اللتبية على صدقة، فلما ‏قدم قال: هذا لكم وهذا أهدي لي، فقام النبي صلى الله عليه وآله وسلم على المنبر فحمد الله وأثنى عليه، ‏ثم قال: (ما بال العامل نبعثه فيأتي فيقول: هذا لك وهذا لي، فهلا جلس في بيت أبيه وأمه فينظر ‏أيهدى إليه أم لا؟)([127])، فلم يفصح الرسول ‏صلى الله عليه وآله وسلم عن اسمه مع أن كثيراً من الصحابة يعلمون هذا الذي عناه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، ولكن لما كان القصد هو التحذير من الفعل المذموم ‏وبيان ضرره وسوء عاقبته حتى لا يقع في الآخرون، شهر بالفعل دون الفاعل، إذ ليس هناك ‏مصلحة ترجى من ذكر اسم الفاعل.

التأليف:

‏قلنا: عرفنا الخامسة.. فما السادسة؟

قال: هو ما أشار إليه قوله صلى الله عليه وآله وسلم:(المؤمن إلف مألوف، ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف)([128])، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم:(إن أقربكم مني مجلساً أحاسنكم أخلاقاً الموطئون أكنافاً الذين يألفون ويؤلفون)([129])

قلنا: فما فيها من العلم المرتبط بهذا؟

قال: إن المعلم المستن بسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو الذي يملأ مجلسه بالطمأنينة والراحة والسعادة، فلا يشعر تلاميذه بأي ثقل أو ضيق أو ملل.

قلنا: فكيف يكون ذلك؟

قال: بأن يكون لهم صاحبا قبل أن يكون لهم أستاذا، وأن يكون معهم رعية قبل أن يكون عليهم أميرا.

قلنا: فهل في السنة ما يدل على ذلك؟

قال: كل السنة تدل على ذلك.. فقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كأحدهم، فلم يكن يتميز عليهم بشء.. قال بعضهم يصفه:(والله ما كان رسول الله  تغلق دونه الأبواب، ولا يقوم دونه الحجاب، ولا يغدى عليه بالجفان، ولا يراح بها عليه، ولكنه كان بارزا، من أراد أن يلقى نبى الله  لقيه، كان يجلس على الأرض، ويطعم ويلبس الغليظ، ويركب الحمار، ويردف خلفه، ويلعق يده)([130])

وقد أشفق الصحابة على رسول الله  مما يصيبه من تلك المخالطة، فطلبوا منه أن يتخذوا له محلا خاصا، فأبى، ففي الحديث:  قال العباس : يا رسول الله إني أراهم قد آذوك، وآذاك غبارهم، فلو اتخذت عريشا تكلمهم فيه، فقال رسول الله :(لا أزال بين أظهرهم يطئون عقبى وينازعوني ثوبي، ويؤذيني غبارهم، حتى يكون الله هو الذي يرحمني منهم)([131]

قلت: فمخالطة المعلم لتلاميذه هي ما تريده بالتأليف.

قال: أجل.. فالمعلم الذي يخالط تلاميذه، ويتخذهم أصحابا يفيدهم أكثر بكثير من ذلك الذي يستعلي عليهم.

قال بعض الطلبة: ولكن بعض المعلمين يرى أن في ذلك سقوطا لحرمة الأستاذ.. فلذلك يفرض من السنن ما يملأ مجلس العلم هيبة من أستاذه.

قال: لا يمكن أن ينجح المعلم إلا إذا فرض هيبته على تلاميذه.. ولكن هذه الهيبة لا تعني الكبر.. ولا تعني كل ما يفرضه الكبر من سنن..

لقد قال أنس بن مالك : (ما كان شخص أحب إليهم من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكانوا إذا رأوه لم يقوموا له، لما يعلمون من كراهيته لذلك)([132])، بل إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال:(من أحب أن يتمثل له الناس قياماً فليتبوأ مقعده من النار)([133])

قلت: فهل سن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سننا غير هذا لتحقيق الألفة؟

قال: كثيرة هي تلك السنن التي تؤلف القلوب:

منها بذل السلام.. كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:(إذا لقي أحدكم أخاه فليسلم عليه، فإن حالت بينهما شجرة، أو ‏جدار، أو حجر ثم لقيه، فليسلم عليه)([134])، وقال صلى الله عليه وآله وسلم:(لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، ‏أو لا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم)([135]).. انظروا كيف اعتبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بذل السلام سببا للمحبة وواسطة لها.

ومنها بذل المكافآت المختلفة للمتعلم، ليبعثه ذلك على المزيد من النشاط..

قاطعته قائلا: ألا يقدح ذلك في الإخلاص؟

قال: الإخلاص أرفع وأقدس من أن يقدح فيه مثل هذا.. ألم تسمع قوله صلى الله عليه وآله وسلم في مثل هذا:(تلك عاجل بشرى المؤمن)([136])

قلت: إن من قومنا من يقدمون مكافآت مادية للمتفوقين؟

قال: لقد فعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. فعن عبد الله بن الحارث قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصف عبد الله وعبيد الله ‏وكثيراً من بني العباس ثم يقول: (من سبق إلي فله كذا وكذا)، قال: فيستبقون إليه، فيقعون على ‏ظهره وصدره فيقبلهم ويلزمهم([137]).

ولكن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ـ فوق هذا ـ كان يهديهم من المكافآت ما لا يمكن أن يقدر بثمن.

قلنا: وما هو؟

قال: الدعوة الصالحة.. ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:(أما إن العبد إذا قال لأخيه المسلم: جزاك الله خيرا فقد بالغ في الدعاء)([138])

التزكية:

قلنا: عرفنا السادسة .. فما السابعة ؟

قال: هو ما أشار إليه قوله تعالى:{ لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} (آل عمران:164)

قلنا: إن هذه الآية تتحدث عن وظائف الرسل ـ عليهم الصلاة والسلام ـ

قال: وهي تتحدث عن وظائف ورثتهم من بعدهم.

قلنا: فما هي الثامنة منها؟

قال: هي التزكية.. فالعالم هو الذي لا يكتفي بتثقيف عقلك.. بل يضيف إلى ذلك، أو يقدم لذلك تثقيف نفسك وروحك وعقلك.

قلت: تقصد الجمع بين التعليم والتربية؟

قال: أجل.. فالعلم جواهر كريمة، ولا ينبغي للجواهر الكريمة أن توضع على القمامات.

قلنا: فاذكر لنا أمثلة من السنة تدل على ذلك.

قال: كل السنة تدل على ذلك.. وإن شئتم مثالا مقربا.. فإليكم ما حدث به ابن عباس تلميذ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. فقد حدث أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال له واعظا:(يا غلام إني أعلمك كلمات: احفظ اللَّه يحفظك، احفظ اللَّه تجده تجاهك، إذا سألت فسأل اللَّه، وإذا استعنت فاستعَنْ باللَّه، واعلم أن الأمة لو اجتمعت عَلَى أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه اللَّه لك، وإن اجتمعوا عَلَى أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه اللَّه عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف)([139])، وفي رواية:(احفظ اللَّه تجده أمامك، تعرف إِلَى اللَّه في الرخاء يعرفك في الشدة، واعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، وما أصابك لم يكن ليخطئك، واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسرا)

المعارف

ذاك هو الرجل الأول.. وتلك بعض أحاديثي معه.. أما الرجل الثاني، فقد كان اسمه هو الآخر (محمد الأمين).. وكان الناس يفرقون بين الأول والثاني بتلقيب الثاني بـ (المرابط)، لانشغاله التام بجميع أنواع المعارف والعلوم، فلا تكاد تذكر أمامه علما، إلا وجدت عنده منه حظا وفهما وخبرة.

ولم يحصل لي التشرف بصحبته إلا بعد أن مكثت مدة في محضرة الآداب، أتلقى من آدابها بعض ما ذكرته لك.. مما ملأني يقينا بأن ما تركه محمد صلى الله عليه وآله وسلم من هدي في هذا الباب لا يمكن أن يلحقه فيه أحد من أهل الدينا أو من أهل الدين.. وعلمت علم اليقين أن البشرية لو تمسكت بهديه في هذا الباب وحده لتحول العلم شمسا من شموس الهداية، ونورا من أنوار السلام.

في بداية صحبتي له دخلت محضرته.. وكانت محضرة مختلفة تماما عن محضرة الآداب التي كنت فيها.. فلم تكن محضرة عامرة بالطلبة، وإنما كانت محضرة عامرة بالكتب والمخطوطات.. بل فوق ذلك رأيت فيها مرقبا فلكيا متطورا.. ومجموعة كبيرة من المجاهر المتطورة.. بل فوق ذلك رأيت في بعض أقسامها مخابر لا تختلف عن المخابر الحديثة.

بعد أن امتلأت دهشة بكل هذا.. اقتربت من المرابط.. ولم أكن حينها أعرفه.. وقلت: ما هذا؟.. أهذه محضرة للعلم؟

قال: أجل.. ولكن دخولها مشروط بالمرور على محضرة أخي وسميي محمد الأمين.

قلت: لقد تخرجت على يده.. فمن أنت؟

قال: أنا الوارث الثاني الذي تتعلم على يديه أن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن يعلم الآداب فقط، بل كان يعطينا أصول العلوم، وأسسها، ومناهجها، وأصنافها..

وعلى يديه ستعلم أن كل ما تراه في العالم من أنواع المعارف والعلوم معارف شرعية لا يتمثل بسنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في كمالها إلا من بحث فيها، ولم تحل بينه وبينها  الحوائل.

قلت: إن هناك من يختصر العلوم فيما ورد في النصوص المقدسة أو ما ورد في تفسيرها.

قال: صدق من قال هذا..

قلت: فكيف يستقيم ما ذكرت مع ما ذكر؟

قال: لا يستقيم ما ذكر إلا بما ذكرت.

قلت: كيف ذلك؟

قال: ألم تسمع قوله تعالى:{ فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (24) أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (26) فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا (27) وَعِنَبًا وَقَضْبًا (28) وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا (29) وَحَدَائِقَ غُلْبًا (30) وَفَاكِهَةً وَأَبًّا (31) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (32)} (عبس)

قلت: بلى.. فما قال فيها ابن عباس ومجاهد؟

قال: إن هذه الآية لن نسأل فيها ابن عباس ولا مجاهدا.. بل نسأل فيها علماء التغذية، وعلماء الأرض.. وغيرهم من العلماء الذي نظروا ودققوا، فرأوا ما لم نر، وسمعوا ما لم نسمع.

قلت: أتقصد أن علوم التغذية وعلوم الأرض علوم شرعية بهذا الاستدلال؟

قال: أجل.. ألم يأمرنا الله بالنظر.. أليس قوله:{ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ} (الأنعام: 99)، وقوله:{ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} (يونس: 101) تشبه قوله تعالى:{ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} (البقرة:43)؟

قلت: بلى.. فكلاهما فعل أمر.

قال: فكيف نفرق بين أحدهما فنعتبره واجبا، ونغرق كتب الفقه بمباحثه وعلومه، ثم نقصر في الواجب الثاني، ولا نهتم به، بل ولا نعتبره، بل يسقط بعضنا في أوحال البدعة، فيتهم تلك العلوم التي دعا القرآن الكريم، ودعا نبينا صلى الله عليه وآله وسلم إلى تعلمها، فيعتبرها علوما بعيدة عن الدين أو حاجبة عنه؟

قلت: ولكن التخصص مع ذلك يدعو إلى أن تكون هناك علوم دين وعلوم دنيا؟

قال: ليس هناك مقابلة بين الدين والدنيا عندنا.. فالدين عندنا هو سياسة الدنيا.. ولا دنيا عندنا إن لم تسس بسياسة الدين.

قلت: فما تسمي هذه العلوم الكثيرة التي يعتبرها البعض مزاحمة لعلوم الدين؟

قال: هي ثلاثة لا تخرج عنها: حقائق، وسياسات، وصنائع.

الحقائق:

قلت: فما الحقائق؟

قال: الحقائق هي العلوم التي لا تكر عليها جيوش الشبهة والشك، ولا تهزمها جيوش الأيام والليالي.

قلت: تقصد قطعيتها وأبديتها؟

قال: أجل.. فلا علم لما لم يثبت في وجه الأيام، أو لم يثبت في وجه الشبهات.

قلت: فما العلوم التي تدخل في هذا الباب؟

قال: كل العلوم التي لا يستفاد منها إلا معرفة حقائقها.

قلت: مثل ماذا؟

قال: الفلك مثلا.. فكل ما ورد في علم الفلك هو من علوم الحقائق.. وهو تطبيق لقوله تعالى:{ قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ} (يونس:101)

قلت: فما علاقة هذا النوع من العلوم بالدين؟

قال: لا يمكن أن يتحقق المؤمن بمعارف الدين إلا بعد أن يتحقق في هذه العلوم ويرسخ قدمه فيها.

قلت: قرب لي ذلك بمثال.. فإن عقلي تستعصى عليه الحقائق المجردة.

قال: أرأيت لو أن ملكا من الملوك أراد أن يبين لشخص ما أنه ملك، فماذا يفعل؟

قلت: لا شك أنه سيأمر بمن يطوف به في أنحاء البلاد ليرى مدى اتساع مملكة الملك، ومدى خضوعها لملكها.

قال: فنزه عقلك عن شبه التشبيه.. واربط هذا المثل بحقائق الأزل والأبد.. فإنه لن تعرف أن الله ملك إلا بالطواف في مملكته.. فكلما رسخت معرفتك بعظم مملكة الله كلما رسخ في نفسك عظم كون الله ملكا.

قلت: صدقت في هذا.. فإني أرى لبعضهم معرفة هزيلة بالكون.. وأرى معها هزالا في معرفة هؤلاء بالله..

قال: ولهذا قال الله تعالى:{ وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ} (فاطر:28)

انظر.. كيف ذكر الله تعالى خشية العلماء بعد ذكره لأصناف المكونات.. فلا يعظم الله حق تعظيمه من لا يعرف المكونات ويبحث فيها ويمتلئ عجبا بما فيها.

قلت: صحيح ذلك.. وليس ذلك خاصا بهذا.. فلا يمكن أن نعرف شاعرا ما لم ندرس أشعاره، ولا رساما دون أن ندقق في لوحاته، ولا ممثلا دون أن نرى ما أبدعه في تمثيلياته.. وهكذا فكل شيء يعرف من خلال آثاره.

قال: ولهذا طولبنا بالتعرف على الآثار لنصل إلى المؤثر.. ألم تسمع قوله تعالى:{ فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (الروم:50)؟

قلت: بلى..

قال: فالله تعالى اعتبر نظرنا في الكون نظرا في أفعال الله الدالة على صفاته.. فنقرأ من خلال الكون صفات المكون، ونتعرف على المكون من خلال مكوناته.

قال: وهكذا.. فالله تعالى يأمرنا بقراء الرحمة الإلهية من خلال حياة الأرض بعد موتها، قال تعالى:{  فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} (الروم: 50)

ويأمرنا بالاستبشار تفاؤلا بفضل الله، وفرحا بالله، وتنسما لرحمة الله عند هبوب الرياح التي يرسلها الله، قال تعالى:{ وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَاباً ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} (لأعراف:57)

ويعلمنا أن نقرأ لطف الله وخبرته المحيطة بكل شي من خلال حروف الماء الساقطة على الأرض المخضرة، قال تعالى:{ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} (الحج:63)

ويعلمنا أن نقرأ علم الله وقدرته من خلال السطور المبثوثة في تقلب الزمان بأعمارنا، قال:{ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ} (النحل:70)

قلت: فأنتم إذن ـ في هذه المحضرة ـ تدرسون العلوم الحديثة؟

قال: غرور البشر هو الذي سماها كذلك.. أما نحن فلا نسميها علوما حديثة، بل نسميها علوم الحقائق.. فكل علم منها يدلنا على حقائق الأزل والأبد.

قلت: عهدنا بأن من يدرس هذه العلوم يمتلئ قسوة.. ألا تخافون من القسوة؟

ابتسم، وقال: من درس هذه المعارف على طريقة أهل الله، فإنه لن يزداد إلا خشوعا وإيمانا وسعادة..

قلت: كيف ذلك؟

قال: إن النظرة العرفانية لسطور المكونات تكسبها من الجمال ما لا يكسبها أي وصف بشري، فلا مقارنة بين من يرى ذات الزهرة التي سرعان ما تذبل، فيحزن لذبولها بقدر ما سره تفتحها، وبين من يرى في ابتسام الزهرة لطف الله ورحمته وجماله.

السياسات:

قلت: حدثتني عن علوم الحقائق.. فحدثني عن علوم السياسات.

قال: علوم السياسات هي التي تفقهك في كيفية سياسة الدين، وكيفية سياسة الدنيا.. أو هي التي تعلمك كيف تسوس جسدك ونفسك وعقلك وقلبك وروحك وسرك وكل لطائفك.. ثم كيف تسوس بعد ذلك بيتك ومجتمعك ووطنك وأمتك والعالم أجمع..

قلت: إن أكثر العلوم يدخل في هذا الباب.

قال: نعم.. فنحن هنا ندرس علم النفس وعلم الاجتماع وعلوم السياسة والعلوم الطبية.. وكل العلوم التي تهتم بالسياسات المختلفة.

قلت: ما ارتبط منها بالدين، وما ارتبط بالدنيا.

قال: ألم أذكر لك أنه ليس هناك دين ولا دنيا إلا في أذهان الغافلين.. فجل رب الدنيا أن يسلم دنياه للشياطين.. وجل  أهل الله أن يروا في الدارين غير الله.

قلت: ألا تخافون بالانحجاب بالدراسات الاجتماعية والنفسية عن الله؟

قال: لا حجاب إلا حجاب الوهم.. وقد تخلصنا منه بحمد الله بتحقيق الإيمان.. ولذلك لا تزيدنا هذه العلوم إلا تحقيقا وعروجا.

لقد قال لنا شيخنا بديع الزمان إبان دراستنا عليه:(العلوم التي تبحث في حقيقة الموجودات – كالفيزياء والكيمياء والنبات والحيوان.. ـ هذه العلوم التي هي (حكمة الاشياء) يمكن ان تكون حكمة حقيقية بمشاهدة التجليات الكبرى لاسم الله (الحكيم) جل جلاله في الاشياء، وهي تجليات تدبير، وتربية، ورعاية. وبرؤية هذه التجليات في منافع الاشياء ومصالحها تصبح تلك الحكمة حكمة حقاً، أي باستنادها الى ذلك الاسم (الحكيم) والى ذلك الظهير تصبح حكمة فعلاً، وإلاّ فإما أنها تنقلب الى خرافات وتصبح عبثاً لا طائل من ورائها أو تفتح سبيلاً الى الضلالة، كما هو الحال في الفلسفة الطبيعية المادية..)

ويذكر علة مهمة لذلك غابت عن العلوم الحديثة، فأغرقتها في الجزئية، وأبعدتها عن جمال الوحدة والتناسق والكمال، فقال:(إن نظر النبوة والتوحيد والايمان يرى الحقائق في نور الالوهية والآخرة ووحدة الكون لأنه متوجه اليها، أما العلم التجريبي والفلسفة الحديثة فانه يرى الامور من زاوية الاسباب المادية الكثيرة والطبيعة لأنه متوجه اليها، فالمسافة اذن بين زاويتي النظر بعيدة جداً. فرب غاية عظيمة جليلة لدى أهل الفلسفة تافهة وصغيرة لا تكاد ترى بين مقاصد علماء اصول الدين وعلم الكلام. ولهذا فقد تقدم اهل العلم التجريبي كثيراً في معرفة خواص الموجودات وتفاصيلها واوصافها الدقيقة في حين تخلفوا كثيراً حتى عن ابسط المؤمنين وأقلهم علماً في مجال العلم الحقيقي وهو العلوم الإلهية السامية والمعارف الاخروية)

الصناعات:

قلت: فما علوم الصناعات؟

قال: هي كل العلوم التي نستطيع بها تسخير ما سخره الله لنا من أشياء.. فقد جعل الله تعالى للتسخير مفاتيح لا يمكن أن يسخر شيء من دونها.

قلت: فما هذه المفاتيح؟

قال: لقد ذكرها الله تعالى، وذكر ضرورتها للإنسان، فقال:{ وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (البقرة:31)

قلت: أعلوم الأسماء هي علوم الصنائع؟

قال: من علوم الأسماء ما هو علوم صنائع.. فلا يمكن للإنسان أن ينزل إلى الأرض من دون أن تكون لديه مفاتيح التعامل مع برها وبحرها، وريحها ورياحها.

قلت: أفي القرآن الكريم إشارة إلى هذا النوع من العلوم؟

قال: في القرآن الكريم جميع حقائق الأشياء.. فكيف يغيب عنه هذا؟

قلت: فأين هو؟

قال: في كل القرآن.. كل الآية لو نظرت إليها بهذا المنظار، فتستفيد منها من الحقائق ما لم تكن تحلم به.

قلت: فاذكر لي ما ورد به التصريح.. فلا طاقة لي بالتلميح والإشارة.

قال: لقد قال تعالى عن ذي القرنين:{ إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً} (الكهف:84)

قلت: إن من قومي من يحتقرون هذه العلوم، ويعتبرون الخوض فيها انحرافا عن الكتاب والسنة.

ابتسم، وقال: سلاما.. سلاما..

قلت: ما تعني؟

قال: لقد قال الله تعالى واصفا عباده المؤمنين المحققين:{ وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً} (الفرقان:63)

قلت: أترميني بالجهل؟

قال: أرمي من قلت بقوله بالجهل.. والعالم أن رفع من أن يجيب جاهلا.

قلت: العالم لا يتكبر.. فكيف لا يجيب الجاهل؟

قال: الجهل نوعان: جهل سببه عدم العلم.. وهذا هو ميدان العالم.. فالعالم محارب للجهل.. وجهل سببه الكبر.. ولا دواء لهذا إلا أن يتخلص من كبره.

قلت: فما جهل هؤلاء؟

قال: هو جهل كبر.. لا جهل علم.. لقد كان أهل الجاهلية يحتقرون هذا النوع من العلوم، فلذلك لم يكن يمارسها عندهم إلا العبيد، فلما جاء القرآن الكريم أخبر أن هذه الصناعات كان يمارسها الأنبياء ـ عليهم السلام ـ ليعلي من شأنها، ويرفع ذلك الاحتقار الذي ورثه هؤلاء عن أولئك.

قلت: صدقت.. فقد ذكر القرآن الكريم صناعة الحديد، ونوه بها، وذكر اشتغال الأنبياء والصالحين بها، فقال تعالى:{ آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَاراً قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً} (الكهف:96)، وقال تعالى:{ وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ مِنَّا فَضْلاً يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ} (سـبأ:10)، بل قرن بإنزال الحديد إنزال الكتاب، فقالتعالى:{ لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} (الحديد:25)

قال: ومثل ذلك ذكر الصناعات النسيجية وأنواعها وأغرضاها، فقال تعالى:{ وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثاً وَمَتَاعاً إِلَى حِينٍ} (النحل:80)

وذكر ما يرتبط بالعمران من أعمال، فقال تعالى:{ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُوراً وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتاً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} (لأعراف: 74)

وذكر الصناعات المرتبطة بالنقل، فقال تعالى:{ وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ} (النحل:8)، وقال تعالى:{ وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ} (هود:37)، وقال تعالى:{ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ} (المؤمنون:22)

بل إن القرآن الكريم دعانا إلى بذل كل الجهود لتحصيل جميع أنواع القوى، ويدخل فيها هذا النوع من أنواع القوى، قوة الصناعة والسياسة، فقال تعالى:{ وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} (لأنفال: 60)

***

التفت صاحبي إلى، وقال: هذه بعض حكايتي مع ورثة النبي المعلم.

قلت: إن هؤلاء ورثة عظماء.

قال: ولم يكونوا عظماء لولا استنانهم بسنة نبيهم صلى الله عليه وآله وسلم.. لقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو معلمهم ومؤدبهم وحادي أرواحهم، ومثقف عقولهم.

قلت: صدقت في ذلك.. فلا أراهم يفعلون شيئا إلا الاهتداء بهديه، والسير على قدمه.

قال: ولذلك بورك لهم في علمهم.. فصار علمهم كأقواتهم.. يتناولون منه كما يتناولون منها.

***

ما استتم صاحبي حديثه هذا حتى وجدنا أنفسنا قد قطعنا المرحلة الرابعة من الطريق من غير أن نشعر بأي عناء أو تعب.. ولم يخطر على بالي طيلة هذه المرحلة ما كنا نقطعه من غابات موحشة، ومن سباع عادية تتربص بنا من كل اتجاه.

لقد تنزلت علي بمجرد قطعي لتلك المرحلة أشعة جديدة اهتديت بها بعد ذلك إلى شمس محمد صلى الله عليه وآله وسلم.


([1])   رواه ابن سعد والبخاري وابن ماجه.

([2])   رواه البخاري ومسلم.

([3])   رواه أبو داود الطيالسي والبغوي وابن منده وأبو نعيم.

([4])    رواه الطبراني في معاجيمه الثلاثة.

([5])    رواه الطبراني في الأوسط، والبزار بإسناد حسن.

([6])    رواه الطبراني في الأوسط.

([7])    رواه الدارقطني والبيهقي.

([8])   ذكرناها في رسالة [النبي الإنسان]

([9])   استفدنا الكثير من الآداب التي نذكرها من كتاب (آداب العلماء والمتعلمين)، الحسين ابن المنصور اليمني، وغيرها من المراجع الكثيرة في هذا الباب.

([10])   ويدل لهذا كثرة ما ألف في هذا الباب من متون وشروح ومؤلفات، ومن بينها (الجامع) و(الفقيه والمتفقه) كلاهما للخطيب البغدادي،  و(تعليم ‏المتعلم طريق التعليم) للزرنوجي، و(آداب الطلب) للشوكايى، و(أخلاق العلماء) للآجري، و(آداب ‏المتعلمين) لسحنون، و(الرسالة المفصلة لأحكام المتعلمين) للقابسي، و(تذكرة السامع والمتكلم) ‏لابن جماعة.. وغيرها كثير.

([11])   رواه البخاري ومسلم.

([12])   رواه مسلم.

([13])   رواه الحاكم.

([14])   رواه وأحمد والترمذي وابن ماجه.

([15])   رواه مسلم وابن ماجه.

([16])   رواها ابن المبارك.

([17])   رواه ابن ماجه.

([18])   رواه البخاري في التاريخ، والترمذي وابن ماجه.

([19])   رواه مسلم.

([20])   إحياء علوم الدين:1/21.

([21])    رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه.

([22])    رواه أبو نعيم.

([23])    رواه أحمد والطبراني.

([24])    رواه الطبراني في الأوسط.

([25])    رواه الطبراني في الكبير.

([26])    رواه الطبراني في الكبير.

([27])    رواه مسلم وغيره.

([28])   رواه مسلم وغيره.

([29])   رواه البخاري ومسلم.

([30])   رواه الطبراني وأبو نعيم.

([31])   رواه الطبراني في الكبير.

([32])   رواه ابن حبان.

([33])   رواه الطبراني والبيهقي.

([34])   رواه الترمذي وقال: حسن صحيح.

([35])   رواه الترمذي بسند حسن في المتابعات.

([36])   رواه ابن أبي الدنيا والبيهقي.

([37])   رواه البزار، وهو غريب.

([38])   رواه البزار والطبراني.

([39])   رواه الطبراني بسند حسن.

([40])   رواه الطبراني بسند فيه الأعور، وثقه ابن حبان وغيره.

([41])   رواه الترمذي وقال: إسناده ليس بالقوي.

([42])   الإحياء: 1/65.

([43])   رواه ابن السني وأبو نعيم في كتاب الرياضة لهما.

([44])   رواه البخاري وغيره.

([45])   رواه ابن عدي البيهقي وابن عبد البر في العلم.

([46])   رواه الترمذي وصححه الحاكم على شرط مسلم ووافقه الذهبي.

([47])   ذكرنا أدلة هذا، وما يمكن أن يستنبط منه أهل العلم في رسالة (مفاتيح المدائن)

([48])   رواه البخاري ومسلم.

([49])   رواه البخاري ومسلم.

([50])   رواه البخاري ومسلم.

([51])   رواه ‏الترمذي.

([52])   رواه البزار والطبراني في الأوسط.

([53])   جواهر القرآن:21.

([54])   رواه البخاري ومسلم.

([55])   قال الأشج في روايته: مكان سلما (سنا)

([56])   رواه مسلم.

([57])   رواه البخاري.

([58])   رواه مسلم.

([59])   طبقات الشافعية الكبرى: 6/85.

([60])   رواه أحمد وأبو داود عن ابن عباس.

([61])   رواه أبو سعد بن السمعاني في أدب الإملاء.

([62])   رواه ابن حبان والحاكم، والذهبي، وأقره، ورواه الطبراني بسند صحيح.

([63])   رواه أحمد، وأبو داود، وابن ماجه.

([64])   رواه الطيالسي بسند صحيح، وابن أبي شيبة، وأحمد بن منيع.

([65])   رواه ابن حبان، والحاكم، وصححه الذهبي، وأقره.

([66])   رواه ابن ماجه وغيره.

([67])   ذكرنا بتفصيل مفهوم الزهد وآثاره السلوكية في رسالة (كنوز الفقراء)

([68])   رواه البخاري ومسلم.

([69])   رواه أحمد، وللحديث روايات أخرى كثيرة لغير أحمد.

([70])   رواه الطبراني.

([71])   رواه ابن أبي حاتم وابن مردويه.

([72])   رواه ابن ماجه باختصار، ورواه الطبراني في الأوسط.

([73])   رواه أحمد.

([74])   رواه الترمذي وابن ماجه.

([75])   رواه مسلم وأبو داود.

([76])   رواه الترمذي والنسائي، وقال الترمذي: حسن صحيح.

([77])   رواه البخاري ومسلم.

([78])   رواه أحمد والترمذي وابن ماجة.

([79])   رواه أبو يعلي والطبراني في الأوسط، عن ابن عمر مرفوعاً والطبراني في ‏الكبير عن ابن عباس نحوه مرفوعاً.

([80])   رواه مسلم.

([81])   رواه ابن ماجه والدار قطني.

([82])   عزاه رزين إلى الترمذي.

([83])   رواه مسلم.

([84])   رواه رواه مسلم وأهل السنن، إلا الترمذي.

([85])   رواه البخاري ومسلم.

([86])   وهو قوله تعالى:{ نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} (البقرة:223)

([87])   الحديث رواه البخاري.

([88])   رواه أحمد وابن حبان.

([89])   رواه الترمذي وابن ماجة.

([90])   رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح.

([91])   رواه أبو داود، ورواه الحاكم.

([92])   رواه الخطيب في الجامع.

([93])   رواه أحمد والترمذي.

([94])   رواه الترمذي وابن ماجه والإسناد ضعيف.

(1) رواه أحمد والترمذي بسند صحيح.

(2) أبو داود والترمذي وقال حديث صحيح.

(3) أحمد ورواته ثقات والطبراني.

(1) الترمذي وأبو داود وابن حبان في صحيحه.

(2) الطبراني وابن أبي الدنيا

(3) ابن أبي الدنيا وغيره بإسناد لا بأس به.

([101])   هذا مصطلح استعملناه كثيرا في رسائل السلام خاصة في مجموعاتها الأولى، ونريد به كل ما لم يبن على أسس السلام الذي جاء به الإسلام.

([102])   رواه البيهقي.

([103])   رواه  الترمذي وحسنه.

([104])   رواه البخاري ومسلم.

([105])   رواه البخاري ومسلم.

([106])   رواه البخاري ومسلم.

([107])   رواه مسلم.

([108])   رواه الخطيب في الجامع.

([109])  رواه البيهقي.

([110])   رواه البخاري ومسلم.

([111])   رواه مسلم.

([112])   رواه البخاري ومسلم.

([113])   رواه أحمد وابن ماجة.

([114])   رواه البخاري ومسلم.

([115])   رواه البخاري.

([116])   رواه الحاكم، وقال: صحيح ولم يخرجاه.

([117])   رواه البخاري.

([118])   رواه مسلم.

([119])   رواه مسلم.

([120])   رواه البخاري ومسلم.

([121])   رواه مسلم.

([122])   رواه البخاري ومسلم.

([123])   رواه مسلم.

([124])   رواه مسلم.

([125])   ما كهرني: أي ما انتهرني.

([126])   رواه مسلم وأبو داود.

([127])   رواه البخاري ومسلم.

([128])   رواه أحمد والطبراني.

([129])   رواه الطبراني في مكارم الأخلاق.

([130])   رواه أحمد في الزهد، وابن عساكر.

([131])   رواه ابن إسحاق الزجاجي في تاريخه.

([132])   رواه الترمذي في كتاب الأدب وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه.

([133])   رواه أحمد وأبو داود والترمذي.

([134])   رواه أبو داود.

([135])   رواه مسلم وأبو داود في الأدب وابن ماجه.

([136])   رواه أحمد ومسلم وابن ماجة.

([137])   رواه أحمد.

([138])   رواه ابن عساكر.

([139])     رواه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح.

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *