خامسا ـ المحبطون

في اليوم الخامس.. سرت إلى مستشفى نفسي كان قد أسسه صاحب لنا اسمه (إيرنست جونز)([1])، وقد أراد من خلاله أن ينشر في نفوس المرضى المحبطين ما يجعلهم يشنون حربا لا هوادة فيها على الإسلام.
ومن فضل الله علي في ذلك اليوم أني شهدت موقفا من المواقف زادني قربا من الإسلام، وزادني محبة لطبيب اليائسين والمحبطين رحمة الله للعالمين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
سأحكي لك الحكاية من البداية..
عندما دخلت قاعة المستشفى الممتلئة بالحزن والأسى واليأس.. رأيت رجالا كثيرين يضعون أكفهم على خدودهم، وقد امتلأت أسارير وجوههم بالأسى والألم والحزن..
وكان من بينهم صاحبنا (إيرنست جونز) مؤسس المستشفى.. فقد أصيب هو الآخر بعدوى الألم والحزن واليأس.
اقتربت منه، وقلت: ما بالك حضرة البروفيسور.. أرى اليأس على وجهك؟
قال: وكيف لا أيأس.. وأنا قد استعملت كل المراهم، وخضت غمار كل الأساليب التي ابتدعها أصحابنا في العلاج النفسي([2]).. لكني لم أظفر مع هؤلاء بشيء.. لكأن اليأس قد غرس جذوره في قلوبهم، فلا يكادون ينفكون عنه، ولا يكاد ينفك عنهم.
قلت: فما ترى سببا لذلك؟
قال: الدين.. لا شك أنه الدين.. إنه أخطر فيروس يمكنه أن يفتك بالنفس الإنسانية.. إن الدين هو أيدز النفس وسرطانها.. ولذلك لا سبيل للنجاة لمن ابتلي به..
لقد كتب صديقي الفيلسوف (أجوست سياته) في كتابه (فلسفة الأديان) يقول:(لماذا أنا متدين؟ إني لم أحرك شفتي بهذا السؤال مرة، إلا وأراني مسوقا للإجابة عليه بهذا الجواب، وهو: أنا متدين، لأني لا أستطيع خلاف ذلك، لأن التدين لازم معنوي من لوازم ذاتي. يقولون لي: ذلك أثر من آثار الوراثة أو التربية أو المزاج، فأقول لهم: قد اعترضت على نفسي كثيرا بهذا الاعتراض نفسه، ولكني وجدته يقهقر المسألة ولا يحلها)
وقبله كتب المؤرخ الإغريقي (بلوتارك) يتحدث عن تغلغل هذا السرطان في جميع المجتمعات الإنسانية، قال: (قد وجدت في التاريخ مدن بلا حصون، ومدن بلا قصور، ومدن بلا مدارس، ولكن لم توجد أبدا مدن بلا معابد)
ولذلك.. لا أرى لهذه النفوس المدنسة بدنس الدين أي فرصة للشفاء.
قلت: إن ما تقوله يا بروفيسور يخالف ما ذهب إليه الكثير من العقلاء..
فالمؤرخ الفيلسوف (آرنولد توينبى) يقول: (الدين إحدى الملكات الضرورية الطبيعية البشرية، وحسبنا القول بأن افتقار المرء للدين يدفعه إلى حالة من اليأس الروحي، تضطره إلى التماس العزاء الديني على موائد لا تملك منه شيئا)
ويقول الدكتور (كارل بانج) في كتابه (الإنسان العصري يبحث عن نفسه): (إن كل المرضى الذين استشاروني خلال الثلاثين سنة الماضية، من كل أنحاء العالم، كان سبب مرضهم هو نقص إيمانهم، وتزعزع عقائدهم ولم ينالوا الشفاء إلا بعد أن استعادوا إيمانهم)
ويقول (وليم جيمس) فيلسوف المنفعة والذرائع: (إن أعظم علاج للقلق ـ ولا شك ـ هو الإيمان)
ويقول الدكتور (بريال): (إن المرء المتدين حقا لا يعاني قط مرضا نفسيا)
ويقول (ديل كارنيجي) في كتابه (دع القلق وابدأ الحياة): (إن أطباء النفس يدركون أن الإيمان القوي والاستمساك بالدين، كفيلان بأن يقهرا القلق، والتوتر العصبي، وأن يشفيا من هذه الأمراض)
أما الدكتور (هنري لنك)، فقد ذكر في كتابه (العودة إلى الإيمان) البراهين الكثيرة الدالة على الدور الإيجابي للدين من خلال ما لمسه وجربه من وقائع وفيرة، خلال عمله في العلاج النفسي.
أما (ديل كارنيجي)، فقد تحدث عن الأثر المبارك للصلاة في النفس البشرية، فقال: (ولا يقعد بك عن الصلاة والضراعة والابتهال أنك لست متديناً بطبعك، أو بحكم نشأتك، وثق أن الصلاة سوف تسدي إليك عوناً أكبر مما تقدر، لأنها شيء عملي فعال، تسألني: ماذا أعني بشيء عملي فعال، أعني بذلك أن الصلاة يسعها أن تحقق لك أموراً ثلاثة لا يستغني عنها إنسان سرواء أكان مؤمناً أو ملحداً:
فالصلاة تعينك على التعبير بأمانة ودقة عما يشغل نفسك، ويثقل عليها، وقد بينا فيما سلف أن من المحال مواجهة مشكلة مادامت غامضة غير واضحة المعالم، والصلاة أشبه بالكتابة التي يعبر بها الأديب عن همومه، فإذا كنا نريد حلاً لمشكلاتنا وجب أن نجريها على ألسنتنا واضحة المعالم، وهذا ما نفعله حيث نبث شكوانا إلى الله.
والصلاة تشعرك بأنك لست منفرداً بحل مشكلاتك وهمومك. فما أقل من يسعهم احتمال أثقل الأحمال وأعسر المشكلات منفردين، وكثيراً ما تكون مشكلاتنا ماسة أشد المساس بذواتنا فنأبى أن نذكرها لأقرب الناس إلينا، ولكننا يسعنا أن نذكرها للخالق عز وجل في الصلاة.
والأطباء النفسيون يجمعون على أن علاج التوتر العصبي، والتأزم الروحي يتوقف -إلى حد كبير- على الإفضاء بمبعث التوتر ومنشأ الأزمة إلى صديق قريب، أو ولي حميم. فإذا لم نجد من نفضي إليه كفانا بالله ولياً.
والصلاة بعد هذا تحفزنا إلى العمل والإقدام، بل الصلاة هي الخطوة الأولى نحو العمل، وأشك في أن يوالي امرؤ الصلاة يوماً بعد يوم، دون أن يلمس فائدة أو جدوى، أو بمعنى آخر، دون أن يتخذ خطوات مثمرة نحو تحسين حالته، وتفريج أزمته، وقد قال (الكسيس كاريل} (مؤلف كتاب (الإنسان.. ذلك المجهول) – والحائز على جائزة نوبل –:(الصلاة هي أعظم طاقة مولدة للنشاط عرفت حتى الآن، فلماذا لا ننتفع بها؟)([3])
قال: وما كانت أديان هؤلاء الذين ذكرتهم؟
قلت: لقد كانوا مسيحيين.. لاشك أنك تعلم ذلك.
قال: الدين المسيحي مختلف عن سائر الأديان.. ولذلك يمكن للمريض النفسي أن يجد عزاءه فيه.. بل يمكن للمريض أن يجد عزاءه النفسي في جميع الأديان ما عدا الإسلام..
الإسلام مختلف تماما.. إنه فيروس قاتل.. إنه يحطم النفس تحطيما لا تستطيع بعده الحلم بأي خلاص..
ألا ترى كيف يتحدث المسلمون عن العبودية لله.. ويجعلونها قمة قمم طموحهم.. مع كونها من وجهة النظر النفسية الهاوية التي إذا انحدرت إليها النفس، فلا مطمع لها بعد في نجاة ولا راحة ولا سعادة؟
قال ذلك، ثم نظر إلى من حوله من المرضى، وقال: وللأسف، فإن هؤلاء مسلمون.. لقد حاولت بكل الأساليب أن أخلصهم من إسلامهم.. فلم أستطع.. لقد ضرب الإسلام جذوره في أعماق قلوبهم، ولذلك لا مطمع لهم في النجاة منه.
نظرت إليهم، فلم يبدو لي على وجوههم أي سيما من سيما المتدينين، فقلت: كيف عرفت يا حضرة البروفيسور بأن الدين هو سبب ما هم فيه؟
قال: لقد ذكرت لك أنهم مسلمون.. ويكفي ذلك لتشخيص حالتهم.
قلت: هل رأيتهم يرفعون أيديهم إلى السماء يدعون ربهم؟
قال: لا..
قلت: هل رأيتهم يذكرون ربهم كثيرا؟
قال: لا..
قلت: فهل رأيتهم يصلون؟
قال: لا.. هم مقصرون في جميع هذه النواحي.. ولكن ما غرضك من كل هذه الأسئلة؟
قلت: أردت أن أعرف علاقة الدين بمرضهم.
قال: فما رأيت؟
قلت: أرى أن تشخيصك لحالتهم بكون الدين سببها خطأ.. فهؤلاء لا علاقة لهم بالدين.
قال: ولكنهم يذكرون عن أنفسهم أنهم مسلمون.
قلت: أجل.. هم مسلمون ورثوا إسلامهم ولم يعيشوه، وفرق كبير بين أن ترث شيئا، وبين أن تستخدمه.
***
ما قلت هذا حتى رأيت رجلا كانت سيما الورثة ظاهرة عليه.. لقد كان أشبه الناس بمحمد والحكيم وكل الورثة الذين تحدثت عنهم في رواياتك..
سألت (إيرنست جونز) عنه، فقال: لا أدري.. لعله زائر من الزوار الذين تعود المستشفى أن يسمح لهم بالدخول في هذه الأوقات.. لكن ما سؤالك عنه؟
قلت: لست أدري.. ولكن أشعر أن هذا الرجل يمكن أن يمثل الإسلام تمثيلا صالحا.
قال: كيف عرفت ذلك.. أنا يبدو لي أنه كسائر الناس؟
قلت: لست أدري.. ولكني أشعر في قرارة نفسي أن هذا الشخص يحمل الإكسير الذي يحطم به أصنام جميع الأوهام التي يحملها هؤلاء المرضى.
ابتسم، وقال: أصدقك القول.. لقد جاءني هذا الرجل مرات كثيرة يطلب مني أن يجتمع بالمرضى، ويحدثهم.. لكني رفضت ذلك رفضا شديدا.
قلت: لم؟
قال: لقد خشيت عليهم.. لقد رأيت أنه يحمل أفكارا خطيرة يمكنها أن تتسبب لهم في تشوهات نفسية لا يمكنهم النجاة منها.. ألا ترى أنه يبدو مسلما ملتزما؟
قلت: وذلك ما يدعوني لأن أطلب منك أن تأذن له فيما يريد من الخطاب.. فلعلنا نظفر منه بشيء.
قال: إن ما تقوله خطير..
قلت: كيف ذلك؟
قال: ألا ترى أن هؤلاء، ومع كونهم غير ملتزمين، دب إلي اليأس من شفائهم.. فكيف إذا سرب إليهم هذا الرجل أمراض الالتزام حينها سيصابون بإعاقة نفسية دائمة لا يمكن لهذا المستشفى أن يتحمل تبعاتها.
قلت: لقد ذكرت لي أنك قد يئست من شفائهم.. واليائس لا يبالي أي مركب ركب..
سكت قليلا، ثم قال: لا بأس.. سآذن له اليوم بالحديث إكراما لك.. ولكن لابد أن تكون حاضرا لترى الخرافات التي يريد أن يسربها للمرضى.
***
تقدمت مع (إيرنست جونز) إلى الرجل.. وقد كان منشغلا بتأمل المرضى والنظر فيهم.. وهو مع ذلك يحرك لسانه بكلمات لم نتبينها.
قال له إيرنست: أنا لا أزال محتارا في سر حضورك بين الحين والحين إلى هذا المستشفى، مع أني أعلم أنه لا قريب لك فيه ولا صديق.. فما سر إصرارك على الحضور؟
قال: أنا أشعر بألم كبير نحو هؤلاء.. أنا أراهم كعطشى استبد بهم العطش، ولا أحد يسقيهم الشراب الذي يتناسب معهم.
ابتسم إيرنست، وقال: وهل لديك مثل هذا الشراب الذي تتحدث عنه؟
قال: أجل.. وهذا مصدر حزني.. ألا ترى يا بروفيسور أنه من المحزن أن يحال بين المنقذ وبين من يريد أن ينقذه؟
ضحك إيرنست بصوت عال، وقال: أنت تزعم أنك منقذ كالمسيح؟
قال: كل من تربى على يد الأنبياء صار مسيحا.. ومنقذا.. ومخلصا.
قال إيرنست: ولكنك تربيت على يد محمد لا على يد المسيح.
قال: المسيح ومحمد وجميع الأنبياء من مدرسة واحدة..
قال إيرنست: ولكن تلاميذ المسيح يختلفون عن تلاميذ محمد؟
قال: المحرفون من تلاميذ محمد والمحرفون من تلاميذ المسيح هم الذين يختلف بعضهم عن بعض.. أما الصادقون من كليهما فهم أبناء مدرسة واحدة.
قال إيرنست: من أنت؟
قال: أنا تلميذ بسيط للأنبياء الذين أرسلهم الله لخلاص الإنسان.
قال إيرنست: أريد اسمك الذي سماك به أبوك.
قال: لدي أسماء كثيرة.. وأنا الآن أدعى بين الناس (سهل بن سعد)([4])
قال إيرنست: ما أعجب هذا.. إن اسمك ممتلئ تفاؤلا وسعادة.. اسمع يا سهل.. لقد بدا لي اليوم أن أعطيك فرصة لأن تسقي المرضى بالشراب الذي تريد.. لكن احذر أن تسقيهم السم.
بدا البشر على وجه سهل، وقال: شكرا يا بروفيسور.. لا تخف.. فالسم لا يوجد عند تلاميذ الأنبياء.. السم لا يوجد إلا عند الشياطين.
***
طلب إيرنست من الممرضين أن يحولوا المرضى إلى قاعة أشبه بقاعة محاضرات..
وما هي إلا لحظات قصيرة حتى جلس المرضى بإحباطهم ويأسهم وآلامهم ينتظرون من المخلص أن ينقذهم من القيود التي وضعها الألم فيهم.
صعد سهل المنصة، ووقفت مع إيرنست في محل خاص نرقبه..
وقف سهل على المنصة بخشوع ووقار، ثم راح ينظر في المرضى يتأملهم، ثم قال: سادتي الأفاضل.. لاشك أنكم تبحثون عن الأمل والراحة والسكينة..
ولاشك أنكم تهتم في البحث عنها..
ويحق لكم أن تتيهوا.. لأنكم وليتم وجهتكم نحو اليأس والتعب والقلق والجور، ويستحيل أن تجدو في هذه المحال ما تريدون البحث عنه.
قال رجل من الحاضرين: فهل تعرف المحال التي تنشر فينا الأمل والراحة والسكينة؟
قال سهل: أجل.. ولذلك جئت لأحدثكم عنها.
قال الرجل: أسرع.. أخبرنا.
قال سهل: هو محل واحد لا غير.. وهو أقرب إلينا من حبل الوريد.
قال: فما هو؟
قال سهل: هو الله..
قال الرجل مقاطعا: ولكنا نؤمن بوجوده.. ومع ذلك نمتلئ هما وحزنا ويأسا.
قال سهل: هل فكرتم في الأسرار التي يحملها وجود الله؟.. هل تعلمون ما معنى أن الله موجود؟
قال الجميع: حدثنا..
قال سهل([5]): إن معنى أن الله موجود هو أن العدل موجود والرحمة موجودة والمغفرة موجودة.
معناه أن يطمئن القلب وترتاح النفس ويسكن الفؤاد ويزول القلق.. فالحق لابد واصل لأصحابه.
معناه لن تذهب الدموع سدى، ولن يمضي الصبر بلا ثمرة، ولن يكون الخير بلا مقابل، ولن يمر الشر بلا رادع، ولن تفلت الجريمة بلا قصاص.
معناه أن الكرم هو الذي يحكم الوجود وليس البخل.. وليس من طبع الكريم أن يسلب ما يعطيه.. فإذا كان الله منحنا الحياة، فهو لا يمكن أن يسلبها بالموت.. فلا يمكن أن يكون الموت سلبا للحياة.. وإنما هو انتقال بها إلى حياة أخرى بعد الموت ثم حياة أخرى بعد البعث ثم عروج في السماوات إلى ما لا نهاية.
معناه أنه لا عبث في الوجود، وإنما حكمة في كل شيء.. وحكمة من وراء كل شيء.. وحكمة في خلق كل شيء.. في الألم حكمة وفي المرض الحكمة وفي العذاب حكمة وفي المعاناة حكمة وفي القبح حكمة وفي الفشل حكمة وفي العجز حكمة وفي القدرة حكمة.
معناه ألا يكف الإعجاب وألا تموت الدهشة وألا يفتر الانبهار وألا يتوقف الإجلال.. فنحن أمام لوحة متجددة لأعظم المبدعين.
معناه أن تسبح العين وتكبر الأذن ويحمد اللسان ويتيه الوجدان ويبهت الجنان.
معناه أن يتدفق القلب بالمشاعر وتحتفل الأحاسيس بكل لحظة وتزف الروح كل يوم جديد كأنه عرس جديد.
معناه ألا نعرف اليأس ولا نذوق القنوط.
معناه أن تذوب همومنا في كنف رحمة الرحيم ومغفرة الغفار..
معناه أن يذوب ضيقنا وألمنا وإحباطنا في فرج الله وفضله وكرمه.. ألم يقل لنا ربنا:{ فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (6} (الشرح) } ؟
ولأن الله سبحانه واحد.. فلن يوجد في الوجود إله آخر ينقض وعده.. ولن ننقسم على أنفسنا.. ولن تتوزعنا الجهات.. ولن نتشتت بين ولاء لليمين وولاء لليسار، وتزلف للشرق وتزلف للغرب، وتوسل للأغنياء وارتماء على أعتاب الأقوياء.. فكل القوة عنده، وكل الغنى عنده، وكل العلم عنده، وكل ما نطمح إليه ين يديه.. والهرب ليس منه، بل إليه.. فهو الوطن والحمى، والملجأ والمستند، والرصيد والباب والرحاب.
وذلك الإحساس معناه السكن والطمأنينة وراحة البال والتفاؤل والهمة والإقبال والنشاط والعمل بلا ملل وبلا فتور وبلا كسل.. وتلك ثمرة (لا إله إلا الله) في نفس قائلها الذي يشعر بها ويتمثلها، ويؤمن بها ويعيشها.. وتلك هي أخلاق المؤمن بلا إله إلا الله.
وتلك هي الصيدلية التي تداوي كل أمراض النفوس، وتشفى كل علل العقول وتبرئ كل أدواء القلوب.
وتلك هي صيحة التحرير التي تحطم أغلال الأيدي والأرجل والأعناق.. وهي أيضا مفتاح الطاقة المكنوزة في داخلنا، وكلمة السر التي تحرك الجبال وتشق البحور وتغير ما لا يتغير.
ولم يخلق إلى الآن العقار السحري الذي يحدث ذرة واحدة من هذا الأثر في النفس.
وكل عقاقير الأعصاب تداوي شيئا وتفسد معه ألف شيء آخر.. وهي تداوي بالوهم وتريح الإنسان بأن تطفئ مصابيح عقله وتنومه وتخدره وتلقى به إلى قاع البحر موثوقا بحجر مغمى عليه شبه جثة.
أما كلمة (لا إله إلا الله) فإنها تطلق الإنسان من عقاله وتحرره من جميع العبوديات الباطلة، وتبشره بالمغفرة وتنجيه من الخوف وتحفظه من الوسواس وتؤيده بالملأ الأعلى وتجعله أطول من السماء هامة وأرسخ من الأرض ثباتا.. فمن استودع همه وغمه عند الله بات على ثقة، ونام ملء جفنيه.
ولأن الله هو خالق الكون ومقدر الأقدار ومحرك المصائر.. فليس في الإمكان أبدع مما كان.. لأنه المبدع بلا شبيه.. لا يفوقه في صنعته أحد.. فلن تعود الدنيا مسرحا دمويا للشرور، وإنما درسا رفيعا من دروس الحكمة.
و لأن الله موجود فإنكم لستم وحدكم.. وإنما تحف بكم العناية حيث سرتم وتحرسكم المشيئة حيث حللتم.
و ذلك معناه شعور مستمر بالإئتناس والصحبة والأمان.. لا هجر.. ولا غدر.. ولا ضياع.. ولا وحدة.. ولا وحشة ولا اكتئاب. وذلك حال أهل (لا إله إلا الله)
إنهم يذوقون شميم الجنة في الدنيا قبل أن يدخلوها في الآخرة.. وهم الملوك بلا عروش وبلا صولجان.. وهم الراسخون المطمئنون الثابتون لا تزلزهم الزلازل، ولا تحركهم النوازل.
تلك هي الصيدلية الإلهية لكل من داهمه القلق.. فيها علاجه الوحيد.. وفيها الإكسير والترياق وماء الحياة الذي لا يظمأ بعده شاربه.. وفيها الرصيد الذهبي والمستند لكل ما نتبادل على الأرض من عملات ورقية زائلة متبدلة.. وفيها البوصلة والمؤشر والدليل.. و فيها الدواء لكل داء.
قام رجل من الجمع، وقال: نعم ما ذكرتنا به.. فلاشك أن الغفلة عن ربنا وسوء معرفتنا به هي سر ما حصل لنا من ألم ويأس وإحباط.. ولكن أنى لنا أن نستقر ونسكن لما ذكرت.. ونحن نتشتت بين أنواع الهموم والآلام.. فلا نكاد نستقر في محل حتى نرحل إلى غيره.
ابتسم سهل، وقال: أنت تسأل عن السكينة.. فالسكينة هي الدواء الوحيد الذي تستقر به النفس.. وهي الدواء الوحيد الذي يشفيها من كل آلام التشتت..
قال الرجل: فأين نجدها؟
قال آخر: لقد قرأت منذ أعوام كلمة ناضرة لأحد الأطباء اللامعين في أمريكا، قال فيها: (وضعت مرة وأنا شاب جدولاً لطيبات الحياة المعترف بها، فكتبت هذا البيان بالرغائب الدنيوية: الصحة، والحب، والموهبة، والقوة، والثراء، والشهرة، ثم تقدمت بها في زهو إلى شيخ حكيم.
فقال صديقي الشيخ: جدول بديع، وهو موضوع على ترتيب لا بأس به، ولكن يبدو لي أنك أغفلت العنصر المهم الذي يعود جدولك بدونه عبثاً لا يطاق، وضرب بالقلم على الجدول كله، وكتب كلمتي: (سكينة النفس) وقال: هذه هي الهبة التي يدخرها الله لأصفيائه، وإنه ليعطي الكثيرين الذكاء والصحة، والمال مبتذل، وليست الشهرة بنادرة، أما سكينة القلب، فإنه يمنحها بقدر.
وقال على سبيل الإيضاح: ليس هذا برأي خاص لي، فما أنا إلا ناقل من المزامير، ومن أوريليوس، ومن لادنس، هؤلاء الحكماء يقولون: خل يا رب نعم الحياة الدنيا تحت أقدام الحمقى، وأعطني قلباً غير مضطرب!
وقد وجدت يومئذ أن من الصعب أن أتقبل هذا، ولكن الآن بعد نصف قرن من التجربة الخاصة، والملاحظة الدقيقة، أصبحت أدرك أن سكينة النفس هي الغاية المثلى للحياة الرشيدة، وأنا أعرف الآن أن جملة المزايا الأخرى ليس من الضروري أن تفيد المرء السكينة، وقد رأيت هذه السكينة تزهو بغير عون من المال. بل بغير مدد من الصحة، وفي طاقة السكينة أن تحول الكوخ إلى قصر رحب، أما الحرمان منها فإنه يحيل قصر الملك قفصاً وسجناً)
قال سهل: صدق الرجل.. فالسكينة هي الإكسير الذي تذوب لمرآه الآلام.
قال الرجل: فأين نجدها؟.. لقد تهنا في البحث عنها.
قال سهل: لقد ذكرها الله، وذكر محلها، فقال:{ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (4) } (الفتح)
قال الرجل: فما الدواء الذي تصفه هذه الآية؟
قال سهل: إنها تصف دواء محددا واضحا ظاهرا.. إنه الإيمان..
قالوا جميعا: الإيمان !؟
قال سهل([6]): أجل.. فسكينة النفس التي هي الينبوع الأول للسعادة، لا يثمرها الذكاء ولا العلم ولا الصحة ولا القوة، ولا المال، ولا الغنى، ولا الشهرة، ولا الجاه، ولا غير ذلك من نعم الحياة المادية؟
هذه السكينة هي التي عمرت قلب رسول الله يوم الهجرة، فلم يعره هم ولا حزن، فقد { نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ (40} (التوبة)
قام رجل من الجمع، وقال: لماذا كان المؤمن أولى الناس بسكينة النفس، وطمأنينة القلب؟.. ولماذا لا يجد الإنسان السكينة في العلم والثقافة والفلسفة، وفيما أنتجه التقدم العلمي من وسائل وأدوات يسرت العيش وجملت الحياة؟
التفت سهل إلى (إيرنست)، ثم قال: إن الجواب عن هذا يحتاج إلى بسطة من التفصيل قد لا يسمح بها طبيبكم الذي قد يزعجه إطالة جلوسي معكم.
التفتُ إلى صديقي (إيرنست)، فوجدته مستغرقا تمام الاستغراق فيما يقوله سهل.. لذلك ما إن قال سهل ذلك حتى رد (إيرنست) مباشرة.. ومن غير شعور: تفضل.. لا حرج عليك.. فإن لكلامك تأثيرا لم يسبق لي أن رأيت مثله.
ابتسم سهل، وقال: سأذكر لكم عشرة أسباب تجعل المؤمن أحق الناس بالسكينة وأولاهم بها.
قالوا: فما السبب الأول؟
قال: إن أول أسباب السكينة لدى المؤمن هو أنه قد هدى إلى فطرته التي فطره الله عليها.. وهي فطرة متسقة كل الاتساق مع فطرة الوجود الكبير.. فلذلك يعيش المؤمن مع فطرته في سلام ووئام، لا في حرب وخصام.
إن في فطرة الإنسان فراغا لا يملؤه علم ولا ثقافة ولا فلسفة، وإنما يملؤه الإيمان بالله جل وعلا.
فإذا لم يجد الإنسان ربه – وهو أقرب إليه من حبل الوريد – فما أشقى حياته، وما أتعس حظه، وما أخيب سعيه!
إنه لن يجد السعادة، ولن يجد السكينة، ولن يجد الحقيقة.. لن يجد نفسه ذاتها.. لقد ذكر الله تعالى ذلك، فقال:{ وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (19)} (الحشر)
لقد ذكر بعض العلماء ذلك، فقال([7]): (في القلب شعث لا يلمه إلا الإقبال على الله.. وفيه وحشة لا يزيلها إلا الأنس بالله.. وفيه حزن لا يذهبه إلا السرور بمعرفته، وصدق معاملته.. وفيه قلق لا يسكنه إلا الاجتماع عليه، والفرار إليه.. وفيه نيران حسرات لا يطفئها إلا الرضا بأمره ونهيه وقضائه، ومعانقة الصبر على ذلك إلى وقت لقائه.. وفيه فاقة لا يسدها إلا محبته والإنابة إليه، ودوام ذكره، وصدق الإخلاص له، ولو أعطي الدنيا وما فيها لم تسد تلك الفاقة أبداً)
إنها الفطرة التي لم يملك مشركو العرب في جاهليتهم أن ينكروها مكابرةً وعناداً.. قال تعالى مخبرا عنهم:{ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (61) } (العنكبوت)، وقال:{ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (9)} (الزخرف)
لقد قرأت لبعض الملاحدة الذين اشتهروا بالشك في الدين والتشكيك فيه، كلمات عجيبة، يطالب فيها قراءه ألا يصدقوه إذا كتب هو نفسه وبقلمه ما ينفي عنه الإيمان، أو يخلع عليه الإلحاد.. لقد قال: (لو أردت من نفسي وعقلي أن يشكا لما استطاعا، ولو أرادا مني أن أشك لما استطعت. ولو أني نفيت إيماني بالقول لما صدقت أقوالي، فشعوري أقوى من كل أقوالي! ماذا لو أن إنساناً قال: إنه لا يحب نفسه أو لا يحب الحياة، فهل تصدقه؛ أو هل يصدق هو كلامه؟ هل يمكن أن ننفي أنفسنا أو إحساسنا بها بالكلام؟ إن الحقائق الكبيرة لا تسقطها الألفاظ. كذلك الإيمان بالله والأنبياء والأديان من الحقائق القوية التي لا يمكن أن تضعفها أو تشكك فيها الكلمات التي قد تجيء غامضة أو عاجزة لأن فورة من الحماس قد أطلقتها.
إن إيماني يساوي: أنا موجود إذن أنا مؤمن -أنا أفكر إذن أنا مؤمن- أنا إنسان إذن أنا مؤمن!)
ورحم الله العبد الصالح الذي قال: (إلهي ماذا وجد من فقدك؟! وماذا فقد من وجدك؟! لقد خاب من رضي دونك بدلاً، وخسر من بغى عنك حولاً)
قالوا: عرفنا السبب الأول.. فما السبب الثاني؟
قال: السبب الثاني من أسباب السكينة لدى المؤمن هو أنه قد هدى إلى الإجابة على تلك الأسئلة العميقة الغامضة التي يختزنها سر كل إنسان.. والتي لن يلقى الراحة من دونها.
قال رجل من الجمع: فما تلك الأسئلة؟
قال: إن في أعماق كل إنسان أصواتا خفية تناديه، وأسئلة عميقة تلح عليه منتظرة الجواب الذي يذهب به القلق، وتطمئن به النفس.. وهذه الأسئلة هي: ما العالم؟ ما الإنسان؟ من أين جاءا؟ من صنعهما؟ من يدبرهما؟ ما هدفهما؟ كيف بدءا؟ كيف ينتهيان؟ ما الحياة؟ ما الموت؟ أي مستقبل ينتظرنا بعد هذه الحياة؟ هل يوجد شيء بعد هذه الحياة العابرة؟ وما علاقتنا بهذا الخلود؟
هذه الأسئلة التي ألحت على الإنسان من يوم خلق، وستظل تلح عليه إلى أن تطوى صفحة الحياة، لم تجد – ولن تجد- لها أجوبة شافية إلا في الدين.
الدين وحده هو الذي يحل عقدة الوجود الكبرى، وهو المرجع الوحيد الذي يستطيع أن يجيبنا عن تلك الأسئلة بما يرضي الفطرة، ويشفي الصدور.
وتحضرني هنا قصة لبعض الملاحدة من الفلاسفة المتشككين حضرته الوفاة، فهاله الموت وما بعده، فأنشد يقول:
لعمرك ما أدري – وقد أذن البلى = بعاجل ترحالي- إلى أين ترحالي؟
وأين محل الروح بعد خروجه = عن الهيكل المنحل، والجسد البالي؟
فبلغ ذلك بعض الصالحين، فقال: (وما علينا من جهله؟ إذا كان لا يدري إلى أين ترحاله؟ فنحن ندري إلى أين ترحالنا وترحاله، قال تعالى:{ إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14)} (الانفطار)
قالوا: عرفنا السبب الثاني.. فما السبب الثالث؟
قال: السبب الثالث هو وضوح الغاية والطريق عند المؤمن.. فبينما يعيش غير المؤمن في الدنيا تتوزعه هموم كثيرة، وتتنازعه غايات شتى، هذه تميل به إلى اليمين، وتلك تجذبه إلى الشمال، فهو في صراع دائم داخل نفسه، وهو في حيرة بين غرائزه الكثيرة، أيها يرضي: غريزة البقاء، أم غريزة النوع، أم المقاتلة، أم غيرها من الغرائز.
وهو حائر مرة أخرى بين إرضاء غرائزه وبين إرضاء المجتمع الذي يحيا فيه، وهو حائر مرة ثالثة في إرضاء المجتمع، أي الأصناف يرضيهم، ويسارع في هواهم، فإن رضا الناس غاية لا تدرك.
في نفس الوقت نجد المؤمن قد استراح من هذا كله، وحصر الغايات كلها في غاية واحدة، عليها يحرص وإليها يسعى، وهي رضوان الله تعالى، لا يبالي معه برضى الناس أو سخطهم، شعاره ما قال الشاعر:
فليتك تحلو والحياة مريرة = وليتك ترضى والأنام غضاب
وليت الذي بيني وبينك عامر= وبيني وبين العالمين خراب
إذا صح منك الود فالكل هين = وكل الذي فرق التراب تراب
كما جعل المؤمن همومه هماً واحداً، هو سلوك الطريق الموصل إلى مرضاته تعالى، والذي يسأل الله في كل صلاة عدة مرات أن يهديه إليه، ويوفقه لسلوكه،:{ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7)} (الفاتحة)، وهو طريق واحد لا عوج فيه ولا التواء:{ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153)} (الأنعام)
وما أعظم الفرق بين رجلين، أحدهما عرف الغاية، وعرف الطريق إليها، فاطمأن واستراح، وآخر ضال، يخبط في عماية، ويمشي إلى غير غاية، لا يدرى إلام المسير؟ ولا أين المصير؟.. { أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (22)} (الملك)
قالوا: عرفنا السبب الثالث.. فما السبب الرابع؟
قال: السبب الرابع هو أنس المؤمن بالوجود كله.. فالمؤمن يعيش موصولاً بالوجود كله، ويحيا في أنس به، وشعور عميق بالتناسق معه، والارتباط به، فليس هذا الكون عدواً له، ولا غريباً عنه، إنه مجال تفكره واعتباره، ومسرح نظره وتأملاته، ومظهر نعم الله وآثار رحمته.
هذا الكون الكبير كله يخضع لنواميس الله كما يخضع المؤمن، ويسبح بحمد الله كما يسبح المؤمن.
والمؤمن ينظر إليه نظرته إلى دليل يهديه إلى ربه، وإلى صديق يؤنسه في وحشته..
وبهذه النظرة الودود الرحبة للوجود، تتسع نفس المؤمن، وتتسع حياته، وتتسع دائرة الوجود الذي يعيش فيه.
قالوا: عرفنا السبب الرابع.. فما السبب الخامس؟
قال: السبب الخامس هو أن المؤمن يعيش في معية الله.. ولذلك لا يعتريه ذلك المرض النفسي الوبيل، الذي يفتك بالمحرومين من الإيمان، ذلك هو مرض الشعور بالوحدة المقلقة، فيحس صاحبه أن الدنيا مقفلة عليه، وأنه يعيش فريداً منعزلاً؛ كأنه بقية غرقى سفينة ابتلعها اليم، ورمت به الأمواج في جزيرة صغيرة موحشة يسكنها وحده، لا يرى إلا زرقة البحر وزرقة السماء، ولا يسمع إلا صفير الرياح، وهدير الأمواج.
وأي عالم أشد على النفس من هذا العالم، وأي إحساس أمر من هذا الإحساس؟ إن أقسى ما يصنعه السجان بالسجين أن يحبسه في سجن انفرادي (زنزانة) ليحرمه من لذة الاجتماع، وأنس المشاركة والاختلاط، فما بالنا بمن وضع نفسه دائماً في تلك الزنزانة، وعاش فيها بمشاعره وتصوره وحده، وإن كانت الدنيا تضج من حوله بخلق الله من بني الإنسان؟!
والمختصون متفقون على أن هذا المرض من أخطر أمراض النفس، لما يجلبه على صاحبه من عزلة وفقدان للثقة بمن يتعاملون معه، إذ يعتقد أن كل من حوله دونه، وأنهم يخالفونه في كل مقومات الحياة، وأينما التفت لا يجد غير نفسه، وقد مثل بعضهم حالة هذا المريض بإنسان قد سجن في غرفة جميع جدرانها (مرايا) فأينما ينظر لا يجد إلا نفسه، وأن هذه الغرفة التي سجن فيها لا أبواب لها، ولا منافذ بها، فأين السبيل إلى الهرب منها؟
فهل يستطيع مثل هذا الإنسان أن يعمل أو ينتج، أو أن يظل محتفظاً بوعيه وقدرته على الفهم والتركيز؟ وهل يمكن لمثله أن يظفر بالسكينة والاطمئنان؟ الجواب طبعاً: لا.
بل قال المختصون في علاج هذه الأمراض: إن لهذا المرض النفسي آثاراً عضوية تظهر على جسم صاحبه، كما تظهر في حركاته وتصرفاته.. فقد يصيبه الدوار ويتصبب عرقه، وتسرع نبضات قلبه، كأنه خائف من عدو قاهر، أو مقدم على موقف عصيب وقد يتخبط في حركاته ومشيه كأنه يريد الهرب.
يقول الدكتور (موريس جوبتهيل) مدير إدارة الصحة العقلية بنيويورك: (إن مرض إحساس الإنسان بوحدته لمن أهم العوامل الأساسية للاضطرابات العقلية)
ولم يدخر الأطباء وعلماء النفس وسعاً في البحث عن علاج ناجع لهذا المرض، وبذلوا في ذلك جهوداً جمة، وأجروا تجارب كثيرة، وحاولوا محاولات مخلصة حتى انتهى رأي المنصفين منهم أخيراً إلى أن العلاج الأمثل لهذا المرض هو اللجوء إلى الدين، والاعتصام بعروة الإيمان الوثقى، وإشعار المريض بمعية الله والأنس به.
فهذا الإيمان القوي هو خير دواء لعلاج هذا المرض الخطير، كما أنه خير وقاية من شره.. قال الدكتور (فرانك لوباخ) العالم النفسي الألماني: (مهما بلغ شعورك بوحدة نفسك فاعلم أنك لست بمفردك أبداً. فإذا كنت على جانب من الطريق فسر وأنت على يقين من أن الله يسير على الجانب الآخر)
واعتقاد المسلم أكبر من هذا وأعمق.. إنه يؤمن أن الله معه حيثما كان، وليس على الجانب الآخر من الطريق، إن الله سبحانه يقول في الحديث القدسي: (أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا ذكرني).. ويقول في كتابه:{ فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ (35)} (محمد)
إن شعور المؤمن بأنه مع الله، وأن عنايته تسير بجانبه، وأنه ملحوظ بعينه التي لا تنام، وأنه معه حيث كان، يطرد عنه شبح الوحدة المخيف، ويزيح عن نفسه كابوسها المزعج.
كيف يشعر بالوحدة من يقرأ في كتاب ربه:{ وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (115)} (البقرة)، ويقرأ: { وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (4)} (الحديد)؟
إن المؤمن لا يشعر إلا بما شعر به موسى حين قال لبني إسرائيل:{ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ (62)} (الشعراء).. وما شعر به محمد في الغار حين قال لصاحبه::{ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} (التوبة)
إن شعور المؤمن بمعية الله وصحبته دائماً يجعله في أنس دائم بربه، ونعيم موصول بقربه، يحس أبداً بالنور يغمر قلبه، ولو أنه في ظلمة الليل البهيم.. ويشعر بالأنس يملأ عليه حياته وإن كان في وحشة من الخلطاء والمعاشرين، ينشد ما قاله العبد الصالح يناجي ربه:
إن قلبا أنت ساكنه = غير محتاج إلى السرج
وجهك المأمول حجتنا = يوم يأتي الناس بالحجج
قالوا: عرفنا السبب الخامس.. فما السبب السادس؟
قال: السبب السادس هو أن المؤمن لا يشعر أنه في عزلة عن إخوانه المؤمنين.. إنهم، إن لم يكونوا معه في عمله أو مسجده أو داره – يعيشون دائماً في ضميره، ويحيون في فكره ووجدانه، فهو إذا صلى – ولو منفرداً- تحدث باسمهم:{ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)} (الفاتحة).. وإذا دعا دعا باسمهم:{ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6)} (الفاتحة).. وإذا ذكر نفسه ذكرهم:(السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين).. هذا في التشهد الذي يتكرر في الصلوات المفروضة وحدها تسع مرات يومياً عدا السنة والنوافل.. وإنه لأوسع مدى من أن يعيش مع مؤمني عصره وحدهم، بل انه ليتخطى الأجيال، ويخترق العصور والمسافات، ويحيا مع المؤمنين وإن باعدت بينه وبينهم السنون والأعوام، ويقول ما قال الصالحون::{ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (10)} (الحشر)
المؤمن يشعر أنه يعيش بإيمانه وعمله الصالح مع أنبياء الله ورسله المقربين، ومع كل صدِّيق وشهيد وصالح من كل أمة وفي كل عصر::{ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69)} (النساء)
وأي إنسان أسعد ممن يرافق هؤلاء ويرافقونه؟ إنها ليست مرافقة جسد وصورة، ولكنها مرافقة روح ووجدان، وفكر وقلب، وكفى أنه (معهم)، وليس خلفهم، ولا قريبا منهم.. ولا يحسبن امرؤ من الناس أن مرافقة هؤلاء للمؤمن شيء هين ضئيل، أو أمر خيالي موهوم، فإنه لفرق كبير دين إنسان تاريخه هو تاريخ شخصه أو أسرته، أو حزبه مثلاً، فهو قريب القاع، سطحي الجذور، وإنسان تاريخه هو تاريخ الإيمان والهدى من عهد آدم، تاريخه هو تاريخ نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد من أولي العزم من الرسل، ومن غيرهم من أصحاب النبوات والرسالات منذ بعث الله رسولاً، وأنزل كتاباً، فهو يستلهم هذا التاريخ المؤمن الحافل في كل ما ينزل به من أحداث، وما يعرض له من مشكلات، وما يقف في سبيله من عوائق، ويجد فيه الأسوة والهداية كما يجد فيه السلوى والعزاء، كما يجد فيه الأنس والود، ومن كل ذلك يأخذ الزاد لفكره، والنور لقلبه، والمدد لإرادته.
قالوا: عرفنا السبب السادس.. فما السبب السابع؟
قال: السبب السابع هو ما أتيح للمؤمن من مناجاة ربه في الصلاة والدعاء والذكر.. وذلك كله مما لا يجده الماديون، وإنما هو نعيم خالص للمؤمنين..
فالصلاة لحظات ارتقاء روحي يفرغ المرء فيها من شواغله في دنياه، ليقف بين يدي ربه ومولاه ويثني عليه بما هو أهله، ويفضي إليه بذات نفسه: داعياً راغباً ضارعاً.
وفي الاتصال بالله العلي الكبير قوة للنفس، ومدد للهزيمة، وطمأنينة للروح.
لهذا جعل الله الصلاة سلاحاً للمؤمن يستعين بها في معركة الحياة، ويواجه بها كوارثها وآلامها، قال الله تعالى:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153)}(البقرة).. وكان محمد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة، ولم تكن صلاته مجرد شكل أو رسم يؤدى، وإنما كانت استغراقاً في مناجاة الله، حتى أنه كان إذا حان وقتها قال لمؤذنه بلال في لهفة المتشوق واشتياق الملهوف: (أرحنا بها يا بلال).. وكان يقول:(جعلت قرة عيني في الصلاة)
أي سكينة يشعر بها المؤمن حين يلجأ إلى ربه في ساعة العسرة ويوم الشدة، فيدعوه بما دعا به محمد صلى الله عليه وآله وسلم من قبل: (اللهم رب السموات السبع، ورب العرش العظيم، ربنا ورب كل شيء، فالق الحب والنوى، منزل التوراة والإنجيل والقرآن، أعوذ بك من شر كل دابة أنت آخذ بناصيتها، أنت الأول، فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر، فليس فوقك شيء، وأنت الباطن، فليس دونك شيء، اقض عنى الدين، وأغنني من الفقر)([8])
وأي طمأنينة ألقيت في قلب محمد صلى الله عليه وآله وسلم يوم عاد من الطائف دامي القدمين، مجروح الفؤاد من سوء ما لقي من القوم، فما كان منه إلا أن رفع يديه إلى السماء يقرع أبوابها بهذه الكلمات الحية النابضة التي دعا بها محمد ربه، فكانت على قلبه برداً وسلاماً: (اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين ! أنت أرحم الراحمين، إلى من تكلني ؟ إلى عدو يتجهمني أم إلى قريب ملكته أمري ؟ إن لم تكن غضبان علي فلا أبالي غير أن عافيتك أوسع لي. أعوذ بوجهك الذي أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة أن ينزل بي غضبك أو يحل بي سخطك لك العتبى حتى ترضى ولا حول ولا قوة إلا بالله)([9])
قالوا: عرفنا السبب السابع.. فما السبب الثامن؟
قال: السبب الثامن هو أن المؤمن لا يعيش بين (لو) و(ليت).. ذلك أن من أهم عوامل القلق الذي يفقد الإنسان سكينة النفس وأمنها ورضاها هو تحسره على الماضي وسخطه على الحاضر، وخوفه من المستقبل.
إن بعض الناس تنزل به النازلة من مصائب الدهر، فيظل فيها شهوراً وأعواماً، يجتر آلامها ويستعيد ذكرياتها القاتمة، متحسراً تارة، متمنياً أخرى.. شعاره: ليتني فعلت، وليتني تركت، لو أنى فعلت كذا لكان كذا.
ولذا ينصح الأطباء النفسيون، والمرشدون الاجتماعيون، ورجال التربية، ورجال العمل، أن ينسى الإنسان آلام أمسه، ويعيش في واقع يومه، فإن الماضي بعد أن ولى لا يعود.
ولكن الضعف الإنساني يغلب على الكثيرين، فيجعلهم يطحنون المطحون ويبكون على أمس الذاهب، ويعضون على أيديهم أسفاً على ما فات، ويقلبون أكفهم حسرة على ما مضى.
وأبعد الناس عن الاستسلام لمثل هذه المشاعر الأليمة، والأفكار الداجية هو المؤمن الذي قوي يقينه بربه، وآمن بقضائه وقدره، فلا يسلم نفسه فريسة للماضي وأحداثه، بل يعتقد أنه أمر قضاه الله كان لابد أن ينفذ، وما أصابه من قضاء الله لا يقابل بغير الرضى والتسليم.
إن المؤمن لا يقول: لو أني فعلت كذا لكان كذا، ولكن يقول: قدر الله وما شاء فعل، فإن (لو) تفتح عمل الشيطان، كما أخبرنا الرسول صلى الله عليه وآله وسلم)([10])
إن المؤمن يوقن أن قدر الله نافذ لا محالة، فلم السخط؟ ولم الضيق والتبرم؟ والله تعالى يقول:{ مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (23)} (الحديد)
وفي غزوة أحد التي قتل فيها سبعون من المسلمين، نعى القرآن على طائفة من المنافقين ومرضى القلوب، وضعاف الإيمان، عاشوا بين (لو) المتندمة و(ليت) المتحسرة، فيقول:{ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (154)} (آل عمران)
ويرد على أولئك الذين قالوا لإخوانهم وقعدوا:{ لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (168)} (آل عمران)
إن شعار المؤمن دائماً: (قدر الله وما شاء فعل.. والحمد لله على كل حال).. وبهذا لا يأسى على ما فات، ولا يحيا في خضم أليم من الذكريات، وحسبه أن يتلوا قوله تعالى:{ مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (11)} (التغابن)
قالوا: عرفنا السبب الثامن.. فما السبب التاسع؟
قال: السبب التاسع هو أن المؤمن يعيش في حالة رضا تام عن ربه.. ولذلك لا يصيبه ذلك التشتت والألم الذي يصيب الساخطين المعترضين.. لقد ذكر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذلك، فقال:(إن الله عز وجل بقسطه جعل الفرح والروح في الرضا واليقين، وجعل الغم والحزن في السخط والشك)([11])
في هذا الحديث الشريف كشف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن حقيقة نفسية باهرة، فكما أن سنة الله قد ربطت الشبع والري بالطعام والشراب في عالم المادة، فإن سنته تعالى في عالم النفس والروح قد ربطت الفرح والروح والسرور وراحة النفس بالرضا واليقين.. فبرضا الإنسان عن نفسه وربه يطمئن إلى يومه وحاضره، وبيقينه بالله والآخرة والجزاء، يطمئن إلى غده ومستقبله.. ومن غير المؤمن في رضاه عن يومه، ويقينه بغده؟ كما ربطت سنة الله الغم والحزن بالسخط والشك.
فالساخطون والشاكون لا يذوقون للسرور طعماً.. إن حياتهم كلها سواد ممتد، وظلام متصل، وليل حالك لا يعقبه نهار ولا يرتقب له فجر صادق.
وقد ربط الحديث النبوي الكريم بين السخط والشك، وهما متلازمان، فلا سخط من غير شك، ولا شك من غير سخط.
ولذلك ترون الساخط دائم الحزن، دائم الكآبة، ضيق الصدر، ضيق الحياة، ضيقا بالناس، ضيقا بنفسه، ضيقا بكل شيء، كأن الدنيا – على سعتها- في عينيه سم الخياط.
إن شعور الإنسان بالرضا من أول أسباب السكينة النفسية التي هي سر السعادة.. ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:(من سعادة المرء استخارته ربه، ورضاه بما قضى، ومن شقاء المرء تركه الاستخارة وعدم رضاه بعد القضاء)([12])
والمؤمن وحده هو الذي يغمره الإحساس بالرضا بعد كل قدر من أقدار الله.
الرضا نعمة روحية جزيلة، هيهات أن يصل إليها جاحد بالله، أو شاك فيه، أو مرتاب في جزاء الآخرة، إنما يصل إليها من قوي إيمانه بالله وحسن اتصاله به. وقد خاطب الله رسوله صلى الله عليه وآله وسلم بقوله:{ فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى (130)}(طه) وامتن عليه بقوله:{ وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى (5)} (الضحى)
وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم:(ذاق طعم الإيمان من رضي بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد رسولاً)([13])
وأثنى الله تعالى على المؤمنين بقوله:{ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (119)} (المائدة)
قالوا: عرفنا السبب التاسع.. فما السبب العاشر؟
قال: السبب العاشر هو أن المؤمنين – بسبب إيمانهم – أهل حلم وصبر وتواضع وتسامح وحياء:{ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا (63)} (الفرقان)
ولذلك يعرفون بطول الصمت، وتواصل الفكر، وخفض الصوت، والبعد عن الهرج والصخب والتلاعن.
ويعرفون بالتأني والاتقان والإحسان فيما يعهد إليهم من أعمال.
ويعرفون بالدماثة ولين الطبع والصدق والوفاء والاعتدال في الأخذ من كل شيء.
وهذا كله يدل على انسجام عناصر النفس والتوافق بين متناقضاتها، وانقيادها في خضوع وسلاسة لصاحبها وهي أمر لا يوهب إلا للمؤمن.. لأن علاقة المؤمن بماحوله علاقة متميزة مختلفة.. علاقته بالأمس والغد وعلاقته بالموت.. وعلاقته بالناس.. وعلاقته بعمله ونظرته للأخلاق.
قام بعض المحبطين، وقال: لقد وعينا ما ذكرت.. ونعم ما ذكرت.. ولكنا نريد أن تبين لنا المفاتيح التي تنفتح بها مغاليق الهمم من نفوسنا المكدرة بسموم اليأس.
سكت سهل، ثم قال([14]): لا شك أنكم تعلمون أن النفس الإنسانية تمر بحالات شديدة التباين خلال مسيرتها في الحياة.. فبينما تشرق أحيانًا، ويملؤها الطموح، ويدفعها الأمل لتحقيق لمعجزات.. تدهمها أمواج اليأس ـ في أحيان أخرى ـ فتنهزم أمام المصائب والصعوبات والمخاوف..
ولا شك أنكم تعلمون أن من أخطر ما يهدد سلام النفس الإنسانية، ويقضي على مقدراتها استسلامها للإحباط والهزيمة الداخلية.. واستشعارها أن شيئًا مما فسد لا يمكن إصلاحه، وأن الأجدى ـ وقد انسكب اللبن ـ أن نعكف عليه باكين نادمين بدلاً من القيام والبحث عن حل.
ولا شك أنكم تعلمون أن الشعور بالإحباط والهزيمة النفسية يقضي على أي أمل للإصلاح.. فبدلاً من الكدّ في سبيل الخروج من الأزمة يكتفي المحبط بالعويل واعتبار نفسه شهيد المصيبة! ومن ثم يعزو كل فشل لاحق إلى مصيبته التي وقع فيها ـ أو أوقع نفسه ـ ومن ثم تُسلمه كل مصيبة وهزيمة إلى أختها أو أكبر منها!
قام الرجل، وقال: نحن لا نشك في كل ما ذكرت.. ولكنا نريد العلاج.. لقد شخصت الداء، ونحن نطالبك أن تتفضل علينا بالعلاج.
قال سهل: ما دمتم قد سلمتم لكل ما ذكرت لكم.. فسأذكر لكم الآن عشرة مفاتيح تنفتح بها المنافذ التي يسدها الشيطان في وجه الأمل..
وسأستعير هذه المفاتيح من فيض النور الأزلي كلام رب العالمين الذي شرح الله به الصدور، ورفع به الهمم، وأحيا به الأمل.
وسأستعير في ذلك ما نزل من القرآن الكريم في غزوة من غزوات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تسمى (غزوة أحد) أصاب المسلمين فيها بعض ما يمكن أن يسمى هزيمة([15]).. وكان من الممكن أن يضع ذلك المسلمين في أجواء من الكآبة والحزن والإحباط.. ولكن الله تعالى برحمته أنقذهم من كل ذلك، لينهضوا في فترة قصيرة جدا لإكمال ما عهد إليهم من رسالة، غير متأثرين بأي ألم أو إحباط.
لقد نزلت آيات من القرآن الكريم تخاطب ذلك الجيل.. وتخاطب معه كل من وقع في بلاء أو مصيبة.. وكان من ذلك الخطاب هذه المفاتيح العشرة.
قالوا: فما المفتاح الأول؟
قال: هو ما يشير إليه قوله تعالى، وهو يخاطب عباده المنكسرين نفسيًا من آثار تلك الغزوة..:{ وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } (آل عمران: 139)
قالوا: فما في هذا من مفاتيح الأمل؟
قال: إن ما ذكرته الآية الكريم هو المفتاح الأول.. وهو مفتاح يرفع الروح المعنوية للنفس بلفت نظرها إلى الجوانب الإيجابية في الفرد والأمة..
لقد كان ذلك الخطاب خطابًا واقعيًا، ولم يكن تحذيرًا لنفوسهم أو تسكينًا مؤقتًا لآلامهم (تعالى الله عن ذلك)؛ فليس هناك شخص مركب من شر محض أو فشل محض أو ضعف محض.. إن بكل إنسان جوانب قوة وجوانب ضعف.. ولابد من لفت نظر الإنسان المنكسر نفسيًا إلى جوانب القوة الحقيقية فيه ليحسن توظيفها في التغلب على جوانب ضعفه..
يخاطب بهذا المعنى كل إنسان فقد مقومًا من مقومّات نجاحه في الحياة.. كمن فقد مالاً أو صحة أو حاسّة.. بل حتى لمن فقد عزيزًا لديه كان يحسبه سنده الوحيد في الحياة ويرى الحياة صفرًا يدونه..
ويخاطب أيضًا بهذا المعنى المجتمع المنكسر لضعفه وقوة عدوه أو غلبة العوائق على طريق تقدمه..
ولست في حاجة إلى التأكيد أن هذا العلاج لا يعني أن ينتشي المنكسر والمهزوم نفسيًا، فيقعد عن علاج أزماته طالما أنه يحوز إيجابيات عديدة، وإلا لما شرط الله علوّ المؤمنين في الآية السابقة بالإيمان الذي يقتضي منطقيًا العمل والبذل وعدم القعود دون المنازل العالية..
قالوا: عرفنا المفتاح الأول.. فما المفتاح الثاني؟
قال: هو ما يشير إليه قوله تعالى في هذه الغزوة:{ وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا } (آل عمران: 166 – 167)
قالوا: فما في هذا من مفاتيح الأمل؟
قال: إن هذه الآية الكريمة تذكر النفوس اليائسة بأن الألم قد يحوي من الخير والنفع والأمل ما لا قد تفطن النفس لرؤيته، فتنحجب بالألم عن الأمل.
لقد ذكر الله ذلك في مواضع من القرآن.. فالله تعالى يقول:{ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ } (البقرة: 216)، ويقول:{ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا } (النساء: 19) .. ففي هذه النصوص يلفت الله انتباه المؤمنين إلى أن أي مصيبة لابد أن تنطوي على نقاط مضيئة وجوانب إيجابية..
قالوا: عرفنا المفتاح الثاني.. فما المفتاح الثالث؟
قال: تعميق الإيمان بأن المصائب أمر مقدّر.. كتب الله لكل مخلوق حظه منه من قبل أن يوجد..
نعم هناك أسباب مادية واقعية تقود إلى المصيبة، ولكن هذا لا ينفي ارتباط الأمر ـ من قبل ومن بعد ـ بقضاء الله وقدره.. وإنما يتحرك الإنسان سعيًا لجلب نفع أو دفع ضر، لأن الله أمره بالأخذ بالأسباب وهو مأجور على العمل والسعي ما دام موافقًا للشرع.. كما أنه يتحرك لذلك وهو موقن أن الله قادر على تعطيل الأسباب وقادر كذلك على إنفاذها..
فالإنسان وأهل الأرض جميعًا إن اجتمعوا على دفع مصيبة قدّرها الله لن يستطيعوا مهما أوتوا من أسباب.
وإلى هذا المعنى أشار النبي صلى الله عليه وآله وسلم في رسالته التربوية المعجزة التي وجهها لقلب المنكسر وعقله حين قال: (احرص على ما ينفعك، واستعن بالله، ولا تعجز وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كان كذا وكذا.. ولكن قل: قدّر الله وما شاء فعل، فإن (لو) تفتح عمل الشيطان)([16])
وما عمل الشيطان المقصود هنا سوى ذلك الإحباط الذي يسيطر على النفس أمام فرصة فائتة أو خطب نازل..
قالوا: عرفنا المفتاح الثالث.. فما المفتاح الرابع؟
قال: توجيه المؤمنين بعد مصيبة أحد إلى إمكانية استئناف المسير وفتح صفحات ناصعة إذا هم أحسنوا التوبة مما وقعوا فيه من أخطاء مهما كانت، وإن كانت ضخمة كالفرار من الزحف أو مخالفة أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
نعم.. قد يخطئ الإنسان أخطاء كبيرة أو صغيرة ولكن الحياة لن تنتهي عند حدود الأخطاء التي وقعت طالما أن باب الإصلاح والتوبة مفتوح.. المهم أن يسارع المخطئ إلى تدارك الأمر.. اسمع إلى قوله تعالى في هذا:{ وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134) وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135) أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (136)} (آل عمران)
قالوا: عرفنا المفتاح الرابع.. فما المفتاح الخامس؟
قال: هو ما يشير إليه قوله تعالى:{ وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146) وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (147) فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (148)} (آل عمران)
قالوا: فما في هذه الآية من مفاتيح الأمل؟
قال: إن القرآن لكريم في هذه الآيات يسلك سبيلاً آخر حكيمًا إلى النفوس المنكسرة يمسح عنها الأسى حين يلفت أنظارها دائمًا إلى عبرة الماضي المتكررة وهي أن السقوط يعقبه قيام ونصر لمن سار على الدرب.
وهذا منهج قرآني تكرر في غير هذا الموضع في مواجهة أزمات مرت بالمسلمين واقتربت بهم من دائرة الإحباط.. فتجد أن الله ينزل سورتين متواليتين في العام العاشر من البعثة في أواخر العهد المكي حين ضاق الحال تمامًا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في مكة تكذيبًا وإيذاءً وصدوداً عن لحق، فتنزل القرآن بسورة هود وما حوته من قصص لرسل سابقين وكيف صبروا وثبتوا حتى جاءهم نصر الله.. ثم يختتمها الله تعالى بقوله:{ وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (120)} (هود)
فتعرّف أخبار السابقين المشابهة يثبت القلب ويزيل اليأس ويلقي في روع المهموم أن ما أصابك من همّ لم يكن جديدًا اختصصت به دون غيرك، بل سبقك إلى ساحة الامتحان آخرون مثلك فنجحوا وعبروا الأحزان..
كما تنزلت بعدها سورة (يوسف).. وليس بخافٍ ما تحفل به من سلوى للمصابين وآمال لليائسين من خلال العديد من المآزق التي تعرض لها يوسف عليه السلام فصبر وثبت حتى نجاه الله منها جميعًا.. إلى جانب الأزمة العنيفة المتصاعدة التي مرت بيعقوب عليه السلام والمتجسد في فقد أحد بنيه، ثم تزيد بفقد التالي له في المنزلة بعد سنوات من الصبر..
قالوا: عرفنا المفتاح الخامس.. فما المفتاح السادس؟
قال: هو ما يشير إليه قوله تعالى:{ إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ } (آل عمران: 140)
قالوا: فما في هذا من العلاج؟
قال: في هذه الآية الكريمة يلفت القرآن أنظار المسلمين تعقيبًا على أحد إلى أن الألم الذي أصابهم قد أصاب عدوّهم مثله، فلم يخرج عدوّهم من المعركة (وإن بدا منتصرًا) سالمًا من الجراح والآلام.. وبذلك، فإن كفاح المؤمنين ضد عدوهم لم يذهب سدى، بل إن عدوهم قد أصابه ما أصابهم من أذى (قرح مثله).. وهي سنة ماضية في معركة الحق مع الباطل فصّلها الله في موضع آخر من كتابه حين قال:{ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ } (النساء: 104)
ولا ريب أن فرقًا كبيرًا بين من هزم وهو يرى عدوه مكتمل الفوز والانتصار، ومن هزم وهو يشعر أنه هو أيضًا قد نجح في النيل من عدوه ولو بعض النيل.. شتان بين النفسيتين!!
قالوا: عرفنا المفتاح السادس.. فما المفتاح السابع؟
قال: هو ما يشير إليه قوله تعالى:{ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ } (آل عمران: 140)
قالوا: فما في هذا من مفاتيح الأمل؟
قال: كما يربي القرآن الكريم المنهزمين نفسيًا على أن الجراح والآلام ليست حكرًا عليهم دون أعدائهم يوجه أبصارهم نحو سنة كونية ثابتة متى استقرت في النفس المحبطة عاودها الأمل من جديد.. تلك السنة هي المتمثلة في أن من شأن الأحوال أنها لا تثبت على هيئة واحدة، بل من شأن المقاعد أن يتبادلها الجالسون كل حين عليها، فلا المهزوم يظل مهزومًا، ولا المنتصر يظل منتصرًا..
وكذلك الغني والفقر والصحيح والسقيم..
وإذا فهم المحبط ذلك أيقن بلا شك أن بالإمكان حتمًا أن يتجاوز دائرة إحباطه التي تسيطر عليه لأن الأحوال حتمًا تمضي إلى تبدّل، وخير له أن يستثمر هذا التحول لصالح النهوض من كبوته..
قالوا: عرفنا المفتاح السابع.. فما المفتاح الثامن؟
قال: ما أشار إليه القرآن الكريم – تعقيبا على تلك الغزوة – من أن الإنسان يوم القيامة يحاسب على عمله الذي كسبته يداه، ولا يحاسب على النتائج المترتبة على فعله هذا..
والإسلام يرسخ هذا المعنى في نفوس المؤمنين، لأن العامل قد يحسن العمل، ثم لا تأتي النتيجة على المستوى المطلوب فيحبط ويشعر بالفشل..
فلذلك يربط القرآن الجهود والخطط بما تستطيع النفوس تحقيقه، لا بما يتعلق بالغيب والقدر المحض..
ومن ثم يربط القرآن المؤمنين ـ في كفاحهم عبر الحياة ـ بثواب الآخرة المستقر اليقيني المترتب مباشرة على عملهم، فترى الله عز وجل يقول عن المؤمنين المجاهدين في سبيله:{ فَآَتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآَخِرَةِ } (آل عمران: 148).. فالثواب الحسن حقًا هو ثواب الآخرة.
أما الذين كفروا فحتى لو حققوا انتصارًا (أي: نتيجة حسنة) فيهم من الخاسرين في الآخرة (لسوء عملهم) يقول تعالى:{ لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ (196) مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (197)} (آل عمران)، ويقول:{ وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (176)} (آل عمران)
قالوا: عرفنا المفتاح الثامن.. فما المفتاح التاسع؟
قال: ذلك ما أشار إليه القرآن الكريم من أن طول القعود عقب الهزيمة يوجب العقاب من رب العالمين.. وذلك حتى يعلم الإنسان أن واجبه عقب الانكسار أن يبادر بالنهوض وإصلاح ما فات، فالعمر ضيق لا مجال فيه لطول القعود يأسًا وإحباطًا، والفرص المتاحة قد لا تظل متاحة إلى الأبد..
يقول تعالى في ذلك معالجًا أشد ساعات الهزيمة النفسية لدى المؤمنين يوم أحد:{ وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (144)} (آل عمران: 144)
لقد فقه هذا المعنى رجلان من الأنصار ـ قبل أن تنزل الآية الكريمة ـ فهذا أنس بن النضر يصيح بأولئك الذين أحبطوا وقعدوا عن القتال لما سمعوا بمقتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم:(ما تصنعون بالحياة بعده؟! قوموا فموتوا على ما مات عليه).. ثم استقبل القوم فقاتل حتى قتل..
أما الآخر فكان ثابت بن الدحداح.. فقد كان يصيح بأصحابه الأنصار يوم أحد بعد الانكسار والهزيمة: (إن كان محمد قد قتل فإن الله حتى لا يموت، فقاتلوا عن دينكم، فإن الله مظهركم وناصركم).. فربط السعي بالله الباقي.. ومن كانت هذه جهة سعيه فلن ييأس لأنها جهة مفتوحة على الدوام..
بهذا المنهج الإسلامي الفريد قاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه إلى الخروج من أزماتهم كلها ومنها أزمة أحد.. فها هو صلى الله عليه وآله وسلم بعد أحد بيوم واحد يتخذ القرار لمطاردة المشركين العائدين إلى مكة بما يشبه الانتصار.. وأصر صلى الله عليه وآله وسلم ألا يأخذ معه في هذا الخروج إلا من اشترك في أحد، وقال: (لا يخرج معنا إلا من شهد القتال)، برغم أن أولئك الذين شهدوا القتال بالأمس سيخرجون اليوم والجراح تملأ أجسادهم ونفوسهم جميعًا.. إلا أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أراد أن يداوي هذه النفوس الكسيرة بعمل من شأنه أن يرفع معنوياتهم ويرد إليهم هيبتهم ويضعف من حلاوة النصر لدى قريش إذا اختتم المشهد بمطاردتهم إلى مكة!!
وقد كان هذا القرار النبوي العظيم قرارًا تربويًا من الدرجة الأولى..
فقد تعمد صلى الله عليه وآله وسلم أن يأخذ الذين شاركوا في (أحد) مع ما بهم من جراح وآلام ونفسية سيئة مهزومة، وإنما أراد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذلك ليقول لهم: إنه يثق بهم تمامًا، وبقدراتهم وكفاءاتهم.. بل وبإيمانهم وعقيدتهم.. وأن ما حدث في (أحد) لم يكن إلى حدثًا عابرًا يندر تكراره، وأن الأمل فيهم كبير، والنصر لهم حليف إن شاء الله..
وخرج المسلمون للقتال في إصرار، وعسكروا في (حمراء الأسد) وهو مكان علي بعد ثمانية أميال من المدينة.. وكان جيش قريش معسكرًا على بعد ستة وثلاثين ميلاً.. فلما سمعوا بمقدم المسلمين ترددوا في قتالهم وأرسلوا إليهم من يخوّفهم من أعداد المشركين وقوّتهم.. ولكن هذا التهديد الآن صادف نفوسًا عادت إليها قوتها وعافيتها، فما تأثرت نفوس المؤمنين قيد أنملة بل على العكس ازداد إصرارهم على القتال، وازدادوا رغبة في الخروج من الأزمة، وإعادة الكرة على الكافرين…
وإزاء هذا الإصرار من قبل المؤمنين فر المشركون وتجنبوا القتال مع كثرة عدهم وقوة عدتهم.. وخرج المسلمون من أزمتهم بنجاح..
وهكذا يصنع الإصرار في نفوس أصحابه وفي نفوس خصومهم..
قالوا: عرفنا المفتاح التاسع.. فما المفتاح العاشر؟
قال: هو ما أشار إليه قوله تعالى:{ الَّذِينَ اسْتَجَابُوا الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (172) الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174)} (آل عمران)
قالوا: فما في هذا من مفاتيح الأمل؟
قال: في تلك الآيات الكريمة يمجد الله أصحاب حمراء الأسد.. مع أنهم هم أهل أُحد الذين وقعوا في أخطاء الأمس، ولكنهم أحسنوا الخروج من آثار أخطائهم.. فاستحقوا ذلك التمجيد العظيم..
وبذلك يكون الأمل هو المفتاح الوحيد الذي يعالج الألم، ويكسر الإحباط، ويصحح المسير.
***
ما إن وصل سهل من حديثه إلى هذا الموضع حتى قام جميع المرضى يهللون ويكبرون.. وقد عجبت إذ رأيت صاحبي (إيرنست جونز) يهلل ويكبر معهم.. ولم أملك – حينها – إلا أفعل ما يفعلون، وأصيح بما يصيحون.
وقد تنزلت علي حينها أنوارجديدة اهتديت بها بعد ذلك إلى شمس
محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
([1]) أشير به إلى إيرنست جونز (1879 – 1958م)، وهو طبيب بريطاني ساعد في إدخال قواعد التحليل النفسي في الولايات المتحدة و بريطانيا وكندا.. كان صديقًا ومساندًا قويًا لفرويد، مطوّر التحليل النفسي ليكون أسلوبًا لمعالجة الأمراض العقلية، وتعد السيرة التي كتبها جونز (1953 – 1957م) عن حياة فرويد وعمله ـ وهي في ثلاثة مجلدات ـ من أوثق المراجع عن فرويد.
ولد جونز فيما يسمى الآن جاورتون بالقرب من سوانسي بويلز. ونال شهادة الطب من الكلية الجامعية بلندن عام 1900م، وعمل منذ ذلك الوقت في تطوير التحليل النفسي. وأسهمتْ جهوده فيما بعد في قبول نظريات فرويد من قِبَل الأطباء الغربيين والعلماء الآخرين.
ساعد جونز في تأسيس جمعية التحليل النفسي الأمريكية عام 1911م، والجمعية البريطانية للتحليل النفسي عام 1913م. وعمل محررًا لصحيفة التحليل النفسي العالمية، وكتب مقالات كثيرة تؤيد نظريته القائلة بأن التحليل النفسي يُعطي فهمًا أكثر للفن والأدب ولمجالات أخرى في الإبداع. (انظر: الموسوعة العربية العالمية)
([2]) يستخدم المعالجون النفسانيون أنواعا كثيرة من المعالجة النفسية، وأغلبها يقوم على مناقشات بين المريض والطبيب النفساني.. حيث يحاول الطبيب تعزيز ثقة المريض، ويساعده على أن يكون أكثر تقبلاً للحياة.. ويلتقي المريض والطبيب في جلسة علاج نفساني مرة أو مرتين في الأسبوع لعدة شهور، ويجوز أن تتوالى الجلسات أكثر أو أقل من ذلك.
وفي بعض الأحيان تشترك مجموعات من ثلاثة مرضى أو أكثر في علاج جماعي.. فاجتماعهم بالطبيب النفساني في مجموعة يساعد المرضى على فهم أنفسهم، وقد يشجع الطبيب المرضى على التعبير عن مشاكلهم في تمثيليات نفسانية.
وفي حالة الأطفال قد يستخدم الطبيب النفساني طريقة العلاج باللعب.. فعوضًا عن حديث الطفل عن مشاكله، فإنه يمثلها بأدوات اللعب واللهو.
والنوعان الأكثر استخدامًا للمعالجة النفسانية هما التحليل النفسي ومعالجة السلوك:
حيث يركز التحليل النفسي على الأفكار والأحاسيس اللاشعورية، ووفقًا لنظرية التحليل النفسي تكمن أسباب كثير من الأمراض العقلية في اللاوعي.. يزور المريض الطبيب النفساني ويتحدث عن كل ما يخطر على باله، ويساعد الطبيب المريض على فهم مشاكله بالكشف عن أسبابها. وقد يستمر المريض في العلاج التحليلي لعدة سنوات.
ويستخدم الطبيب عند معالجة السلوك أسلوب المكافأة والعقاب لتشجيع المرضى ليسلكوا سلوكًا أفضل.. والهدف من معالجة السلوك هو محاولة مساعدة المرضى على تغيير سلوكهم أكثر من محاولة مساعدتهم على فهم أسباب ذلك السلوك. (انظر: الموسوعة العربية العالمية)
([3]) دع القلق وابدأ الحياة: ص 301.
([4]) أشير به إلى (سهل بن سعد) الأنصاري الساعدي.. صحابي جليل، وكان اسمه حزنا فسماه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سهلا.. وهذا سر اختيارنا له في هذا المحل.
عاش سهل وطال عمره حتى أدرك الحجاج بن يوسف وامتحن معه.. حيث أرسل الحجاج سنة أربع وسبعين إلى سهل بن سعد وقال له: ما منعك من نصر أمير المؤمنين عثمان قال: قد فعلته قال: كذبت، ثم أمر به فختم في عنقه وختم أيضا في عنق أنس بن مالك حتى ورد عليه كتاب عبد الملك بن مروان فيه، وختم في يد جابر بن عبد الله يريد إذلالهم بذلك وأن يجتنبهم الناس ولا يسمعوا منهم.
توفي سهل سنة إحدى وتسعين وقد بلغ مائة سنة، ويقال: إنه آخر من بقي من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالمدينة.
وقد كان من شيعة أهل البيت في الشام، لقي قافلة سبايا كربلاء خارج باب دمشق، وتعجّب مما كان عليه الناس من فرح.. فتحدّث إلى سكينة وعرّفها بنفسه وسألها إن كانت لها حاجة.. فقالت له: قل لحامل الرأس أن يسير به أمام القافلة حتّى ينشغل الناس بالنظر إليه ولا ينظروا إلى وجوه بنات الرسالة، ففعل ذلك. (انظر: أسد الغابة، وموسوعة عاشوراء)
([5]) استفدنا المادة المذكورة هنا من فصل بعنوان (علم نفس قرآني) كتبه مصطفى محمود في بعض كتبه، بالتصرف الذي ألفناه في هذه السلسلة.
([6]) بعض الكلام الوارد هنا من [الإيمان والحياة] بتصرف.
([7]) هذا الكلام لابن القيم في كتابه (مدارج السالكين)
([8]) رواه مسلم.
([9]) رواه الطبراني.
([10]) رواه مسلم.
([11]) رواه الطبراني.
([12]) رواه البزار ومعناه عند أحمد والترمذي.
([13]) رواه أحمد ومسلم والترمذي.
([14]) رجعنا في هذا المطلب لمقال مهم بعنوان (المنهج الإسلامي في علاج الهزيمة النفسية)
([15]) ذكرنا في رسالة (النبي المعصوم) النواحي الإيجابية الكثيرة المرتبطة بما حصل في غزوة أحد.
([16]) رواه أحمد ومسلم وابن ماجة.