رابعا ـ الشديد

رابعا ـ الشديد

قلت: عرفت السر الثالث من أسرار الإنسان.. فما السر الرابع؟

قال: إنه السر الذي أشار إليه قوله تعالى :{ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (29)} (الفتح)

وهو السر الذي جعل إبراهيم عليه السلام يقول لقومه :{ أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (67)} (الأنبياء)

وهو السر الذي أمرنا الله أن نتخلق به عندما ننفذ أحكامه فيمن أراد تأديبهم :{ الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (2)} (النور)

وهو السر الذي خاطب الله لأجله نبيه صلى الله عليه وآله وسلم، فقال:{ مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ } (التوبة:113)، وقال:{ اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} (التوبة:80)، وقال:{ وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ (84)} (التوبة)

فهذه الآيات تنهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن ينساق وراء ما تمليه عليه الرحمة التي جبله الله عليها، والتي جعلته يخاف أن ينال أي أحد عذاب الله حتى لو كان كافرا، فلذلك كان يستغفر الله لهم ويصلي عليهم إلى أن نهي عن ذلك.

قلت: إن ما ذكرت من النصوص المقدسة يشير إلى الشدة.

قال: فهذا هو السر السادس من أسرار الإنسان.. فلا يكمل الإنسان إلا بتوجيه شدته توجيها صحيحا يتناسب مع الوظيفة التي كلف بها.

قلت: ولكن الذي أعلمه هو أن الإنسان لا يكمل إلا بقمع شدته.

قال: لا يصلح الإنسان بالقمع.. القمع كبت.. والكبت يقهر به الإنسان، ولا يكمل.. وينزل به الإنسان ولا يصعد.

قلت: فكيف يوجه الإنسان شدته لتسير في الطريق الصحيح.

قال: لهذا قصة.. سأحكيها لك.. ومن خلالها تكتشف الطريق.. أو أمارات الطريق.

قلت: يسرني ذلك..

قال: في ذلك اليوم، وبعد أن من الله علي، فعرفت ما ذكرته لك من أسرار في تلك المدينة العجيبة – التي فتح الله لي فيها من علوم الإنسان ما كان منغلقا – سرت، كما تعودت، على غير هدى، إلى أن وجدت رجلا غليظا شديدا، له صوت جهوري قوي، وعضلات مفتولة، وطول فارع..

كان يتكلم إلى نفر من الناس امتلأوا ضعفا حتى لو أن الريح أرادت أن تحملهم لحملتهم.

في البداية.. وعندما رأيته – من بعيد – يتكلم بتلك الشدة والغلظة خلته ظالما مستبدا يفرغ قوته في ضعفهم، وجبروته في لطفهم.. لكني عندما اقتربت منه عن كثب.. وعندما سمعت حديثه إليهم ارتفع عني ذلك الوهم، بل صرت أراه كما أرى الأولياء والقديسين.

كان اسم الرجل كما علمت بعد ذلك هو (نوح)([1]).. وقد تذكرت بمجرد أن رأيته نوحا u ذلك النبي الكريم الذي لم يفتر لحظة من دعاء قومه وخطابه لهم بكل صنوف الخطاب.

قلت: لقد شوقتني إلى حديثه.. فما الذي كان يقول لهم؟

قال: لقد كان يدعوهم إلى الخروج من الشرانق التي نسجوها لأنفسهم، أو نسجها لهم ضعفهم.. وكان يطالبهم بتكسير القيود التي قيدهم بها استبداد ملوك أهوائهم أو أهواء ملوكهم.. وكان ينفخ فيهم من الشجاعة ما يدعوهم إلى أخذ قرارات حاسمة بشأن الحياة التي يعيشونها، والتي كانت لا تختلف عن حياة الجعلان والخنافس.

قلت: فما الذي أجابوه إليه؟

قال: في البداية جابهوه بما جابه به قوم نوح نبيهم.. ولكنهم – وبعد إلحاحه الشديد – صاروا كقوم يونس u.. أولئك الذين ذكرهم الله تعالى فقال :{ فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (98)} (يونس)

بل ذكر الله عددهم، فقال :{ وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (147) فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (148)} (الصافات)

قلت: فهل اكتفى بوعدهم له؟

قال: أصحاب الشدة والبأس لا يكتفون بالوعود.

قلت: فهل أخذ عليهم المواثيق الشديدة؟.. أو هل كلفهم بأن يقسموا له بالأيمان المغلظة؟

قال: أنت تعلم أن كل ذلك لا يكفي.

قلت: فما الذي يكفي إذا لم تكف الأيمان المغلظة؟

قال: إعادة صياغة الإنسان لتنسجم مع الأسرار التي أودعت فيه.

قلت: في أي معمل تتم هذه الصياغة؟

قال: إعادة الصياغة تكون في المدارس المؤسسة على هدي الأنبياء.

قلت: فقد دعاهم إلى الدخول إلى مدرسته إذن.

قال: بل دعاهم إلى مدرسة من مدارس الأنبياء كان اسمها (مدرسة الشدة الإيمانية)

قلت: فهل ساروا معه إليها؟

قال: أجل.. وقد سرت معهم.. وتشرفت بأن أتتلمذ وأتدرب معهم على دروسها وتداريبها.

قلت: فحدثني عن ذلك.. فما أجمل أحاديث مدارس الإيمان.

قال: لم تكن تلك المدرسة كسائر المدارس في شكلها العام.. لقد كانت أشبه بالصحراء.. بل هي أشبه بالتيه منها بالمدرسة.. وكان المعلمون فيها هم الواحات التي استظللنا بها في فترة تيههنا.. ولولا العلوم التي علمونا إياها والتداريب التي دربونا عليها لبقينا في تلك الصحراء، ولم نخرج منها.

قلت: ما أعجب ما تذكره عن هذه المدرسة.. هل قعدت بصاحبها الفاقة عن أن يبنيها ويحسن بناءها؟

قال: لا.. لقد ذكر ما أمر الله ببني إسرائيل  من السكون في التيه، فراح يطبق ذلك على أولئك المستضعفين.. فلا يمكن أن يصلح المستضعفين إلا التيه.

قلت: لم؟

قال: لقد ركن الإسرائيليون إلى ضعفهم.. ولم يستجيبوا لنبيهم الحريص عليهم.. فلذلك أمروا أن يتيهوا في الأرض.. ويكتسبوا في ذلك التيه من القوة والإرادة ما يستطيعون به دخول الأرض المقدسة التي جبنوا عن الدخول إليها..

لقد ذكر الله تعالى ذلك، فقال :{ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (20) يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (21) قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ (22) قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (23) قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ (24) قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (25) قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (26)} (المائدة)

قلت: فهل مكثت معهم في تيههم أربعين سنة؟

قال: لا.. لقد اكتفوا بأربعين يوما.. واكتفيت معهم بذلك بفضل الله ومنته.

قلت: فكيف أجزتم لأنفسكم أن تحولوا من أربعين سنة أربعين يوما؟

قال: لقد ذكر الله أن ليلة واحدة يمكنها أن تعدل ألف شهر.. وقد من الله علينا في ذلك التيه.. فعدل كل يوم منها سنة من سنين بني إسرائيل.

قلت: لا أزال لا أفهم.

قال: هل يتساوى الناس في بقائهم في المستشفيات؟

قلت: لا.. بل يختلفون.

قال: لم؟

قلت: يختلفون بحسب شدة المرض، وضعفه.. وبحسب أنواع الأمراض.

قال: ولذلك فقد من الله علينا.. فخلصنا قبل دخولنا المدرسة من كثير من الأمراض التي كان تئن من وطأتها قلوب بني إسرائيل.

1 ـ الشجاعة

قلت: وعيت هذا.. فحدثني عن أول أساتذتكم في هذه المدرسة.. وما الذي تعلمتم منه؟

قال: لقد كان أول أستاذ لنا في تلك المدرسة رجل ممتلئ  نورا وقوة.. وقد كان أشبه الناس في صفاته بحمزة بن عبد المطلب ذلك الصديق الولي صاحب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعمه.. وقد كان الجميع يطلقون عليه لذلك حمزة..

قلت: فقد تعلمتم على يديه علوم الشجاعة إذن؟

قال: أجل.. فلا يعلم الشجاعة إلا الشجعان.

قلت: فحدثني عما تعلمتم على يديه.

قال: لا يمكن إحصاء ذلك في هذا المجلس.. ولذلك سأكتفي بأول درس تلقيناه منه.. وفيه كثير مما يغنيك.

قلت: فحدثني عنه.

قال: عندما دخلنا عليه مجلسه في ذلك التيه.. خاطبنا بقوله: لن تتخلصوا من هذه المتاهة إلا بالشجاعة.. فلا يمكن للجبان أن يخرج من تيه نفسه، ولا من تيه الصحراء.

قلنا: فما الطريق إلى ذلك؟

قال: أول الطريق إلى ذلك التأسي بالشجعان، وتقمص شخصياتهم..

قال رجل منا: أنت تطلب منا أن نقرأ سيرة عنترة إذن.

قال: لا.. سيرة عنترة سيرة تختلط فيها الحقيقة بالخرافة.. ولا يمكن للخرافة أن تصلح أحدا.

قال آخر: فأين نجد سير الشجعان إذن؟

قال: في القرآن الكريم.

تعجبنا من قوله هذا، فقال: لا تتعجبوا.. ففي القرآن خبر كل شيء..

قلنا: فحدثنا عن الشجعان الذين ذكرهم القرآن الكريم.

قال: لا يمكن إحصاء ذلك.. ولذلك سأكتفي لكم بسبعة نماذج.. كل واحد منهم مدرسة من مدارس الشجاعة، وأستاذ من أساتذتها([2])..

قلنا: فحدثنا عن أولهم.

قال: أولهم إبراهيم u.. ذلك النبي الكريم الذي وردت قصته في مواضع من القرآن الكريم.. فإبراهيم u فيها جميعا كان بطل التوحيد مقابل عبدة الأصنام من قومه الّذين كانوا يعيشون التعصّب واللجاجة والخشونة.

إن القرآن الكريم يذكر – بأسلوبه الفريد المؤثر- كيف تصدّى هذا النبي العظيم لأقوى سلطة في تلك الفترة لوحده ومن دون أن يكون له ناصر من قومه، في مقابل كثرة الأعداء الغاضبين، والذين كانوا يمثلون خطراً عليه، حيث كانوا يتمتعون بدعم الحكومة والسلطة في ذلك الزمان.

وقد ذكر الله تعالى السر الأول في تلك الشجاعة، وهو ما أوتيه إبراهيم u من مؤهّلات كثيرة منحته القدرة على تحمّل تلك المسؤولية العظيمة، والاستفادة مما أوتيه من مواهب وقابليات لتقوية دعائم الإيمان والتوحيد والتصدّي للعامل الأساس في شقاء البشرية، عبادة الأصنام والأوثان.. قال تعالى يذكر ذلك:{ وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ (51)} (الأنبياء)

وقد ذكر الله تعالى بعد هذه الآية الكريمة المظهر الأول من مظاهر شجاعته.. وهو شجاعة الكلمة.. قال تعالى:{ إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ (52) قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ (53) قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (54) قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ (55) قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (56)} (الأنبياء)

ثم ذكر الله تعالى بعد هذا مظهرا آخر من مظاهر الشجاعة، وهو شجاعة الفعل والتنفيذ، قال تعالى :{ وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (57) فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (58)} (الأنبياء)

وهكذا ترجم إبراهيم u قوله في ميدان العمل بعد أن استغلّ الفرصة المناسبة لذلك، فكسّر الأصنام جميعها إلاّ الصنم الأكبر لعلّهم يثوبون إلى رُشدهم أو يرجعون الى الصنم الاكبر المسبب لهذه الحادثة ليسألوه.

ثم ذكر الله تعالى بعد هذا مظهرا آخر من مظاهر الشجاعة، وهو شجاعة الثبات على الموقف واستثماره إلى آخر اللحظات، قال تعالى :{ قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (59) قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ (60) قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (61) قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ (62) قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ (63) فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (64) ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ (65) قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ (66) أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (67)} (الأنبياء)

ثم ذكر الله تعالى نصره لأوليائه الذين هانت أرواحهم في سبيله، قال تعالى:{ قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (68) قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ (69) وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ (70)} (الأنبياء)

والقرآن الكريم يذكر موقفا آخر من مواقف شجاعة إبراهيم u.. وهو قد يكون أشد من الأول وأعظم منه.. إنه حواره مع الملك، قال تعالى :{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (258)} (البقرة)

تصوروا لو أن إبراهيم u كان صاحب قلب جبان ضعيف.. هل كان يمكنه أن يبقى له من العقل ما يستطيع أن يخاطب به ملكا ظالما مستبدا؟

قلنا: عرفنا الأول.. فحدثنا عن الثاني.

قال: هو موسى u.. فهو بجميع مواقفه نموذج، بل مدرسة من مدارس الشجاعة الكبرى.. ابتداء من أول رسالته إلى منتهاها، بل ابتداء من أول حياته إلى منتهاها..

اسمحوا لي أن أستعرض لكم بعض ما ورد في شأن شجاعته، وتأثيرها في حياته، بل في حياة أمة من الناس..

وسأنقل لكم ذلك من القرآن الكريم.. كتاب الحقائق والسلوك..

لقد قدم القرآن الكريم لحكاية موسى u ومواقفه الشجاعة بقوله :{ نَتْلُوا عَلَيْكَ مِن نَّبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (3) إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4) وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ (6)} (القصص)

وفي ذلك إشارة جليلة إلى أن المستضعفين لا يمكنهم أن يخرجوا من ضعفهم ما لم يتسلحوا بسلاح الشجاعة التي تتحدى كل الصعاب..

ثم ذكر الله موقفا شجاعا لأمه ما كان لها أن تقفه لو لم تتسلح بسلاح الإيمان، قال تعالى: { وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (7) فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ (8) وَقَالَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ قُرَّةُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (9) وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَن رَّبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (10)} (القصص)

ثم ذكر موقفا شجاعا لأخته.. وهي تتقصى في وسط تلك الظروف الصعبة عن أخيها المهدد بالقتل، قال تعالى:{ وَقَالَتْ لأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَن جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (11)} (القصص)

ثم ذكر موقفا شجاعا آخر لأمه، وهي تتقدم مع جملة النسوة من غير أن تخاف أن يفطن لها، قال تعالى :{ وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِن قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ (12) فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (13)} (القصص)

وفي كل هذه الإشارات السابقة دليل على أن الأمة تحتاج إلى الشجاعة بجميع أفرادها من غير أن تستغني عن أحد منهم.

ثم ذكر تعالى موقفا شجاعا لموسى u، وهو يقوم بنصرة المستضعف، قال تعالى :{ وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِّنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هَذَا مِن شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ (15)} (القصص)

ثم ذكر موقفا شجاعا آخر له في نفس المحل، ومع نفس الشخص، من غير أن يثنيه ما قد حصل له قبل ذلك معه، قال تعالى :{ فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنصَرَهُ بِالأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُّبِينٌ (18) فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَن يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَّهُمَا قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالأَمْسِ إِن تُرِيدُ إِلاَّ أَن تَكُونَ جَبَّارًا فِي الأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَن تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ (19)} (القصص)

ثم ذكر موقفا شجاعا آخر له، وهو يخرج من البلد الذي خاف على نفسه فيه.. وهكذا الشجاع، فهو مع شجاعته يعرف متى يقدم ومتى يفر، قال تعالى :{ وَجَاء رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (20) فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (21)} (القصص)

وهكذا تتسلسل المواقف الشجاعة لموسى u في مدين إلى أن قدر الله أن يكلف بالرسالة، وقد حصل له في بداية الرسالة من التدريب ما يزيد شجاعته شجاعة وقوته وقوة.. فالرسالة التي يكلف بها لا يتحملها الضعفاء، قال تعالى :{ فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِن جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَّعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (29) فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي مِن شَاطِئِ الْوَادِي الأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَن يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (30) وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الآمِنِينَ (31) اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاء مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِن رَّبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (32)} (القصص)

ثم تتجلى الشجاعة بصورتها الكبرى في مواجهة أكبر طاغية ومستبد عرفه العالم في ذلك الزمان وفي كثير من الأزمنة ذلك الذي ادعى الربوبية.. وقف أمامه موسى u بشجاعة يخاطبه ويدعوه إلى ربه، ويجيبه عن كل التساؤلات التي يطرحها، قال تعالى :{ فَأْتِيَاهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكَ وَالسَّلامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى (47) إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَن كَذَّبَ وَتَوَلَّى (48) قَالَ فَمَن رَّبُّكُمَا يَا مُوسَى (49) قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (50) قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى (51) قَالَ عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لاَّ يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى (52) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّن نَّبَاتٍ شَتَّى (53) كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي النُّهَى (54) مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى (55)} (طه)

ثم يرسم القرآن الكريم صورة أخرى من صور شجاعة موسى u وهو يواجه السحرة، قال تعالى :{ قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَن تُلْقِيَ وَإِمَّا أَن نَّكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى (65) قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى (66) فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُّوسَى (67) قُلْنَا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ الأَعْلَى (68) وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى (69)} (طه)

ثم ذكر الله موقفا آخر من مواقف شجاعته، وهو في ذلك الموقف الصعب الذي وقف فيه حيث كان البحر أمامه والعدو وراءه.. في ذلك الحين تداركه إيمانه، فأنقذه، قال تعالى :{ فَأَتْبَعُوهُم مُّشْرِقِينَ (60) فَلَمَّا تَرَاءى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ (62) فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (63) وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الآخَرِينَ (64) وَأَنجَيْنَا مُوسَى وَمَن مَّعَهُ أَجْمَعِينَ (65) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآخَرِينَ (66)} (الشعراء)

وهكذا.. لو تأملتم حياة موسى u حسبما يورده القرآن تجدونه بطلا من الأبطال الكبار.. وشجاعا من الشجعان العظام.. وتجدون أنه لو لم يتخلق بهذا الخلق العظيم لما أمكنه أن يقوم بتلك المنجزات التي وفقه الله للقيام بها.

قلنا: وعينا هذا.. فحدثنا عن النموذج الثالث.

قال: النموذج الثالث ذكره القرآن في سياق إيراده لقصة موسى u.. إنهم السحرة..

لقد ذكر القرآن ماضي السحرة المملوء بالخنوع والذلة، فقال :{ فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ (38) وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنتُم مُّجْتَمِعُونَ (39) لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِن كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ (40) فَلَمَّا جَاء السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لأَجْرًا إِن كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (41) قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَّمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (42) قَالَ لَهُم مُّوسَى أَلْقُوا مَا أَنتُم مُّلْقُونَ (43) فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ (44)} (الشعراء)

ثم ذكر كيف تحولوا بفعل الإيمان إلى أبطال شجاع لم يستطع فرعون بكل ما أتي من وسائل الاستبداد أن يثنيهم عن الإيمان الذي زين الله قلوبهم به، قال تعالى :{ فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى (70) قَالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلأقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلافٍ وَلأصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى (71) قَالُوا لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (72) إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (73) إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيى (74) وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى (75) جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاء مَن تَزَكَّى (76)} (طه)

إن هذا الموقف يبرهن برهانا صادقا على أن الإيمان هو الشجرة المباركة التي تنبت كل أصناف ثمار الخير الطيبة.

قلنا: وعينا هذا.. فحدثنا عن النموذج الرابع.

قال: لقد ذكره الله تعالى في سرده لقصة طالوت وجنوده الشجعان، قال تعالى :{ فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُواْ مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ قَالُواْ لاَ طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُوا اللَّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249) وَلَمَّا بَرَزُواْ لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُواْ رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (250) فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاء وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (251)} (البقرة)

فهذه الآيات الكريمة نموذج للحاكم الشجاع الذي يعرف كيف ينتقي جنده.. وفيها دليل على أن الجبناء هم السبب الأكبر في كل هزيمة.. وفيها دليل على أن مزود الشجاعة الأكبر هو الإيمان بالله والثقة به والاعتماد عليه.. وفيها دليل على أن المرء لا يكون شجاعا إلا إذا أمسك نفسه عن شهواته، فأول الشجاعة القدرة على قهر النفس والتحكم فيها.

قلنا: وعينا هذا.. فحدثنا عن النموذج الخامس.

قال: لقد ذكره الله تعالى عند عرضه لقصة الرسل الذين أرسلهم الله لتك القرية الجاحدة التي لم يكفها لا رسول ولا رسولان، بل احتاجوا إلى أن يعززوا بثالث، قال تعالى :{ وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلاً أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءهَا الْمُرْسَلُونَ (13) إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُم مُّرْسَلُونَ (14) قَالُوا مَا أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا وَمَا أَنزَلَ الرَّحْمن مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ (15) قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (16) وَمَا عَلَيْنَا إِلاَّ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ (17) قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِن لَّمْ تَنتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (18) قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِن ذُكِّرْتُم بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ (19) وَجَاء مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) اتَّبِعُوا مَن لاَّ يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُم مُّهْتَدُونَ (21) وَمَا لِي لاَ أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22) أَأَتَّخِذُ مِن دُونِهِ آلِهَةً إِن يُرِدْنِ الرَّحْمَن بِضُرٍّ لاَّ تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلاَ يُنقِذُونِ (23) إِنِّي إِذًا لَّفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ (24) إِنِّي آمَنتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (25) قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (27) وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِن بَعْدِهِ مِنْ جُندٍ مِّنَ السَّمَاء وَمَا كُنَّا مُنزِلِينَ (28) إِن كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ (29)} (يس)

قلنا: وعينا هذا.. فحدثنا عن النموذج السادس.

قال: لقد ذكره الله تعالى عند عرضه لقصة ذلك الرجل المؤمن الذي كان يعيش في بلاط فرعون بكل ما فيه من ألوان المنعة والمتعة.. وكان الرجل مؤمنا.. وكان في إمكانه أن يظل كاتما لإيمانه.. ولكنه آثر أن يتحدى فرعون وزبانيته، ويصرح بالحق الذي كان يكتمه عندما رأى المصلحة في ذلك التصريح.. قال تعالى يذكر هذا الموقف، ويذكر حمايته لصاحبه :{ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ (23) إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (24) فَلَمَّا جَاءهُم بِالْحَقِّ مِنْ عِندِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاء الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءهُمْ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (25) وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ (26) وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُم مِّن كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لاَّ يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ (27) وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءكُم بِالْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ وَإِن يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِن يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُم بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (28) يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الأَرْضِ فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ (29) وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُم مِّثْلَ يَوْمِ الأَحْزَابِ (30) مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِّلْعِبَادِ (31) وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ (32) يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُم مِّنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (33) وَلَقَدْ جَاءكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِّمَّا جَاءكُم بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَن يَبْعَثَ اللَّهُ مِن بَعْدِهِ رَسُولاً كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُّرْتَابٌ (34) الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ وَعِندَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ (35) وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَّعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلاَّ فِي تَبَابٍ (37) وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ (38) يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ (39) مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ (40) وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (41) تَدْعُونَنِي لأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ (42) لا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلا فِي الآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ (43) فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (44) فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ (45)} (غافر)

قلنا: وعينا هذا.. فحدثنا عن النموذج السابع.

قال: لقد مثل هذا النموذج صحابة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المنتجبين.. فقد ذكر القرآن هذا الموقف الشجاع من مواقفهم ليكون عبرة للأجيال، قال تعالى :{ وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا (22) } (الأحزاب)

ثم أثنى الله عليهم بسبب هذا الموقف الشجاع، فقال:{ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً (23) لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِن شَاء أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا (24)} (الأحزاب)

وتظهر عظمة هذا الموقف عندما نقارنه بتلك المواقف الجبانة التي وصف الله أهلها، ووصف معها الموقف الشديد الذي امتحنوا به، فقال:{ إِذْ جَاؤُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيدًا (11) وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُورًا (12) وَإِذْ قَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَارًا (13) وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِم مِّنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلاَّ يَسِيرًا (14) وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِن قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُولاً (15) قُل لَّن يَنفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِن فَرَرْتُم مِّنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لاَّ تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (16) قُلْ مَن ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُم مِّنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلا يَجِدُونَ لَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا (17) قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنكُمْ وَالْقَائِلِينَ لإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً (18) أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاء الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُم بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُوْلَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (19) يَحْسَبُونَ الأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِن يَأْتِ الأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُم بَادُونَ فِي الأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُم مَّا قَاتَلُوا إِلاَّ قَلِيلاً (20)} (الأحزاب) 

وفي محل آخر ذكر القرآن الكريم المواقف الشجاعة لهذه الثلة المؤمنة، وقارنهم بغيرهم من ضعاف النفوس أولئك الذين قذف الشيطان في قلوبهم الرعب، قال تعالى :{ وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (166) وَلْيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُواْ وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ قَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُواْ قَالُواْ لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ (167) الَّذِينَ قَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُواْ لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَؤُوا عَنْ أَنفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (168) وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (170) يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (171) الَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِلّهِ وَالرَّسُولِ مِن بَعْدِ مَآ أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ وَاتَّقَواْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (172) الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174) إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (175)} (آل عمران)

وفي هذه الآية دليل آخر على أن الشجاعة بنت طيبة للإيمان.. وأن الجبن ابن خسيس للشيطان.. فالشيطان هو الذي يقذف المخافة في القلوب الممتلئة بالجبن..

وفي موضع آخر يذكر القرآن الكريم السر الذي جعل المؤمنين يقدمون في جميع غزواتهم ولا يحجمون ولا يتزحزحون مهما كانت قوة العدو، قال تعالى :{ قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُواْ إِنَّا مَعَكُم مُّتَرَبِّصُونَ (52)} (التوبة)

إن هذه الآية الكريمة تشير إلى أن شجاعة أصحاب النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم تنطلق من موقع الإيمان بالله تعالى، حيث أنّ هؤلاء المؤمنين يرون أنفسهم في ميدان الحرب على مفترق طريقين، وكليهما يؤدّيان بهما إلى الجنّة ورضا الله تعالى:  طريق يؤدي إلى الشهادة، وبالتالي إلى السعادة العظمى في الحياة الآخرة، والآخر يقودهم إلى النصر على العدو، وهو أيضاً مبعث الفخر والاعتزاز لهم في الدنيا والآخرة، في حين أنّ العدو محكوم بالهزيمة والخسران بأيّة حال، فإما الموت الذليل والمهين في هذه الدنيا، أو عذاب الله في الآخرة.

وبديهي أنّ الشخص الّذي يعيش هذه الرؤية سوف لن يدع أيّ خوف وضعف يتسرّب إلى قلبه، وبذلك يتخلّص من هذه الرذيلة الأخلاقية الكبيرة.

***

بعد أن مكثنا مدة في صحبة حمزة نتعلم على يديه علوم الشجاعة، ونتدرب بما تقتضيه من أنواع التدريب، أمرنا أن نسير في المتاهة لنلقى الواحة الثانية التي تعلمنا فيها علوم القناعة..

2 ـ القناعة

قلت: فمن كان أستاذكم فيها؟

قال: رجل من أهل الله امتلأ قناعة وزهدا وورعا وعلما.

قلت: شوقتني إليه، فمن هو؟

قال: لقد سمعتهم يسمونه (ابن الحاج البَلْفِيقي)([3])

قلت: لم أسمع بهذا الاسم من قبل.

قال: فاسمع به.. فما أكثر ما أتحف الله به هذه الأمة من العلماء والأولياء ممن عرفهم الناس، وممن لم يعرفوهم.

قلت: فحدثني عما تعلمتم على يديه.

قال: لقد تعلمنا على يديه الكثير.. كان أول ما قال لنا عندما قابلناه في تلك الواحة الجميلة من واحات الإيمان:

إذا أظمأتْكَ أكفُّ اللِّئامِ

   كَفَتْكَ القناعةُ شِبعاً ورِيّا

فكن رجلاً رجله في الثرى

   وهامة همْتهِ في الثُّريّا

أبيّاً لنائلِ ذي ثروةٍ

   تراه بما في يديه أبيّا

ثم قال لنا: لا يمكن أن يشتد عود الإنسان ما لم يرزقه الله بالقناعة التي تدفع عنه ألم الحاجة، وترفع عنه ذل السؤال.. فالقنوع هو المتحرر من كل القيود التي تثقل كواهل المستضعفين.

قلنا: إن قولك هذا يحتاج إلى البراهين التي تؤيده.

قال: ما تقولون في الأسد.. هل هو قوي شديد.. أم ضعيف لين؟

قلنا: لاشك في قوته وشدته وبطشه.. بل لا يخالف في ذلك أحد.

قال: ولكن المسكين.. وتحت وطأة الطمع يتحول إلى بهلوان يضحك الناس، ولا يخيفهم.

قلنا: صدقت.. فما المخرج من ذلك؟

قال: لا يخرج الذليل من ذله إلا القناعة بما آتاه الله من فضله.. فمن طمع وقع([4]).

قلنا: فما القناعة؟

قال: هي تلك التي أثنى الله على أهلها خير الثناء، فقال :{ لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (273)} (البقرة)

ودعا إلى التمسك بها، فقال :{ وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً (6)} (النساء)

قلنا: فما منزلتها من الدين؟

قال: لقد ذكر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذلك، فقال: (طوبى لمن هدي إلى الإسلام، وكان عيشه كفافا وقنع)([5]

وقال: (قد أفلح من أسلم، ورزق كفافا، وقنّعه اللّه بما آتاه)([6]

قلنا: فما أثرها.. وما قيمتها؟

قال: لقد ذكر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذلك، فقال: (كن ورعا تكن أعبد النّاس، وكن قنعا تكن أشكر النّاس، وأحبّ للنّاس ما تحبّ لنفسك تكن مؤمنا، وأحسن جوار من جاورك تكن مسلما، وأقلّ الضّحك، فإنّ كثرة الضّحك تميت القلب)([7]

وقال: (إنّ أغبط أوليائي عندي لمؤمن خفيف الحاذ([8]) ذو حظّ من الصّلاة، أحسن عبادة ربّه وأطاعه في السّرّ، وكان غامضا في النّاس، لا يشار إليه بالأصابع، وكان رزقه كفافا، فصبر على ذلك)، ثمّ نفض بيده، فقال: (عجّلت منيّته، قلّت بواكيه، قلّ تراثه)([9]

قلنا: فما السبيل إليها؟

قال: لقد ذكر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذلك، فقال: (انظروا إلى من أسفل منكم، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم. فهو أجدر أن لا تزدروا نعمة اللّه)([10]

وكان صلى الله عليه وآله وسلم يدعو، فيقول: (اللّهمّ قنّعني بما رزقتني، وبارك لي فيه، واخلف على كلّ غائبة لي بخير)([11]

وحدث حكيم بن حزام قال: سألت رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم فأعطاني، ثمّ سألته فأعطاني، ثمّ سألته فأعطاني، ثمّ قال: (يا حكيم، إن هذا المال خضرة حلوة، فمن أخذه بسخاوة نفس بورك له فيه، ومن أخذه بإشراف نفس لم يبارك له فيه، كالّذي يأكل ولا يشبع. اليد العليا خير من اليد السفلى). قال حكيم: فقلت: يا رسول اللّه، والّذي بعثك بالحقّ لا أرزأ أحدا بعدك شيئا حتّى أفارق الدّنيا([12]).

قال رجل منا: ولكن النفس تحب الغنى.

التفت إليه، وقال:(ليس الغنى عن كثرة العرض، ولكنّ الغنى غنى النّفس)([13]

قال آخر: ولكن الشريعة لم تحرم الغنى ولا كثرة المال.

التفت إليه، وقال:(ما طلعت شمس قطّ إلّا وبجنبتيها ملكان، إنّهما يسمعان أهل الأرض إلّا الثّقلين: أيّها النّاس، هلمّوا إلى ربّكم، فإنّ ما قلّ وكفى خير ممّا كثر وألهى، وما غربت شمس قطّ إلّا وبجنبتيها ملكان يناديان: اللّهمّ عجّل لمنفق خلفا وعجّل لممسك تلفا)([14]

***

بقينا على ذلك مدة نسأله، فلا يجيبنا إلا بكتاب ربنا وسنة نبينا.. ثم دربنا بما يرتبط بالقناعة من أنواع التداريب.. ثم أمرنا بالسير للبحث عن واحة أخرى من واحات الشدة الإيمانية.. لا يمكن أن تتحق الشدة الإيمانية من دونها.

3 ـ العزة

قلت: فمن كان أستاذها؟

قال: رجل امتلأ عزة ورفعة وشدة مع كونه في ظاهره من أفقر الناس وأهونهم مقاما.. وقد سمعتهم يطلقون عليه لقب (زيد بن علي)([15])  تشبيها له بذلك الشامخ الذي وقف بعزة الإيمان في وجه المستبدين الظالمين من أصحاب الملك العضوض إلى أن استشهد في سبيل الله.

قلت: فحدثني عن حديثكم معه.

انتفض رجل منا غاضبا، وقال: كيف تعتبر العزة من أخلاق الإيمان، وقد أخبر الله تعالى أنها من أخلاق الجاهلين، فقال حاكيا عن السحرة قبل إيمانهم :{ فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ (44)} (الشعراء)

وقال مخبرا عن الجاهلين الذين تعززوا بأصنامهم :{ الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ العِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعًا (139)} (النساء)

وقال مخبرا عن الذي أخذته الحمية الآثمة :{ وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ (206)} (البقرة)

وقال مخبرا عن الكفار في موقفهم من ربهم ومن أنبيائهم :{ وَاتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِّيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (81)} (مريم)، وقال :{ بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ (2)} (ص)

قال ربعي: إن الله تعالى فيما ذكرت من الآيات لم يعتب على العزة نفسها، وإنما عتب على من تعزز بغير عزيز.. فأهان نفسه بذلك.. ولذلك، فإن من تعزز بالله.. فإن الله يعزه ولا يذله..

ألم تسمع إلى قوله تعالى:{.. وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ (8)} (المنافقون)

قال آخر: كيف تجمع بين الآية التي ذكرتها وبين قوله تعالى:{ مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا..(10)} (فاطر)؟

قال زيد: لا تنافي بين الآيتين؛ لأنّ العزّ الّذي هو للرّسول صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين هو في الحقيقة ملك للّه ومخلوق له، وعزّه سبحانه هو المصدر لكلّ عزّ، ومن ثمّ يكون عزّ الرّسول صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين مستمدّ من عزّ اللّه تعالى.. وعلى هذا فالعزّ كلّه للّه، والعزّة الّتي عند الإنسان لا تكون فضيلة محمودة إلّا إذا استظلّت بظلّ اللّه، واحتمت بحماه.

***

بقينا مدة في صحبة زيد يعلمنا العزة وأسرارها وآدابها، ويدربنا على ما تقتضيه من الصفات.. وبعد أن رأى أهليتنا لهذا السر أمرنا بأن نسير لنبحث عن واحة أخرى من واحات الشدة الإيمانية.

4 ـ الغيرة

قلت: فمن كان شيخكم في الواحة الرابعة؟

قال: رجل من علماء هذه الأمة وصالحيها، قدم من لبنان، ومن جبله الشامخ جبل عامل..

قلت: ما أكثر العلماء من العامليين.. فمن هو منهم.

قال: سمعتهم يطلقون عليه اسم (بهاء الدين العاملي)([16]).. ولست أدري هل كان ذلك هو اسمه الحقيقي أم أنه هو عينه ذلك العالم الجليل من علماء الإسلام.

قلت: فحدثني عن خبركم معه، والعلوم التي تعلمتومها على يديه.

قال: لقد وفقنا الله، فتعلمنا على يديه العلوم التي تملؤنا بالغيرة.. وقد تعجبنا كثيرا عندما أخبرنا أنه أستاذ الغيرة في تلك الواحة.. بل إن بعضنا انتفض غاضبا، وقال: بئس الأستاذ أنت.. وبئس ما تدرب عليه تلاميذك.

وقد أجابه بهاء الدين بكل هدوء: لم يا بني تقول لي هذا؟

قال الرجل: لأن الغيرة لا تنتج إلا شرا.. ولا تنبع إلا من شر.

قال العاملي: تلك هي الغيرة السلبية التي يمقتها الله..

قال الرجل: أهناك غيرة إيجابية؟

قال العاملي: أجل.. وقد جمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بينهما، فقال: (إنّ من الغيرة ما يحبّ اللّه- عزّ وجلّ- ومنها ما يبغض اللّه- عزّ وجلّ- ومن الخيلاء ما يحبّ اللّه- عزّ وجلّ- ومنها ما يبغض اللّه- عزّ وجلّ- فأمّا الغيرة الّتي يحبّ اللّه- عزّ وجلّ- فالغيرة في الرّيبة. وأمّا الغيرة الّتي يبغض اللّه- عزّ وجلّ- فالغيرة في غير ريبة.. والاختيال الّذي يحبّ اللّه- عزّ وجلّ- اختيال الرّجل بنفسه عند القتال وعند الصّدقة. والاختيال الّذي يبغض اللّه- عزّ وجلّ- الخيلاء في الباطل)([17]

قلنا: فما السبيل إليها؟

قال: من امتلأ قلبه بحب مولاه سرت إليه من صفاته ما تطيقه ذاته.. ومن تلك الصفات الغيرة.. وقد عبر عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال:(إنّ اللّه (تعالى) يغار وغيرة اللّه أن يأتي المؤمن ما حرّم اللّه عليه)([18])

وقال:( لا شيء أغير من اللّه)([19]

وقال: (المؤمن يغار. واللّه أشدّ غيرا([20]))([21]

وقال:( ما من أحد أغير من اللّه، من أجل ذلك حرّم الفواحش، وما أحد أحبّ إليه المدح من اللّه)([22]

وقال: (يا أمّة محمّد! إن من أحد أغير من اللّه([23]) أن يزني عبده أو تزني أمته. يا أمّة محمّد واللّه لو تعلمون ما أعلم لبكيتم كثيرا ولضحكتم قليلا. ألا هل بلّغت)([24]

وفي الحديث عن سعد بن عبادة قال: لو رأيت رجلا مع امرأتي لضربته بالسّيف غير مصفح([25]) فبلغ ذلك رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: (تعجبون من غيرة سعد، واللّه لأنا أغير منه، واللّه أغير منّي، ومن أجل غيرة اللّه حرّم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ولا أحد أحبّ إليه العذر من اللّه([26])، ومن أجل ذلك بعث المبشّرين والمنذرين، ولا أحد أحبّ إليه المدحة من اللّه، ومن أجل ذلك وعد اللّه الجنّة)([27]

***

بقينا مدة في صحبة بهاء الدين يعلمنا الغيرة وأسرارها وآدابها، ويدربنا على ما تقتضيه من الصفات.. وبعد أن رأى أهليتنا لهذا السر أمرنا بأن نسير لنبحث عن واحة أخرى من واحات الشدة الإيمانية.

5 ـ الشهامة

قلت: فمن كان شيخكم في الواحة الخامسة من واحات الشدة الإيمانية؟ وما تعلمتم على يديه؟

قال: لقد كان شيخنا فيها رجل لم يرتض لنفسه إلا العلياء، ولم تناطح همته غير الجوزاء، وقد كان يطلق عليه في تلك الواحة (النابغة الجعدي)([28])

قلت: أذلك الذي قال:

بلغنا السّماء مجدنا وجدودنا   وإنّا لنبغي فوق ذلك مظهرا

فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم : (الى أين المظهر يا أبا ليلى ؟ قال: قلت: الى الجنة قال: (كذلك ان شاء الله)([29]

قال: لست أدري هل هو بعينه حضر من زمنه البعيد إلى تلك الواحة، أو أنه مجرد اسم سمي به شيخ تلك الواحة.

قلت: فما الذي تعلمتم على يديه؟

قال: لقد علمنا ودربنا على الشهامة([30])ورفع الهمة والبعد عن السفاسف.

قلت: فأخبرني عن حديثكم معه.

قال: عندما دخلنا عليه واحته الفيحاء سمعناه ينشد قائلا: 

يقولون لي فيك انقباض وإنّما

   رأوا رجلا عن موقف الذّلّ أحجما

أرى النّاس من داناهم هان عندهم

   ومن أكرمته عزّة النّفس أكرما

ولم أقض حقّ العلم إن كان كلّما

   بدا طمع صيّرته لي سلّما

وما كلّ برق لاح لي يستفزّني

   ولا كلّ من لاقيت أرضاه منعما

إذا قيل هذا منهل قلت قد أرى

   ولكنّ نفس الحرّ تحتمل الظّما

أنهنهها عن بعض ما لا يشينها

   مخافة أقوال العدا فيم أو لما؟

ولم أبتذل في خدمة العلم مهجتي

   لأخدم من لاقيت، ولكن لأخدما

أأشقى به غرسا وأجنيه ذلّة

   إذن فاتّباع الجهل قد كان أحزما

ولو أنّ أهل العلم صانوه صانهم

   ولو عظّموه في النّفوس لعظّما

ولكن أهانوه فهان ودنّسوا

   محيّاه بالأطماع حتّى تجهّما

وعندما جلسنا إليه، وسألناه عنه قال لنا:

(أنا الذي) ([31]) ما أهويت كفّي لريبة

   ولا حملتني نحو فاحشة رجلي

ولا قادني سمعي ولا بصري لها

   ولا دلّني رأيي عليها ولا عقلي

ولست بماش ما حييت لمنكر

   من الأمر لا يمشي إلى مثله مثلي

ولا مؤثر نفسي على ذي قرابة

   وأوثر ضيفي ما أقام على أهلي

وأعلم أنّي لم تصبني مصيبة

   من الدّهر إلّا قد أصابت فتى مثلي

ثم التفت إلى بعضنا يخاطبه بقوله: كان لي شيخ ورع زاهد عرضت عليه الدنيا بقضها وقضيضها، فرفضها، وقد كان مما أوصاني به قوله: (كن – بني- إبراهيمياً فقد قال أبوك إبراهيم – صلوات الله عليه وسلامه – :{ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ (76)} (الأنعام)، وكل ما سوى الله آفل إما وجوداً وإما إمكاناً.. وقد قال سبحانه :{ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ..(78)} (الحج)

ومن ملة إبراهيم رفع الهمة عن الخلق، فإنه يوم زج به في المنجنيق تعرض له جبريل – عليه السلام – فقال: ألك حاجة؟ فقال: أما إليك فلا، وأما إلى الله فبلى، قال: فأسئله، قال: حسبي من سؤالي عمله بحالي.

فانظر كيف رفع إبراهيم – صلوات الله وسلامه عليه – همته عن الخلق ووجهها إلى الملك الحق، فلم يستغث بجبريل، ولا احتال على السؤال من الله، بل رأى الحق سبحانه أقرب إليه من جبريل ومن سؤله، فلذلك سلمه من نمروذ ونكاله، وأنعم عليه بنواله وأفضاله، وخصه بوجود إقباله.

ومن ملة إبراهيم معاداة كل ما شغل عن الله وصرف الهمة بالود إلى الله لقوله تعالى :{ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ (77)} (الشعراء)

قال ذلك، ثم أطرق طويلا، فقلنا له منبهين: نحن قوم قذفنا التيه إليك.. فدلنا على مخرج من المخارج.

قال: مخرجي هو الشهامة.. ورفع الهمة.. فلا يمكن أن يخرج من تيه نفسه.. ولا من تيه الصحراء.. ولا من تيه التخلف من قعدت به همته عن السير.

قلنا: فحدثنا عنها، ودربنا عليها.

قال: حسبكم من الحديث عنها ما حدث به معلم الإنسانية.. فقد روي عنه فيها آثار جليلة من تأملها رفع همته إلى أعلى الأعالي، فلم يأسره شيء، ولم يستطع تقييده أحد.

قلنا: فحدثنا.

قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يحثنا على رفع الهمة: (إنّ اللّه تعالى يحبّ معالي الأمور، وأشرافها، ويكره سفسافها([32])([33]

وعن أنس قال: كان النّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أحسن النّاس وأجود النّاس وأشجع النّاس، ولقد فزع أهل المدينة، ذات ليلة فانطلق النّاس قبل الصّوت فاستقبلهم النّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قد سبق النّاس إلى الصّوت وهو يقول: (لم تراعوا، لم تراعوا)([34]) وهو على فرس لأبي طلحة عري ما عليه سرج، في عنقه سيف، فقال: لقد وجدته بحرا([35])، أو إنّه لبحر)([36])

قلنا: وعينا هذا.. فحدثنا عن السبيل إليها.

قال: السبيل إليها هو الاقتداء بأصحاب الهمم العالية.

قلنا: فحدثنا عنهم.

قال: حدث سليمان بن بلال أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم لمّا خرج إلى بدر أراد سعد بن خيثمة وأبوه جميعا الخروج معه، فذكر ذلك للنّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، فأمر أن يخرج أحدهما، فاستهما، فقال خيثمة بن الحارث لابنه سعد: إنّه لابدّ لأحدنا من أن يقيم، فأقم مع نسائك، فقال سعد: لو كان غير الجنّة لاثرتك به، إنّي أرجو الشّهادة في وجهي هذا، فاستهما، فخرج سهم سعد، فخرج مع رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم إلى بدر، فقتله عمرو بن عبد ودّ… الحديث([37]).

وعن سعد قال: رأيت أخي عمير بن أبي وقّاص قبل أن يعرضنا رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم يوم بدر يتوارى، فقلت: ما لك يا أخي؟، قال: إنّي أخاف أن يراني رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم فيستصغرني فيردّني، وأنا أحبّ الخروج لعلّ اللّه أن يرزقني الشّهادة، قال: فعرض على رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم فردّه، فبكى فأجازه، فكان سعد يقول: فكنت أعقد حمائل سيفه من صغره فقتل وهو ابن ستّ عشرة سنة([38]).

***

بقينا مدة في صحبة النابغة الجعدي يحدثنا عن الشهامة، وعن أخبار من تحلوا بها.. وعندما رأى أسرارها تلوح علينا أذن لنا في أن نسير في ذلك التيه بحثا عن شيخ آخر وخلق آخر من أخلاق الشدة الإيمانية.

6 ـ المروءة

قلت: فمن كان شيخكم في الواحة السادسة من واحات الشدة الإيمانية؟ وما تعلمتم على يديه؟

قال: لقد كان شيخنا فيها رجل قوي جلد ذو همة وعلم، وكان يقال له (قيس بن سعد)([39]

قلت: ما أشرف من تعلمتم على يديه.. فما علمكم؟

قال: لقد علمنا المروءة.

قلت: ما أشرف ما تعلمتم على يديه.. فحدثني عن خبركم معه.

قال: عندما دخلنا عليه واحته رأيناه يقف بجانب بعض النمل يطعمهم ويتعهدهم.. فاحترنا في موقفه هذا، بل إن بعضنا قال لنا يخاطبنا: هلم بنا نبحث عن واحة أخرى.. فلا شك أننا لن نجد في هذه الواحة طلبتنا.

التفت إليه قيس، وقال: رويدك يا بني.. فإنك لن تقطع هذا التيه ما لم تمر على هذه الواحة.. ولن يؤذن لك في واحة أخرى ما لم تمر علينا لتتعلم على أيدينا.

ضحك الرجل، وقال: وماذا أتعلم على أيديكم.. أأتعلم إطعام النمل.. إن وقتنا أعظم من أن يضيعه في مثل هذا؟

قال قيس: فما تقول فيما أخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه (بينما رجل يمشي بطريق، اشتدّ عليه العطش، فوجد بئرا فنزل فيها فشرب، ثمّ خرج فإذا كلب يلهث يأكل الثّرى من العطش، فقال الرّجل: لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الّذي كان بلغ بي، فنزل البئر فملأ خفّه ماء ثمّ أمسكه بفيه، فسقى الكلب فشكر اللّه له. فغفر له) قالوا: يا رسول اللّه! وإنّ لنا في البهائم أجرا؟ فقال: (في كلّ ذات كبد رطبة أجر([40])([41]

وما تقول فيما أخبر صلى الله عليه وآله وسلم من أنه بينما كلب يطيف([42]) بركيّة([43]) كاد يقتله العطش. إذ رأته بغيّ من بغايا بني إسرائيل. فنزعت موقها([44])، فسقته، فغفر لها به)([45]) ؟

قال قيس ذلك، ثم رمى ما بيده من طعام إلى النمل، وقال: إني لأرجو الله منذ سكنت هذه الواحة أن لا أحرم أحدا من خير أطيفه حيوانا كان أو إنسانا..

قال رجل منا: إن ما تفعله هو المروءة عينها.

قال قيس: ولذلك، فإن أهل هذا التيه اعتبروني شيخ المروءة.. وهم لا يدلون أحدا على المخرج من هذا التيه ما لم يمر على واحتي، ويتعلم علوم المروءة على يدي.. ويتدرب على ما تقتضيه من السلوك.

قلنا: فحدثنا عن المروءة.. ما حقيقتها؟

قال: قيس: المروءة هي مراعاة الأحوال إلى أن تكون على أفضلها، حتّى لا يظهر منها قبيح عن قصد، ولا يتوجّه إليها ذمّ باستحقاق([46]).. أو هي قوّة للنّفس تكون مبدأ لصدور الأفعال الجميلة عنها المستتبعة للمدح شرعا وعقلا([47]).. أو هي آداب نفسانيّة، تحمل مراعاتها الإنسان على الوقوف عند محاسن الأخلاق وجميل العادات.

قلنا: فما سر شرفها؟

قال قيس: هي شريفة لأنها الصفة التي يفارق بها الإنسان الحيوان البهيم، والشّيطان الرّجيم.. ذلك أن في النّفس ثلاثة دواع متجاذبة: داع يدعوها إلى الاتّصاف بأخلاق الشّيطان، من الكبر، والحسد والعلوّ والبغي، والشّرّ والأذى، والفساد والغشّ.. وداع يدعوها إلى أخلاق الحيوان، وهو داعي الشّهوة.. وداع يدعوها إلى أخلاق الملك، من الإحسان، والنّصح، والبرّ، والطّاعة، والعلم.

والمروءة لا تكون إلا ببغض الدّاعيين الأوّلين وإجابة الدّاعي الثّالث.. ولهذا قيل في حدّها: (إنّها غلبة العقل للشّهوة)، ونقل عن الفقهاء قولهم: (حدّ المروءة: استعمال ما يجمّل العبد ويزينه، وترك ما يدنّسه ويشينه، سواء تعلّق ذلك به وحده أو تعدّاه إلى غيره)([48])  

قلنا: إن هذا يجعل المروءة تدخل كل باب، وتقتحم حرم كل لطيفة.

قال قيس: أجل.. ولذلك ذكروا أن مروءة كلّ شيء بحسبه: فمروءة اللّسان: حلاوته وطيبه ولينه.. ومروءة الخلق: سعته وبسطه للحبيب والبغيض.. ومروءة المال: الإصابة ببذله مواقعه المحمودة عقلا وعرفا وشرعا.. ومروءة الجاه: بذله للمحتاج إليه.. ومروءة الإحسان والبذل: تعجيله وتيسيره، وتوفيره وعدم رؤيته حال وقوعه، ونسيانه بعد وقوعه..

قلنا: وعينا هذا.. فحدثنا عن درجات المروءة، فلا نحسب أن الناس متساوين فيها.

قال قيس: للمروءة ثلاث درجات:

أولاها: مروءة المرء مع نفسه، وهي أن يحملها قسرا على فعل ما يجمّل ويزين، وترك ما يقبّح ويشين، ليصير لها ملكة في العلانية، ولا يفعل خاليا ما يستحي من فعله في الملإ، إلّا مالا يحظره الشّرع والعقل.

الثّانية: مروءة المرء مع الخلق، بأن يستعمل معهم شروط الأدب والحياء، والخلق الجميل، ولا يظهر لهم ما يكرهه هو من غيره لنفسه.

الثّالثة: المروءة مع الحقّ سبحانه، ويكون ذلك بالاستحياء من نظره إليك، واطّلاعه عليك في كلّ لحظة ونفس، وإصلاح عيوب النفس جهد الإمكان فإنّه قد اشتراها منك، وأنت ساع في تسليم المبيع، وليس من المروءة تسليمه معيبا([49]).

قال رجل منا: فما شروط المروءة التي لا تتحقق من دونها؟

قال قيس: أن يتعفّف المرء عن الحرام.. وينصف في الحكم.. و يكفّ عن الظّلم.. وألّا يطمع فيما لا يستحقّ.. وألّا يعين قويّا على ضعيف.. وألّا يؤثر دنيّ الأفعال علي شريفها.. وألّا يسرّ ما يعقبه الوزر والإثم.. وألّا يفعل ما يقبّح الاسم والذّكر.

قال آخر: فهل لما تذكره من خصال المروءة من أدلة تدعمها؟

قال قيس: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :(كرم المؤمن دينه، ومروءته عقله، وحسبه خلقه)([50]

وقال: (إنّ اللّه- عزّ وجلّ- كريم يحبّ الكرماء ويحبّ معالي الأمور، ويكره سفسافها)([51])  

وقال: (السّاعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل اللّه وكالقائم لا يفتر، وكالصّائم لا يفطر)([52])

وسئل النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أيّ العمل أفضل؟ قال: (إيمان باللّه، وجهاد في سبيله). قلت: فأيّ الرّقاب أفضل؟ قال: (أعلاها ثمنا، وأنفسها عند أهلها): قلت: فإن لم أفعل؟ قال: (تعين صانعا، أو تصنع لأخرق). قال: فإن لم أفعل؟ قال: (تدع النّاس من الشّرّ، فإنّها صدقة تصدّق بها على نفسك)([53]

***

بقينا مدة في صحبة قيس بن سعد يحدثنا عن المروءة، وعن أخبار من تحلوا بها.. وعندما رأى أسرارها تلوح علينا أذن لنا في أن نسير في ذلك التيه بحثا عن شيخ آخر، وخلق آخر من أخلاق الشدة الإيمانية.

7 ـ الثبات

قلت: فمن كان شيخكم في الواحة السابعة من واحات الشدة الإيمانية؟ وما تعلمتم على يديه؟

قال: لقد كان شيخنا فيها رجلا امتلأ علما وصلاحا، حتى صار وكأنه شجرة راسخة لا يزحزحها شيء تؤتي ثمارها كل حين بإذن ربها.. وقد كان الجميع يطلقون عليه (مرتضى مطهري)([54]

قلت: فما تعلمتم على يديه؟

قال: لقد علمنا علوم الثبات..

قلت: فأخبرني عن خبركم معه.

قال: عندما مثلنا بين يديه في واحته الفيحاء وجدناه مطأطئا رأسه إلى الأرض، وقد رسم عليها صورة قلب.. ثم ملأه بأنواع كثيرة من العيدان.. فتعجبنا من صنعه هذا، وسألناه عن سر القلب والعيدان التي تنغرز فيه، فقال: لقد أخبرنا صلى الله عليه وآله وسلم أن هذا هو حال قلب ابن آدم إذا لم يثبت في مواجهة أنواع الفتن التي تتربص به.. قال صلى الله عليه وآله وسلم: (عرضت الفتن على القلوب كالحصير عوداً عوداً، فأي قلب أشربها نكت فيه نكتة سوداء، وأي قلب أنكرها نكت فيه نكتة بيضاء، حتى يصير على قلبين، على أبيض مثل الصفا، فلا تضره فتنة ما دامت السموات والأرض، والآخر أسود مربداً كالكوز مجخياً لا يعرف معروفاً، ولا ينكر منكراً إلا ما أشرب من هواه)([55]

قلنا: فما النجاة من ذلك؟

قال: لقد أخبر صلى الله عليه وآله وسلم عن ذلك، فقال: (بادروا الأعمال فتناً كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمناً،ويمسي كافراً، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً يبيع دينه بعرض من الدنيا)([56]

وعن عبد الله بن عمرو قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في سفر فنزلنا منزلا، فمنّا من يصلح خباء،ه ومنا من يتنضل، ومنّا من هو في جشرة، إذ نادى منادي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الصلاة جامعة فاجتمعنا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: (إنّه لم يكن نبي قبلي إلا كان حقاً عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم، وينذرهم شر ما يعلمه لهم، وإنّ أمتّكم هذه جعل عافيتها في أولها وسيصيب آخرها بلاء وأمور تنكرونها وتجيء فتنة، يرقق بعضها بعضاً، وتجيء الفتنه فيقول المؤمن هذه مهلكتي، ثم تنكشف، وتجيء الفتنة فيقول المؤمن: هذه.. هذه، فمن أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتأته منيته وهو يؤمن بالله وباليوم الآخر)([57]

وعن الإمام علي قال: (جعلت في هذه الأمة خمس فتن: فتنة عامة ثم فتنة خاصة ثم فتنة عامة ثم فتنة خاصة ثم تأتي الفتنة العمياء الصماء المطبقة التي تصير الناس فيها كالأنعام)([58])

قلنا: فهل هذه العيدان التي تنغرز في القلوب من جنس واحد؟

قال: كلا.. بل هي متنوعة بنتوع طينة ابن آدم ورغباته.

قلنا: فهلا ذكرت لنا منها ما ما نتحصن من شره.

قال: من ذلك فتنة المال التي ذكرها الله، فقال :{ وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ } (الأنفال:28)، وقال :{ إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ } (التغابن:15)

وقد ضرب الله نموذجا لهذه الفتنة، فقال :{ وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) فَلَمَّا آتَاهُم مِّن فَضْلِهِ بَخِلُواْ بِهِ وَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ (76) فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُواْ اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ (77)} (التوبة)

وبين السنة العامة لذلك، فقال :{ فَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِّنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (49) قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَمَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ (50) فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلاء سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُم بِمُعْجِزِينَ (51)} (الزمر)

وفي الحديث قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : (إن لكل أمة فتنة، وفتنة أمتي المال)([59]

قلنا: فما غيرها؟

قال: فتنة الجاه والمنصب.. وهي الفتنة التي أشار إليها قوله تعالى :{ وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا (28)} (الكهف)

وقد جمع صلى الله عليه وآله وسلم بين هذه الفتنة وبين التي قبلها، فقال: (ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه)([60])، أي أن حرص المرء على المال والشرف أشد فساداً للدّين من الذئبين الجائعين للغنم.

قلنا: فما غيرها؟

قال: فتنة الطاعة للزوجة والولد والأهل في معصية الله.. وهي التي أشار إليها قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (فتنة الرجل في أهله وماله ونفسه)([61])، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (الولد مجبنة مبخلة محزنة)([62])

وأشار إليها قبل ذلك قوله تعالى :{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِن تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (14) إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (15)} (التغابن)، وقد روي في سبب نزول الآيات عن ابن عباس أن رجلا سأله عن هذه الآية؟ فقال: (هؤلاء رجال أسلموا من أهل مكة فأرادوا أن يأتوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأبى أزواجهم وأولادهم أن يدعوهم أن يأتوا رسول الله، فلما أتوا رسول الله ورأوا الناس قد فقهوا في الدين همّوا أن يعاقبوهم، فأنزل الله :{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِن تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (14)} (التغابن)([63]

وأخبر تعالى عن أسباب معصية قوم نوح لنبيهم، فقال :{ قَالَ نُوحٌ رَّبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَن لَّمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلاَّ خَسَارًا (21)} (نوح)

قلنا: فما غيرها؟

قال: فتنة الاضطهاد والطغيان والظلم.. وهي التي أشار إليها قوله تعالى :{ قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ (4) النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ (5) إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ (6) وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7) وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (9) إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ (10)} (البروج)

وفي الحديث عن خباب بن الأرت قال : شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو متوسد بردة في ظل الكعبة، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: ( قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض فيجعل فيها فيجاء بالمنشار، فيوضع على رأسه فيجعل نصفين ويمشط بأمشاط الحديد، من دون لحمه وعظمه، فما يصده ذلك عن دينه)([64])

ولهذا أخبر تعالى أن الصالحين من عباده كانوا يستعيذون بالله من شر هذا النوع من الفتن، قال تعالى :{ وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ (84) فَقَالُواْ عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (85)} (يونس)، وقال :{ فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنتَ وَمَن مَّعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (28) وَقُل رَّبِّ أَنزِلْنِي مُنزَلاً مُّبَارَكًا وَأَنتَ خَيْرُ الْمُنزِلِينَ (29)} (المؤمنون)، وقال :{ فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (21)} (القصص)، وقال:{ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (11)} (التحريم)

قلنا: فما غيرها؟

قال: فتنة مواجهة الظالمين ومجاهدتهم في الله.. وهي التي أشار إليها قوله تعالى :{ إذ يوحي إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي في قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ } (الأنفال:12)، وقوله :{ إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ } (الأنفال:11)، وقوله :{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ } (محمد:7)

وضرب الأمثلة عن أهلها.. ومنهم الفئة الصابرة التي كانت تحت إمرة طالوت، قال تعالى يحكي قصتهم:{ وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (248) فَلَمَّا فَصَلَ طالُوتُ بِالْجُنُودِ قالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَلَمَّا جاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قالُوا لا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249) وَلَمَّا بَرَزُوا لِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالُوا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (250) فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ وَآتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ وَلَوْ لا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ (251)} (البقرة)

ولهذا ورد التشديد في حرمة الفرار من الزحف، وقد كان من الوصايا التي أوصى بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم معاذا بن جبل قوله: (إياك والفرار من الزحف وإن هلك الناس، وإذا أصاب الناس موتان، وأنت فيهم فاثبت)([65]

قلنا: فما غيرها؟

قال: فتنة مواجهة الكسل الصارف عن طاعة الله.. ولذلك كان من أهم علامات الإيمان الثّبات على المداومة على الطاعات، وقد ورد في الحديث قوله صلى الله عليه وآله وسلم : (من ثابر على ثنتي عشرة ركعة من السنة بنى الله له بيتًا في الجنة)([66])، وقال صلى الله عليه وآله وسلم : (أحب العمل الله ما داوم عليه صاحبه)([67]).. وحين سئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أي العمل أحب إلى الله؟ قال: (أدومه وإن قلّ، وكان آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم إذا عملوا عملاً أثبتوه)([68]

***

بقينا مدة في صحبة ابن قتيبة يعلمنا أنواع الفتن، وكيفية مواجهتها إلى أن توسم فينا أهليتنا للتخرج على يديه..

وقد شاء الله أننا ما فارقنا واحته حتى قابلنا العمران، ورأينا الناس.. وقد رأينا الحياة بصورة أخرى غير الصورة التي كنا نراها بها.

وقد رأيت فوق ذلك من أصحابي من القوة والنشاط ما جعلهم يتخلصون من ضعفهم، ويترفعون إلى المقامات العالية التي دعاهم إليها ولي الله (نوح)


([1]) اخترناه هنا لما ورد في القرآن الكريم من الإشارة إلى شدته، كقوله في الدعاء على قومه:{ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (26)} (نوح)

([2]) رجعنا في هذه المواضع إلى (نفحات القرآن) للشيرازي، ومثله لكتابه (الأخلاق في القرآن)

([3]) أشير به إلى محمد بن محمد بن إبراهيم بن محمد السُّلَمي، أبو البركات ابن الحاج البَلْفِيقي (حدود 680 ـ 771 هـ)، قال ابن خلدون: كان شيخ المحدّثين والفقهاء والاَُدباء والصوفيّة والخطباء بالاَندلس. أخذ عنه: ابن خلدون، والحضرمي، وأبو زكريا السرّاج، ولسان الدين ابن الخطيب. وصنّف كتباً، منها: أسماء الكتب والتعريف بموَلفيها، العلن في أنباء أبناء الزمن، الاِفصاح فيمن عرف بالاَندلس بالصلاح، مشتبهات مصطلحات العلوم، سلوة الخاطر، قد يكبو الجواد في غلطة أربعين من النقاد، وديوان شعره سماه: العذب والاَُجاج. (انظر: شجرة النور الزكية 229 برقم 824) وقد اخترناه هنا لأجل الأبيات التي ذكرناها في متن الرواية.

([4]) تحدثنا بالتفصيل عن القناعة وأسبابها وكيفية التحقق بها في رسالة (كنوز الفقراء)، فلذلك نكتفي هنا بمختصر عنها.

([5]) رواه الترمذي واللفظ له، وقال: هذا حديث حسن صحيح. والحاكم وقال: صحيح على شرط مسلم ووافقه الذهبي.

([6]) رواه مسلم.

([7]) رواه ابن ماجة. والبيهقي في الزهد الكبير. وعند الترمذي بنحوه.

([8]) قال ابن الأثير: الحاذ في الأصل بطن الفخذ، وقيل: هو الظهر، والمراد في الحديث: الخفيف الظهر من العيال، القليل المال، القليل الحظ من الدنيا. جامع الأصول (10/ 138)

([9]) رواه الترمذي واللفظ له وقال: هذا حديث حسن..

([10]) رواه البخاري ومسلم.

([11]) رواه الحاكم وقال: حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.

([12]) رواه البخاري ومسلم.

([13]) رواه البخاري ومسلم.

([14]) رواه ابن السني في القناعة، والحاكم واللفظ له، وقال صحيح الإسناد ووافقه الذهبي.

([15]) أشير به إلى زيد بن علي بن الحسين صاحب الثورة المعروفة ضد الظلم والطغيان، وقد  روى الصدوق في [ الأمالي ] بسنده عن حمزة بن حمران قال :  دخلت إلى الصادق جعفر بن محمد فقال لي : يا حمزة من أين اقبلت ؟ قلت من الكوفة. فبكى حتى بلّت دموعه لحيته. فقلت : يا ابن رسول الله مالك أكثرت البكاء ؟ فقال ذكرت عمّي زيداً وما صنع به فبكيت. فقلت له : وما الذي ذكرت منه ؟ فقال : ذكرت مقتله وقد أصاب جبينه سهم ، فجاءه ابنه يحيى فانكبّ عليه وقال له : أبشر يا أبتاه فانّك ترد على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعلي وفاطمة والحسن والحسين صلوات الله عليهم ؟ قال أجل يا بنيّ ثم دعا بحدّاد فنزع السهم من جبينه فكانت نفسه معه فجيء به إلى صاقية تجري عند بستان زائدة ، فحفر فيها ودفن , أجري عليه الماء. وكان معهم غلام سندي لبعضهم فذهب إلى يوسف بن عمر من الغد فأخبره بدفنهم إيّاه فأخرجه يوسف بن عمر فصلبه في الكنّاسة أربع سنين ثم أمر به فاُحرق بالنار وذرِّي في الرياح ، فلعن الله قاتله وخاذله وإلى الله جلّ اسمه اشكو ما نزل بنا أهل بيت نبيه بعد موته وبه نستعين على عدوّنا وهو خير مستعان)  [ بحار الأنوار ج 46 / 172 ]

([16]) أشير به إلى العلامة بهاء الدين العاملي ( 953 ـ 1030 هـ)، قال عنه المحبّي الحنفي: كان أُمة مستقلة في الاَخذ بأطراف العلوم والتضلّع بدقائق الفنون، وما أظن الزمان سمح بمثله ولا جاد بندّه، وبالجملة فلم تتشنّف الاَسماع بأعجب من أخباره.

ولد ببعلبك، وانتقل به أبوه إلى إيران بعد استشهاد زين الدين العاملي (سنة 966 هـ) فأقام معه في قزوين، وتلمّذ عليه في علوم العربية والفقه والاَُصول والحديث والتفسير إلى أن غادرها أبوه إلى هراة، فواصل هو دراسته فيها. مهر في العلوم الشرعية، وبرع في الرياضيات والهندسة والفلك، وصنّف بعض الكتب في عنفوان شبابه، ونظم الشعر.

صنّف ما يزيد على سبعين كتاباً ورسالة منها: الحبل المتين في إحكام أحكام الدين، الجامع العباسي في الفقه، رسالة في المواريث، رسالة في ذبائح أهل الكتاب، رسالة في الصلاة، رسالة في الحج، رسالة في القصر والتخيير في السفر، رسالتان كرّيتان، حاشية على (مختلف الشيعة إلى أحكام الشريعة) للعلاّمة الحلي، الاثنى عشريات الخمس في الطهارة والصلاة والزكاة والصوم والحج، مشرق الشمسين وإكسير السعادتين لم يتم، جمع فيه آيات الاَحكام وشرحها والاَحاديث الصحاح وشرحها، زبدة الاَُصول، حاشية على شرح العضدي على مختصر الاَُصول، الفوائد الصمدية في النحو، خلاصة الحساب، رسالة في حل إشكال عطارد والقمر، العروة الوثقى في التفسير، حاشية على (أنوار التنزيل) للبيضاوي، حاشية على رجال النجاشي، الكشكول، وديوان شعره بالعربية والفارسية.. (انظر: أعيان الشيعة: 9/234)

([17]) رواه أحمد وأبو داود والنسائي.

([18]) رواه البخاري ومسلم.

([19]) رواه البخاري ومسلم.

([20]) واللّه أشد غيرا (هكذا بفتح الغين وإسكان الياء، منصوب بالألف) وهو الغيرة.

([21]) رواه مسلم.

([22]) رواه البخاري ومسلم.

([23]) إن من أحد أغير من اللّه: إن نافية بمعنى ما.

([24]) رواه البخاري ومسلم.

([25]) غير مصفح هو بكسر الفاء، أي غير ضارب بصفح السيف، وهو جانبه، بل أضربه بحده.

([26]) ولا أحد أحب إليه العذر من اللّه: أي ليس أحد أحب إليه الإعذار من اللّه تعالى، فالعذر بمعني الإعذار والإنذار، قبل أخذهم بالعقوبة، ولهذا بعث اللّه المرسلين.

([27]) رواه البخاري ومسلم.

([28]) أشير به إلى النابغة الجعدي (ت50 هـ) وهو قيس بن عبد الله بن عدس بن ربيعة الجعدي العامري، أبو ليلى: شاعر مفلق، صحابي من المعمرين.. اشتهر في الجاهلية.. وسمي (النابغة) لانه أقام ثلاثين سنة لا يقوم الشعر ثم نبغ فقاله. وكان ممن هجر الاوثان، ونهى عن الخمر، قبل ظهور الاسلام.. ووفد على النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأسلم، وأدرك صفين، فشهدها مع علي.. ثم سكن الكوفة، ثم أصبهان، ومات فيها وقد كف بصره، وجاوز المئة. وأخباره كثيرة، وجمعت المستشرقة مارية نلينو ما وجدت من متفرق شعره، في ديوان مع ترجمة إلى الايطالية وتحقيقات. (الأعلام للزركلي)

([29]) رواه الحافظ السلفي، وعن أبي أمامة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال للنابغة إذ أنشده قصيدته: (لا يفضض الله فاك)، فما سقطت سن. (رواه البيهقي)، وفي رواية فكان أحسن الناس ثغرا إذا سقطت له سنة نبتت له أخرى، وعاش عشرين ومائة سنة وما ذهب له سن.

([30]) مما قيل في تعريف الشهامة: (الحرص على ما يوجب الذّكر الجميل في العظائم)، أو (هي الحرص على الأمور العظام توقّعا للذّكر الجميل) (التوقيف على مهمات التعاريف:208)

([31]) في أصل البيت (لعمرك)

([32]) سفساف الأمور: الحقير الرّديء منها.

([33]) رواه الحاكم.

([34]) لم تراعوا: أي روعا مستقرّا، أو روعا يضركم.

([35]) بحر: أي فرس واسع الجري.

([36]) رواه البخاري ومسلم.

([37]) الإصابة (2/ 25). والاستيعاب لابن عبد البر (4/ 143)

([38]) رواه البزار ورواته ثقات.

([39])  أشير به إلى قيس بن سعد بن عبادة الأنصاري الخزرجي، كان من كرام أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وكان أحد الفضلاء الجلة، وأحد دهاة العرب، وأهل الرأي والمكيدة في الحرب مع النجدة والبسالة، وكان شريف قومه غير مدافع هو وأبوه وجده، وكان لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما قدم مكة مكان صاحب الشرطة من الأمراء وأعطاه الراية يومئذ لما انتزعها من أبيه.. وكان واليا لعلي بن أبي طالب على مصر، ولم يفارق عليا إلى أن استشهد، ومات هو بالمدينة سنة ستين وقيل: سنة تسع وخمسين.

([40]) في كل ذات كبد رطبة أجر: معناه في الإحسان إلى كل حيوان حي يسقيه، ونحوه، أجر. وسمي الحي ذا كبد رطبة لأن الميت يجف جسمه وكبده.

([41]) رواه البخاري ومسلم.

([42]) يطيف بالشيء: أي يدور حوله. يقال: طاف به وأطاف، إذا دار حوله.

([43]) بركيّة: الركية البئر.

([44]) موقها: الموق هو الخف، فارسي معرب. ومعنى نزعت موقها أي استقت. يقال: نزعت بالدلو إذا استقت به من البئر ونحوها، ونزعت الدلو أيضا.

([45]) رواه البخاري ومسلم.

([46]) أدب الدنيا والدين: 306.

([47]) التعريفات: 210.

([48]) المدارج: 2/ 353.

([49]) مدارج السالكين 2/ 368.

([50]) رواه ابن حبّان في صحيحه. والحاكم وقال: صحيح على شرط مسلم.

([51]) رواه الطبراني في الكبير والأوسط بنحوه إلا أنه قال: يحبّ معالي الأخلاق، ورجال الكبير ثقات.

([52]) رواه البخاري ومسلم.

([53]) رواه البخاري ومسلم.

([54])  أشير به إلى العلامة الشهيد مرتضى مطهري، وهو من أبرز العلماء والمفكرين الإسلاميين في التاريخ المعاصر، وله العديد من المساهمات الفكرية في شتى مجالات الفكر الإسلامي، وفي خصوص الأخلاق له كتاب (فلسفة الأخلاق)، وغيره..

([55]) رواه أحمد ومسلم.

([56]) رواه مسلم.

([57]) رواه أحمد.

([58]) رواه الحاكم، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه.

([59]) رواه الترمذي، وقال: هذا حديث حسن صحيح.

([60]) رواه أحمد وابن حبان.

([61]) رواه البخاري ومسلم.

([62]) رواه الحاكم، وقال:هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، ورواه ابن ماجة.

([63]) رواه الترمذى، وقال:هذا حديث حسن صحيح.

([64]) رواه البخاري.

([65]) رواه أحمد.

([66]) رواه مسلم وغيره.

([67]) رواه مسلم وغيره.

([68]) رواه مسلم وغيره.

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *