رابعا ـ المتألمون

في اليوم الرابع.. سرت نحو مستشفى عجيب.. كنت قد سمعت به، لكني لم أتشرف برؤيته إلا في ذلك اليوم.
لقد كان هذا المستشفى يقوم على أركان متحولة لا تكاد تثبت على أرض أياما حتى تتحول إلى غيرها.
قلت: ما أغرب هذا.. كيف كانت له كل هذه القدرات؟
قال: هذا المستشفى من إبداع صاحب لي من أمريكا يدعى (بات روبرتسون).. وقد كان منصرا.. وكان يمارس السياسة، وقد رشح نفسه للانتخابات الأمريكية لعام 1987..
وقد أسس صاحبي هذا منظّمة من المنصرين تدعى (عملية البركة الدولية)، وهي تابعة لمنظمة (شبكة الإذاعة المسيحية)، والتي يرأسها صاحبي (بات روبرتسون)
وقد قامت هذه المنظمة بتجهيز طائرة لوكهيد (L-50-1011)، وتحويلها إلى مستشفى طائر ضخم بكلفة خمسة وعشرين مليون دولار، مزوّد بجميع المعدّات اللازمة للعمليات الجراحية والعلاجية، بحيث يجوب مناطق كثيرة في العالم، ويمكث في مناطق محدّدة ومختارة لمدد تتراوح ما بين أسبوع إلى عشرة أيام، ويقدّم خدماته بالمجّان.
قلت: ما شاء الله.. ما أعظم كرم هذا الرجل.. وما أعظم كرم منظمته.
قال: لقدكنت أقول مثلك هذا.. لكني عندما اكتشفت السر الذي حمله، وحمل منظمته على ذلك الكرم تحول في عيني لؤما ليس يعدله لؤم.
قلت: كيف ذلك؟
قال: لقد كنت أسمع بأن هذا المستشفى الغريب لم يكن يقدم خدماته إلا بعد أن يسأل المريض عن ديانته، ثم يستمع لمحاضرة حول المسيح وحول المسيحية.. وحول ضرورة البحث عن الخلاص في رحاب المسيح، ثم يعطى كمية من الكتب والنشرات، ويُطلَب منه دراستها والحضور إلى عنوان معيّن بعد أيّام([1]).
كنت أسمع بهذا، ولا أستغربه، فلكل صاحب دين الحق في أن يدعو لدينه.
ولكن الذي حول صورتها في عيني هو التزييف.. فللمرئ الحق في أن يدعو لدينه، ولكن ليس لديه أي حق في أن يزور الحقائق.
في ذلك اليوم.. وبعد أن حضرت جموع كثيرة من المرضى.. بدأت المحاضرة.. وقد فوجئت عندما رأيت المحاضر.. لقد كان رجلا أعرفه تمام المعرفة.. وقد كان ذلك ما ملأني ألما.
لقد كان ذلك الرجل كالشيطان.. أو هو الشيطان نفسه..
كان اسمه (الدكتور منجل).. وقد كان في فترة الحكم النازي يقوم بتجاربه على التوائم.. وكانت له طرق مميزة في تجاربه.. فقد كان من تجاربه أنه يفصل التوأمين ويضعهما في غرفتين منفصلتين، ثم يعذب أحدهما أحياناً ليدرس أثر عملية التعذيب على الآخر، بل كان يقتل أحدهما لدراسة أثر هذه العملية على الآخر.. حتى أن بريمو ليفي قال: (إن ألمانيا النازية هي المكان الوحيد الذي كان بوسع العلماء أن يدرسوا فيه جثتى توأمين قُتلا في نفس اللحظة)
وقد علمت بعد ذلك أن دراسات منجل على التوائم لا تزال أهم الدراسات في هذا المجال، ولا تزال الجامعات الألمانية والأمريكية تستفيد من النتائج التي توصل إليها الباحثون العلميون الألمان في ظروف فريدة لم تُتح لعلماء غيرهم من قبل ومن بعد.. وقد أُثيرت مؤخراً قضية مدى أخلاقية الاستفادة من معلومات تم الحصول عليها في مثل هذه الظروف التجريبية الجهنمية، وبهذه الطريقة الموضوعية الشيطانية([2]).
لم يكن الدكتور منجل فريدا في هذا الباب.. بل كان معه نفر كثير.. منهم من رأيته.. ومنهم من لم أره، ولكني سمعت به، وسمعت بالكثير من آثارهم المؤلمة القاسية..
كان منهم من يقوم بعمليات استئصال لمرضاه دون تخدير ليدرس أثرها..
وكان منهم من يطلق الرصاص عليهم لاختبار فعاليتهم في الحرب..
وكان منهم من يعرض مرضاه لغازات سامة في عمليات اختبارية..
وكان منهم من يضعهم في غرفة مفرغة من الهواء لمعرفة المدة التي يستطيع الإنسان خلالها أن يظل حياً وهو على ارتفاعات عالية أو بدون أوكسجين.. وكان الأوكسجين يُقلل تدريجياً ويخفض الضغط، فتزداد آلام خنازير التجارب البشرية شيئاً فشيئاً حتى تصبح آلاماً لا يمكن احتمالها حتى تنفجر رئاتهم.. كما كان الضغط الداخلي على أغشية طبلات الآذان يسبب لهم عذاباً يوصلهم إلى حد الجنون.
وكان منهم من أجرى تجارب على أمخاخ الضحايا، وقد اختار د. برجر، التابع لإدارة الإس. إس. عدداً من العينات البشرية (79 يهودياً ـ بولنديان ـ 4 آسيويين ـ 30 يهودية) تم إرسالهم لمعسكر أوشفيتس ثم قتلهم بناء على طلب عالم التشريح الأستاذ الدكتور هيرت الذي أبدى رغبة علمية حقيقية في تكوين مجموعة كاملة وممثلة من الهياكل العظمية اليهودية (كما كان مهتماً بدراسة أثر الغازات الخانقة على الإنسان)..
أما الدكتور برجر نفسه فكان مهتماً بالآسيويين وجماجمهم، وكان يحاول أن يكوِّن مجموعته الخاصة.
ويبدو أن عملية جمع الجماجم هذه وتصنيفها لم تكن نتيجة تخطيط محكم، وإنما نتيجة عفوية للرؤية النفعية المادية.. إذ ورد إلى علم البروفسور هاليروفوردن أنباء عن إبادة بعض العناصر البشرية (التي لا تستحق الحياة)، فقال للموظف المسئول بشكل تلقائي: (إن كنتم ستقتلون كل هؤلاء، فلماذا لا تعطوننا أمخاخهم حتى يمكن استخدامها؟)، فسأله: كم تريد؟ فأجاب: عدد لا يحصى، كلما زاد العدد كان أفضل.. ويقول البروفسور المذكور إنه أعطاهم بعد ذلك الأحماض اللازمة والقوارير الخاصة بحفظ الأمخاخ.. وكم كانت فرحة البروفسور حينما وجد أمخاخ معوقين عقليين (في غاية الجمال، على حد قوله)، و(أمخاخ أطفال مصابة بأمراض الطفولة أو تشوهات خلقية).. وقد لاحظ أحد العاملين في مركز من مراكز البحوث أن عدد أمخاخ الأطفال المتوفرة لإجراء التجارب أخذت تتزايد بشكل ملحوظ، ونتيجةً لهذا تم الحصول على مواد مهمة تلقي الضوء على أمراض المخ.
ومن أطرف الأمثلة الموضوعية قضية البروفسور النازي كلاوس الذي اكتشف البعض أنه يعيش مع سكرتيرته اليهودية، وفي دفاعه عن نفسه ذكر أنه يواجه مشكلة في دراسته لليهود، وهي أنه لا يمكنه أن يعيش بينهم، ولذا كان عليه أن يحصل على عينة مُمثِّلة يمكنه دراستها عن قرب، فهي بالنسبة له لم تكن سوى موضوع للدراسة فكان يراقبها (كيف تأكل، وكيف تستجيب للناس، وكيف تقوم بتركيب الجُمل)([3])
بعد أن طاف خيالي بتلك الذكريات الأليمة التي حكيت لك بعضها.. انتبهت إليه، فرأيت الدموع تفيض من عينيه.. فحسبت أن قلبه قد لان بعد شدة.. وأن تلك الدموع كانت تغسل تلك القسوة التي كان قلبه مشحونا بها.. لكني ما إن سمعت السموم التي تفوه بها لسانه حتى يئست منه.
لقد سمعته يقول للمرضى المتألمين أمامه: اسمعوني جيدا.. لن يمكن للعافية أن تزور أجسادكم.. ولا للراحة أن تحل بأرواحكم إلا بعد أن تحلوا في المسيح..
المسيح هو الوحيد في العالم الذي لديه الشفاء الذي عجز جميع صيادلة الدنيا أن يجدوه([4])..
لقد شفي المسيح جميع المرضي الذين قُدِّموا إليه من جميع الأمراض مهما كانت أنواع أمراضهم ومهما كان عددهم، ولأزيد من يقينكم بما ذكرت، سأذكر لكم نماذج لبعض المرضي الذين شفاهم المسيح، والأمراض التي شفوا منها:
فمن الأمراض التي شفاها المسيح، الحمى، فقد شفى ابن خادم الملك الذي كان مريضا بالحمي، وطلب من الرب يسوع المسيح أن يذهب إلي بيته ليشفيه، فقال له:(اذهب. ابنك حي)، فشفي ابنه في تلك اللحظة([5]).
ومن الأمراض الخطيرة التي شفاها داء الشلل، فقد شفى المسيح مقعدين ومفلوجين؛ فقد شفي مريض بركة بيت حسدا الذي أقعده المرض في الفراش مدة ثمان وثلاثين سنة عندما قال له:(قم. احمل سريرك وامش). فحالا برئ الإنسان وحمل سريره ومشى)([6])
وشفي عبد قائد المئة من الفالج، وكان قائد المئة هذا يؤمن أن المسيح يستطيع أن يشفي عبده بكلمة دون أن يذهب إليه:(يا سيد لست مستحقا أن تدخل تحت سقفي لكن قل كلمة فقط فيبرأ غلامي)، فشفي غلامه في تلك الساعة([7]).
وشفي رجلا يده يابسة فقال له:(مد يدك)، فمدها. فعادت صحيحة كالأخرى} (متى:12/13)
أما إخراج الشياطين والأرواح النجسة؛ فقد كان يخرج الشياطين بكلمة الأمر منه، وكانت الشياطين عندما تراه تصرخ مرتاعة ومرتعبة وتتوسل إليه أن لا يرسلها إلي الجحيم قبل الموعد، يقول الكتاب:(وكان في المجمع رجل به روح شيطان نجس فصرخ بصوت عظيم: (آه ما لنا ولك يا يسوع الناصري! أتيت لتهلكنا! أنا أعرفك من أنت: قدوس الله). فانتهره يسوع قائلا:(اخرس واخرج منه)، فصرعه الشيطان في الوسط وخرج منه ولم يضره شيئا. فوقعت دهشة على الجميع وكانوا يخاطبون بعضهم بعضا قائلين:(ما هذه الكلمة! لأنه بسلطان وقوة يأمر الأرواح النجسة فتخرج} (لوقا: 4/33-36)
وأخرج الشيطان من أخرس مجنون:(وفيما هما خارجان إذا إنسان أخرس مجنون قدموه إليه. فلما أخرج الشيطان تكلم الأخرس فتعجب الجموع قائلين: (لم يظهر قط مثل هذا في إسرائيل!) (متى: 9/23-33)
وفوق هذا كله، فقد شفى المسيح البرصى، وطهرهم من برصهم، وقد ذكر الكتاب المقدس حديث هذا الأبرص:(وإذا أبرص قد جاء وسجد له قائلا: (يا سيد إن أردت تقدر أن تطهرني). فمد يسوع يده ولمسه قائلا:(أريد فاطهر). وللوقت طهر برصه ) (متى: 8/2- 3)
كما ذكر الكتاب المقدس شفاء عشرة برص آخرين:(وفيما هو داخل إلى قرية استقبله عشرة رجال برص فوقفوا من بعيد وصرخوا: (يا يسوع يا معلم ارحمنا). فنظر وقال لهم:(اذهبوا وأروا أنفسكم للكهنة). وفيما هم منطلقون طهروا } (لوقا: 17/12-14)
ويذكر الكتاب المقدس أن المسيح فتح أعين العميان بمجرد لمس أعينهم، كما حدث مع أعميين:(حينئذ لمس أعينهما قائلا: (بحسب إيمانكما ليكن لكما ) (متى: 9/27-31)، وشفى أعمي في بيت صيدا كما في (مرقس: 8/2-26)
والأخطر من ذلك كله أنه شفي مولودا أعمي بعد أن خلق له عينين من طين:(تفل على الأرض وصنع من التفل طينا وطلى بالطين عيني الأعمى. وقال له: (اذهب اغتسل في بركة سلوام). الذي تفسيره مرسل. فمضى واغتسل وأتى بصيرا ) (يوحنا:9/6- 7)، فهذا يدل على أنه خلق له عينين من طين كما خلق آدم من تراب الأرض.
وشفى ـ إلى جانب هذا كله ـ أمراضا كثيرة أخرى مثل شفاء المرأة النازفة الدم:(وامرأة بنزف دم منذ اثنتي عشرة سنة وقد أنفقت كل معيشتها للأطباء ولم تقدر أن تشفى من أحد) لأنها قالت في نفسها: (إن مسست ثوبه فقط شفيت } (متى: 9/21). ففي الحال وقف نزف دمها. فقال يسوع: (من الذي لمسني!)000 (قد لمسني واحد لأني علمت أن قوة قد خرجت مني } (لوقا: 8/43-48)
وشفي أصم أعقد بأن (وضع أصابعه في أذنيه وتفل ولمس لسانه ورفع نظره نحو السماء وأن وقال له:(إفثا). أي انفتح. وللوقت انفتحت أذناه وانحل رباط لسانه وتكلم مستقيما } (مرقس: 7/33-35)
هذه نماذج قليلة لما صنعه الرب يسوع المسيح من كم كبير لا يمكن حصره لم يدون في الإنجيل تفصيلا، وإن كان يذكر بصورة إجمالية، يقول القديس يوحنا بالروح (وآيات أخر كثيرة صنع يسوع قدام تلاميذه لم تكتب في هذا الكتاب) (يوحنا: 20/30)، (وأشياء أخر كثيرة صنعها يسوع إن كتبت واحدة واحدة فلست أظن أن العالم نفسه يسع الكتب المكتوبة) (يوحنا:21/25)
فقد شفي جميع المرضي الذين قدموهم إليه من جميع أنواع الأمراض مهما كان عددهم ومهما كانت أنواع هذه الأمراض (فأرسلوا إلى جميع تلك الكورة المحيطة وأحضروا إليه جميع المرضى وطلبوا إليه أن يلمسوا هدب ثوبه فقط. فجميع الذين لمسوه نالوا الشفاء) (متى: 14/35-36)
***
قال ذلك، ثم التفت للجمع، وقال: من منكم يريد أن تشفيه يد المسيح الممتلئة بالبركة.. ؟
قبل أن ينتظر أي جواب، قال: لا.. ليس بالسهولة التي تتصورونها.. لا يمكنكم أن تنعموا بشفاء المسيح إلا بعد أن تتخلصوا من ذلك الكابوس الثقيل الذي يجثم على أرواحكم.. ذلك الذي تدعونه (محمدا).. فلا يمكنكم أن تظفروا بالمسيح، وأنتم مقيدون بأغلال محمد.
هنا رأيت وجوه المرضى تتغير تغيرا شديدا.. بل رأيت المقعدين قاموا، والذابلين قد دبت في وجوههم مياه الحياة..
وإذا بالدكتور منجل ينتفض لما رآه، متصورا أن ذلك كان من وحي كلماته.. لذلك راح يقول بغرور لم يستطع أن يخفيه: ألم أقل لكم.. لا يقيم المقعدين إلا المسيح.. ولا ينشر الحياة في الفانين الذابلين غير ذكرى المسيح؟
قام بعض المرضى، وقال، والغضب باد على وجهه: إن كان دواؤكم الذي تريدون أن تصفوه لنا – حضرة الطبيب – مرتبطا بالابتعاد عن محمد.. فنحن لا نحتاج دواءكم.. بل نحن نرضى أن نعيش مرضى.. ونموت مرضى.. بل نرضى أن نذوق كل الآلام.. ولا نرضى أن يغيب عنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم لحظة واحدة..
إننا لا ننعم في هذه الدنيا إلا بذكراه.. وبذكر لقائنا به في ذلك اليوم العظيم الذي نتشرف بالشرب من يده الشريفة..
إن ذكرى محمد صلى الله عليه وآله وسلم هي أعظم دواء لنا..
إن وجهه السمح الجميل الممتلئ بأنوار الإيمان هو العافية التي تنعم بها أرواحنا.. والتي تنسينا كل ألم يحتضن أجسادنا.
فلذلك خذ دواءك الملطخ بسموم الحجب عن محمد ودين محمد.. وسر عنا.. فنحن الذين فنينا في حب محمد لا نرضى لأرواحنا وأجسادنا أن تتلطخ بأي سم يبعدنا عنه.
رأيت وجه الدكتور منجل تغير تغيرا شديد، لكنه أراد أن يخفي تغيره بقوله: لا بأس.. هذه الحالة أعرفها جيدا.. سبق لي أن رأيت مثلها كثيرا..
هذه الحالة مرض من الأمراض النفسية.. وهي منتشرة للأسف في الأجناس الدانية.. تلك الأجناس التي تذوب في زعمائها وقادتها الروحيين منشغلة عن حياتها ومصيرها بحياة غيرها ومصيرها..
قام رجل من الجمع، وقال بنوع من السخرية لم يلتفت لها الدكتور منجل: فما العلاج لهذا المرض.. فإنا كلنا مصابون به.. فنحن من الأجناس التي تحدثت عنها؟
قال الدكتور منجل: لقد ذكرت لكم العلاج.. العلاج بسيط.. فقط يحتاج منكم إلى إرادة.. إرادة تجعلكم تقطعون تلك الحبال التي تصلكم بالوهم.. وتسقيكم بالسراب.
ما قال الدكتور منجل هذا حتى وفد إلى الجمع رجل هو كالشمس، أو قريب من الشمس، كان أشبه الناس برجال الله من الورثة الذين ذكرت لك بعض أخبارهم، وقد علمت بعد ذلك أن اسمه (علي الرضا)([8])، عندما وصل إلى المجلس راح يصيح بصوت عال، وكأنه كان حاضرا معنا: دعنا من كل هذه الأحاديث العامة حضرة الدكتور منجل.
رأيت وجه الدكتور منجل تغير تغيرا شديدا، فقد تعجب أن ينطق هذا الرجل الغريب باسمه، ولعله خشي أن يكون ملما بما كان يفعله، فخشي الفضيحة لذلك..
استأنف الرضا كلامه قائلا: عد بنا إلى الحقيقة – حضرة الدكتور – تلك الحقيقة التي لا تستطيع الألفاظ الرنانة أن تتلاعب بها.. ولا يستطيع سحر الألفاظ أن يصرف الوجوه عنها.
تنفس الدكتور منجل الصعداء، ثم قال: لم أفهم قصدك.. ماذا تريد بالضبط؟
قال الرضا: لقد أتيتنا بدعوى، وتريد منا تصديقها.. والدعاوى تحتاج إلى البراهين الدالة عليها.. فما براهينك على دعواك([9])؟
لم يجد الدكتور منجل ما يجيب به، فبادر الرضا يقول: لقد ذكرت في دعواك أن الإسلام ونبي الإسلام يمتلئ قسوة على المبتلين والمرضى والمتألمين.. وهذا يستدعي أن تأتي من نصوص الإسلام المقدسة ما يبرهن على ذلك.
قال الدكتور منجل: ألا يكفي لإثبات ذلك ما ورد في هذه النصوص التي تزعم لها القداسة من تمجيد المرض؟
ألم تقرأ ما ورد في الحديث عن نبيكم قوله:(يود أهل العافية يوم القيامة حين يعطى أهل البلاء الثواب لو أن جلودهم كانت قرضت في الدنيا بالمقاريض)([10]).. وقوله في حديث آخر:(إن الله قال: إذا ابتليت عبدي بحبيبتيه فصبر عوضته منهما الجنة، يريد عينيه)([11]).. وغيرها من النصوص؟
ألا ترى أن هذه النصوص تمجد البلاء والمرض.. وكأنها تدعو الناس لأن يمارسوا من الأسباب ما يوقعهم في المرض؟
ألا ترى أن ذلك هو قمة القسوة والظلم والتضليل؟
ابتسم الرضا، وقال: لا بأس.. لقد عرفت سر ما وقعت فيه من الشبهة.. فاترك لي الفرصة لأعرفك بحقيقة المقاصد التي دلت عليها هذه النصوص، فمن الخطأ أن نقطع النصوص عن مواردها التي قيلت فيها.
قال الدكتور منجل: تكلم.. فكلي آذان صاغية.
استجمع الرضا أنفاسه، ثم نظر إلى الجمع، وقال: أنتم تعرفون أن الطريق الأمثل للتعامل مع النصوص المقدسة والاستفادة منها هو الإلمام بها جميعا، لا ضرب بعضها ببعض، أو تقديم بعضها على بعض.. فكلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وآله وسلم يكمل بعضه بعضا، ويدل بعضه على بعض.
لقد ذم الله تعالى من يأخذون ببعض الكتاب ويدعون بعضه، فقال مخبرا عن بني إسرائيل مبكتا لهم:{ ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85)} (البقرة)
وأخبر أن في كلام الله ما يمكن أن يجد فيه أصحاب القلوب الزائغة ما يملؤهم بالفتنة إذا هم لم يجمعوا بين محكمه ومتشابهه، فقال:{ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (7)} (آل عمران)
ولهذا، فإن الله تعالى يدعونا في جميع أمورنا إلى أن نأخذ بالإسلام كله، وهو يعني أن نجمع بين مقتضيات جميع النصوص، فلا يفهم مراد الله من عباده إلا بها جميعا.. قال تعالى:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (208) فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (209)} (البقرة)
قال ذلك، ثم التفت إلى الدكتور منجل، وقال: إنك – حضرة الدكتور – أتيت من هذا الباب.. ذلك أنك أخذت بعض النصوص، فتصورت أنها تمجد المرض والبلاء، وأنها تدعو – بذلك – المريض إلى السكون إلى مرضه، وعدم مواجهته.. وهذا خطأ كبير.. فالنصوص التي ذكرت قيمة البلاء وفضله هي نفسها النصوص التي دعت إلى مواجهته بأنواع الوقاية والأدوية..
ضحك الدكتور منجل بصوت عال، وقال: ألا ترى أن النصوص المقدسة بذلك تتحول إلى نصوص متناقضة يعارض بعضها بعضا.. فهي تدعو إلى البلاء في نفس الوقت الذي تنهى عنه؟
ابتسم الرضا، وقال: التعارض يكون عندما تتوجه النصوص لجهة واحدة من الجهات بأوامر متناقضة.. لكن عندما تتغير محال الخطاب لا يكون هناك أي تعارض.
قال الدكتور منجل: ولكن الخطاب في جميعها متوجه لجهة واحدة هي الإنسان.
قال الرضا: والإنسان متعدد النواحي.. ففيه النفس وفيه الجسد.. وخطاب النفس مختلف عن خطاب الجسد.. ألا ترى أن الطب ينقسم إلى طب نفسي، وطب جسدي([12])؟
قال الدكتور منجل: بلى..
قال الرضا: فالشريعة بنصوصها المقدسة خاطبت كلا الجهتين.. كلا بما يناسبها.
قال الدكتور منجل: فاذكر لنا ما خاطبت به الشريعة النفس في هذا الباب.
قال الرضا: النفس في حال مرض صاحبها وعجزه تطلب أربعة أمور.. لا تتحقق رحمتها إلا بها.. ولم تكتمل هذه الأربعة في دين كما اكتملت في الإسلام.. ففيه وحده جميع المعاني التي تجعل المريض يعيش حياة طبيعية لا تختلف عن حياة أي سليم.
قال الجمع المحيط به: فما هذه الأربع؟
قال الرضا: أما أولاها، فالنفس تطلب سندا قويا عظيما تحتمي إليه من ضعفها.. فتشعر بالراحة في احتمائها، وبالقوة في التجائها.
وأما الثانية، فهي تطلب أملا تطمح إليه ينسيها الآلام التي تسكن جسدها..
وأما الثالثة، فهي تطلب عملا متناسبا معها، يجعلها إيجابية فاعلة حية.. فلا يؤذي النفس الصالحة مثل سلبيتها وسكونها.. فسكونها لا يعني سوى موتها.
وأما الرابعة، فهي تنفر من عزلة المجتمع عنها، نفرة منها.
قالوا: فحدثنا عن الأولى؟
قال: اسمحوا لي – قبل أن أذكر لكم ما جاء به الإسلام في هذه الناحية – أن أخبركم عما قاله العلم الحديث في علاقة الإيمان بالله، والالتجاء إليه في توفير الصحة والعافية للنفس والبدن([13])..
لعلكم تعلمون أنه قبل الثورة الحالية في مجال العلوم التجريبية لم يكن ممكنا لبشر معرفة آلية الوظائف العقلية العليا التي تميز الإنسان عن الحيوان وتحديد مواقعها بالمخ.. وشيئا فشيئا اكتُشفت المناطق المتعلقة بالحواس والكلام والحركة، وبدأت تتضح معالم المنظومة العاطفية، ومنظومة الأنشطة اللاإرادية، والأساس الكيميائي للنشاط العصبي.. بل أصبح بالإمكان تسجيل كهربية المخ من الخارج باستخدام جهاز رسم المخ، وتمييز مختلف الأنشطة الذهنية، والتصوير الإشعاعي لكشف تراكيبه.. ونتيجة لذلك عرفت بعض الفوارق التشريحية والوظيفية مع الحيوان، وأمكن تصور آلية بعض الوظائف العليا كالتذكر والتعلم.
على ضوء هذه التطورات فاجأتنا تلك الأبحاث العلمية باكتشاف يجعل الإيمان بالله تعالى وعبادته نزوعا فطريا وملكة مغروسة بالمخ لها آلياتها ومراكزها، وإذا لم يحسن الإنسان توظيفها فقد أهم ما يميزه عن الحيوان، وتعرض لفقدان التوازن النفسي والبدني([14]).
وخلاصة الأبحاث العلمية التي نشرت للمرة الأولى عام 2001 وأجريت على المخ بتقنية جديدة للأشعة السينية، قام بها فريق علمي على رأسه د. أندرو نيوبيرج أستاذ علم الأشعة بكلية الطب بجامعة بنسلفانيا في فيلادلفيا بالولايات المتحدة الأمريكية هي أن: (الإيمان بالله تصميم داخلي داخل المخ)، وبهذا لا يمكن لأحد التخلص منه إلا تعاميا عن الفطرة السوية التي جعلت الإنسان ينزع للتدين على طول التاريخ وتعطيلا لقدرات هائلة وإمكانات بالغة التعقيد والتطور تمكنه من إدراك قدرة الله تعالى بالتفكر والاستقراء للخلق والتحليل والاستنتاج.
ويمكن وصف الإنسان وفق عبارات د. نيوبيرج نفسه بأنه: (موجه بقوة نحو التدين)، وأن (التجربة العملية لا يمكنها أن تخبرنا بطريقة مباشرة عن ذات الله، ولكنها تخبرنا كيف خلق الإنسانَ لكي يعرفه ويعبده)، وهي تخبرنا أن: (عبادة الله وظيفة والإيمان به مطلب طبيعي يماثل الطعام والشراب)، وأن (المخ البشري ليس معدا تشريحيا ووظيفيا فحسب للإيمان بالله وعبادته، وإنما هو أيضا مهيأ عند قيامه بوظيفة العبادة لحفظ سلامة النفس والبدن بتوجيه العمليات الحيوية خلال منظومة عصبية وهرمونية متشابكة)
وبهذا نزداد يقينا في وجود الله تعالى وقدرته، وإلا فلا فائدة من الملكات الهائلة الممنوحة للإنسان، والتي ميزته عن كافة الأحياء الأخرى في الأرض، وهكذا لم يعد الإيمان بالله تعالى في الدراسات العملية الحديثة ضربا من الفلسفة والخيال الشعبي كما كان يردد الملاحدة بلا مستند في أوائل القرن العشرين، فقد خاب ظنهم أن الإنسان قد صنع ديانته بعدما تأكد أن: (الله قد خلقه متدينا بطبيعته ومؤهلا بقدرات كي يعرفه ويعبده)
وكما يصبح الإنسان نظيفا إذا مارس الوضوء حتى ولو لم يكن مسلما كذلك يناله الخير إذا مارس سلوكيات العبادة كالتفكر والخشوع والتأمل، لأنها توظف مراكز أشبه ما تكون بمراكز الإيمان داخل المخ تعمل على الارتخاء والتخلص من المشاعر السلبية مثل الخوف والقلق والاكتئاب، وينتقل الإنسان من حالة الاستنفار والتوتر إلى حالة الراحة والسكينة حتى ولو لم يكن لصاحبها نصيب في ثواب الآخرة.
وباستخدام تقنية خاصة في التصوير بالأشعة السينية تجعل في الإمكان معاينة التغير في نشاط مختلف المناطق الوظيفية بالمخ أمكن تحديد مناطق تختص بالتركيز الفكري بالفص الجبهي (الناصية) يزداد نشاطها أثناء تلك الخبرة التأملية، ولكن تغير النشاط في منطقة الفص الصدغي التي تجعل الإنسان يدرك وجهته بالفراغ كان ملفتا للنظر، ويفترض نيوبيرج أن تغير نشاط تلك المنطقة يفسر إحساس الزهاد الذين بلغوا في صلواتهم درجة استغراق عميقة بانتقالهم بعيدا عن العالم الفيزيائي حولهم إلى حالة روحية لا يدركها غيرهم إلا بمعايشة نفس التجربة، وهم خلال تلك الحالة من التحليق الروحي والتسامي الإيماني يشعرون خلال أداء الأذكار والصلوات بعدم الاهتمام بالعالم الفيزيائي المحيط وأنهم في حضرة جلال أسمى ومعية ذات عليا قاهرة تأسر الفؤاد وتملك الوجدان يتضاءل معها كل شيء ويفقد أهميته.
وهكذا تأكد العلماء أن الاستغراق في العبادة يفتح آفاقا من الشعور بالتسامي، ويقدم عونا على التخلص من آلام ومعاناة النفس والشفاء من الاضطراب كالقلق والتوتر والكآبة وتأثيراتهم البدنية، وتكرر الممارسة بانتظام يجدد القدرات بالانتقال إلى عالم تسترخي فيه النفس وتستريح من الضغوط، وفي تلك الحالة يُفقد الاهتمام بالعالم الخارجي رغم تزايد التنبه والوعي والجلاء أو تزايد الشعور به، بل ربما عند درجة ما تزداد القدرة على احتمال الألم العضوي، قال د. لورنس ميكيني عميد المؤسسة الأمريكية لعلاج الاضطرابات الذهنية: (إن ممارسة التأمل العميق باعتباره صوره من الخشوع قد يساعد في حد ذاته على التغلب على الشعور بالألم النفسي والإحباط ويعيد التوازن في توزيع النشاط في مراكز المخ ويفرغ شحنات الشعور بالتعاسة وفقدان الأمل حتى عند غير المؤمنين)
ووفق ما قاله د. ميكيني، فقد بدأت (الدراسات النفسية الدينية) في الستينيات من القرن الماضي عندما ذهبت مجموعة من الباحثين الأمريكيين إلى الهند لدراسة الموجات الكهربية للدماغ EEG لممارسي اليوجا، وفي عام 1980 أطلق ميكيني ومساعدوه مصطلح (الدراسات النفسية الدينية Neurotheology)، وأخرج عام 1994 كتابه بنفس الاسم، ويقدم هذا العلم الجديد تأييده التام للحقيقة الجوهرية في الدين وهي الإيمان بالله، قال ميكيني: (ويكفي أننا قد أوجدنا طرقا عملية لقياس الأنشطة الفكرية ولم يعد الإيمان بالله والمشاعر خلال الممارسات الدينية نشاطا فكريا غير قابل للتجربة والإثبات، ومن تلك التقنيات الجديدة طريقة التصوير الوظيفي بالرنين المغناطيسي، وقد أكدت نتائج نيوبيرج بالفعل)
وبالمثل أكدت مجموعات طبية أخرى تلك النتائج منها فريق في بوسطن قام بفحص عدة متطوعين باستخدام تقنية الرنين المغناطيسي، فأكد وجود النشاط غير العادي خلال فترات الاستغراق التعبدي والخشوع لمناطق التركيز الفكري، واكتشف تغيرات في نشاط مناطق أخرى بالمخ تتعلق بالإثارة، ووجد فريق آخر بقيادة د. دوسيك عميد المعهد الطبي للأبحاث الذهنية تغييرا ملحوظا كذلك في نشاط مراكز بالمخ تتعلق بالذاكرة.
ويقول د. بليتريني من جامعة بيزا في إيطاليا: (إن كل شئ نفعله أو نستشعره من نشاط بسيط كحركة إصبع إلى أعمق الانفعالات العاطفية الخبيئة بالنفس أو البادية مثل الغضب والحب يرسم خريطة مميزة المعالم للمراكز المتأثرة بالمخ، ويصاحب كل شعور نموذج محدد يمكن تسجيله وتحليله كالتحاليل الطبية العضوية تماما، وهذا المجال الجديد لاستطلاع دخيلة الإنسان من عواطف ومشاعر وأفكار ومدى تأثره بالاعتقاد الديني ساحر حقا، ويدخل فيه الباحثون اليوم بحذر حريصين على المنهج العلمي في البحث والتحليل كبقية مجالات العلوم التجريبية)
ويقول د. مايكل ماكلوف من جامعة دالاس بالولايات المتحدة الأمريكية: (يتأثر الوجدان النفسي الروحي بالعالم الخارجي ويؤثر في الجسد ويمثل الإيمان والعبادة صمام أمان لتلك التأثيرات الطبيعية، وقد أفضت دراسته إلى أن الطبيعة البشرية مصممة بحيث تحفظها العبادة في توازن تام وتقيها الاضطراب)
قالوا: عرفنا ما استطاع العلم أن يكتشفه في هذا الباب.. فما الذي جاء به الإسلام؟
قال: لقد استطاع العلم أن يصف الداء.. واستطاع مع ذلك أن يضع الخصائص التي يمكن للدواء أن يفعل بها مفعوله في مقاومة الداء.. ولكنه مع ذلك لم يستطع أن يضع الدواء.. لأن مثل ذلك الدواء لا يمكن إلا أن يكون من لدن الله نفسه..
لقد ذكر الله ذلك، فقال في كتابه الكريم عن كتابه الكريم:{ وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا (82)} (الإسراء 82)، وقال:{ وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (44)} (فصلت)، وقال:{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِين} (يونس:57)
أتدرون السر في كون القرآن الكريم شفاء؟
قالوا: ما السر في ذلك؟
قال: ألا ترون المريض كيف يستريح ويطمئن إن خاطبه طبيبه أو تحدث إليه؟
قالوا: بلى.. نرى ذلك.. خاصة إن غسل آلامه بمراهم الأمل.
قال: فالأمل عند الله وحده.. والقدرة عند الله وحده.. والفضل عند الله وحده.. ولذلك يجد المؤمن في ترديد كلام ربه، وتأمل معانيه من الأنس الروحي ما يجعله مطمئنا مستريحا.. بل ممتلئا سعادة وسرورا.
لقد ذكر الله ذلك عن كتابه، فقال:{ وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ (125)} (التوبة)
قالوا: ولكن القرآن ذكر أنه يزيد المرضى مرضا؟
قال: المريض الذي لا يعرف كيف يستعمل الدواء لا شك أنه يتضرر به…
قالو: فكيف يستعمل دواء القرآن؟
قال: لقد ذكر الله ذلك، فقال:{ لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } (الحشر:21)
قالوا: فما في هذه الآية مما نحن فيه؟
قال: المريض الذي يريد أن يستشفي بالقرآن لا بد أن يعرف قيمة وعظمة وسمو الدواء الذي يستعمله، فهو ليس دواء كيميائيا قد ينفع عضوا، ويضر أعضاء، وقد ينفع الجسد ويغفل عن الروح، وقد ينفع اليوم ويصر غدا.
وهو ليس دجل مشعوذ، يعطي من الوهم بقدر ما يعطى من النقود.
بل هو كلام رب العالمين، كلام رب السموات والأض، كلام الذي ليس كمثله شيء، وكما لا يصح أن تقارن به أي شيء، فلا يصح أن تقارن بدوائه أي دواء.
ولذلك، فإن الذي يتعامل مع العلاج القرآني بمقاييسه البشرية المحدود، أو يتصور أن الأدواء والعلل من القوة بحيث لا يطيق القرآن إزاحتها، فهو لم يصل بعد إلى درجة الانتفاع بالقرآن الكريم، فـ (كيف تقاوم الأدواء كلام رب الأرض والسماء الذي لو نزل على الجبال، لصدعها، أو على الأرض، لقطعها، فما من مرض من أمراض القلوب والأبدان إلا وفي القرآن سبـيل الدلالة على داوئه وسببه، والحمية منه لمن رزقه الله فهما في كتابه)
وإلى هذا المعنى الإشارة بقوله تعالى:{ أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (51)} (العنكبوت)
قالوا: فإذا ما قرأ المريض القرآن بالصفة التي ذكرتها؟
قال: إذا قرأه بتلك الصفة امتلأ قلبه تعظيما لله.. ونال بعد ذلك من المعارف ما يجعله مطمئنا إلى أن الحالة التي يمر بها ليست سوى عارض بسيط يتخلل حياته الأبدية الجميلة التي قدرها الله له.
لاحظوا الفرق بين من يعتقد بأن المرض غول يريد أن يلتهم سعادته الوحيدة التي جعلت له في لحظات الدنيا، وبين من يرى أن المرض محطة من المحطات.. وأن لحظات السعادة التي كتبها الله لعباده إن هم عرفوه وعبدوه لا نهاية لها..
تصوروا الفرق بين من يعتقد بوجود سند قوي قادر على كل شيء يمكنه أن يخلصه من كل ضر وألم، وبين من لا يرى هذا السند إلا في طبيبه العاجز اليائس الذي قد يقف في حالات كثيرة لا يدر ماذا يفعل.
إن هذا يجعل المؤمن يلتجئ إلى الله، ويتضرع إليه..
وقد علمنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كيف نلتجئ إلى الله، وكيف نمتلئ طمأنينة أثناء التجائنا.
ومن ذلك ما ورد في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال:(ما أصاب أحدا قط هم، ولا حزن، فقال: اللهم إني عبدك، وابن عبدك، وابن أمتك ناصيتي بيدك، ماض في حكمك، عدل في قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو علمته أحدا من خلقك، أو أنزلته في كتابك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك: أن تجعل القرآن ربيع قلبي، ونور صدري، وجلاء حزني، وذهاب همي إلا أذهب الله همه، وحزنه، وأبدله مكانه فرجا)، فقيل: يا رسول الله ألا نتعلمها ؟ فقال: (بلى ينبغي لمن سمعها أن يتعلمها)([15])
فهذا الدعاء يتضمن اعتراف العبد أنه مملوك لله، وأنه لا غنى له عنه، وليس له سيد سواه، والتزام بعبوديته، وإعلان الخضوع والامتثال لأمره ونهيه، وأن الله يصرفه، ويتحكم فيه كيف يشاء، وإذعان لحكم الله، ورضى بقضائه، وتوسل إلى الله بجميع أسمائه قاطبة، ثم سؤال المطلوب، ونشدان المرغوب.
وكل هذه المعاني لها تأثيرها النفسي الكبير في نفس المريض والمبتلى..
ومن ذلك ما ورد في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يقول عند الكرب:(لا إله إلا الله العظيم الحليم لا إله إلا الله رب العرش العظيم لا إله إلا الله رب السموات ورب الأرض ورب العرش الكريم)([16])
ومن ذلك ما روي أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا كربه أمر قال:(يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث)([17])
ومن ذلك ما روي عن أسماء بنت عميس قالت: قال لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:(ألا أعلمك كلمات تقولينهن عند الكرب، أو في الكرب: الله الله ربي لا أشرك به شيئا)([18])
ومن ذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم:(دعوات المكروب اللهم رحمتك أرجو فلا تكلني إلى نفسي طرفة عين وأصلح لي شأني كله لا إله إلا أنت)([19])
بالإضافة إلى هذا.. ما ورد في خصوص المرض من الآثار عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وورثته الكرام من أنواع الالتجاء.. والتي تملأ قلب المؤمن رضا وطمأنينة وسكينة.
ففي الحديث: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا اشتكى يقرأ على نفسه بالمعوذات([20])، وينفث، فلما اشتد وجعه كنت أقرأ عليه وأمسح بيده رجاء بركتها([21]).
و كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا مرض أحد من أهله نفث عليه بالمعوذات([22]).
وكان صلى الله عليه وآله وسلم يعوذ بعض أهله، يمسح بيده اليمنى ويقول: (اللهم رب الناس أذهب الباس، واشفه وأنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك، شفاء لا يغادر سقما)([23])
وعن بعضهم أنه شكا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وجعا في جسده منذ أسلم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (ضع يدك على الذي تألم من جسدك، وقل باسم الله ثلاثا، وقل سبع مرات: أعوذ بالله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر([24])([25])
وفي حديث آخر: أن جبريل أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: يا محمد، اشتكيت؟ فقال: نعم. قال: (باسم الله أرقيك من كل شيء يؤذيك، من شر كل نفس أو عين حاسد. الله يشفيك، باسم الله أرقيك)([26])
ومن الأدعية الواردة عن ورثة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من آل بيته الكرام، ما ورد عن جعفر الصادق فقد أثر عنه هذا الدعاء الجليل في المرض:(اللهم إني أدعوك دعاء العليل الذليل الفقير، دعاء من اشتدت فاقته، وقلت حيلته، وضعف عمله، وألح البلاء عليه.. دعاء مكروب إن لم تدركه هلك، وإن لم تسعده فلا حيلة له، فلا تحط بي مكرك، ولا تثبت علي غضبك، ولا تضطرني إلى اليأس من روحك والقنوط من رحمتك.. اللهم إنه لا طاقة لي ببلائك، ولا غنى بي عن رحمتك، وهذا أمير المؤمنين أخو نبيك ووصي نبيك أتوجه به إليك، فإنك جعلته مفزعا لخلقك، واستودعته علم ما سبق، وما هو كائن، فاكشف به ضري وخلصني من هذه البلية إلى ما عودتني من رحمتك يا هو يا هو يا هو انقطع الرجاء إلا منك)
وكان يقول:(اللهم اجعله أدبا و لا تجعله غضبا)
و كان زين العابدين إذا مرض يدعو قائلا:(اللهم لك الحمد على ما لم أزل أتصرف فيه من سلامة بدني، ولك الحمد على ما أحدثت لي من علة في جسدي، فما أدري يا إلهي على ما لم أزل أتصرف فيه إلى أي الحالين أحق بالشكر لك، وأي الوقتين أولى بالحمد إليك، أوقت الصحة التي هنأتني فيها طيبات رزقك وأنشطتني بها لابتغاء مرضاتك وفضلك وقويتني على ما أهبت بي إليه من طاعتك، أم وقت العلة التي أفديتنيها والسقم الذي أتحفتني به تخفيفا لما ثقل علي من الخطيئات وتطهيرا لما انغمست فيه من السيئات وتنبيها لتناول التوبة وتذكيرا لمحو الحوبة بقديم النعمة، وفي خلال ذلك ما يكتب لي الكاتبان من زكي الأعمال ما لا قلب فكر فيه ولا لسان نطق به ولا جارحة تكلفته إفضالا منك علي وإحسانا من صنيعك إلي اللهم فصل على محمد وآله وحبب إلي ما رضيت لي ويسر علي ما أحللت بي وطهرني من ذميم ما أسلفت وامح عني سيئ ما قدمت وأوجدني حلاوة العافية وأذقني برد السلامة واجعل مخرجي عن علتي إلى عفوك ومتحولي عن مصرعي إلى تجاوزك وخلاصي من كربي إلى روحك وسلامتي من هذه الشدة إلى فرجك إنك المتفضل بالإحسان المتطول بالامتنان الوهاب الكريم خير معين ومستعان)
قالوا: حدثتنا عن الأولى.. فحدثنا عن الثانية؟
قال: الثانية هي ما ورد في النصوص المقدسة من البشارات بما يلقاه المريض من فضل الله إن هو أحسن تعامله مع مرضه، فلم يجره إلى السخط أو الجزع أو الشكوى([27]) ..
وأول ذلك أن ما أصابهم من البلاء يرفع عنهم ثقل الحساب، فلا يحاسبون كما يحاسب غيرهم، وقد روي في ذلك أن امرأة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بها لمم فقالت:(يا رسول الله، ادع الله أن يشفيني) قال:(إن شئت دعوت الله أن يشفيك، وإن شئت فاصبري ولا حساب عليك)، قالت:(بل أصبر ولا حساب علي)([28])
وفي حديث آخر، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (يؤتى بالشهيد يوم القيامة، فينصب للحساب، ويؤتى بالمتصدق، فينصب للحساب، ثم يؤتى بأهل البلاء، فلا ينصب لهم ميزان ولا ينشر لهم ديوان، ويصب عليهم الأجر صبا، حتى إن أهل العافية ليتمنون في الموقف أن أجسادهم قرضت بالمقاريض، من حسن ثواب الله لهم)([29])
وقد روي في تعليل سر رفع الحساب عن المبتلين هو أن ما وقعوا فيه من الذنوب يطهرون منه بالبلاء.. فقد روي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم دخل إلى زيد بن أرقم وهو يشتكي عينيه فقال له:(يا زيد، لو كان بصرك لما به كيف كنت تصنع؟)، قال:(إذا أصبر وأحتسب)، قال:(إن كان بصرك لما به ثم صبرت واحتسبت لتلقين الله عز وجل وليس لك ذنب)([30])
قام بعض المرضى، وقال: إن هذه نعمة عظيمة.. فإن أعظم ما يخافه كل مؤمن هو الحساب.. أن تنشر صحفه، فيعاين جرائمه.. أو يفضح بين الخلائق.. إنه موقف صعب جدا.. فأحدنا لا يطيق الوقوف في محكمة الدنيا ليحاسب، فكيف يطيق الوقوف في محكمة الآخرة؟
قال الرضا: ليس ذلك فقط.. فقد ورد في النصوص تبشيرهم بالجنة.. ففي الحديث قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:(إن الله قال: إذا ابتليت عبدي بحبيبتيه فصبر عوضته منهما الجنة، يريد عينيه)([31])
وعن عطاء قال، قال لي ابن عباس: ألا أريك امرأة مِنْ أهل الجنة؟ فقلت: بلى. قال: هذه المرأة السوداء، أتت النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقالت: إني أصرع وإني أتكشف فادع اللَّه تعالى لي، قال:(إن شئت صبرت ولك الجنة، وإن شئت دعوت اللَّه تعالى أن يعافيك)، فقالت: أصبر، فقالت: إني أتكشف فادع اللَّه أن لا أتكشف، فدعا لها)([32])
وعن أبي سنان قال: دفنت ابناً لي فإني لفي القبر إذ أخذ بيدي أبو طلحة (يعني الخولاني) فأخرجني وقال لي: ألا أبشِّرك؟ قلت: بلى، قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم:(قال اللّه: يا ملك الموت قبضت ولد عبدي؟ قبضت قرة عينه وثمرة فؤاده؟ قال: نعم، قال: فما قال؟ قال: حمدك واسترجع، قال: ابنوا له بيتاً في الجنة وسموه بيت الحمد)([33])
قام مريض آخر، وقال: هذا ثواب عظيم.. فالجنة هي الدار التي تهفو لها القلوب.. وحسب المبتلى أن يبشر بها حتى ينسى كل بلاء ينزل به.
قال الرضا: ليس ذلك فقط.. بل ورد في النصوص أن المبتلى يرفع إلى الدرجات العليا بحسب صبره ورضاه عن ربه.. ففي الحديث الشريف قال صلى الله عليه وآله وسلم:(إن العبد إذا سبقت له من الله منزلة لم يبلغها بعمله ابتلاه الله في جسده أو في ماله أو في ولده، ثم صبره على ذلك، حتى يبلغه المنزلة التي سبقت له من الله تعالى)([34])، وقال:(ما من مسلم يصاب بشيء في جسده فيصبر إلا رفعه الله به درجة، وحط عنه به خطيئة)([35])
وقال صلى الله عليه وآله وسلم:(أشد الناس بلاء الانبياء ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على حسب دينه فإن كان دينه صلبا اشتد بلاؤه وإن كان في دينه رقة ابتلاه الله على حسب دينه فما يبرح البلاء بالعبد حتى يمشي على الأرض وما عليه خطيئة)([36])
وحدث بعضهم، قال: كنت مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جالساً، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (من أحب أن يصح ولا يسقم؟)، قلنا: نحن يا رسول الله، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (مه؟!)، وعرفناها في وجهه، فقال: (أتحبون أن تكونوا كالحمير الصيّالة؟)، قال، قالوا: يا رسول الله لا، قال: (ألا تحبون أن تكونوا أصحاب بلاء وأصحاب كفارات؟)، قالوا: بلى يا رسول الله، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (فوالله إن الله ليبتلي المؤمن وما يبتليه إلا لكرامته عليه، وإن له عنده منزلة ما يبلغها بشيء من عمله دون أن ينزل به من البلاء ما يبلغ به تلك المنزلة)([37])
قام مريض آخر، وقال: ما شاء الله.. ما شاء الله.. حسبنا بهذا.. فما أعظم نعم الله علينا، والتي كنا غافلين عنها.
قال الرضا: ليس ذلك فقط.. بل ورد في النصوص ما هو أعظم من ذلك كله.
قالوا: فما هو؟
قال: صلاة الله على عبده الصابر الراضي عنه.. لقد قال تعالى يقرر ذلك:{ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ } (البقرة:155 ـ 157)
قال بعض المرضى: فهل صلاة الله على عبده جزاء؟
قال الرضا: أجل.. بل هي جزاء فوق الأجزية.. بل لا تعدلها أي جائزة أخرى.
قال المريض: لم كانت كذلك؟
قال الرضا: إن صلاة الله على عبد تعني تقريبه له.. والقرب لا يساويه جزاء ولا يطاوله ثواب، فهو إخراج من الظلمات إلى النور، ومن الحجاب إلى المشاهدة.. لقد ذكر الله ذلك، فقال:{ هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً } (الأحزاب:43)؟
قالوا: حدثتنا عن الثانية.. فحدثنا عن الثالثة؟
قال: الثالثة هو ما ورد في الشريعة من التشجيع على العمل الصالح في جميع الأحوال، من غير أن يقعد المؤمن عنه بأي سبب من الأسباب..
بل ورد فيها اعتبار الأعمال الصالحة سببا مهما من أسباب الشفاء.. فمن ذلك ما نص عليه قوله تعالى:{ وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ (45)} (البقرة)، ففي هذه الآية يأمرنا الله تعالى بالاستعانة بالصلاة على جميع ما يصيبنا من أنواع البلاء..
وقد كان من سنته صلى الله عليه وآله وسلم أنه كان إذا حزن من أمر فزع إلى الصلاة..
وكان صلى الله عليه وآله وسلم يصفها لأصحابه، ففي الحديث قال صلى الله عليه وآله وسلم:(إنما مثل الصلاة كمثل نهر عذب غمر بباب أحدكم يقتحم فيه كل يوم خمس مرات فهل يبقى من درنه شيء؟)([38])
ومثل ذلك الصوم.. ولهذا أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم به، ورغب فيه.. ففي الحديث عن أبي أمامة، قال: قلت: يا رسول مرني بعمل ينفعني الله به، قال: (عليك بالصوم فإنه لا مثل له)([39])
وفي حديث آخر، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:(صوموا تصحوا)([40])
التفت الرضا إلى الدكتور منجل، وقال: لقد أثبتت الدراسات العلمية والأبحاث الدقيقة على جسم الإنسان ووظائفه الفسيولوجية أن الصيام ظاهرة طبيعية يجب للجسم أن يمارسها حتى يتمكن من أداء وظائفه الحيوية بكفاءة، وأنه ضروري جدا لصحة الإنسان تماما كالأكل والتنفس والحركة والنوم، فكما يعاني الإنسان بل يمرض إذا حرم من النوم أو الطعام لفترات طويلة، فإنه كذلك لا بد أن يصاب بسوء في جسمه لو امتنع عن الصيام.
وفوق ذلك.. فقد أثبتت الوقائع الكثيرة دور الصوم في الصحة النفسية، وتوقد الذهن.. لقد قال (توم برنز)، وهو من مدرسة كولومبيا للصحافة: (إنني أعتبر الصوم تجربة روحية عميقة أكثر منها جسدية، فعلى الرغم من أنني بدأت الصوم بهدف تخليص جسدي من الوزن الزائد إلا أنني أدركت أن الصوم نافع جدا لتوقد الذهن، فهو يساعد على الرؤية بوضوح أكبر، وكذلك على استنباط الأفكار الجديدة وتركيز المشاعر، فلم تكد تمضي عدة أيام من صيامي في منتجع (بولنج) الصحي حتى شعرت أني أمر بتجربة سمو روحي هائلة.. لقد صمت إلى الآن مرات عديدة، لفترات تتراوح بين يوم واحد وستة أيام، وكان الدافع في البداية هو الرغبة في تطهير جسدي من آثار الطعام، غير أنني أصوم الآن رغبة في تطهير نفسي من كل ما علق بها خلال حياتي، وخاصة بعد أن طفت حول العالم لعدة شهور، ورأيت الظلم الرهيب الذي يحيا فيه كثيرون من البشر، إنني أشعر أنني مسئول بشكل أو بآخر عما يحدث لهؤلاء ولذا فأنا أصوم تكفيرا عن هذا.. إنني عندما أصوم يختفي شوقي تماما إلى الطعام، ويشعر جسمي براحة كبيرة، وأشعر بانصراف ذاتي عن النزوات والعواطف السلبية كالحسد والغيرة وحب التسلط، كما تنصرف نفسي عن أمور علقت بها مثل الخوف والارتباك والشعور بالملل.. كل هذا لا أجد له أثرا مع الصيام، إنني أشعر بتجاوب رائع مع سائر الناس أثناء الصيام، ولعل كل ما قلته هو السبب الذي جعل المسلمين وكما رأيتهم في تركيا وسوريا والقدس يحتفلون بصيامهم لمدة شهر في السنة احتفالا جذابا روحانيا لم أجد له مثيلا في أي مكان آخر في العالم)
ومثل ذلك الصدقة.. ففي الحديث:(حصنوا أموالكم بالزكاة، وداووا مرضاكم بالصدقة، واستقبلوا أمواج البلاء بالدعاء والتضرع)([41])
وهكذا كل عمل صالح.. فإن له تأثيره النفسي الكبير على المريض، بالإضافة إلى تأثيره الغيبي الذي جعله الله مؤثرا في حصول الشفاء..
وقد وعى الصالحون هذا المعنى.. فقد روي عن بعضهم أنه سأله رجل عن قرحة خرجت في ركبته منذ سبع سنين، وقد عالجها بأنواع العلاج، وسأل الأطباء فلم ينتفع به، فقال له:(اذهب فاحفر بئراً في مكان الناس بحاجة إلى الماء فإني أرجوا أن ينبع هناك عينً ويمسك عنك الدم)، ففعل الرجل فبرأ.
وقال آخر: مرضت مرضا خطرا، فرآني جار لي صالح، فقال استعمل قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:(داووا مرضاكم بالصدقة)، وكان الوقت ضيقا، فاشتريت بطيخا كثيرا، واجتمع جماعة من الفقراء والصبيان، فأكلوا ورفعوا أيديهم إلى الله عز وجل، ودعوا لي بالشفاء، فوالله ما أصبحت إلا وأنا في كل عافية من الله تبارك وتعالى)
وأخبر آخر: أن رجلاً من أهل القصيم أصيب بمرض خطير، فتصدق على أم أيتام، فبدأت تدعو له فشفاه الله من هذا المرض.
بالإضافة إلى هذا كله.. فقد أخبر صلى الله عليه وآله وسلم أن الله الشكور الحليم لا يضيع عمل عبده إن قعد به الداء عنه، ففي الحديث قال صلى الله عليه وآله وسلم:(إن العبد إذا مرض أوحى الله تعالى إلى ملائكته: أنا قيدت عبدي بقيد من قيودي، فإن أقبضه اغفر له، وإن أعافه فحينئذ يقعد لا ذنب له)([42]).
وفي حديث آخر قال صلى الله عليه وآله وسلم:( ما من مسلم يصاب في جسده إلا أمر الله تعالى الحفظة: اكتبوا لعبدي في كل يوم وليلة من الخير ما كان يعمل، ما دام محبوسا في وثاقي)([43])
وفي الأثر الإلهي:(قال الله تعالى: إذا ابتليت عبدا من عبادي مؤمنا فحمدني وصبر على ما ابتليته، فإنه يقوم من مضجعه ذلك كيوم ولدته أمه من الخطايا، ويقول الرب للحفظة: إني أنا قيدت عبدي هذا وابتليته فأجروا له ما كنتم تجرون له قبل ذلك من الأجر وهو صحيح)([44])
بل إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أخبر بأن مجرد الاسترجاع عند تذكر المصيبة له ثوابه عند الله، قال صلى الله عليه وآله وسلم:(ما من مسلم ولا مسلمة يُصاب بمصيبة فيذكرها، وإن طال عهدها فيحدث لذلك استرجاعاً إلا جدّد اللّه له عند ذلك فأعطاه مثل أجرها يوم أصيب)([45])
قالوا: حدثتنا عن الثالثة.. فحدثنا عن الرابعة؟
قال: الرابعة هو ما ورد في الشريعة من دعوة المجتمع إلى الاهتمام بالمريض، وعدم الانعزال عنه إلا إذا اقتضت الضروروة ذلك..
فقد ورد في النصوص المقدسة الدعوة إلى عيادة المريض بأساليب مختلفة..
منها قوله صلى الله عليه وآله وسلم:(حق المسلم على المسلم خمس – فذكر منها: – وعيادة المريض)([46])
وقال: (إن الله عز و جل يقول يوم القيامة: يا ابن آدم مرضت فلم تعدني قال يا رب: كيف أعودك وأنت رب العالمين ؟ قال: أما علمت أن عبدي فلانا مرض فلم تعده ؟ أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده)([47])
وقال:(عودوا المرضى واتبعوا الجنائز تذكركم بالآخرة)([48])
وقال:(خمس من عملهن في يوم كتبه الله من أهل الجنة: من عاد مريض وشهد جنازة وصام يوما وراح إلى الجمعة وأعتق رقبة)([49])
وقال:(من عاد مريضا ناداه مناد من السماء طبت وطاب ممشاك وتبوأت من الجنة منزلا)([50])
وقال:(من توضأ فأحسن الوضوء وعاد أخاه المسلم محتسبا بوعد من جهنم مسيرة سبعين خريفا([51])([52])
وقال:(ما من مسلم يعود مسلما غدوة إلا صلى عليه سبعون ألف ملك حتى يمسي، وإن عاده عشية صلى عليه سبعون ألف ملك حتى يصبح، وكان له خريفا في الجنة)([53])، وفي رواية([54]):(إذا عاد المسلم أخاه مشي في خرافة الجنة([55]) حتى يجلس، فإذا جلس غمرته الرحمة)([56])
وقال:(إذا دخلت على مريض فمره يدعو لك فإن دعاءه كدعاء الملائكة)([57])
وقال: (عودوا المرضى ومروهم فليدعوا لكم فإن دعوة المريض مستجابة وذنبه مغفور)([58])
وقال: (لا ترد دعوة المريض حتى يبرأ)([59])
بالإضافة إلى كل ذلك.. فقد مثل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بسلوكه العملي هذه الأوامر خير تمثيل..
ففي الحديث عن بعض الصحابة قال: أتاني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأنا مريض في أناس من الأنصار يعودوني([60]).
وعنه: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عاد عبد الله بن رواحة، قال: فما تحور له عن فراشه.. الحديث([61]).
وعن آخر أنه كان يخطب، فقال: (أما والله قد صحبنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الحضر والسفر، فكان يعود مرضانا، ويشيع جنائزنا، ويغدو معنا ويواسينا بالقليل والكثير)([62])
وعن آخر قال: كنا جلوسا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذ جاء رجل من الأنصار فسلم عليه، ثم أدبر الأنصاري، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:(يا أخا الأنصار.. كيف أخي سعد بن عبادة؟) فقال: صالح، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:(من يعوده منكم؟)، فقام وقمنا معه ونحن بضعة عشر، ما علينا نعال ولا خناف ولا قلانس ولا قمص نمشي في تلك السباخ حتى جئناه، فاستأخر قومه من حوله حتى دنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه الذين معه([63]).
وعن آخر أن طلحة بن البراء مرض فأتاه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعوده فقال: (إني لا أرى طلحة إلا قد حدث فيه الموت، فآذنوني به وعجلوا، فإنه لا ينبغي لحيفة مسلم أن تحبس بين ظهراني أهله)([64])
وعن آخر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا فقد رجلا من أصحابه ثلاثة أيام سأل عنه، فإن كان غائبا دعا له، وإن كان شاهدا زاره، وإن كان مريضا عاده([65]).
وعن آخر – أن مسكينة مرضت، فأخبر رسول الله بمرضها، قال: وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعود المساكين، ويسأل عنهم.. الحديث([66]).
قال الدكتور منجل: ما أجمل ما دعاكم إليه نبيكم.. ولكن ألا ترى أن في تجميع الناس على المريض مما يزيده مرضا؟.. فالمريض يحتاج من الراحة ما لا يحتاج إليه السليم.
قال الرضا: وقد نبهنا صلى الله عليه وآله وسلم إلى هذا.. ودعانا إلى مراعاة الأدب عند عيادة المرضى..
ومن ذلك ما ورد في النصوص المقدسة من الدعوة إلى التنفيس عن المريض، وملئه بالأمل في الله، وفي شفاء الله، وفي فضل الله عليه بالبلاء المطهر.. ففي الحديث: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم دخل على أعرابي يعوده، قال: وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا دخل على مريض يعوده قال: (لا بأس طهور إن شاء الله)، قال: قلت: طهور! كلا، بل هي حمى تفور ـ أو تثور ـ على شيخ كبير تزيره القبور. فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (فنعم إذا)([67])
وعن أم العلاء قالت: عادني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأنا مريضة، فقال: (أبشري يا أم العلاء، فإن مرض المسلم يذهب الله به خطاياه كما تذهب النار خبث الذهب والفضة)([68])
وعن جابر: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دخل على أم السائب، فقال: (مالك يا أم السائب تزفزفين (أي: ترعدين) قالت: الحمى لا بارك الله فيها، فقال: (لا تسبي الحمى، فإنها تذهب خطايا بني آدم كما يذهب الكير خبث الحديد)([69])
ومن ذلك أن على من عاد المريض أن يتخير الوقت المناسب لعيادته؛ لأن مقصود العيادة إراحة المريض وتطييب قلبه، لا إدخال المشقة عليه..
ومن ذلك أن لا يطيل المكث والجلوس عنده، إلا إن أحب المريض ذلك، وكان في الجلوس فائدة ومصلحة.
ومن ذلك أن يدعو للمريض، ففي الحديث: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا عاد المريض جلس عند رأسه، ثم قال سبع مرار: أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يشفيك، فإن كان في أجله تأخير عوفي من وجعه)([70])
ولما عاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم سعدا وضع يده على جبهته، ثم مسح يده على وجهه وبطنه، ثم قال: (اللهم اشف سعدا)([71])، وفي وضع اليد على المريض تأنيس له، وتعرف على مرضه شدة وضعفا، وتلطف به.
وعليه أن أن ينصح للمريض بالدعاء، وأن لا يقول عنده إلا خيرا، ففي الحديث عن أم سلمة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:(إذا حضرتم المريض أو الميت فقولوا خيرا، فإن الملائكة يؤمنون على ما تقولون)([72])
ومن ذلك نصح المريض وتوجيهه.. ففي الحديث عن جابر قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على أم السائب، وهي ترفرف، فقال: ما لك ؟ فقالت: الحمى – أخزاها الله تعالى – فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (لا تسبيها، فإنها تذهب خطايا بني آدم كما يذهب الكير خبث الحديد)([73])
وروي أن غلاما من اليهود كان يخدم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فمرض فأتاه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعوده، فقعد عند رأسه، فقال له: (أسلم)، فنظر إلى أبيه وهو عنده، فقال له: أطع أبا القاسم فأسلم، فخرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يقول: (الحمد لله الذي أنقذه من النار)([74])
قال الدكتور منجل: عرفنا علاج الإسلام للنفس في حال مرضها.. فما جاء به لعلاج الجسد؟
قال الرضا: أربعة أمور.. لا تتحقق رحمة الجسد إلا بها.. ولم تكتمل هذه الأربعة في دين كما اكتملت في الإسلام.. ففيه وحده جميع المعاني التي تجعل المريض يعيش حياة طبيعية لا تختلف عن حياة أي سليم.
أما أولاها.. فهو ما جاء في الشريعة من الدعوة لحفظ الأجساد باعتبارها أمانة من الله لعباده يتوجب عليهم حفظها.. ولم يكتف الإسلام بذلك، بل شرع التشريعات المختلفة.. والتي تجمع كل ما جاء الطب الوقائي لتقريره.
وأما الثانية.. فهو ما جاء في الشريعة من الدعوة إلى التداوي.. ووضع القوانين الكثيرة التي تحفظ التداوي من السقوط في الخرافة والدجل.
وأما الثالثة.. فهو ما جاء من تشريعات التخفيف على المريض، مراعاة لمرضه.. فلا يتعارض التدين مع المرض.
وأما الرابعة.. فهو ما حفلت به النصوص المقدسة من الأدوية التي لم يتأكد من جدواها العالم إلا بعد أن توفر له من الأجهزة والوسائل ما أتاح له ذلك..
قال الجمع المحيط به: فحدثنا عن الأولى([75]).
قال: لقد نصت الشريعة في نصوصها القطعية على وجوب المحافظة على الصحة – بمفهومها الواسع – باعتبارها نعمة من نعم الله على عباده، والنعم يجب حفظها.. ففي الحديث قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:(نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ)([76])
بل إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقرن العافية والصحة، باليقين، فيقول: (سلوا الله المعافاة، فما أوتي أحد بعد اليقين خيراً من المعافاة)([77])
ويقول: (سلوا الله العفو والعافية، فما أوتي أحد بعد يقين خيراً من معافاة)([78])
ويقول: (ما سئل الله شيئاً أحب من العافية)([79])
ويقول: (يا أيها الناس إن الناس لم يعطوا في الدنيا خيراً من اليقين والمعافاة فسلوها الله عز وجل)([80])
وروي أن رجلاً قال: اللهم إني أسألك الصبر، فقل له النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (سألت الله البلاء فاسأله العافية)([81])
ولهذا فإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعتبر حفظ الجسد من الحقوق الواجبة، فيقول:(إن لجسدك عليك حقاً)([82])
وبسبب ذلك يعتبر:(المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف)([83])
إن هذه النصوص التي تمجد الصحة، وتعتبرها نعمة لا تقل عن نعمة الإيمان.. لم تكن نصوصا مجردة عن التشريعات التي تضمن وقوعها.. فالإسلام لا يكتفي بالنظريات المجردة، والمثل التي قد لا تجد ما يوفر لها الوجود الواقعي..
ولذلك، فإن تأمل ما جاء به الإسلام في هذا الباب يضعنا أمام منظومة صحية متكاملة لم يأت بمثلها دين من الأديان، ولا مذهب من المذاهب..
قال الدكتور منجل: كيف تقول ذلك.. ونحن لا نرى في مجامع كتب المسلمين الفقهية أبوابا خاصة بالطب.. وإن وجدناه في الحديث وجدنا مجموعة من الأدعية والرقى لا علاقة لها بالصحة إلا ما تنشره في قائلها من إيحاءات وهمية؟
قال الرضا: من الخطأ الكبير – حضرة الدكتور – أن نبحث عن المنظومة الصحية الإسلامية في فصل من الفصول، أو باب من الأبواب..
قال الدكتور منجل: فأين نبحث عنها إذن؟
قال الرضا: في الشريعة جميعا.. في كل فصل من فصولها، وباب من أبوابها.. فمراعاة حفظ الصحة نجده في كل أمر من الأوامر ونهي من النواهي([84]).
أليس في طهارة الثوب والبدن والمكان المطلوبة قبل أداء الصلاة.. وفي الوضوء خمس مرات يومياً.. والغسل من الجنابة، والأغسال المسنونة نظافة رائعة لها دورها في وقاية البدن من كثير من الأمراض؟
ونحن – المسلمين – مع كوننا نصلي تعبداً وخضوعاً وامتثالاً لأمر الخالق العظيم إلا أنه لا ينكر أحد أن أداء الصلاة بإتقان ركوعها وسجودها أمر يدرب عضلات الجسم ويمتع تيبس مفاصله.. وهي آفات قلما تحصل عند المسلمين كما يؤكد ذلك كبار الأطباء.
ومثل ذلك الصوم، فمع أننا نؤديه تقرباً إلى الله طاعة وزلفى، ولكن ألم يثبت للعلماء من غير المسلمين أن الصوم الإسلامي ينقي البدن من فضلاته وسمومه، ويصقل الأجهزة ويعيد إليها (جدتها) وعملها الفيزيولوجي السوي؟
ثم أليس في قوله صلى الله عليه وآله وسلم:(السواك مطهرة للفم مرضاة للرب)([85]) سبق صحي ليس له مثال.. لقد دعا إليه نبي الرحمة صلى الله عليه وآله وسلم يوم كانت نبيلات روما يتمضمضن بالبول.. أليس عود الأراك مفخرة لأمتنا بين الأمم يوم لم يكن هناك فرشاة ولا معجون لتنظيف الأسنان، وهو بما فيه من مواد لكيماوية طبيعية صالح لأن يجمع خواص كل من المعجون والفرشاة على السواء؟
وهكذا فإن آداب الطعام والشراب في شريعتنا تلحظ صحة البدن والمحافظة عليه، ولها السبق في ذلك على كل ما قرره الطب الوقائي الحديث..
أليس في قوله تعالى:{ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31)}(الأعراف)، وقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (ما ملأ ابن آدم وعاء شرا من بطن، حسب ابن آدم أكلات يقمن صلبه، فإن كان لا محالة، فثلث طعام، وثلث شراب، وثلث لنفسه)([86]) وقاية للبدن من أمراض البدن التخمة وويلاتها؟
أليس في قواعد الشرب وآدابه التي وصفها محمد صلى الله عليه وآله وسلم للشاربين، من النهي عن الشرب واقفاً، والشرب على ثلاث، وغيرها كثير من الأمور التي أثبت الطب الحديث إعجازها، خاصة وقد أمر بها النبي الأمي صلى الله عليه وآله وسلم، الذي لم يصل الطب في زمانه إلى كل هذه المعطيات؟
حتى النوم الذي لا يلتفت الكثير إليه، ولا يهتم به، وضع له الإسلام من القواعد والضوابط والنظم ما أثبت العلم الحديث مدى دقته ومدى خدمته لصحة الإنسان..
لقد وضع الإسلام قواعد صحية رائعة لتنظيم ساعات العمل والنوم ما تزال هي الأمثل بين كل التشريعات الوضعية.. قال تعالى يقرر بعض هذا القواعد:{ وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا (10) وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا (11)} (النبأ)، وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (اللهم بارك لأمتي في بكورها)([87]) .. وغيرها كثير.. وهي كلها مما تؤكد الدراسات العلمية أهميته.. فإحصاءات منظمة الصحة العالمية تذكر كثرة انتشار الأمراض بين فئة العاملين نهاراً.. كما أكدت أن الإنتاج العضلي والفكري للإنسان في ساعات الصباح الباكر تفوق إنتاجه بقية ساعات النهار أو الليل نوعاً وكماً.
وقد أثبت الطب أن النوم على البطن يؤدي إلى تشوهات عضوية وآثار مرضية سيئة على البدن.. وذلك متوافق تماما مع تلك التشريعات الغالية التي شرعها النبي صلى الله عليه وآله وسلم حين نهي عن النوم على البطن، بل عده (ضجعة يبغضها الله ورسوله)([88]).. وعندما أثبت الطب اليوم أن أفضل ضجعة للنوم هي النوم على الجانب الأيمن لم يخرج في ذلك عما دعا إليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم.. مع العلم أن محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لم يدرس التشريح.. بل لم يكن علم التشريح في عهده صلى الله عليه وآله وسلم ليعرف تفصيلات كثيرة في الجسد لم تعرف إلا حديثا، ومع ذلك فإن دعوته صلى الله عليه وآله وسلم تنسجم تماماً مع كل معطيات العلم الحديث.
وهكذا نجد في الشريعة الإسلامية منظومة كاملة تنظم غريزة الجنس، وتضعها في إطار يفجر طاقاتها لمصلحة الجسد لا لتدميره:
لقد دعا النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الزواج المبكر حين قال: (يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء)([89])، ودعا إلى اختيار الزوجة الصحيحة السليمة، فقال: (تخيروا لنطفكم فإن العرق دساس)([90])
ونظم أمور المعاشرة الزوجية، بحيث ضمن سلامة الزوجين من الإصابة بعدد من الأمراض الجنسية، ووضع أسس صحة المرأة وعافيتها، فنهى عن المواقعة قبل المداعبة، ونهى عن إتيان الزوجة في المحيض، وعن الإتيان في غير موضع الحرث مما أثبت الطب الحديث مضاره ومفاسده وما يلحق به من أذى لكل من الزوجين.
وهل ينكر عاقل أو منصف من أطباء ما للانحرافات الجنسية من أثر مفجع في انتشار الأمراض كالزهري والسيلان وغيرها، وهي أمراض يحتمي منها المؤمن المطبق لقوله تعالى:{ وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا (32)} (الإسراء)؟
وهل يجد المسئولون اليوم وسيلة لمكافحة الإيدز (طاعون العصر) أفضل من إدخال التعاليم الدينية في روع الناس وتحذيرهم مغبة الإصابة بهذا الطاعون الجديد؟
أليس في تحريم الخمر و المخدررات في تشريعنا رحمة كبرى لمجتمعنا المسلم عندما نقارنه بما تعانيه المجتمعات الغربية من مشاكل صحية خطيرة أمام قضية الإدمان؟
ألم تؤكد دراسات منظمة الصحة العالمية علاقة التدخين – الذي تقول الشريعة بتحريمه – بانتشار السرطانات علاوة على اشتمال أضراره لكل أجهزة البدن وفي مقدمتها الجهاز العصبي ؟
أليس في تطبيق قوله تعالى:{ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ.. (3) } (المائدة) وقاية للبدن من الإصابة بعدد من الأمراض، منها داء عضال خبيث ينتقل إلى الإنسان بتناول لحم الخنزير، أما الميتة وما تحمل من لحم متفسخ بتأثير الجراثيم فقد يكون فيها المهلكة لآكلها؟
أليس في منع قضاء الحاجة في الطرق – الذي نص عليه قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (اتقوا الملاعن الثلاث: البراز في الموارد وقارعة الطريق والظل)([91]) – تشريع صحي هام لمنع انتشار البلهارسيا والأنكلستوما والزحار وغيرها من الأمراض الطفيلية المهلكة لعضوية بني آدم؟
بالإضافة إلى هذا كله نطق المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم بأول قانون للحجر الصحي لمنع انتشار الأمراض السارية وللوقاية من العدوى فيها، والتي تعتمد أصلاً على عزل المريض عن الصحيح.. قال صلى الله عليه وآله وسلم: (لا يورد ممرض على صحيح)([92]).. وقال: (إذا سمعتم بالطاعون فلا تدخلوها، وإذا وقع بأرض وأنتم فيها فلا تخرجوا منها)([93]).. انظروا لقد نطق النبي الأمي صلى الله عليه وآله وسلم بهذا قبل أن تكتشف (الجراثيم) و(الطفليات) العوامل الممرضة للأوبئة بأكثر من ألف عام.
هذه نماذج فقط على ما جاء به الإسلام من تشريعات تحفظ الصحة.. وتحمي الإنسان من الوقوع في شباك الأمراض مهما كان نوعها.. وتستطيع حضرة الدكتور أن تقرأ الشريعة من أولها إلى آخرها، وأنا أتحداك أن تجد فيها حكما شرعيا واحدا يتنافى مع ما تقرره القواعد الصحية ([94]).
قالوا: حدثتنا عن الأولى.. فحدثنا عن الثانية؟
قال: الثانية هي ما جاء في الشريعة من الدعوة إلى التداوي.. ووضع القوانين الكثيرة التي تحفظ التداوي من السقوط في الخرافة والدجل.
أنتم تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعث في بيئة أمية جاهلة اعتمدت في معالجة مرضاها على الرقى والتمائم، وبالغت في استعمال الكي وتعليق الودع والخرز.
وقد واجه صلى الله عليه وآله وسلم هذا الواقع المنحرف، ووضع القواعد الصحيحة للتداوي، ومنع أو نهى عن التعلق بالأوهام والخرافات..
وأول ذلك إخباره صلى الله عليه وآله وسلم بحصول الشفاء بإذن الله إذا ما وافق الدواء الداء، ففي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (ما أنزل الله داء إلا أنزل له شفاء)([95])
وقال: (تداووا يا عباد الله فإن الله لم يضع داء إلا وضع له شفاء إلا داء واحداً، الهرم)([96])
وقال: (ما خلق الله من داء إلا وجعل له شفاء علمه وجهله من جهله إلا السام، والسام الموت)([97])
ففي هذه الأحاديث إثبات للمداواة، وحث عليها، وتعريف بأنها سبب للشفاء.. وأن الأدوية ليست سوى أسباب خلقها الله وسائل للشفاء، والأخذ بسنة الله في كونه.
وفي قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (علمه من علمه، وجهله من جهله) حث للأطباء المسلمين على البحث والاستقصاء لاكتشاف أدوية للأمراض التي لم يعرف لها بعد دواء ناجع، واستخراج أدوية أفضل من سابقتها.
وفي تأكيد النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن لكل داء دواء تقوية لنفس المريض عندما يستشعر بنفسه وجود دواء لدائه يقوى به رجاؤه وترتفع معنوياته ويذهب توهمه الذي هو عدو آخر بعد المرض.
وقد علق النبي صلى الله عليه وآله وسلم البرء بموافقة الدواء للداء، فللأدوية مقادير معينة تفعل بها يجب ألا تزيد عنها ولا تنقص.. وفي هذا حث للأطباء على زيادة معرفتهم ومهارتهم في الطب وعلومه ليتسنى لهذه المعرفة أن تصيب الداء بالمقدار المناسب من الدواء.
وفوق ذلك، فقد نصت الشريعة على جميع ما يرتبط بالأخلاق الطبية والقوانين التي تحميها..
ومن ذلك أنها أوجبت الضمان على من استغل حاجة الناس للتداوي، فراح يصف له من الأدوية من غير أن يكون له علم بذلك، ففي الحديث قال صلى الله عليه وآله وسلم:(مَنْ تطبَّبَ([98]) ولم يُعْلَم مِنْهُ الطِّبُّ قَبْلَ ذلك، فهو ضَامِنٌ)([99])
فالحديث يدل على أنه لا يحل لأحد أن يتعاطى صناعة من الصناعات وهو لا يحسنها، سواء كان طباً أو غيره، وأن من تجرأ على ذلك، فهو آثم.. وما ترتب على عمله من تلف نفس أو عضو أو نحوهما، فهو ضامن له، وما أخذه من المال في مقابلة تلك الصناعة التي لا يحسنها، فهو مردود على باذله؛ لأنه لم يبذله إلا بتغريره وإيهامه أنه يحسن، فيدخل في الغش.
قالوا: حدثتنا عن الثانية.. فحدثنا عن الثالثة؟
قال: الثالثة هو ما جاء من تشريعات التخفيف على المريض، مراعاة لمرضه.. فلا يتعارض التدين مع المرض، وقد نص على هذا الأصل المهم في الإسلام قوله تعالى:{ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا (7)} (الطلاق)، وقوله تعالى:{ يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا (28)} (النساء)
ونص عليه قوله صلى الله عليه وآله وسلم:(إن الدين يسر ولن يشاد ا لدين أحد إلا غلبه، فسددوا وقاربوا وأبشروا)([100])، وقوله: (إن الله لم يبعثني معنتا ولا متعنتا، ولكن بعثني معلما ميسرا)([101])، وقوله:(إن خير دينكم أيسره، إن خير دينكم أيسره)([102])، وعندما قيل له: يا رسول الله.. أي الأديان أحب إلى الله؟ قال: (الحنيفية السمحة)([103])..
بناء على ذلك نص الفقهاء على أن المريض الذي يعجز عن بعض واجبات الصلاة تسقط عنه.. وإذا كان يعجز عن بعضها فإنه يسقط عنه القدر الذي يعجز عنه.
ونصوا على جواز الصلاة قاعدًا إذا شق عليه الوقوف، لقوله صلى الله عليه وآله وسلم:(صل قائمًا، فإن لم تستطع فقاعدًا، فإن لم تستطع فعلى جنب)
ونصوا على جواز التيمم للمريض الذي يشق عليه التطهر بالماء.
ونصوا على أن المريض الذي يشق عليه الصيام فإنه يجوز له الفطر.
ونصوا على أن من أصيب بمرض لا يرجى برؤه فإنه يفطر ويطعم عن كل يومٍ مسكينًا.
ونصوا على أن الحج بالنفس يسقط عن المريض الذي لا يستطيع الركوب، وله أن يقيم بدله بماله من يحج عنه ويعتمر.
ونصوا على أن المريض الذي لا يستطيع الطواف ماشيًا فله أن يطوف راكبًا أو محمولاً.
ونصوا على أن المريض الذي لا يستطيع تطهير ثيابه يجوز له أن يصلي بها ولو كان عليها شيء من النجاسات.
ونصوا على أن الجهاد لا يجب على الأعمى ولا على الأعرج ولا على المريض لأنهم يعجزون عنه ويشق عليهم.
ونصوا على أنه يجوز للحاج الذي به أذى من رأسه أن يغطيه، ولكن عليه الفدية.
ونصوا على أن المريض لا يقام عليه الحد حتى يبرأ خوفًا من السراية.
ونصوا على أن الحامل لا يقام عليها الحد حتى تضع خوفًا من هلاك الجنين.
ونصوا على جواز إجراء الجراحة الطبية ولو بلا إذن المريض إذا حصل الضيق والحرج وحلت الضرورة ؛ لأن الأمر إذا ضاق اتسع.
ونصوا على سقوط وجوب حضور الجمع والجماعات عن المريض الذي يشق عليه ذلك.
ونصوا على جواز الصلاة لغير القبلة إذا كان في توجيهه إليها حرج وعسر ومشقة وضيق.
ونصوا على أن المغمى عليه لا إثم عليه في إخراج الصلاة عن وقتها، ولكن يجب عليه إذا أفاق أن يصلي ما فاته من الفروض، هذا إذا كانت مدة الإغماء قليلة عرفًا وهي بمقدرة ثلاثة أيام.
وغيرها من الفروع الكثير التي تتيح للمريض أن يمارس حياته التعبدية من غير أي حرج قد يصيبه، أو يصيب مرضه.
قالوا: حدثتنا عن الثالثة.. فحدثنا عن الرابعة
قال: الرابعة هو ما حفلت به النصوص المقدسة من الأدوية التي لم يتأكد من جدواها العالم إلا بعد أن توفر له من الأجهزة والوسائل ما أتاح له ذلك([104]).
ومن ذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم:(الشفاء في ثلاثٍ: في شرطة محجمٍ، أو شربة عسلٍ، أو كيةٍ بنار، وأنا أنهي أمتي عن الكي)([105])
ومنه قوله صلى الله عليه وآله وسلم:(في الحبة السوداء شفاءٌ من كل داءٍ، إلا السام)([106])
ومنه قوله:(إن أمثل ما تداويتم به الحجامة، والقسط البحري)([107])
ومنه قوله:(لا تعذبوا صبيانكم بالغمز([108]) من العذرة([109])، عليكم بالقسط)([110])
ومنه قوله:(الحمى من فيح جهنم، فأبردوها بالماء) ([111])
وعن أسماء بنت عميس أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم سألها: بم تستمشين([112])؟ قالت: بالشبرم([113])، قال: (حارٌ حارٌ) قالت: ثم استمشيت بالسنا فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم:(لو أن شيئاً كان فيه الشفاء من الموت؛ لكان في السنا)([114])
وعن أبي سعيد ، قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: أخي استطلق بطنه فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:(اسقيه عسلاً)، فسقاه، ثم جاء، فقال: سقيته فلن يزده إلا استطلاقاً. فقال له ثلاث مرات، ثم جاء الرابعة، فقال: (اسقيه عسلاً)، فقال: لقد سقيته، فلم يزده إلا استطلاقاً.. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:(صدق الله، وكذب بطن أخيك)، فسقاه، فبرأ([115]).
التفت الرضا إلى الدكتور منجل، وقال: في وسعك – حضرة الدكتور – أن تتأكد من كل ما ورد في هذه النصوص من أنواع الأدوية.. وأنا متأكد تماما أنك لن تجد فيها إلا البراهين القوية القاطعة على أن محمدا رسول الله، وأنه رحمة الله للعالمين.
***
بعد أن تحدث الرضا كل تلك الأحاديث لم نشعر إلا بالدكتور منجل يسرع إلى الطائرة من غير أن ينبس ببنت شفة.. ثم لم نشعر إلا بأصوات محركات الطائرة.. ثم لم تلبث إلا قليلا حتى ارتفعت لتعود من حيث جاءت من غير أن تعالج مريضا واحدا.
كان الناس لا يزالون ملتفين بالرضا، وهم متعجبون مما يحصل أمامهم.. ولعل بعضهم كان متحسرا من فوات فرصة العلاج.
وقد توجه الرضا إلى هذه الجموع قائلا: اطمئنوا – إخواني – فالعلوم التي تحملها هذه الطائرة نملكها نحن، ونملك أضعافها.. ولذلك هلموا لنؤسس مستشفياتنا التي تغنينا عن مستشفياتهم.
قال بعض المرضى: ولكن لهؤلاء من العلوم ما ليس لنا.
قال الرضا: ومن قال لك ذلك.. إن لنا من العلوم ما لهم.. وليس لهم من العلوم ما لنا.
قال المريض: كيف ذلك؟
قال الرضا: لقد ملأنا نبينا تواضعا، فلذلك رحت، وراح معي الكثير من إخواني إلى بلادهم، فاستفدنا من جميع خبراتهم في هذا المجال.
أما هم، فقد قعد بهم كبرهم أن يلتفتوا إلى ما عندنا.
ولذلك فإن لدينا من العلم ما عندهم وما ليس عندهم.. فهلموا معي لتروا المفاجأة.
صاح الجميع مكبرين، وقد صحت معهم من حيث لا أشعر، وقد تنزلت علي
حينها أنوار جديدة اهتديت بها بعد ذلك إلى شمس محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
([1]) هل المنصّرون أولى؟، الشيخ خالد بن عبد الرحمن الشايع، الرسالة، صدرت عن أطباء الحرمين بمناسبة المؤتمر الثالث – رجب 1423هـ.
([2]) انظر: الموسوعة اليهودية للمسيري..
([3]) انظر: الموسوعة اليهودية للمسيري..
([4]) الكلام الذي سنذكره هنا ذكرناه أو ذكرنا قريبا منه في رسالة (معجزات حسية) من هذه السلسلة، وقد قارنا هذه النصوص هناك بمعجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم الحسية المرتبطة بالدعاء، أما هنا فنقارنها برحمة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالمرضى..
([5]) كما في(يوحنا:4/46-54)
([6]) كما في (يوحنا: 5/1-9)
([7]) انظر: (متى:8/5-13)
([8]) أشير به إلى سليل النبوة، ومعدن الرسالة، وينبوع العلم، ثامن خلفاء الرسول صلى الله عليه وآله وسلم الاثنا عشر – حسب مذهب الإمامية – الامام علي بن موسى الرضا – رضوان الله عليهم جميعا –
وقد اخترناه في هذا المحل لرسالة طبيبة طيبة تنسب إليه وقد روي في سبب تأليفه لها أن المأمون أراد معرفة أصول حفظ صحة المزاج، وتدبيره بالأغذية والاشربة والادوية مستقاة من منبعها العذب، فطلب من الامام الرضا بيان ذلك، وكرر الطلب، فكتب اليه هذه الرسالة، فلما وصلت الى المأمون أمر بأن تكتب بماء الذهب.
([9]) ذكرنا في رسالة (معجزات علمية) بعض ما يذكر في هذا الباب من دعاوى، وقد رددنا عليها هناك، ولا نحتاج هنا إلى إعادة طرحها، بل نكتفي ببيان رحمة الإسلام العامة في هذا الباب بغض النظر عن التفاصيل.
([10]) رواه الترمذي، وقال هذا حديث غريب.
([11]) رواه البخاري والترمذي.
([12]) اهتم علماء النفس بتحديد العلاقة بين نفس وجسم الإنسان وتأثير كل منهما على الآخر، وأصبح من المعلوم حاليا أن الكثير من الأمراض الجسمية يمكن أن تصاحبها مضاعفات نفسية أو تكون لها جذور نفسية، فنشأ فرع الأمراض النفس جسمانية Psychosomatic Disorders، قال د. بدر الأنصاري: (يفترض بعض الباحثين أن التشاؤم Pessimism يزيد من احتمالات إصابة الإنسان بالأمراض العضوية مثل السرطان، كما يرتبط التشاؤم بعديد من الاضطرابات النفسية كالاكتئاب واليأس والميل إلى الانتحار والوجدان السلبي والفشل في حل المشكلات والنظرة السلبية إلى صدمات الحياة والشعور بالوحدة وارتفاع معدل النبض ومعدل ضغط الدم الانقباضي Systole، وقد بينت بعض الدراسات التي أجريت على مرضى السرطان وجود علاقة ايجابية بين التشاؤم وسرعة انتشار مرض السرطان (Weismen، Warden & Sobell 1980; Morrow & Fetting 1983; Temoshok et. al، 1985; Diclemente & Temoshok 1985; Peterson & Bossio 1991; Scheier، Weirtraub & Carver، 1986)، وقد يؤدى الشعور باليأس إلى سرعة انتشار السرطان في الجسم) (الشخصية المستهدفة للإصابة بالسرطان) د. بدر محمد الأنصاري قسم علم النفس كلية العلوم الاجتماعية جامعة الكويت 1996م)
وفي المقابل قد يفتح ذلك بابا واسعا لبحوث تؤكد التأثير العضوي للإيمان والخشوع والرضا بالقدر مما قد يفسر ظواهر كالشفاء الذاتي في بعض حالات السرطان، ومن البشائر كشف مركز بالمخ ينشط بالتأمل Meditation المصاحب للعبادة ويعيد الوظائف الجسمية الأساسية إلى حالة الاسترخاء Rest State مؤيدا فطرية الإيمان وتأثيره العضوي. (انظر مقالا بعنوان (الاستشفاء بالقرآن الكريم دراسة علمية ميدانية)، د. محمد دودح، الباحث العلمي بالهيئة العالمية للإعجاز العلمي في القرآن والسـنة برابطة العالم الإسـلامي، مكة المكرمة المملكة العربيـة السـعودية، موقع موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة)
([13]) رجعنا في هذا لمقال مهم بعنوان (الاستشفاء بالقرآن الكريم دراسة علمية ميدانية)، د. محمد دودح، الباحث العلمي بالهيئة العالمية للإعجاز العلمي في القرآن والسـنة برابطة العالم الإسـلامي، مكة المكرمة المملكة العربيـة السـعودية.
([14]) نشرت عدة كتب علمية تبين كيف أن الإيمان بالله فطرة مغروسة في النفس البشرية وتوظيف آلياتها بالعبادة طريق إلى الصحة والسعادة، منها كتاب (الإيمان بالله مغروس بقوة داخل جيناتنا) للمؤلف ديان همر، وكتاب (الإيمان والصحة) لجيف ليفن ولاري دوسي، وكتاب (الإيمان صحة وفلاح) لأندرو بريمان. (انظر المقال المشار إليه سابقا)
([15]) رواه أحمد.
([16]) رواه البخاري، ومسلم، والترمذي، وابن ماجه، وأحمد.
([17]) رواه الترمذي وحسنه.
([18]) رواه أبو داود، وابن ماجه، وأحمد.
([19]) رواه أبو داود، وأحمد.
([20]) بالمعوذات: الإخلاص والفلق والناس، ودخلت سورة الإخلاص معهما تغليبا لما اشتملت عليه من صفة الرب وإن لم يصرح فيها بلفظ التعويذ.
([21]) رواه البخاري ومسلم.
([22]) رواه مسلم.
([23]) رواه البخاري ومسلم.
([24]) من شر ما أجد وأحاذر: من شر ما أجد من وجع وألم، ومن شر ما أحاذر من ذلك، أي: ما أخاف وأحذر.
([25]) رواه مسلم.
([26]) رواه مسلم.
([27]) ذكرنا التفاصيل الكثيرة المرتبطة بهذا في (ابتسامة الأنين)
([28]) أحمد وابن حبان والحاكم.
([29]) الطبراني في الكبير.
([30]) أبو يعلى، وابن عساكر.
([31]) رواه البخاري والترمذي.
([32]) البخاري ومسلم.
([33]) أحمد والترمذي.
([34]) رواه أحمد وأبو داود وأبو يعلى والطبراني في الكبير والأوسط.
([35]) ابن جرير.
([36]) أحمد والبخاري وابن ماجة والترمذي وابن حبان والحاكم.
([37]) رواه البيهقي في شعب الإيمان، والطبراني في المعجم الكبير، وابن سعد في الطبقات.
([38]) رواه أحمد.
([39]) رواه النسائي.
([40]) رواه الطبراني.
([41]) رواه أبو داود في المراسيل ورواه الطبراني والبيهقي وغيرهما عن جماعة من الصحابة مرفوعا متصلا والمرسل أشبه.
([42]) الحاكم.
([43]) الحاكم.
([44]) أحمد والطبراني في الكبير وأبو نعيم.
([45]) أحمد وابن ماجة.
([46]) رواه البخاري ومسلم.
([47]) رواه مسلم.
([48]) رواه أحمد والبزار وابن حبان في صحيحه.
([49]) رواه ابن حبان في صحيحه.
([50]) رواه الترمذي وحسنه وابن ماجه واللفظ له وابن حبان في صحيحه.
([51]) الخريف: العام، كذا فسره أنس بن مالك.
([52]) رواه أبو داود.
([53]) رواه الترمذي، وقال: حديث حسن.
([54]) هذه الرواية لابن ماجه.
([55]) خرافة الجنة: هو اجتناء ثمرها، يقال: خرفت النخلة أخرفها، فشبه ما يحوزه عائد المريض من الثواب بما يحوزه المخترف من الثمر.
([56]) زاد في رواية عن أحمد والطبراني قال أنس: يا رسول الله هذا الأجر للصحيح الذي يعود المريض فما للمريض؟ قال: (تحط عنه ذنوبه)
([57]) رواه ابن ماجه، ورواته ثقات مشهورون إلا أن فيه انقطاعا.
([58]) رواه الطبراني.
([59]) رواه ابن أبي الدنيا.
([60]) رواه أحمد.
([61]) رواه أحمد.
([62]) رواه أبو ليلى.
([63]) رواه مسلم.
([64]) رواه أبو داود.
([65]) رواه أبو يعلى.
([66]) رواه مالك.
([67]) رواه البخاري.
([68]) رواه أبو داود.
([69]) رواه مسلم.
([70]) رواه البخاري في الأدب المفرد.
([71]) رواه البخاري ومسلم.
([72]) رواه مسلم.
([73]) رواه البخاري في الأدب، ورواه أبو داود عن فاطمة الخزاعية قالت: عاد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم امرأة من الأنصار وهي وجعة، فقال لها: (كيف تجدينك ؟) قالت بخير إلا أن أم ملدم قد برحت بي، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:(اصبري، فإنها تذهب خبث ابن آدم، كما يذهب الكير خبث الحديد)
([74]) رواه أحمد، والبخاري، وأبو داود.
([75]) تحدثنا بتفصيل عن هذا الجانب من الطب النبوي في (ابتسامة الأنين)
([76]) رواه البخاري.
([77]) رواه ابن ماجة.
([78]) رواه النسائي.
([79]) رواه الترمذي.
([80]) رواه أحمد بإسناد حسن.
([81]) رواه الترمذي بسند حسن.
([82]) رواه البخاري.
([83]) رواه مسلم.
([84]) رجعنا في هذا لكتابات الدكتور محمد نزار الدقر، ككتاب (روائع الطب الإسلامي)
([85]) رواه البخاري تعليقا مجزوما، والنسائي وابن خزيمة موصولا.
([86]) رواه أحمد والترمذي.
([87]) رواه الترمذي، وقال: حديث حسن.
([88]) رواه أحمد وأبو داود وابن ماجة.
([89]) رواه البخاري ومسلم.
([90]) رواه ابن ماجه.
([91]) رواه أبو داود.
([92]) رواه مسلم.
([93]) رواه البخاري.
([94]) هناك بعض الشبهات المرتبطة بهذا الباب لم نشأ ذكرها هنا مراعاة للاختصار، ولأنها مذكورة بتفصيل في سلسلة (ابتسامة الأنين)
([95]) رواه البخاري.
([96]) رواه أحمد والأربعة وصححه الترمذي.
([97]) رواه ابن ماجة.
([98]) قال صلى الله عليه وآله وسلم:« مَنْ تَطَبَّبَ »، ولم يقل: مَن طَبَّ، لأن لفظ التَّفعل يدل على تكلُّف الشىء والدخول فيه بُعسر وكُلفة، وأنه ليس من أهله، كتَحَلَّم وتشجَّع وتصبَّر ونظائرِها، وكذلك بَنَوْا تكلَّف على هذا الوزن.
([99]) رواه أبو داود، والنسائىُّ، وابن ماجه.
([100]) رواه البخاري.
([101]) رواه مسلم.
([102]) رواه أحمد.
([103]) رواه البخاري في صحيحه تعليقا.
([104]) ذكرنا تفاصيل البراهين العلمية على جدوى ما ذكره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الأدوية في (أدوية من السماء)
([105]) رواه البخاري.
([106]) رواه البخاري ومسلم.
([107]) رواه البخاري ومسلم.
([108]) أن بعصر العذرة، وهي قرحة في الحلق.
([109]) وجع في الحلق يهيج من الدم. وقيل: هي قرحة كانوا يعمدون إلى غمزها فينفجر منه دم أسود.
([110]) رواه البخاري ومسلم.
([111]) رواه البخاري ومسلم.
([112]) أي بأي شيء تطلبين الاسهال.
([113]) نبت يسهل البطن.
([114]) رواه الترمذي، وابن ماجه، وقال الترمذي: هذا حديثٌ حسنٌ غريب.
([115]) رواه البخاري ومسلم.