رابعا ـ الزاهد

رابعا ـ الزاهد

خرجت من العراق قاصدا اليمن.. وبمدينة من مدنها تسمى (قرن)([1]) نزلت.. لعلكم تعرفونها.. لقد كانت في ذلك الحين مضمخة بعطر الزهد والإيمان، وكأنها تصيح بملء فيها مصدقة بما أخبر عنه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين قال: (أتاكم أهل اليمن هم أرق أفئدة، وألين قلوبا، الايمان يمان، والحكمة يمانية)([2])

رأيتها، وهي تبادل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الأشواق حين قال: (أين أصحاب اليمن؟ هم مني وأنا منهم، وأدخل الجنة فيدخلونها معي، أهل اليمن المطروحون في أطراف الأرض، المدفوعون عن أبواب السلطان، يموت أحدهم وحاجته في صدره لم يقضها)([3])

لست أدري كيف انتابني ذلك الشعور في مدخل تلك المدينة العريقة..

لقد استوى عندي التبر بالتراب.. والأكواخ بالقصور.. والمراكب الفخمة التي أتقن صنعها أهل عصرنا بتلك المراكب البسيطة التي كانت تزدان بها طرقات قرن.

لقد قلت لنفسي: ما فائدة اللهث وراء دنيا تختم بالموت.. وما جدوى الاحتراق بوهج الحرص، وما في القناعة يكفي لحياة مليئة بالسعادة غير مكدرة بأي منغص.

لقد كنت ألاحظ في شوارع تلك المدينة البسيطة المارة وهم ممتلئون بسعادة لم أر لها نظيرا في المدن العالمية الكبرى التي زرتها مع أن أولئك القرنيين لم يكونوا يملكون من الدنيا قليلا، ولا كثيرا.

اقترب مني بعض المارة حين رآني غريبا، وقال: أراك تبحث عن شيء.. فهلا ذكرته لي حتى أساعدك في البحث عنه؟

قلت: أنا أبحث عن الإنسان.

قال: كلهم يبحثون عن الإنسان.. وكلهم يتيه في بحثه.

قلت: لم أفهم قصدك.

قال: هم يتعلقون بطين الإنسان، لا بروح الإنسان.. وهم لذلك ينشغلون بما تطلبه طين الإنسان من كلأ وماء.. ويغفلون عما تطلبه روحه من علم وإيمان.. وهم يزنون الناس بما يملكون من أطنان التراب والماء، ولا يزنونهم بما يملكون من حقائق العلم والإيمان.

قلت: لم تزدني إلا يأسا.

قال: اليأس ينبت الشوق، والشوق ينبت الحرص.. ومن حرص على شيء وصل إليه.

قلت: أنا لست حريصا على أي طين ولا علي أي ماء.. أنا أبحث فقط عن الإنسان الذي نفخ فيه روح الإنسان.

قال: ما دمت قد ذكرت ذلك.. فسأدلك على رجل من أهل الله، ومن ورثة رسول الله.. هو بهذه البلاد.. وهو سر بركتها، وسر ما تراه فيها من أمن وسعادة.

قلت: من هو؟.. لم أسمع برجل له مثل هذه البركات.

قال: ولكن هذه البلدة سمعت به.. إنه (أويس القرني)([4]).. هو رجل ملأ قلوب الناس قناعة ورضا.. فلم يحسد فقيرهم غنيهم، ولم يشح غنيهم على فقيرهم.. فلذلك لا ترى بينهم لصا ولا غاشا ولا مختلسا ولا محتكرا ولا قاتلا.. ولا شيئا مما تمتلئ به سجون العالم.

قلت: أسرع بي إليه.. فذلك الذي أبحث عنه.

***

لقد كان أويس القرني هو الوارث الرابع الذي عرفت منه، بل علمت علما لا يزاحمه الشك بأن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم هو سيد الزهاد وأكملهم.. وأنه لو اجتمع زهد جميع الزهاد ووزن بزهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لوزنه زهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

سار بي الرجل في شوارع كثيرة قبل أن أصل إلى بيت أويس.. كانت شوارع بسيطة، تخلو من كل مظاهر الترف.. ولكنها مع ذلك نظيفة تفوح من جنباتها الصحة والعافية والسلام.

عندما وصلنا إلى بيت أويس رأينا رجلا يخرج منه، فالتفت إلي صاحبي، وقال: أتعرف هذا؟

قلت: لا.. لقد ذكرت لك أني غريب بهذه الديار.

قال: هذا والي قرن.

قلت: والي المدينة نفسه يزور هذا الرجل!

قال: ويزوره الوزراء والأمراء والملوك.

قلت: لقد ذكرت لي أنه زاهد.. فكيف يزوره كل هؤلاء؟.. وهل ينسجم الزهد مع هذا؟

قال: ألا ترى بيته البسيط؟

قلت: أجل.. وهذا ما زادني عجبا.. فكيف يزور أحد في الدنيا من هذا بيته؟

قال: لا يزورونه إلا لأن هذا بيته..

قلت: فكيف لا يرحمونه بقصر من قصورهم؟

قال: لو طمع في قصورهم ما طمع في قبول زيارته لهم.. ولكنه لما زهد فيهم حرصوا عليه..

لقد عرضوا له من الدنيا ما شاءت لهم نفوسهم أن تعرض.. ولكنه أبى.

قلت: فلم يزورونه؟

قال: لأن كلام الزهاد ينطلق من الروح.. وفي كل إنسان شوق عظيم لأن يسمع كلام الروح.

قلت: حتى المحاصرون في سجن الجسد؟

قال: أجل.. ألا ترى السجين كيف يشتاق إلى الحرية؟

قلت: بلى..

قال: فكذلك أرواح أولئك المكبلين في قضبان أجسادهم تشتاق لسماع نغمات الأرواح الطيبة التي تنطلق من أفواه الزهاد.

قلت: فهل ينتفعون بزيارته؟

قال: كما لا ينتفعون بزيارة بعضهم لبعض.. إن ما تراه من رشحات الرحمة والعدل التي يبدونها في بعض الأحيان لا تنطلق إلا من هذا البيت وأمثال هذا البيت.

قلت: فلم تتعب المعارضة نفسها في تحقيق مطالبها.. فلو أنها اتخذت بيتا مثل هذا البيت لنالت مطالبها من غير عناء؟

قال: وأين الحرص والطمع؟.. فهما الذئبان العاويان اللذان لا هم لهما إلا القضاء على حقيقة الإنسان.. لقد ذكر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذلك، فقال: (ما ذئبان جائعان أرسلا في غنمٍ بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه)([5]

بينما نحن كذلك إذ خرج صبي صغير من البيت، ونادى فينا: من يريد السيد فليدخل.. فإن السيد في انتظاره.

قلت لصاحبي: أترى الصبي يقصدنا؟

قال: أجل.. ألا تراه يلتفت إلينا؟

قلت: فهل تدخل معي.. أم سأدخل وحدي؟

قال: بل ستدخل وحدك.. أما أنا فلن يشق علي أن أزوره في أي حين أردت.

دخلت بيتا بسيطا متواضعا، جلس على كرسي من كراسيه شيخ كبير قد عضته السنون بنابها، لكن ملامح الشباب والقوة لا تزال تعمر جوارحه، وكأنه شاب لبس لباس شيخ، أو كأنه شيخ احتفظ بإكسير الشباب ليضمخ به شيخوخته.

ووجدت بجانبه رجلا كهلا قد مد يده يصافحه، وكأنه يهم بالمغادرة، وهو يقول له: سيدي.. يا طبيب القلوب.. قد عرفت الرحم التي بيننا، فأوصني.

فدمعت عينا أويس، ثم قال: (يا أخي، إنما الليل والنهار مراحل ينزلها الناس مرحلة مرحلة حتى ينتهي بهم ذلك إلى آخر سفرهم، فإن استطعت أن تقدم في كل مرحلة زادا لما بين يديها فافعل، فإن انقطاع السفر عن قريب، والأمر أعجل من ذلك، فتزود لسفرك واقض ما أنت قاض من أمرك، فكأنك بالأمر قد بغتك، إني لأقول لك هذا وما أعلم أحدا أشد تضييعا مني لذلك)([6])

التصور:

انصرف الرجل، وبقيت وحدي، فالتفت إلي، وقال، والابتسامة تشع من محياه: يزعم الناس أني زاهد، فلا تقل قولهم.. فإن الزاهد من زهد في الحقير، لا من زهد في العظيم.. الزاهد من باع سعادة الأبد بسعادة وهمية سرعان ما ينكشف له عوارها([7]).

قلت: من تقصد؟

قال: أقصد هؤلاء الخلق الذين انشغلوا بالأدنى عن الأعلى.. ورضوا بالقليل، وتركوا الكثير.. وباعوا الله وفضل الله ورضوان الله ليشتروا بدله السراب الذي لا يغنيهم من جوع، ولا يرويهم من ظمأ؟

قلت: ولكن الخلق تواطأوا على أن يسموا أولئك (حريصين)، وأن يسموك أنت ومن معك زهادا.

قال: ما أكثر ما يخطئ الخلق في تعابيرهم.. إنهم يسمون الأشياء بغير مسمياتها.

قلت: فممن نتعلم تسمية الأشياء بأسمائها؟

قال: من الله.. لقد علم الله { آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} (البقرة: 31).. ولكن بني آدم سرعان ما نسوا ما علمهم الله من أسماء، وراحوا يبتدعون ما شاءت لهم أهواؤهم منها.

قلت: فهل ذكر الله في كلماته المقدسة الحرص والزهد؟

قال: لا يمكن للكلمات أن تكون مقدسة ما لم تعلمك حقائق الوجود، وما تقتضيه حقائق الوجود.

قلت: فما قالت كلمات الله المقدسة في هذا؟

قال: لقد امتلأ القرآن الكريم بذكر الذين زهدوا في الآخرة، وباعوها بالدنيا، وامتلأ بذكر ما وقعوا فيه من غبن وخسارة:

فذكر أنهم بتصوراتهم المشوهة عن الدنيا والآخرة واقعون في ضلال بعيد، قال تعالى:{ الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ} (ابراهيم:3)

وذكر أنهم هم الخاسرون، فقال:{ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} (الحج:11)

وقارن بين ما كسبوه في الدنيا من متاع قليل، وما ضاع منهم مقابل ذلك من متاع لا يمكن تصور حدوده، فقال:{ وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلا تَعْقِلُونَ} (القصص:60)، وقال:{ الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً} (الكهف:46) 

سكت قليلا، ثم قال: لقد ضرب القرآن الكريم للدنيا التي انشغل بها هؤلاء عن الله أمثلة، فإن شئت ذكرت لك منها ما يجلي لك حقيقتها، ويمسح عن عينيك الغشاوة التي تحجبك عن رؤيتها بصورة الحقيقية التي يحاول الدجالون بأنواع الطلاء سترها.

قلت: يسرني ذلك.. فأنت تعلم أني من قوم قد ملأ حب الدنيا قلوبهم، فصاروا يرمون بالجنون والدجل كل من يراها بغير الصورة التي يرونها بها.

قال: ليس عصرك وحيدا في ذلك.. إن إله (حب الدنيا) والشغف بها هو الحجاب الأكبر الذي حال بين الخلق واتباع الحقائق.. لقد قال الله تعالى يذكر ذلك:{ مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (106) ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآَخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (107)} (النحل)، وقال:{ فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً} (النساء:74)، وقال:{ وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا } (الأنعام: 70)، وقال:{ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآياتِنَا يَجْحَدُونَ} (لأعراف:51)

وذكر سخرية هؤلاء الذين استحبوا الحياة الدنيا بالمؤمنين، فقال:{ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} (البقرة:212)

قلت: إن القرآن يتحدث عن الواقع بشفافية تامة.

قال: وهو يصف الحقائق، ويضرب لها الأمثال بنفس الشفافية..

لقد قَالَ تعالى يصف الحياة الدنيا، ويضرب لها الأمثال:{ إِنَّمَا مَثَلُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ والأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيهَا أتَاهَا أمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } (يونس: 24)، وقال:{ وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً المَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الحَياةِ الْدُّنْيَا وَالبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً } (الكهف: 45-46)، وقال:{ اعْلَمُوا أَنَّمَا الحَياةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ في الأَمْوَالِ وَالأَوْلاَدِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أعْجَبَ الْكُفّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الآخِرَةِ عَذابٌ شَديدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ الله ورِضْوَانٌ وَمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الغُرُورِ } (الحديد: 20)

قلت: أنا لم أجئ إليك لتعرفني بالدنيا وزهادتها، فقد كانت لدي ومعي، وقد رأيت منها ما ملأني زهدا فيها.. ولكني جئتك لأتعرف على الإنسان الكامل.. ذلك الذي نصبه الله علما لعباده يهتدون بهديه، ويسيرون سيرته.

قال: لن يكون الإنسان كاملا حتى يرى الوجود بصورته الحقيقية، فيسير فيه وفق ما تقتضيه الحقائق، لا وفق ما تقتضيه الأهواء.

قلت: فمن هو ذلك الذي لم ينحجب بالأهواء عن الحقائق؟

قال بسرعة، وبصوت عال: ذلك هو الكامل الأكبر.. ذلك هو محمد رسول الله.. هو الإنسان الوحيد الذي اكتملت له معرفة الحقائق، فصار مرآة لتجلياتها، وفهرسا لمفرداتها.. فإن شئت أن تبصر حقائق الأشياء، فأبصرها من خلال مرآته.

قلت: فما قال في الدنيا؟

قال: لقد استن محمد صلى الله عليه وآله وسلم بسنة القرآن في ضرب الأمثال، فراح يعلم كل من يتعلم على يديه حقيقة الدنيا، وحقيقة المواقف حولها، ليسير تلاميذه فيها وفق ما تقتضيه الحقائق، لا وفق ما تقتضيه الأهواء.

لقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جلس على المنبر، فقال: (إن مما أخاف عليكم بعدي: ما يفتح عليكـم من زهـرة الدنيـا وزينتها)، فقـال رجـل: أوَيـأتي الخيـر بالشـر يا رسول الله؟ قال: فسكت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقيل له: ما شأنك تكلم رسول الله ولا يكلمك؟ قال: ورأينا أنه ينزل عليه، فأفاق يمسح عنه الرُّحَضاءَ، وقال: أين هذا السائل؟ ـ وكأنه حمده ـ فقال: إنه لا يأتي الخير بالشر، وإن مما ينبت الربيع يقتل حَبَطًا([8])أو يُلم([9])، إلا آكلة الخْضِر([10])، فإنها أكلت، حتى إذا امتدت خاصِرتاها استقبلت عين الشمس، فثلَطَت([11]) وبالت، ثم رتعت، وإن هذا المال خَضِرٌ حلو، ونعم صاحب المسلم هو لمن أعطى منه المسكين واليتيم وابن السبيل ـ أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ـ وإن من يأخذه بغير حقه كالذي يأكل ولا يشبع، ويكون عليه شهيدًا يوم القيامة)([12])

التفت إلي، فرأى وكأني لم أفهم المراد من المثل بدقة، فقال: في هذا الحديث مثلان:

أحدهما: للِمُفْرطِ في جمع الدنيا، والآخر: لِلْمُقْتَصد في أخذها والانتفاع بها.

فأمَّا قوله: (وإن مما يُنبت الربيع ما يقتل حَبَطًا أو يُلِمَّ) فإنه مثل للمفرط الذي يأخذ الدنيا بغير حقها؛ وذلك أن الربيع ينبت أحرار البقول، فتستكثر الماشية منه لاستطابتها إياه، حتى تنتفخ بطونها عند مجاوزتها حدَّ الاحتمال، فتنشقُّ أمعاؤها من ذلك فتهلك، أو تُقارب الهلاك؛ وكذلك الذي يجمعُ الدنيا من غير حقها ويمنعها من حقها: قد تعرض للهلاك في الآخرة، لا بل في الدنيا.

وأما مثل المقتصد، فقد أشار إليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: (إلا آكلة الخضر)؛ وذلك أن الخضر ليس من أحرار البقول وجيِّدها التي ينبتها الربيع بتوالي أمطاره فتحسن وتنعم، ولكنه من التي ترعاها المواشي بعد هيج البقول ويبْسِها، حيث لا تجد سواها، فلا ترى الماشية تكثر من أكلها ولا تَستَمْرِئُهَا، فضرب آكلة الخضر من المواشي مثلاً لمن يقتصر في أخذ الدنيا وجمعها، ولا يحمله الحرصُ على أخذها بغير حقها، فهو ينجو من وبالها، كما نجت آكلة الخضِر([13]).

ولهذا قال صلى الله عليه وآله وسلم: (أكلت، حتى إذا امتدت خاصرتاها استقبلت عين الشمس، فثلطت وبالت).. إن في هذه الكلمات ثلاث فوائد:

أولها: أنها لمَّا أخذت حاجتها من المرعى، تركته وبركت مستقبلة الشمس لتستمرئ بذلك ما أكلته.

والثانية: أنها أعرضت عما يضرها من الشره في المرعى، وأقبلت على ما ينفعها من استقبال الشمس التي يحصل لها بحرارتها إنضاج ما أكلته وإخراجه.

والثالثة: أنها استفرغت ما جمعته من المرعى في بطنها، فاستراحت بإخراجه، ولو بقي فيها لقتلها.

وهكذا جامع المال.. فإن مصلحته أن يفعل به كما فعلت هذه الشاة.

سكت قليلا، ثم قال: لقد ضرب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مثالا آخر للدنيا، ومقارنتها بالآخرة، فقال: (ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم إصبعه هذه ـ وأشار بالسبابة ـ في اليم، فلينظر بم ترجع؟)([14])

التفت إلي، وقال: إن هذا المثل من أحسن الأمثال؛ فإن الدنيا منقطعة فانية، ولو كانت مدتها أكثر مما هي، والآخرة أبدية لا انقطاع لها، ولا نسبة للمحصور إلى غير المحصور.. بل لو فرضنا أن السموات والأرض مملوءتان خردلاً، وبعد كل ألف سنة طائر ينقل خردلة لفني الخردل، والآخرة لا تفنى؛ فنسبة الدنيا إلى الآخرة في التمثيل كنسبة خردلة واحدة إلى ذلك الخردل([15]).

لقد ذكر القرآن هذا المعنى وكرره.. فالله تعالى يقول داعيا نبيه صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرغبة في الله وفيما عند الله مقارنا لذات الدنيا بلذات الآخرة:{ وَلا تَمُدَّنَ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} (طـه:131)، ويقول مخاطبا من حجبوا بمتاع الحياة الدنيا وزينتها:{ وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلا تَعْقِلُونَ} (القصص:60)، ويقول:{ فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} (الشورى:36)

سكت قليلا، ثم قال: لقد ضرب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للدنيا مثالا بالمسافر، ففي الحديث عن عبد الله بن مسعود  قال: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقد نام على حَصِير، وقد أثَّرَ في جنبه، فقلنا: يا رسول الله، لو اتَّخَذنا لك وطاءً تجعلُهُ بينك وبين الحصير، يقيك منه؟ فقال: (ما لي وللدنيا؛ ما أَنا والدنيا إلا كَرَاكبٍ استَظَلّ تحت شجرة ثم راح وتركها)([16])

نظر إلي، وقال:  تأمل حسن هذا المثال، ومطابقته للواقع؛ فإن الدنيا في خضرتها كشجرة، وفي سرعة انقضائها وقبضها شيئًا فشيئًا كالظل، والعبد مسافر إلى ربه، والمسافر إذا رأى شجرة في يوم صائف لا يحسن به أن يبني تحتها دارًا، ولا يتخذها قرارًا، بل يستظل بها بقدر الحاجة، ومتى زاد على ذلك انقطع عن الرفاق([17]).

لقد أشار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى هذا في حديث آخر، فقد روي أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان واقفًا بعرفات، فنظر إلى الشمس حين تدلت مثل الترس للغروب، ثم قال: (أيها الناس إنه لم يبق من دنياكم فيما مضى منها إلا كما بقي من يومكم هذا فيما مضى منه)([18])

إن هذا الحديث يشير إلى أن الدنيا كلها ليست سوى يوم واحد بعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في آخره قبل غروب الشمس بيسير.

 سكت قليلا، ثم قال: لقد ضرب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لقيمة الدنيا مثالا آخر ينطبق عليها تماما، ففي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مر بالسوق، داخلاً من بعض العَوَالي، والناس كنفتيه، فمر بجدي ميت أسك([19])، فتناوله وأخذ بأُذنه، ثم قال: أيُّكم يحب أن هذا له بدرهم؟ قالوا: ما نحب أنَّه لنا بشي، ما نصنع به؟ إنه لو كان حيًا كان عيبًا فيه أنَّهُ أسكُّ. قال: (فوالله للدُّنيا أَهون على الله من هذا عليكم)([20])

قلت: وعيت هذه الأمثلة.. وهي تنطبق على الدنيا كما ذكرت.. ولكني أتساءل، ولست أدري هل يحق لي أن أتساءل أم لا..؟

قاطعني، وقال: لقد تساءلت مثلك كثيرا إلى أن وقعت في بحار التسليم التام.. فسل ما بدا لك.

قلت: أليس الإسلام دين حياة.. ودين جاء لإصلاح الدنيا.. ولا يمكن تطبيق تعاليمه إلا في الدنيا؟

قال: بلى.. ذلك صحيح.

قلت: فلماذا زهد محمد في الدنيا كل هذا التزهيد؟.. ولماذا احتقرها كل هذا الاحتقار؟

قال: أرأيت الصبي الذي تشغله لعبه عن دروسه.. فيظل متعلقا بها لا يريد أن ينشغل عنها بأي شاغل؟

قلت: ما به؟

قال: ما رأيك لو ترك لهذا الصبي الحرية المطلقة في التعلق بلعبه على حساب دراسته، فلم يؤدب، ولم يؤنب، ولم ينهر؟

قلت: لو ترك كذلك، فإن مصيره أن يعيش جاهلا، ويموت جاهلا.

قال: فهذا ما أرادت النصوص المقدسة أن تقرره.. فنبينا صلى الله عليه وآله وسلم حين ينهانا عن التعلق بالدنيا، والانشغال بها يتعامل معنا كما يتعامل ذلك المؤدب مع الصبي الذي انشغل بلعبه عن حياته وما تقتضيه حياته من معارف.

لقد ضرب القرآن مثلا يكاد يشبه هذا الصبي المنشغل بلعبه.. لعلك تعرفه.. إنه قارون.. فقد كان حاله في انشغاله بكنوزه وزينته لا يختلف كثيرا عن ذلك الصبي الذي حدثتك عنه..

لقد قال الله تعالى يذكر خبره:{ إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآَتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76) وَابْتَغِ فِيمَا آَتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآَخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77) قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (78) فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (79) وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ (80) فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ (81) وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (82)} (القصص)

التفت إلي، وقال: هذا هو مشهد رجل من أهل الدنيا.. ربما يمثل ملايين البشر الذين مروا على هذه الأرض.. أو يمثل ملايين من الذين لا يزالون يعمرون هذه الأرض، ويملأونها بالخراب..

إن هذا الرجل لم يكن ينظر إلا إلى نفسه، وإلى تلك الحياة الدنيا التي يعيشها، فيتصور أن الوجود يتوقف عندها.

وقد كان هذا الرجل يتصور أن قيمته بقيمة تلك اللعب التي كان يملكها، فلذلك كان يمشي بين الخلق مزهوا مختالا لأن له من اللعب ما لم يكن لغيره.

قلت: كيف تسمي الكنوز لعبا؟

قال: لأنها مجرد ملهاة لا تختلف كثيرا عن أي لعبة من لعب الأطفال..

قلت: ولكن بتلك الكنوز نستطيع أن نعمر الدنيا التي أمرنا بعمارتها؟

قال: يستحيل أن نعمرها إذا كان في عقولنا التفكير القاروني.. فالتفكير القاروني المتعلق بالدنيا يحب الكنوز.. والكنوز تتنافى مع العمارة.. لأن الكنوز تهتم بالبنيان أكثر من اهتمامها بالإنسان.. ولا يمكن للحضارة أن تقوم على البنيان وحده.

قلت: فكيف نمحو التفكير القاروني من عقولنا؟

قال: عندما نعلم أن هذه الحياة التي نعيشها ونتفانى من أجلها حياة دنيا.. وأن هناك حياة أرفع منها.. وأنه لا يمكن أن نظفر بتلك الحياة إلا بعد أن نترفع على هذه الحياة.

هذا ما كان يعلمه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه.. وهذا ما كان يربيهم عليه.. فلذلك استطاعوا أن ينشئوا أعظم حضارة عرفتها البشرية في تاريخها الطويل.

سكت قليلا، ثم قال: سأذكر لك بعض النصوص التي تبين لك هذا.. لتكتشف من خلالها مدى النصح العظيم الذي نصح به محمد صلى الله عليه وآله وسلم أمته حتى لا تغرها الحياة الدنيا عن الحياة الحقيقية:

لقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال لأصحابه حين رأى فرحهم بمال قدم عليهم: (أبشروا وأملوا ما يسركم، فوالله ما الفقر أخشى عليكم، ولكني أخشى أن تبسط الدنيا عليكم كما بسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، فتهلككم كما أهلكتهم)([21])

وروي أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إن مما أخاف عليكم من بعدي ما يفتح عليكم من زهرة الدنيا وزينتها)([22])

وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الدنيا حلوة خضرة وإن الله تعالى مستخلفكم فيها، فينظر كيف تعملون، فاتقوا الدنيا واتقوا النساء)([23])

التفت إلي، وقال: إن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم في هذه الوصايا يحذر من الاستغراق في الدنيا والانشغال بها.. وهو ما يؤدي إلى التنافس فيها.. وهو ما يؤدي إلى الصراع.. ولا يمكن للصراع أن يولد إلا الهلاك.

ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يضع البدائل عن الاستغراق في جمع كنوز الدنيا وملذاتها بالاستغراق في جمع الأعمال الصالحة.. فالأعمال الصالحة هي الباقية، أما ما عداها فـ { كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} (النور: 39)

لقد قال صلى الله عليه وآله وسلم يذكر ذلك: (يتبع الميت ثلاثة: أهله وماله وعمله: فيرجع اثنان، ويبقى واحد: يرجع أهله وماله ويبقى عمله)([24]

وأخبر صلى الله عليه وآله وسلم أن جميع نعيم الدنيا لا يعدل لحظة عذاب يعذب فيها المتنعم بسبب ذنوبه، فقال: (يؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار يوم القيامة، فيصبغ في النار صبغة، ثم يقال: يا ابن آدم، هل رأيت خيرا قط؟ هل مر بك نعيم قط؟ فيقول: لا والله يا رب، ويؤتى بأشد الناس بؤسا في الدنيا من أهل الجنة، فيصبغ صبغة في الجنة، فيقال له: يا ابن آدم، هل رأيت بؤسا قط؟ هل مر بك شدة قط؟ فيقول: لا والله، ما مر بي بؤس قط، ولا رأيت شدة قط)([25])

وأخبر صلى الله عليه وآله وسلم أن أكثر ما يملأ الدنيا مجرد لهو فارغ لا قيمة له في ميزان الحقيقة، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (ألا إن الدنيا ملعونة، ملعون ما فيها، إلا ذكر الله تعالى، وما والاه، وعالما ومتعلما)([26])

وقد أخبر بعضهم أنه أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فسمعه يقرأ:{ أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ } (التكاثر:1)، ثم قال: (يقول ابن آدم: مالي، مالي، وهل لك يا ابن آدم من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت؟!)([27])

بل إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يعتبر المنشغل بأمثال تلك اللعب عبدا رقيقا لها، فقال: (تعس عبد الدينار، والدرهم، والقطيفة، والخميصة، إن أعطي رضي، وإن لم يعط لم يرض)([28])

قلت: فهل أثرت هذه الوصايا في أمته؟

قال: أجل.. ولولاها ما ظهرت في المسلمين تلك القيم التي لم يظهر لها أي نظير في العالم.

قلت: مثل ماذا؟

قال: كل القيم النبيلة من التضحية والكرم والإيثار وعلو الهمة وغيرها.. كلها ثمار من نبات الزهد.. لقد أشار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى هذا في حديثين أساء البعض فهمهما:

أما الأول فهو ما روي أن رجلا جاء للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: يا رسول الله، والله إني لأحبك، فقال: (انظر ماذا تقول؟) قال: والله إني لأحبك، ثلاث مرات، فقال: (إن كنت تحبني فأعد للفقر تجفافا([29])، فإن الفقر أسرع إلى من يحبني من السيل إلى منتهاه)([30])

وأما الثاني، فهو ما روي أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: يا رسول الله، دلني على عمل إذا عملته أحبني الله وأحبني الناس، فقال: (ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما عند الناس يحبك الناس)([31])

قلت: فما الخطأ الذي وقع في فهم الحديث الأول؟

قال: لقد تصور البعض أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في هذا الحديث يفضل الفقر على الغنى.. فأخطأوا، فما كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم ـ وهو العارف بربه ـ أن يفضل بلاء على بلاء، أو نعمة على نعمة.

قلت: فما الصواب الذي تفهمه أنت؟

قال: إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في ذلك الحديث يبين أن من آثار محبة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم التي تملأ قلب المحب رفع قيود العبودية للدرهم والدينا.. وهو بذلك يصبح فقيرا لا يملك شيئا، لأنه يعتقد أن كل ما يملكه ملك لله، فهو يرسله ذات اليمين وذات الشمال كما كان يفعل محبوبه.

قلت: والثاني؟

قال: لقد تصور البعض أن الزهد يجلب محبة الناس، لأن الزاهد قد كف شره عن الناس، فهو لا ينافسهم فيما يتنافسون فيه.

قلت: وما تفهم أنت من الحديث؟

قال: الزاهد الكامل هو الذي لا يكف شره عن الناس فقط.. وإنما من ينالهم من خيره ما يملأ قلوبهم محبة له.

قلت: إن ذلك يستدعي أن يكون الزاهد مالكا، والزهد يتنافى مع الملك.

قال: بل الزهد لا يكمل إلا بالملك، فمن السهل أن يدعي المعدم الزهد، وما أصعب أن يدعيه المالك([32]).. لقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يبين هذا: (الزهادة في الدنيا ليست بتحريم الحلال ولا إضاعة المال، ولكن الزهادة أن تكون بما في يد الله تعالى أوثق منك بما في يدك، وأن تكون في ثواب المصيبة إذا أصبت بها أرغب منك فيها لو أنها أبقيت لك)([33])

قلت: أنت تكر على كل المعارف التي أقنعتني بها لتمحوها.. ألست ترى نفسك متناقضا؟

قال: لا.. يستحيل على من تعلم من محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن يقع في التناقض..

قلت: فقد كنت أسمعك تقرأ من كتابك، وتحدث عن نبيك أروع النصوص في ذم الدنيا..

قال: الدنيا المرادة من تلك النصوص ليست هذا الزمان الذي نعيشه.. ولا هذه الأرض التي نعيش فوقها.. والتي يمكن أن نجعل منها مسجدا كبيرا لطاعة الله وعبوديته.. ولكنها الدنيا التي ترتبط بالهمم.. الهمم التي تقصر نظرها على نصيبها المحدود غافلة عن نصيبها غير المحدود.

إنها دنيا الغافلين الذين اشتغلوا بما رأو من عاجل النعيم عن آجله، فانهمكوا ينتهزون فرصة العمر في استيعاب ما استطاعت لهم قواهم من أصناف اللذات.

ومع ذلك فإن النصوص المقدسة لا تعيب على هؤلاء ما انهمكوا فيه من أصناف النعيم، بل تعيب عليهم اشتغال أنفسهم وهممهم به عن التدبر فيما بعده:

لقد قال الله تعالى يذكر ذلك:{ وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ} (الأنعام:29)، وقال:{ أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ} (البقرة:86)، وقال:{ فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ} (البقرة:200)، وقال:{ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآياتِنَا يَجْحَدُونَ} (لأعراف:51)، وقال حاكيا قولهم:{ إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ} (المؤمنون:37)

ولهذا يجمع الله تعالى بين همتي المؤمنين الذين ترقت هممهم فلم تقف مع زينة الحياة الدنيا، ولم تحبس نفسها في قيودها مع همة الكافرين التي باعت نفسها لأول ما لاح لها من مظاهر الزينة، قال تعالى:{ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} (البقرة:212)

وفي هذه الآية تصوير بديع لسخرية الكافرين الذين استغرقوا في حب الدنيا، وعبادتها، بل فنوا فيها عما سواها من المؤمنين الذين تعاملوا مع الدنيا بعقولهم لا بشهواتهم، وبربهم لا بأنفسهم، وبدينهم لا بأهوائهم.

جاء ذلك الصبي الصغير الذي أدخلني إلى بيت أويس، وقال ـ وقد كان يتابع حديثنا على كثب باهتمام شديد ـ: لقد صنف أهل الله فرق هؤلاء وطوائفهم كما يصنف قومنا الأحزاب والمذاهب والأجناس.. ولكن الفرق بينها هو أن هذه الطوائف تنتشر في كل مكان، كانتشار النار في الهشيم.

ومن الطوائف ـ التي ذكرها العلماء([34]) ـ طائفة غلبهم الجهل والغفلة فلم تنفتح أعينهم للنظر إلى عاقبة أمورهم، فتصوروا أن المقصود من الدنيا أن نعيش أياماً نجتهد نجتهد فيها على كسب القوت ثم (نأكل حتى نقوى على الكسب، ثم نكسب حتى نأكل، فيأكلون ليكسبوا ثم يكسبون ليأكلوا)

وهذا دين أكثر الخلق ممن ابتلاهم الله بالحاجة للعمل، بل حتى ممن لم يبتلوا من الذي صار العمل عندهم هواية وشغلا للقلب والقالب.

وليس العمل هو المعيب في سلوك هؤلاء، وإنما المعيب هو انشغالهم بالعمل عن الغاية التي وجدوا من أجلها، قال الغزالي: (وهذا مذهب الفلاحين والمحترفين ومن ليس له تنعم في الدنيا ولا قدم في الدين؛ فإنه يتعب نهاراً ليأكل ليلاً ويأكل ليلاً ليتعب نهاراً، وذلك كسير السواني فهو سفر لا ينقطع إلا بالموت)

ومن الطوائف طائفة ترقت عن هؤلاء، فزعمت أنها تفطنت لما لم يتفطن له من قبلها، فقالت: (ليس المقصود أن يشقى الإنسان بالعمل ولا يتنعم في الدنيا؛ بل السعادة في أن يقضي وطره من شهوة الدنيا).. وهؤلاء هم الذين انصرفوا إلى الشهوات، فما جمعوه في النهار بالعناء والجهد يقضون عليه في الليل بالشهوات والملذات.

وهذا الفكر الدنيوي الذي تتبناه هذه الطائفة هو الفكر الذي تغرسه المدنية الغربية باعتباره بديهية البديهيات، فلذلك تستنكر من يذم الدنيا، وكأنها تعتبر نفسها المقصودة بكل ذلك الذم.

ومن الطوائف من (ظنوا أنّ السعادة في كثرة المال والاستغناء بكثرة الكنوز، فأسهروا ليلهم وأتعبوا نهارهم في الجمع، فهم يتعبون في الأسفار طول الليل والنهار ويترددون في الأعمال الشاقة ويكتسبون، ويجمعون ولا يأكلون إلا قدر الضرورة شحاً وبخلاً عليها أن تنقص، وهذه لذتهم، وفي ذلك دأبهم وحركتهم إلى أن يدركهم الموت؛ فيبقى تحت الأرض أو يظفر به من يأكله في الشهوات واللذات، فيكون للجامع تعبه ووباله وللآكل لذته)

وهؤلاء الذين ورد ذمهم في القرآن الكريم باعتبارهم عبيدا للمال، كما قال تعالى:{ وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (1) الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ (2) يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ (3)} (الهمزة)

ومن هذه الطوائف طائفة استعبدهم الجاه، وانشغلوا بالشهرة، فـ (ظنوا أن السعادة في حسن الاسم وانطلاق الألسنة بالثناء والمدح بالتجمل والمروءة؛ فهؤلاء يتعبون في كسب المعاش ويضيقون على أنفسهم في المطعم والمشرب ويصرفون جميع مالهم إلى الملابس الحسنة والدواب النفيسة، ويزخرفون أبواب الدور وما يقع عليها أبصار الناس حتى يقال إنه غني وإنه ذو ثروة ويظنون أن ذلك هو السعادة، فهمتهم في نهارهم وليلهم في تعهد موقع نظر الناس)

ومن هذه الطوائف طائفة (ظنوا أن السعادة في الجاه والكرامة بـين الناس وانقياد الخلق بالتواضع والتوقير، فصرفوا هممهم إلى استجرار الناس إلى الطاعة بطلب الولايات وتقلد الأعمال السلطانية لينفذ أمرهم بها على طائفة من الناس، ويرون أنهم إذا اتسعت ولايتهم وانقادت لهم رعاياهم فقد سعدوا سعادة عظيمة، وأن ذلك غاية المطلب. وهذا أغلب الشهوات على قلوب الغافلين من الناس، فهؤلاء شغلهم حب تواضع الناس لهم عن التواضع لله وعن عبادته وعن التفكر في آخرتهم ومعادهم)

ومن هذه الطوائف طائفة ظنوا أن إكسير الحياة منفوخ ضمن الهواء الذي يسكن جلد كرة القدم.. ومنهم من رآه في الموجات الصادرة من حنجرة أي ناعق أو مغن.. ومنهم من رآه في حركات ممثل.. ومنهم من رآه في تغنج غانية..

قاطع أويس الصبي، وقال: أما دنيا المؤمنين العارفين بربهم، والذين ترقت هممهم على أن يستعبدها غير مولاهم، فإنها كآخرتهم، لا فرق بينهما، بل إن العارفين بالله الذين رفعوا حجب الكثافة التي تحول بينهم وبين حقائق الأزل، وتخلصوا من كل همة دنية يعيشون الآخرة في الدنيا، وما الموت عندهم إلا مفارقة لتلك العلاقات البسيطة التي ارتبطوا بها كما يرتبط المسافر مع رفقة سفره.

ولهذا يمن الله على هؤلاء العارفين بأنه جمع لهم بين ثواب الدنيا وثواب الآخرة، قال تعالى:{ فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (آل عمران:148)، وقال تعالى:{ وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْراً لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ} (النحل:30)، وقال تعالى:{ وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} (النحل:41)

ويذكر النماذج الرفيعة من أوليائه وأصفيائه الذين رزقوا من الحظوظ مالم يرزقه أهل الدنيا أنفسهم، ومنها حظ الجاه الذي وهب للمسيح u، قال تعالى:{ إِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} (آل عمران:45)

ومنها نموذج إبراهيم u الذي جمع له بين الحسنتين حسنة الدنيا والآخرة، قال تعالى:{ وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} (النحل:122)

وهذه النعم والحظوظ التي من الله بها على اصفيائه ليت خاصة بهم، بل هي قانون من قوانين الله وسنة من سننه، قال تعالى:{ مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعاً بَصِيراً} (النساء:134)

وكأن هذه الآية تخاطب القاصرين الذين ينظرون بعين واحدة إلى الأشياء، فيتصورون أن إقبالهم على الدين يحول بينهم وبين الإقبال على الدنيا، أو أن رغبتهم في الآخرة تحول بينهم، وبين زينة الدنيا، ولهذا يستنكر الله تعالى أن تحرم الطيبات، ويعتبر أنها من منن الله على جميع البشر، وأنها خاصة بالمؤمنين خالصة لهم في الآخرة، قال تعالى:{ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} (لأعراف:32)

قال الصبي: بل إن الله تعالى ذكر أن هؤلاء العارفين يدعون الله لدنياهم كما يدعونه لأخراهم.. قال تعالى:{ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} (البقرة:201)، وقال ذاكرا دعاء من أدعيتهم:{ وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنَا يُؤْمِنُونَ} (لأعراف:156)، وقال ذاكرا دعاء نبيه يوسف u:{ رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} (يوسف:101)

السلوك:

لست أدري كيف قلت من غير أن أشعر: أرانا انشغلنا عن زهد محمد.

قال أويس: في بداية إرادتي.. عندما توجهت همتي للبحث عن الإنسان الكامل.. لقيت رجلا حكيما ممتلئا بالأنوار.. قال لي كلمة لا أزال أذكرها.. لعلها خير جواب عما ذكرت.

قلت: ما قال؟

قال أويس: لقد قال لي: (كل شمس لا تطيق الوصول إليها يمكنك أن تعبر إليها من خلال من يدل عليها)([35])

قلت: لقد سمعت مثل هذا كثيرا.. بل إنهم كلهم يقول هذا.

قال: من ذلك الوقت علمت أن حياة محمد صلى الله عليه وآله وسلم القصيرة لا تستطيع أن تعبر عنه كل التعبير.. لذلك، فإن كل الورثة هم في الحقيقة امتداد لحياة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.. لأنهم لا يستلهمون سلوكهم إلا منه([36]).

قلت: فهل كان في سلوك محمد صلى الله عليه وآله وسلم ما كان مدرسة تعلم منها الورثة  ذلك الزهد؟

قال: لقد كان سلوك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مدرسة تعلمت منها كل الأجيال.. وتلاميذ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يخلو منهم زمان من الأزمان.

سأضرب لك مثالا على ذلك بتلميذ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الأكبر علي بن أبي طالب  الذي كان رمزا للعدالة والأمانة وكل القيم الإنسانية الرفيعة..

لقد روي أن معاوية سأل ضرار ضمرة: صف لي عليّاً. فقال: أو تعفني؟ قال: بل تصفه لي قال: أو تعفني؟ قال: لا أعفيك، قال: أما إذ لا بد، فإنه والله كان بعيد المدى شديد القوى، يقول فصلاً، ويحكم عدلاً، يتفجر العلم من جوانبه، وتنطق الحكمة من نواحيه، يستوحش من الدنيا وزهرتها، ويستأنس بالليل وظلمته، كان والله غزير الدمعة، طويل الفكرة، يقلب كفه، ويخاطب نفسه، يعجبه من اللباس ما خشن، ومن الطعام ما جشب([37]).. كان والله كأحدنا؛ يجيبنا إذا سألناه، ويبتدينا إذا أتيناه، ويأتينا إذا دعوناه، ونحن والله مع تقريبه لنا وقربه منا لا نكلمه هيبة، ولا نبتديه لعظمته، فإن تبسم فعن مثل اللؤلؤ المنظوم، يعظم أهل الدين، ويحب المساكين، لا يطمع القوي في باطله، ولا ييأس الضعيف من عدله، فأشهد بالله لرأيته في بعض مواقفه، وقد أرخى الليل سدوله، وغارت نجومه، وقد مَثُل في محرابه قابضًا على لحيته، يتململ تململ السليم ويبكي بكاء الحزين، فكأني أسمعه وهو يقول: يا دنيا يا دنيا أبي تعرَّضْتِ، أم لي تشوَّقْتِ، هيهات هيات، غُرِّي غيري؛ قد بتتك ثلاثًا، لا رجعة لي فيك، فعمرك قصير، وعيشك حقير، وخطرك كبير، آه من قلة الزاد، وبعد السفر، ووحشة الطريق.

قال أويس ذلك بتأثر شديد، أجهش بعده بالبكاء..

بعد فترة من الصمت، قال الصبي: إن شئت حدثتك بما ذكر الرواة من زهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما يبين لك أن عليا وغير علي لم يسلكوا ذلك السلوك الرفيع لمجرد تعاليم تعلموها، أو دروس حضروها، وإنما لأنهم رأوا بعيونهم أنوار القيم تتجلى أمامهم في أرفع صورها.

قلت: يسرني ذلك.. فيعلم الله أنه لا هدف لي في الحياة إلا البحث عن الإنسان الكامل.

لقد حدث بعض الصحابة.. والذي صار بعد ذلك أميرا.. عن تلك التوجيهات العملية التي كانوا يتلقونها على يدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال يخاطب رعيته بعد أن حمد الله وأثنى عليه: (أما بعد، فإن الدنيا قد آذنت بصرم([38])، وولت حذاء([39])، ولم يبق منها إلا صبابة كصبابة الإناء يتصابها([40]) صاحبها، وإنكم منتقلون منها إلى دار لا زوال لها، فانتقلوا بخير ما بحضرتكم، فإنه قد ذكر لنا أن الحجر يلقى من شفير جهنم فيهوي فيها سبعين عاما، لا يدرك لها قعرا، والله لتملأن أفعجبتم؟! ولقد ذكر لنا أن ما بين مصراعين من مصاريع الجنة مسيرة أربعين عاما، وليأتين عليها يوم وهو كظيظ من الزحام، ولقد رأيتني سابع سبعة مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ما لنا طعام إلا ورق الشجر، حتى قرحت([41]) أشداقنا، فالتقطت بردة فشققتها بيني وبين سعد بن مالك، فاتزرت بنصفها، واتزر سعد بنصفها، فما أصبح اليوم منا أحد إلا أصبح أميرا على مصر من الأمصار، وإني أعوذ بالله أن أكون في نفسي عظيما، وعند الله صغيرا)([42])

قلت: سمعت بعضهم يتحدث عن الزهد الاضطراري.. أليس زهد محمد من هذا النوع؟

انتفض الصبي، وقال: كيف يقال هذا في رسول الله.. لقد كان لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من المكانة عند الله والمنزلة ما لا يدعه في ضرورة أبدا..

لقد حدث أبو ذر  قال: كنت أمشي مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حرة بالمدينة، فاستقبلنا أحد، فقال: (يا أبا ذر) قلت: لبيك يا رسول الله، فقال: (ما يسرني أن عندي مثل أحد هذا ذهبا تمضي علي ثلاثة أيام وعندي منه دينار، إلا شيء أرصده لدين، إلا أن أقول به في عباد الله هكذا وهكذا وهكذا) عن يمينه وعن شماله ومن خلفه، ثم سار، فقال: (إن الأكثرين هم الأقلون يوم القيامة إلا من قال بالمال هكذا وهكذا وهكذا) عن يمينه وعن شماله ومن خلفه (وقليل ماهم)([43])

وفي حديث آخر قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال: (لو كان لي مثل أحد ذهبا، لسرني أن لا تمر علي ثلاث ليال وعندي منه شيء إلا شيء أرصده لدين) ([44])

وفي حديث آخر قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (عرض علي ربي بطحاء مكة ذهبا، فقلت: لا يا رب، ولكني أجوع يوما، وأشبع يوما، فإذا شبعت حمدتك، وشكرتك، وإذا جعت تضرعت إليك، ودعوتك) ([45])

وفي حديث آخر: قيل يا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إن شئت أعطيناك خزائن الدنيا، ومفاتيحها لم نعطها أحدا قبلك، ولا نعطيها أحدا بعدك، لا ينقصك ذلك عند الله شيئا، فقال: (اجمعوها لي في الآخرة)، فأنزل الله:{ تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً} (الفرقان:10)

وعن أم سلمة قالت: نام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على وسادة حشوها ليف، فقام وقد أثر بجلده، فبكيت فقال: (يا أم سلمة ما يبكيك؟) قلت: ما أرى من أثر هذه، فقال: (لا تبكي، لو أردت أن تسير معي هذه الجبال لسارت)([46])

 وروي أن جبريل u جلس إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فنظر إلى السماء، فإذا ملك ينزل، فقال جبريل: إن هذا ملك ما نزل منذ خلق قبل الساعة، فلما نزل قال: يا محمد إن الله تعالى يخيرك بين أن تكون نبيا عبدا أو تكون نبيا ملكا، فالتفت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى جبريل كالمستشير له، فأشار جبريل إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن تواضع لربك، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (بل أكون نبيا عبدا)، قال ابن عباس: فما أكل بعد تلك طعاما متكئا حتى لقي ربه)([47])

وفي حديث آخر قال صلى الله عليه وآله وسلم: (عرض علي ربي ليجعل لي بطحاء مكة ذهبا، فقلت: يا رب، ولكن أشبع يوما، وأجوع يوما ـ أو قال: ثلاثة، أو نحو هذا ـ فإذا جعت تضرعت إليك، وإذا شبعت حمدتك، وشكرتك)([48])

بل إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يسأل الله أن يختار له هذا النوع من الحياة البسيطة التي تجعله أقرب الناس إلى الناس، فقد كان يدعو، ويقول: (اللهم اجعل رزق آل محمد قوتا)([49])

قلت: لقد سمعت بعض الخطباء يذكر أن محمدا كان يحب أصنافا من الطعام، وأصنافا من اللباس، وأنه لو كان في وقتنا لاتخذ سيارة فارهة، وسكن قصرا شامخا.

قال الصبي: دعهم يملوا على نبيهم ما شاءت لهم أهواؤهم أن تملي.. ولنذهب إلى الأسانيد الصحيحة التي أخبرت عن الحال التي كان يعيشها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فخير من حكم على حياة الإنسان الأخبار التي تروى عنه.

قلت: فحدثنا عما ذكرته الأخبار من هذا.

قال: عن أي شيء تريد أن أخبرك؟

قلت: أخبرني عن فراشه، فعهدي بالمترفين يجلسون على الفرش الوثيرة.

قال: لقد حدثت عائشة  قالت: دخلت علي امرأة من الأنصار فرأت على فراش رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عباءة خشنة، فانطلقت، فبعثت إلي بفراش حشوه الصوف، فدخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: (ما هذا يا عائشة؟) فقلت: يا رسول الله فلانة الأنصارية دخلت، فرأت فراشك، فذهبت، فبعثت إلي بهذا الفراش، فقال: (رديه)، قالت: فلم أرده، وقد أعجبني أن يكون في بيتي، حتى قال ذلك مرات، فقال: (رديه يا عائشة، فوالله لو شئت لأجرى الله معي الجبال ذهبا وفضة)([50])

وعنها قالت: اتخذت لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فراشين حشوهما ليف وإذخر، فقال: (يا عائشة ما لي وللدنيا، إنما أنا والدنيا بمنزلة رجل نزل تحت شجرة في ظلها، حتى إذا فاء الفئ ارتحل، فلم يرجع إليها أبدا)([51])

قلت: فحدثني عن طعامه، فعهدي بالمترفين يتفنون في أصناف المطاعم والمشارب.

قال: لقد ذكرت عائشة  حياتها مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقالت: (كان يأتي علينا الشهر، وما نوقد فيه نارا، إنما هوالتمر والماء، إلا أن نؤتى باللحم) ([52])

وقالت: (ما شبع آل محمد من خبز بر ثلاثة أيام متتابعات، حتى قبض صلى الله عليه وآله وسلم)

وقالت: (ما أكل آل محمد أكلتين في يوم واحد إلا إحداهما تمر)

وقالت: توفي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين شبع الناس من الأسودين، التمر والماء.

وقالت: ما شبعنا من الأسودين التمر والماء.

وقالت: والله لقد مات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وما شبع من خبز، وزيت في يوم واحد مرتين.

وقالت: ما رفع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم غداء لعشاء، ولا عشاء لغداء قط، ولا اتخذ من شئ زوجين لا قميصين، ولا رداءين، ولا إزارين، ولا من النعال ولا رئي فارغا قط في بيته، إما يخصف نعلا لرجل مسكين أو يخيط ثوبا لأرمة([53]).

وقالت: (والذي بعث محمدا بالحق نبيا ما رأى منخلا، ولا أكل خبزا منخولا، منذ بعثه الله إلى أن قبض، قيل، كيف كنتم تصنعون؟ قالت: كنا نقول أف أف)([54])

وقالت: ما كان بيقى على مائدة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من خبز الشعير قليل ولا كثير ([55]).

وقالت: ما رفعت مائدة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من بين يديه، وعليها فضلة من طعام قط ([56]).

وقالت: ما شبع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثلاثة أيام تباعا حتى مضى لسبيله ([57]).

وكانت تقول لعروة: يا ابن أختي، إنا لننظر إلى الهلال، ثم الهلال، ثم الهلال ثلاثة أهلة في شهرين، وما أوقد في أبيات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نار، قلت: يا خالة فما كان يعيشكم؟ قالت: الأسودان: التمر والماء، إلا أنه قد كان لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جيران من الأنصار، وكانت لهم منائح، وكانوا يرسلون إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من ألبانها، فيسقيناه.

وكانت تقول له: (وايم الله، يا ابن أختي إن كان يمر على آل محمد الشهر لم يوقد في بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نار، لا يكون إلا أن حوالينا أهل دور من الأنصار – جزاهم الله خيرا في الحديث والقديم – فكل يوم يبعثون إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بغزيرة شياههم، فينال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من ذلك، ولقد توفي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وما في رفى من طعام يأكله ذو كبد إلا قريبا من شطر شعير، فأكلت منه حتى طال علي، لا تغني وكلته عني، فيا ليتني لم آكله، وأيم الله، وكان ضجاعه من أدم حشوه ليف)

وقالت: لو أردت أن أخبركم بكل شبعة شبعها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى مات، لفعلت([58]).

وقالت: ما شبع آل محمد ثلاثة أيام من خبز البر حتى ذاق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الموت، وما زالت الدنيا علينا عسرة كدرة حتى مات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فلما مات أنصبت علينا صبا([59]).

وقالت: ربما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (يا عائشة هلمي إلى غذاءك المبارك، وربما لم يكن إلا التمرتين)([60])

وقالت: ما اجتمع في بطن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم طعامان قط، إن أكل لحما لم يزد عليه، وإن أكل تمرا لم يزد عليه، وإن أكل خبزا لم يزد عليه ([61]).

وعلى ما شهدت به عائشة  تواترت الشهادات الكثيرة من المقربين لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. ذكر أنس بن مالك  أن فاطمة  جاءت بكسرة خبز إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: (ما هذه الكسرة؟) قالت: قرصة خبزتها، فلم تطب نفسي إلا أن آتيك بهذه الكسرة، فقال: (أما إنه أول طعام دخل فم أبيك منذ ثلاثة أيام) ([62])

وقال: مشيت إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بخبز شعير وله هالة ولقد سمعته يقول: (ما أصبح لآل محمد، ولا أمسى في آل محمد إلا صاع، وإنهن يومئذ لتسعة أبيات) ([63])

وقال: إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يجتمع له غداء ولا عشاء من خبز ولحم إلا على ضفف ([64]).

وقال: شهدت وليمة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ما فيها خبز ولا لحم ([65]).

وقال: أكل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بشعا ولبس خشنا، فسئل أبو الحسن ما البشع؟ قال: غليظ الشعير، وما كان يسفه إلا بجرعة من ماء([66]).

وقال: ما أعلم أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رأى رغيفا مرققا بعينه، حتى لحق بربه، ولا شاة سميطا قط ([67]).

وعن ابن عباس  أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يبيت الليالي المتتابعة طاويا، وأهله لا يجدون عشاء، وكان عامة خبزهم خبز الشعير ([68]).

وعن سهل بن سعد  قال: ما شبع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في يوم شبعتين حتى فارق الدنيا ([69]).

وعن أبي حازم قال: قلت لسهل بن سعد: أكانت المناخل على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ فقال: ما رأيت منخلا في ذلك الزمان، وما أكل النبي صلى الله عليه وآله وسلم الشعير منخولا حتى فارق الدنيا، قلت: كيف تصنعون؟ قال: (كنا نطحنها، ثم ننفخ قشرها، فيطير ما طار، ويتمسك ما استمسك) ([70])

قلت: فحدثني لباسه.

قال: لقد حدث ابن عمر  قال: كنا جلوسا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، إذ جاء رجل من الأنصار، فسلم عليه، ثم أدبر الأنصاري، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (يا أخا الأنصار، كيف أخي سعد بن عبادة؟) فقال: صالح، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (من يعوده منكم؟) فقام وقمنا معه، ونحن بضعة عشر، ما علينا نعال، ولا خفاف، ولا قلانس، ولا قمص، نمشي في تلك السباخ، حتى جئناه، فاستأخر قومه من حوله حتى دنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه الذين معه([71]).

***

بقيت مع أويس مدة أنهل من علمه وزهده.. وقد كان يأتيه الكبار والصغار والعامة والوجهاء.. فلا يختلف سلوكهم معهم جميعا.. وكأنهم بالنسبة إليه شخص واحد يتعامل معه باعتبار إنسانيته لا باعتبار رتبته وطبقته.

وكان الجميع ـ على حسب ما رأيت ـ لا يخرج من عنده إلا بعزيمة صادقة، وهمة عالية، وكأنه سقاهم الترياق الذي يسيرون به في حياتهم وفق ما تقتضيه الهمم العالية، لا وفق ما تتطلبه الحظوظ الدنية.

لقد تعلمت من صحبته قيمة الزهد وأثره العظيم في الإصلاح بكل جوانبه.. الإصلاح النفسي.. والإصلاح الاجتماعي.. بل والإصلاح السياسي..

وعنده تعلمت أن الزهد ـ الذي كنت أحتقره ـ قيمة من القيم الرفيعة، وخلق من الأخلاق العالية.. وأن معانيه لو انتشرت بين العامة والخاصة لجردت الحياة من أشواك الصراع التي ينبتها الحرص والرغبة والطمع والتثاقل إلى الأرض.

بقيت مع أويس إلى أن جاء ذلك اليوم الذي لقي فيه ربه.. وقد بكيت فيه كما لم أبك على أقرب أقاربي..

التفت الوارث إلينا، وقال: إن شئتم حدثتكم عن حفل التأبين الذي أقيم له.. والذي حضره كل من تتلمذوا على يديه من الكبار والصغار.. بل إني لم أر في حياتي ازدحاما على جنازة أحد كما رأيت الازدحام على جنازته.

أشرنا إليه بالإيجاب، فقال: في ذلك اليوم قام خطيب من الخطباء تخنقه دموعه، عرفت بعد ذلك أن اسمه (ابن السماك)([72])، وقال: يا أيها الناس إن أهل الدنيا تعجلوا غموم القلب وهموم النفس وتعب الأبدان مع شدة الحساب، فالرغبة متعبة لأهلها في الدنيا والآخرة، والزهادة راحة لأهلها في الدنيا والآخرة، وإن أويسا نظر بقلبه إلى ما بين يديه فأغشى بصر قلبه بصر العيون، فكأنه لم يبصر ما إليه تنظرون، وكأنكم لا تبصرون ما إليه ينظر، فإنكم منه تعجبون وهو منكم يتعجب، فلما نظر إليكم راغبين مغرورين قد ذهبت على الدنيا عقولكم وماتت من حبها قلوبكم وعشقتها أنفسكم وامتدت إليها أبصاركم استوحش الزاهد منكم لأنه كان حيا وسط موتى)

قال ذلك، ثم توجه إلى نعش أويس مخاطبا له، وكأنه حي أمامه: يا أويس.. ما أعجب شأنك.. ألزمت نفسك الصمت حتى قومتها على العدل، أهنتها وإنما تريد كرامتها، وأذللتها وإنما تريد إعزازها، ووضعتها وإنما تريد تشريفها، وأتعبتها وإنما تريد راحتها، وأجعتها وإنما تريد شبعها، وأظمأتها وإنما تريد ريها، وخشنت الملبس وإنما تريد لينه، وجشبت المطعم وإنما تريد طيبه، وأمت نفسك قبل أن تموت، وقبرتها قبل أن تقبر، وعذبتها قبل أن تعذب، وغيبتها عن الناس كي لا تذكر، وغبت بنفسك عن الدنيا إلى الآخرة، فما أظنك إلا قد ظفرت بما طلبت.. كأن سيماك في عملك وسرك، ولم يكن سيماك في وجهك، فقهت في دينك ثم الناس يفتون، وسمعت الأحاديث ثم تركت الناس يحدثون ويروون، وخرست عن القول وتركت الناس ينطقون، لا تحسد الأخيار ولا تعيب الأشرار، ولا تقبل من السلطان عطية، ولا من الأخوان هدية، آنس ما تكون آنس ما تكون إذا كنت بالله خاليا، وأوحش ما تكون إذا كنت مع الناس جالسا، فأوحش ما تكون آنس ما يكون الناس، وآنس ما تكون أوحش ما يكون الناس جاوزت حد المسافرين في أسفارهم، وجاوزت حد المسجونين في سجونهم، فأما المسافرون فيحملون من الطعام والحلاوة ما يأكلون، فأما أنت فإنما هي خبزتك أو خبزتان في شهرك، ترمي بها في دن عندك فإذا أفطرت أخذت منه حاجتك فجعلته في مطهرتك ثم صببت عليه من الماء ما يكفيك، ثم اصطنعت به ملحا فهذا إدامك وحلواك، فمن سمع بمثلك صبر صبرك أو عزم عزمك، وما أظنك إلا قد لحقت بالماضين، وما أظنك إلا قد فضلت الآخرين ولا أحسبك إلا قد أتعبت العابدين، وأما المسجون فيكون مع الناس محبوسا فيأنس بهم وأما أنت فسجنت نفسك في بيتك وحدك فلا محدث وجليس معك، ولا أدري أي الأمور أشد عليك، الخلوة في بيتك تمر بك الشهور والسنون أم تركك المطاعم والمشارب، لا ستر على بابك، ولا فراش تحتك، ولا قلة يبرد فيها ماؤك، ولا قصعة يكون فيها غداؤك وعشاؤك? مطهرتك قلتك وقصعتك تورك وكل أمرك يا أويس عجب، أما كنت تشتهي من الماء بارده ولا من الطعام طيبه ولا من اللباس لينه? بلى، ولكنك زهدت فيه لما بين يديك فما أصغر ما بذلت، وما أحقر ما تركت، وما أيسر ما فعلت في جنب ما أملت، أما أنت فقد ظفرت بروح العاجل وسعدت إن شاء الله في الآجل، عزلت الشهرة عنك في حياتك لكي لا يدخلك عجبها ولا يلحقك فتنتها فلما مت شهرك ربك بموتك وألبسك رداء عملك، فلو رأيت اليوم كثرة تعبك عرفت أن ربك قد أكرمك)

فلما فرغ من خطبته قام آخر، عرفت فيما بعد أن اسمه (محمد بن الحسين)([73]) فقال: لما علم أهل الفضل والعلم والمعرفة والأدب أن الله عز وجل قد أهان الدنيا، وأنه لم يرضها لأوليائه، وأنها عنده حقيرة قليلة، وأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم زهد فيها وحذر أصحابه من فتنتها، أكلوا منها قصداً وقدموا فضلاً، وأخذوا منها ما يكفي وتركوا ما يلهي، لبسوا من الثياب ما ستر العورة، وأكلوا من الطعام أدناه مما سد الجوعة، ونظروا إلى الدنيا بعين أنها فانية؛ وإلى الآخرة أنها باقية، فتزودوا من الدنيا كزاد الراكب فخربوا الدنيا وعمروا بها الآخرة، ونظروا إلى الآخرة بقلوبهم فعلموا أنهم سينظرون إليها بأعينهم فارتحلوا إليها بقلوبهم لما علموا أنهم سيرتحلون إليها بأبدانهم، تعبوا قليلاً وتنعموا طويلاً، كل ذلك بتوفيق مولاهم الكريم، أحب ما أحب لهم وكرهوا ما كره لهم)

ثم قام خطباء آخرون رددوا فضائل أويس.. ورددوا معها فضائل القيم التي كان يحملها ويدعو إليها.. وقد كان لتلك الخطب تأثير كبير في المستمعين..

لقد أحسست حينها أن موت أويس كحياته.. كلاهما كان بركة على من لقيه وتتلمذ على يديه أو على أخباره.

في ذلك اليوم.. وبعد انصراف الناس، رأيت قرن، وكأنها قد أظلمت علي، فلم أملك إلا أن أخرج منها، وقد تركت فيها قطعة من قلبي لا تزال عالقة في ثراها.


([1])   (قَرْن) إحدى مدن اليمن، وإليها ينسب أويس القرنيّ..

([2])   رواه البخاري ومسلم، وفي رواية أخرى: (أتاكم أهل اليمن هم أضعف قلوبا وأرق أفئدة، والفقه يمان والحكمة يمانية)

([3])   رواه الطبراني في الكبير.

([4])   أشير به إلى أويس القرني.. وهو أحد أئمة الزهد الكبار، وقد بشر به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في قوله: إن خير التابعين رجل يقال له أويس، وله والدة هو بها بر، لو أقسم على الله لابره، وكان به بياض فبرئ.. رواه مسلم وغيره.

([5])   رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح.

([6])   هذه الوصية مروية عن داود الطائي رواها محمد بن أشكاب قال: حدثني رجل من أهل داود الطائي قال: قلت له يوما: ما أبا سليمان قد عرفت الرحم التي بيننا فأوصني، قال:.. ثم ذكر الوصية. (صفة الصفوة)

([7])   حدث أبو محمد العابد قال: دخل أبو يوسف على داود الطائي فقال له: ما رأيت أحدا رضي من الدنيا بمثل ما رضيت به فقال: يا يعقوب من رضي الدنيا كلها عوضا عن الآخرة فذاك الذي رضي بأقل مما رضيت.

وقال حماد لداود الطائي: يا أبا سليمان لقد رضيت من الدنيا باليسير. قال: أفلا أدلك على من رضي بأقل من ذلك؟ من رضي بالدنيا كلها عوضا عن الآخرة.

([8])   الحبط: انتفاخ بطن الدابة من الامتلاء أو من المرض؛ يقال: حبط الرجل والدابة تحبطًا وحبطًا إذا أصابه ذلك.

([9])   أو يلم: ألمَّ به يلمُّ: إذا قاربه ودنا منه. يعني: أو يقرب من الهلاك.

([10])   الخضِر: ضروب من النبات مما له أصل غامض في الأرض كالنصيِّ. وليس من أحرار البقول وإنما هو من كلأ الصيف. والنَّعمُ لا تستكثر منه وإنما ترعاه لعدم غيره.

([11])   فثلطت: ثلط البعير يثلط: إذا ألقى رجيعه سهلاً رقيقًا.

([12])   رواه البخاري ومسلم.

([13])   جامع الأصول: 4/502.

([14])   رواه مسلم.

([15])   عدة الصابرين: 279، 280.

([16])   رواه الترمذي.

([17])   عدة الصابرين:279.

([18])   رواه أحمد.

([19])   الأسك: مقطوع الأذن أو صغيرها.

([20])   رواه مسلم.

([21])   رواه البخاري ومسلم.

([22])   رواه البخاري ومسلم.

([23])   رواه مسلم.

([24])   رواه البخاري ومسلم.

([25])   رواه مسلم.

([26])   رواه الترمذي، وقال: حديث حسنٌ.

([27])   رواه مسلم.

([28])   رواه البخاري.

([29])   التجفافُ: َهُوَ شَيْءٌ يُلْبَسُهُ الفَرَسُ، لِيُتَّقَى بِهِ الأَذَى، وَقَدْ يَلْبَسُهُ الإنْسَانُ.

([30])   رواه الترمذي، وقال: حديث حسن.

([31])   رواه ابن ماجه وغيره.

([32])   والزهد يشملهما جميعا خلافا لمن زعم غير ذلك، انظر رسالة (كنوز الفقراء)

([33])   رواه الترمذي، وقال: حديث غريب، وراه ابن ماجة والطبراني.. وغيرهم.

([34])   إحياء علوم الدين: 3/228، فما بعدها.

([35])   ذكرنا هذه العبارة في مقدمة هذه الرسالة على لسان (معلم السلام)

([36])   وفي هذا المعنى ما يذكره العلماء من أن كل كرامة لولي هي في الحقيقة امتداد لمعجزات الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لأنه لولا المتابعة الصادقة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما حصلت له تلك الكرامة، فلذلك نقول هنا: (لولا المتابعة التامة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما حصل للورثة ذلك السلوك الرفيع الذي تميزوا به)

([37])   أي ما غلظ أو ما كان بلا أدم.

([38])   بصرم: بانقطاعها وفنائها.

([39])   وولت حذاء: سريعة.

([40])   يتصابها: يجمعها.

([41])   قرحت:أي صارت فيها قروح.

([42])   رواه مسلم.

([43])   رواه البخاري ومسلم.

([44])   رواه البخاري ومسلم.

([45])   رواه ابن سعد، والترمذي.

([46])   رواه أبو ذر الهروي.

([47])   رواه أحمد، وابن حبان.

([48])   رواه ابن المبارك.

([49])   رواه البخاري ومسلم.

([50])   رواه الحسن بن عرفة في جزئه المشهور، وابن عساكر.

([51])   رواه ابن حبان.

([52])   رواه البخاري ومسلم.

([53])   رواه ابن عساكر.

([54])   رواه أحمد برجال ثقات غير سليمان بن رومان.

([55])   رواه الطبراني في الأوسط بسند حسن.

([56])   رواه الطبراني في الأوسط بسند حسن.

([57])   رواه البخاري ومسلم والبيهقي.

([58])   رواه ابن عساكر.

([59])   رواه ابن عساكر.

([60])   رواه ابن عدي.

([61])   رواه ابن سعد.

([62])   رواه أحمد، وابن سعد وأبو داود.

([63])   رواه البخاري ومسلم.

([64])   رواه ابن أبي شيبة، أحمد، وأبو يعلى، والترمذي في الشمائل.

([65])   رواه ابن سعد.

([66])   رواه أبو الحسن بن الضحاك.

([67])   رواه ابن سعد.

([68])   رواه أحمد، وابن سعد والترمذي وصححه.

([69])   رواه الطبراني.

([70])   رواه ابن سعد والدارقطني في الافراد، وصححه.

([71])   رواه مسلم.

([72])   نص هذه الخطبة (لابن السماك) قالها عند موت داود الطائي.

([73])   هذه الخطبة لم تقل في هذا الموضع، ولكني ذكرتها هنا لمناسبتها له.

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *