رابعا ـ استغلال

في مساء اليوم الرابع.. وفي دار الندوة الجديدة.. دخل جيري فالويل([1]).. وهو في مظهره الخارجي يمثل رجل دين كأحسن ما يكون رجال الدين هيبة ووقارا.. ولكنه في حقيقته التي لا يعرفه من خلالها إلا خواص أصحابه من أعظم رجال الدنيا، وأكثرهم شغفا بها وحرصا عليها وتضحية في سبيلها بكل شيء..
لقد كنت أرى فيه شخص (يهوذا الأسخريوطي) بكل ما يمثله يهوذا من معاني.. فإن كان يهوذا قد سلم المسيح من أجل قليل من المال.. فإن هذا يسلم بكل مبادئ المسيح من أجل ذلك القليل.
وقد كان لهذه الصفة فيه سيء الظن بمن حوله، فلا يرى من يقترب منه أو يتودد إليه إلا لصا يريد أن ينال من ماله، أو يأكل من طعامه.. فلذلك تجده أبعد الناس عن الناس.. يبتسم لهم.. ولكنه سرعان ما يعرض عنهم حتى لا يطمع أحد فيه..
ولكنه إن وجد في الناس من يستطيع أن يأكل هو من طعامه، أو ينال هو من ماله أقبل عليه إقبالا كليا، وسلمه ما شاء من صكوك الغفران..
وكان لهذا يذكرني بقوله تعالى:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ } (التوبة:34)
دخل جيري فالويل في ذلك المساء دار الندوة الجديدة بوجه لا يصعب على أي أحد أن يرى ما فيه من تغير..
ابتدرته الجماعة قائلة: ما الذي فعلت!؟.. ما نسبة نجاحك!؟.. هل هناك نتائج إيجابية!؟
نظر إليهم بقسوة، وقال: أرى أننا نريد أن نخرج الماء من بئر شحيحة لا تسح بقطرة.. فدعنا منهم.. ولنبحث عن منبع آخر.. فليس عند أولئك الأشحاء شيء.
قالوا: ماذا فعلت معهم؟
قال: لقد رميتهم بكل أسلحتي.. لكنهم استغلوا بعض النصوص راحوا يصفعون بها وجهي.. ويستغلون بها طهارة قلوب العوام ليقنعوهم بدين اللصوص وقطاع الطرق.
قال ذلك، ثم راح يستغرق في اللاشيء المحيط به.. ابتدر أخي، ووضع القرص في القارئ، وبدأ شريط الأحداث:
ظهر جيري فالويل في ميدان الحرية محاطا بجماعة من الناس، وهو يقول لهم: هل تريدون وصفا جامعا لمحمد يغنيكم عن كل وصف؟
قال رجل من الجماعة: أي محمد تقصد؟ .. هل تقصد ذلك النبي الذي ظهر في تلك الصحراء المجدبة فحولها جنة فيحاء.. وظهر في ذلك الزمن المملوء بالظلمات، فحوله زمنا مملوءا بالأنوار؟
قال جيري: بل أقصد ذلك اللص قاطع الطريق الذي راح يستغل كل شيء ليحقق لنفسه كل شيء.
قال الرجل: فأنت تقصد رجلا يسمى بمحمد غير النبي محمد؟
قال جيري: بل لا أقصد غير ذلك الرجل الذي استغل بساطة الناس، فراح يدعي النبوة ليجني منها ما شاءت له نفسه من أموال وجاه.
هنا ظهر الحكيم كالنور المشرق، وصاح: أرى أنك صاحب بنك؟
قال جيري: لا.. بل أنا رجل دين.
قال الحكيم: يمكن لرجل الدين أن يملك بنكا.. لا حرج عليه في ذلك.. لا حرج عليه في المسيحية، ولا حرج في الإسلام.
قال جيري: فلنفرض أني أملك بنكا.. ما علاقة ذلك بما نحن فيه؟
قال الحكيم: أصحاب البنوك في العادة هم الذين يعرفون مقادير الثروات التي تخفى على سائر الناس.
قال جيري: فلنفرض ذلك.. ما علاقة ذلك بما نحن فيه؟
قال الحكيم: لذلك علاقة عظيمة.. فأنت قد ذكرت بأن محمدا إنسان استغل النبوة لبجني من ورائها أموالا وجاها.. وصاحب المال يحتاج أن يضع ماله في بنك ليحفظه ويزيده.
قال جيري: لا شك أنك مجنون.
قال الحكيم: لم؟
قال جيري: لأن محمدا مات منذ قرون طويلة.. ولم يكن أهل تلك القرون يسمعون بالبنوك.
قال الحكيم: فكيف عرفت ثروة محمد.. وأنه جناها من خلف ستار النبوة؟
قال جيري: كل شيء يدل على ذلك.. فرجل بسيط كان يرعى الغنم بقراريط يتحول إلى زعيم عظيم تجبى إليه الأموال من كل صوب.. وتجبى إليه قبلها القلوب لاشك أنه إنسان مستغل.. أو بتعبير آخر أكثر صراحة: لاشك أنه لص مختبئ في ثياب نبي.
قال الحكيم: دعنا من الصراحة الوقحة.. ولنبحث في حقائق التاريخ عن حياة محمد، وعلاقتها بما تسميه استغلالا أو لصوصية.
قال جيري: أنا لم أحكم بما ذكرت لك إلا انطلاقا من حقائق التاريخ.
قال الحكيم: قبل أن أجيبك من حقائق التاريخ أجبني..
قال جيري: سل ما بدا لك.
قال الحكيم: لو أن لصا طالب جاه ومنصب استدعاه الملأ من قومه، وعرضوا عليه أموالهم وما اشتهاه من منصب وجاه من غير تعب منه ولا نصب، فأعرض عن ذلك، وقال: أنا لا أريد أن آخذ أموالكم إلا بالتعب والنصب، ولن أتأمر عليكم إلا بعد أن يشتعل رأسي شيبا، وتشتعل حياتي ألما وتعبا وهما وغما.
قال جيري: مجنون من يقول هذا.. ولا أظن أن هناك لصا في الدنيا يعرض عن الفريسة السهلة ليقع على الفريسة الشديدة.. إن الأسود مع بهيميتها وصغر عقولها لا تفعل ذلك.
قال الحكيم: فهل ترى محمدا صاحب عقل وحكمة، أم أنك تراه أضعف عقلا من الأسود وسائر الوحوش؟
قال جيري: بل أرى عقله قد اجتمعت فيه العقول، ولكنه راح يستغله في الحيلة ليقتنص من المال والجاه ما لم يحلم به أبوه وجده.
قال الحكيم: لقد روى المؤرخون الذين تستند إليهم أن محمدا قد عرض عليه في بداية حياته الدعوية ـ أي في نواحي الأربعين ـ كل ما يشتهي من جاه ومال ومنصب.. ولكنه أعرض عن ذلك..
سكت قليلا، ثم قال: سأحدثك حديث ذلك.. فلعله لم يبلغك.
لقد روى المؤرخون بأسانيد كثيرة([2]) أن قريشا اجتمعت يوما بعد أن رأت أن الإسلام لا تزيده الأيام إلا قوة، فقالوا: انظروا أعلمكم بالسحر والكهانة والشعر فليأت هذا الرجل الذي فرق جماعتنا شتت أمرنا وعاب ديننا، فليكلمه ولينظر ماذا يرد عليه، فقالوا: ما نعلم أحدا غير عتبة بن ربيعة([3])، فقالوا: بلى يا أبا الوليد فقم إليه فكلمه.
فقام عتبة حتى جلس إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال:(يا ابن أخي إنك منا حيث قد علمت من السطة في العشيرة والمكان في النسب، وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم فرقت به جماعتهم وسفهت أحلامهم وعبت آلهتهم ودينهم وكفرت من مضى من آبائهم.. فتكلم نسمع قولك، إنا والله ما رأينا سخلة قط أشأم على قومك منك، فرقت جماعتنا وأشتت أمرنا وعبت ديننا وفضحتنا في العرب، حتى طار فيهم أن في قريش ساحرا وإن في قريش كاهنا والله ما ننتظر إلا مثل صيحة الحبلى أن يقوم بعضنا بعضا إليك بالسيوف حتى نتفانى.
لما رأى صمت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعدم إجابته له، قال: أيها الرجل، فاسمع مني أعرض عليك أمورا تنظر فيها لعلك تقبل منا بعضها، فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:(قل أبا الوليد أسمع)
فقال: يا ابن أخي، إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالا جمعناه لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا، وإن كنت تريد به الشرف سودناك علينا حتى لا نقطع أمرا دونك، وإن كنت تريد ملكا ملكناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك رئيا لا تستطيع رده عن نفسك طلبنا لك الطلب وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرئكك منه، فإنه ربما غلب التابع على الرجل حتى يداوى منه.
حتى إذا فرغ عتبة ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يسمعه منه قال له: أقد فرغت أبا الوليد؟ قال: نعم، قال: فاسمع مني، قال: أفعل.
فراح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقرأ من سورة فصلت، فلما سمعه عتبة أنصت لها وألقى يديه خلف ظهره معتمدا عليهما، فسمع منه إلى أن بلغ قوله تعالى:{ فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} (فصلت:13)، فأمسك عتبة على فيه وناشده الرحم أن يكف عنه، ثم انتهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى السجدة منها فسجد ثم قال: قد سمعت أبا الوليد ما سمعت فأنت وذاك، فقال: ما عندك غير هذا؟ فقال: ما عندي غير هذا.
فقام عتبة ولم يعد إلى أصحابه واحتبس عنهم فقال أبو جهل: والله يا معشر قريش ما نرى عتبة إلا قد صبا إلى محمد وأعجبه طعامه، وما ذاك إلا من حاجة أصابته فانطلقوا بنا إليه، فأتوه.
فقال أبو جهل: والله يا عتبة ما جئناك إلا أنك قد صبوت إلى محمد وأعجبك أمره فإن كان لك حاجة جمعنا لك من أموالنا ما يغنيك عن طعام محمد.
فغضب وأقسم لا يكلم محمدا أبدا وقال: لقد علمتم أني من أكثر قريش مالا ولكني أتيته، فقص عليهم القصة، قالوا: فما أجابك؟ قال: والله الذي نصها بنية ما فهمت شيئا مما قال غير أنه أنذركم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود فأمسكت بفيه وناشدته الرحم أن يكف وقد علمتم أن محمدا إذا قال شيئا لم يكذب فخفت أن ينزل عليكم العذاب.
قالوا: ويك يكلمك الرجل بالعربية لا تدرى ما قال؟! قال: والله ما سمعت مثله، والله ما هو بالشعر ولا بالسحر ولا بالكهانة، يا معشر قريش أطيعوني واجعلوها بي وخلوا بين الرجل وبين ما هو فيه فاعتزلوه فو الله ليكونن لقوله الذي سمعت نبأ فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم، وإن يظهر على العرب فملكه ملككم وعزه عزكم وكنتم أسعد الناس به، يا قوم أطيعوني في هذا الأمر واعصوني بعده، فو الله لقد سمعت من هذا الرجل كلاما ما سمعت أذناي كلاما مثله وما دريت ما أرد عليه.
قالوا: سحرك والله يا أبا الوليد.
قال: هذا رأيي فيه فاصنعوا ما بدا لكم.
التفت إلى جيري، وقال: أرأيت هذا الموقف.. هل يمكن لإنسان حريص جشع لص لم ينهض إلا ليحقق مآربه الشخصية أن يقف مثل هذا الموقف؟
ليس ذلك فقط.. ولم يعرض عليه ذلك في ذلك المحل فقط.. بل عرض عليه في محال كثيرة إلى أن ملأ قلوب أعدائه يأسا بقوله لعمه:(يا عم، والله لو وضعوا الشمس في يمينى، والقمر في يسارى على أن أترك هذا الأمر ـ حتى يظهره الله أو أهلك فيه ـ ما تركته)
ليس ذلك فقط.. بل إنه لم يقبل أن ينتصر مع التخلي عن جزء بسيط من المبادئ التي كلف بأدائها، لقد روي أنه ـ في تلك الأيام الشديدة التي اشتد فيها أذى أعدائه عليه وعلى أصحابه ـ أتى إلى قبيلة بني عامر بن صعصعة فدعاهم إلى الله، وعرض عليهم نفسه، فقال رجل منهم اسمه (بَيْحَرَة بن فِرَاس):(والله، لو أني أخذت هذا الفتى من قريش لأكلت به العرب)، ثم قال للنبي صلى الله عليه وآله وسلم:(أرأيت إن نحن بايعناك على أمرك، ثم أظهرك الله على من خالفك أيكون لنا الأمر من بعدك؟)، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (الأمر إلى الله، يضعه حيث يشاء)، فقال الرجل:(أفَتُهْدَفُ نحورنا للعرب دونك، فإذا أظهرك الله كان الأمر لغيرنا، لا حاجة لنا بأمرك، فأبوا عليه)
التفت إلى جيري، وقال: هل ترى هذا التصرف تصرف مستغل للفرص منتهز لها.. لقد كان في إمكان محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن يفعل ما تفعله أكثر الأحزاب، حين تتخلى عن مبادئها، وتتحالف مع العدو والصديق.. لتحقق من مآربها الشخصية ما تشاء، ولكن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم لم يفعل ذلك.. لقد كانت مبادئه أغلى من كل شيء.
قال جيري: يمكنك أن تذكر كل ذلك.. ويمكنك أن تذكر أكثر من ذلك، ولكن تاريخ محمد أوسع من أن ينحصر في حياته المكية..
ربما أسايرك في أن محمدا بدأ حياته كصاحب مبدأ.. ولكنه فعل في الأخير ما يفعله أكثر أصحاب المبادئ.. فإنهم سرعان ما يتيهون عن مبادئهم حين يعتلون عروش السلطة، أو حين يبهرهم بريق الذهب.
قال الحكيم: فأنت تريد إذن أن أحدثك عن حياته المدنية؟
قال جيري: في تلك الحياة استغل محمد منصبه أكبر استغلال.
قال الحكيم: إن المستغل هو الذي يأخذ ولا يعطي.. يأخذ كل شيء، ثم لا يعطي شيئا.. ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن كذلك.. بل كان العفيف الذي لا يأخذ، والكريم الذي لا يتوقف عن العطاء.. ويستحيل على المستغل أن يكون له هذان الخلقان.
قال جيري: من السهل أن تدعي ما تشاء.
قال الحكيم: فلنحتكم إلى حقائق التاريخ وأسانيده لنرى كيف كان محمد صلى الله عليه وآله وسلم في حياته.. وما علاقتها بما يفعله المستغلون من تلصص وشح.
تعلقت أنظار الجماعة بالحكيم، فشجعه ذلك على أن يتحدث عن الأدلة النافية للشبهة التي طرحها صاحبنا جيري فالويل.
قال الحكيم: لعل أول صفة وأعظم صفة في محمد صلى الله عليه وآله وسلم.. وهي صفة يشاركه فيها جميع رسل الله وأنبياؤه.. هي عفافه عن أموال الناس وزهده فيها..
لقد قال الله تعالى يذكر ذلك، ويأمره به:{ قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ)(الأنعام:90)، وقال تعالى:{ قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً} (الفرقان:57)، وقال تعالى:{ قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} (صّ:86)
ولهذا اعتبر القرآن الكريم من أدلة صدق محمد صلى الله عليه وآله وسلم عفافه عن أمواله قال تعالى:{ أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ} (الطور:40)، وقال تعالى:{ أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} (المؤمنون:72)
فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن ينال على تلك الوظيفة الخطيرة التي كلف بها، والتي جعلته لا يرتاح ليل نهار، أي أجر سوى الأجر الذي أعده الله له.
بل هو فوق ذلك أمر بأن يعيش جميع حياته ـ مهما فتح الله عليه من الدنيا ـ بتواضع وزهد وبعد عن الملذات التي يتهافت عليه الناس، قال تعالى:{ لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ} (الحجر:88)، وقال تعالى:{ وَلا تَمُدَّنَ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} (طـه:131)
بل إن نساء النبي صلى الله عليه وآله وسلم اشتكين من شدة العيش التي كن يعشنها، فنزل القرآن الكريم يخيرهن بين تلك الحياة التي فرضت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بحكم وظيفته الخطيرة، وبين السراح للتمتع بما شئن من الحياة الدنيا، قال تعالى:{ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (28) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآَخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا (29)} (الأحزاب)
التفت الحكيم إلى جيري، وقال: لقد كان ذلك في المدينة المنورة، حيث كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو زعيمها الأوحد..
لقد كان في إمكانه حينها أن ينعم بأجمل حياة وأمتع حياة.. ولكنه رفض كل ذلك، وعاش حياة لا يعيشها أدنى فقيرا رأيته في حياتك.
لن أجازف، فأتكلم كلاما من عندي، ولذلك سنذهب إلى التاريخ الذي رضيت أن نعتبره حكما.. فالتاريخ هو الوحيد الذي يفسر تلك الآيات التي تبين كيف كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حياته.
حدث ابن عباس قال: كنت أريد أن أسأل عمر عن قول الله تعالى:{ إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} (التحريم:4)، فكنت أهابه حتى حججنا معه حجة، فقلت: لئن لم أسأله في هذه الحجة لا أسأله، فلما قضينا حجنا أدركناه، وهو ببطن مر، وقد تخلف لبعض حاجاته، فقال: مرحبا بك يا ابن عم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما حاجتك؟ قلت: شئ كنت أريد أن أسألك عنه، فكنت أهابك فقال: سلني عما شئت، فإنا لم نكن نعلم شيئا حين تعلمنا، فقلت: أخبرني عن قول الله تعالى:{ وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ } من هما؟ قال: لا تسأل أحدا أعلم بذلك مني، كنا بمكة لا يكلم أحدنا امرأته، إنما هي خادم البيت، فلما قدمنا المدينة، تعلمنا من نساء الأنصار، فجعلن يكلمننا ويراجعننا، وإني أمرت غلمانا لي ببعض الحاجة، فقالت امرأتي: بل اصنع كذا وكذا، فقمت إليها بقضيب، فضربتها به، فقالت: يا عجبا لك، يا بن الخطاب! تريد أن لا تكلم فإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تكلمه نساؤه، فخرجت فدخلت على حفصة، فقلت: يا بنية، انظري لا تكلمي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولا تسأليه، فإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليس عنده دينار ولا درهم يعطيكهن، فما كانت لك من حاجة حتى دهن رأسك فسليني.
وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا صلى الصبح جلس في مصلاه، وجلس الناس حوله حتى تطلع الشمس، ثم دخل على نسائه امرأة امرأة يسلم عليهن ويدعو لهن، فإذا كان يوم إحداهن جلس عندها، وإنها أهديت لحفصة بنت عمر عكة عسل من الطائف أو من مكة وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا دخل يسلم عليها حبسته حتى تلعقه منها أو تسقيه منها، وأن عائشة أنكرت احتباسه عندها، فقالت لجويرية عندها حبشية ـ يقال لها خضراء ـ: إذا دخل على حفصة فادخلي عليها، فانظري ما يصنع فأخبرتها الجارية بشأن العسل، فأرسلت عائشة إلى صواحبتها، فأخبرتهن، وقالت: إذا دخل عليكن فقلن: إنا نجد منك ريح معافيرن ثم إنه دخل على عائشة، فقالت: يا رسول الله، أطعمت شيئا منذ اليوم، فإني أجد منك ريح مغافير، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أشد شئ عليه أن يوجد منه ريح شئ، فقال: هو عسل، والله لا أطعمه أبدا حتى إذا كان يوم حفصة، قالت: يا رسول الله، إني لي حاجة إلى إن نفقت لي عنده، فأذن لي أن آتيه فأذن لها، ثم إنه أرسل إلى جاريته مارية، فأدخلها بيت حفصة، فأتت حفصة فوجدت الباب مغلقا، فجلست عند الباب، فخرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو فزع ووجهه يقطر عرقا، وحفصة تبكي، فقال: ما يبكيك؟ فقالت: إنما أذنت لي من أجل هذا، أدخلت أمتك بيتي، ما كنت تصنع هذا بامرأة منهن، أما والله ما يحل لك هذا يا رسول الله، فقال: والله، ما صدقت: أليس هي جاريتي، قد أحلها الله تعالى لي، أشهدك أنها علي حرام، ألتمس بذلك رضاك، انظري لا تخبري بذلك امرأة منهن، فهي عندك أمانة.
فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قرعت حفصة الجدار الذي بينها وبين عائشة، فقالت: ألا أبشري، إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد حرم أمته، فقد أراحنا الله منها.
فأنزل الله تعالى:{ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (التحريم:1)، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:{ وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ} (التحريم:4)، فهي عائشة وحفصة، وزعموا أنهما كانتا لا تكتم إحداهما للأخرى شيئا، وكان لي أخ من الانصار إذا حضرت، وغاب في بعض ضيعته، حدثته بما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وإذا غبت في بعض ضيعتي، حدثني فأتاني يوما وقد كنا نتخوف جبلة بن الايهم الغساني، فقال: ما دريت ما كان؟ فقلت: وما ذاك؟ لعله جبلة بن الايهم الغساني، تذكر قال: لا ولكنه أشد من ذلك إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صلى صلاة الصبح، فلم يجلس كما كان يجلس، ولم يدخل على أزواجه كما كان يصنع، وقد اعتزل في مسربته، وقد ترك الناس يموجون ولا يدرون ما شأنه، فأتيت والناس في المسجد يموجون ولا يدرون فقال: يا أيها الناس كما أنتم.
ثم أتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو في مسربته، قد جعلت له عجلة، فرقى عليها، فقال لغلام له أسود ـ وكان يحجبه ـ: استأذن لعمر، فاستأذن لي فدخلت ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في مسربته فيها حصير وأهب معلقة وقد أفضى بجنبه إلى الحصير، فأثر الحصير في جنبه وتحت رأسه وسادة من أدم محشوة ليفا، فلما رأيته بكيت، قال: ما يبكيك؟ قلت يا رسول الله، فارس والروم أحدهم يضطجع في الديباج والحرير، فقال: إنهم عجلت لهم طيباتهم، والآخرة لنا، ثم قلت: يا رسول الله، ما شأنك؟ فإني قد تركت الناس يموج بعضهم في بعض، فعن خبر أتاك فقال: اعتزلهن؟ فقال: لا، ولكن كان بيني وبين أزواجي شئ فأحببت ألا أدخل عليهن شهرا.
ثم خرجت على الناس، فقلت: يا أيها الناس، ارجعوا، فإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان بينه وبين أزواجه شئ، فأحب أن يعتزل، فدخلت على حفصة، فقلت: يا بنتي، أتكلمين رسول الله وتغيظينه وتغارين عليه؟ فقالت: لا أكلمه بعد بشئ يكرهه، ثم دخلت على أم سلمة وكانت خالتي، فقلت لها كما قلت لحفصة، فقالت: عجبا لك يا عمر، كل شئ تكلمت فيه، حتى تريد أن تدخل بين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبين أزواجه، وما يمنعنا أن نغار على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأزواجكم يغرن عليكم، فأنزل الله تعالى:{ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً} (الأحزاب:28) حتى فرغ منها([4]).
التفت الحكيم إلى جيري، وقال: إن هذه الحادثة التي ذكرتها لك بطولها وقعت في المدينة.. وكل لفظ منها يدلك على مدى الزهد الذي كان يعيشه محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
إنها عند أصحاب الرؤى القاصرة مثار شبه كثيرة، ولكنها عند أصحاب العقول النيرة دليل من دلائل الصدق والزهد والعفاف..
تصور لو أن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم كان يملك قصرا كتلك القصور التي يملكها أثرياء عصره.. أو على الأقل كان يملك بيوتا كثيرة ممتلئة بالأثاث الكثير الذي كان ينعم به أهل عصره.. هل كان لمثل هذه الأحداث أن تقع؟
لا.. لن تقع أبدا.. لأن السبب الأول في هذه الأحداث هو المال.. فلو أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان ذا مال وذا ثروة وذا بيوت واسعة كثيرة ما حصل ما حصل.
لقد رأيت صورة لبيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم.. وقد ورد في رواية أخرى عن عمر قال: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فإذا هو متكئ على رمال حصير قد أثر في جنبه، فرفعت رأسي في البيت، فوالله ما رأيت فيه شيئا يرد البصر، إلا أهب ثلاثة معلقة، وصبرة من شعير، فهملت عينا عمر، فقال: ما لك؟ فقلت: يا رسول الله أنت صفوة الله من خلقه، وكسرى وقيصر فيما هما فيه؟ فجلس محمرا وجهه، فقال: (أفي شك أنت يا ابن الخطاب؟ ثم قال: أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في حياتهم الدنيا، أما ترضى أن تكون لهم الدنيا، ولنا الآخرة؟) قلت: بلى، يا رسول الله، فأحمد الله عز وجل)، ثم قال:(يا عمر لو شاء أن يسير الجبال الراسيات معي ذهبا لسارت)([5])
وعن ابن مسعود قال: اضطجع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على حصير فأثر في جنبه، فلما استيقظ جعلت أمسح عنه، فقلت: يا رسول الله ألا آذنتنا فبسطت شيئا يقيك منه، تنام عليه، فقال: (ما لي وللدنيا، ما أنا والدنيا إلا كراكب سار في يوم صائف، فقال تحت شجرة ثم راح وتركها)([6])
التفت إلى الجمع المحيط به، ثم قال: لا تحسبوا أن هذه الفاقة فاقة ناتجة عن حاجة حقيقية، أو أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن يملك إلا هذا الخيار.. لا.. لقد كان الغنى أمامه.. لقد كان الغنى أقرب إليه من الفقر.. ولكنه آثر تلك الحياة حتى يكون كأبسط الناس، وأسوة لجميع الناس، وحتى لا يأتي أحد من الناس، فيتصور أن النبوة وسيلة من وسائل الثروة، أو طريق من طرقها.
لقد حدث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن الخيارات التي كانت متاحة أمامه، فقال: (لو شئت لسارت معي جبال الذهب) ([7])
وفي حديث آخر قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (عرض علي ربي بطحاء مكة ذهبا، فقلت: لا يا رب، ولكني أجوع يوما، وأشبع يوما، فإذا شبعت حمدتك، وشكرتك، وإذا جعت تضرعت إليك، ودعوتك) ([8])
وفي حديث آخر عن حبيب بن أبي ثابت عن خيثمة قال: قيل يا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إن شئت أعطيناك خزائن الدنيا، ومفاتيحها لم نعطها أحدا قبلك، ولا نعطيها أحدا بعدك، لا ينقصك ذلك عند الله شيئا، فقال: (اجمعوها لي في الآخرة)، فأنزل الله:{ تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً} (الفرقان:10)
وعن أم سلمة قالت: نام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على وسادة حشوها ليف، فقام وقد أثر بجلده، فبكيت فقال: (يا أم سلمة ما يبكيك؟) قلت: ما أرى من أثر هذه، فقال: (لا تبكي، لو أردت أن تسير معي هذه الجبال لسارت)([9])
وروي أن جبريل u جلس إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فنظر إلى السماء، فإذا ملك ينزل، فقال جبريل: إن هذا ملك ما نزل منذ خلق قبل الساعة، فلما نزل قال: يا محمد إن الله تعالى يخيرك بين أن تكون نبيا عبدا أو تكون نبيا ملكا، فالتفت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى جبريل كالمستشير له، فأشار جبريل إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن تواضع لربك، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (بل أكون نبيا عبدا)، قال ابن عباس: (فما أكل بعد تلك طعاما متكئا حتى لقي ربه)([10])
وعن خيثمة قال: قيل للنبي صلى الله عليه وآله وسلم:(إن شئت أعطيناك خزائن الأرض، ومفاتيحها، ما لم يعط شئ قبلك، ولا نعطيها أحدا بعدك، ولا ينقصك ذلك مما عند الله شيئا، وإن شئت جمعتها لك في الآخرة)، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (اجمعوها لي في الآخرة)([11])
وعن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (عرض علي ربي ليجعل لي بطحاء مكة ذهبا، فقلت: يا رب، ولكن أشبع يوما، وأجوع يوما ـ أو قال: ثلاثة، أو نحو هذا ـ فإذا جعت تضرعت إليك، وإذا شبعت حمدتك، وشكرتك)([12])
وقد ظل هذا الخيار مفتوحا أمام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم طول حياته، فقد حدث أبو سعيد عن الأيام الأخيرة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فذكر أنه صلى الله عليه وآله وسلم جلس على المنبر فقال: (إن عبدا خيره الله تعالى أن يؤتيه من زهرة الدنيا وما عنده، فاختار ما عنده)([13])
بل إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يسأل الله أن يختار له هذا النوع من الحياة البسيطة التي تجعله أقرب الناس إلى الناس، فقد كان يدعو، ويقول:(اللهم اجعل رزق آل محمد قوتا)([14])
وكان يسأل الله حياة المسكنة التي هي أقرب أنواع الحياة للعبودية، كان أبو سعيد يقول: أحبوا المساكين، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (اللهم أحيني مسكينا، وأمتني مسكينا، واحشرني في زمرة المساكين)([15])
وعنه قال:(يا أيها الناس، لا يحملنكم العسر على طلب الرزق من غير حله، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (اللهم توفني فقيرا، ولا توفني غنيا، واحشرني في زمرة المساكين، فإن أشقى الأشقياء من اجتمع عليه فقر الدنيا، وعذاب الآخرة)([16])
ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يكتفي بالدعاء.. بل كان في حياته صلى الله عليه وآله وسلم يتهرب من كل ما يمكن أن يملأ حياته بذخا وترفا.. بل من كل ما يملؤها هدوءا ودعة.
لقد حدثت عائشة قالت: دخلت علي امرأة من الأنصار فرأت على فراش رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عباءة خشنة، فانطلقت، فبعثت إلي بفراش حشوه الصوف، فدخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: (ما هذا يا عائشة؟) فقلت: يا رسول الله فلانة الأنصارية دخلت، فرأت فراشك، فذهبت، فبعثت إلي بهذا الفراش، فقال: (رديه)، قالت: فلم أرده، وقد أعجبني أن يكون في بيتي، حتى قال ذلك مرات، فقال: (رديه يا عائشة، فوالله لو شئت لأجرى الله معي الجبال ذهبا وفضة)([17])
وعن إسماعيل بن أمية قال: صنعت عائشة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فراشين، فأبى أن يضطجع على واحد([18]).
وقد روي أن رجلا أنى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بهدية، فنظر، فلم يجد شيئا يجعلها فيه، فقال: (ضعه في الحضيض، فإنما هو عبد يأكل كما يأكل العبد، ويشرب كما يشرب العبد، لو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ما سقي الكافر منها ماء)([19])
وعن عائشة، قالت: اتخذت لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فراشين حشوهما ليف وإذخر، فقال: (يا عائشة ما لي وللدنيا، إنما أنا والدنيا بمنزلة رجل نزل تحت شجرة في ظلها، حتى إذا فاء الفئ ارتحل، فلم يرجع إليها أبدا)([20])
التفت الحكيم إلى جيري، وقال: هل يمكن لمستغل توفر له من الفرص ما توفر لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم أن يذوق طعم الجوع؟
سكت جيري، فقال بعض القوم: لعل صاحبنا لا يعرف معنى الجوع، فاشرحه له.
قال الحكيم: الجوع جوعان.. هناك جوع يمكن تسميته جوع المترفين، وهو جوع يرجع سببه إلى أن المترف لم يجد من الطعام الذي يشتهي ما يملأ بطنه.. فلذلك لا يرتبط هذا النوع من الجوع بعدم وجود الطعام، وإنما يرتبط بعدم وجود الطعام المشتهى.
وهناك جوع سببه عدم وجود الطعام مطلقا.. لا المشتهى، ولا غير المشتهى.. وهذا هو الجوع الذي ذاقه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى كان يعصب الحجر على بطنه منه.
التفت إلى جيري، وقال: سأذكر لك من النصوص التي تواترت لتدل على هذا([21])، وتنفي أي دخن قد يتسرب منه الشيطان ليملأ القلوب بالوساوس، وسأبدأ حديثي بأقرب الناس إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم والتي ذاقت معه من حياة الزهد ما ذاقت.
لقد ذكرت عائشة حياتها مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقالت: كان يأتي علينا الشهر، وما نوقد فيه نارا، إنما هوالتمر والماء، إلا أن نؤتى باللحم([22]).
وقالت:(ما شبع آل محمد من خبز بر ثلاثة أيام متتابعات، حتى قبض صلى الله عليه وآله وسلم)
وقالت:(ما أكل آل محمد أكلتين في يوم واحد إلا إحداهما تمر)
وقالت: توفي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين شبع الناس من الأسودين، التمر والماء.
وقالت: ما شبعنا من الأسودين التمر والماء.
وقالت: والله لقد مات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وما شبع من خبز، وزيت في يوم واحد مرتين.
وقالت: ما رفع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم غداء لعشاء، ولا عشاء لغداء قط، ولا اتخذ من شئ زوجين لا قميصين، ولا رداءين، ولا إزارين، ولا من النعال ولا رئي فارغا قط في بيته، إما يخصف نعلا لرجل مسكين أو يخيط ثوبا لأرمة([23]).
وقالت:(والذي بعث محمدا بالحق نبيا ما رأى منخلا، ولا أكل خبزا منخولا، منذ بعثه الله إلى أن قبض، قيل، كيف كنتم تصنعون؟ قالت: كنا نقول أف أف ([24]).
وقالت: ما كان بيقى على مائدة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من خبز الشعير قليل ولا كثير ([25]).
وقالت: ما رفعت مائدة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من بين يديه، وعليها فضلة من طعام قط ([26]).
وقالت: ما شبع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثلاثة أيام تباعا حتى مضى لسبيله ([27]).
وكانت تقول لعروة: يا ابن أختي، إنا لننظر إلى الهلال، ثم الهلال، ثم الهلال ثلاثة أهلة في شهرين، وما أوقد في أبيات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نار، قلت: يا خالة فما كان يعيشكم؟ قالت: الأسودان: التمر والماء، إلا أنه قد كان لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جيران من الأنصار، وكانت لهم منائح، وكانوا يرسلون إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من ألبانها، فيسقيناه.
وكانت تقول له:(وايم الله، يا ابن أختي إن كان يمر على آل محمد الشهر لم يوقد في بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نار، لا يكون إلا أن حوالينا أهل دور من الأنصار – جزاهم الله خيرا في الحديث والقديم – فكل يوم يبعثون إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بغزيرة شياههم، فينال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من ذلك، ولقد توفي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وما في رفى من طعام يأكله ذو كبد إلا قريبا من شطر شعير، فأكلت منه حتى طال علي، لا تغني وكلته عني، فيا ليتني لم آكله، وأيم الله، وكان ضجاعه من أدم حشوه ليف)
وقالت: لو أردت أن أخبركم بكل شبعة شبعها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى مات، لفعلت([28]).
وقالت: أهديت لنا ذات يوم يد شاة فوالله إني لأمسكها على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ويحزها، أو يمسكها علي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأحزها، قبل على غير مصباح؟ قالت: لو كان عندنا دهن مصباح لأكلناه، إن كان ليأتي على آل محمد الشهر ما يخبزون فيه خبزا، ولا يطبخون فيه برمة ([29]).
وقالت: ما شبع آل محمد ثلاثة أيام من خبز البر حتى ذاق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الموت، وما زالت الدنيا علينا عسرة كدرة حتى مات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فلما مات أنصبت علينا صبا([30]).
وقالت: ربما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (يا عائشة هلمي إلى غذاءك المبارك، وربما لم يكن إلا التمرتين)([31])
وقالت: ما اجتمع في بطن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم طعامان قط، إن أكل لحما لم يزد عليه، وإن أكل تمرا لم يزد عليه، وإن أكل خبزا لم يزد عليه ([32]).
وعن مسروق قال: دخلت على عائشة يوما، فدعت بطعام فقالت لي: كل فلقل ما أشبع من طعام، فأشاء أن أبكي أن بكيت، قال: قلت: لم يا أم المؤمنين؟ قالت: أذكر الحال التي فارقها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ما شبع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في يوم مرتين من خبز شعير حتى لحق بالله ([33]).
وعلى ما شهدت به عائشة تواترت الشهادات الكثيرة من الذين عاش رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بينهم.. وسأذكر لك من ذلك ما يعطيك صورة عن هذا العفيف الزاهد الذي لم تجد له في قاموسك غير وصف الجشع والحرص والاستغلال.
ذكر أنس بن مالك أن فاطمة جاءت بكسرة خبز إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: (ما هذه الكسرة؟) قالت: قرصة خبزتها، فلم تطب نفسي إلا أن آتيك بهذه الكسرة، فقال: (أما إنه أول طعام دخل فم أبيك منذ ثلاثة أيام) ([34])
وقال: مشيت إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بخبز شعير وله هالة ولقد سمعته يقول: (ما أصبح لآل محمد، ولا أمسى في آل محمد إلا صاع، وإنهن يومئذ لتسعة أبيات) ([35])
وقال: إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يجتمع له غداء ولا عشاء من خبز ولحم إلا على ضفف ([36]).
وقال: شهدت وليمة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ما فيها خبز ولا لحم ([37]).
وقال: أكل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بشعا ولبس خشنا، فسئل أبو الحسن ما البشع؟ قال: غليظ الشعير، وما كان يسفه إلا بجرعة من ماء([38]).
وقال: ما أعلم أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رأى رغيفا مرققا بعينه، حتى لحق بربه، ولا شاة سميطا قط ([39]).
وعن عمر قال: لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يلتوي يومه من الجوع، ما يجد من الدقل ما يملاء به بطنه ([40]).
وعن أبي هريرة قال: والذي نفسي بيده، ما شبع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأهله ثلاثة أيام تباعا من خبز حنطة، حتى فارق الدنيا([41]).
وقال:(ما كان يفضل عند أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خبز الشعير) ([42])
وقال: مات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لى ولم يشبع هو، ولا أهله من خبز الشعير ([43]).
وقال: ما شبع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الكسر اليابسة، حتى فارق الدنيا، وأصبحتم تهذرون الدنيا ([44]).
وقال: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يصلي جالسا، قلت: يا رسول الله ما أصابك؟ قال: (الجوع)، فبكيت قال: (لا تبك يا أبا هريرة، فإن شدة الجوع لا تصيب الجائع – يعني يوم القيامة – إذا احتسب في دار الدنيا)([45])
وقال: أتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوما بطعام سخين، فأكل، فلما فرغ قال: (الحمد لله ما دخل بطني طعام سخين منذ كذا وكذا) ([46])
وقال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: إني مجهود فأرسل إلى بعض نسائه فقالت: والذي بعثك بالحق ما عندي إلا ماء، فأرسل إلى أخرى، فقالت: مثل ذلك، حتى قال كلهن مثل ذلك، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (من يضيف هذا الليلة رحمه الله تعالى؟) فقام رجل من الأنصار فقال: أنا يا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فانطلق به إلى رحله، فقال لامرأته: أعندك شئ؟ فقالت: لا، إلا قوت صبياني([47]).
وروي أنه مر بالمغيرة بن شعبة وهو يطعم الطعام، فقال: ما هذا الطعام؟ قال: خبز النقي واللحم للمسلمين قال: وما النقي؟ قال: الدقيق، فعجب أبو هريرة، ثم قال: عجبا لك يا مغيرة، رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قبضه الله تعالى، وما شبع من الخبز والزيت مرتين في يوم، وأنت وأصحابك تهذرون ههنا الدنيا بينكم ونقد باصبعه، يقول كأنكم صبيان ([48]).
وعن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يبيت الليالي المتتابعة طاويا، وأهله لا يجدون عشاء، وكان عامة خبزهم خبز الشعير ([49]).
وعن أبي الدرداء قال: لم يكن ينخل لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دقيق قط([50]).
وعن عبد الرحمن بن عوف قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الدنيا، ولم يشبع هو، ولا أهله من خبز الشعير ([51]).
وعنه قال: مات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولم يشبع من خبز الشعير، فما أرنا أخرنا لما هو خير لنا ([52]).
وعن نوفل بن إياس الهذلي قال: أتينا في بيت عبد الرحمن بن عوف بصحيفة فيها خبز ولحم، فلما وضعت بكى عبد الرحمن، قلت: ما يبكيك؟ فقال: مات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولم يشبع هو ولا أهله من خبز الشعير، ولا أرانا أخرنا لما هو خير لنا ([53]).
وعن سهل بن سعد قال: ما شبع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في يوم شبعتين حتى فارق الدنيا ([54]).
وعن أبي أمامة قال: ما كان يفضل من أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ([55]).
وعن عمران بن حصين قال: ما شبع آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم من خبز مأدوم حتى مضى لسبيله ([56]).
وقال: ما شبع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من غداء وعشاء حتى لقي ربه ([57]).
وعن أبي حازم قال: قلت لسهل بن سعد: أكانت المناخل على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ فقال: ما رأيت منخلا في ذلك الزمان، وما أكل النبي صلى الله عليه وآله وسلم الشعير منخولا حتى فارق الدنيا، قلت: كيف تصنعون؟ قال: (كنا نطحنها، ثم ننفخ قشرها، فيطير ما طار، ويتمسك ما استمسك) ([58])
وعن ابن عمر قال: دخلت مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حائطا من حيطان المدينة، فجعل يأكل بشرا أخضر، فقال: (كل يا ابن عمر)، فقلت ما أشتهيه يا رسول الله، قال: (ما تشتهيه؟ إنه لأول طعام أكله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم منذ أربعة أيام) ([59])
وعن عتبة بن غزوان قال: لقد رأيتني سابع سبعة مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما طعامنا إلا ورق الحبلة حتى تقرحت أشداقنا ([60]).
وكان صلى الله عليه وآله وسلم يعصب في أحيان كثيرة الحجر على بطنه من الجوع ([61]).. فهل يمكن لإنسان حريص مستغل أن يفعل هذا؟
لقد تواتر هذا عن الصحابة وسأذكر لك من الشهادات ما يدلك على ذلك:
عن ابن عباس قال: احتفر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الخندق وأصحابه قد شدوا الحجارة على بطونهم من الجوع([62]).
وعن جبير بن نفير قال: قال أبو البجير: أصاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوما الجوع، فوضع على بطنه حجرا، وقال: (يا رب نفس ناعمة طاعمة، جائعة عارية يوم القيامة) ([63])
وعنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يشد حبليه بالحجر من الغرث ([64]).
وعن جابر قال: مكث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه، وهم يحفرون الخندق ثلاثا لم يذوقوا طعاما، قال جابر: فحانت مني التفاتة فإذا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد شد على بطنه حجرا من الجوع ([65]).
وعن أنس قال: قال أبو طلحة: شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الجوع، ورفعنا عن حجر حجر، فرفع النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن حجرين([66]).
وعن أبي البجير قال: أصاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم جوع يوما، فعمد إلى حجر فوضعه على بطنه ([67]).
وعن أنس قال: جئت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوما فوجدته جالسا مع أصحابه يحدثهم، وقد عصب على بطنه بعصابة، قال أسامة: أنا أشد على حجر، فقلت لبعض أصحابه: لم عصب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بطنه؟ قالوا: من الجوع ([68]).
وعن حصين بن يزيد الكلبي قال: ربما شد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على بطنه الحجر من الجوع ([69]).
وقد صور الشاعر الصالح ([70]) ذلك بقوله:
كأن عيال الناس طرا عياله |
فكلهم مما لديه يعال |
يبيت على فقر، ولو شاء حولت |
له ذهبا محضا ربي وجبال |
وما كانت الدنيا لديه بموقع |
فقد صرمت فيها لديه حبال |
رأى هذه الدنيا سريعا زوالها |
فلم يرض شيئا يعتريه زوال |
لعمرك ما الأعمار إلا قصيرة |
ولكن آمال الرجال طوال |
أتته مفاتيح الكنوز فردها |
وعافت يمين مسها وشمال |
وكان يفيض المال بين عفاته |
كما فضت الترب المهال شمال |
فما كان للمال الشديد بمائل |
وكم غر أرباب العقول فمالوا |
وكان صلى الله عليه وآله وسلم لذلك كله يسد جوعه بأي طعام حلال، لا يسأل عن نوعه، ولا عن طيبته التي يحرص عليها أهل الشهوات، لقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (ما أبالي ما رددت به عن الجوع) ([71])
وعن عتبة بن غزوان قال: لقد رأيتني سابع سبعة مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وما لنا طعام إلا أوراق الشجر، حتى تقرحت أشداقنا ([72]).
وعن ابن عباس قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم فتح مكة على أم هانئ بنت أبي طالب، وكان جائعا.. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:(هل عندك طعام آكل) فقالت: إن عندي لكسرة يابسة، وإني أستحي أن أقدمها، قال: (هلميها فكسرها في ماء)، فجاءته بملح، فقال: (ما من أدم؟) فقالت: ما عندي يا رسول الله إلا شئ من خل، فقال: (هلميه)، فلما جاءت صبه على طعامه، وأكل، ثم حمد الله تعالى، ثم قال: (نعم الأدم الخل يا أم هانئ لا يفتقر بيت فيه خل) ([73])
وعن أم سعد قالت: دخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على عائشة وأنا عندها، فقال: هل من غداء؟ قالت: عندنا خبز وتمر وخل، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:(نعم الإدام الخل.. اللهم بارك في الخل، فإنه كان إدام الأنبياء قبلي، ولم يفتقر بيت فيه خل) ([74])
وعن أسماء بنت عميس، وكانت صاحبة عائشة التي خبأتها فأدخلتها على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في نسوة، فما وجدنا عنده إلا قوتا، إلا قدحا من لبن، فتناول فشرب منه، ثم ناوله عائشة فاستحيت منه، فقلت: لا تردي يد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فأخذته فشربته، ثم قال: (ناولي صواحبك)، فقلن: لا نشتهيه، فقال: (لا تجمعن كذبا وجوعا)، فقلت: إن قالت إحدانا لشئ تشتهيه لا أشتهي، أيعد ذلك كذبا؟ فقال: (إن الكذب يكتب كذبا، حتى الكذيبة تكتب كذيبة) ([75])
ولكنه صلى الله عليه وآله وسلم في المقابل كان أحرص الناس على طيبة الطعام التي يعرفها الصالحون، والتي أمر الله تعالى بها أنبياءه في قوله:{ يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} (المؤمنون:51)
وهي طيبة لا تعتمد الذوق ولا النكهة ولا تفنن الطباخين، وإنما تعتمد على كون الطعام حلالا لم يختلط بعرق المستضعفين، ولا دماء المحرومين.
ولهذا كان صلى الله عليه وآله وسلم يخشى من طعام الصدقة، ولا يأكله مع عظم حاجته إليه، عن أنس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليصيب التمرة، فيقول: (لولا أخشى أنها من الصدقة لأكلتها)([76])
وعن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وجد تمرة تحت جنبه من الليل فأكلها، فلم ينم تلك الليلة، فقالت بعض نسائة: يا رسول الله أرقت البارحة، قال: (إني وجدت تمرة فأكلتها، وكان عندي تمر من تمر الصدقة، فخشيت أن تكون منه)([77])
التفت إلى جيري، وقال: لاشك أن لكل مستغل حريص رصيد في البنك يخبئه لوقت الحاجة، فهو لا يكتفي ـ لحرصه ـ بما يأكله أو يلبسه في لحظته، بل يريد أن يضمن كل لحظة من حياته.. بل هو يسعى ليخزن من الأموال ما يكفيه لآلاف السنين.
أليس كذلك.. أم تراني خاطئا؟
قال رجل من الجماعة: بل هو كذلك.. بل من هؤلاء من يخزن المال الذي يكفي الملايين.. بينما لم يبق من عمره إلا أيام معدودة.
قال الحكيم: أما محمد صلى الله عليه وآله وسلم.. فقد كان خلاف ذلك تماما.. فلم يكن يدخر شيئا لغد ([78]).
عن أنس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يدخر شيئا لغد ([79]).
وعن ابن عباس قال: نظر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى أحد فقال: (ما يسرني أنه ذهب لآل محمد، أنفقه في سيبل الله، أموت يوم أموت وعندي منه ديناران، إلا دينارين أعدهما للدين إن كان) ([80])
وعن أنس قال: كنت أخدم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال يوما: (ما عندك شئ تطعمنا؟) قلت: نعم يا رسول الله، فضل من الطعام الذي كان أمس، قال: (ألم أنهك أن تدع طعام يوم لغد؟) ([81])
وعنه قال: أهدي لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم طائران، فقال: (ما هذا؟) قال بلال: خبأته لك يا رسول الله، فقال: (يا بلال لا تخف من ذي العرش إقلالا.. إن الله تعالى سيأتي يرزق كل غد، ألم أنهك أن تدخر شيئا لغد؟) ([82])
وعن أبي هريرة قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على بلال فوجد عنده صبرة من تمر، فقال: (ما هذا يا بلال؟) فقال: تمر أدخره، فقال: (ويحك يا بلال، أو ما تخاف أن يكون له بخار في النار؟ انفق يا بلال، ولا تخش من ذي العرش إقلالا) ([83])
وعن أم سلمة قالت: دخل علي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو ساهم الوجه قالت: حسبت ذلك من وجع، قلت: ما لي أراك ساهم الوجه؟ قال: (من أجل الدنانير السبعة التي أتتنا بالأمس، ولم نقسمها) ([84])
وعن عائشة أنها قالت لأبي أمامة بن سهل بن حنيف، وعروة بن الزبير: لو رأيتما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في مرض له، وكانت عندي ستة دراهم أو سبعة، قالت: فأمرني نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم أن أفرقها، قالت: فشغلني وجع النبي صلى الله عليه وآله وسلم حتى عافاه الله، ثم سألني عنها، فقال: (ما فعلت، أكنت فرقت الستة الدنانير أو السبعة؟) فقلت: لا، والله، لقد كان شغلني وجعك، قالت: فدعا بها، فوضعها في كفه، فقال: (ما ظن نبي الله لو لقي الله وهذه عنده؟) ([85])
وعن جمع من الصحابة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خرج على أصحابه ذات يوم، وفي يده قطعة من ذهب، فقال لعبد الله بن عمر: ما كان قال لربه إذا مات وهذه عنده؟ فقسمها قبل أن يموت، والتفت إلى أحد، فقال: (والذي نفسي بيده ما يسرني أن يحول هذا ذهبا وفضة لآل محمد، أنفقه في سبيل الله، أبقي بعد صبح ثلاثة، وعندي منه شئ، إلا شيئا أعده لدين)، وفي لفظ: (أموت يوم أموت أدع منه دينارين، إلا دينارين أعدهما لدين أن كان)، قال ابن عباس: فمات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وما ترك دينارا، ولا درهما، ولا عبدا، ولا وليدة، وترك درعه مرهونة عند رجل من اليهود رهنا بثلاثين صاعا من شعير، كان يأكل منها ويطعم عياله ([86]).
وعن بلال: قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وعندي شئ من تمر، فقال: (ما هذا؟) فقلت: ادخرنا لشتائنا، فقال: (أما تخاف أن ترى له بخارا في جهنم؟)([87])
عن عبد الله بن مسعود قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على بلال، وعنده صبرة من تمر، فقال: (ما هذا يا بلال)، قال: أعددت ذلك لأضيافنا، قال: (أما تخشى أن يكون له بخار في نار جهنم؟ أنفق بلال، ولا تخش من ذي العرش إقلالا)([88])
وعن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (يا بلال أطعمنا)، قال: ما عندي إلا صبرة من خبز خبأته لك، قال: (أما إن الله يجعل له بخارا في نار جهنم أنفق ولا تخش من ذي العرش إقلالا)([89])
وعن أبي ذر قال: كنت أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في صرة المدينة فاستقبلنا أحدا، فقال: يا أبا ذر، قلت: لبيك يا رسول الله، قال: (ما يسرني أن عندي مثل أحد ذهبا، تمضي على ثلاثة، وعندي منه دينار، إلا شيئا أرصده لدين، إلا أن أقول في عباد الله هكذا، وهكذا) ([90])
وعن ابن عمر قال: خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى دخل بعض حيطان الأنصار، فجعل يلتقط من التمر، ويأكل، فقال لي: (يا ابن عمر ما لك لا تأكل؟) قلت يا رسول الله لا أشتهيه، قال: (لكني أشتهيه، وهذه صبح رابعة لم أذق طعاما، ولم أجده، ولو شئت لدعوت ربي فأعطاني مثل ملك كسرى وقيصر، فكيف بك يا ابن عمر إذا بقيت في قوم يحبون رزق سنتهم ويضعفون؟ قال: فوالله ما برحنا، ولا زمنا حتى نزلت:{ وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (العنكبوت:60)، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:(لم يأمرني بكنز الدنيا، ولا اتباع الشهوات، فمن كنز دنياه يريد بها حياة باقية، فإن الحياة بيد الله، ألا وإني لا أكنز دينارا، ولا درهما، ولا أخبئ رزقا لغد) ([91])
التفت إلى جيري، وقال: أليس كل المستغلين الذين تنفتح لهم الدنيا لا يقنعون بما هم فيه، بل يضمون إلى غناهم غنى أولادهم، وغنى كل من يتقرب منهم.
قال رجل من الجماعة: ذلك صحيح.. ولا نحسب ذلك إلا طبعا في البشر، فلا ينفك أحد منهم منه.
قال الحكيم: إلا محمد صلى الله عليه وآله وسلم، أو من رباه محمد صلى الله عليه وآله وسلم.. فإنه يستحيل عليه أن يطعم ولده ثمرة استغلال.. اسمعوا لما روته الأخبار الصحاح:
عن فاطمة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أتاها يوما فقال:(أين أبنائي؟) يعني: حسنا وحسينا، قالت: أصبحنا وليس في بيتنا شئ يذوقه ذائق، فقال علي: اذهب بهما، فإني أتخوف أن يتليا عليك، وليس عندك شئ، فذهب إلى فلان اليهودي فتوجه إليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فوجدهما يلعبان في سرية بين أيديهما فضل من تمر، فقال:(يا علي ألا تقلب ابني قبل أن يشتد الحر؟)، قال علي: أصبحنا وليس في بيتنا شئ، فلو جلست يا رسول الله، حتى أجمع لفاطمة شيئا من التمر، فجلس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى اجتمع لفاطمة شئ من التمر، فجعله في صرته ثم أقبل، فحمل النبي صلى الله عليه وآله وسلم أحدهما وعلي الآخر، حتى أقبلهما([92]).
وعن علي أنه قال لفاطمة ذات يوم: والله، لقد سنوت حتى اشتكيت صدري، وقد جاء أبوك بسبي فاذهبي فاستخدميه، فقالت: وأنا والله، لقد طحنت حتى مجلت يداي فأتت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال:(ما جاء بك أي بنية؟) قالت: جئت لأسلم عليك، واستحيت أن تسأله ورجعت، فقال: ما فعلت؟ قالت: استحييت أن أسأله، فأتيا جميعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال علي: يا رسول الله، لقد سنوت حتى اشتكيت صدري، وقالت فاطمة: يا رسول الله، لقد طحنت حتى مجلت يداي، وقد جاءك الله بسبي وسعة، فأخذمنا فقال: لا، والله، لا أعطيكم، وأدع أهل الصفة تطوى بطونهم من الجوع لا أجد ما أنفق عليهم ولكني أبيعهم وأنفق عليهم أثمانهم فرجع.
فأتاهما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقد دخلا في قطيفتهما إذا غطت رؤوسهما تكشفت أقدامهما، وإذا غطت أقدامهما تكشفت رؤوسهما فتأثر فقال: مكانكما، ثم قال:(ألا أخبر كما بخير مما سألتماني)، قالا: بلى، قال:(كلمات علمنيهن جبريل فقال: تسبحان الله في دبر كل صلاة عشرا وتحمدان عشرا وتكبران عشرا، فإذا أويتما إلى فراشكما فسبحا ثلاثا وثلاثين واحمدا ثلاثا وثلاثين وكبرا أربعا وثلاثين)
قال علي: فوالله، ما تركتهن منذ سمعت ذلك من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال له رجل: أين الكوا ولا ليلة صفين، فقال: قاتلكم الله ولا ليلة صفين([93]).
وعن ثوبان قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا سافر آخر عهده بإنسان من أهله فاطمة، وأول من يدخل عليه إذا قدم فاطمة، فقدم من غزاة له، فأتاها، فإذا هو بمسح على بابها، ورأى على الحسن والحسين قلبين من فضة، فرجع، ولم يدخل لها، فلما رأت ذلك فاطمة ظنت أنه لم يدخل عليها من أجل ما رأى، فهتكت الستر، ونزعت القلبين من الصبيين، فقطعتهما، فبكى الصبيان، فقسمته بينهما، فانطلقا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهما يبكيان، فأخذه صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: (يا ثوبان، اذهب بهذا إلى بني فلان أهل بيت بالمدينة، واشتر لفاطمة قلادة من عصب وسوارا من عاج)، ثم قال: (هؤلاء أهل بيتي، ولا أحب أن يأكلوا طيباتهم في حياتهم الدنيا) ([94])
وعن عمران بن حصين قال: إني لجالس عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذ أقبلت فاطمة، فقامت بحذاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم مقابلة فقال:(ادني يا فاطمة)، فدنت دنوة، ثم قال:(ادني يا فاطمة)، فدنت دنوة، ثم قال:(ادني يا فاطمة)، فدنت دنوة حتى قامت بين يديه قال عمران: فرأيت صفرة قد ظهرت على وجهها، وذهب الدم، فبسط رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين أصابعه ثم وضع كفه بين ترائبها، فرفع رأسه قال:(اللهم، مشبع الجوعة، وقاضي الحاجة، ورافع الوضعة، لا تجع فاطمة بنت محمد)، فرأيت صفرة الجوع قد ذهبت عن وجهها وظهر الدم، ثم سألتها بعد ذلك فقالت: ما جعت بعد ذلك([95]).
وعن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أقام أياما لم يطعم طعاما حتى شق عليه، فطاف في منازل أزواجه فلم يصب عند واحدة منهن شيئا، فأتى فاطمة فقال: يا بنية، هل عندك أكلة، فإني جائع فقالت: لا والله، بأبي أنت وأمي، فلما خرج من عندها بعثت إليها جارة لها برغيفين وقطعة لحم فأخذته منها فوضعته في جفنة لها، وغطت عليها، قالت: والله، لاوثرن بهذا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على نفسي ومن عندي، وكانوا جميعا محتاجين إلى شعبة طعام، فبعثت حسنا أو حسينا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فرجع إليها فقالت له: بأبي أنت وأمي قد أتى الله بشئ فخبأته لك قال:(هلمي)، فأتته فكشفت عن الجفنة فإذا هي مملوءة خبزا ولحما، فلما نظرت إليها بهتت، وعرفت أنها بركة من الله، فحمدت الله وصلت على نبيه وقدمته إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فلما رآه حمد الله وقال:(من أين لك هذا يا بنية؟)، فقالت: يا أبت، هو من عند الله، إن الله يرزق من يشاء بغير حساب، فبعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى علي، ثم أكل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعلي وفاطمة وحسن وحسين وجميع أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته جميعا حتى شبعوا وبقيت الجفنة كما هي، قالت: فأوسعت ببقيتها على جميع جيرانها، وجعل الله فيه بركة وخيرا كثيرا ([96]).
التفت الحكيم إلى جيري فالويل، وقال: أظن أن ما ذكرته من زهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم في أموال الناس وعفافه عنها ما يكفي لصرفك عن ذلك الوسواس الذي دعاك إلى اتهامه صلى الله عليه وآله وسلم بالاستغلال والحرص والجشع.
إن النفس التي كان لها كل ذلك الصبر والتحمل مع عظم المشاق التي كانت تحملها يستحيل عليها أن تعرف الاستغلال..
ثم التفت إلى الجماعة، وقال: ومع ذلك.. ومع كل تلك الأحوال الشديدة التي كان يعيشها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والتي كانت تستدعي قبض اليد، والشح عما فيها إلا أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان كالريح المرسلة لا يكاد يقع في يده شيء حتى يخرجه منها كرما وجودا وعطاء لا يمكن أن يقدر على مثله بشر.
سأذكر لكم بعض ما ذكرت الأسانيد من ذلك لتحكموا بأنفسكم، ولتروا هل يمكن لمن يملك هذه الصفات أن يكون له جشع المستغل وحرصه.
لقد حدث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن تلك النفس الممتلئة كرما وجودا، وكأنه يدعو كل محتاج لأن يمد يده إليه لينال من جوده، فقال (ألا أخبركم عن الأجود؟ الله الأجود، وأنا أجود ولد آدم، وأجودهم من بعدي رجل تعلم علما فنشر علمه، يبعث يوم القيامة أمة وحده، ورجل جاهد في سبيل الله حتى يقتل)([97])
وقال، وقد التفت إلى أحد: (والذي نفسي بيده ما يسرني أن أحدا يحول لآل محمد ذهبا، أنفقه في سبيل الله، أموت يوم أموت ما أدع منه دينارين، إلا دينارين أعدهما لدين إن كان) ([98])
وقال: (لو عندي مثل أحد ذهبا ما سرني أن يأتي علي ثلاث ليال، وعندي منه شئ إلا شيئا أرصده لدين)([99])
وقد كان أصحابه والمقربون إليه يعرفون هذه الصفة فيه، ويصفونه بها:
عن علي أنه كان إذا نعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: كان أجود الناس كفا ([100]).
وعن أنس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أجود الناس([101]).
وكان من الصفات التي عرفه من خلالها الكل هو أنه كان أبعد الناس عن رد أي سائل يسأله، مؤتمرا في ذلك بما أمره الله تعالى به، قال تعالى:{ وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ} (الضحى:10)
لقد كانت الصفة التي عرف بها النبي صلى الله عليه وآله وسلم.. عرفه بها جميع الناس.. أنه لا يسأل شيئا إلا أعطاه.
قال أنس: ما سئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على الإسلام شيئا إلا أعطاه([102]).
وقد ذكر نموذجا لذلك، فقال: فسأله رجل غنما بين جبلين فأعطاه إياها، فأتى قومه فقال: يا قوم أسلموا، فوالله إن محمدا ليعطى عطاء من لا يخاف الفقر([103]).
قال أنس: وإن كان الرجل ليجئ إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وما يريد بذلك إلا الدنيا، فما يمسي حتى يكون دينه أحب إليه من الدنيا وما بينها ([104]).
وعن علي قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا سئل عن شئ، فأراد أن يفعله قال: (نعم) وإن أراد ألا يفعله سكت، وكان لا يقول لشئ لا ([105]).
عن سهل بن سعد قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حييا لا يسأل شيئا إلا أعطى ([106]).
وعن سهل بن سعد أن امرأة جاءت النبي صلى الله عليه وآله وسلم ببردة منسوجة فيها حاشيتها، قال سهل: أتدرون ما البردة؟ قالوا: الشملة، قال: نعم، قالت: نسجتها بيدي لأكسوكها فخذها، فأخذها النبي صلى الله عليه وآله وسلم محتاجا إليها، فخرج إلينا وإنها لإزاره فقال الأعرابي: يا رسول الله بأبي أنت وأمي هبها لي، فقال: (نعم)، فجلس ما شاء الله في المجلس، ثم رجع فطواها فأرسل بها إليه، ثم سأله، وعلم أنه لا يسأل شيئا فيمنعه، قال: والله إني ما سألته لألبسها، إنما سألته لتكون كفني، رجوت بركتها حين لبسها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال سهل: فكانت كفنه([107]).
وعن هارون بن أبان قال: قدم للنبي صلى الله عليه وآله وسلم سبعون ألف درهم، وهو أكثر مال أتي به قط، فوضع على حصير من المسجد، ثم قام بنفسه، فما رد سائلا، حتى فرغ منه ([108]).
وعن أنس قال: أتي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بمال من البحرين، فقال: انظروا يعني صبوه في المسجد، وكان أكثر مال أتى به صلى الله عليه وآله وسلم، فخرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من المسجد، ولم يلتفت إليه، فلما قضى الصلاة جاء فجلس إليه، فما كان يرى أحدا إلا أعطى إلى أن جاء العباس، فقال: يا رسول الله أعطني، فإني فاديت نفسي، وفاديت عقيلا، فقال: (خذ) فحثا في ثوبه، ثم ذهب يقله فلم يستطع، فقال: يا رسول الله مر بعضهم يرفعه إلي قال: (لا)، قال: فارفعه أنت، قال: (لا أستطيع)، ثم نثر منه، ثم ذهب يقله فلم يستطع، فقال: يا رسول الله: مر بعضهم يرفعه علي، قال: (لا)، قال: فارفعه أنت)، قال: (لا) ثم نثر منه فاحتمله، فألقاه على كاهله، فانطلق فما زال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يتبعه بصره حتى خفي علينا، عجبا منه، فما قام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وثم منها درهم ([109]).
وكان البعض يستغل هذه الخصلة العظيمة في رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فيروح يسأل من غير حاجة، وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يجيبهم بما أعطاه الله مع علمه بذلك منهم:
عن أبي سعيد قال: دخل رجلان على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يسألانه عن ثمن بعير فأعانهما بدينارين، فخرجا من عنده، فلقيا عمر، فأثنيا خيرا، وقالا معروفا، وشكرا ما صنع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بهما، فدخل عمر على النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأخبره بما قالا، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (لكن فلانا أعطيته ما بين العشرة والمائة فلم يقل ذلك، إن أحدهم يسألني، فينطلق بمسألته يتأبطها، وما هي إلا نار)، فقال عمر: يا رسول الله، فلم تعطهم ما هو نار؟ فقال: (يأبون إلا أن يسألوني ويأبي الله لي البخل) ([110])
وعنه أن ناسا من الأنصار سألوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأعطاهم، ثم سألوهم فأعطاهم، وقال: (ما يكون عندي من خير، فلن أدخره عنكم، ومن يستعفف يعفه الله، ومن يستغن يغنه الله، ومن يتصبر يصبره الله، وما أعطي أحد عطاء هو خير، وأوسع من الصبر) ([111])
وعن جبير بن مطعم أنه بينما هو مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ومعه الناس، مقبلا من حنين علقت برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الأعراب يسألونه، حتى اضطروه إلى سمرة فخطفت رداءه، فوقف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: (أعطوني ردائي، فلو كان لي عدد هذه العضاة نعما لقسمته عليكم لا بخيلا، ولا كذابا، ولا جبانا) ([112])
وعن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عام حنين سأله الناس، فأعطاهم من البقر والغنم والإبل، حتى لم يبق من ذلك شئ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (ماذا تريدون؟ أتريدون أن تبخلوني؟ فوالله ما أنا ببخيل، ولا جبان، ولا كذوب)، فجذبوا ثوبه حتى بدت رقبته، فكأنما أنظر ـ حين مد يدا من منكبه ـ شقة القمر من بياضه) ([113])
وعن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (لو أن لي مثل جبال تهامة ذهبا لقسمته بينكم، ثم لا تجدوني كذوبا ولا بخيلا) ([114])
وعن سهل بن سعد قال: حكيت لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حلة أنمار صوف أسود، فجعل حاشيتها بيضاء، وقام فيها إلى أصحابه، فضرب بيده إلى فخذه فقال: (ألا ترون إلى هذه ما أحسنها!) فقال أعرابي: يا رسول الله بأبي أنت وأمي هبها لي، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يسأل شيئا أبدا فيقول: لا، فقال: (نعم)، فأعطاه الجبة([115]).
هذا كله إذا وجد، فإذا لم يجد تكلف كل السبل ليرضي من سأله، فلا يذهب إلا راضيا:
عن عمر قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: ما عندي شئ أعطيك، ولكن استقرض، حتى يأتينا شئ فنعطيك، فقال عمر: ما كلفك الله هذا، أعطيت ما عندك، فإذا لم يكن عندك فلا تكلف، قال: فكره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قول عمر، حتى عرف في وجهه، فقال الرجل: يا رسول الله، بأبي وأمي أنت، فأعط، ولا تخش من ذي العرش إقلالا، فتبسم وجه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقال: (بهذا أمرت) ([116])
وعن أبي عامر عبد الله قال: لقيت بلالا مؤذن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بحلب، فقلت: حدثني كيف كانت نفقة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: ما كان له شئ من ذلك، إلا أني الذي كنت آتي ذلك منه منذ بعثه الله تعالى، إلى أن توفي، فكان إذا أتاه الإنسان، فرآه عاريا يأمرني فأنطلق، فأستقرض، فأشتري البردة، والشئ، فأكسوه وأطعمه، حتى اعترضني رجل من المشركين، فقال: يا بلال إن عندي سعة، فلا تستقرض من أحد إلا مني، ففعلت، فلما كان ذات يوم توضأت، ثم قمت لأؤذن بالصلاة، فإذا المشرك في عصابة من التجار، فلما رآني قال: يا حبشي قلت: لبيك، فتجهمني، وقال قولا غليظا، فقال: ألا ترى كم بينك وبين الشهر؟ قلت: قريب، قال: إنما بينك وبينه أربع ليال، فآخذك بالذي عليك، فإني لم أعطك الذي أعطيتك من كرامتك، ولا من كرامة صاحبك، ولكن أعطيتك لتصير لي عبدا، فأذرك ترعى الغنم، كما كنت قبل ذلك، فأخذ في نفسي ما يأخذ في أنفس الناس، فانطلقت، ثم أذنت بالصلاة، حتى إذا صليت العتمة، رجع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى أهله، فاستأذنت عليه، فأذن لي، فقلت: يا رسول الله، بأبي أنت وأمي، إن المشرك الذي قلت لك إني كنت أتدين منه قد قال كذا وكذا، وليس عندك ما تقضي عني، ولا عندي، وهو فاضحني، فأذن لي أن آتي بعض هؤلاء الأحياء الذين أسلموا حتى يرزق الله تعالى رسوله ما يقضي عني، فخرجت حتى أتيت منزلي فحملت سيفي وجرابي ورمحي، ونعلي عند رأسي، واستقبلت بوجهي الأفق، فكلما نمت انتبهت، فإذا رأيت علي ليلا نمت، حتى انشق عمود الصبح الأول، فأردت أن أنطلق، فإذا إنسان يسعى يدعو: يا بلال أجب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فانطلقت، حتى أتيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فإذا أربع ركائب عليهن أحمالهن، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فاستأذنت، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (أبشر يا بلال، فقد جاءك الله تعالى بقضائك، فحمدت الله تعالى)، فقال: ألم تمر على الركائب المناخات الأربع؟ قال: فقلت: بلى؟ قال: فإن لك رقابهن، وما عليهن، فإذا عليهن كسوة، وطعام، أهداهن له عظيم فدك قال: فاقبضهن إليك، ثم اقض دينك، قال: ففعلت، فحططت عنهن أحمالهن، ثم عقلتهن، ثم عدت إلى تأذين صلاة الصبح، حتى إذا صلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صلاة الصبح، خرجت إلى البقيع، فجعلت أصبعي في أذني، فناديت، وقلت: من كان يطلب من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دينا فليحضر، فما زلت أبيع وأقضي حتى لم يبق على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دين في الأرض، حتى فضل عندي أوقيتان، أو أوقية ونصف، ثم انطلقت إلى المسجد وقد ذهب عامة النهار، فإذا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قاعد في المسجد وحده، فسلمت عليه، فقال لي: (ما فعل ما قبلك؟) قلت: قضى الله كل شئ كان على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فلم يبق شئ، فقال: (فضل شئ؟) قلت: نعم، قال: (انظر أن تريحني منها، فلست بداخل على أحد من أهلي حتى تريحني منها، فلم يأتنا أحد)، فبات في المسجد، حتى أصبح، وظل في المسجد اليوم الثاني، حتى إذا كان في آخر النهار جاء راكبان، فانطلقت بهما فكسوتهما وأطعمتهما، حتى إذا صلى العتمة دعاني، فقال: (ما فعل ما قبلك؟) قلت: قد أراحك الله منه، فكبر، وحمد الله شفقا من أن يدركه الموت وعنده ذلك، ثم تبعته حتى جاء أزواجه، فسلم على امرأة امرأة حتى أتى مبيته فهذا الذي سألتني عنه([117]).
فإذا لم يجد أي سبيل بحث عمن يعين السائل، فقد جاءه رجل مرة، فقال: إني مجهود، فأرسل إلى بعض نسائه فقالت: والذي بعثك بالحق ما عندي إلا ماء، فأرسل إلى أخرى، فقالت: مثل ذلك، حتى قال كلهن مثل ذلك، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (من يضيف هذا الليلة رحمه الله تعالى؟) فقام رجل من الأنصار فقال: أنا يا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فانطلق به إلى رحله، فقال لامرأته: أكرمي ضيف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا تدخري شيئا، قالت: والله ما عندي إلا قوت الصبية، قال: فإذا أراد الصبية العشاء فنوميهم، وتعالي، فأطفئي السراج، ونطوي بطوننا الليلة لضيف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ففعلت، ثم غدا الضيف على النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال:(لقد عجب الله من فلان وفلانة)([118])، وقد نزل في ذلك قوله تعالى:{ وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالْأِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (الحشر:9)
وكان صلى الله عليه وآله وسلم يفعل ذلك كله مع ما به من فاقة وحاجة، بل كان يقدم ـ مع تلك الفاقة والحاجة غيره، ليكون آخر مستفيد إن بقيت هناك بقية.
روي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان جالسا مع رجل من أصحابه، فغمز رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بطنه، فقال له الرجل: يا رسول الله بأبي أنت وأمي أتشتكي بطنك؟ فقال: (لا، إنما هو جعار الجوع)، فقام الرجل ليدخل حيطان الأنصار، فرأى رجلا من الأنصار يسقي سقاية، فقال له: هل لك أن أسقي لك بكل سقاية تمرة جيدة؟ قال: نعم، قال: فوضع الرجل كساءه، ثم أخذ يسقي، وهو رجل قوي، فسقي مليا، حتى ابتهر وعيا، فجعل يتروح، ثم فتح حجره، وقال: عد لي تمري، قال: فعد له نحوا من المد، فجاء به، حتى نثره بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقبض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم منه قبضة، ثم قال: اذهبوا بهذا إلى فلانة، واذهبوا بهذا إلى فلانة، فقال الرجل: يا رسول الله أراك تأخذ منه، ولا ينقص، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (ألست تقرأ هذه الآية؟) قال: فقلت: أية آية يا رسول الله؟ قال: قول الله تعالى:{ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ } (سـبأ:39)، قال: أشهد أنما هو من الله تعالى ([119]).
وكان صلى الله عليه وآله وسلم يكافئ كل من يقدم له أي شيء، ولو كان بسيطا، بل حتى لو كان كلمة طيبة:
عن الربيع بن عفراء قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقناع من رطب، وجرو زغب، فأعطاني مل ء كفي حليا، أو ذهبا ([120]).
عن أم سنبلة قالت: أتيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بهدية، فأبى أزواجه أن يقبلنها، فأمرهن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فأخذنها، ثم أقطعها واديا ([121]).
وروي أنه في يوم حنين جاءت امرأة، فأنشدت شعرا تذكره أيام رضاعه في هوازن، فرد عليهم ما أخذ، وأعطاهم عطاء كثيرا، حتى قوم ما أعطاهم فكان خمسمائة ألف، قال ابن دحية: وهذا نهاية الجود الذي لم يسمع بمثله في الجود ([122]).
وعن جابر أنه كان يسير على جمل له قد أعيا، فمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم فضربه، ودعا له، فسار سيرا لم يسر مثله، ثم قال: (بعنيه بوقية)، قلت: لا، ثم قال: (بعنيه بوقية)، فبعته واستثنيت حملانه إلى أهلي، فلما قدمنا المدينة أتيته بالجمل، ونقد لي ثمنه، ثم انصرفت، فأرسل إلي فقال: (ما كنت لآخذ جملك، هو لك) ([123])
وفي رواية قال صلى الله عليه وآله وسلم لجابر في سفر: (بعني جملك)، فقال: هو لك يا رسول الله، بأبي وأمي، فقال:(بعنيه) فباعه إياه، وأمر بلالا أن ينقده ثمنه، فأنقده، ثم قال صلى الله عليه وآله وسلم: (اذهب بالثمن والجمل بارك الله لك فيهما) ([124])، فعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مكافأة لقوله: بل هو لك، فأعطاه الثمن، ورد عليه الجمل، وزاد الدعاء بالبركة.
وكان صلى الله عليه وآله وسلم فوق ذلك يكافي المحسن بالدعوات الطيبات المباركات المجابات:
قال ابن عباس: كنت في بيت ميمونة فوضعت لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم طهوره، فقال:(من وضع لي هذا؟)، فقالت ميمونة: عبد الله، فقال صلى الله عليه وآله وسلم:(اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل)
وفي حديث أبي قتادة الطويل العظيم المشتمل على معجزاتٍ متعدّداتٍ لرسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم قال: فبينا رسولُ اللّه صلى الله عليه وآله وسلم يسيرُ حتى ابهارّ ([125])الليل وأنا إلى جنبه، فنَعَس رسولُ اللّه صلى الله عليه وآله وسلم فمالَ عن راحلته فأتيتُه فدعَّمتُه من غير أن أُوقظَه حتى اعتدل على راحلته، ثم سارَ حتى تهوَّر ([126])الليلُ مال عن راحلته، فدعَّمتُه من غير أن أوقظَة حتى اعتدل على راحلته، ثم سارَ حتى إذا كان من آخر السَّحَر مالَ ميلة هي أشدّ من الميلتين الأُولَيَيْن حتى كاد ينجفلُ ([127])، فأتيتُه فدعَّمته، فرفعَ رأسَه فقال: (مَنْ هَذَا؟) قلتُ: أبو قتادة، قال:(مَتَى كان هَذَا مَسِيركَ مِنِّي؟) قلتُ: ما زال هذا مسيري منذ الليلة، قال:(حَفِظَكَ اللّه بِما حَفِظْتَ بِهِ نَبِيّهُ) وذكر الحديث ([128]).
وفي حديث جرير بن عبد اللّه البَجَليّ قال: كان في الجاهلية بيتٌ لخثعمَ يُقال له الكعبة اليمانية، ويُقال له ذو الخَلَصة، فقال لي رسولُ اللّه صلى الله عليه وآله وسلم:(هَلْ أنْتَ مُرِيحِي مِنْ ذِي الخَلَصَةِ؟)، فنفرتُ إليه في مئة وخمسين فارساً من أحمسَ فكسَّرْنَا وقتلنَا مَن وجدنا عنده، فأتيناه فأخبرناه، فدعا لنا ولأحمس ([129]).
وعن جابر قال: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذات يوم فقال:(مرحبا يا جويبر جزاكم الله يا معشر الأنصار خيرا، آويتموني إذ طردني الناس، ونصرتموني إذ خذلني الناس، فجزاكم الله معشر الأنصار خيرا)، فقلت:(بل جزاك الله عنا خيرا، بك هدانا الله إلى الإسلام، وأنقذنا من شفا حفرة من النار، وبك نرجو الدرجات العلى من الجنة) ([130])
وقد أخبر صلى الله عليه وآله وسلم أن مقابلة المعروف بالدعاء من أعظم الجزاء على المعروف، ومن أفضل ما يقابل به الإحسان، قال صلى الله عليه وآله وسلم:(من صنع إليه معروف، فقال لفاعله جزاك الله خيرا فقد أبلغ في الثناء) ([131])، وفي رواية:(من أسدى إليه بمعروف فقال للذي أسداه: جزاك الله خيرا، فقد أبلغ في الثناء)
وقد روي عن عبد اللّه بن أبي ربيعة قال: استقرضَ النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم منِّيَ أربعين ألفاً، فجاءَه مال فدفعَه إليَّ وقال:(بارَكَ اللَّهُ لَكَ في أهْلِكَ ومَالِكَ، إنَّمَا جَزَاءُ السَّلَفِ الحَمْدُ والأداءُ) ([132])
بل دعا صلى الله عليه وآله وسلم إلى كثرة الدعاء لمن عمل معروفا إلى أن يتيقن أنه قد أوفاه أجره، قال صلى الله عليه وآله وسلم:(من استعاذ بالله فأعيذوه، ومن سألكم بالله فأعطوه، ومن أتى إليكم معروفا فكافئوه، فإن لم تجدوا فادعوا له حتى تعلموا أنكم قد كافأتموه) ([133])، وفي رواية:(حتى تعلموا أنكم شكرتموه، فإن الله تعالى شاكر يحب الشاكرين) ([134])
سكت قليلا، ثم راح يترنم بقول الشاعر:
يروى
حديث الندى والبشر عن يده |
ووجهه
بين منهل ومنسجم |
من
وجه أحمد لي ندى ومن يده |
بحر
ومن فمه در لمنتظم |
يمم
نبيا يباري الريح نافلة |
والمزن
من كل هامي الورد خير همي |
لو
عامت الفلك فيما فاض من يده |
لم
تلق أعظم بحرا منه أن تعم |
يحيط
كفاه بالبحر المحيط فلذ |
به
ودع كل طامي الموج ملتطم |
لو
لم تحط كفه بالبحر |
ما
شملت كل الأنام وروت قلب كل ظمي |
***
بعد أن انتهى الحكيم من حديثه لم يجد جيري فالويل ما يقوله.. ولذا سار مطأطئ الرأس، متغير الوجه، خارج ميدان الحرية ليترك الجماعة ملتفة حول الحكيم تسأله ويجيبها..
التفت إلى أصحابنا المستغرقين في مشاهدة ما حصل في ساحة الحرية.. فرأيت وجوههم كالحة عابسة عليها غبرة ترهقها قترة.
أما أنا..
فقد تنزلت علي حينها أنوار جديدة اهتديت بها بعد ذلك إلى شمس محمد صلى الله عليه
وآله وسلم.
([1]) أشير به هنا إلى قسيس إنجيلي معروف بهذا الاسم يقيم في منطقة لينشبرج في منطقة فيرجينيا، له برنامج أسبوعي إذاعي وتلفزيوني يصل إلى أكثر من 10 ملايين منزل أسبوعيا، وله جامعة خاصة أصولية تسمى جامعة الحرية، يهاجم النبي صلى الله عليه وآله وسلم من خلال وسائل إعلامية أمريكية كبرى، إضافة إلى موقعه الخاص على الانترنت [ www.falwell.com ] وضع في صفحته الأولى تاريخا زائفا عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ومن أقواله التي ذكرها في برنامجه الذي استغرق مدة 60 دقيقة في 6/10/2002 م:( أنا أعتقد أن محمدا كان إرهابيا، في اعتقادي.. المسيح وضع مثالا للحب كما فعل موسى، وأنا أعتقد أن محمدا وضع مثالا عكسيا، وإنه كان لصا وقاطع طريق)
وهذا القول هو الذي جعلنا نختاره لهذا الفصل.
([2]) رواه ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وأبو يعلى والحاكم وصححه عن جابر بن عبد الله والبيهقي وابن عساكر.
([3]) وعند ابن إسحاق وابن المنذر عن محمد بن كعب القرظي: أن عتبة بن ربيعة قال يوما، وكان جالسا في نادي قريش، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم جالس في المسجد وحده: يا معشر قريش ألا أقوم إلى محمد فأكلمه وأعرض عليه أمورا لعله يقبل بعضها فنعطيه أيها شاء ويكف عنا، وذلك حين أسلم حمزة ورأوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يزيدون ويكثرون.
([4]) ذكره الهيثمي في المجمع 5 / 13 من طريق عبد الله بن صالح، وعزاه للطبراني في الاوسط، وهو ـ بصيغة أخرى ـ في الصحيحين 8 / 656 (4912) (6691) ومسلم 2 / 1100 (20 / 1474)
([5]) رواه أحمد وأبو يعلى، وتمام الرازي، وابن عساكر وأبو داود الطيالسي، والترمذي، وصححه.. والجملة الأخير زادها أبو الحسن بن الضحاك.
([6]) رواه أحمد وأبو يعلى، وتمام الرازي، وابن عساكر وأبو داود الطيالسي، والترمذي – وصححه.
([7]) رواه ابن عساكر.
([8]) رواه ابن سعد، والترمذي، وأبو الشيخ عن أبي هريرة وابن سعد وابن حبان عن أبي أمامة.
([9]) رواه أبو ذر الهروي.
([10]) رواه أحمد، وابن حبان عن أبي هريرة، ويعقوب بن سفيان وابن مردويه عن ابن عباس.
([11]) رواه البرقاني وابن أبي شيبة، وابن جرير.
([12]) رواه ابن المبارك.
([13]) رواه البخاري، وغيره.
([14]) رواه البخاري ومسلم.
([15]) رواه ابن المبارك والترمذي.
([16]) رواه ابن عدي.
([17]) رواه الحسن بن عرفة في جزئه المشهور، وابن عساكر.
([18]) رواه أحمد في الزهد.
([19]) رواه ابن أبي شيبة.
([20]) رواه ابن حبان.
([21]) تعمدنا نقل الروايات الكثيرة بتخريجها هنا لأن هناك من يناقش في مثل هذا انطلاقا من صورة رسمها لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم راح يفرضها عليه ضاربا بالنصوص المقدسة عرض الحائط، أما ما قد يساء فهمه من هذه النصوص، فقد ذكرنا الرد عليه في مناسبات كثيرة.
([22]) رواه البخاري ومسلم وغيرهما.. والأقوال التي تلي قولها هذا روايات في الحديث، وقد اخترنا اعتبارها أحاديث قائمة بذاتها.
([23]) رواه ابن عساكر.
([24]) رواه أحمد برجال ثقات غير سليمان بن رومان.
([25]) رواه الطبراني في الأوسط بسند حسن.
([26]) رواه الطبراني في الأوسط بسند حسن.
([27]) رواه البخاري ومسلم والبيهقي.
([28]) رواه ابن عساكر.
([29]) رواه ابن سعد وأحمد برجال الصحيح وابن عساكر وابن الجوزي.
([30]) رواه ابن عساكر.
([31]) رواه ابن عدي.
([32]) رواه ابن سعد.
([33]) رواه ابن عساكر.
([34]) رواه أحمد، وابن سعد وأبو داود، والحارث بن أبي أسامة برجال ثقات.
([35]) رواه البخاري ومسلم.
([36]) رواه ابن أبي شيبة، أحمد، وأبو يعلى، والترمذي في الشمائل، وابن سعد بإسناد صحيح.
([37]) رواه ابن سعد.
([38]) رواه أبو الحسن بن الضحاك.
([39]) رواه ابن سعد.
([40]) رواه ابن سعد.
([41]) رواه أحمد والبخاري ومسلم، والترمذي.
([42]) رواه الترمذي.
([43]) رواه ابن سعد.
([44]) رواه ابن سعد.
([45]) رواه ابن أبي الدنيا وأبو سعد الماليني وأبو الحسن بن الضحاك.
([46]) رواه ابن ماجه.
([47]) رواه ابن ماجة.
([48]) رواه ابن سعد.
([49]) رواه أحمد، وابن سعد والترمذي وصححه.
([50]) رواه الطبراني.
([51]) رواه البزار بسند جيد.
([52]) رواه عبد بن حميد.
([53]) رواه الترمذي وابن سعد.
([54]) رواه الطبراني.
([55]) رواه أحمد وابن سعد والترمذي وصححه.
([56]) رواه أحمد.
([57]) رواه الطبراني.
([58]) رواه ابن سعد والدارقطني في الافراد، وصححه.
([59]) رواه الطبراني.
([60]) رواه أحمد، ومسلم، وابن ماجه.
([61])وقد كان ذلك من عادة العرب عند الجوع، فإذا خوى البطن لم يمكن معه الانتصاب، فيعمل الشخص حينئذ إلى صفائح رقاق في طول الكف، أو أكثر، فيربطها على بطنه، ويشدها بعصابة فوقها، فتعتدل قامته بعض الاعتدال، وقد قال بعض من وقع له ذلك: كنت أظن أن الرجلين تحملان البطن، فإذا البطن هو الذي يحمل الرجلين.
([62]) رواه عبد الله ابن الإمام أحمد في زوائد المسند.
([63]) رواه البيهقي وابن عساكر.
([64]) رواه ابن سعد.
([65]) رواه البخاري ومسلم.
([66]) رواه الترمذي بسند جيد قوي.
([67]) رواه ابن أبي الدنيا، والبيهقي في الزهد، وابن عساكر.
([68]) رواه مسلم والبيهقي.
([69]) رواه أبو نعيم وابن عساكر.
([70]) هو ابن جابر الأندلسي.
([71]) رواه ابن المبارك في الزهد عن الأوزاعي.
([72]) رواه أبو الحسن بن الضحاك.
([73]) رواه ابن المبارك في الزهد.
([74]) رواه ابن ماجة.
([75]) رواه أحمد.
([76]) رواه البخاري ومسلم.
([77]) رواه أحمد برجال ثقات.
([78]) أما ما روي من أنه كان يدخر قوت سنة، فقد أجاب عنه الحافظ البجلي بقوله: سألت نعيم بن حماد قلت: جاء عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه لم يشبع في يوم من خبز مرتين، وجاء عنه أنه كان يعد لأهله قوت سنة، فكيف هذا؟ قال: كان يعد لأهله قوت سنة، فتنزل النازلة، فيقسمه، فيبقى بلا شئ.
ومما يؤيد هذا ما رواه أحمد، وأبو يعلى برجال ثقات عن أنس قال: أهديت لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثلاثة طوائر فأطعم خادمه طائرا، فلما كان من الغد أتته به، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (ألم أنهك أن ترفعي شيئا لغد؟ فإن الله تعالى يأتي برزق كل غد)
([79]) رواه البخاري.
([80]) رواه أحمد وأبو يعلى بسند جيد.
([81]) رواه ابن أبي شيبة في المصنف.
([82]) رواه أبو سعد الماليني والخطيب.
([83]) رواه البيهقي، والبزار، والطبراني، وأبو يعلى.
([84]) رواه ابن حبان والبيهقي.
([85]) رواه ابن سعد والبيهقي.
([86]) رواه البزار عن أبي سعيد، والبزار، والطبراني عن سمرة بن جندب، والطبراني، والبزار بسند حسن وأحمد، وأبو يعلى برجال ثقات والبزار وأحمد بسند حسن عن ابن عباس.
([87]) رواه الطبراني والبزار.
([88]) رواه البزار، والطبراني بسند حسن.
([89]) رواه أبو ذر الهروي في دلائله.
([90]) رواه البخاري.
([91]) رواه أبو بكر الحميدي.
([92]) رواه الطبراني بسند حسن.
([93]) رواه أحمد بسند جيد.
([94]) رواه أحمد، والبيهقي في الشعب.
([95]) رواه الطبران برجال ثقات إلا عتبة بن حميد وثقه ابن حبان وضعفه جماعة.
([96]) رواه أبو يعلي.
([97]) رواه بقي بن مخلد وأبو يعلى.
([98]) رواه أحمد.
([99]) رواه البيهقي، وابن عساكر.
([100]) رواه ابن أبي خيثمة.
([101]) رواه ابن أبي شيبة.
([102]) رواه مسلم.
([103]) رواه مسلم.
([104]) رواه مسلم.
([105]) رواه الخرائطي، والطبراني، و المراد من عدم قوله:( لا) ما يفهم منها عدم الإعطاء مع القدرة عليه، أما إذا كانت من باب الاعتذار، فلا حرج في ذلك، وقد قالها صلى الله عليه وآله وسلم، ففي القرآن الكريم حكاية عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم:{ وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ} (التوبة:92)
([106]) رواه الدارمي.
([107]) رواه البخاري، وابن ماجه، وابن سعد، والطبراني، والإسماعيلي والنسائي، زاد الطبراني: وأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يصنع له غيرها، فمات قبل أن تنزع.
([108]) رواه الدارمي.
([109]) رواه البخاري
([110]) رواه ابن أبي الدنيا وغيره.
([111]) رواه البخاري ومسلم وغيرهما.
([112]) رواه البخاري.
([113]) رواه ابن الأعرابي.
([114]) رواه ابن عدي.
([115]) رواه الطبري.
([116]) رواه الترمذي والخرائطي.
([117]) رواه أبو داود والبيهقي.
([118]) رواه ابن أبي شيبة والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن جرير وابن المنذر والحاكم وابن مردويه البيهقي في الأسماء والصفات.
([119]) رواه أبو الحسن بن الضحاك.
([120]) رواه الترمذي.
([121]) رواه الطبراني.
([122])ذكره ابن فارس في كتابه أسماء النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
([123]) رواه البخاري ومسلم.
([124]) رواه البخاري.
([125]) انتصف.
([126]) أي ذهب معظمه.
([127]) يسقط.
([128]) رواه مسلم.
([129]) رواه البخاري ومسلم.
([130]) رواه الترمذي والحاكم.
([131]) رواه الترمذي وقال: حديث حسن.
([132]) رواه النسائي وابن ماجه وابن السني.
([133]) رواه أبو داود والنسائي واللفظ له وابن حبان في صحيحه والحاكم وقال: صحيح على شرطهما.
([134]) رواه الطبراني.