خامسا ـ خداع

في مساء اليوم الخامس.. وفي دار الندوة الجديدة.. دخل (فرانكلين جراهام)([1]).. وقد كان هذا الرجل في بداية حياته لاعب سيرك، وكان يتقن من فنون السيرك ما أثر في حياته جميعا، فهو يتصور جميع حركات الحياة بمنظار حركات التشويش البصري التي يقوم بها البهلوان في ميدان السيرك.
بعد ذلك.. وبعد أن عجزت أعضاؤه أن تقوم بحركات البهلوان، انضم إلى حزب مغمور من الأحزاب السياسية.. ولكنه استطاع بفضل ما تعلمه في السيرك من فنون الحيل أن يجعل لحزبه صوتا محترما مسموعا.
لكن أعضاء حزبه الذين تعلموا منه فنون الخداع والحيلة ارتدوا عليه، فصار في ذيل الحزب بعد أن كان رأسه المدبر.. ولم يرضه هذا، فاستقال منه، وانصرف إلى الكنيسة.
ولكن الخصال التي تولدت عنده من طول صحبته لرجال السيرك عادت فسيطرت عليه من جديد، فأخذ يتقرب من رجال السياسة بما يحبون أن يتقرب به البشر إليهم.. فقربوه إليهم كما لم يقربوا قبله أي رجل دين.
وقد بدأت علاقة أخي به بسبب هذه الصحبة.. فكلاهما يحب المناصب الرفيعة.. وكلاهما ينبهر بالعروش.. سواء عروش السلطة الدنيوية، أو عروش السلطة الدينية.. وكلاهما يتقن من فنون التكتيك ما يستطيع أن يحقق به كل ما يشتهي من مآرب.
لكنه عاد في ذلك المساء بغير ما كانت الجماعة تتوقع منه.. فقد جاء على غير العادة كالح الوجه مصفر الشفتين.. وكأنه كان يخوض غمار حرب من غير أن يحمل معه أي سلاح.
ابتدرته الجماعة قائلة: ما الذي فعلت!؟.. ما نسبة نجاحك!؟.. هل هناك نتائج إيجابية!؟
تفرس في وجوههم ـ كعادته ـ قبل أن ينطق بأي كلمة، ثم قال: لا شك أنكم تسمعون بما يسمى الكر والفر.. فإن لم تكونوا قد سمعتم به من قبل، فهو أسلوب من أخطر أساليب الحروب وأكثرها نفعا.. وقد مارسه المسلمون في جميع حروبهم.
قال رجل منا: فهل مارست اليوم هذا الأسلوب؟
قال فرانكلين: أجل.. لقد مارسته كما لم أمارسه طول حياتي.. وهم الآن في كمين.. ويوشك أن ننتصر عليهم.
قال الرجل: ما دمت تحمل هذه البشرى.. فلم نراك ذابلا ممتلئا بالمخافة؟
قال فرانكلين: المعركة صعبة.. وأسلوب الكر والفر أصعب أنواعها..
قال رجل من الجماعة: لم أفهم بعد مرادك من هذا الأسلوب.
قال فرانكلين: هذا الأسلوب يعتمد على تظاهر المنتصر القوي بالهزيمة أمام خصمه.. فإذا ما اتبعه انقض عليه انقضاضا يقضي عليه.
قال الرجل: فقد تظاهرت اليوم بالهزيمة إذن؟
قال فرانكلين: هزيمة المنتصر.. لا هزيمة المنهزم.
قال الرجل: فهل انقضضت عليه بعد أن وضعته في كمينك؟
قال فرانكلين: إن ذلك يستدعي وقتا.. المهم أنهم الآن في الكمين..
ابتسم أخي، وقال مخاطبا الجماعة: لماذا نضيع وقتنا في كل هذا اللغو.. لقد سجلنا كل ما حصل.. ولنكتف بما وقع؟
ابتدر دون انتظار رد الجماعة، ووضع القرص في القارئ، وبدأ شريط الأحداث:
ظهر (فرانكلين جراهام) في ميدان الحرية كمهرج أكثر منه كرجل مرتبط بالكنيسة، وله مكانة عالية فيها..
لقد استعمل أسلوبا من أساليب الخداع التي تعلمها أثناء عمله مهرجا في السيرك، لقد أخرج منديلا.. وأراه للجماعة التي أحاطت به، وقال: ألا ترون هذا المنديل الأبيض؟..
أجابت الجماعة بالإيجاب، فقال: ألا تشكون في كونه منديلا؟
قالوا: لا نشك.
فقال: ألا تشكون في كونه أبيض؟
قالوا: لا نشك.
أدار المنديل بحركات بهلوانية، اختفى بعدها المنديل لتحل بدله حمامة حية ممتلئة حياة.
تعجبت الجماعة عجبا شديدا.. وفغرت فاهها لذاك، فقال: لا شك أن لكم من الذكاء ما يعتبر ما فعلته مجرد خدعة لها أصولها، وكيفيتها.. ولذلك لم تنخدعوا..
نعم.. أثار ذلك تعجبكم، ولكنكم في نفس الوقت تعلمون أن المنديل منديل.. هو هذا المختفي داخل كمي.. وأن الحمامة كنت أيضا أخفيها بطريقتي الخاصة.. وقد استطعت بما تعلمته من أساليب الخداع أن أحول في أبصاركم المنديل حمامة.
ولكن.. لو كان بينكم أغرار أو مغفلون أو صغار لم تنضج عقولهم، فإنهم سينخدعون.. أليس كذلك؟
قالت الجماعة: بلى.. فهات خدعة أخرى.. وعلمنا من أسرارها ما علمتنا من أسرار هذه الخدعة.
قال: هناك خدعة تحتاج منكم صبرا كثيرا لتعلمها.
قالوا: هاتها.
قال: لقد تعلمت هذه الخدعة من رجل ظهر في بلاد العرب قبل أكثر من أربعة عشر قرنا.. كان اسمه محمد..
تعجبت الجماعة، وقال بعض المسلمين منهم: أتقصد رسول الله.. ذلك الصادق الأمين الذي امتلأت الأرض رحمة وجمالا ونورا بمحياه.
التفت إليه فرانكلين، وقال: لاشك أنك من الأغرار الذين استطاع محمد أن يلعب بعقولهم.. فيحول من المنديل الأبيض الذي لا حياة فيه حمامة كتلك الحمامة التي أخرجتها لكم.
قال الرجل: ولكن محمدا رجل من أهل الله، أوحى الله إليه.. وكان ذلك الوحي هو النور الذي اهتدت به أجيال طويلة من الإنسانية.. بل لا تزال تهتدي.. بل إن الظمأ يصيبها أو يقتلها إن هي أعرضت عنه.
قال فرانكلين: لقد ذكرت لك أن محمدا لم يكن سوى مخادع أو ساحر لا يختلف خداعه وسحره عن الخداع والسحر الذي مارسته أمامكم الآن.
لقد أدرك قومه هذا.. فلهذا لم تنطل حيله على عقلاء قومه.. وقد ذكر قرآنه هذا.. ففيه:{ فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ} (النمل:13)، وفيه:{ وَقَالُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ} (الصافات:15)، وفيه:{ وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ} (الزخرف:30)، وفيه:{ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ} (الاحقاف:7)، وفيه:{ وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ} (القمر:2)
قال الرجل: ولكنه أتى بقرآن معجز.. لا تزيده الأيام إلا إعجازا.
قال فرانكلين: لقد استطعت مع مجموعة من أصدقائي أن آتي بكتاب مثل القرآن.. نعم.. هو لم ينتشر بعد انتشار القرآن.. ولم يشتهر اشتهاره.. ولم يذب في الألسن ذوبانه.. ولكن الأيام وحدها كفيلة بأن تجعل له من القوة ما يبز به قرآن محمد([2]).
قال الرجل: فاقرأ علينا من قرآنك ما يملؤنا بالخشوع الذي ملأنا به قرآن محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
استجمع فرانكلين كل ما تعلمه من فنون الخداع، وراح يمثل صورة الخاشع المتبتل، وبصوت ممتلئ بحشرجة الدموع راح يقرأ: (بسم الأب الكلمة الروح الإله الواحد الأوحد، مثلث التوحيد، موحد التثليث ما تعدد) (زعمتم بأننا قلنا: قاتلوا الذين لا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يدٍ وهم صاغرون.. يا أهل الضلال من عبادنا: إنما دين الحق هو دين الإنجيل والفرقان الحق من بعده، فمن ابتغي غير ذلك دينا فلن يقبل منه فقد كفر بدين الحق كفر) (سورة الجزية: 12، 13)
ثم نظر للجمع، فلم ير دمعة واحدة تسقط من عيونهم.. فزاد من درجة خشوعه، وراح يقرأ:(ولقد أنزلنا الفرقان الحق وحياً، وألقيناه نوراً في قلب صفينا ليبلغه قولاً معجزاً بلسان عربي مبين، مصدقاً لما بين يديه من الإنجيل الحق صِنْواً فاروقاً محقاً للحق، ومزهقاً للباطل وبشيراً ونذيراً للكافرين)(التنزيل 4، 5)
لم يلاحظ أي تأثر على وجوه الجمع المحيط به.. فضم إلى خشوعه ترتيلا كترتيل المسلمين للقرآن، وراح يقرأ:(واصطفيناه وشرحنا صدره للإيمان وجعلنا له عيناً تبصر وأذناً تسمع وقلباً يعقل، ولساناً ينطق، وأوحينا إليه بالفرقان الحق، فخطه في سبعة أيام وسبع ليال جليداً) (الشهيد:2).. (لقد طوعت لكم أنفسكم قتل صفينا شاهدين على أنفسكم بالكفر، أفتقتلون نفساً زكية، وتطمعون برحمتنا وأنتم المجرمون، لا جرم أنكم في الدنيا والآخرة أنتم الأخسرون، وختمتم بدمه آية تُكْوى بها جباهكم وتشهد عليكم بأنكم كفرة مجرمون، وأنه الصفي الأمين، وأن الفرقان الحق هو كلمتنا وهو الحق اليقين، ولو كره الكافرون) (الشهيد: 6: 8).. (فرقان حق صنو الإنجيل الحق الذي كلمنا به آباءكم وذكري للمدكرين)(الإعجاز:2).. (ونحن الله الرحمن الرحيم ثالوث فرد إله واحد لا شريك لنا في العالمين) (الثالوث:6).. (إنما صلبوا عيسي المسيح ابن مريم جسدا بشرا سويا وقتلوه يقينا) (الصلب:10).. (إن أهل الضلال من عبادنا أشركوا بنا شركاً عظيماً فجعلونا تسعة وتسعين شريكا ًبصفات متضاربة وأسماء للإنس والجان يدعونني بها وما أنزلنا بها من سلطان، وافتروا علينا كذباً بأنا الجبار المنتقم المهلك المتكبر المذل، وحاشا لنا أن نتصف بإفك المفترين ونزهنا عما يصفون) (الثالوث 8: 10).. (وقام منكم ناعٍ ينعق بنقمة الباطل على الحق، وحقد الكفر على الإيمان، ونصرة الشر على الخير، فكان لوحي الشيطان سميعا) (المسيح:15).. (والذين آمنوا بالإنجيل الحق وعملوا الصالحات، أولئك هم خير البرية، والذي كفروا وآمنوا بالشيطان ورسله أولئك هم شر البرية)(الإخاء:8).. (يأيها الناس إنما تتلى عليكم آيات الشيطان مضللات، ليخرجكم من النور إلى الظلمات، فلا تتبعوا وحي الشيطان، واتخذوه عدواً لدوداً) (الإخاء:15)
التفت إلى الجمع، فلم ير أي تأثر، فقال: سأقرأ عليكم ما يقول قرآننا عن محمد.. لقد قال في (الأنبياء:18)،:(وحذرنا عبادنا المؤمنين من رسول أفاك تبينوه من بيِّنات الكفر، وعرفوه من ثمار أفعاله، وكشفوا إفكه وسحره المبين، فهو رسول شيطان رجيم لقوم كافرين) وفي (الأنبياء:16) (وما بشرنا بني إسرائيل برسول يأتي من بعد كلمتنا، وما عساه أن يقول بعد أن قلنا كلمة الحق، وأنزلنا سنة الكمال، وبشرنا الناس كافة بدين الحق، ولن يجدوا له نسخاً، ولا تبديلاً إلى يوم يبعثون)
بل إن قرآننا وصف محمدا بالطاغوت.. بل خصه بسورة (الطاغوت)، اتهمه فيها بإشعال الحروب، وإخراج الناس من النور إلى الظلمات، والسلب، والزنى، والكفر..
وقال قرآننا في سورة (الإعجاز5: 9):(وما نرسل من رسول إلا لخير عبادنا يريهم صراطنا المستقيم، وأما من أغواهم وأضلهم فهو رسول شيطان رجيم، فصراطه عِوج وإعجازه عجمة ونوره ظلمة فلا تتبعوه ولا تنصتوا له واتخذوه مهجورا، ولايزال الذين كفروا في مرية من الفرقان الحق حتي تأتيهم الساعة بغتة أو يأتيهم عذاب مقيم، ومن الناس من يجادل فيه بغير علم ولا هدي ولا كتاب منير)
وقال قرآننا في الشهادة التي يتسابق لها المسلمون:(يا أيها الذين ضلوا من عبادنا: إذا سئل أحدكم عن الروح قال: الروح من أمر ربي، فما أوتيتم من العلم كثيراً أو قليلاً وما سألتم أهل الذكر الذين بشروا بالروح قبل جاهلية ملتكم بمئات السنين، وإذا استشهدتم في سبيل جنة الزنى فقد نعم كفرة الروم قبلكم بجنة تجري من تحتها الأنهار يلبسون فيها ثياباً خضراً وحمراً متقابلين ومتكئين على الأرائك يطوف عليهم ولدان ونساء بخمور ولحم طير وما يشتهون وهم الكافرون، وبزت جنتهم جنتكم التي استشهدتم في سبيلها فرحين طمعاً بما وعدتم به من زنى وفجور)
التفت إلى الجمع، فلم ير أي تأثر، فقال: سأقرأ عليكم قرآنا آخر كتبه سلف صالح لنا([3]).. لقد قال فيه:(بسم الله الغفور الرحيم، أعارض قرآن مَنْ آخر اسمه الدال وأوله الميم، بلسان فصيح عربي مبين، لا يمنعني منه سيف ولا سكين، إذ قال لي بلسان الإلهام سيد المرسلين: قل المعجزة لا شريك فيها لرب العالمين وفي الفصاحة يشترك كثير كثيرين يغلب فيها أحيانًا الصالح الطالح والكافر المؤمنين، فليست الفصاحة ولو في النهاية آية ولا معجزة اللهم إلا عند الذين أوطاهم عشوة معلم مجنون حتى قالوا عنه خاتم الأنبياء وسيد المرسلين، مع أنه بإقراره في سورة الأحقاف لم يدر قط ما يُفْعل به ولا بتباعه أجمعين أكتعين، فقل يا من اسمه رمند ولقبه مرَتْيِن: آه، لقومٍ يقبل الباطل والخرافات والترهات كأنها اليقين، وإن كنتم في شك مما ألهمنا إليه عبدنا يا معاشر المسلمين فأتوا بحلِّ هذه الحجة، وبمثل هذه السورة وادعوا لذلك إخوانكم من الجن إن كنتم مهتدين. فإن لم تقدروا، ولن تقدروا فقد زهق الباطل، وانتقام اليقين والحمد والشكر لله آمين، آمين)
بقي فرانكلين وقتا غير قليل يرطن بمثل هذه الركاكة إلى أن كاد الجمع ينفض عنه.. بل عزم بعضهم على ذلك إلى أن ارتفع صوت مهيب يخترق تلك الركاكات يرتل بخشوع ومهابة قوله تعالى:{ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (112) وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ (113) أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (114) وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (115) وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (116)} (الأنعام)
ارتفعت العيون إلى صاحب الصوت المهيب، فإذا به الحكيم، فافترت ثغور المجتمعين على ابتسامة فرح وسرور، وانصرفت عن فرانكلين إلى الحكيم.
أراد فرانكلين أن يصرف إليه المستمعين، فقال: ما بكم؟.. هل غركم هذا الساحر عن أنفسكم.. أم أن سحره قد انطلى عليكم؟
قال الحكيم: الساحر لا يرى في حياته إلا السحر.. والمجنون لا يرى في حياته إلا الجنون.
قال فرانكلين: هل تراك تتهمني، أم تقذفني، أم تسبني؟
قال الحكيم: أنا لا أتهمك ولا أقذفك، وما علمنا نبينا أن نسب أحدا من الناس، ولكني أعرض عليك أن نبحث في الحقائق بعيون أهل الحقائق لا بعيون أهل الدجل.
قال فرانكلين: وما عيون أهل الدجل؟
قال الحكيم: تلك العيون التي رأى بها فرعون وملؤه ما جاءهم به موسى u من الآيات، فقد رأوها سحرا لأنهم لم يروا في حياتهم إلا السحر، قال تعالى:{ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآَيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (23) إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (24)} (غافر)، وقال تعالى:{ وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (38) فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (39)} (الذاريات).. ألا ترى عمى هذا الأحمق عن الاحتمالات التي يتطلب العقل السليم النظر فيها.. فقد انحصر ما فعله موسى u عنده في السخر أو في الجنون.
قال فرانكلين: فأنت تشبهني به إذن؟
قال الحكيم: بل أنت تشبه نفسك به.
قال فرانكلين: كيف تقول ذلك، ثم تدعي أن نبيكم لم يعلمكم أن تسبوا أحدا من الناس.
قال الحكيم: في إمكانك أن تصرف هذه المسبة عنك، وتلصقها بي.
قال فرانكلين: كيف ذلك؟.. وهل يمكن للمسبة أن تتجول لتبحث عمن تحل به؟
قال الحكيم: لقد أخبرنا نبينا صلى الله عليه وآله وسلم عن ذلك، فقال:(أيما امرئ قال لأخيه: كافر فقد باء بها أحدهما، إن كان كما قال، وإلا رجعت عليه)([4])، وقال صلى الله عليه وآله وسلم:(إذا قال الرجل لأخيه: أنت لي عدو فقد باء أحدهما باثمه إن كان كذلك، وإلا رجعت على الأول)([5])
قال فرانكلين: فكيف أحولها إليك؟
قال الحكيم: هيا بنا نحتكم إلى ما احتكم إليه فرعون.
قال فرانكلين: وإلى ما احتكم فرعون؟
قال الحكيم: لقد قص القرآن علينا خبر ذلك، فقال:{ قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (109) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (110) قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (111) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ (112) وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (113) قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (114) قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ (115) قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (116) وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (117) فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (118) فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ (119) وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (120) قَالُوا آَمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (121) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (122)} (الأعراف)
كان لقراءة الحكيم تأثيرها الكبير في نفوس المستمعين، بحيث كادوا ينحازون انحيازا كليا إليه، فخشي فرانكلين إن تصرف أي تصرف لا يقبله العقل أن يظهر بمظهر المنهزم، فقال: فاعتبرني موسى.. وتعال ألق بحبالك، لألقي بعصاي.
قال الحكيم: لا يمكن أن يعتبر أحدنا نفسه موسى.. فموسى هو النتيجة التي نصل إليها.. وموسى هو الحقيقة التي تقضي على الباطل..
قال فرانكلين: فلنعتبر أنفسنا جميعا سحرة ومخادعين.. ولنلق ما عندنا من حبال وعصي لنعرف من منا موسى، ومن منا غيره؟
قال الحكيم: أما كون ما كنت تقرؤه سحرا وخداعا، فلا أظنك تخالفني فيه.. أم أنك تخالفني فيه؟
قال فرانكلين: ماذا تقصد؟
قال الحكيم: لا شك أنك تعرف كاتب تلك الآيات التي كنت تقرؤها إن كان يصح أن تسمى آيات.
قال فرانكلين: أجل.. وبيني وبينه علاقة وثيقة.
قال الحكيم: فهل ادعى هذا الرجل النبوة، أم أنه لا يزال تابعا للمسيح، ولما يأمر به رجال السلطة الكنسية؟
قال فرانكلين: بل هو لا يزال مخلصا للمسيحية.. ولرجال الدين المعصومين فيها.
قال الحكيم: فما قرأته إذن من اعتباره صفيا مرسلا إليه كذب وخداع؟
سكت فرانكلين، فقال الحكيم: هل يزعم صاحبك هذا أن ما يقرؤه على الناس كلام الله موحى به إليه كما أوحيت الأسفار المقدسة للنبيين؟
قال فرانكلين: هو لا يزعم ذلك، وهو أكثر تواضعا من أن يزعم ذلك.
قال الحكيم: فقد كذب إذن في نسبة كلامه إلى الله..
قال فرانكلين: أنت لم تفهم غرض هذا الكتاب.
قال الحكيم: فوضح لي غرضه.
قال فرانكلين: إن غرضه أن يرد على التحدي الذي نطق به القرآن.. ألم يزعم القرآن أنه لو اجتمع الإنس والجن على أن يأتوا بمثل القرآن لن يأتوا بمثله؟
قال الحكيم: أجل.. لقد قال تعالى في ذلك التحدي:{ قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (88)} (الإسراء)
قال فرانكلين: فقد رد صاحبي هذا على هذه الدعوى.
قال الحكيم: بل لم يرد عليها؟
قال فرانكلين: كيف ذلك، وأنت ترى آياته لا تختلف كثيرا عن آيات القرآن؟
قال الحكيم: إن ما تقوله يشبه ما رآه فرعون من عصا موسى u حين تصورها سحرا.. لأنه تصور أن كل خارق للعادة لن يكون إلا سحرا.
قال فرانكلين: فكيف تميز السخر عن غيره؟
قال الحكيم: بالاحتكام إلى أهل الاختصاص.. لقد احتكم فرعون إلى أهل الاختصاص من السحرة، فلم يملكوا إلا أن يسجدوا.
قال فرانكلين: فلمن نحتكم نحن الآن؟
قال الحكيم: لقد أثبتنا أن ما قرأته ليس كلاما من الله.. وأقررت بنفسك أن صاحبك هذا مجرد متلاعب، وليس صاحب رسالة كما تزعم كلماته.. وبذلك كانت حباله التي ألقاها مجرد سحر وخدعة بصرية كتلك الخدعة التي كنت تمارسها الآن بيننا.
قال فرانكلين: فالدور الآن إذن لمحمد.
قال الحكيم: أجل.. والعقل السليم يطلب منا أن ننظر فيما ألقاه محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وفيما جاء به هل هو رسالة من الله إليه، أم هو مجرد خدعة لا تختلف عن خدعة صاحبك؟
قال فرانكلين: فكيف نعرف ذلك؟
قال الحكيم: إن المخادع يتميز بأربع صفات.. والخدعة لا يمكن أن تقوم إلا بأربعة أركان.. ولن ينجخ المخادع إلا إذا تحقق بها.. والعقل السليم يطلب منا تطبيق تلك المواصفات على ما جاء به محمد u لنميز بين كونه مخادعا أو صادقا.
قال فرانكلين: فما هي؟
قال الحكيم: أما الأولى، فهي الكذب، فلا يمكن للمخادع أن يكون صادقا، وصاحبك قد علمت أنه كذب فيما ادعاه في كتابك من الوحي الذي أوحي به، وأنت كذلك كذبت على الجماعة حين أخبرتهم أن المنديل تحول إلى حمامة.
قال فرانكلين: والثانية؟
قال الحكيم: الغش..
قال فرانكلين: ما تريد به؟
قال الحكيم: الغش مضاد للنصيحة.. فالغاش لا يطلب إلا تحقيق مطلب شخصي بغض النظر عن مصلحة من يخاعه.
قال فرانكلين: قد أوافقك في أن أفعال السحرة تنطلق من الغش، لأنهم لا يرون إلا مكاسبهم، ولكنك لا يمكنك أن تتهم صاحبي بالغش.
قال الحكيم: المنطق يتهمه.. لأنه مثل من تصدق بعملة مزورة، سر بها الفقير، ليرتد سروره حزنا.
قال فرانكلين: فما الثالثة؟
قال الحكيم: الاحتيال؟
قال فرانكلين: أتتهم صاحبي بالاحتيال؟
قال الحكيم: ما دمت قد أقررت بأن ما ذكره ليس وحيا موحى به إليه، فهو محتال، فالمحتال هو الذي يجعل الغاية مبررا للوسيلة.. فلو أن صاحبك طرق الأمر من بابه، ما اعتبر محتالا، ولكنه لما علا البيت من ظهره اعتبرته محتالا، بل هو نفسه يعتبر نفسه محتالا.
قال فرانكلين: فما الرابعة؟
قال الحكيم: الكسل.
ضخك فرانكلين، وقال: وما علاقة الكسل بالخداع؟
قال الحكيم: لأن المخادع لا يخادع إلا ليجني أرباحا من وراء خدعته.. وهو لذلك يتجنب الطرق المجهدة.. ويركن إلى الطرق السهلة.. وكل ذلك بسبب كسله.
قال فرانكلين: لم أفهم.
قال الحكيم: لاشك أنك ترى سلعا كثيرة مغشوشة تزاحم السلع الأصيلة.
قال فرانكلين: أجل.. أرى ذلك.
قال الحكيم: أيهما أكثر كلفة، وأعظم تعبا: السلع الأصيلة، أم السلع المغشوشة؟
قال فرانكلين: بل السلع المغشوشة.
قال الحكيم: فالكسل هو سبب غش السلع.. فالكسول الذي عجز عن الأصيل راح يخادع بالمغشوش.
قال فرانكلين: فكيف تطبق هذا على صاحبي؟
قال الحكيم: لقد عجز صاحبك أن يكون نبيا حقيقيا، فراح يدعي نبوة مغشوشة.
قال فرانكلين: سلمت لك بهذه الأصول التي تريد أن تطبقها على ما جاء به محمد.. ولكن هل يمكن لشخص في الدنيا أن يطبقها على محمد، وما جاء به محمد.
قال الحكيم: أجل.. وها أنا أمامك.. وسنعرض بعين العقل والمنطق هذه الأصول على محمد صلى الله عليه وآله وسلم وما جاء به محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
قال فرانكلين: فلنبدأ بالكذب.. أنت تزعم أن محمدا في دعواه الرسالة لم يكن كاذبا.. وأن ما يقوله من وحي الله إليه صدق لاشك فيه.
قال الحكيم: أجل.. أقول ذلك، كما يقوله المسلمون في جميع أجيالهم.
قال فرانكلين: أليس الصدق هو مطابقة الأمر للواقع؟
قال الحكيم: أجل.
قال فرانكلين: لقد ذكر القرآن الجنة والنار والملائكة وأشياء كثيرة من عالم الغيب.. فكيف تستطيع أن تتأكد من صدق كل ذلك، وأنت لم تر شيئا من ذلك؟
قال الحكيم: ألست تقرأ الجرائد؟
قال فرانكلين: أجل.. وما علاقة ذلك بهذا؟
قال الحكيم: ألست تصدقها فيما تخبرك به من أخبار؟
قال فرانكلين: أجل..
قال الحكيم: حتى لو لم تر ما وصفوه لك من أخبار.
قال فرانكلين: أجل.. فلا يمكنني أن أرحل في كل لحظة لكل بقعة من بقاع العالم لأتأكد مما جرى فيها.
قال الحكيم: فأنت تثق في الموكلين بنقل الأخبار إليك؟
قال فرانكلين: أجل.. فالصحف المحترمة في العادة لا تختار إلا الثقاة.
قال الحكيم: فقد عرفت إذن بأن التأكد من الصدق لا يحتاج إلى أن نعرض كل مايقوله الصادق إلى الواقع، وإلا لم نحتج إلى الصادق للتعرف على الحقائق.
قال فرانكلين: ذلك صحيح.
قال الحكيم: ما تقوله في عالم الشهادة هو نفسه ما يجري في عالم الغيب، فالله تعالى بحكمته لم يجعل البشر جميعا رسلا، وإنما انتقى منهم ناسا ثقاة ليبلغوا رسالته للناس، وليخبروا الناس بما غاب عنهم من حقائق، قال تعالى:{ اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} (الحج:75)
قال فرانكلين: فكيف عرفت أن محمدا مصطفى كهؤلاء؟
قال الحكيم: ذلك علم طويل.. وأدلته لا يمكن استيفاؤها في هذا المحل وحده، وإن تك صادقا، فإن الله سيرسل لك من العقل ما تدرك به صدقه ونبوته.
قال فرانكلين: فكيف تثبت لنا صدق محمد فيما يدعيه؟
قال الحكيم: سأعرض لك ثلاث شهادات على صدقه، وأظن كل صاحب عقل سليم يكتفي بها.
قال فرانكلين: فما هي؟
قال الحكيم: شهادة أعدائه، وشهادة أتباعه، وشهادة الواقع.
قال فرانكلين: كيف يشهد له أعداؤه بالصدق، وهم الذين بارزوه المحاربة؟
قال الحكيم: أحيانا تقف الشهوات أو الأمراض النفسية حائلا بين الإنسان، وبين العمل بما يقتضيه عقله.. ألا ترى أن السكير المدمن يعلم من أضرار الخمر ما يعلم، ولكنه مغلوب على أمره لا يستطيع أن ينفك عن شربها؟
قال فرانكلين: بلى.. فما السكر الذي حال بين قوم محمد، وبين اتباعه ما داموا يعلمون صدقه؟
قال الحكيم: لقد كان لأعدائه من السلطة في بلادهم، ومن المنعة، ولهم فوق ذلك من الأعراف، ما جعلهم ينفرون مما يطالب به محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإن كانوا مستيقنين به.. لقد ذكر الله تعالى ذلك في معرض تسليته لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم فقال:{ قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآَيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (33)} (الأنعام)
لقد كان أعداؤهم يودون أن يكونوا نبيهم أحد كبرائهم كما قال تعالى:{ وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} (الزخرف:31)
وكانوا يودون من نبيهم أن ينصب عرشه بينهم، ثم يدعو كل واحد منهم ليحقق له مطالبه وشهواته كما قال تعالى:{ وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا (91) أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا (92) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا (93)} (الإسراء)
لكنه لما رفض نبيهم أن ينصاع لمطالب نفوسهم بارزوه المحاربة مع علمهم بصدقه.
قال فرانكلين: فلم لم يلب طلباتهم، ليقيم عليهم الحجة؟
قال الحكيم: ألا تعلم أن وظيفة النبي تختلف عن وظيفة الكاهن المتنبئ الساحر.. النبي هاد وطبيب، ولا يمكن للطبيب أن يستسلم لطلبات مريضه، وإلا أضر به استسلامه له؟
قال فرانكلين: لقد ذكرت لي أن قومه شهدوا له بالصدق مع إعراضهم عنه في نفس الوقت.. فكيف عرفت ذلك؟
قال الحكيم: لقد وردت الأسانيد الكثيرة المتواترة تخبر بذلك، وسأذكر لك بعضها لتعلم مدى صدق ما ذكره القرآن الكريم من ذلك.
لقد روي في سبب نزول قوله تعالى:{ قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} (الأنعام:33) أن أبا جهل لقي النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: إنا لا نكذبك، ولكن نكذب ما جئت به، فأنزل الله تعالى الآية([6]).
وعن أبي يزيد المدني؛ أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لقي أبا جهل فصافحه، قال له رجل: ألا أراك تصافح هذا الصابئ؟! فقال: والله إني أعلم إنه لنبي، ولكن متى كنا لبني عبد مناف تبعا؟
وقد روي أن أبا جهل جاء يستمع قراءة النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الليل، هو وأبو سفيان صَخْر بنِ حَرْب، والأخْنَس بن شِريْق، ولا يشعر واحدٌ منهم بالآخر، فاستمعوها إلى الصباح، فلما هَجَم الصبح تَفرَّقوا، فجمعتهم الطريق، فقال كل منهم للآخر: ما جاء بك؟ فذكر له ما جاء له، ثم تعاهدوا ألا يعودوا، لما يخافون من علم شباب قريش بهم، لئلا يفتتنوا بمجيئهم، فلما كانت الليلة الثانية جاء كل منهم ظَنًا أن صاحبيه لا يجيئان، لما تقدم من العهود، فلما أجمعوا جمعتهم الطريق، فتلاوموا، ثم تعاهدوا ألا يعودوا. فلما كانت الليلة الثالثة جاءوا أيضا، فلما أصبحوا تعاهدوا ألا يعودوا لمثلها، ثم تفرقوا.
فلما أصبح الأخنس بن شَرِيق أخذ عصاه، ثم خرج حتى أتى أبا سفيان بن حرب في بيته، فقال: أخبرني يا أبا حَنْظَلة عن رأيك فيما سمعت من محمد؟ قال: يا أبا ثعلبة، والله لقد سمعتُ أشياء أعرفها وأعرف ما يُراد بها، وسمعت أشياء ما عرفت معناها ولا ما يراد بها. قال الأخنس: وأنا والذي حلفت به.
ثم خرج من عنده حتى أتى أبا جهل، فدخل عليه في بيته فقال: يا أبا الحكم، ما رأيك فيما سمعت من محمد؟ قال: ماذا سمعت؟ تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف: أطعموا فأطعمنا، حملوا فحملنا، وأعطوا فأعطينا، حتى إذا تَجاثينا على الرُّكَب، وكنا كَفَرَسي رِهَان، قالوا: منا نبي يأتيه الوحي من السماء! فمتى ندرك هذه؟ والله لا نؤمن به أبدًا ولا نصدقه، قال: فقام عنه الأخنس وتركه([7]).
وروي أنه لما كان يوم بدر قال الأخنس بن شَرِيق لبني زهرة: يا بني زهرة، إن محمدًا ابن أختكم، فأنتم أحق من كف عنه، فإنه إن كان نبيًا لم تقاتلوه اليوم، وإن كان كاذبًا كنتم أحق من كف عن ابن أخته قفوا هاهنا حتى ألقى أبا الحكم، فإن غُلِبَ محمد رجعتم سالمين، وإن غَلَب محمد فإن قومكم لم يصنعوا بكم شيئا. فيومئذ سُمِّي الأخنس: وكان اسمه (أبيّ)، فالتقى الأخنس وأبو جهل، فخلا الأخنس بأبي جهل فقال: يا أبا الحكم، أخبرني عن محمد: أصادق هو أم كاذب؟ فإنه ليس هاهنا من قريش غيري وغيرك يسمع كلامنا. فقال أبو جهل: ويحك! والله إن محمدًا لصادق، وما كذب محمد قط، ولكن إذا ذهبت بنو قُصيّ باللواء والسقاية والحجاب والنبوة، فماذا يكون لسائر قريش؟)([8])
وعن المغيرة بن شعبة قال: إن أول يوم عرفت فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أني أمشي أنا وأبو جهل في بعض أزقة مكة إذ لقينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأبي جهل: يا أبا الحكم هلمَّ إلى الله ورسوله، أدعوك إلى الله. فقال أبو جهل: يا محمد هل أنت منتهٍ عن سبَِ آلهتنا؟ هل تريد إلا أن نشهد أنك قد بلَّغت؟ فنحن نشهد أن قد بلَّغت، فوالله لو أني أعلم أن ما تقول حق لاتبعتك، فانصرف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأقبل عليَّ فقال: والله إني لأعلم أن ما يقول حق ولكن يمنعني شيء: أن بني قصي قالوا: فينا الحجابة، قلنا: نعم، ثم قالوا: فينا السقاية، قلنا: نعم، ثم قالوا: فينا الندوة، فقلنا: نعم، ثم قالوا: فينا اللواء، فقلنا: نعم، ثم أطعموا وأطعمنا، حتى إذا تحاكت الركب قالوا: منا نبي، والله لا أفعل([9]).
وعن ابن عباس أن أبا سفيان ابن حرب أخبره أن هرقل أرسل إليه في ركب من قريش، وكانوا ذهبوا إلى الشام، لأجل التجارة في المدة التي كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ماد فيها أبا سفيان وكفار قريش، فأتوه بإيليا فدعاهم في مجلسه وحوله عظماء الروم، ثم دعاهم ودعا بترجمانه فقال: أيكم أقرب نسبا بهذا الذي يزعم أنه نبي؟ فقال أبو سفيان: فقلت: أنا أقربهم نسبا. فقال: أدنوه مني وقربوا أصحابه فاجعلوهم عند ظهره، ثم قال لترجمانه: قل لهم إني سائل عن هذا الرجل فإن كذبني فكذبوه، فوالله لولا الحياء من أن يأثروا علي كذبا لكذبت عليه، ثم كان أول ما سألني عنه أنه قال: كيف نسبه فيكم؟ قلت: هو فينا ذو نسب، قال: فهل قال هذا القول أحد منكم قط قبله؟ قلت: لا، قال: فهل كان من آبائه من ملك؟ قلت: لا، قال: فأشراف الناس يتبعونه أم ضعفاؤهم؟ قلت: بل ضعفاؤهم، قال: أيزيدون أم ينقصون؟ قلت: بل يزيدون، قال: فهل يرتد أحد منهم؛ سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه؟ قلت: لا، قال: فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قلت: لا، قال: فهل يغدر؟ قلت: لا، ونحن منه في مدة لا ندري ما هو فاعل فيها، قال: ولم تمكني كلمة أدخل فيها شيئا غير هذه الكلمة، قال: فهل قاتلتموه؟ قلت: نعم، قال: فكيف كان قتالكم إياه؟ قلت الحرب بيننا وبينه سجال، ينال منا وننال منه، قال: بماذا يأمركم؟ قلت: يقول اعبدوا الله وحده ولا تشركوا به شيئا، واتركوا ما يقول آباؤكم، ويأمرنا بالصلاة، والصدق، والعفاف، والصلة. فقال للترجمان: قل له: سألتك عن نسبه فذكرت أنه فيكم ذو نسب؟ فكذلك الرسل تبعث في نسب قومها، وسألتك هل قال أحد منكم هذا القول قبله قط؟ فذكرت أن لا، قلت: فلو كان أحد قال هذا القول قبله لقلت رجل يأتسي بقول قيل قبله، وسألتك هل كان في آبائه من ملك؟ فذكرت أن لا، قلت: فلو كان من آبائه من ملك لقلت رجل يطلب ملك أبيه، وسألتك هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ فذكرت أن لا، قلت: لم يكن ليذر الكذب على الناس ويكذب على الله، وسألتك أشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم؟ فذكرت أن ضعفاءهم اتبعوه وهم أتباع الرسل، وسألتك أيزيدون أم ينقصون؟ فذكرت أنهم يزيدون، وكذلك أمر الإيمان حتى يتم، وسألتك أيرتد أحد سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه؟ فذكرت أن لا، وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب، وسألتك هل يغدر؟ فذكرت أن لا، وكذلك الرسل لا تغدر، وسألتك بماذا يأمركم؟ فذكرت أنه يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا، وينهاكم عن عبادة الأوثان، ويأمركم بالصلاة والصدق والعفاف، فإن كان ما تقول حقا فسيملك موضع قدمي هاتين، وقد كنت أعلم أنه خارج ولم أكن أظن أنه منكم، فلو أني أعلم أني أخلص إليه لتجشمت لقاءه، ولو كنت عنده لغسلت عن قدميه. ثم دعا بكتاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذي بعث به إليه مع دحية بن خليفة الكلبي فقرأه، قال أبو سفيان: فلما قال ما قال، وفرغ من قراءة الكتاب كثر عنده الصخب، وارتفعت الأصوات فأخرجنا، فقلت لأصحابي حين أخرجنا: لقد أمر أمر ابن أبي كبشة؛ أنه ليخافه ملك بني الأصفر، فما زلت موقنا أنه سيظهر حتى أدخل الله علي الإسلام)([10])
وعنه قال: لما نزلت:{ وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} (الشعراء:214) صعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على الصفا، فجعل ينادي: يا بني فهر يا بني عدي لبطون قريش حتى اجتمعوا، فقال: أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلاً بالوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقيَّ؟ قالوا: نعم ما جربنا عليك إلا صدقاً، قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد، قال أبو لهب: تبّا لك يا محمد ألهذا جمعتنا فنزلت:{ تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} (المسد:1)([11])
وعن عبد الله بن سلام قال: (لما قدم النبي صلى الله عليه وآله وسلم المدينة كنت ممن انجفل، فلما تبينت وجهه عرفت أن وجهه ليس بوجه كذاب، فسمعته يقول:(أفشوا السلام وأطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام)([12])
ومن الأعداء الذين شهدوا لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رغم عداوتهم الشديدة النضر بن الحارث الذي خاطب قومه قائلا:(يا معشر قريش إنه والله قد نزل بكم أمر ما ابتليتم بمثله، ولقد كان محمد فيكم غلاماً حدثاً، أرضاكم عقلاً، وأصدقكم حديثاً، وأعظمكم أمانة، حتى إذا رأيتم فى صدغيه الشيب، وجاءكم بما جاءكم قلتم: ساحراً! لا والله ما هو بساحر، لقد رأينا السحرة ونفثهم وعقدهم، وقلتم: كاهن! لا والله ما هو بكاهن، قد رأينا الكهنة وحالهم، وسمعنا سجعهم، وقلتم: شاعر! لا والله ما هو بشاعر، لقد رأينا الشعر، وسمعنا أصنافه كلها هزجه ورجزه وقريضه، وقلتم: مجنون! لا والله ما هو بمجنون، لقد رأينا الجنون، فما هو بخنقه ولا وسوسته ولا تخليطه، ثم قال لهم، يا معشر قريش، انظروا فى شأنكم، فإنه والله لقد نزل بكم أمر عظيم)، فهذا كلام النضر بن الحارث الذى كان شيطاناً من شياطين قريش، وممن كان يؤذى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وينصب له العداوة.. وهكذا قال سائر أعدائه كالوليد بن المغيرة وعتبة بن ربيعة وغيرهما.
ولم تكن هذه الشهادة خاصة بحياتة صلى الله عليه وآله وسلم بعد البعثة، بل إنه قبل البعثة اشتهر باسم الصادق الأمين، وقد ذكر شريكه في التجارة السائب المخزومي كيف كان صلى الله عليه وآله وسلم، فقال ـ بعد أن لقيه يوم الفتح ـ:(مرحبا بأخي وشريكي لا تداري ولا تماري)([13])، وفي لفظ أنه قال للنبي صلى الله عليه وآله وسلم:(كنت شريكي في الجاهلية فكنت خير شريك لا تداري ولا تماري)
ولما قامت قريش ببناء الكعبة قبل بعثة محمد صلى الله عليه وآله وسلم تنازعوا في رفع الحجر الأسود إلى مكانه، واتفقوا على تحكيم أول من يدخل عليهم الباب، فكان أول داخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ففرحوا جميعا، وقالوا: جاء الأمين، جاء محمد. وقد كانوا يلقبونه بلقب الأمين؛ لما يعلمونه من أمانته صلى الله عليه وآله وسلم.
التفت الحكيم إلى فرانكلين، وقال: ومما يدخل في هذا الباب إيمان من حاربوه من قبل واحداً فواحداً، طوعاً لا إكراهاً.. ذلك لأنهم ما كانوا يشكون في أن محمداً صادق، ولكن فاجأهم بشيء لم يسمعوا به هم ولا آباؤهم فأنكروه، حتى إذا ذهب هول المفاجأة وحكّموا عقولهم التقى صدق الفكر بالثقة الأساسية بشخص محمد صلى الله عليه وآله وسلم فتولد عن ذلك إيمان.
قال فرانكلين: ولكن سبب هذا الإيمان قد يكون طلبا لمصالح لا اقتناعا بصدقه.
قال الحكيم: إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قضى أكثر حياته الدعوية وهو معدود من المستضعفين، فقد ظل في مكة ثلاث عشرة سنة أمضاها كلها في الاضطهاد والأذى هو وأصحابه، وأمضى في المدينة ثمان سنوات قبل فتح مكة، وهو معرض في كل لحظة للهجوم من كل الجهات.. بالإضافة إلى ذلك لم يكن لدى محمد صلى الله عليه وآله وسلم أي مصلحة من المصالح التي تطلبها النفوس.. بل لم يكن عنده إلا التضحية بالنفس والمال والوطن.. فأي مصالح يطلبها هؤلاء بإيمانهم؟
التفت الجكيم إلى فرانكلين، وقال: هذه بعض شهادة خصوم محمد، بعضهم أسلم بعد خصومة شديدة، وبعضهم مات على كفره.. ولكن الجميع حتى في أشد حالات الخصومة كانوا مؤمنين أن محمداً صلى الله عليه وآله وسلم قد تمثلت فيه شخصية الصادق في أعلى مراتبها.
قال فرانكلين: ربما تواضعت، فقبلت منك شهادة أعدائه وخصومه، ولكن كيف تعتبر شهادة الأتباع شهادة.. وهي تنطلق من ذاتية محضة.
قال الحكيم: قد يكون التابع تابعا عن غرض، وحينذاك تكون شهادته تابعة لغرضه، ولكن إن خلت الشهادة من الأغراض، وكانت نابعة من إخلاص عميق، فإن ذلك دليل على صدق صاحبها في شهادته.
بالإضافة إلى ذلك فإن الأتباع يرون ما لا يرى غيرهم، وبذلك يكون لشهادتهم من القيمة ما ليس لغيرهم.. لقد قال المستشرق الإنجليزى (هـ جى ويلز) يقرر هذا:(إن من أرفع الأدلة على صدق محمد كون أهله وأقرب الناس إليه يؤمنون به، فقد كانوا مطلعين على أسراره، ولو شكوا فى صدقه لما آمنوا به)([14])
ويقول هيجنس في كتابه (الاعتذار عن محمد والقرآن Appology for Md. And Quran): (إن أتباع عيسي ينبغي لهم أن يجعلوا علَى ذِكر منهم أن دعوة محمد أحدثت في نفوس أصحابه من الحميّة ما لم يحدُث مِثله في الأتباع الأولين لعيسى ومَن بحث عن مِثل ذلك لا يرجع إلَّا خائبًا؛ فقد هرب الحواريون، وانفضُّوا عن عيسى حين ذهب به أعداؤه ليصلبوه؛ فخذله أصحابه، وصَحُوا من سكرتهم الدينية، وأسلموا نبيهم لأعدائه يسقونه كأس الموت! أما أصحاب محمد؛ فالتفوا حول نبيّهم المبغي عليه، ودافعوا عنه مخاطرين بأنفسهم إلَى أن تغلب بهم علَى أعدائه)
سكت قليلا، ثم قال: سأورد عليك بعض أخبار هؤلاء الأتباع لتعلم أنه لو لم يكتمل لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم كل الصدق ما أخلصوا له ذلك الإخلاص.
عن القاسم بن عبد الرحمن قال: انتهى أنس بن النضر ـ عم أنس بن مالك ـ إلى عمر بن الخطاب وطلحة بن عبيد الله في رجال من المهاجرين والأنصار وقد ألقوا ما بأيديهم، فاقل: فما يجلسكم؟ قالوا: قتل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ثم استقبل القوم، فقاتل حتى قُتل([15]).
وعن زيد بن ثابت قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم أحد لطلب سعد بن الربيع وقال لي: إن رأيته فأقرئه مني السلام، وقل له: يقول لك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: كيف تجدك؟ قال: فجعلت أطوف بين القتلى، فأصبته وهو في آخر رمق، وبه سبعون ضربة ما بين طعنة برمح وضربة بسيف ورمية بسهم. فقلت له: يا سعد، إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقرأ عليك السلام، ويقول لك: أخبرني كيف تجدك؟ قال: على رسول الله السلام، وعليك السلام، قل له: يا رسول الله أجدني أجد ريح الجنة، وقل لقومي الأنصار: لا عذر لكم عند الله إن يخلص إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وفيكم شفر يطرف، قال: وفاضت نفسه([16]).
وفي رواية: فقال سعد: أخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أني من الأموات، وأقرئه السلام، وقل له: يقول سعد: جزاك الله عنا، وعن جميع الأمة خيراً.
وعن مالك بن عمير قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: إني لقيت العدو ولقيت أبي فيهم، فسمعت لك منه مقالة قبيحة فلم أصبر حتى طعنته بالرمح – أو حتى قتلته ـ، فسكت عنه النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ثم جاء آخر فقال: إني لقيت أبي فتركته وأحببت أن يليه غيري، فسكت([17]).
وعن أبي هريرة قال: مر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعبد الله بن أبي وهو في ظل أطم فقال: غبّر علينا ابن أبي كبشة، فقال ابنه عبد الله بن عبد الله: يا رسول الله والذي أكرمك لئن شئت لأتيتك برأسه! فقال: لا، ولكن بر أباك وأحسن صحبته ([18])
وعن أنس بن مالك قال: لما كان يوم أحد حاص أهل المدينة حيصة، وقالوا: قُتل محمد حتى كثرت الصوارخ في ناحية المدينة، فخرجت امرأة من الأنصار محرمة فاستقبلت بأبيها وابنها وزوجها وأخيها ـ أي قتلى ـ لا أدري أيهم استقبلت به أولاً، كلما مرت على أحدهم قالت: من هذا؟ قالوا: أبوك، أخوك، زوجك، ابنك، تقول: ما فعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ يقولون: أمامك حتى دفعت إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأخذت بناحية ثوبه ثم قالت: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، لا أبالي إذ سلمتَ من عطب([19]).
التفت الحكيم إلى فرانكلين، وقال: أرأيت كل هذا الإخلاص … وهل ترى أنه يمكن أن يتوجه لإنسان مخادع كاذب.
إن هؤلاء الذين وقفوا هذه المواقف لم يكونوا أغراراً ولا مغفلين ولا منعزلين عن العالم، بل بعضهم من مكة التي كان العرب يقصدونها سنوياً للحج، وتسلم الجزيرة العربية كلها لأهلها بالفضل والزعامة، عدا عن صلات أهلها بواسطة التجارة مع اليمن ومع الشام حيث مراكز الحضارة، وبعض أصحابه من المدينة حيث الصلات الفكرية مع اليهود وما ينشأ عن ذلك من تفتح ذهني.
لقد كانت هيئته صلى الله عليه وآله وسلم هي دليلهم الأول على مبلغ مكانته من الصدق، ودليلاً كافياً على صدق دعواه الرسالة، وعصمته فى كل ما يبلغه من وحى الله عز وجل، يعرفه بذلك كل من صفت فكرته، وتجرد عن الأنانية كما كان من الحبر عبد الله بن سلام الله عنه فإنه ما إن رآه عند مقدمة المدينة حتى استيقن صدقه كما قال: لما قدم النبى صلى الله عليه وآله وسلم المدينة انجفل الناس إليه، وقيل قدم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قدم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قدم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فجئت فى الناس لأنظر إليه، فلما استبنت وجه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، عرفت أن وجهه ليس بوجه كذاب، وكان أول شئ تكلم به أن قال:(أيها الناس: أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا والناس نيام، تدخلون الجنة بسلام)([20])
فلم يسعه بعد ذلك غير أن يعلن إسلامه، ويتبرأ من كيد يهود وعنادهم ففعل ذلك مقتنعاً مختاراً، وقد نزل فى فضله آيات من كتاب الله تعالى منها قوله تعالى:{ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} (الاحقاف:10)، وقوله:{ وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ} (الرعد:43)
وقد ذكر عبد الله بن رواحة هذا الشاهد، فقال:
لو لم تكن فيه آيات مبينة لكان منظره ينبيك بالخبر
بل إن المعاصرين له كانوا يسمونه بالصادق المصدوق([21])، أى الصادق فى نفسه، المصدوق أى المعصوم فيما يجئ به عن ربه عز وجل، ويرون صدقه وعصمته ينبئ عنه مظهره وجواره، قبل أن تنبئ عنه أقواله.
قال فرانكلين: لا بأس.. سأسلم لك بجدوى هاتين الشهادتين.. ولكن كيف تعتبر الواقع شاهدا لنبيكم.. وقد ذكرت لك من قبل أنه لا أحد رأى ما يدعيه محمد من الملائكة، أو الجنة أو النار.. أو أي شيء من ذلك الغيب الذي يدعو له محمد؟
قال الحكيم: هل اجتزت في حياتك أي مسابقة علمية أو وظيفية؟
قال فرانكلين: أجل.. وأنا بسببها قد نلت أعلى الشهادات، وتبوأت أرقى المناصب.
قال الحكيم: فهل امتحنت في تلك المسابقات في كل ما درسته وطالعته وبحثت فيه؟
قال فرانكلين: لا يمكن ذلك.. فما طالعته وبحثت فيه وتعلمته أكبر بكثير من الأسئلة التي وجهت لي.
قال الحكيم: فكيف اكتفى واضعو الأسئلة بتلك الأسئلة.. وكيف جوزوا لأنفسهم أن يعطوك تلك الأوسمة من غير أن يمتحنوك في كل حرف تعلمته؟
قال فرانكلين: ذلك لا يمكن.. ثم إن الأسئلة التي سئلت عنها لا يمكن أن يجيب عنها إلا من اكتمل له حظ كبير من العلم.. وبهذا يستدل الممتحنون بما أجبت على ما لم أجب.
قال الحكيم: فطبق هذا المقياس على شهادة الواقع لنبينا صلى الله عليه وآله وسلم.
قال فرانكلين: كيف ذلك.. ونحن لم نر الملائكة ولا الجنة ولا النار.
قال الحكيم: لو رأيت كل ذلك لارتفع التكليف عنك.. لقد قال تعالى:{ وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا (21) يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا (22)} (الفرقان)
قال فرانكلين: فكيف يشهد الواقع لمحمد إذن.. أم أنك تريد مني ثقة عمياء؟
قال الحكيم: استدل بما شهد له الواقع على ما لم يشهد.
قال فرانكلين: كيف ذلك؟
قال الحكيم: حينما استبعد المشركون بعقولهم الضيقة إمكانية البعث استدل الله لهم عن ذلك الغيب المكنون بالواقع المشهود، فقال:{ وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79) الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (80) أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (81)} (يس)
لقد استدل الله لهذا الأحمق الذي استبعد أن يحيي الله العظام بأن الله هو الذي أنشأها أول مرة وهو الذي أنشأ كل شيء.. فكيف يستبعد منه أن يحيي الموتى.
قال فرانكلين: وما علاقة هذا بما نحن فيه؟
قال الحكيم: أنت تختصر ما جاء به محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الغيب الذي لا يمكن أن نراه ما دمنا في هذه الدنيا.. وتريد من خلال ذلك أن تبين استحالة برهنة الواقع على صدق محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وفي ذلك مغالطة عظمى..
قال فرانكلين: كيف تكون مغالطة.. وهي تعتمد منهجا عقليا محترما.
قال الحكيم: ولكنها تصور أن ما جاء به محمد صلى الله عليه وآله وسلم مقتصر على ذلك الغيب.. إن ما جاء به محمد صلى الله عليه وآله وسلم مما يتطلب شهادة الواقع موجود في الغيب وموجود في الشهادة، وليس من المنطق أن نبحث في شهادة الغيب المكنون ونترك شهادة الواقع المعلوم.
قال فرانكلين: ولكن الواقع يشهده كل الناس.
قال الحكيم: من الواقع من لا يشهده أحد من الناس، فيكون حكمه حكم الغيب إلى أن يظهر للوجود.
قال فرانكلين: فهل هناك غيب من هذا النوع نطق به محمد؟
قال الحكيم: كثير هو ذلك الغيب.. وهو ليس من نطق محمد صلى الله عليه وآله وسلم فقط، بل من نطق القرآن أيضا.. وأنا أتحدى كتابك الذي كنت تقرؤه أن ينطق بغيب محترم واحد.
قال فرانكلين: وهل نطق كتاب محمد بغيب من الغيب؟
قال الحكيم: بل نطق بكثير منه.. ولم تزد الأيام كتاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولا ما قاله محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلا صدقا وتصديقا([22]).
سكت قليلا، ثم قال: لاشك أنك تعلم بأن آخر النظريات العلمية تنص على أن مبدأ الكون كان ما يسمى بالانفجار العظيم، وأن السماء بجميع ما فيها كانت مجتمعة في نقطة واحدة.
قال فرانكلين: أجل.. وقد كشف قومي ذلك بما أوتوا من حنكة ومعرفة.
قال الحكيم: ألا يمكن أن يكون اليونان هم الذين اكتشفوا ذلك؟
قال فرانكلين: يستحيل ذلك.. فأين معارف اليونان وهذا.. إن هذه المعرفة لم تأت من فراغ.. إنه نتيجة لدراسات فلكية كثيرة.. بل هي لم تعتمد على الدراسات المجردة.. فهي اعتمدت على وسائل متطورة لا يمكن أن يملكها اليونان ولا غير اليونان.
قال الحكيم: فإذا نطق بها محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونطق بها القرآن من غير أي وسيلة.. ولا أي دراسات سابقة.
قال فرانكلين: ذلك مستحيل.
قال الحكيم: فقد نطق القرآن بذلك.. قال تعالى:{ أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ} (الانبياء:30)، وقال تعالى:{ يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} (الانبياء:104)
قال فرانكلين: ربما يكون ما قاله مجرد مصادفة.
قال الحكيم: المصادفة كما تكون في الصواب تكون في الخطأ.. أليس كذلك؟
قال فرانكلين: بلى.. ذلك صحيح.. بل إنها في الخطأ أكثر منها في الصواب.
قال الحكيم: ولكن القرآن الكريم، وكل ما قاله محمد صلى الله عليه وآله وسلم لم يقع فيه خطأ واحد([23]).
قال رجل من الجمع: حدثتنا عن الكذب، وعرفنا أن محمدا أبعد الناس عنه، فحدثنا عن الغش.
قال الحكيم: الغش مضاد للنصيحة.. والغاش هو الذي يستهين بمصالح الناس، فهو يعبث بها ليخدم مصالحه.
قال فرانكلين: وهذا لن تستطيع أن تنقذ منه محمدا، ولا دين محمد.
قال الحكيم: لا ينبغي أن نتسرع في أحكامنا.. ولننظر للواقع، فالواقع هو وحده الكفيل بتمييز الناصح من الغاش.
قال فرانكلين: أجل.. فما هو الواقع الذي أنجزه محمد غير سفك الدماء؟
قال الحكيم: سفك الدماء موجود في كل واقع.. ولهذا لا ينبغي أن ننحجب بالدماء عن الحقائق.
قال فرانكلين: فمن الشهود الذين تريد أن تستقدمهم ليشهدوا لمحمد بالنصيحة، ويجنبوه عار الغش؟
قال الحكيم: سأكتفي بشاهدين كلاهما تسلم له العقول السليمة، وكلاهما تذعن له.
قال فرانكلين: من هما؟
قال الحكيم: الدين والواقع
قال فرانكلين: وكيف يحق لهذين أن يشهدا؟
قال الحكيم: الدين هو الأصول والفروع التي جاء بها محمد.. والواقع هو تأثير تلك الأصول والفروع في البيئة التي آمنت بها وطبقتها([24]).
التفت إلى فرانكلين، وقال: إن شئت مثالا يدلك على هذا.. فاذهب إلى الصيدلي، واسأله عن الشهادات التي تثبت مصداقية أي دواء من الأدوية، فسيذكر لك أنهما اثنان: احتواء الدواء في نفسه على عناصر الشفاء.. وظهور النتائج الواقعية الدالة على جدواه.
قال فرانكلين: فحدثني عن نصيحة الدين الذي جاء به محمد.
قال الحكيم: أنتم ـ معشر المسيحيين ـ تفخرون على الديانات جميعا بتلك الوصايا التي وردت في الكتاب المقدس، وتكادون تستدلون بها وحدها على صدق ما ورد في الكتاب المقدس، مع ما فيه من تشويه كثير.
قال فرانكلين: ومن لا يفخر بتلك المعاني الإنسانية السامية؟
قال الحكيم: ففي نصوص الإسلام المقدسة من الكتاب والسنة أضعاف تلك النصوص، وهي تحمل من المعاني أضعاف ما ورد في الكتاب المقدس، وهي ليست مجرد وصايا عارية عن طرق التنفيذ، بل هي وصايا لها من التشريعات ما يملأ بها النفس والوجدان.
وسأكتفي بقراءة بعض النصوص المقدسة لترى المعاني السامية التي كان يدعو إليها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. والتي تحيل أن يكون الداعي إليها إنسانا غاشا يكتفي باللهف على خدمة مصالحه.
قال تعالى:{ لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآَتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177)} (البقرة)
قال تعالى:{ قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151) وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (152) وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153)} (الأنعام)
وقال تعالى:{ لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا (22) وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (24) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا (25) وَآَتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا (26) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا (27) وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا (28) وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا (29) إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (30) وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا (31) وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا (32) وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا (33) وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا (34) وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (35) وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (36) وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا (37) كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا (38) ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا (39)} (الإسراء)
وقال تعالى:{ لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (92)} (آل عمران)
وقال تعالى:{ خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200) إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ (201) وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ (202)} (الأعراف)
وقال تعالى:{ وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134) وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135) أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (136)} (آل عمران)
التفت الحكيم إلى فرانكلين، وقال: في إمكانك أن تجري مقارنة بين المعاني السامية التي وردت في القرآن الكريم، وبين المعاني التي وردت في كتاب صديقك المقدس..
فإن لم تر كتاب صاحبك قادرا على ذلك، فارتفع لتجري مقارنة بين هذه المعاني وغيرها وبين المعاني التي وردت في الكتاب المقدس..
وأنا متيقن تماما أنك لن تجد في أي كتاب من كتب الدنيا مقدسة كانت أو غير مقدسة من القيم النبيلة ما في الكتاب الذي جاء به محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
فهل يمكن أن يكون أشرف كتاب في الدنيا، وأنبل كتاب فيها كتاب غش؟
وهل يمكن أن يكون من جاء بذلك الكتاب رجلا غاشا كاذبا لا حظ له من الصدق والنصح؟
وهل يمكن لمن دعا إلى تلك القيم النبيلة، وأخبر بالوعيد الشديد المرتبط لمن خالفها أن يكون كاذبا وغاشا.
هل يمكن لمن حذر من الكذب على الله بمثل هذه الصيغ المشددة أن يكون تحذيره هذا كذبا على الله..
اسمع لهذا الوعيد الشديد، قال تعالى:{ فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (آل عمران:94)، وقال تعالى:{ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} (الأنعام:21)، وقال تعالى:{ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ} (الأنعام:93)، وقال تعالى:{ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)(الأنعام:144)، وقال تعالى:{ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ} (لأعراف:37)، وقال تعالى:{ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ} (يونس:17)، وقال تعالى:{ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} (هود:18)، وقال تعالى:{ قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى} (طـه:61)، وقال تعالى:{ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكَافِرِينَ} (العنكبوت:68)، وقال تعالى:{ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَإِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} (الشورى:24)، وقال تعالى:{ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْأِسْلامِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} (الصف:7)
أحس فرانكلين بثقل الآيات التي كان يقرؤها الحكيم، وكأنه كان يخاطبه بها، أو يخاطب صديقه الذي سولت له نفسه أن يتحدى كلام الله، فقال برعدة لم يستطع أن يحبسها: فلندع هذا.. وأخبرنا عن تأثير ما جاء به محمد في الواقع.. فإن هناك فرقا واسعا بين النظريات وتطبيقاتها.
قال الحكيم: أولا.. لا ينبغي أن يؤاخذ الأستاذ النصيح الذي لم يألو جهدا في نصيحة طلابه إن قصر بعضهم أو فرط.. ولذلك فتطبيق الدين في جميع مراحل التاريخ الإسلامي تم على مستويات مختلفة، لعل أدناها هو المستوى الذي نعيشه في هذا العصر.. ولذلك لا ينبغي أن نحكم على الإسلام من خلال سلوك المسلمين.
لقد قال تعالى يبين أن خلفاء الرسل مختلفين في مدى تمسكهم بدين أنبيائهم:{ ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} (فاطر:32)
بل ذكر أن التفريط أغلب على هؤلاء من الاقتصاد أو السبق، فقال:{ فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ} (لأعراف:169)، وقال:{ فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً} (مريم:59)
قال فرانكلين: فقد أخفقت دعوة محمد إذن في جانبها التطبيقي؟
قال الحكيم: بل لم تنجح دعوة في الدنيا كما نجحت دعوة محمد.. كل المبادئ بلت وانهارت وسقطت إلا المبادئ التي جاء بها محمد، فقد آتت أكلها في حياته، وهي لا تزال تؤتي أكلها كل حين.
لن أطيل عليك، بل سأكتفي بشهادة رجل كان يعيش في البيئة التي ولد فيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، بل هو ابن عمه، وهو يتحدث مع ملك من الملوك حول المبادئ السامة التي جاء بها محمد صلى الله عليه وآله وسلم، والتي تحولت بعد ذلك واقعا ملموسا لا زلنا نشهد آثاره إلى اليوم.
لقد سأله النجاشي ملك الحبشة: ما هذا الدين الذي فارقتم فيه قومكم ولم تدخلوا في ديني ولا في دين أحد من هذه الأمم؟
فقال جعفر: أيها الملك، إنا كنا قوما أهل جاهلية ؛ نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف، فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولا منا، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله لنوحده، ونعبده، ونخلغ، ما كنا نعبد وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمر بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم، والدماء، وأمرنا أن نعبد الله لا نشرك به شيئا، وأمرنا بالصلاة والزكاة، – فعدد عليه أمور الإسلام – فصدقناه وآمنا به واتبعناه.
التفت الحكيم إلى فرانكلين، وقال: ألا ترى العقل الذي يفكر به أتباع محمد صلى الله عليه وآله وسلم.. لقد استدلوا بما نصحهم به محمد صلى الله عليه وآله وسلم على صدقه.. فالنصيحة لا يمكن أن تخرج من غاش.. والصدق لا يمكن أن يخرج من فم كذوب.
قال فرانكلين: ولكن الشريعة المبثوثة في كتب الفقه تحوي مفاسد كثيرة، فكيف تزعم أن الأصول التي تستند إليها أصول صحيحة؟
قال الحكيم: فرق كبير بين كتب الفقه وبين الشريعة.. كتب الفقه تحاول أن تصف الشريعة التي جاء بها محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وهي قد تفلح في ذلك، وقد تخفق.. وإخفاقها لا ينبغي أن يكون مبررا للهجوم على الشريعة.
لقد ذكر علماء المسلمين أن الشريعة المستنبطة من النصوص المقدسة لا يمكن أن تخالطها أي مفسدة أو غش أو مضرة، لقد نص على ذلك بعضهم، فقال: (إن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد وهي عدل كلها ورحمة كلها ومصالح كلها وحكمة كلها، فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث، فليست من الشريعة وإن أدخلت فيها بالتأويل، فالشريعة عدل الله بين عباده، ورحمته بين خلقه، وظله في أرضه، وحكمته الدالة عليه وعلى صدق رسوله صلى الله عليه وآله وسلم أتم دلالة وأصدقها، وهي نوره الذي به أبصر المبصرون، وهداه الذي به اهتدى المهتدون، وشفاؤه التام الذي به دواء كل عليل، وطريقه المستقيم الذي من استقام عليه فقد استقام على سواء السبيل، فهي قرة العيون، وحياة القلوب، ولذة الأرواح، فبها الحياة والغذاء والدواء والنور والشفاء والعصمة وكل خير في الوجود فإنما هو مستفاد منها وحاصل بها، وكل نقص في الوجود فسببه من إضاعتها، ولولا رسوم قد بقيت لخربت الدنيا وطوي العالم، وهي العصمة للناس، وقوام العالم، وبها يمسك الله السماوات والأرض أن تزولا، فإذا أراد الله سبحانه وتعالى خراب الدنيا وطي العالم رفع إليه ما بقى من رسومها، فالشريعة التي بعث الله بها رسوله هي عمود العالم وقطب الفلاح والسعادة في الدنيا والآخرة)([25])
لم يجد فرانكلين ما يجيب به الحكيم سوى أن قال: دعنا من هذا.. فلنسلم أن محمدا لم يكن يقصد غش من كان يدعوهم.. بل كان يقصد أن ينصحهم ويخرجهم من جاهليتهم إلى ما يسميه نور الإسلام.. ولكنه لم يجد وسيلة صالحة لذلك غير أن يدعي النبوة، فيحقق به ما تعجز سائر الوسائل عن تحقيقه([26]).
لاشك أن محمدا كان يعرف الطبع العربي، ويعرف الأنفة التي جبل عليها، وهي أنفة تمنعه من أن يسلم إلا لصاحب زعامة دينية.. ولم يكن محمد يستطيع أن ينال هذه الزعامة من غير واسطة ادعاء النبوة، خاصة وأن الظروف قد ساعدته على ذلك، فالبيئة التي عايشها كانت كلها تزعم أن نبيا قد اقترب موعده، وأن بلده مكة ([27])..
ابتسم الحكيم، وقال: نعم.. فلنعتبر هذا احتمالا من الاحتمالات، ولا نستعجل في قبوله أو رفضه حتى نعرضه على حياة محمد وسلوكه، فالمحتال لا بد أن يترك ثغرة تعرف بحيلته..
لاشك أنك تعلم ـ على حسب ما ينص الكتاب المقدس ـ على أن الله تعالى بحكمته لا يترك للمحتال فرصة كافية للتمادي في احتياله.. وأن من يتحدث باسم الله كاذبا على الله لابد أن يأتي اليوم الذي تقع فيه فضيحته.. تقع في حياته قبل موته.
لقد نص الكتاب المقدس على هذا، ولاشك أنك تعلم ما قال غمالائيل معلم اليهود لليهود في حق الحواريين، لقد قال لهم ـ على حسب (سفر أعمال الرسل: 5/36-39):(يا أيها الرجال الإسرائيليون احترزوا لأنفسكم من جهة هؤلاء الناس فيما أنتم مزمعون أن تفعلوا لأنه قبل هذه الأيام قام ثوداس قائلاً عن نفسه: أنه شيء الذي التصق به عدد من الرجال نحو أربعمائة، الذي قتل وجميع الذين انقادوا إليه تبددوا وصاروا لا شيء بعد هذا قام يهودا الجليلي في أيام الاكتتاب، وأزاغ وراءه شعباً غفيراً، فذاك أيضاً هلك وجميع الذين انقادوا إليه تشتتوا والآن أقول لكم تنحوا عن هؤلاء الناس واتركوهم لأنه إن كان هذا الرأي وهذا العمل من الناس فسوف ينتقض وإن كان من اللّه فلا تقدرون أن تنتقضوه لئلا توجدوا محاربين للّه أيضاً)
وقد ورد مثل هذا في العهد القديم، ففي الآية السابعة من الزبور الأول هكذا: (لأن الرب يعرف طريق الصديقين وطريق المنافقين تهلك)، وفي الآية السادسة من الزبور الخامس هكذا: (وتهلك كل الذين يتكلمون بالكذب، الرجل السافك الدماء والغاش يرذله الرب)، وفي الآية السادسة عشرة من الزبور الرابع والثلاثين هكذا: (وجه الرب على الذين يعملون المساوئ ليبيد من الأرض ذكرهم)، وفي الزبور السابع والثلاثين هكذا: (لأن سواعد الخطاة تنكر، والرب يعضد الصديقين الخطاة فيهلكون، وأعداء الرب جميعاً إذ يمجدون ويرتفعون، يبيدون، وكالدخان يفنون)
لقد نص القرآن الكريم على هذه السنة، ففيه هذا الخطاب الشديد على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:{ وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ (47)} (الحاقة)
إن هذه الآيات الكريمة تخاطب المكذبين لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم لتقول لهم: لو كان محمد مفتريا كما تزعمون، فزاد في الرسالة أو نقص منها، أو قال شيئا من عنده فنسبه إلينا، وليس كذلك، لعاجلناه بالعقوبة. و{ لأخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ }([28]) { ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ }([29])
ومثل ذلك ما نص عليه قوله تعالى:{ وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا (73) وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا (74) إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا (75)} (الإسراء)
إن هذه الآيات تهديد عظيم لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إن هو افترى على الله ما لم يوح به إليه.
التفت الحكيم إلى الجمع، وقال: هل ترون مفتريا يمكن أن يقول عن نفسه هذا؟
سكت الجمع، فقال: سأبرهن لكم من خلال القرآن الكريم أن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم كان أبعد الناس عن الاحتيال، وكان أبعد الناس عن ذلك الدهاء الشيطاني الذي يزعمه له المفترون، وسأكتفي بثلاث شهادات تدل على ذلك:
أما الشهادة الأولى، فظاهرة الوحي نفسه، وهي ظاهرة كان يلاحظها الناس في رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ويصفونها.
وأما الشهادة الثانية، فتأخر الوحي في الوقت الذي يكون فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أحوج ما يكون إليه.
وأما الشهادة الثالثة، فنزول الوحي بالعتاب والتخطئة لرأي رآه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أو سلوك سلكه.
فكل هذه الأمور يستحيل أن تصدر من محتال.
قال فرانكلين: كيف تعتبر ما تسميه ظاهرة الوحي دليلا، ونحن نعتبر الوحي نفسه متهما، هل يحق عندك أن يشهد الخصم لنفسه؟
قال الحكيم: إذا كان الخصم صادقا، فإنه يصح أن يشهد على نفسه، بل إن شهادته تبز كل شهادة، أليس الإقرار ـ كما يقال ـ سيد الأدلة؟
قال فرانكلين: فمن السهل إذن أن يدعي أي شخص أنه يوحى إليه، فإذا طولب بالشهود اكتفى بشهادة نفسه.
قال الحكيم: نحن لم نقتصر من الشهود على شهادة الوحي.. بل اعتبرنا شهادة الوحي من الشهادات المعتبرة التي ينبغي أن نأخذها في الحسبان، وهي تؤيد بعد ذلك بآلاف من الشهود.
قال فرانكلين: ما دامت مؤيدة بآلاف من الشهود، فما الوجه لإضافة هذه الشهادة؟
قال الحكيم: لولا شهادة الوحي ما اعتبرنا ـ نحن المسلمين ـ كل أولئك الشهود..فالشاهد الأول على كون ما أنزل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وحيا من الله هو الله نفسه.. فالله سيد الشهود، ولا ينبغي أن تقدم شهادة أخرى عليه.
قال فرانكلين: أنا لا زلت عاجزا عن إدراك سر ضرورة هذه الشهادة.
قال الحكيم: سأقرب لك ذلك.. أنتم المسيحيون تختلفون في طبيعة المسيح.. وأكثركم إما يقول بتأليه المسيح أو أنه ذو طبيعة مزودجة؟
قال فرانكلين: ذلك صحيح.. وما علاقته بما نحن فيه؟
قال الحكيم: فهل لهؤلاء فيما قالوه شهود يشهدون لهم؟
قال فرانكلين: لهم آلاف الشهود التي تدلهم على هذا.
قال الحكيم: هي كلها من أقوال القديسين.. أو استنتاجات الأحبار والرهبان.. وليس فيها نص واحد عن المسيح.. أليس كذلك([30])؟
قال فرانكلين: لا.. هناك نصوص نطق بها المسيح.. ألم تقرأ ما ورد في الأناجيل من قوله ـ مثلا ـ:(أنا والآب واحد)
قال الحكيم: أنت تعلم أن هذا النص ليس المراد به ما يوهمه ظاهره.. وقد فسر المسيح u المراد منه.. وبذلك يكون قد نفى أي وهم يطرق لكل نص يشبه هذا النص..
لن أطيل عليك.. بل يكفي لتفهم النص أن تقرأ نص المحاورة للرد على الاستدلال بهذا الدليل، لقد ورد نص المحاورة هكذا: قال لهم:(أنا والآب واحد)، فتناول الْيَهُودُ أيضاً حِجَارَةً لِيَرْجُمُوهُ. فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: أَرَيْتُكُمْ أَعْمَالاً صَالِحَةً كَثِيرَةً مِنْ عِنْدِ أَبِي، فَبِسَبَبِ أَيِّ عَمَلٍ مِنْهَا تَرْجُمُونَنِي؟ فأجابه اليهود قائلين: ليس من أجل الأعمال الحسنة نرجمك، ولكن لأجل التجديف، وإذ أنت إنسان تجعل نفسك إلهاً، فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ:(أَلَيْسَ مَكْتُوباً فِي شَرِيعَتِكُمْ: أَنَا قُلْتُ إِنَّكُمْ آلِهَةٌ؟ فَإِذَا كَانَتِ الشَّرِيعَةُ تَدْعُو أُولئِكَ الَّذِينَ نَزَلَتْ إِلَيْهِمْ كَلِمَةُ اللهِ آلِهَةً وَالْكِتَابُ لاَ يُمْكِنُ أَنْ يُنْقَضَ فَهَلْ تَقُولُونَ لِمَنْ قَدَّسَهُ الآبُ وَبَعَثَهُ إِلَى الْعَالَمِ: أَنْتَ تُجَدِّفُ، لأَنِّي قُلْتُ: أَنَا ابْنُ اللهِ؟)
التفت الحكيم إلى فرانكلين، وقال: لا شك أن معنى هذه المحاورة أن اليهود فهموا خطأ من قول المسيح:(أنا والآب واحد) أنه يدعي الألوهية، فأرادوا لذلك أن ينتقموا منه، ويرجموه، فرد عليهم المسيح خطأهم، وسوء فهمهم بأن هذه العبارة لا تستدعي ألوهيته، لأن (آساف) قديماً أطلق على القضاة أنهم آلهة بقوله الثابت في المزمور (82: 6):(أنا قلت: إنكم آلهة، وبنو العلي كلكم)
ولم يفهم أحد من هذه العبارة تأليه هؤلاء القضاة، ولكن المعنى المسوغ لإطلاق لفظ آلهة عليهم أنهم أعطوا سلطاناً أن يأمروا ويتحكموا ويقضوا باسم الله.
وبموجب هذا المنطق الذي شرحه المسيح لليهود ساغ للمسيح أن يعبر عن نفسه بمثل ما عبر به آساف عن أولئك القضاة الذين صارت إليهم كلمة الله.
ولا يقتضي كل من التعبرين أن في المسيح، أو أن في القضاة لاهوتاً حسبما فهمه اليهود خطأ.
قال فرانكلين: ألا يمكن أن يكون المسيح قد فعل ذلك بهم من باب المداراة؟
قال الحكيم: فأنت ترمي المسيح بما تريد أن ترمي به محمدا.. لا شك أنك تعلم أنه لو فعل ذلك لكان مغالطة منه وغشاً لا مداراة، وهذا لا يليق بالأنبياء الهادين إلى الحق، فكيف يليق بمن تزعمونه إلها؟
فإن كان المسيح هو رب العالمين الذي يجب أن يعبد، وقد صرفهم عن اعتقاد ذلك بضربه لهم ذلك المثل، فيكون بذلك قد أمرهم بعبادة غيره، وصرفهم عن عبادته.
قلت: فما تفهم أنت من هذا القول؟
قال: هذا القول يفهم على ضوء المحكمات، وعلى ضوء ما فسره المسيح ببساطة ويسر.. إن المسيح يريد أن يقول لهم:(إن قبولكم لأمري هو قبولكم لأمر الله).. هو تماما مثل قول رسول الرجل: أنا ومن أرسلني واحد.. وهو تماما مثل قول الوكيل: أنا ومن وكلني واحد.. لأنه يقوم فيما يؤديه مقامه، ويؤدي عنه ما أرسله به ويتكلم بحجته، ويطالب له بحقوقه.
أراد فرانكلين أن يغير مسار المناقشة، فقال: ما بالك استطردت كل هذا الاستطراد.. عد بنا إلى ما كنا فيه.
قال الحكيم: أنا لم أستطرد، ولكني أردت أن أبين لك أن أعظم شهادة هي شهادة الله.. وما دام الله لم يشهد للمسيح في الكتاب المقدس أنه إله أو ابن إله، فلا يحق لأحد في الدنيا أن يزيد على كلام الله ما لم يقله..
ولهذا، فإن العقلاء الحكماء يعتبرون أعظم شهادة على كون ما يوحى للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وحي من الله هو نطق الوحي نفسه بأنه من الله.. خاصة إذا علمنا مدى صدق النبي صلى الله عليه وآله وسلم.. فهل يمكن لمن يتحرى الصدق كل ذلك التحري أن يدع الكذب على الناس، ثم يكذب على الله.
سكت قليلا، ثم قال: سأقرأ عليك بعض النصوص، وحاول أن تتمعن فيها جيدا لترى هل يمكن لكاذب أن ينطق بها.
أخذ الحكيم يقرأ بصوت خاشع تندك له الجبال قوله تعالى:{ أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ (6) وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7) تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (8) وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (9) وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ (10) رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ (11)} (ق)
التفت الحكيم إلى فرانكلين، وقال: هل يمكن لمحتال أن يدعي كل هذه الدعاوى العريضة؟
ثم راح يقرأ قوله تعالى:{ إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآَتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا (163) وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا (164) رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (165) لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (166) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلَالًا بَعِيدًا (167) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا (168) إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (169) يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآَمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (170)} (النساء)
التفت الحكيم إلى فرانكلين، وقال: هل يمكن لمحتال أن يقول هذا؟.. وهل سمعت محتالا في الدنيا يستدعي الله ليشهد له على صدقه؟.. ثم كيف ترى الله يسكت على إشهاد محمد له هذه الشهادات ثم لا ينتقم منه؟
لم يجد فرانكلين ما يجيب به، فقال الحكيم: هذه شهادة واحدة من الشهادات.. والقرآن مليء بمثلها.. ولن أطيل عليك بقراءتها.. ولكني أنصحك أن تقرأ القرآن من أوله إلى آخره، وأنت متجرد من فكرة الاحتيال، فإنك لا بد أن تبصر الحقيقة أسطع من ضوء الشمس.
قال فرانكلين: فأنت تريد مني أن أقرأه وأنا أصدق أنه كلام الله.. أو تريد مني أن أعلن الشهادتين ثم أقرؤه؟
قال الحكيم: لا أطلب منك هذا ولا ذاك.. ولكني أطلب منك أن تسمع كلام المتهم وأنت تحمل في نفسك احتمالا بأن المتهم الواقف أمامك قد يكون بريئا مما ألصق به من تهم؟
قال فرانكلين: وما يجديه ذلك؟
قال الحكيم: بل يجديه ذلك كما يجديك ذلك.. فالحقيقة تتطلب منا موضوعة وحيادا.. والموضوعية والحياد كما تكون في القبول تكون في الرفض، فلا يحق لك أن تنطلق من رفض الحقائق لتصل إلى قبولها.
قال فرانكلين: أليس الشك مبدأ اليقين؟
قال الحكيم: ولكن الشك إن لبس لباس التهمة قد يسيء إلى الحقائق، ويضع الحجب دون فهمها.
سكت قليلا، ثم قال: دعنا نعود إلى استشهاد الوحي.. لنرى كيف بدأ الوحي لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. ونرى معه إمكانية ادعاء رجل في مثل صدق محمد مثل هذه الدعوى.
لقد ورد في الحديث: أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الوحى الرؤيا الصالحة فى النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حبب إليه الخلاء، وكان يخلو بغار حراء فيتحنث فيه ـ وهو التعبد ـ الليالى ذوات العدد، قبل أن ينزع إلى أهله ويتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها، حتى جاءه الحق، وهو فى غار حراء، فجاءه الملك، فقال: اقرأ. قال: ما أنا بقارئ. قال: فأخذنى فغطنى([31])حتى بلغ منى الجهد، ثم أرسلنى فقال: اقرأ. قلت: ما أنا بقارئ. فأخذنى فغطنى الثانية حتى بلغ منى الجهد، ثم أرسلنى فقال: اقرأ. فقلت: ما أنا بقارئ فأخذنى فغطنى الثالثة، ثم أرسلنى فقال:{ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)} (العلق)، فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يرجف فؤاده.
التفت الحكيم إلى فرانكلين، وقال: إن هذا النص مليء بالشهادات الدالة على صدق محمد صلى الله عليه وآله وسلم..
قال فرانكلين: أنا لا أرى فيه أي شيء مما تدعي.
قال الحكيم: سننطلق من المسلمات التي أثبتناها.. والتي دلت عليها كل الأدلة: رجل في مثل سن محمد.. في الأربعين من عمره.. كان مشهورا بالصفاء والطهارة والصدق والترفع إلى درجة لا يمكن تصور مداها.. هذا الرجل يأتي فجأة، ومن دون أي مقدمات يرتجف، ويحكي لهم ما حصل له، ويقرأ عليهم من الكلام الغريب ما قيل له، وهو لا يدعي في ذلك شيئا.. بل يأتي خائفا وجلا..
قال فرانكلين: قد يكون ذلك مجرد تمثيلية.
قال الحكيم: لو فعل ما فعل بولس لكان ذلك مجرد تمثيلية لا شك أنك تعلم ما فعل بولس.. ولا شك أنك تعلم ما ادعاه.. ولا شك أنك تعلم أثر كل تلك الدعاوى التي ادعاها.
سكت فرانكلين، فقال الحكيم: لو كان محمد مدعيا لمثل هذه المسرحية أمام قومه، لا أمام زوجته.. ولو كان مدعيا لكان له في الكلام الذي حرره باعتباره وحيا لله من أهواء البشرية ما فيه..
لقد زعم بولس أنه رأى المسيح بعد رفعه بسنوات، بينما هو ذاهب إلى دمشق في مهمة لرؤساء الكهنة تجلى له المسيح دون القافلة التي كان يسير معها، وفي ذلك التجلي منحه منصب الرسالة.. وكان مما قاله له بعد عتابه عما فعله بأتباعه من اضطهاد:(ولكن قم وقف على رجليك لأني لهذا ظهرت لك لأنتخبك خادما وشاهدا بما رأيت وبما سأظهر لك به منقذا إياك من الشعب ومن الأمم الذين أنا الآن أرسلك إليهم لتفتح عيونهم كي يرجعوا من ظلمات إلى نور ومن سلطان الشيطان إلى الله حتى ينالوا بالإيمان بي غفران الخطايا ونصيبا مع المقدسين) (اعمال 26/16-18).. وهذا الكلام هو نفس ما قال السامري حين قال:{ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (طه: 96)
أما محمد صلى الله عليه وآله وسلم ففي أول وحي يوحى إليه أمر بالقراءة.. وبالقراءة باسم الله.. هذا أول الوحي، وليس فيه أي ذكر لمحمد، ولا للمناصب الرفيعة التي هيئت لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم.
ليس هذا فقط ما أريد أن أستشهد به.. لقد بقيت هذه الظاهرة الغريبة ثلاثا وعشرين سنة.. فهل يمكن لكاذب محتال أن يمارس كذبه واحتياله طول هذه المدة من غير أن يكشف؟
لقد وصف أصحابه ما كان يحصل له عند الوحي، وهي ظواهر غريبة لا عهد للبشر العاديين بمثلها، وهي ظواهر لم يكن يملك محمد صلى الله عليه وآله وسلم لها جلبا، ولا دفعا.
بالإضافة إلى هذا كله، فقد كان صلى الله عليه وآله وسلم حين ينزل عليه القرآن في أول عهده بالوحي يتلقفه متعجلا ،فيحرك به لسانه وشفتيه طلبا لحفظه، وخشية ضياعه من صدره، ولم يكن ذلك معروفا من عادته في تحضير كلامه، لا قبل دعواه النبوة ولا بعدها، ولا كان ذلك من عادة العرب، إنما كانوا يزورون كلامهم في أنفسهم، فلو كان القرآن منبجسا من معين نفسه لجرى على سنة كلامه وكلامهم ولكان له من الروية والأناة الصامتة ما يكفل له حاجته ؛ من إنضاج الرأي ، وتمحيص الفكرة، ولكنه كان يرى نفسه أمام تعليم يفاجئه وقتيا ويلم به سريعا، بحيث لا تجدي الروية شيئا في اجتلابه لو طلب، ولا في تداركه واستذكاره لو ضاع منه شيء، وكان عليه أن يعيد كل ما يلقى إليه حرفيا، فكان لابد له في أول عهده بتلك الحال الجديدة التي لم يألفها من نفسه، أن يكون شديد الحرص على المتابعة الحرفية، حتى ضمن الله له حفظه وبيانه بقوله:{ لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ} (القيامة:16)، وقوله:{ وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً} (طـه:114)
التفت الحكيم إلى فرانكلين، وقال: أليس يكفي للحكم ببراءة الإنسان من عمل من الأعمال أن يقوم من الطبيعة شاهد بعجزه المادي عن إنتاج ذلك العمل؟
لم يجد فرانكلين ما يجيب به إلا أنه قال: كيف تعتبر تأخر ما تسميه بالوحي دليلا على صدق الوحي.. ألا يكون محمد هو الذي تسبب في تأخره.. أو أن قريحته لم تسمح له بالتأليف في ذلك الوقت؟
قال الحكيم: يمكنك أن تزعم أي شيء، ولكن الذي استطاع أن يحتال على العالم أجمع، بل استطاع أن يحتال على الله نفسه، فيزعم أنه يوحى إليه لن يعجز أن يضع لنفسه ما يخرجه من أي مأزق قد يقع فيه.. سأذكر لك أمثلة على بعض المواقف الحرجة التي كان فيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أحوج ما يكون إلى الوحي، ولكن الوحي تأخر عنه.
من ذلك ما حدث به ابن عباس قال: بعثت قريش النضر بن الحارث ، وعقبة بن أبي معيط إلى أحبار يهود بالمدينة ، فقالوا لهم:سلوهم عن محمد ، وصفوا لهما صفته ، وأخبروهم بقوله ؛ فإنهم أهل الكتاب الأول ، وعندهم ما ليس عندنا من علم الأنبياء، فخرجا حتى أتيا المدينة فسألوا أحبار يهود عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ووصفوا لهم أمره وبعض قوله وقالا: إنكم أهل التوراة ، وقد جئناكم لتخبرونا عن صاحبنا هذا. قال: فقالوا لهم:سلوه عن ثلاث نأمركم بهن ، فإن أخبركم بهن فهو نبي مرسل وإلا فرجل متقول فتروا فيه رأيكم؛ سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأول ما كان من أمرهم ، فإنهم قد كان لهم حديث عجب، وسلوه عن رجل طواف بلغ مشارق الأرض ومغاربها ما كان نبؤه، وسلوه عن الروح ما هو؟ فإن أخبركم بذلك فهو نبي فاتبعوه ، وإن لم يخبركم فإنه رجل متقول فاصنعوا في أمره ما بدا لكم. فأقبل النضر وعقبة حتى قدما على قريش ، فقالا: يا معشر قريش قد جئناكم بفصل ما بينكم وبين محمد ، قد أمرنا أحبار يهود أن نسأله عن أمور. فأخبروهم بها فجاءوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقالوا: يا محمد أخبرنا فسألوه عما أمروهم به ، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:(أخبركم غدا عما سألتم عنه)، ولم يستثن، فانصرفوا عنه ومكث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خمس عشرة ليلة ، لا يحدث الله له في ذلك وحيا، ولا يأتيه جبرائيل u حتى أرجف أهل مكة ، وقالوا: وعدنا محمد غدا ، واليوم خمس عشرة قد أصبحنا فيها لا يخبرنا بشيء عما سألناه عنه،وحتى أحزن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مكث الوحي عنه، وشق عليه ما يتكلم به أهل مكة، ثم جاءه جبرائيل u من الله عز وجل بسورة أصحاب الكهف ، فيها معاتبته إياه على حزنه عليهم ، وخبر ما سألوه عنه من أمر الفتية ، والرجل الطواف ، وقول الله عز وجل:{ وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً} (الاسراء:85)
التفت إلى فرانكلين، وقال: ألا ترى هذا الموقف المحرج الذي وقف فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. أرأيت لو كان محتالا كما زعمت يظل طول تلك المدة هدفا لحديث أعدائه.
قال فرانكلين: لعل المعلومات لم تكن تحضره ذلك الحين.
قال الحكيم: فكيف حضرته بعد خمسة عشر يوما.. إن المعلومات التي طلبها القرشيون معلومات لا علاقة لها بالفكر ولا بالنظر.. بل هي معلومات تحتاج إلى معلم خارجي، ومحمد لم يلتق في تلك المدة بأي معلم خارجي من المعلمين الذين تزعمونهم.
سكت قليلا، ثم قال: مثال آخر يدلك على هذا.. والأمر فيه أيسر من الجميع:
لقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يتحرق شوقا إلى تحويل القبلة إلى الكعبة، وظل يقلب وجهه في السماء ستة عشر شهرا أو سبعة عشر شهرا ، لعل الوحي ينزل عليه بتحويل القبلة إلى البيت الحرام ، ولكن الله تعالى لم ينزل في هذا التحويل قرآنا، على الرغم من تلهف رسوله الكريم إليه إلا بعد قرابة عام ونصف العام.
ففي الحديث: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صلى نحو بيت المقدس ستة عشر أو سبعة عشر شهرا ، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يحب أن يوجه إلى الكعبة،فأنزل الله تعالى:{ قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ} (البقرة:144)
ولو كان الوحي من تأليف النبي صلى الله عليه وآله وسلم، لما تأخر كل هذه المدة لشيء يحبه ويشتهيه ويتشوف إليه ويتحرق شوقا له، ولكنه وحي الله ولا ينزل إلا بأمر الله وإذنه.
التفت إلى فرانكلين، وقال: هل يمكن للمحتال ألا يفهم ما يقوله بحيث ينتظر أن يشرح له، أو يفصل، أو يبين؟
سكت فرانكلين، فقال الحكيم: إن الذي استطاع أن يؤلف كل تلك المسرحية الطويلة التي تزعمها لا يستحيل عليه مثل هذا، ولكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن يدرك في بعض الأحيان بيان بعض ما يوحى إليه إلى أن يوحى إليه بتفسيره.
سأضرب لك أمثلة عن هذا:
عندما نزل قوله تعالى:{ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ } (البقرة:284) انزعج الصحابة انزعاجا شديدا، وداخل قلوبهم منها شيء لم يدخلها من شيء آخر ؛ لأنهم فهموا منها أنهم سيحاسبون على كل شيء حتى حركات القلوب وخطراتها؛ فقالوا: يارسول الله أنزلت علينا هذه الآية ولا نطيقها، فقال لهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم:(أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم: سمعنا وعصينا؟ بل قولوا: سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير)، فجعلوا يتضرعون بهذه الدعوات حتى أنزل الله بيانها بقوله:{ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} (البقرة:286)، وهناك علموا أنهم إنما يحاسبون على ما يطيقون من شأن القلوب ، وهو ما كان من النيات المكسوبة والعزائم المستقرة، لا من الخواطر والأماني الجارية على النفس بغير اختيار.
ومن أمثلة ذلك ما حصل في الحديبية.. لقد أذن الله للمؤمنين أن يقاتلوا من يعتدي عليهم أينما وجدوه، غير ألا يقاتلوا في الحرم من لم يقاتلهم فيه نفسه، فقال تعالى:{ وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} (البقرة:190)، فلما أجمعوا زيارة البيت الحرام في ذلك العام وهو العام السادس من الهجرة أخذوا أسلحتهم حذرا أن يقاتلهم أحد فيدافعوا عن أنفسهم الدفاع المشروع.
فلما أشرفوا على حدود الحرم علموا أن قريشا قد جمعت جموعها على مقربة منهم، فلم يثن ذلك من عزمهم ؛ لأنهم كانوا على تمام الأهبة، بل زادهم ذلك استبسالا وصمموا على المضي إلى البيت ، فمن صدهم عنه قاتلوه، وكانت قريش قد نهكتها الحروب ، فكانت البواعث كلها متضافرة والفرصة سانحة للالتحام في موقعة فاصلة يتمكن فيها الحق من الباطل فيدمغه.
وإنهم لسائرون عند الحديبية إذ بركت راحلة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأخذ أصحابه يثيرونها إلى جهة الحرم فلا تثور، فقالوا: خلأت القصواء ـ أي حرنت الناقة ـ فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم:(ما خلأت القصواء، وما ذاك لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل) يعني أن الله الذي اعتقل الفيل ومنع أصحابه من دخول مكة محاربين، هو الذي اعتقل هذه الناقة ومنع جيش المسلمين من دخولها الآن عنوة.
وهكذا أيقن أن الله تعالى لم يأذن لهم في هذا العام بدخول مكة مقاتلين، لا بادئين ولا مكافئين، وزجر الناقة فثارت إلى ناحية أخرى ، فنزل بأصحابه في أقصى الحديبية، وعدل بهم عن متابعة السير امتثالا لهذه الإشارة الإلهية ، وأخذ يسعى لدخول مكة من طريق الصلح مع قريش قائلا:(والذي نفسي بيده لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها)، ولكن قريشا أبت أن يدخلها في هذا العام لا محاربا ولا مسالما، وأملت عليه شروطا قاسية بأن يرجع من عامه، وأن يرد كل رجل يجيئه من مكة مسالما، وألا ترد هي أحدا يجيئها من المدينة تاركا لدينه، فقبل تلك الشروط التي لم يكن ليمليها مثل قريش في ضعفها على مثل المؤمنين في قوتهم، وأمر أصحابه بالتحلل من عمرتهم وبالعودة من حيث جاءوا.
لقد كان لهذا الصلح وقع السيء في نفوس المسلمين، حتى إنهم لما جعلوا يحلقون بعضهم لبعض كاد يقتل بعضهم بعضا ذهولا وغما، وكادت تزيغ قلوب فريق من كبار الصحابة فأخذوا يتساءلون فيما بينهم ويراجعونه هو نفسه قائلين:(لم نعطي الدنية في ديننا؟) وهكذا كاد الجيش يتمرد على إمرة قائده ويفلت حبله من يده.
أفلم يكن من الطبيعي إذ ذاك لو كان هذا القائد هو الذي وضع هذه الخطة بنفسه أو اشترك في وضعها أن يبين لكبار الصحابة حكمة هذه التصرفات التي فوق العقول، حتى يطفئ نار الفتنة قبل أن يتطاير شررها؟ ولكن انظر كيف كان جوابه حين راجعه عمر: (إني رسول الله، ولست أعصيه، وهو ناصري) أي: إنما أنا عبد مأمور ليس لي من الأمر شيء إلا أن أنفذ أمر مولاي واثقا بنصره قريبا أو بعيدا، وهكذا ساروا راجعين وهم لا يدرون تأويل هذا الإشكال حتى نزلت سورة الفتح، فبينت لهم الحكم الباهرة والبشارات الصادقة، فإذا الذي ظنوه ضيما وإجحافا في بادئ الرأي كان هو النصر المبين والفتح الأكبر، قال تعالى:{ وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (24) هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (25) إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (26) لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آَمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا (27)} (الفتح)
قال رجل من الجمع: وعينا هذا، فحدثنا عن الشاهد الثالث.. وهو ما سميته (آيات العتاب)
قال الحكيم: إن أول غرض للمحتال أي محتال هو أن يبرز شخصيته ويثبت وجوده وقيمته عند من يريد أن يحتال عليهم.. لقد عرفنا ماذا قال بولس عندما أراد أن يظفر بتلك الزعامة بين المسيحيين.
قال فرانكلين: ومحمد فعل ذلك.. ألم يكن يقول:(أنا سيد ولد آدم يوم القيامة، ولا فخر، بيدي لواء الحمد ولا فخر، وما من نبي يومئذ آدم فمن سواه إلا تحت لوائي، وأنا أول من تنشق عنه الارض ولا فخر، وأنا أول شافع وأول مشفع ولا فخر)([32])؟
قال الحكيم: أرأيت إن قال الطبيب عن نفسه لمرضاه: إنه طبيب، ليثقوا فيما يقول، وفيما يصف لهم، أيكون بذلك قاصدا الاستعلاء، أم أن المصلحة تطلبت منه ذلك؟
قال فرانكلين: بل المصلحة تطلبت منه ذلك.. ولكن هذا الطبيب الذي وصفته ذكر أنه طبيب، ولم يذكر أنه سيد الأطباء.
قال الحكيم: فإن حصل لطبيب من الأطباء أن اختير ليكون سيد الأطباء وعمدتهم بفضل ما تعلم من علوم وما حصل عليه من خبرة.. هل يكون إخباره بذلك لمرضاه ليزدادوا ثقة فيما يقول قاصدا الاستعلاء، أم قاصدا المصلحة؟
سكت فرانكلين، فقال الحكيم: لاشك أنك توافقني بأن مثل هذا لا علاقة له بالاستعلاء.. والنبي صلى الله عليه وآله وسلم كان أبعد الناس عن الاستعلاء.. وإنما كان يذكر ما يذكر من فضل الله عليه من باب تنفيذ ما أمره الله به في قوله تعالى:{ وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} (الضحى:11)، وقد جاءت هذه الآية الكريمة بعد تعداد ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من فاقة، وما من الله به عليه بعدها من فضل، قال تعالى:{ أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآَوَى (6) وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى (7) وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى (8) فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ (9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ (10)} (الضحى)
أما الاستعلاء المجرد، والذي يحرص عليه المحتالون، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أبعد الناس عنه، وسأضرب لك مثالين يدلانك على ذلك:
لقد روي أن الشمس انكسفت يوم مات إبراهيم، فقال الناس: انكسفت لموت إبراهيم، جريا على عادة الجاهلية في أن الشمس تنكسف لموت العظماء، وقد كان في قدرة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن يستغل هذه الفرصة ليثبت من الاستعلاء ما يحرص عليه المحتالون، لكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قام خطيبا في أصحابه يحذر من هذه المقولة، ويقول:(إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتموها فادعوا الله وصلوا حتى ينجلي)([33])
وفي رواية:(إن أهل الجاهلية كانوا يقولون: إن الشمس والقمر لا ينخسفان إلا لموت عظيم من عظماء أهل الارض، وإن الشمس والقمر لا ينخسفان لموت أحد ولا لحياته، ولكنهما خليقتان من خلقه، يحدث الله في خلقه ما شاء، فأيهما انخسف فصلوا حتى تنجلي أو يحدث الله أمرا)([34])
التفت إلى فرانكلين، وقال: أترى أن مثل هذاالتصرف بمكن أن يفعله محتال؟
سكت فرانكلين، فقال الحكيم: لقد كان هذا التصرف مثار إعجاب المستشرق المعرفو (إميل درمنغم)([35]) الذي قال:(ولد لمحمد ابنه إبراهيم فمات طفلا، فحزن عليه كثيرا ولحده بيده، ووافق موتُه كسوف الشمس، فقال المسلمون:إنها انكسفت لموت إبراهيم، ولكن محمدا كان من سمو النفس ما رأى به رد ذلك، فقال:(إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته..)؛ فقول مثل هذا لا يصدر عن كاذب دجال)([36])
وأما المثال الثاني، فهو ما حدث به بعض الصحابة قال: كان أهل بيت من الأنصار، لهم جمل يسنون عليه، وإن الجمل استصعب عليهم، فمنعهم ظهره، وإن الأنصار جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقالوا: إنه كان لنا جمل نسني عليه، وإنه استصعب علينا ومنعنا ظهره، وقد عطش الزرع والنخل، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه: قوموا، فقاموا، فدخل الحائط، والجمل في ناحية، فمشى النبي صلى الله عليه وآله وسلم نحوه، فقالت الأنصار: يا رسول الله، إنه قد صار مثل الكلب الكلب، وإنا نخاف عليك صولته، فقال: ليس علي منه بأس، فلما نظر الجمل إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أقبل نحوه، حتى خر ساجدا بين يديه، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بناصيته، أذل ما كانت قط، حتى أدخله في العمل، فقال له أصحابه: يا رسول الله، هذه بهيمة لا تعقل تسجد لك، ونحن نعقل، فنحن أحق أن نسجد لك، فقال: لا يصلح لبشر أن يسجد لبشر)([37])
فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يستغل هذا.. ولم يستغل طلبهم منه السجود له، فيأذن لهم فيه..
بل إنه صلى الله عليه وآله وسلم كان يحذرهم من المبالغة في حقه، وكان يقول:(لا تطروني كما أطرى الناصري عيسى ابن مريم، فإنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله)([38])، وقال:(لا ترفعوني فوق حقي)([39])، وفي لفظ:(قدري أن الله تعالى اتخذني عبدا قبل أن يتخذني نبيا)
وروي أن رجلا قال: يا محمد يا سيدنا وابن سيدنا، وخيرنا، وابن خيرنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:(أيها الناس، قولوا بقولكم، ولا يستهوينكم)([40])
وعن أنس قال: لم يكن شخص أحب إليهم من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكانوا إذا رأوه لم يقوموا، لما يعلمون من كراهته لذلك)([41])
التفت إلى فرانكلين، وقال: فإن شككت في بعض هذا، فاذهب إلى القرآن واقرأ حديثه عن محمدا.. إن الإنجيل يبدأ بذكر نسب المسيح.. والحديث عن أم المسيح، وبيئة المسيح.. ويسمي أصحاب المسيح واحدا واحدا.. وهكذا العهد القديم في حديثه عن الأنبياء.. أما القرآن الكريم فيخلو من كل ذلك، فالحديث عن محمد صلى الله عليه وآله وسلم خطاب توجيهي لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم إما باسمه غير مقرون بأي وصف من الأوصاف التي يحرص المحتالون على الاتصاف بها.. بل إن من المواضع القليلة التي ورد فيها اسم محمد صلى الله عليه وآله وسلم نجد هذه الآية:{ وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} (آل عمران:144)، وهي آية تدعو المسلمين إلى الاهتمام بالمبادئ التي دعا إليها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والحرص عليها ولا يهمهم بعد ذلك هل مات رسول الله أو حيا.
وفي آية أخرى:{ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ} (محمد:2) ترى ذكر محمد صلى الله عليه وآله وسلم حافيا ليس مسبوقا بأي وصف يحرص عليه المحتالون.. وهكذا في كل القرآن.
بل إن القرآن الكريم يصف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في أشرف المواضع بالعبودية، فيقول:{ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (الاسراء:1)، وقال تعالى:{ وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً} (الجـن:19)
التفت الحكيم إلى فرانكلين، وقال: أظن أن ما ذكرته كاف ليبن لك أن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم كان أبعد الناس عن الاستعلاء..
قال فرانكلين: بل هو غير كاف.. ففي القرآن ثناء على محمد.. ألم تقرأ هذه الآية:{ إِنَّكَ لَعَلَى هُدىً مُسْتَقِيمٍ)(الحج:67)، وهذه الآية:{ وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (القلم:4)، وهذه الآية:{ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا (46)} (الأحزاب)؟
قال الحكيم: هذه الآيات تصف ما كان عليه محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وتصف الوظيفة التي كلف بها.. وليس فيها من المبالغة في حقه ما ذكرت.. لأن المبالغة هي أن تذكر الشيء على غير ما هو عليه، والآية لم تذكر إلا صفة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم التي يعرفه بها جميع الناس.. وهي من خلالها تدعو إلى التأسي به والتحلي بالخلال التي كان عليها، كما قال تعالى:{ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} (الأحزاب:21)، وهذه الآية مثل ما ورد في الحث على التأسي بإبراهيم u، كما قال تعالى:{ قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} (الممتحنة:4)، ومثل قوله تعالى:{ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} (الممتحنة:6)
قال رجل من الجمع: وعينا كل هذا.. فحدثنا عن آيات العتاب، ووجه الاستشهاد بها في رد شبهة الاحتيال عن محمد.
قال الحكيم: في الآيات التي عاتب الله فيها نبيه صلى الله عليه وآله وسلم حجة كافية لدى العقلاء في أن مصدر القرآن خارج ذات محمد، لأنه يستحيل أن يعاتب الإنسان نفسه ذلك العتاب الشديد، وعلى الملأ، خاصة إذا كان ذلك المعاتب زعيما يخشى في كل حين أن يرتد الناس عنه، وخاصة إذا كانت زعامته دينية تقتضي منه البحث عن مواطن العصمة والطهارة.
نظر إلى الجمع، وقال: سأكتفي من القرآن الكريم بشاهدين أظنهما كافيان ليكونا أمثلة لهذا النوع من الشهادات:
أما الأول، فما نص عليه قوله تعالى:{ وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً} (الأحزاب:37)
قام فرانكلين، والفرحة تغمر وجهه، وكأنه قد ظفر بفريسته، وقال: كيف تعتبر هذه الآية شاهدا لمحمد، ونحن نعتبرها من أكبر ما يدينه؟
ابتسم الحكيم، وقال: إن هذه الآية الكريمة من أعظم دلائل صدق محمد صلى الله عليه وآله وسلم.. فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم لو كان محتالا ـ كما تزعم ـ لم يكن بحاجة لأن ينزل على نفسه مثل هذه الآية التي ستكون محل شبهة كبيرة لجيله ولغير جيله.
قال فرانكلين: كيف تقول هذا، وقد روي أن محمدا أعْجِب بزوجة متبناه (زيد بن حارثة)، فطلقها منه وتزوجها.
ابتسم الحكيم، وقال: فلنفرض ذلك.. هل كان محمد صلى الله عليه وآله وسلم بحاجة لأن يكتب آيات في ذلك تظل الأجيال تتناقلها؟
وقبل ذلك: ألم تكن زينب بنت جحش هى بنت عمة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وقد رآها كثيراً قبل فرض الحجاب، فقد كان النساء فى المجتمع الجاهلى غير محجبات، فما كان يمنعه من أن يتزوجها من البداية؟
وما الذي جعله يزوجها لمولاه (زيد)، فلو كانت به رغبة فيها لاختارها لنفسه؟
قال فرانكلين: فما تقصد هذه الآية من إخفاء محمد شيئا أراد الله أن يبديه؟
قال الحكيم: هذا ما يدلك على أن مصدر القرآن الكريم مصدر خارجي.. فمحمد صلى الله عليه وآله وسلم يشتهي شيئا، والله تعالى يخالفه فيما يشتهي.. ولا يمكن أن يصدر ذلك من ذات واحدة لها من العقل والحكمة ما لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم منهما.
سكت قليلا، ثم قال: إن حياة محمد صلى الله عليه وآله وسلم كلها حياة تعليم وتربية وأسوة.. فلذلك اختار الله محمدا صلى الله عليه وآله وسلم لكسر عادة مستحكمة في الجاهلية لم يكن هناك بد من استعمال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لكسرها.
لقد كان زيد أحب الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فزوجه من ابنة عمته زينب بنت جحش بالرغم من أن العرف العربي في ذلك الحين كان يرفض هذا النوع من الزواج.. باعتبار زيد أدنى درجة من زينب.. وقد كان من أغراض هذا الزواج القضاء على هذه العادة.
وقد كان من عادات الجاهلية بالإضافة إلى هذا أنهم يكرهون أن يتزوج المتبني مطلقة متبناه، فأراد الله سبحانه إبطال هذه العادة، كما أبطل نسبة الولد إلى غير أبيه، فأخبر رسوله صلى الله عليه وآله وسلم أنه سيزوجه من زينب بعد أن يطلقها زيد لتكون هذه السنة مبطلة لتلك العادة، ولكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أخفى في نفسه ما أخبره به الله.
وكان كلما شكا إليه زيد تعذر الحياة مع زينب قال له ـ كما نص القرآن ـ:{ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ } (الأحزاب:37) مراعياً في هذا كراهية القوم لزواجه منها حين يطلقها زيد.
التفت إلى فرانكلين، وقال: هل يمكن لرجل في الدنيا يحب امرأة حبا شديدا، ثم لا يتمنى طلاقها من زوجها ليتزوجها هو بدله؟
سكت فرانكلين، فقال الحكيم: لقد ظل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يخفي ما قدر الله إظهاره حتى طلقها زيد.. فأنزل الله في هذا قرآناً، يكشف عما جال في خاطر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ويقرر القواعد التي أراد الله أن يقوم تشريعه في هذه المسألة عليها.
وهكذا أنفذ الله شريعته وأحكمها، وكشف ما خالج خاطر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من كراهية القوم لزواجه من مطلقة دعيه.
إن شئت أن تتأكد مما ذكرت لك، فاقرأ ما ورد في شأنها في القرآن الكريم من المقدمات السوابق، والمتممات اللواحق، والتي تجعل من هذه الحادثة مادة تربوية وتشريعية عميقة.. لقد قال الله تعالى في بداية السورة التي وردت فيها حاثا النبي صلى الله عليه وآله وسلم على أن يجعل طاعته خالصة لله وحده لا يؤثر فيها مؤثر آخر مهما كانت درجته:{ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (1) وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (2) وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (3)}(الأحزاب)، وفي نفس السورة نجد هذه الآية التي تحث على اقتصار المؤمن على مراعاة جانب الله قبل أي جانب آخر قال تعالى:{ الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا (39)} (الأحزاب)
وقدم لذلك أيضا بنفي الأسس التي تقوم عليها تصورات المجاهلية المتعلقة بالمتبنين، قال تعالى:{ مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (4) ادْعُوهُمْ لِآَبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آَبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (5)} (الأحزاب)، وفي نفس السورة ينفي الله تعالى أن يكون محمد أبا لأحد من الناس غير ما رزقه الله من أولاد، قال تعالى:{ مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (40)} (الأحزاب)
التفت الحكيم إلى فرانكلين، وقال: ألستم تراعون السياق في نقدكم للنصوص، وتعاملكم معها، فخذوا بهذا المقياس هنا، لتنفوا من الوساوس ما تريد الشياطين أن تمررها عبركم؟
قال رجل من الجمع: فحدثنا عن الشاهد الثاني.
قال الحكيم: هو ما نص عليه قوله تعالى:{ مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ } (التوبة:113)، وقوله تعالى:{ اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} (التوبة:80)، وقوله تعالى:{ وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ (84)} (التوبة)
فهذه الآيات تنهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن ينساق وراء ما تمليه عليه الرحمة التي جبله الله عليها، والتي جعلته يخاف أن ينال أي أحد عذاب الله حتى لو كان كافرا، فلذلك كان يستغفر الله لهم ويصلي عليهم إلى أن هي عن ذلك.
لقد توفي عبد الله بن أبي كبير المنافقين، والذي ملأ حياته بالإيذاء لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بكل صنوف الإيذاء، لكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كفنه في ثوبه، وأراد أن يستغفر له ويصلي عليه، فقال عمر: أتصلي عليه وقد نهاك ربك؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم:(إنما خيرني ربي فقال:{ اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} (التوبة:80)، وسأزيده على السبعين، وصلى عليه، فأنزل الله تعالى:{ وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ} (التوبة:84)، فترك الصلاة عليهم([42]).
التفت الحكيم إلى فرانكلين، وقال: أرأيت سموا مثل هذا السمو.. إن هذه القصة تمثل لك نفس هذا العبد الخاضع ، وقد اتخذ من القرآن دستورا يستملي أحكامه من نصوصه الحرفية، وتمثل لك قلب هذا البشر الرحيم وقد آنس من ظاهر النص الأول تخييرا له بين طريقين، فسرعان ما سلك أقربهما إلى الكرم والرحمة ، ولم يلجأ إلى الطريق الآخر إلا بعد ما جاءه النص الصريح بالمنع.
وهكذا كلما درست مواقف الرسول من القرآن في هذه المواطن أو غيرها ، تجلى لك فيه معنى العبودية الخاضعة ، ومعنى البشرية الرحيمة الرقيقة ؛ وتجلى لك في مقابل ذلك من جانب القرآن معنى القوة التي لا تتحكم فيها البواعث والأغراض ، بل تصدع بالبيان فرقانا بين الحق والباطل، وميزانا للخبيث والطيب، أحب الناس أم كرهوا، رضوا أم سخطوا، آمنوا أم كفروا، إذ لا تزيدها طاعة الطائعين ولا تنقصها معصية العاصين، فترى بين المقامين ما بينهما، وشتان ما بين سيد ومسود، وعابد ومعبود([43]).
قال رجل من الجمع: حدثتنا عن الكذب والغش والاحتيال، وعرفنا أن محمدا أبعد الناس عنها، فحدثنا عن الكسل وعلاقته بالاحتيال.
قال الحكيم: من أكبر دواعي الاحتيال الكسل.. فالمحتال عجز أن يأتي الأمور من أبوابها، فراح يحتال على الدخول عليها من نوافذها.
قال فرانكلين: وهل رأيت محمدا حتى تستطيع تنزيهه عن هذا؟
قال الحكيم: من عرف سيرة محمد صلى الله عليه وآله وسلم التي ذكرت فيها أدق التفاصيل لا يعجز أن ينزه محمدا عن هذا.
قال فرانكلين: لا أرى من تفاصيل محمد إلا أن له زوجات كثيرات، وكان يتردد بين بيوتهن.. وهذا هو الكسل بعينه، فكيف تنزه محمدا عنه.
قال الحكيم: ألستم تتهمون محمدا بأنه خاض حروبا كثيرة؟
قال فرانكلين: أجل.. لقد كانت كل حياته في المدينة حروبا وغزوات لم يستقر فيها لحظة واحدة.
قال الحكيم: ألا ترى أنك متناقض فيما تقول؟.. لقد كنت تزعم أن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم لا هم له إلا الطواف على بيوت زوجاته، ثم أنت الآن تذكر أنه لا يستقر به المقام دون خوض الحروب([44]).
سكت فرانكلين، فقال الحكيم: لا بأس.. سأكتفي بذكر أربعة شواهد تدلك على أن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم كان أبعد الناس عن الكسل، وما يمليه الاحتيال من الكسل.
قال رجل من الجمع: حدثنا عن الشاهد الأول.
قال الحكيم: في أول دعوة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وبعد أن أحس المشركون خطرها عرض الملأ من قريش عروضا كثيرة على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكلها تيسر عليه ـ في ظاهرها النجاج فيما يصبو إليه من مكاسب دون بذل جهد كبير.. ولكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أعرض عنها، وظل مع أسلوبه الذي أمره الله به.. وهو أسلوب ممتلئ بالكد والجهد والشدة، ولو كان محتالا مخادعا كما تتصور لقبل ما عرض عليه من حلول، ثم احتال عليهم بعد ذلك بما طبع عليه من حيلة ليحولهم إلى طريقه واحدا واحدا.
سأضرب لك مثالا على ذلك ذكره العلماء عند تفسير (سورة الكافرون).. ذكر ابن عباس أن قريشاً دعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى أن يعطوه مالاً فيكون أغنى رجل بمكة ويزوّجوه ما أراد من النساء، فقالوا: هذا لك يا محمد وكف عن شتم آلهتنا ولا تذكر آلهتنا بسوء، فإن لم تفعل فإنا نعرض عليك خصلة واحدة ولك فيها صلاح، قال: ما هي؟ قالوا: تعبد آلهتنا سنة ونعبد إلهك سنة، فقال صلى الله عليه وآله وسلم:(حتى أنظر ما يأتيني من ربي)، فجاء الوحي من عند الله:{ قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ (4) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6)} (الكافرون)، وأنزل الله:{ قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ (64) وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (65) بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (66)} (الزمر)([45])
وفي حديث آخر عن سعيد بن ميناء مولى أبي البختري قال: لقي الوليد بن المغيرة والعاصي بن وائل، والأسود بن المطلب وأمية بن خلف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقالوا: يا محمد هلم فلتعبد ما نعبد ونعبد ما تعبد، ولنشترك نحن وأنت في أمرنا كله، فإن كان الذي نحن عليه أصح من الذي أنت عليه كنت قد أخذت منه حظاً، وإن كان الذي أنت عليه أصح من الذي نحن عليه كنا قد أخذنا منه حظاً فأنزل الله:{ قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ } حتى انقضت السورة ([46]).
وفي حديث آخر عن ابن عباس أن قريشاً قالت: لو استلمت آلهتنا لعبدنا إلهك فأنزل الله:{ قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ } السورة كلها([47]).
التفت الحكيم إلى فرانكلين، وقال: ألا ترى أن ما عرضه عليه المشركون فرصة عظيمة كان يمكنه استثمارها ليحولهم إلى صفه، فإن تحولوا فبها ونعمت، وإن لم يتحولوا عاد إلى أسلوبه الطبيعي الذي بدأ به؟
سكت فرانكلين، فقال الحكيم: لقد اختار محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن يسير في دعوته بحسب ما سن الله له من أسلوب حتى يحافظ على صفاء الدعوة، وحتى لا تصبح الغاية مبررا للوسيلة.
ولذلك، فإن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم في جميع مراحل حياته الدعوية لم يجر وراء أي مكسب سريع وهين إذا كان وراءه تفريطا في جزء بسيط من الرسالة التي كلف بها.
وحسبك ما ذكرته لك من آيات العتاب التي عاتب الله فيها نبيه صلى الله عليه وآله وسلم حين انصرف إلى المستكبرين يدعوهم طمعا في أن يفتح الله على البسطاء بسببهم، فنهي عن ذلك، وأمر بالعودة للمستضعفين.
قال رجل من الجمع: وعينا هذا الشاهد واقتنعنا به، فحدثنا عن الشاهد الثاني.
قال الحكيم: لقد نص الله تعالى على هذا الشاهد في قوله:{ يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآَنَ تَرْتِيلًا (4) إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا (5) إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا (6) إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا (7) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا (8) رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا (9)} (المزمل)
إن هذه الآيات التي تأمر بقيام الليل من أول ما نزل من القرآن الكريم، وقد ظل صلى الله عليه وآله وسلم طول حياته يمارس ما أمر به فيها من أوامر إلى أن توفاه الله تعالى.
وقد روي في الحديث عن سعد بن هشام قال: قلت لعائشة: أنبئيني عن قيام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قالت: ألست تقرأ هذه السورة { يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ } قلت: بلى قالت: فإن الله قد افترض قيام الليل في أول هذه السورة، فقام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه حولاً حتى انتفخت أقدامهم، وأمسك الله خاتمتها في السماء اثني عشر شهراً([48])، ثم أنزل الله التخفيف في آخر هذه السورة([49])، فصار قيام الليل تطوعاً من بعد فريضة([50]).
وفي حديث آخر: نزل القرآن:{ يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2)} (المزمل) حتى كان الرجل يربط الحبل ويتعلق، فمكثوا بذلك ثمانية أشهر، فرأى الله ما يبتغون من رضوانه فرحمهم وردهم إلى الفريضة وترك قيام الليل([51]).
ومما يدلك على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ظل هذا مع نزول التخفيف ما رواه جبير بن نفير قال: سألت عائشة عن قيام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالليل فقالت: ألست تقرأ:{ يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1)} (المزمل) قلت: بلى. قالت: هو قيامه ([52]).
وعنها قالت: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قلما ينام من الليل لما قال الله له:{ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) } (المزمل)([53])
التفت الحكيم إلى فرانكلين، وقال: هل ترى من الممكن أن يظل محتال مخادع في مثل الجو الحرج الذي عاش فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كل تلك المدة لا ينام من الليل إلا قليلا؟
سكت فرانكين، فقال الحكيم: سأروي لك بعض الشهادات التي تبين كيف كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حريصا بصدق على عبادة ربه.. مما لا يطيق مثله، بل قريبا منه، بل ما دون ذلك بكثير أحد من الناس:
عن كُريب أن ابن عباس أخبره أنه بات عند خالته ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: فاضطجعت في عرض الوسادة، واضطجع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأهله في طولها، فنام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى انتصف الليل أو قبله بقليل أو بعد بقليل، استيقظ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فجعل يمسح النوم عن وجهه بيده، ثم قرأ العشْر الأياتِ الخواتم من سورة آل عمران، ثم قام إلى شَنّ معلقة فتوضأ منها فأحسن وضُوءه ثم قام يصلي.
قال ابن عباس: فقمت فصنعت مثل ما صنع، ثم ذهبت فقمت إلى جنبه فوضع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يده اليمنى على رأسي، وأخذ بأذني اليمنى يفتلها فصلى ركعتين، ثم ركعتين، ثم ركعتين، ثم ركعتين، ثم ركعتين، ثم ركعتين، ثم أوتر، ثم اضطجع حتى جاءه المؤذن فقام فصلى ركعتين خفيفتين، ثم خرج فصلى الصبح([54]).
وعن حُميد، قال: سئل أنس بن مالك عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الليل، فقال: ما كنا نشاء من الليل أن نراه مصلياً إلا رأيناه، وما كنا نشاء أن نراه نائماً إلا رأيناه وكان يصوم من الشهر حتى نقول لا يفطر شيئاً([55]).
وعن عبد الله، قال: صليّت مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذات ليلة فلم يزل قائماً حتى هممت بأمر سوءٍ. قلنا: ما هممت؟ قال: هممت أن أجلس وأدعه([56]).
وعن حذيفة، قال: صليّت مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذات ليلة، فافتتح البقرة فقلت: يركع عند المائة. قال: ثُمّ مضى فقلت: يصلي بها في ركعة فمضى، فقلت: يركع بها ثم افتتح النساء فقرأها، ثم افتتح آل عمران فقرأها، يقرأ مترسلاً إذا مرّ بآية فيها تسبيح سبّح، وإذا مرّ بسؤال سأل، وإذا مر بتعوّذ تعوَّذ، ثم ركع فجعل يقول: سبحان ربي العظيم، فكان ركوعه نحواً من قيامه، ثم قال: سمع الله لمن حمده، ثم قام طويلاً قريباً مما ركع، ثم سجد فقال: سبحان ربي الأعلى، فكان سجوده قريباً من قيامه([57]).
وعن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا صلى قام حتى تتفطّر رجلاه، قالت عائشة: يا رسول الله أتصنع هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: يا عائشة، أفلا أكون عبداً شكوراً([58])؟
التفت الحكيم إلى فرانكلين، وقال: هل زرت الصحراء، وعاينت بنفسك شدة حرها؟
قال فرانكلين: أجل.. ولكن قومي تغلبوا على حرها بما أبدعوا من مكيفات؟
قال الحكيم: لقد كان محمد صلى الله عليه وآله وسلم ـ كما تعلم ـ يعيش في صحراء شديدة الحر.. ولم يكن له مكيفات.. وكان في ذلك الجو الشديد حريصا على الصوم حرصا لا يقل عن حرصه على الصلاة، بل كان صلى الله عليه وآله وسلم فوق ذلك لا يسارع إلى الإفطار إذا حل وقته كما يسارع الناس، بل كان يواصل.. أي يصل في صومه ليله بنهاره..
فعن أنس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال:(لا تواصلوا)، قالوا: إنك تواصل، قال:(لست كأحد منكم، إني أطعم وأسقى، أو إني أبيت أطعم وأسقى)
وفي رواية: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: لا تواصلوا. قالوا: إنك تواصل. قال: إنكم لستم في ذلك مثلي، إني أظل، أو قال: أبيت، أطعم وأسقى([59]).
وفي حديث آخر عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم واصل في آخر الشهر، فواصل ناس من الناس، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: لو مد لنا الشهر، لواصلت وصالا يدع المتعمقون تعمقهم، إني لست مثلكم، إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني([60]).
التفت الحكيم إلى فرانكلين، وقال: هل يمكن لرجل أن يجمع كل هذا الجهد والنشاط الذي لا نظير له، بل لا يطيقه غيره، ثم يكون فوق ذلك محتالا.
قال رجل من الجمع: فحدثنا عن الشاهد الثالث.
قال الحكيم: هو ما نص عليه قوله تعالى:{ وَلا تَمُدَّنَ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} (طـه:131)
هنا انتفض فرانكلين، وكأنه وجد فريسة يريد الانقضاض عليها، وقال: كيف تقول هذا.. ومحمد كان يتزوج من النساء ما يشاء.. بل أبيح له أن يتزوج أكثر مما يتزوج سائر المسلمين([61]).
قال الحكيم: أجبني وكن صادقا في جوابك.. وأرجو أن لا تعتصم بالصمت.
قال فرانكلين: سأجيبك فاسأل ما بدا لك.
قال الحكيم: أرأيت لو أن الله رزقك امرأة شابة جميلة يمتلئ قلبك محبة لها، وتمتلئ هي محبة لك.. ثم تكلف بعد ذلك بأن تتزوج معها امرأة عجوزا مسنة، ثم تقسم لكليهما بعدل لا نظير له.. أتطيق ذلك؟
قال فرانكلين: من الصعب على المرء أن يفعل ذلك.
قال الحكيم: فقد كلف محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأن يفعل ذلك.. وكلف معها أن يعيش حياة بسيطة لا تختلف عن حياة أبسط الفقراء.. وكلف فوق ذلك أن يعيش مع البسطاء من الناس، وأن يصبر معهم، كما قال تعالى:{ وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً} (الكهف:28)، وقال تعالى:{ وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ} (الأنعام:52)
وقد قام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بما اقتضته هذه الأوامر من واجبات خير قيام، فكان ينهض لكل مسكين، ويقوم لكل محتاج.. وأنت تعلم كثرة المساكين، وكثرة الحاجات.
وقد قال العباس لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد أن رأى الجهد الذي يصيبه جراء ذلك: يا رسول الله إني أراهم قد آذوك، وآذاك غبارهم، فلو اتخذت عريشا تكلمهم فيه، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:(لا أزال بين أظهرهم يطئون عقبى وينازعوني ثوبي، ويؤذيني غبارهم، حتى يكون الله هو الذي يرحمني منهم)([62])
التفت الحكيم إلى فرانكلين، وقال: هل يمكن لمحتال مخادع كسول أن يفعل هذا؟
قال فرانكلين: هناك من يفعله.
قال الحكيم: هناك من يفعله أياما أو أشهرا أو أسابيع.. ولكن ليس هناك زعيم في الدنيا يستطيع أن يصبر على البقاء طول عمره يعيش المسكنة، ويعيش مع المساكين في الوقت الذي يستطيع فيه أن يتنعم بأرفه عيش، وأمتع حياة.
قال رجل من الجمع: فحدثنا عن الشاهد الرابع.
قال الحكيم: هو ما نص عليه قوله تعالى:{ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} (المائدة:67)
قال فرانكلين: فما في هذا الشاهد إن الآية تأمر محمد بالبلاغ.. وهي تعتبر تقصيره فيه تقصير في أمر الله؟
قال الحكيم: إن هذه الآية تحمل أخطر الأوامر الإلهية وأكثرها ثقلا([63]).. فالبلاغ والدعوة بين قوموا ألفوا ما هم فيه من حياة شيء لا يطيقه إلى الكبار من الناس..
قال فرانكلين: فهل أدى محمد هذا الواجب كما أمر به؟
قال الحكيم: لو اجتمعت البشرية جميعا على أن تقوم بما قام به صلى الله عليه وآله وسلم، فإنها لا تطيق.. لقد قام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بما تعجز الجبال عنه..
وقد تحمل صلى الله عليه وآله وسلم في سبيل ذلك أذى المشركين والمنافقين واليهود ومن في حكمهم بالصبر تارة وبالجهاد معهم تارة أخرى طيلة ربع قرن من الزمن تقريبًا.
لقد أقام صلى الله عليه وآله وسلم في مكة بعد بدء التبليغ عشر سنين، يدعو إلى أصول الإيمان وكليات الدين، من التوحيد الخالص، والعمل الصالح، وتزكية النفس بتطهيرها من أدران الرذائل، وتحليتها بأحاسن الأخلاق وعقائل الفضائل، واستعمال نعم الله تعالى من بدنية وعقلية، وسماوية وأرضية، فيما تظهر به حكمه ونشاهد آياته في الخلق، وتتسع بها العلوم التي يعرف بها الحق وتكثر موارد الرزق، صابرًا مع السابقين من المؤمنين، على الاضطهاد والأذى من المشركين.
وقد عرضوا عليه حينها الملك والمال والدثر، على أن يترك هذا الأمر، ولو كان خرج لطلب الرياسة لآثرها على الضعف والفقر.
ثم هاجر صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة، وفيها ازدادت جهوده، وضم إليها الجهاد في سبيل الله لحماية الدعوة، وحماية مكتبسباتها.. فكاد صلى الله عليه وآله وسلم داعية معلما مجاهدا لا يهدأ أبدا، ولا يسكن إلى راحة.
وقد أثمرت هذه الجهود العظيم من الثمار ما لا يزال الناس ينعمون به إلى اليوم.. وقد شهد له صلى الله عليه وآله وسلم بنجاحه في تلك الوظيفة التي كلف بها الجموع الكثيرة من الناس، سواء كانوا من صحابته([64]) أو من غيرهم في حجة الوداع حينما قال لهم أثناء خطبته بوادي عرنة في يوم عرفة: أنتم مسؤولون عني فما أنتم قائلون؟ قالوا:(نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت)، فقال بأصبعه السبابة ـ يرفعها إلى السماء وينكبها إلى الناس ـ:(اللهم اشهد اللهم اشهد، ثلاث مرات)([65])
***
بعد أن انتهى الحكيم من حديثه لم يجد (فرانكلين جراهام) ما يقوله.. ولذا سار مطأطئ الرأس، متغير الوجه، خارج ميدان الحرية ليترك الجماعة ملتفة حول الحكيم تسأله ويجيبها..
التفت إلى أصحابنا المستغرقين في مشاهدة ما حصل في ساحة الحرية.. فرأيت وجوههم كالحة عابسة عليها غبرة ترهقها قترة.
أما أنا..
فقد تنزلت علي حينها أنوار جديدة اهتديت بها بعد ذلك إلى شمس محمد صلى الله عليه
وآله وسلم.
([1])أشير به هنا إلى فرانكلين جراهام: وهو ابن القسيس الأمريكي بيلي جراهام، وقد عمل والده قسيساً خاصاً للرؤساء الأمريكيين منذ عهد ريتشارد نيكسون، وحتى الرئيس الأمريكي السابق بيل كلينتون.
وتولى ابنه فرانكلين جراهام نفس المهمة بعد تقاعد الأب، وقام بعمل الطقوس الدينية لتنصيب الرئيس الأمريكي جورج دبليوبوش.
وقد تولى جميع مسئوليات الكنيسة التي أنشأها أبوه، والتي تعد من أكبر الكنائس الأمريكية عدداً وتأثيراً، وقامت خلال السنوات الماضية بأكثر من 450 حملة تنصير في جميع أنحاء العالم.
وقد أدلى فرانكلين جراهام بتصريحات إعلامية ذكر فيها أن الإرهاب جزء من التيار العام للإسلام، وأن القرآن ( يحض على العنف ) وكرر جراهام خلال برنامج ( هاينتي وكولمز ) المذاع على قناة فوكس نيوز الأمريكية في الخامس من أغسطس 2002م رفضه الاعتذار عن تصريحات أدلى بها بعد حوادث سبتمبر 2001م وصف فيها الإسلام بأنه دين (شرير)، وفي كتاب جديد لفرانكلين جراهام يسمى (الاسم) The name، يحتوي على نصوص تتسم بالسفه والحطة بهدف الإساءة إلى الإسلام ومنها قوله في صفحة 71:( الإسلام.. أسّسَ بواسطة فرد بشري مقاتل يسمى محمد، وفي تعاليمه ترى تكتيك ( نشر الإسلام من خلال التوسع العسكري )، ومن خلال العنف إذا كان ضرورياً، من الواضح أن هدف الإسلام النهائي هو السيطرة على العالم)
ويقول في صحفة 72:( إن القرآن يحتوي على قصص أُخذت وحُرّفت عن العهدين القديم والجديد.. لم يكن للقرآن التأثير الواسع على الثقافتين الغربية والمتحضرة الذي كان للإنجيل، الاختلاف رقم واحد بين الإسلام والمسيحية أن إله الإسلام ليس إله الديانة المسيحية)
وبسبب أقواله هذه اخترناه لهذا الفصل، مع التنبيه إلى أن ما نسوقه من معلومات أو حوار لا علاقة لها أصلا بالمسمى الحقيقي، وإنما هو مجرد اسم.
([2]) أشير هنا إلى ما يسمى (الفرقان الحق) وهو الكتاب الذي يوزع في بعض بلادنا الإسلامية ويبث على عشرات المراقع على شبكة الإنترنت ويعرض على أنه القرآن البديل لقرآن المسلمين.. وهذا الكتاب لم يدع شيئا من الإسلام إلا ونال منه سواء على المستوى الديني أو السلوكي أو الاجتماعي.
وسُوَر هذا الفرقان كلها هجومٌ وفُحْش على سيد الأنبياء والمرسلين، وتسفيهٌ لكل شىء جاء به الإسلام من توحيدٍ ونعيمٍ أُخْرَوِىّ وصلاةٍ وصيامٍ وحجٍّ وجهادٍ وطهارةٍ وتشريعاتٍ أسريةٍ …
وقد اشتمل هذا الكتاب على: المقدمة والبسملة والخاتمة ثم سبعا وسبعين سورة، وكل سورة تتكون من عدد من الآيات، وقد اشتملت هذه السور على موضوعات تكاد تكون مكررة في كل سورة بصورة مملة.
([3]) هو ريموند مارتيني ( 1220 ـ 1284 م ) وهو راهب مبشر دومينيكاني إسباني، تبحر في دراسة القرآن، واجتهد في الجدل ضده، فألف كتابًا بعنوان (الخلاصة ضد القرآن)، وقد حاول معارضة القرآن، فوضع السورة المذكورة (عبد الرحمن بدوي، موسوعة المستشرقين، ص 213 ـ 215)
([4]) رواه مسلم.
([5]) رواه الخرائطي في مساوي الاخلاق.
([6]) رواه الحاكم، وقال: صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه.
([7]) رواه ابن إسحق وغيره.
([8]) رواه ابن جرير.
([9]) رواه البيهقي، وابن أبي شيبة بنحوه.
([10]) رواه البخاري.
([11]) رواه البخاري ومسلم.
([12]) رواه أحمد والترمذي وغيرهما.
([13]) رواه أحمد.
([14])الإسلام والرسول فى نظر منصفى الشرق والغرب لأحمد بن حجر آل بوطامى ص132.
([15]) رواه ابن إسحاق.
([16]) رواه الحاكم، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه. وقال الذهبي: صحيح.
([17]) رواه البيهقي، وقال: وهذا مرسل جيد.
([18]) رواه البزار، قال الهيثمي: ورجاله ثقات.
([19]) رواه الطبراني.
([20]) رواه البخاري.
([21]) كما عبر عن ذلك ابن مسعود بقوله: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو الصادق المصدوق: إن أحدكم يجمع خلقه فى بطن أمه أربعين يوماً، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك… الحديث رواه أبو داود والترمذي.
.
([22]) انظر التفاصيل الكثيرة المرتبطة بهذا في رسالتي (معجزات علمية)، و(معجزات حسية) من هذه السلسلة، وسنذكر هنا بعض النماذح باختصار من باب التمثيل، أما التفاصيل فموجودة في محالها من تينك الرسالتين.
([23]) انظر التفاصيل الكثيرة في الرسالتين اللتين سبق ذكرهما.
([24]) أكثر رسائل السلسة تحاول البرهنة على هذا، وينظر بصفة خاصة لتأثير الإسلام في الواقع الإنساني رسالة (ثمار من شجرة النبوة)
([25]) إعلام الموقعين:3/3.
([26])رد بعضهم على هذا الاحتمال بقوله:( نسبة محمد صلى الله عليه وآله وسلم القرآن إلى الله لا تكون احتيالا منه لبسط نفوذه، وإلا لم لم ينسب أقواله كلها إلى الله.
ولو أننا افترضناه افتراضا لما عرفنا له تعليلا معقولا ولا شبه معقول ، اللهم إلا شيئا واحدا قد يحيك في صدر الجاهل، وهو أن يكون هذا الزعيم قد رأى أن في ( نسبته القرآن إلى الوحي الإلهي ) ما يعينه على استصلاح الناس باستيجاب طاعته عليهم، ونفاذ أمره فيهم ؛ لأن تلك النسبة تجعل لقوله من الحرمة والتعظيم ما لا يكون له لو نسبه إلى نفسه، وهذا قياس فاسد في ذاته، فاسد في أساسه ؛ أما أنه فاسد في ذاته ، فلأن صاحب هذا القرآن قد صدر عنه الكلام المنسوب إلى نفسه والكلام المنسوب إلى الله تعالى فلم تكن نسبته ما نسبه إلى نفسه بناقصة من لزوم طاعته شيئا، ولا نسبة ما نسبه إلى ربه بزائدة فيها شيئا، بل استوجب على الناس طاعته فيهما على السواء، فكانت حرمتها في النفوس على سواء، وكانت طاعته من طاعة الله، ومعصيته من معصية الله، فهلا جعل كل أقواله من كلام الله تعالى لو كان الأمر كما يهجس به ذلك الوهم.
و أما فساد هذا القياس من أساسه ؛ فلأنه مبني على افتراض باطل، وهو تجويز أن يكون هذا الزعيم من أولئك الذين لا يأبون في الوصول إلى غاية إصلاحية أن يعبروا إليها على قنطرة من الكذب والتمويه ، وذلك أمر يأباه علينا الواقع التاريخي كل الإباء ، فإن من تتبع سيرته الشريفة في حركاته وسكناته، وعباراته وإشاراته، في رضاه وغضبه، في خلوته وجلوته لا يشك في أنه كان أبعد الناس عن المداجاة والمواربة، وأن ذلك كان أخص شمائله وأظهر صفاته قبل النبوة وبعدها كما شهد ويشهد به أصدقاؤه وأعداؤه إلى يومنا هذا:{ قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ} (يونس:16)(انظر: شبهات حول القرآن وتفنيدها، د.غازي عناية، ص:21)
([27]) انظر رسالة (معجزات حسية)، فصل (إرهاصات)
([28])قيل: معناه لانتقمنا منه باليمين؛ لأنها أشد في البطش، وقيل: لأخذنا منه بيمينه.
([29])قال ابن عباس: وهو نياط القلب، وهو العِرْقُ الذي القلب معلق فيه، وقال محمد بن كعب: هو القلب ومَرَاقَّه وما يليه.
([30]) انظر رسالة (الله جل جلاله) ففيها مناقشات مفصلة لكل النصوص التي يتصور المسيحيون أنها شهادات من المسيح بألوهيتة أو بكونه أقنوما من الأقانيم.
([31]) الغط: العصر الشديد، والكبس، ومنه الغط فى الماء، الغوص. النهاية: 3/335.
([32]) رواه أحمد والترمذي وابن ماجة.
([33]) رواه البخاري ومسلم وغيرهما.
([34]) رواه النسائي.
([35]) مستشرق فرنسي، عمل مديرا لمكتبة الجزائر، من آثاره: (حياة محمد) في باريس عام (1929)، وهو من أدق ما صنفه مستشرق عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، و(محمد والسنة الإسلامية) ألفه في باريس(1955)..وقد تحدثنا عن موقفه من الإسلام في رسالة (قلوب مع محمد)
([36])حياة محمد (ص:318).
([37]) رواه أحمد والنسائي في الكبرى.
([38]) رواه البخاري ومسلم.
([39]) رواه أبو نعيم عن علي بن الحسين رضي الله تعالى عنه مرسلا.
([40]) رواه أحمد، والنسائي وأبو القاسم البغوي.
([41]) رواه أحمد، والبخاري في الأدب، والترمذي، وصححه.
([42]) رواه البخاري ومسلم.
([43]) النبأ العظيم، ص:28-30.
([44]) للأسف نجد مثل هذه التناقضات الكثيرة في الحاقدين على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فهم يصفون بأوصاف مختلفة متناقضة يدرك أي عقل تناقضها.
([45]) رواه ابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني.
([46]) رواه ابن جرير وابن أبي حاتم وابن الأنباري في المصاحف.
([47]) رواه عبد بن حميد وابن المنذر وابن مردويه.
([48])وقد روي ما هو أكثر من ذلك، فقد روى عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال: لما نزلت:{ يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2)} (المزمل) مكث النبي صلى الله عليه وآله وسلم على هذه الحال عشر سنين يقوم الليل كما أمره الله، وكانت طائفة من أصحابه يقومون معه، فأنزل الله بعد عشر سنين :{ نَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ } فخفف الله عنهم بعد عشر سنين..
([49]) وهو ما نص عليه قوله تعالى:{ نَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآَنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآَخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآَخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (20)} (المزمل)
([50]) رواه أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي ومحمد بن نصر في كتاب الصلاة والبيهقي في سننه.
([51]) رواه ابن جرير وابن أبي حاتم.
([52]) رواه محمد بن نصر في كتاب الصلاة والحاكم وصححه.
([53]) رواه عبدالله بن أحمد في زوائد الزهد ومحمد بن نصر في كتاب الصلاة.
([54]) رواه البخاري ومسلم.
([55]) رواه البخاري ومسلم.
([56]) رواه البخاري ومسلم.
([57]) رواه مسلم.
([58]) رواه البخاري ومسلم.
([59]) رواه أحمد والبخاري.
([60]) رواه البخاري ومسلم.
([61]) سنرد على الشبهة المرتبطة بالزواج في فصل (زوجات) من هذه الرسالة.
([62]) رواه ابن إسحاق الزجاجي في تاريخه.
([63]) وقد ورد في سبب نزول الآية الكريمة أنه لما انصرف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من حجة الوداع نزل أرضا يقال له: ضوجان، فنزلت الآية، فلما نزلت عصمته من الناس نادى: الصلاة جامعة فاجتمع الناس إليه، و قال: من أولى منكم بأنفسكم: فضجوا بأجمعهم فقالوا: الله و رسوله فأخذ بيد علي بن أبي طالب، و قال: من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه، و عاد من عاداه، و انصر من نصره، و اخذل من خذله..
([64]) للمؤلف رأي في هذا، وهو أن المراد بالصحابة من تربى على يده صلى الله عليه وآله وسلم بحيث أصبح مثالا حسنا للدين الذي جاء به صلى الله عليه وآله وسلم أما من عداهم كالطلقاء وغيرهم، أو من لم يظفروا بمثل هذا، فلا دليل من النصوص على اعتبارهم صحابة.
وهؤلاء هم الذين اتفقت الأمة بطوائفها المختلفة على اعتبارهم وتبجيلهم، وهم الذين وصفهم الإمام علي، فقال: (لقد رأيت أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فما أرى أحداً يشبههم منكم لقد كانوا يصبحون شعثاً غبراً، وقد باتوا سجّداً وقياماً يراوحون بين جباهِهِم وخدودهم ويقفون على مثل الجمر من ذكر معادهم، كأن بين أعينهم رُكب المعزى من طول سجودهم، إذا ذكر الله هملت أعينهم حتى تبُلَّ جيوبهم، ومادوا كما يميد الشجر يوم الريح العاصف، خوفاً من العقاب ورجاءً للثواب)
أما القول المتداول بأن الصحابي هو كل من رأى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فهو اجتهاد لا دليل عليه، بل هو يضر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ويضر سنته، فلا نستطيع أن ننسب ما فعله معاوية من الحكم الاستبدادي الوراثي إلى صاحب لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، لأن ذلك يجعل مما فعله سنة معتبرة، وربما يكون المدافع عن معاوية ـ شعر أو لم يشعر ـ مدافعا عن سنة الاستبداد.
وإنما ذكرنا هذا هنا حتى لا نحمل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما لا يحتمل.. فقد بلغ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن ربه، وهو ليس مسؤولا بعد ذلك هل التزم الناس أو لم يلتزموا، وقد ورد في الحديث الصحيح قوله صلى الله عليه وآله وسلم:( ترد على أمتي الحوض وأنا أذود الناس عنه كما يذود الرجل إبل الرجل عن إبله، قالوا: يا نبي الله! تعرفنا؟ قال: نعم لكم سيماء ليست لاحد غيركم، تردون على غرا محجلين من آثار الوضوء، وليصدن عني طائفة منكم فلا يصلون فأقول: يا رب! هؤلاء من أصحابي، فيجيبني ملك فيقول وهل تدري ما أحدثوا بعدك؟) رواه مسلم، وفي حديث آخر:( ليردن على ناس من أصحابي الحوض حتى إذا رأيتهم وعرفتهم اختلجوا دوني فأقول: يا رب! أصيحابي أصيحابي! فيقال لي إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك) رواه البخاري ومسلم.
([65]) رواه مسلم وأبو داود.