خامسا ـ المتثاقل

خامسا ـ المتثاقل

قلت: عرفت السر الرابع من أسرار الإنسان.. فما السر الخامس؟

قال: إنه السر الذي يشير إليه قوله تعالى :{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ (38)} (التوبة)، وقوله:{ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176)} (الأعراف)، وقوله:{ فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (169)} (الأعراف)

ويشير إليه قوله صلى الله عليه وآله وسلم 🙁 يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها)، فقال قائل: ومن قلّة نحن يومئذ؟ قال: (بل أنتم يومئذ كثير، ولكنّكم غثاء كغثاء السّيل، ولينزعنّ اللّه من صدور عدوّكم المهابة منكم، وليقذفنّ اللّه في قلوبكم الوهن)، فقال قائل: يا رسول اللّه، وما الوهن؟ قال: (حبّ الدّنيا وكراهية الموت)([1])

قلت: إن هذه النصوص المقدسة تخبر عن ضعف همة الإنسان وقصورها.

قال: أجل.. فالإنسان بحكم تركيبه الطيني يتثاقل إلى الأرض، ويهواها، وقد لا تخرج مطالبه في الحياة عن الغرق في دنسها.

قلت: فهو غير ملوم إذن بسبب ذلك؟

قال: اللوم ليس في ممارسة ما يتطلبه طينه من ممارسات.. ولكن اللوم على غرقه في أوحال الطين.. ألا ترى أننا لا نلوم من مشى في الأوحال إن اضطر إلى ذلك، ولكننا نلوم بشدة من راح يسبح فيها؟

قلت: فكيف يسبح الإنسان في الأوحال؟

قال: إذا أحب الأوحال، وأنس لها، ولم ير في الحياة غيرها، أو لم ير الحياة غيرها.

قلت: فكيف يتخلص من غرقه؟

قال: إن عاش الحياة دون أن يتدنس بأوحالها.

قلت: هل يمكن أن يحصل ذلك؟.. هل يمكن لمن يذوق الحلاوة أن لا تأسره في سجونها؟

قال: يمكن ذلك.. وقد رأيت من علم هذا السر ما علمت به أن للإنسان قدرة عالية على رفع همته عن جميع الأكوان، لا عن الأرض وحدها.. 

قلت: فحدثني عن ذلك.

قال: بعد أن من الله علي، فتعلمت من أسرار الحزم والشدة ما كنت قد ذكرته لك، سرت في تلك المدينة العجيبة التي فتح الله لي فيها من علوم الإنسان ما كان منغلقا.. فرأيت جمعا من الناس يتسابون بكل ما في ألسنتهم من بذاءة، وبكل ما في قلوبهم من وقاحة.. ثم لم يلبث السباب أن تحول إلى الخناجر، فراحت الدماء تسيل.. وكانت دماء كثيرة.

ثم جاءت الشرطة، وساقت من تشاء إلى سجونها ومعتقلاتها.. وجاء معها الممرضون والأطباء، فحملوا تلك الجثث المشوهة، وكأنهم يحملون أكواما من الطين.

أثر في ذلك المشهد تأثيرا كبيرا.. فقد رأيت الإنسان فيه لا يختلف عما أراه من بعوض وذباب وخنافس..

في ظلال تلك الآلام قيض الله لي من علمني أسرار التثاقل، وأسرار الترفع عنها.

قلت: من هو؟

قال: رجل من أهل الله كان اسمه (يوسف).. وقد آتاه الله من الجمال والوقار ما يأسر الأبصار.. وآتاه معها من العلم والحكمة ما يأسر البصائر.

ربت على كتفي في ذلك الحين، وقال: أتعرف هؤلاء؟

قلت: لا.. ولكني متألم ألما شديدا لما نزل بهم.

قال: هؤلاء هم إخواني.. وقد نزل بهم حبهم للأرض، وتثاقلهم إليها إلى ما رأيته.

قلت: عجبا.. أيمكن لمن هو في رقتك وصفائك أن يكون له إخوانا مثل هؤلاء؟

قال: ألم يكن ليوسف من الإخوة من كان يحمل تثاقل هؤلاء؟

قلت: بلى.. وقد قص القرآن الكريم علينا خبرهم.. لقد وصل بهم الأمر إلى الحد الذي عزموا فيه على قتل أخيهم.. قال تعالى :{ لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ (7) إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (8) اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ (9) قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (10)} (يوسف)

قال: لم يكن يوسف وحده في ذلك.. لقد سبقه أخ صالح كان ممتلئا إيمانا وسلاما، وقد كان له أخ ممتلئ حقدا وانتقاما..

قلت: أراك تومئ إلى ابني آدم.. أولئك الذين ورد ذكرهم في قوله تعالى:{ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27) لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (28) إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (29) فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (30) فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (31)} (المائدة)

قال: أجل.. فهذه الآيات كتلك الآيات التي تحدثت عن يوسف وإخوته.. إنها جميعا تشير إلى أن في الإنسان استعدادا متساويا للتثاقل وللترفع.. فالإخوة الذين يشتركون في الزمان والمكان والعرق يختلفون كل ذلك الاختلاف الذي ذكره القرآن.

قلت: لكأن الآيات تشير بذلك إلى خطأ من يتصورون أن الأخلاق تورث.

قال: أجل.. فالأخلاق وليدة الكسب، لا وليدة العرق.. ووليدة الهمة لا وليدة اللقمة..

قلت: اسمح لي أن أخبرك بأني مع احترامي الشديد لك أعتبرك مقصرا غاية التقصير.. فكيف تكون لك كل هذه الحكمة، ثم تقصر في توجيهها لأقرب الناس إليك؟

قال: ألم يكن لنوح u ولد قد غرق مع من غرق، وأبى أن يركب السفينة مع والده.

قلت: أجل.. وقد ذكر الله تعالى ذلك، فقال:{ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ (42) قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (43)} (هود)

قال: ألم يستعمل إبراهيم u كل وسائل اللطف مع أبيه ليحثه على سلوك سبيل الله؟

قلت: أجل.. ومع ذلك ظل والده يرفض أن يتبعه، بل كان يصر على أن يرجمه وينفيه من الأرض.. لقد ذكر الله ذلك، فقال :{ وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (41) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا (42) يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا (43) يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا (44) يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا (45) قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (46)} (مريم)

قال: فكيف تلومني في أمر لم يفلح الأنبياء في تحقيقه لمن يحبونه؟

قلت: صدقت.. فالهداية بيد الله لا بأيدينا.. لقد ذكر الله تعالى ذلك، فقال :{ إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (56)} (القصص)

ولكن مع ذلك، فإنك لا تزال ملوما.. فأولئك القديسون من أنبياء الله لم يقصروا في دعوة أهليهم إلى طريق الله.. ولذلك رفع عنهم العتاب.

قال: ما كان لورثة الرسل أن يقصروا في هذا.

قلت: أراك تشير إلى أنك قد تحدثت معهم في هذا.

قال: الحديث وحده لا يكفي.. فليس من السهل أن يرتفع الإنسان عن تثاقل الأرض بالحديث وحده.

قلت: فما فعلت؟

قال: لقد أسست مدرسة.. جلبت لها خيرة العلماء والأولياء.. وقد دعوت إخوتي إلى الانضمام لها، لكنهم رفضوا..

قلت: فهي مغلقة إذن..

قال: لا.. فإنه إن لم يدخلها إخوتي من أمي وأبي المباشرين.. فإن لي إخوة كثيرون من أبي وأمي غير المباشرين.

قلت: إخوانك في الإنسانية.

قال: أجل.. فأنا – كما أشعر بمسؤوليتي عن إخوتي المباشرين – أشعر بمسؤولتي عن جميع الإنسانية.

قلت: لقد ذكرت لي مدرستك.. ما اسمها؟.. وما التخصص الذي تتولاة؟

قال: لقد سميتها (مدرسة الحرية)

قلت: عجبا أتسميها بالاسم الذي يلهج به المتثاقلون إلى الأرض؟

قال: هم أصابوا الاسم وأخطأوا المسمى.. هم بحثوا عن الحرية في التثاقل، فلم يزدهم التثاقل إلى قيودا.

قلت: والحرية التي تنادي بها مدرستك؟

قال: الحرية التي تنادي بها مدرستي هي التحرر من كل قيود الأرض.. بل من كل القيود التي تصرف الإنسان عن إنسانيته.

قلت: فمدرستك تعلم الإنسان كيف يكسر تلك القيود التي تجذبه إلى الأرض؟

قال: أجل.. وبذلك تتحقق للإنسان حريته الحقيقية، فلا يمكن للمقيد أن ينعم بأي حرية.

قلت: فهل هي منقسمة إلى سبعة أقسام كسائر المدارس؟

قال: أجل.. فهلم بنا إليها.. فليس الخبر كالعيان.

1 ـ الدنيا

كان أول قسم من أقسام هذه المدرسة هو قسم (الدنيا)، وقد كتب على بابه قوله تعالى: { الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (51)} (الأعراف)

سألت ولي الله (يوسف) عن سر وضع الآية في باب القسم، فقال: ليقرأها كل من دخل هذا القسم.. فكل هذا القسم تفسير لها..

فالله تعالى يخبر فيها أن الذين تثاقلوا إلى الدنيا لن يلقوا من الله إلا الإهمال، ذلك أنهم باعوا ربهم في الدنيا بمتاع بخس حقير.. ولذلك يجازيهم الله جزاء وفاقا على صنيعهم.

كان أول من رأيت في مدخل القسم شيخ مهيب.. يبدو أنه قد أمضى عمرا طويلا في هذه الدنيا، وأنه قد خبر جميع شؤونها.. ولكن نظارة شابا مع ذلك لا تزال تطبعه بطابعها، وكأن جميع السنين بثقلها لم تستطع أن تؤثر فيه.

سألت ولي الله (يوسف) عنه، فقال لي: هذا رجل من أهل الله اسمه (نوح).. وهو كسميه نوح من المعمرين.. وقد رأيته مجتهدا مع أهل بلده داعيا لهم.. ولكنه مع طول دعوته لهم لم يقابلوه إلا بما قابل به قوم نوح نبيهم.. وقد أحضرته بعد أن رأيته قد يئس من قومه إلى هذه المدرسة ليكون شاهدا على الدنيا داعية إلى الترفع عنها.

دخلت المدرسة.. ولم ألبث حتى رأيت جموعا كثيرة تجتمع إلى نوح.. ولم يلبث حتى بدأ يكلمهم.. وكانت كلماته تنبع من بحر عميق من بحار الإيمان.. ومما لا أزال أذكره من حديثه قوله([2]): الحمد لله الذي عرف أولياءه غوائل الدنيا وآفاتها، وكشف لهم عن عيوبها وعوراتها حتى نظروا في شواهدها وآياتها، ووزنوا بحسناتها سيئاتها فعلموا أنه يزيد منكرها على معروفها، ولا يفي مرجوها بمخوفها، ولا يسلم طلوعها من كسوفها..

بعد أن بدأ حديثه بهذه الديباجة التفت إلى الحاضرين، وقال: لقد جئتكم اليوم بخمسة مفاتيح – بعدد الصلوات الخمس- من ملكها استطاع أن يترفع عن ثقل الدنيا، ويرفع همته إلى الآخرة.. لأنه لن يجد مطالبه العليا إلا في الآخرة.

قالوا: فهات المفتاح الأول؟

قال: المفتاح الأول أن تعلموا أن عمر الدنيا قصير، ومطالب الإنسان أعظم من أن تنحصر في عمرها القصير.. لقد ذكر الله تعالى ذلك، فقال :{ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ (55)} (الروم)، وقال :{ وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (45)} (يونس)، وقال :{ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا (46)} (النازعات)، وقال:{ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا (102) يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا (103) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا (104)} (طه)، وقال:{ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ (55) وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (56)} (الروم)، وقال :{ قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (112) قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ (113) قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (114)} (المؤمنون)

وإن شئتم أن تعرفوا حقيقة هذا، فاعلموا أن الأحوال التي يمر بها الإنسان ثلاثة: حالة لم يكن فيها شيئاً مذكورا.. وهي ما قبل وجوده إلى الأزل.. وحالة لا يكون فيها مشاهداً للدنيا، وهي ما بعد موته إلى الأبد.. وحالة متوسطة بين الأبد والأزل، وهي أيام الحياة في الدنيا..

فانظروا إلى مقدار طولها، وانسبوه إلى طرفي الأزل والأبد، لتعلموا أنه أقل من منزل قصير في سفر بعيد.. ولذلك ورد في الحديث قوله صلى الله عليه وآله وسلم 🙁 ما لى وللدنيا وما للدنيا وما لى والذى نفسى بيده ما مثلى ومثل الدنيا إلا كراكب سار فى يوم صائف فاستظل تحت شجرة ساعة من نهار ثم راح وتركها)([3])

وقد أشار المسيح u إلى هذا، فقال: (الدنيا قنطرة فاعبروها ولا تعمروها).. وهذه حكمة عظيمة فالحياة الدنيا معبر إلى الآخرة، والمهد هو الميل الأول على رأس القنطرة، واللحد هو الميل الآخر، وبينهما مسافة محدودة، فمن الناس من قطع نصف القنطرة، ومنهم من قطع ثلثها، ومنهم من قطع ثلثيها، ومنهم من لم يبق له إلا خطوة واحدة، وهو غافل عنها.. وكيفما كان فلا بد له من العبور، والبناء على القنطرة وتزيينها بأصناف الزينة وأنت عابر عليها غاية الجهل والخذلان.

قال أحد الحاضرين: صدقت.. لقد تأملت الدنيا، فوجدتها([4]) سريعة الفناء، قريبة الانقضاء، تعد بالبقاء ثم تخلف في الوفاء.. تنظر إليها فتراها ساكنة مستقرة، وهي سائرة سيراً عنيفاً ومرتحلة ارتحالاً سريعاً، ولكن الناظر إليها قد لا يحس بحركتها فيطمئن إليها، وإنما يحس عند انقضائها.

ومثالها الظل فإنه متحرك ساكن، متحرك في الحقيقة ساكن الظاهر، لا تدرك حركته بالبصر الظاهر، بل البصيرة الباطنة.

قال آخر: لقد ذكرت الدنيا عند بعضهم، فأنشد يقول:

أحلام نوم أو كظل زائل        إن اللبيب بمثلها لا يخدع

قال آخر: وكان الحسن بن علي يتمثل كثيراً، ويقول:

يا أهل لذات دنيا لا بقاء لها       إن اغتراراً بظل زائل حمق

قال آخر: وذكروا أن أعرابياً نزل بقوم فقدموا إليه طعاماً فأكل، ثم قام إلى ظل خيمة لهم فنام هناك فاقتلعوا الخيمة فأصابته الشمس فانتبه، فقام وهو يقول:

ألا إنما الدنيا كظل ثنية       ولا بد يوماً أن ظلك زائل

قالوا: عرفنا الأول، ووعيناه.. فهات الثاني؟

قال: المفتاح الثاني هو أن تعلموا أن متاع الدنيا قليل، ومطالب الإنسان أكثر من أن يكفيها متاعها القليل.. لقد ذكر الله تعالى ذلك، فقال :{ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا (77)} (النساء)، وقال:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ (38)} (التوبة)، وقال مخبرا عن مؤمن آل فرعون:{ وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ (38) يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ (39)} (غافر)

وفي الحديث قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم 🙁 لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء)([5]

وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (ما الدنيا في الآخرة إلا كما يجعل أحدكم أصبعه في اليم، فلينظر بماذا ترجع)([6]

وعن جابر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مر بسوق والناس كنفته، فمر بجدي أسك ميت، فتناوله، فأخذ بإذنه فقال: (أيكم يحب أن هذا له بدرهم؟)، فقالوا: ما نحب أنه لنا بشيء، وما نصنع به؟ قال: (أتحبون أنه لكم؟)، فقالوا: والله لو كان حياً عيباً فيه؛ لأنه أسكُ، فكيف وهو ميت؟ فقال: (والله للدنيا أهون على الله من هذا عليكم)([7])

وقال بعض الحكماء وهو يقارن بين الدنيا و الآخرة: (يحسب الجاهل الشيء الذي هو لا شيء شيئا، والشيء الذي هو الشيء لا شيء، ومن لا يترك الشيء الذي هو لا شيء لا ينال الشيء الذي هو الشيء، ومن لا يعرف الشيء الذي هو الشيء لا يترك الشيء الذي هو لا شيء)([8])  

قالوا: عرفنا الثاني، ووعيناه.. فهات الثالث.

قال: المفتاح الثالث هو أن تعلموا أن الدنيا دار غرور، وبذلك فإن من تثاقل إليها لن يظفر إلا بالسراب.. لقد ذكر الله تعالى ذلك، فقال :{ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (185)} (آل عمران)، وقال :{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (33)} (لقمان)، وقال :{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (5)} (فاطر)، وقال :{ اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (20)} (الحديد)

قال أحدهم: لقد قال الشاعر يصور ذلك:

وإن امرأ دنياه أكبر همه         لمستمسك منها بحبل غرور

قال آخر: وقال يونس بن عبيد: (ما شبهت نفسي في الدنيا إلا كرجل نام فرأى في منامه ما يكره وما يحب فبينما هو كذلك إذ انتبه، فكذلك الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا، فإذا ليس بأيديهم شيء مما ركنوا إليه وفرحوا به)

قال آخر: وقيل لبعض الحكماء. أي شيء أشبه بالدنيا؟ قال: أحلام النائم.

قال آخر: لقد حدثني الثقاة أن عيسى u كوشف بالدنيا فرآها في صورة عجوز هتماء عليها من كل زينة، فقال لها: كم تزوجت؟ قالت: لا أحصيهم، قال: فكلهم مات عنك، أم كلهم طلقك؟ قالت: بل كلهم قتلت، فقال عيسى u: (بؤساً لأزواجك الباقين، كيف لا يعتبرون بأزواجك الماضين! كيف تهلكينهم واحداً بعد واحد ولا يكونون منك على حذر!)

قال آخر: أما أنا، فقد حدثني بعض الصالحين قال: رأيت في المنام عجوزاً كبيرة متعصبة الجلد عليها من كل زينة الدنيا والناس عكوف عليها معجبون ينظرون إليها، فجئت ونظرت وتعجبت من نظرهم إليها وإقبالهم عليها، فقلت لها: ويلك من أنت؟ قالت: أو ما تعرفني؟ قلت: لا أدري! من أنت؟ قالت: أنا الدنيا، قلت: أعوذ بالله من شرك! قالت: إن أحببت أن تعاذ من شري فابغض الدرهم.

قال آخر: أما أنا، فقد حدثني بعض الورثة، فقال: رأيت الدنيا في النوم عجوزاً مشوهة شمطاء تصفق بيديها وخلفها خلق يتبعونها ويصفقون ويرقصون، فلما كانت بحذائي أقبلت علي فقالت: لو ظفرت بك لصنعت بك مثل ما صنعت بهؤلاء، ثم بكى أبو بكر وقال: رأيت هذا قبل أن أقدم إلى بغداد.

قال آخر: أما أنا، فقد حدثني من امتلأ صلاحا وتقوى وورعا، فقال: يؤتى بالدنيا يوم القيامة في صورة عجوز شمطاء زرقاء، أنيابها بادية ومشوه خلقها، فتشرف على الخلائق فيقال لهم أتعرفون هذه؟ فيقولون: نعوذ بالله من معرفة هذه! فيقال: هذه الدنيا التي تناحرتم عليها، بها تقاطعتم الأرحام، وبها تحاسدتم وتباغضتم واغتررتم، ثم يقذف بها في جهنم فتنادي: أي رب أين أتباعي وأشياعي؟ فيقول الله عز وجل: ألحقوا بها أتباعها وأشياعها.

قال آخر: أما أنا، فقد حدثني مرشدي في الطريق إلى الله، فقال: بلغني أن رجلاً عرج بروحه فإذا امرأة على قارعة الطريق عليها من كل زينة من الحلي والثياب، وإذا لا يمر بها أحد إلا جرحته، فإذا هي أدبرت كانت أحسن شيء رآه الناس، وإذا هي أقبلت كانت أقبح شيء رآه الناس، عجوز شمطاء زرقاء عمشاء، قال: فقلت: أعوذ بالله منك! قالت: لا والله. لا يعيذنك الله مني حتى تبغض الدرهم! قال: فقلت من أنت؟ قالت: أنا الدنيا.

قالوا: عرفنا الثالث، ووعيناه.. فهات الرابع.

قال: الرابع هو أن تعلموا أن الدنيا دار ضلال وطغيان لمن يفتن بها، وبذلك فإنها تجرهم إلى سخط الله وغضبه وشديد عقابه.. لقد ذكر الله ذلك، فأخبر عن تأثير الدنيا في المفتونين بها، فقال :{ قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104) أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا (105)} (الكهف)، وقال :{ فَأَمَّا مَنْ طَغَى (37) وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى (39)} (النازعات)

وفي الحديث قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (من كانت الآخرة همه جعل الله غناه في قلبه، وجمع له شمله، وأتته الدنيا وهي راغمة، ومن كانت الدنيا همه، جعل الله فقره بين عينيه، وفرّق عليه شمله، ولم يأته من الدنيا إلا ما قدر له)([9])

قال أحدهم: صدقت، فأوائل الدنيا تبدو هينة لينة يظن الخائض فيها أن حلاوة خفضها كحلاوة الخوض فيها وهيهات! فإن الخوض في الدنيا سهل، والخروج منها مع السلامة شديد.

قال آخر: صدقت.. وقد كتب الإمام علي إلى سلمان بمثال للدنيا في لين موردها وخشونة مصدرها، فقال: (مثل الدنيا مثل الحية لين مسها ويقتل سمها، فأعرض عما يعجبك منها لقلة ما يصحبك منها، وضع عنك همومها بما أيقنت من فراقها، وكن أسر ما تكون فيها أحذر ما تكون لها، فإن صاحبها كلما اطمأن منها إلى سرور أشخصه عنه مكروه والسلام)

قال آخر: وقد ضرب المسيح مثالا على هذا، فقال: (بحق أقول لكم، كما ينظر المريض إلى الطعام فلا يلتذ به من شدة الوجع كذلك صاحب الدنيا لا يلتذ بالعبادة ولا يجد حلاوتها مع ما يجد من حب الدنيا، وبحق أقول لكم، إن الدابة إذا لم تركب وتمتهن تصعب ويتغير خلقها كذلك القلوب إذا لم ترقق بذكر الموت ونصب العبادة تقسو وتغلظ، وبحق أقول لكم، إن الزق ما لم ينخرق أو يقحل يوشك أن يكون وعاء للعسل كذلك القلوب ما لم تخرقها الشهوات أو يدنسها الطمع أو يقسيها النعيم فسوف تكون أوعية للحكمة)

قال آخر: وقد ضرب المسيح مثلا لتأدية علائق الدنيا بعضها إلى بعض حتى الهلاك، فقال:(مثل طالب الدنيا مثل شارب ماء البحر كلما شرب ازداد عطشاً حتى يقتله)

قال آخر: وقد ضرب الغزالي مثالا لمخالفة آخر الدنيا أولها، ولنضارة أوائلها وخبث عواقبها، فقال: (اعلم أن شهوات الدنيا في القلب لذيذة كشهوات الأطعمة في المعدة، وسيجد العبد عند الموت لشهوات الدنيا في قلبه من الكراهة والنتن والقبح ما يده للأطعمة اللذيذة إذا بلغت في المعدة غايتها، وكما أن الطعام كلما كان ألذ طعماً وأكثر دسماً وأظهر حلاوة كان رجيعه أقذر وأشد نتناً، فكذلك كل شهوة في القلب هي أشهى وألذ وأقوى، فنتنها وكراهتها والتأذي بها عند الموت أشد بل هي في الدنيا مشاهدة، فإن من نبهث داره وأخذ ماله وولده، فتكون مصيبته وألمه وتفجعه في كل ما فقد بقدر لذته به وحبه له وحرصه عليه، فكل ما كان عند الوجود أشهى عنده وألذ فهو عند الفقد أدهى وأمر، ولا معنى للموت إلا فقد ما في الدنيا)([10])

قالوا: عرفنا الرابع، ووعيناه.. فهات الخامس.

قال: الخامس هي أن الدنيا دار خزي ولعنة للمعاندين.. لقد ذكر الله ذلك، فقال :{ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (25) فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (26)} (الزمر)، وقال :{ وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ (42)} (القصص)

وقد ضرب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مثلا لما يحصل لأهل الدنيا من خزي ولعنة بسبب تثاقلهم إليها، فقال: (إنما مثلي ومثلكم ومثل الدنيا كمثل قوم سلكوا مفازة غبراء، حتى إذا لم يدروا، ما سلكوا منها أكثر أو ما بقي؟ أنفدوا الزاد وخسروا الظهر وبقوا بين ظهراني المفازة ولا زاد ولا حمولة فأيقنوا بالهلكة، فبينما هم كذلك إذ خرج عليهم رجل في حلة تقطر رأسه، فقالوا: هذا قريب عهد بريف وما جاءكم هذا إلا من قريب، فلما انتهى إليهم قال: يا هؤلاء، فقالوا: يا هذا! فقال علام أنتم؟ فقالوا: على ما ترى، فقال: أرأيتم إن هديتكم إلى ماء رواء ورياض خضر ما تعملون؟ قالوا: لا نعصيك شيئاً، قال: عهودكم مواثيقكم بالله، فأعطوه عهودهم ومواثيقهم بالله لا يعصونه شيئاً، قال: فأوردهم ماء رواء ورياضاً خضراً فمكث فيهم ما شاء الله ثم قال: يا هؤلاء! قالوا: يا هذا! قال: الرحيل! قالوا: إلى أين؟ قال: إلى ماء ليس كمائكم وإلى رياض ليست كرياضكم، فقال أكثرهم: والله ما وجدنا هذا حتى ظننا أنا لن نجده وما نصنع بعيش خير من هذا؟ وقالت طائفة – وهم أقلهم – ألم تعطوا هذا الرجل عهودكم ومواثيقكم بالله أن لا تعصوه شيئاً وقد صدقكم في أول حديثه فوالله ليصدقنكم في آخره؟ فراح فيمن اتبعه وتخلف بقيتهم فبدرهم عدو فأصبحوا بين أسير وقتيل)([11])

قال بعضهم: لقد ذكرني هذا الحديث بمثال سمعته من بعض العلماء ضربه لعاقبة اشتغال أهل الدنيا بنعيم الدنيا وغفلتهم عن الآخرة وخسرانهم العظيم بسببها، فذكر أن مثل أهل الدنيا في غفلتهم مثل قوم ركبوا سفينة، فانتهت بهم إلى جزيرة، فأمرهم الملاح بالخروج إلى قضاء الحاجة وحذرهم المقام وخوفهم مرور السفينة واستعجالها، فتفرقوا في نواحي الجزيرة:

فقضى بعضهم حاجته، وبادر إلى السفينة فصادف المكان خالياً فأخذ أوسع الأماكن وألينها وأفقها لمراده.

وبعضهم توقف في الجزيرة ينظر إلى أنوارها وأزهارها العجيبة وغياضها الملتفة ونغمات طيورها الطيبة وألحانها الموزونة الغريبة وصار يلحظ من بريتها أحجارها وجواهرها ومعادنها المختلفة الألوان والأشكال الحسنة المنظر العجيبة النقوش السالبة أعين الناظرين بحسن زبرجدها وعجائب صورها، ثم تنبه لخطر فوات السفينة فرجع إليها فلم يصادف إلا مكاناً ضيقاً حرجاً فاستقر فيه.

وبعضهم أكب على تلك الأصداف والأحجار وأعجبه حسنها ولم تسمح نفسه بإهمالها فاستصحب منها جملة، فلم يجد في السفينة إلا مكاناً ضيقاً وزاده ما حمله من الحجارة ضيقاً وصار ثقيلاً عليه ووبالاً، فندم على أخذه ولم يقدر على رميه ولم يجد مكاناً لوضعه، فحمله في السفينة على عنقه وهو متأسف على أخذه وليس ينفعه التأسف.

وبعضهم تولج الغياض ونسي المركب وبعد في متفرجه ومتنزهه منه حتى لم يبلغه نداء الملاح لاشتغاله بأكل تلك الثمار واستشمام تلك الأنوار والتفرج بين تلك الأشجار، وهو مع ذلك خائف على نفسه من السباع وغير خال من السقطات والنكبات، ولا منفك عن شوك ينشب بثيابه وغضن يجرح بدنه وشوكة تدخل في رجله وصوت هائل يفزع منه وعوسج يخرق ثيابه ويهتك عورته ويمنعه عن الانصراف لو أراده، فلما بلغه نداء أهل السفينة انصرف مثقلاً بما معه ولم يجد في المركب موضعاً فبقي في الشط حتى مات جوعاً.

وبعضهم لم يبلغه النداء وسارت السفينة، فمنهم من افترسته السباع، ومنهم من تاه فهام على وجهه حتى هلك، ومنهم من مات في الأوحال، ومنهم من نهشته الحيات، فتفرقوا كالجيف المنتنة.

وأما من وصل إلى المركب بثقل ما أخذه من الأزهار والأحجار، فقد استرقته وشغله الحزن بحفظها والخوف من فوتها وقد ضيقت عليه مكانه، فلم يلبث أن ذبلت تلك الأزهار وكمدت تلك الألوان والأحجار فظهر نتن رائحتها فصارت مع كونها مضيقة عليه مؤذية له بنتنها ووحشتها، فلم يجد حيلة إلا أن ألقاها في البحر هرباً منها، وقد أثر فيه ما أكل منها فلم ينته إلى الوطن إلا بعد أن ظهرت عليه الأسقام بتلك الروائح فبلغ سقيماً مدبراً.

ومن رجع قريباً ما فاته إلا سعة المحل فتأدى بضيق المكان مدة، ولكن لما وصل إلى الوطن استراح.

ومن رجع أولاً وجد المكان الأوسع ووصل إلى الوطن سالماً.

فهذا مثال أهل الدنيا في اشتغالهم بحظوظهم العاجلة ونسيانهم موردهم ومصدرهم وغفلتهم عن عاقبة أمورهم.

 وما أقبح من يزعم أنه بصير عاقل أن تغره أحجار الأرض وهي الذهب والفضة وهشيم النبت وهي زينة الدنيا، وشيء من ذلك لا يصبحه عند الموت، بل يصير كلاً ووبالاً عليه وهو في الحال شاغل له بالحزن والخوف عليه. وهذه حال الخلق كلهم إلا من عصمه الله عز وجل.

قال آخر: وقد ضرب آخر مثلا لتنعم الناس بالدنيا ثم تفجعهم على فراقها، فذكر أن مثل الناس فيما أعطوا من الدنيا مثل رجل هيأ داراً وزينها، وهو يدعو إلى داره على الترتيب قوماً، واحداً بعد واحد، فدخل واحد داره فقدم إليه طبق ذهب عليه بخور ورياحين ليشمه ويتركه لمن يلحقه، لا ليتملكه ويأخذه، فجهل رسمه وظن أنه قد وهب ذلك فتعلق به قلبه لما ظن أنه له، فلما استرجع منه ضجر وتفجع، ومن كان عالماً برسمه انتفع به وشكره ورده بطيب قلب وانشراح صدر، وكذلك من عرف سنة الله في الدنيا علم أنها دار ضيافة سبلت على المجتازين لا على المقيمين ليتزودوا منها وينتفعوا بما فيها كما ينتفع المسافرون بالعواري، ولا يصرفون إليها كل قلوبهم حتى تعظم مصيبتهم عند فراها.

***

لست أدري كيف ثارت في نزعة الجدل، فرحت أقطع حديثهم بقولي: ولكن ما تقولون.. ألم تسمعوا قوله تعالى وهو يجمع لعباده المؤمنين بين ثواب الدنيا وثواب الآخرة، لقد قال :{ فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (148)} (آل عمران)

بل إنه يذكر النماذج الرفيعة من أوليائه وأصفيائه الذين رزقوا من الحظوظ مالم يرزقه أهل الدنيا أنفسهم، ومنها حظ الجاه الذي وهب للمسيح u، قال تعالى :{ إِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (45)} (آل عمران)

ومنها نموذج إبراهيم u الذي جمع له بين الحسنتين حسنة الدنيا والآخرة، قال تعالى: { وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (122)} (النحل)

وقد تأملت القرآن الكريم، فوجدت أن هذه النعم والحظوظ التي من الله بها على أصفيائه ليست خاصة بهم، بل هي قانون من قوانين الله وسنة من سننه، قال تعالى :{ مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعاً بَصِيراً (134)} (النساء)

وكأن هذه الآية تخطاب القاصرين الذين ينظرون بعين واحدة إلى الأشياء، فيتصورون أن إقبالهم على الدين يحول بينهم وبين الإقبال على الدنيا، أو أن رغبتهم في الآخرة تحول بينهم وبين زينة الدنيا، ولهذا يستنكر الله تعالى أن تحرم الطيبات، ويعتبر أنها من منن الله على جميع البشر بما فيهم المؤمنون، وأنها خالصة لهم في الآخرة، قال تعالى :{ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ(32)} (الأعراف)

وذكر الله من أدعية المؤمنين قولهم :{.. رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ(201)} (البقرة)، وقولهم :{ وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنَا يُؤْمِنُونَ(156)} (الأعراف)، وقوله عن يوسف u :{ رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ(101)} (يوسف)

وهكذا وردت آيات كثيرة في القرآن الكريم تجمع بين حسنتي الدنيا والآخرة، قال تعالى: { وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْراً لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ(30)} (النحل)، وقال

بعد أن أنهيت حديثي ابتسم نوح، وقال: صدقت يا بني.. فما أجمل ما عقبت به.. وما كنا لنرده وقد نطق به القرآن، بل نطقت به كل الحقائق.. فقد أخبر الله أنه يعجل ثواب المؤمنين في الدنيا قبل الآخرة، قال تعالى :{ وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ(41)} (النحل) 

ولكن الذي نريده من حديثنا، وهو ما أراده القرآن الكريم، وأراده جميع الأنبياء والأولياء، وهو ذم الركون إلى الدنيا والتثاقل إليها.. فالدنيا التي اجتمع كل أولئك الشهود على ذمها ليست دنيا الصالحين، وإنما هي دنيا أهل الهمم الدنيا، الهمم التي تقصر نظرها على نصيبها المحدود غافلة عن نصيبها غير المحدود.

هي دنيا الذين اشتغلوا بما رأو من عاجل النعيم عن آجله، فانهمكوا ينتهزون فرصة العمر في استيعاب ما استطاعت لهم قواهم من أصناف اللذات.

والنصوص المقدسة لا تعيب على هؤلاء ما انهمكوا فيه من أصناف النعيم، بل تعيب عليهم اشتغال أنفسهم وهممهم به عن التدبر فيما بعده.. قال تعالى :{ وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ(29)} (الأنعام)، وقال :{ أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ(86)} (البقرة)، وقال:{ فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ(200)} (البقرة)، وقال :{ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآياتِنَا يَجْحَدُونَ(51)} (الأعراف)، وقال :{ الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ(3)} (إبراهيم)، وقال :{ إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ(37)} (المؤمنون)، وقال :{ وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ(77)} (القصص)، وقال :{ بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16)} (الأعلى)، وقال :{ وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا(38)} (النازعـات)

ولهذا عاب الله على المؤمنين تثاقلهم إلى الدنيا في بعض الأمور، وعاتبهم على ذلك، فقال: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ(67)} (الأنفال)، وقال :{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ(38)} (التوبة)، وقال :{ وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً(28)} (الكهف)

ولهذا يجمع الله تعالى بين همة المؤمنين الذين ترقت هممهم فلم تقف مع زينة الحياة الدنيا، ولم تحبس نفسها في قيودها مع همة الكافرين التي باعت نفسها لأول ما لاح لها من مظاهر الزينة، قال تعالى :{ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ(212)} (البقرة)

وفي هذه الآية تصوير بديع لسخرية الكافرين الذين استغرقوا في حب الدنيا، وعبادتها، بل فنوا فيها عما سواها من المؤمنين الذين تعاملوا مع الدنيا بعقولهم لا بشهواتهم، وبربهم لا بأنفسهم، وبدينهم لا بأهوائهم.

وإلى هؤلاء يتوجه شهود نعي الدنيا وذمها.. وبسبب هؤلاء ذمت الدنيا ولعنت، وشهد الشهود على نعيها.

وإلى هذا وردت الإشارة بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا تَسُبُّوا الدنيا، فنِعمَت مَطيّةُ المؤمن، فعليها يَبلُغ الخيرَ وبها ينجو من الشرّ. إنّه إذا قال العبد: لَعَن اللهُ الدنيا، قالت الدنيا: لَعَن اللهُ أعصانا لربِّه!)([12])

وسمع الإمام عليّ رجلاً يذمّ الدنيا، فقال لهـ: أيُّها الذامُّ للدنيا المغترُّ بغُرورها المخدوعُ بأباطيلها، أتغترّ بالدنيا ثمّ تَذُمّها ؟! أنت المتجرّم عليها أم هي المتجرّمة عليك ؟! متى استَهوَتك أم متى غَرَّتك ؟!… إنّ الدنيا دارُ صِدقٍ لمَن صَدَقَها، ودار عافيةٍ لمَن فَهِم عنها، ودار غنىً لمَن تَزوَّد منها)([13])

وقال الإمام الهادي: (الدنيا سوق، رَبِح فيها قومٌ وخَسِر آخَرون)([14])

***

بقيت مدة في هذا القسم أستفيد من نوح علوم الترفع عن الدنيا.. وعندما أيقنت بأن الدنيا أحقر من أن أبيع بسببها آخرتي طلب مني، كما طلب من جمع معي فقهوا ما فقهت أن نسير إلى قسم آخر من أقسام تلك المدرسة([15]).

2 ـ المال

بعد أن فتح الله علي، فتعلمت أسرار الترفع عن ثقل الدنيا سرت إلى القسم الثاني، وكان خاصا بالترفع عن ثقل المال، وقد أخبرني ولي الله (يوسف الصديق) أن شيخ هذا القسم ولي من أولياء الله يقال له (شعيب)، وأنه تعلم أسرار الترفع عن المال من نبي من أنبياء الله اسمه شعيب u، ذلك النبي الكريم الذي قص الله علينا خبره مع قومه، فقال :{ وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (84) وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (85) بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (86)} (هود)

وأخبرنا عن مواجهة قومه له، ورده عليهم بأفصح خطاب، فقال :{ قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (87) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (88) وَيَا قَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ (89) وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ (90) قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ (91) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (92) وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ (93)} (هود)

وأخبرنا عن  الحال التي آلوا إليها بسبب مخالفته، فقال :{ وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (94) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا بُعْدًا لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ (95)} (هود)

وقد صادف دخولنا لهذا القسم المكتظ بالأغنياء وأصحاب الأموال قراءة شعيب لقوله تعالى :{ وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (1) الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ (2) يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ (3) كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (4) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ (5) نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ (6) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (7) إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (8) فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ (9)} (الهمزة)

وبعد أن انتهى من قراءتها سأله بعضهم عنها، فقال([16]):هذه السورة تمثل نموذجاً من الناس الذين يطغى عليهم الغنى، ويرتفع بنظرتهم إلى نفوسهم، حتى يخيّل إليهم أنهم في الدرجة العليا التي لا يبلغها أحد، فينظرون إلى مَنْ دونهم من الفقراء نظرة استعلاءٍ، ويكثرون من الطعن فيهم بالكلمات السيئة التي تنال منهم، وتؤذيهم وتسيء إلى كرامتهم وأعراضهم، بإظهار عيوبهم والإكثار من سبّهم، ويرون أن ذلك من حقوقهم الطبقية في ما تفرضه من سحق نفسيتهم وإذلال مواقعهم.

وهذه السورة الكريم تبين حقيقة ما سيؤول إليه مصيرهم.. فقد أنذرهم الله بالويل، وعرّفهم بأن المال لن يمنحهم خلوداً في الحياة، ولن يمنع عنهم الموت، فسيموتون كما يموت الناس، وستتحطّم كل هذه الكبرياء في نار جهنّم التي يُنبذون فيها نبذ الكلمات المهملة، وسيحترقون بها في ظاهر أجسادهم، باطنهم، وسيُربطون بالعمد الممدّدة، وستطبق عليهم فلا تفتح لهم ليخرجوا منها، لأنهم سيخلدون فيها بالعذاب، بدلاً مما كانوا يأملونه من الخلود في النعيم.

 بعد أن انتهى من حديثه هذا سأله بعضهم، فقال: فالسورة الكريمة تعتبر المال السبب الأكبر في ذلك الانهيار النفسي الذي أدى بصاحبه الهمزة اللمزة إلى ذلك المصير الخطير الذي تقشعر منه النفوس؟

قال شعيب: أجل.. فالقرآن الكريم يقدّم هذه الصورة الأخروية للمصير الذي يلقاه هؤلاء، ليرتدع الناس عن الأخذ بما أخذوا به في سلوكهم العملي الاستكباري على أساس المال الذي يجمعونه ويعدِّدونه، وليعرفوا أن المال لا يمثّل قيمةً إنسانية، بل هو مجرد حاجة دنيوية يحصلون عليها من أجل تلبية حاجاتهم الغذائية والسكنية والكسائية وغير ذلك، فلا يمنح الإنسان ارتفاعاً في حجمه الإنساني، ولا يزيد في عمله ووعيه وانفتاحه على الآفاق الرحبة في الحياة، إلاّ إذا استعمله في الغايات الكبيرة الإنسانية التي تتّصل برعاية المحرومين وإعانتهم على سدّ حاجاتهم الطبيعية.

قال آخر: فأنت ترى أن كل ما ذكر في السورة يرتبط بعضه ببعض.

قال شعيب: أجل.. فالقرآن الكريم كتاب لا يجمع بين القضايا إلا لمناسبة بينها.. وقد تأملته، فوجدته في مناسبات عديدة يشير تصريحا أو تلميحا إلى أن للمال تأثيره الخطير في انتكاسة النفس.

اسمعوا إليه، وهو يحدثنا عن ذلك الذي تثاقل إلى الأرض، وأنسته أمواله تدبر القرآن، والتعرف على الله من خلالها.. قال تعالى :{  ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا (12) وَبَنِينَ شُهُودًا (13) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا (14) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15) كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا (16) سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا (17) إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20) ثُمَّ نَظَرَ (21) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (22) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23) فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ (25) سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ (27) لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ (28)} (المدثر)

انظروا كيف حال حب المال دون هذا الرجل ومعرفة ربه، والتشرف بصحبة نبيه.

والأمر لا يقتصر على هذا، بل إنه يعم حتى أولئك الذين شرفوا بدراسة كتب الله المقدسة، وتولي رعايتها وحفظها.. فقد أعماهم حب المال عن كونها كلمات الله المقدسة.. فراحوا يعبثون بها كما تشاء لهم أهواؤهم، قال تعالى :{ :{ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (79)} (البقرة)، وقال :{ إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (174) أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (175)} (البقرة)، وقال :{ إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (77)} (آل عمران)

ولم يكتفوا بهذا.. بل كانوا يأكلون أموال الناس بطرق مختلفة كلها باطل وزور وضلال، قال تعالى:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (34) يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (35)} (التوبة)

قال آخر: فما الذي مكن حب المال من قلوب هؤلاء.. ولم صاروا عاشقين ولهين للمال؟

قال شعيب([17]): لقد تأملت ذلك، وبحثت فيه فرأيت أن لحب المال منبعان كلاهما يملأ القلب بالوله بالمال.

قال الرجل: فما أولهما؟

قال شعيب: أولهما حب الشهوات التي لا وصول إليها إلا بالمال مع طول الأمل، فإن الإنسان لو علم أنه يموت بعد يوم ربما كان لا يبخل بما له، إذ القدر الذي يحتاج إليه في يوم أو في شهر أو في سنة قريب، وإن كان قصير الأمل ولكن كان له أولاد أقام الولد مقام طول الأمل، فإنه يقدر بقاءهم كبقاء نفسه فيمسك لأجلهم، ولذلك قال صلى الله عليه وآله وسلم: (الولد مبخلة مجبنة مجهلة)([18])، فإذا انضاف إلى ذلك خوف الفقر وقلة الثقة بمجيء الرزق قوي تمسكه بالمال لا محالة.

قال الرجل: عرفت الأول، فما الثاني؟

قال شعيب: الثاني، أن يحب عين المال؛ فمن الناس من معه ما يكفيه لبقية عمره إذا اقتصر على ما جرت به عادته بنفقته، بل يزيد على ذلك آلافا مؤلفة، وهو شيخ بلا ولد، ومعه أموال كثيرة، ولا تسمح نفسه بإخراج الزكاة، بل قد لا تسمح نفسه بمداواة نفسه عند المرض، بل صار محباً للدنانير عاشقاً لها يلتذ بوجودها في يده وبقدرته عليها، فيكنزها تحت الأرض وهو يعلم أنه يموت فتضيع أو يأخذها أعداؤه، ومع هذا لا تسمح نفسه بأن يأكل أو يتصدق منها بحبة واحدة.

وهذا مرض للقلب، علاجه عسير لا سيما في كبر السن، بل هو مرض مزمن لا يرجى علاجه.. ومثال صاحبه: مثال رجل عشق شخصاً فأحب رسوله لنفسه ثم نسي محبوبه واشتغل برسوله.. فالدنانير رسول يبلغ إلى الحاجات فصارت محبوبة لذلك، لأن الموصل إلى اللذيذ لذيذ، ثم قد تنسى الحاجات ويصير الذهب عنده كأنه محبوب في نفسه وهو غاية الضلال، بل من رأى بينه وبين الحجر فرقاً فهو جاهل إلا من حيث قضاء حاجته به، فالفاضل عن قدر حاجته والحجر بمثابة واحدة.

قال آخر: عرفنا المنابع التي ينبع منها حب المال.. فما السد الذي يحمينا من شر مياهه المتعفنة؟

قال شعيب: أنتم تعلمون أن علاج كل علة بمضادة سببها.. فلذلك يعالج حب الشهوات بالقناعة باليسير وبالصبر، ويعالج طول الأمل بكثرة ذكر الموت والنظر في موت الأقران وطول تعبهم في جمع المال وضياعه بعدهم، ويعالج التفات القلب إلى الولد بأن خالقه خلق معه رزقه، وكم من ولد ولم يرث من أبيه مالاً وحاله أحسن ممن ورث؟ وبأن يعلم أنه يجمع المال لولده يريد أن يترك ولده بخير وينقلب هو إلى شر، وأن ولده إن كان تقياً صالحاً فالله كافيه، وإن كان فاسقاً فيستعين بماله على المعصية وترجع مظلمته إليه.

وقد روي في هذا أن بعضهم دخل على رجل يعوده في مرضه، فرآه يصوّب بصره في صندوق في بيته ويصعّده، ثمّ قال: يا فلان، ما تقول في مائة ألف في هذا الصّندوق، لم أؤدّ منها زكاة، ولم أصل منها رحما؟ قال: ثكلتك أمّك، ولمن كنت تجمعها؟ قال: لروعة الزّمان، وجفوة السّلطان، ومكاثرة العشيرة. ثمّ مات، فشهده الرجل، فلمّا فرغ من دفنه. قال: انظروا إلى هذا المسكين، أتاه شيطانه فحذّره روعة زمانه، وجفوة سلطانه، ومكاثرة عشيرته. عمّا رزقه اللّه إيّاه وغمره فيه، انظروا كيف خرج منها مسلوبا محروبا. ثمّ التفت إلى الوارث فقال: (أيّها الوارث لا تخدعنّ كما خدع صويحبك بالأمس، أتاك هذا المال حلالا فلا يكوننّ عليك وبالا، أتاك عفوا صفوا ممّن كان له جموعا منوعا، من باطل جمعه، ومن حقّ منعه، قطع فيه لجج البحار، ومفاوز القفار، لم تكدح فيه بيمين، ولم يعرق لك فيه جبين. إنّ يوم القيامة يوم ذو حسرات، وإنّ من أعظم الحسرات غدا أن ترى مالك في ميزان غيرك، فيالها عثرة لا تقال، وتوبة لا تنال)

قال آخر: فهل من علاج آخر غير هذا؟

قال شعيب: أجل.. يعالج نفسه بما ورد في الأخبار من مذمة كنز المال، ومنع الحقوق الواجبة فيه..

ومن ذلك ما ورد في الحديث من قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (ما من صاحب إبل لا يفعل فيها حقّها إلّا جاءت يوم القيامة أكثر ما كانت قطّ وقعد لها بقاع قرقر، تستنّ عليه بقوائمها وأخفافها، ولا صاحب بقر لا يفعل فيها حقّها، إلّا جاءت يوم القيامة أكثر ما كانت. وقعد لها بقاع قرقر. تنطحه بقرونها وتطؤه بقوائمها. ولا صاحب غنم لا يفعل فيها حقّها. إلّا جاءت يوم القيامة أكثر ما كانت. وقعد لها بقاع قرقر. تنطحه بقرونها وتطؤه بأظلافها، ليس فيها جمّاء ولا منكسر قرنها. ولا صاحب كنز لا يفعل فيه حقّه. إلّا جاء كنزه يوم القيامة شجاعا أقرع. يتبعه فاتحا فاه. فإذا أتاه فرّ منه. فيناديه: خذ كنزك الّذي خبأته. فأنا عنه غنيّ. فإذا رأى أن لا بدّ منه. سلك يده في فيه فيقضمها قضم الفحل)([19]

وروي أنّ امرأة من أهل اليمن أتت رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم وبنت لها، في يد ابنتها مسكتان (سواران) غليظتان من ذهب فقال: (أتؤدّين زكاة هذا؟) قالت: لا، قال: (أيسرّك أن يسوّرك اللّه- عزّ وجلّ- بها يوم القيامة سوارين من نار)، قال: فخلعتهما فألقتهما إلى رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم. فقالت: هما للّه ولرسوله صلى الله عليه وآله وسلم)([20]

وعن الأحنف بن قيس قال: قدمت المدينة، فبينا أنا في حلقة فيها ملأ من قريش إذ جاء رجل أخشن الثّياب أخشن الجسد، أخشن الوجه. فقام عليهم، فقال: بشّر الكانزين برضف([21]) يحمى عليه في نار جهنّم، فيوضع على حلمة ثدي أحدهم. حتّى يخرج من نغض كتفيه([22]) ويوضع على نغض كتفيه، حتّى يخرج من حلمة ثدييه يتزلزل. قال: فوضع القوم رؤسهم، فما رأيت أحدا منهم رجع إليه شيئا. قال: فأدبر، واتّبعته حتّى جلس إلى سارية. فقلت: ما رأيت هؤلاء إلّا كرهوا ما قلت لهم. قال: إنّ هؤلاء لا يعقلون شيئا، إنّ خليلي أبا القاسم صلى الله عليه وآله وسلم دعاني فأجبته. فقال: (أترى أحدا؟) فنظرت ما عليّ من الشّمس  وأنا أظنّ أنّه يبعثني في حاجة له فقلت: أراه. فقال: (ما يسرّني أنّ لي مثله ذهبا  أنفقه كلّه إلّا ثلاثة دنانير) ثمّ هؤلاء يجمعون الدّنيا لا يعقلون شيئا. قال: قلت: مالك ولإخوتك من قريش، لا تعتريهم وتصيب منهم. قال: لا. وربّك لا أسألهم عن دنيا ولا أستفتيهم عن دين حتّى ألحق باللّه ورسوله)([23]

وعن أبي ذرّ قال: انتهيت إلى النّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وهو جالس في ظلّ الكعبة فلمّا رآني قال: (هم الأخسرون وربّ الكعبة!) قال: فجئت حتّى جلست، فلم أتقارّ([24]) أن قمت، فقلت: يا رسول اللّه فداك أبي وأمّي من هم؟ قال: (هم الأكثرون أموالا، إلّا من قال هكذا وهكذا وهكذا (من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله) وقليل ما هم، ما من صاحب إبل ولا بقر ولا غنم لا يؤدّي زكاتها إلّا جاءت يوم القيامة أعظم ما كانت وأسمنه، تنطحه بقرونها وتطؤه بأظلافها كلّما نفدت أخراها عادت عليه أولاها، حتّى يقضى بين النّاس)([25]

قال رجل منا: فإن لم يفد كل هذا في تقويمه؟

قال شعيب: حينها يحتاج إلى طبيب روحي مرشد قد يلزمه بما كان يلزم به بعض الصالحين تلاميذه، فقد كان يمنعهم من الاختصاص بشيء لهم.. وكان إذا توهم في تلميذ من تلاميذه فرحه بما عنده نقله عنه، وأخرجه عن جميع ما ملكه، وإذا رآه يلتفت إلى ثوب جديد يلبسه أو سجادة يفرح بها يأمره بتسليمها إلى غيره ويلبسه ثوباً خلقاً لا يميل إليه قلبه، فبهذا يتجافى القلب عن المتاع الزائل.

قال رجل منا: إن هذا لعسير.

قال شعيب: ولكنه قد يصير ضروريا.. فمن لم يسلك هذا السبيل أنس بالدنيا وأحبها، فإن كان له ألف متاع كل له ألف محبوب، ولذلك إذا سرق كل واحد منه ألمت به مصيبة بقدر حبه له، فإذا مات نزل به ألف مصيبة دفعة واحدة لأنه كان يحب الكل وقد سلب عنه، بل هو في حياته على خطر بالفقد والهلاك.

وقد روي في هذا أنه حمل إلى بعض الملوك قدح من فيروزج مرصع بالجواهر لم ير له نظير، ففرح الملك بذلك فرحاً شديداً فقال لبعض الحكماء عنده. كيف ترى هذا؟ قال: أراه مصيبة أو فقراً، قال: كيف؟ قال: إن كسر كان مصيبة لا جبر لها وإن سرق صرت فقيراً إليه ولم تجد مثله، وقد كنت قبل أن يحمل إليك في أمن من المصيبة والفقر، ثم اتفق يوماً أن كسر أو سرق وعظمت مصيبة الملك عليه فقال: صدق الحكيم ليته لم يحمل إلينا!

وهذا شأن جميع أسباب الدنيا فإن الدنيا عدوة لأعداء الله تسوقهم إلى النار، وعدوة أولياء الله إذ تغمهم بالصبر عنها، وعدوة الله إذ تقطع طريقه على عباده، وعدوة نفسها فإنها تأكل نفسها، فإن المال لا يحفظ إلا بالخزائن والحراس. والخزائن والحراس لا يمكن تحصيلها إلا بالمال وهو بذل الدراهم والدنانير، فالمال يأكل نفسه ويضاد ذاته حتى يفنى، ومن عرف آفة المال لم يأنس به ولم يفرح ولم يأخذ منه إلا بقدر حاجته، ومن قنع بقدر الحاجة فلا يبخل لأن ما أمسكه لحاجته فليس ببخل، ولا يحتاج إليه، فلا يتعب نفسه بحفظه فيبذله، بل هو كالماء على شاطئ البحر إذ لا يبخل به أحد لقناعة الناس منه بمقدار الحاجة.

***

لست أدري كيف ثارت في نزعة الجدل، فرحت أقطع حديثهم بقولي: ولكن ما تقولون.. ألم تسمعوا قوله تعالى وهو يسمي المال خيرا في في مواضع من كتابه العزيز، كما قال تعالى :{ كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (180)} (البقرة)، وقال:{ وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (8)} (العاديات)

بل اعتبر الله تعالى المال قواما للحياة، فقال :{ وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً(5)} (النساء)

بل إنه لولا المال ما أمكن تطبيق أمثال قوله تعالى :{ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ..(262)} (البقرة)، وقوله :{ وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (265)} (البقرة)

بل إن الله تعالى – فوق ذلك كله- اعتبر الغنى من نعمه على عباده، فقد امتن على نبيه صلى الله عليه وآله وسلم بقوله :{ وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى (8)} (الضحى)، وقال نوح u لقومه يبشرهم بثمرات الاستغفار :{ وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً(12)} (نوح)، وامتن على بني إسرائيل بقوله :{ ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً(6)} (الاسراء)، وأخبر آثار التقوى، فقال :{ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ(96)} (الأعراف)

وهكذا فإنه صلى الله عليه وآله وسلم صرح بخيرية المال، فقال:( نعما بالمال الصالح للرجل الصالح)([26])، ودعا لأنس، وكان في آخر دعائه قوله:( اللهم أكثر ماله وولده وبارك له فيه )([27])

بعد أن أكملت حديثي، ابتسم شعيب، وقال: بورك فيك يا بني، فقد عقبت تعقيبا حسنا على ما ذكرنا..

وحتى يتناسق ما ذكرنا مع ذكرت أقول لك([28]): إن المال مثل حية فيها سم وترياق، ففوائده ترياقه، وغوائله سمومه.. فمن عرف غوائله وفوائده أمكنه أن يحترز من شره ويستدر من خيره.

قال بعض الحاضرين: فحدثنا عن فوائده حتى نستفيدها.

قال شعيب: فوائد المال تنقسم إلى دنيوية ودينية.. أما الدنيوية فأنتم تعرفونها، بل الكل مطبق على معرفتها.. فلذلك لا حاجة إلى ذكرها فإن معرفتها مشهورة مشتركة بين أصناف الخلق، ولولا ذلك لم يتهالكوا على طلبها..

وأما الدينية فتنحصر في ثلاثة أنواع..

قلنا: فما النوع الأول؟

قال شعيب: النوع الأول أن ينفقه على نفسه: إما في عبادة أو في الاستعانة على عبادة.. أما في العبادة: فهو كالاستعانة به على الحج، وهو من من أركان الإسلام.. وأما فيما يقويه على العبادة: فذلك هو المطعم والملبس والمسكن وغيرها من ضرورات المعيشة.. فإن هذه الحاجات إذا لم تتيسر كان القلب مصروفاً إلى تدبيرها فلا يتفرغ للدين، ومالا يتوصل إلى العبادة إلا به فهو عبادة، فأخذ الكفاية من الدنيا لأجل الاستعانة على الدين من الفوائد الدينية.. ولا يدخل في هذا التنعم والزيادة عن الحاجة فإن ذلك من حظوظ الدنيا فقط.

قلنا: عرفنا النوع الأول.. فما النوع الثاني؟

قال شعيب: النوع الثاني ما يصرفه إلى الناس، كالصدقة، والمروءة، ووقاية العرض، وأجرة الاستخدام.

قلنا: ما تعني بذلك؟

قال: أما الصدقة فلا يخفى ثوابها وأنها لتطفئ غضب الرب تعالى.. وأما المروءة فهي صرف المال في الضيافة والهدية والإعانة وما يجري مجراها.. وأما وقاية العرض فهي بذل المال لدفع ثلب السفهاء وقطع ألسنتهم ودفع شرهم، وهو أيضاً مع تنجز فائدته في العاجلة من الحظوظ الدينية.. وأما الاستخدام فهو أن الأعمال التي يحتاج إليها الإنسان لتهيئة أسبابه كثيرة، ولو تولاها بنفسه ضاعت أوقاته وتعذر عليه سلوك سبيل الآخرة بالفكر والذكر الذي هو أعلى مقامات السالكين.

قلنا: عرفنا النوع الثاني.. فما النوع الثالث؟

قال شعيب: النوع الثالث ما لا يصرفه إلى إنسان معين، ولكن يحصل به خير عام كبناء المساجد والقناطر والمستشفيات، وغير ذلك من الأوقاف المرصدة للخيرات، وهي من الخيرات المؤبدة الدارة بعد الموت المستجلبة بركة أدعية الصالحين إلى أوقات متمادية، وناهيك بها خيراً.

التفت إلي، وقال: هذه جملة فوائد المال في الدين سوى ما يتعلق بالحظوظ العاجلة من الخلاص من ذل السؤال وحقارة الفقر، والوصول إلى العز والمجد بين الخلق، وكثرة الإخوان والأعوان والأصدقاء، والوقار والكرامة في القلوب، فكل ذلك مما يقتضيه المال من الحظوظ الدنيوية.

قلنا: وعينا هذا.. فحدثنا عن آفات المال الدينية والدنيوية.

قال شعيب: أما آفات المال الدينية فثنتان.

قلنا: فما الآفة الأولى؟

قال شعيب: الآفة الأولى أن تجر الأموال صاحبها إلى المعاصي.. فإن الشهوات متفاضلة، والعجز قد يحول بين المرء والمعصية، ومن العصمة أن لا يجد.. ومهما كان الإنسان آيساً عن نوع من المعصية لم تتحرك داعيته، فإذا استشعر القدرة عليها انبعث داعيته، والمال نوع من القدرة يحرك داعية المعاصي وارتكاب الفجور، فإن اقتحم ما اشتهاه هلك وإن صبر وقع في شدة؛ إذ الصبر مع القدرة أشد، وفتنة السراء أعظم من فتنة الضراء.

قلنا: عرفنا الآفة الأولى.. فما الآفة الثانية؟

قال شعيب: الآفة الثانية أن يجر المال إلى التنعم في المباحات والاستغراق فيها، وهذا أول الدرجات، فمتى يقدر صاحب المال على أن يزهد في الدنيا كما كا يقدر عليه سليمان u في ملكه.. فأحسن أحواله أن لا يتنعم بالدنيا ويمرن عليها نفسه، فيصير التنعم مألوفاً عنده ومحبوباً لا يصبر عنه، ويجره البعض منه إلى البعض، فإذا اشتد أنسه به ربما لا يقدر على التوصل إليه بالكسب الحلال فيقتحم الشبهات ويخوض في المراءاة والمداهنة والكذب والنفاق وسائر الأخلاق الرديئة، لينتظم له أمر دنياه ويتيسر له تنعمه، فإن من كثر ماله كثرت حاجته إلى الناس، ومن احتاج إلى الناس فلا بد وأن ينافقهم ويعصي الله في طلب رضاهم، فإن سلم الإنسان من الآفة الأولى وهي مباشرة الحظوظ فلا يسلم عن هذه أصلاً.

ومن الحاجة إلى الخلق تثور العداوة والصداقة، وينشأ عنه الحسد والحقد والرياء والكبر والكذب والنميمة والغيبة وسائر المعاصي التي تخص القلب واللسان، ولا يخلو عن التعدي أيضاً إلى سائر الجوارح. وكل ذلك يلزم من شؤم المال والحاجة إلى حفظه وإصلاحه.

قلنا: عرفنا آفات المال الدينية.. فما آفاته الدنيوية؟

قال شعيب: ألستم ترون بأعينكم ما يقاسيه أرباب الأموال في الدنيا من الخوف والحزن والغم والهم والتعب في دفع الحساد وتجشم المصاعب في حفظ المال وكسبه؟

قلنا: بلى..

قال شعيب: فحسبكم ذلك من آفات المال.

قلنا: لقد أوقعتنا في الحرج.. فما نفعل فيما اجتمع فيه النفع والضر؟

قال شعيب: خلصوا نفعه من ضرره، وخلصوا ترياقه من سمه.. ولا عليكم أن تستزيدوا منه ما أطقتم.

قلنا: كيف لنا ذلك؟

قال شعيب: في هذا القسم ستتعلمون علوم ذلك.

***

بقيت مدة في هذا القسم أستفيد من شعيب علوم الترفع عن المال.. وعندما أيقنت بأن المال أحقر من أن أبيع بسببه حقيقتي طلب مني، كما طلب من جمع معي فقهوا ما فقهت أن نسير إلى قسم آخر من أقسام تلك المدرسة.

3 ـ الطعام

بعد أن فتح الله علي فتعلمت أسرار الترفع عن ثقل المال سرت إلى القسم الثالث، وكان خاصا بالترفع عن ثقل الطعام، وقد أخبرني ولي الله (يوسف الصديق) أن شيخ هذا القسم ولي من أولياء الله يقال له (عيسى)، وأنه اختار أن يسمى بهذا الاسم  لتأثره بسيد الزهاد المسيح عيسى u.. فقد روت النصوص من زهده في الطعام ما لا يطيقه أحد.

وقد تعجبت إذ استقبلني المشرفون على هذا القسم بطعام لذيذ قدموه لي، فقلت لهم ساخرا: لقد حسبت نفسي ستحبس عن الطعام في هذا القسم، فإذا بها تبدأ به.

قال المشرف: عيسى يعلمنا في هذا القسم عدم السكون إلى الطعام، وعدم التثاقل به إلى الأرض، وعدم اختصار الحياة في الطعام.. أما الطعام في نفسه، فهو رزق الله، ورزق الله لا يستطيع عاقل في الدنيا أن يحرمه.

أكلت ذلك الطعام المضمخ بعطر البركة، ثم دخلت القسم، وقد وجدت عيسى يخاطب جمعا من الناس كانوا كلهم قد ابتلوا بالسمنة.. وكأنهم جاءوا إليه ليزهدهم في الشهوات التي حولتهم إلى براميل من الشحم واللحم.

بدأ عيسى حديثه بقوله([29]): مرحبا بكم في هذا القسم الذي تدربون فيه على تملك شهوة الطعام.. فمن لم يملك شهوة الطعام ملكته.. ومن ملكته بطنه حصل له من الخراب ما لا يجبره شيء..

لقد اتفق على هذا كل الشهود العدول..

فالله تعالى رب العالمين والخبير بالنفس الإنسانية وبمطالبها وشهواتها قد جعل من أركان دينه الصوم، وأخبرنا أنه قد كتب على غيرنا من الأمم، قال تعالى :{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183)} (البقرة)، وليس الصيام سوى سيف تضرب به الشهوة لتعود إلى وعيها.

وأخبرنا الله تعالى أن آدم وزوجه أخرجا من دار القرار إلى دار الذل والافتقار؛ وكان سبب خروجهما أنهما نهيا عن الأكل من شجرة شجر الجنة، فغلبتهما شهواتهما حتى أكلا منها فحصل لهما بالأكل منها ما لم يكونا يتوقعانه، قال تعالى :{ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى (120) فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى (121) ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى (122) قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123)} (طه)

لا تحسبا أن تلك الشجرة موجودة في الجنة فقط.. إن في الدنيا شجر مثلها كثير.. وقد نهينا عنه.. ولكن البطون الممتلئة بالشهوات تأبى إلا أن تعيد الحكاية من جديد.. وليتها إذ تعيدها تستغفر وتتوب.. بل إنها تترنح بالشهوات حتى تسقط في مستنقع النفس الآسن.

وهكذا أخبر القرآن عن أقوام كثير صرعى بطونهم، قال فيهم  :{.. وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ (12)} (محمد)

وعلى هذا المنول حذر نبينا صلى الله عليه وآله وسلم أن نصير عبيدا لبطوننا، وأخبر عن الفرق بين أكل المؤمن وأكل الكافر، فقال:( المؤمن يأكل في معي واحد والكافر يأكل في سبعة أمعاء)([30])

واعتبر صلى الله عليه وآله وسلم السمنة انحرافا يقع في الأمة، فقال:( إن خيركم قرني، ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم، ثم يكون من بعدهم قوم يشهدون ولا يستشهدون ويخونون ولا يؤتمنون وينذرون ولا يوفون ويظهر فيهم السمن)([31]

واعتبر صلى الله عليه وآله وسلم من الإسراف أن يأكل الإنسان كلما اشتهى، فقال:( إن من الإسراف أن تأكل كل ما اشتهيت)([32]

وتجشأ بعضهم عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال له:( أقصر عنا من جشائك، إن أطول الناس جوعاً يوم القيامة أكثرهم شبعاً في الدنيا)([33]

ولم يكتف صلى الله عليه وآله وسلم بذلك، بل حدد أقصى ما على العاقل أن يأكله، فقال:(  ما ملأ ابن آدم وعاء شراً من بطنه، بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه، فإن كان لابد فاعلاً فثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفسه)([34])

ولم يكتف صلى الله عليه وآله وسلم بذلك، بل ضرب بنفسه المثل، فقد كان – كما روى جميع الثقاة عنه- يعيش حياة ممتلئة بالتقشف، تقول زوجه عائشة: (كان يأتي علينا الشهر، وما نوقد فيه نارا، إنما هوالتمر والماء، إلا أن نؤتى باللحم) ([35])

وقالت:( ما شبع آل محمد من خبز بر ثلاثة أيام متتابعات، حتى قبض صلى الله عليه وآله وسلم)

وقالت:( ما أكل آل محمد أكلتين في يوم واحد إلا إحداهما تمر)

وقالت: توفي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين شبع الناس من الأسودين، التمر والماء.

وقالت: ما شبعنا من الأسودين التمر والماء.

وقالت: والله لقد مات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وما شبع من خبز، وزيت في يوم واحد مرتين.

وقالت: ما رفع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم غداء لعشاء، ولا عشاء لغداء قط، ولا اتخذ من شئ زوجين لا قميصين، ولا رداءين، ولا إزارين، ولا من النعال ولا رئي فارغا قط في بيته، إما يخصف نعلا لرجل مسكين أو يخيط ثوبا لأرمة([36]).

وقالت:( والذي بعث محمدا بالحق نبيا ما رأى منخلا، ولا أكل خبزا منخولا، منذ بعثه الله إلى أن قبض، قيل، كيف كنتم تصنعون؟ قالت: كنا نقول أف أف) ([37])

وقالت: ما كان بيقى على مائدة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من خبز الشعير قليل ولا كثير ([38]).

وقالت: ما رفعت مائدة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من بين يديه، وعليها فضلة من طعام قط ([39]).

وقالت: ما شبع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثلاثة أيام تباعا حتى مضى لسبيله ([40]).

وقالت: لو أردت أن أخبركم بكل شبعة شبعها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى مات، لفعلت([41]).

وعلى هذا اتفق جميع العلماء والحكماء والصالحين:

فهذا لقمان الحكيم يقول لابنه: (يا بني إذا امتلأت المعدة نامت الفكرة وخرست الحكمة وقعدت الأعضاء عن العبادة)

وسئل حكيم: بأي قيد أقيد نفسي؟ قال: (قيدها بالجوع والعطش، وذللها بإخمال الذكر وترك العز، وصغرها بوضعها تحت أرجل أبناء الآخرة، واكسرها بترك زي القراء عن ظاهرها، وانج من آفاتها بدوام سوء الظن بها، واصحبها بخلاف هواها)

قال رجل من الحاضرين: لم كان الأمر كذلك.. لم تشدد كل هؤلاء الشهود العدول على هذه الشهوة؟

قال عيسى: لأن البطن ينبوع الشهوات ومنبت الأدواء والآفات، إذ يتبعها شهوات أخرى يستحيا من ذكرها.. ثم تتبع ذلك شدة الرغبة في الجاه والمال اللذين هما وسيلة إلى التوسع في تلك الشهوات؛ ثم يتبع استكثار المال والجاه أنواع الرعونات وضروب المنافسات والمحاسدات؛ ثم يتولد بينهما آفة الرياء وغائلة التفاخر والتكاثر والكبرياء، ثم يتداعى ذلك إلى الحقد والحسد والعداوة والبغضاء، ثم يفضي ذلك بصاحبه إلى اقتحام البغي والمنكر والفحشاء، وكل ذلك ثمرة إهمال المعدة وما يتولد منها من بطر الشبع والامتلاء، ولو ذلل العبد نفسه بالجوع، وضيق به مجاري الشيطان لأذعنت لطاعة الله ولم تسلك سبيل البطر والطغيان، ولم ينجز به ذلك إلى الانهماك في الدنيا وإيثار العاجلة على العقبى، ولم يتكالب كل هذا التكالب على الدنيا.

قال آخر: إن ما ذكرته مجمل، ونحن نريد التفصيل.. فلا يصل بالحقائق إلى العقول إلا التفاصيل.

قال عيسى: سأذكر لكم عشرا من فوائد الجوع.. من علمها لم تستعبده بطنه، ولم يتثاقل إلى الأرض بسببها.

قلنا: فهات الأولى.

قال عيسى: هي ما عبر عنه لقمان الحكيم بقوله مخاطبا ابنه: (يا بني إذا امتلأت المعدة نامت الفكرة وخرست الحكمة وقعدت الأعضاء عن العبادة)

وعلى منواله عبر الصالحون، فقد قال أحدهم: (عليك بالجوع فإنه مذلة للنفس ورقة للقلب وهو يورث العلم السماوي)

وقال آخر : (الجوع سحاب فإذا جاع العبد أمطر القلب الحكمة)

وقال آخر: (ما جعت لله يوماً إلا رأيت في قلبي باباً مفتوحاً من الحكمة والعبرة ما رأيته قط)

قلنا: ما يعني جميع هؤلاء بهذا؟

قال عيسى: يعنون صفاء القلب وإيقاد القريحة وإنفاذ البصيرة، فإن الشبع يورث البلادة ويعمي القلب، وهو لذلك كالخمر يثقل القلب ويمنعه من الجريان في الأفكار وعن سرعة الإدراك، بل الصبي إذا أكثر الأكل بطل حفظه وفسد ذهنه وصار بطيء الفهم والإدراك.

قلنا: عرفنا الأولى.. فهات الثانية.

قال عيسى: الثانية رقة القلب وصفاؤه الذي به يتهيأ لإدراك لذة المثابرة والتأثر بالذكر، فكم من ذكر يجري على اللسان مع حضور القلب، ولكن القلب لا يلتذ به ولا يتأثر حتى كأن بينه وبينه حجاباً من قسوة القلب، وقد يرق في بعض الأحوال فيعظم تأثره بالذكر وتلذذه بالمناجاة، وخلو المعدة هو السبب الأظهر فيه.

لقد قال أبو سليمان الداراني يعبر عن هذه الفائدة: (أحلى ما تكون إلى العبادة إذا التصق ظهري ببطني)، وقال: (إذا جاع القلب وعطش صبا ورق، وإذا شبع عمى وغلط)

وقال الجنيد: (يجعل أحدهم بينه وبين صدره مخلاة من الطعام ويريد أن يجد حلاوة المناجاة)

قلنا: عرفنا الثانية.. فهات الثالثة.

قال عيسى: الثالثة الانكسار والذل وزوال البطر والفرح والأشر الذي هو مبدأ الطغيان والغفلة عن الله تعالى، فلا تنكسر النفس ولا تذل بشيء كما تذل بالجوع، فعنده تسكن لربها وتخشع له وتقف على عجزها وذلها إذا ضعفت منتها وضاقت حيلتها بلقيمة طعام فاتتها، وأظلمت عليها الدنيا لشربة ماء تأخرت عنها، وما لم يشاهد الإنسان ذل نفسه وعجزه لا برى عزة مولاه ولا قهره، وإنما سعادته في أن يكون دائماً مشاهداً نفسه بعين الذل والعجز ومولاه بعين العز والقدرة والقهر.

قلنا: عرفنا الثالثة.. فهات الرابعة.

قال عيسى: الرابعة أن لا ينسى بلاء الله وعذابه؛ ولا ينسى أهل البلاء، فإن الشبعان ينسى الجائع وينسى الجوع، والعبد الفطن لا يشاهد بلاء من غيره إلا ويتذكر بلاء الآخرة، فيذكر من عطشه عطش الخلق في عرصات القيامة، ومن جوعه جوع أهل النار، حتى إنهم ليجوعون فيطعمون الضريع والزقوم ويسقون الغساق والمهل.

وهذا أحد الأسباب الذي اقتضى اختصاص البلاء بالأنبياء والأولياء والأمثل فالأمثل.. ولذلك قيل ليوسف u: لم تجوع وفي يديك خزائن الأرض؟ فقال: (أخاف أن أشبع فأنسى الجائع)، فذكر الجائعين والمحتاجين فائدة عظيمة من فوائد الجوع فإن ذلك يدعو إلى الرحمة والإطعام والشفقة على خلق الله عز وجل، والشبعان في غفلة عن كل ذلك.

قلنا: عرفنا الرابعة.. فهات الخامسة.

قال عيسى: الخامسة كسر شهوات المعاصي كلها، والاستيلاء على النفس الأمارة بالسوء، فإن منشأ المعاصي كلها الشهوات والقوى، ومادة القوى والشهوات لا محالة الأطعمة، فتقليلها يضعف كل شهوة وقوة.. وإنما السعادة كلها في أن يملك الرجل نفسه، والشقاوة في أن تملكه نفسه، وكما أنك لا تملك الدابة الجموح إلا بضعف الجوع فإذا شبعت قويت وشردت وجمحت، فكذلك النفس.

قلنا: عرفنا الخامسة.. فهات السادسة.

قال عيسى: السادسة دفع المبالغة في النوم، فإن من شبع شرب كثيراً، ومن كثر شربه كثر نومه.. ولأجل ذلك كان بعض الشيوخ يقول عند حضور الطعام: (معاشر المريدين لا تأكلوا كثيراً فتشربوا كثيراً فترقدوا كثيراً فتخسروا كثيراً)

قلنا: عرفنا السادسة.. فهات السابعة.

قال عيسى: السابعة تيسير المواظبة على العبادة، فإن الأكل يمنع من كثرة العبادات، لأنه يحتاج إلى زمان يشتغل فيه بالأكل، وربما يحتاج إلى زمان في شراء الطعام وطبخه، ثم يحتاج إلى غسل اليد والخلال، ثم يكثر ترداده إلى دورة المياه لكثرة شربه.. والأوقات المصروفة إلى هذا لو صرفها إلى الذكر والمناجاة وسائر العبادات لكثر ربحه.

قال السري: رأيت مع علي الجرجاني سويقاً يستف منه فقلت: ما حملك على هذا؟ قال: إني حبست ما بين المضغ إلى الاستفاف سبعين تسبيحة فما مضغت الخبز منذ أربعين سنة.

فانظروا كيف أشفق هذا الولي الصالح على وقته ولم يضيعه في المضغ.. وكل نفس من العمر جوهرة نفيسة لا قيمة لها فينبغي أن يستوفى منه خزانة باقية في الآخرة لا آخر لها وذلك بصرفه إلى ذكر الله وطاعته.

ومن جملة ما يتعذر بكثرة الأكل الصوم فإنه يتيسر لمن تعود الجوع، فالصوم ودوام الاعتكاف ودوام الطهارة وصرف أوقات شغله بالأكل وأسبابه إلى العبادة أرباح كثيرة، وإنما يستحقرها الغافلون الذين لم يعرفوا قدر الدين لكن رضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها.

وقد أشار أبو سليمان الداراني إلى ست آفات من الشبع فقال: (من شبع دخل عليه ست آفات: فقد حلاوة المناجاة وتعذر حفظ الحكمة، وحرمان الشفقة على الخلق لأنه إذا شبع ظن أن الخلق كلهم شباع، وثقل العبادة، وزيادة الشهوات، وأن سائر المؤمنين يدورون حول المساجد، والشباع يدورون حول المزابل)

قلنا: عرفنا السابعة.. فهات الثامنة.

قال عيسى: الثامنة أن يستفيد من قلة الأكل صحة البدن ودفع الأمراض، فإن سببها كثرة الأكل وحصول فضلة الأخلاط في المعدة والعروق، ثم المرض يمنع من العبادات ويشوش القلب ويمنع من الذكر والفكر وينغص العيش ويحوج إلى الدواء والطبيب، وكل ذلك يحتاج إلى مؤن ونفقات لا يخلو الإنسان منها بعد التعب عن أنواع من المعاصي واقتحام الشهوات، وفي الجوع ما يمنع ذلك كله.

قلنا: عرفنا الثامنة.. فهات التاسعة.

قال عيسى: التاسعة خفة المؤونة، فإن من تعود قلة الأكل كفاه من المال قدر يسير، والذي تعود الشبع صار بطنه غريماً ملازماً له آخذاً بمخفته في كل يوم، فيقول: (ماذا تأكل اليوم؟)، فيحتاج إلى أن يدخل المداخل، فيكتسب من الحرام فيعصي، أو من الحلال فيذل. وربما يحتاج إلى أن يمد أعين الطمع إلى الناس وهو غاية الذل.

وقد قال بعض الحكماء في هذا: (إني لأقضي عامة حوائجي بالترك فيكون ذلك أروح لقلبي)، وقال آخر: (إذا أردت أن أستقرض من غيري لشهوة أو زيادة استقرضت من نفسي فتركت الشهوة فهي خير غريم لي)، وكان إبراهيم ابن أدهم يسأل أصحابه عن سعر المأكولات فيقول إنها غالية فيقول: (أرخصوها بالترك)، وقال سهل: (الأكول مذموم في ثلاثة أحوال، إن كان من أهل العبادة فيكسل، وإن كان مكتسباً فلا يسلم من الآفات، وإن كان ممن يدخل عليه شيء فلا ينصف الله تعالى من نفسه)

قلنا: عرفنا التاسعة.. فهات العاشرة.

قال عيسى: العاشرة أن يتمكن من الإيثار والتصدق بما فضل من الأطعمة على اليتامى والمساكين، فيكون يوم القيامة في ظل صدقته، فما يأكله كان خزانته الكنيف، وما يتصدق به كان خزانته فضل الله تعالى، فليس للعبد من ماله إلا ما تصدق فأبقى أو أكل فأفني أو لبس فأبلى، فالتصدق بفضلات الطعام أولى من التخمة والشبع.

وكان بعضهم إذا تلا قوله تعالى :{ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72)} (الأحزاب) قال: (عرضها على السموات فأبت، ثم عرضها على الإنسان فحملها إنه كان ظلوماً لنفسه جهولاً بأمر ربه.. فقد رأيناهم والله اشتروا الأمانة بأموالهم فأصابوا آلافاً فماذا صنعوا فيها؟ وسعوا بها دورهم وضيقوا بها قبورهم، وأسمنوا براذينهم وأهزلوا دينهم، وأتعبوا أنفسهم بالغدو والرواح إلى باب السلطان يتعرضوا للبلاء وهم من الله في عافية، يقول أحدهم تبيعني أرض كذا وكذا وأزيدك كذا وكذا، يتكئ على شماله ويأكل من غير ماله، حديثه سخرة وماله حرام حتى إذا أخذته الكظة ونزلت به البطنة قال: يا غلام ائتني بشيء أهضم به طعامي، يالكع أطعامك تهضم؟ إنما تهضم دينك، أين الفقير أين الأرملة أين المسكين أين اليتيم الذي أمرك الله تعالى بهم؟)

قال رجل من الحاضرين كان بادي السمنة: يا لله كم كانت غفلتنا عظيمة.. لقد تثاقلت بنا بطوننا، فلم نربح لا الدنيا ولا الآخرة.

قال آخر: والله ما كنت أظن أن الجوع إلا مرض من الأمراض وآفة من الآفات حتى حدثتنا حديثك هذا.

قال آخر: ويكأن الجوع خزانة من خزائن فضل الله من بها على عباده، ولكنهم لا يعلمون.

قال عيسى: صدقت.. وقد قال بعض الصالحين في هذا: (الجوع مفتاح الآخرة وباب الزهد، والشبع مفتاح الدنيا وباب الرغبة)

***

لست أدري كيف ثارت في نزعة الجدل، فرحت أقطع حديثهم بقولي: ولكن ما تقولون؟.. ألم تسمعوا قوله تعالى وهو يمن على عباده بما خلق لهم من الطعام، لقد قال :{ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (10) يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (11) وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (12) وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (13) وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (14)} (النحل)

هل تقبل عقولكم أن يكون الله قد من على عباده بكل هذا الفضل، وذكره لكم، ثم هو نفسه يحرمه عليهم؟

وقال مجيبا عباده عندما سألوه عما أحل لهم :{ يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (4) الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ..(5)} (المائدة)

وذكر الله أنواعا من الطيبات دعا إلى أكلها، بل رغب في أكلها، فقال:{ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (141) وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (142)} (الأنعام)

وقال مخاطبا رسله – عليهم الصلاة والسلام- :{ يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (51)} (المؤمنون)

وقال ممتنا على بني إسرائيل بما أنزل إليهم من ألوان الطعام :{ وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (57)} (البقرة)

وعندما حرم النبي صلى الله عليه وآله وسلم على نفسه بعض الأطعمة نزل القرآن يعاتبه في ذلك، قال تعالى: { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (1)} (التحريم)

بل نهى الله تعالى هذه الأمة جميعا عن تحريم ما أحل الله من الطيبات، قال تعالى :{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (87)} (المائدة)

فهذه النصوص كلها تدل على تحريم الامتناع عن أكل ما خلق الله إلا ما نزل الشرع بتحريمه، أو حكم الطب بضرره([42]).

قال عيسى: بورك فيك.. ونحن في حديثنا لم نعدو ما تقول، وما كان لنا أن نعدو ما تقول.

قلت: ولكنك حكيت كلاما عن الصالحين فيه مبالغات شديدة.

قال عيسى: صدقت.. وهي مبالغات مقصودة، وهم يعلمونها.

قلت: فكيف تحل هذا الإشكال؟

قال عيسى: اعلم – يا بني- أن المطلوب الأقصى في جميع الأمور والأخلاق: الوسط، إذ خير الأمور أوساطها وكلا طرفي قصد الأمور ذميم.. وما ذكرناه عن أولياء الله في فضائل الجوع ربما يومئ إلى أن الإفراط فيه مطلوب.. وليس الأمر كذلك.

ولكن من أسرار حكمة الشريعة أن كل ما يطلب الطبع فيه الطرف الأقصى، وكان فيه فساد، جاء الشرع بالمبالغة في المنع فيه، على وجه يومئ أن المطلوب مضادة ما يقتضيه الطبع بغاية الإمكان، أما العالم فيدرك أن المقصود الوسط.

قلت: فكيف تطبق هذا على ما نحن فيه؟

قال عيسى: تطبيق ذلك على ما نحن فيه يسير، فالشرع الحكيم إذا رأى أن الطبع يطلب غاية الشبع فإنه يورد له ما يمدح غاية الجوع، حتى يكون الطبع باعثاً والشرع مانعاً فيتقاومان ويحصل الاعتدال.. وذلك كما أن الشرع بالغ في الثناء على قيام الليل وصيام النهار، ثم لما علم النبي صلى الله عليه وآله وسلم من حال بعضهم أنه يصوم الدهر كله ويقوم الليل كله نهى عنه.

فإذا عرفت هذا فاعلم أن الأفضل بالإضافة إلى الطبع المعتدل أن يأكل بحيث لا يحس بثقل المعدة ولا يحس بألم الجوع، بل ينسى بطنه فلا يؤثر فيه الجوع أصلاً، فإن مقصود الأكل بقاء الحياة وقوة العبادة، وثقل المعدة يمنع من العبادة، وألم الجوع أيضاً يشغل القلب ويمنع منها.. فالمقصود أن يأكل أكلاً لا يبقى المأكول فيه أثر ليكون متشبهاً بالملائكة فإنهم مقدسون عن ثقل الطعام وألم الجوع، وغاية الإنسان الاقتداء بهم.. وإذا لم يكن للإنسان خلاص من الشبع والجوع فأبعد الأحوال عن الطرفين الوسط وهو الاعتدال.

وعنه عبر صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: (خير الأمور أوساطها)([43])، وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى :{.. وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31)} (الأعراف)، ومهما لم يحس الإنسان بجوع ولا شبع تيسرت له العبادة والفكر وخف في نفسه وقوي على العمل مع خفته، ولكن هذا بعد اعتدال الطبع.

أما في بداية الأمر إذا كانت النفس جموحاً متشوقة إلى الشهوات مائلة إلى الإفراط، فالاعتدال لا ينفعها بل لا بد من المبالغة في إيلامها بالجوع، فإذا ارتاضت واستوت ورجعت إلى الاعتدال ترك إيلامها.

***

بقيت مدة في هذا القسم أستفيد من عيسى علوم الترفع عن الشهوات التي يدفعني إليها بطني، ويريد أن يستعبدني بها.. وعندما أيقنت وتدربت على أن الطعام أقل شأنا من أن أبيع بسببه ربي طلب مني، كما طلب من جمع معي فقهوا ما فقهت أن نسير إلى قسم آخر من أقسام تلك المدرسة.

4 ـ الكلام

بعد أن فتح الله علي فتعلمت أسرار الترفع عن ثقل الطعام سرت إلى القسم الرابع، وكان خاصا بالترفع عن ثقل شهوة الكلام، وقد أخبرني ولي الله (يوسف الصديق) أن شيخ هذا القسم ولي من أولياء الله يقال له (هارون)، وأنه تعلم أسرار الترفع عن شهوة الكلام من نبي من أنبياء الله وصفه الله بالفصاحة، وهو هارون u الذي قال تعالى في صفته حاكيا عن أخيه موسى :{ وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ (34)} (القصص)

عندما دخلنا عليه مجلسه تعجبنا من الفصاحة التي آتاه الله إياها، فقد كانت كلماته تنسكب في الأذن لينة سهلة مضمخة بعطر عجيب لا يمكن وصفه.. وقد كان مما سمعناه منه قوله([44]) – وهو يشير إلى لسانه -: إن من أطلق عذبة اللسان وأهمله مرخى العنان سلك به الشيطان في كل ميدان، وساقه إلى شفا جرف هار إلى أن يضطره إلى البوار، ولا يكب الناس في النار على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم.. ولا ينجو من شر اللسان إلا من قيده بلجام الشرع، فلا يطلقه إلا فيما ينفعه في الدنيا والآخرة، ويكفه عن كل ما يخشى غائلته في عاجله وآجله.

قال بعض الحاضرين: لقد شققت علينا بحديثك هذا.. فلم كان للسان كل هذا الخطر؟

قال: لذلك أسباب كثيرة.. منها أن علم ما يحمد فيه إطلاق اللسان أو يذم غامض عزيز.. ومنها أن العمل بمقتضاه على من عرفه ثقيل عسير.. ومنها أن أعصى الأعضاء على الإنسان اللسان فإنه لا تعب في إطلاقه ولا مؤنة في تحريكه، ولذلك تساهل الخلق في الاحتراز عن آفاته وغوائله والحذر من مصائده وحبائله.

ومنها كثرة آفات اللسان من الخطأ والكذب والغيبة والنميمة والرياء والنفاق والفحش والمراء وتزكية النفس والخوض في الباطل والخصومة والفضول والتحريف والزيادة والنقصان وإيذاء الخلق وهتك العورات.. فهذه آفات كثيرة، وهي سياقة إلى اللسان لا تثقل عليه ولها حلاوة في القلب وعليها بواعث من الطبع ومن الشيطان، والخائض فيها قلما يقدر أن يمسك اللسان فيطلقه بما يحب ويكفه عما لا يحب فإن ذلك من غوامض العلم، ففي الخوض خطر وفي الصمت سلامة فلذلك عظمت فضيلته.

قال آخر: إن كل ما ذكرته عن خطر اللسان مجرد دعاوى تفتقر إلى دليل.. ولم نرك ذكرت دليلا واحدا على ما تقول؟

قال: ما أكثر الأدلة على ذلك.. وحسبك من ذلك قوله تعالى :{ مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18)} (ق)

وحسبك ما ورد في الأحاديث النبوية الكثيرة من بيان فضيلة الصمت، وخطر الإكثار من الكلام.. ومن قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (الصمت حكم وقليل فاعله)([45]).. وقال: (الصمت أرفع العبادة)([46]).. وقال: (الصمت زين للعالم وستر للجاهل)([47]).. وقال: (الصمت سيد الأخلاق، ومن مزح استخف به) ([48]).. وقال: (إن الله تعالى يحب الصمت عند ثلاث، عند تلاوة القرآن وعند الزحف، وعند الجنازة)([49]).. وقال: (أول العبادة الصمت)([50]).. وقال: (العافية عشرة أجزاء : تسعة في الصمت، والعاشر في العزلة عن الناس) ([51]).. وقال: (قولوا خيرا تغنموا، واسكتوا عن شر تسلموا)([52]).. وقال: (قيم الدين الصلاة، وسنام العمل الجهاد، وأفضل أخلاق الاسلام الصمت حتى يسلم الناس منك)([53]).. وقال: (من سره أن يسلم فليلزم الصمت)([54]).. وقال: (من صمت نجا)([55]).. وقال: (ثكلتك أمك يا معاذ، إنك ما صمت فإنك عالم فإذا تكلمت فلك أو عليك)([56]).. وقال: (ثكلتك أمك يا معاذ، كيف بك إذا قذف بك يوم القيامة في النار ؟ فتؤمر ان تأتي به)([57]).. وقال: (رحم الله من حفظ لسانه، وعرف زمانه، واستقامت طريقته)([58]).. وقال: (رحم الله امرءا أصلح من لسانه)([59]).. وقال: (رحم الله امرءا قال حقا أو سكت، رحم الله رجلا قام من الليل فصلى، ثم قال لامرأته : قومي فصلي)([60]).. وقال: (رحم الله امرءا كف لسانه عن أعراض المسلمين، لا تحل شفاعتي لطعان ولا لعان)([61]).. وقال: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليسكت، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه، والضيافة ثلاث ليال، فما كان وراء ذلك فهو صدقة)([62]).. وقال: (من كثر كلامه كثر سقطه، ومن كثر سقطه كثر كذبه، ومن كثر كذبه كثرت ذنوبه، ومن كثرت ذنوبه كانت النار أولى به)([63]).. وقال: (من كف لسانه عن اعراض المسلمين أقال الله عثرته يوم القيامة)([64]).. وقال: (لا تدخل حلاوة الايمان قلب امرئ حتى يترك بعض الحديث خوف الكذب وإن كان صادقا، ويترك المراء وإن كان محقا)([65]).. وقال: (لا تقل بلسانك إلا معروفا، ولا تبسط يدك إلا إلى خير)([66]).. وقال: (لا خير في الحياة إلا لاحد رجلين، رجل ستير صموت واع، أو ناطق بعلم)([67]).. وقال: (لا يستكمل عبد حقيقة الايمان حتى يخزن من لسانه)([68]).. وقال: (كلّ كلام ابن آدم عليه لا له إلّا أمر بمعروف، أو نهي عن منكر، أو ذكر اللّه)([69]).. وقال: (لا تكثروا الكلام بغير ذكر اللّه، فإنّ كثرة الكلام بغير ذكر اللّه قسوة للقلب، وإنّ أبعد النّاس من اللّه القلب القاسي)([70]).. وقال: (من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه)([71]).. وقال: (من يضمن لي ما بين لحييه([72]) وما بين رجليه أضمن له الجنّة)([73]).. وقال: (إنّ اللّه يرضى لكم ثلاثا، ويكره لكم ثلاثا. فيرضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، وأن تعتصموا بحبل اللّه جميعا ولا تفرّقوا، ويكره لكم قيل وقال وكثرة السّؤال وإضاعة المال)([74]

وقد كانت هذه وصية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لكثير من أصحابه..

فقد قال له بعضهم: أخبرني بأمر أعتصم به، فقال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: (املك هذا)، وأشار إلى لسانه([75]).

وقال له آخر: أيّ المسلمين أفضل؟ قال: (من سلم المسلمون من لسانه ويده)([76]

وقال له آخر: يا رسول اللّه، أيّ الأعمال أفضل؟. قال: (الصّلاة على ميقاتها) قلت: ثمّ ماذا يا رسول اللّه؟ قال: (أن يسلم النّاس من لسانك)([77]

وقال له آخر: يا رسول اللّه ما الإسلام؟ قال: (أن يسلم قلبك للّه- عزّ وجلّ- وأن يسلم المسلمون من لسانك ويدك) ([78]

وقال له آخر: يا رسول اللّه! أوصني. قال: (تملك يدك)؟ قلت: فماذا أملك إذا لم أملك يدي؟ قال: (تملك لسانك)؟. قلت: فماذا أملك إذا لم أملك لساني؟ قال: (لا تبسط يدك إلّا إلى خير، ولا تقل بلسانك إلّا معروفا)([79]

وقال له آخر: يا رسول اللّه! حدّثني بأمر أعتصم به. قال: قل: (ربّي اللّه ثمّ استقم). قلت: يا رسول اللّه! ما أكثر ما تخاف عليّ؟. فأخذ بلسان نفسه ثمّ قال: (هذا)([80]

وقال له آخر:: يا رسول اللّه ما النّجاة؟. قال: (أمسك عليك لسانك، وليسعك بيتك، وابك على خطيئتك)([81]

وقال له آخر: يا رسول اللّه، أوصني. قال: (اعبد اللّه كأنّك تراه، واعدد نفسك في الموتى، وإن شئت أنبأتك بما هو أملك بك من هذا كلّه). قال: (هذا)، وأشار بيده إلى لسانه)([82]

وعن معاذ قال: كنت مع النّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في سفر، فأصبحت يوما قريبا منه ونحن نسير، فقلت: يا رسول اللّه، أخبرني بعمل يدخلني الجنّة، ويباعدني من النّار. قال: (لقد سألتني عن عظيم، وإنّه ليسير على من يسّره اللّه عليه. تعبد اللّه ولا تشرك به شيئا، وتقيم الصّلاة، وتؤتي الزّكاة، وتصوم رمضان، وتحجّ البيت). ثمّ قال: (ألا أدلّك على أبواب الخير: الصّوم جنّة، والصّدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النّار، وصلاة الرّجل من جوف اللّيل). قال: ثمّ تلا :{ تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (16)} (السجدة)، ثمّ قال: (ألا أخبرك برأس الأمر كلّه وعموده وذروة سنامه؟) قلت: بلى. يا رسول اللّه! قال: (رأس الأمر الإسلام، وعموده الصّلاة، وذروة سنامه الجهاد). ثمّ قال: (ألا أخبرك بملاك ذلك كلّه)، قلت: بلى، يا نبيّ اللّه. فأخذ بلسانه. قال: (كفّ عليك هذا). فقلت: يا نبيّ اللّه! وإنّا لمؤاخذون بما نتكلّم به؟. قال: (ثكلتك أمّك يا معاذ، وهل يكبّ النّاس في النّار على وجوههم أو على مناخرهم إلّا حصائد ألسنتهم)([83]

وقد كانت هذه الصفة هي سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم العملية، فعن عبد اللّه بن أبي أوفى قال: كان رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم يكثر الذّكر، ويقلّ اللّغو، ويطيل الصّلاة، ويقصر الخطبة، ولا يأنف أن يمشي مع الأرملة والمسكين فيقضي له الحاجة([84]).

قال له رجل منا: وعينا هذا.. فهلا فصلت لنا ما ينبغي اجتنابه من الكلام.. فلا يمكن أن يظل أحدنا صامتا لا يتكلم.

قال: من ذلك اجتناب الكلام فيما لا يعني..

قال الرجل: فما ضابط ذلك؟

قال هارون: ضابطه أن أن تتكلم بكلام لو سكت عنه لن تأثم ولم تستضر به في حال ولا مال.

قال الرجل: فهلا ضربت لي مثالا على هذا.

قال هارون: مثاله أن تجلس مع قوم فتذكر لهم أسفارك وما رأيت فيها من جبال وأنهار، وما وقع لك من الوقائع، وما استحسنته من الأطعمة والثياب، وما تعجبت منه من مشايخ البلاد ووقائعهم.. فهذه أمور لو سكت عنها لم تأثم ولم تستضر.. وإذا بالغت في الجهاد حتى لم يمتزج بحكايتك زيادة ولا نقصان، ولا تزكية نفس من حيث التفاخر بمشاهدة الأحوال العظيمة، ولا اغتياب لشخص ولا مذمة لشيء مما خلقه الله تعالى فأنت مع ذلك كله مضيع زمانك – وأنى تسلم من الآفات التي ذكرتها –

ومن جملتها أن تسأل غيرك عما لا يعنيك، فأنت بالسؤال مضيع وقتك وقد ألجأت صاحبك أيضاً بالجواب إلى التضييع، هذا إذا كان الشيء مما يتطرق إلى السؤال عنه آفة، وأكثر الأسئلة فيها آفات.. فإنك تسأل غيرك عن عبادته مثلاً فتقول له: هل أنت صائم؟ فإن قال نعم، كان مظهراً لعبادته فيدخل عليه الرياء، وإن لم يدخل سقطت عبادته من ديوان السر، وعبادة السر تفضل عبادة الجهر بدرجات، وإن قال: لا، كان كاذباً، وإن سكت كان مستحقراً لك وتأذيت به، وإن احتال لمدافعة الجواب افتقر إلى جهد وتعب فيه. فقد عرضته بالسؤال إما للرياء أو للكذب أو للاستحقار أو للتعب في حيلة الدفع، وكذلك سؤالك عن سائر عباداته، وكذلك سؤالك عن المعاصي وعن كل ما يخفيه ويستحي منه.

وقد روي في هذا أن لقمان الحكيم دخل على داود عليه السلام وهو يسرد درعاً ولم يكن رآها قبل ذلك اليوم فجعل يتعجب مما رأى، فأراد أن يسأله عن ذلك فمنعته حكمته فأمسك نفسه ولم يسأله، فلما فرغ قام داود ولبسه ثم قال: نعم الدرع للحرب، فقال لقمان: الصمت حكم وقليل فاعله، أي حصل العلم بع من غير سؤال فاستغنى عن السؤال.. وقيل أنه كان يتردد إليه سنة وهو يريد أن يعلم ذلك من غير سؤال.

قال آخر: فما ترى السبب الباعث لهذا؟

قال هارون: سببه الباعث عليه هو الحرص على معرفة ما لا حاجة به إليه، أو المباسطة بالكلام على سبيل التودد، أو تزجية الأوقات بحكايات أحوال لا فائدة فيها.

قال آخر: فما ترى العلاج المستأصل لهذا؟

قال هارون: علاج ذلك أن يعلم أن الموت بين يديه، وأنه مسئول عن كل كلمة، وأن أنفاسه رأس ماله، وأن لسانه شبكة يقدر أن يقتنص بها ما شاء من الخير.. فإهماله ذلك وتضييعه خسران مبين.. هذا من حيث العلم.. أما من حيث العمل فقد كان بعض الصالحين يضع حصاة في فيه ليتنبه بذلك، فيلزم نفسه السكوت عن بعض ما يعنيه حتى يعتاد اللسان ترك ما لا يعنيه.

قال الرجل: فهل تنصحنا بذلك؟

قال هارون: لا أنصحكم بذلك.. ولكني سأدلكم في التداريب على الكثير من السبل العملية لذلك.

قلنا: وعينا هذا.. فما غيره؟

قال هارون: فضول الكلام.

قلنا: فما تريد بهذا؟.. وما الفرق بينه وبين الذي قبله؟

قال هارون: هو الخوض فيما لا يعني أو الزيادة فيما يعني على قدر الحاجة.. فإن من يعنيه أمر يمكنه أن يذكره بكلام مختصر، ويمكنه أن يجسمه ويقرره ويكرره.. ومهما تأدى مقصوده بكلمة واحدة فذكر كلمتين، فالثانية فضول – أي فضل عن الحاجة –

قال رجل منا: أهذا أيضا مذموم، وإن لم يكن فيه إثم ولا ضرر ؟

قال هارون: أجل..  وقد اتفق على هذا كل من لقيتهم من الصالحين، وقد زرت بعضهم مع نفر من قومي، فقال لنا: (يا بني أخي، إنّ من كان قبلكم كانوا يكرهون فضول الكلام، وكانوا يعدّون فضول الكلام ما عدا كتاب اللّه أن تقرأه، أو تأمر بمعروف، أو تنهى عن منكر، أو تنطق بحاجتك في معيشتك الّتي لا بدّ لك منها، أتنكرون { وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا كَاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ (12)} (الانفطار) { عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (17) مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18)} (ق). أما يستحي أحدكم أن لو نشرت عليه صحيفته الّتي أملى صدر نهاره، كان أكثر ما فيها ليس من أمر دينه ولا دنياه)

وقال لنا آخر: إن الرجل ليكلمني بالكلام لجوابه أشهى إلى من الماء البارد إلى الظمآن فأترك جوابه خيفة أن يكون فضولاً..

وقال آخر: ليعظم جلال الله في قلوبكم فلا تذكروه عند مثل قول أحدكم للكلب والحمار: الله اخزه وما أشبه ذلك.

وقال آخر: من فتنة العالم أن يكون الكلام أحب إليه من الاستماع فإن وجد من يكفيه فإن في الاستماع سلامة، وفي الكلام تزيين وزيادة ونقصان.

وقال آخر: إنه ليمنعني من كثير من الكلام خوف المباهاة.

وقال آخر: إذا كان الرجل في مجلس فأعجبه الحديث فليسكت وإن كان ساكتاً فأعجبه السكوت فليتكم.

وقال آخر: إن أحق ما طهر الرجل لسانه. ورأى أبو الدرداء امرأة سليطة فقال: لو كانت هذه خرساء كان خيراً لها.

وقال آخر: يهلك الناس خلتان: فضول المال وفضول الكلام.

قلنا: وعينا هذا.. فما غيره؟

قال هارون: الخوض في الباطل.

قلنا: فما تريد بهذا؟

قال هارون: هو الكلام في المعاصي كحكاية أحوال النساء ومجالس الخمر ومقامات الفساق وتنعم الأغنياء وتجبر الملوك ومراسمهم المذمومة وأحوالهم المكروهة، فإن كل ذلك مما لا يحل الخوض فيه وهو حرام.

وأنواع الباطل لا يمكن حصرها لكثرتها وتفننها، فلذلك لا مخلص منها إلا بالاقتصار على ما يعني من مهمات الدين والدنيا.

وفي هذا الجنس تقع كلمات يهلك بها صاحبها وهو يستحقرها، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إنّ أحدكم ليتكّلم بالكلمة من رضوان اللّه ما يظنّ أن تبلغ ما بلغت فيكتب اللّه- عزّ وجلّ- له بها رضوانه إلى يوم القيامة، وإنّ أحدكم ليتكلّم بالكلمة من سخط اللّه ما يظنّ أن تبلغ ما بلغت فيكتب اللّه- عزّ وجلّ- عليه بها سخطه إلى يوم يلقاه)([85]

وقال صلى الله عليه وآله وسلم : (إن الرجل ليتكم بالكلمة يضحك بها جلسائه يهوي بها أبعد من الثريا)([86]

وقال: (أعظم الناس خطايا يوم القيامة أكثرهم خوضاً في الباطل)([87]

وإلى هذا الإشارة بقوله تعالى حكاية عن أهل جهنم :{ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ (45)} (المدثر)، وقوله :{ وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا (140)} (النساء)

وعلى هذا اتفق جميع الصالحين، فقد قال بعضهم: أكثر الناس ذنوباً يوم القيامة أكثرهم كلاماً في معصية الله.. وقال آخر: كان رجل من الأنصار يمر بمجلس لهم فيقول لهم توضئوا فإن بعض ما تقولون شر من الحديث.

قلنا: وعينا هذا.. فما غيره؟

قال هارون: المراء والجدال([88]).. وهو ما نص عليه صلى الله عليه وآله وسلم حين قال: (ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل)، ثم قرأ:{ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا.. (58)} (الزخرف)([89]).. وقال: (إن أبغض الرجال إلى الله الألد([90]) الخصم)([91]).. وقال: (كفى بك إثما أن لا تزال مخاصما)([92])..  وقال: (المراء في القرآن كفر)([93]

وعلى هذا اتفق جميع الصالحين، فقد قال بعضهم: (من جعل دينه عرضة للخصومات أكثر التنقل)، وقال آخر: (إياكم والمراء فإنه ساعة جهل العالم وعندها يبتغي الشيطان زلته)، وقال آخر: (ليس هذا الجدل من الدين في شيء)، وقال: (المراء يقسي القلوب ويورث الضغائن)، وقال آخر: (إذا رأيت الرجل لجوجاً ممارياً معجباً برأيه فقد تمت خسارته)، وقال آخر: (لو خالفت أخي في رمانة فقال حلوة وقلت حامضة لسعى بي إلى السلطان)، وقال: (صاف من شئت ثم أغضبه بالمراء فليرمينك بداهية تمنعك العيش)، وقال آخر: (لا أماري صاحبي فإما أن أكذبه وإما أن أغضبه)، وقال آخر: (كفى بك إثماً أن لا تزال ممارياً)، وقال آخر: (لا تتعلم العلم لثلاث ولا تتركه لثلاث. لا تتعلمه لتتمارى به، ولا لتباهي به، ولا لترائي به. ولا تتركه حياء من طلبه، ولا زهادة فيه، ولا رضا بالجهل به)

قلنا: وعينا هذا.. فما غيره؟

قال هارون: التقعر في الكلام بالتشدق وتكلف السجع والفصاحة.. فكل ذلك من التصنع المذموم ومن التكلف الممقوت الذي ورد النهي عنه في ضمن قوله تعالى :{ قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (86)} (ص)

وفي الحديث قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : (إنّ من أحبّكم إليّ وأقربكم منّي مجلسا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقا، وإنّ أبغضكم إليّ وأبعدكم منّي مجلسا يوم القيامة الثّرثارون والمتشدّقون والمتفيهقون)، قالوا: يا رسول اللّه قد علمنا الثّرثارون والمتشدّقون. فما المتفيهقون؟ قال: (المتكبّرون)([94])، وقال: (شرار أمتي الذين غذوا بالنعيم يأكلون ألوان الطعام ويلبسون ألوان الثياب ويتشدقون في الكلام)([95]

قال رجل منا: ولكن ألا ترى أن لتحسين الكلام وتزيينه تأثيره في السامعين.. وقد طولبنا بذلك.

قال هارون: لا حرج في ذلك إن كان المقصود شريفا.. فلا يدخل في هذا تحسين ألفاظ الخطابة والتذكير من غير إفراد وإغراب، فإن المقصود منها تحريك القلوب وتشويقها وقبضها وبسطها، فرشاقة اللفظ تأثير فيه فهو لائق به.. فأما المحاورات التي تجري لقضاء الحاجات فلا يليق بها السجع والتشدق والاشتغال به من التكلف المذموم، ولا باعث عليه إلا الرياء وإظهار الفصاحة والتميز بالبراعة، وكل ذلك مذموم يكرهه الشرع ويزجر عنه.

***

بقيت مدة في هذا القسم أستفيد من هارون علوم الترفع عن شهوة الكلام.. وعندما أيقنت بأن رضوان الله والجنة أعظم من أبيعهما بألفاظ ينطقها لساني، طلب مني، كما طلب من جمع معي فقهوا ما فقهت أن نسير إلى قسم آخر من أقسام تلك المدرسة.

5 ـ التكاثر

بعد أن فتح الله علي فتعلمت أسرار الترفع عن ثقل شهوة الكلام سرت إلى القسم الخامس، وكان خاصا بالترفع عن ثقل شهوة التكاثر، وقد أخبرني ولي الله (يوسف الصديق) أن شيخ هذا القسم ولي من أولياء الله يقال له (سليمان)، وأنه تعلم أسرار الترفع عن شهوة التكاثر من نبي من أنبياء الله آتاه الله من كل شيء، ومع ذلك لم يحجب بما آتاه الله عن الله، إنه سليمان u ذلك الذي قال تعالى في صفته:{ فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ (36)} (النمل)

عندما دخلنا عليه مجلسه سمعناه يردد قوله تعالى:{ وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا قالَ النَّارُ مَثْواكُمْ خالِدِينَ فِيها إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (128)} (الأنعام)، وقوله:{ قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (188)} (الأعراف)، وقوله:{ اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٌ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ (20)} (الحديد)، وقوله:{ يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5) وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (7)} (المدثر)، وقوله:{ أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ (2) كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4) كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5)لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6) ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ (7) ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (8)} (التكاثر)

ثم حدثنا بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (لينتهينّ أقوام يفتخرون بآبائهم الّذين ماتوا إنّما هم فحم جهنّم، أو ليكوننّ أهون على اللّه من الجعل الّذي يدهده الخرء بأنفه، إنّ اللّه قد أذهب عنكم عبّيّة([96]) الجاهليّة، إنّما هو مؤمن تقيّ وفاجر شقيّ، النّاس كلّهم بنو آدم، وآدم خلق من تراب)([97])

وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (من سأل النّاس أموالهم تكثّرا([98])، فإنّما يسأل جمرا، فليستقلّ أو ليستكثر)([99]

وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (ما أخشى عليكم الفقر، ولكن أخشى عليكم التّكاثر، وما أخشى عليكم الخطأ ولكن أخشى عليكم العمد)([100]

وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (ثلاث كلّهنّ حقّ، ما من عبد ظلم بمظلمة فيفضي عنها للّه عزّ وجلّ إلّا أعزّ اللّه بها نصره، وما فتح رجل باب عطيّة يريد بها صلة إلّا زاده اللّه بها كثرة، وما فتح رجل باب مسألة يريد بها كثرة إلّا زاده اللّه عزّ وجلّ بها قلّة)([101]

وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (قلب الشّيخ شاب على حبّ اثنتين: طول الحياة وكثرة المال)([102]

وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (اقرأوا القرآن ولا تغلوا فيه ولا تجفوا عنه، ولا تأكلوا به، ولا تستكثروا به)([103]

وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إنّه سيصيب أمّتي داء الأمم) قالوا: وما داء الأمم؟ قال: (الأشر([104]) والبطر([105]) والتّكاثر والتّنافس في الدّنيا، والتّباعد والتّحاسد حتّى يكون البغي ثمّ الهرج([106])([107]

وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشّرف([108]) لدينه)([109]

وروى لنا عن عن أبي ذرّ أنه قال: كنت أمشي مع النّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في حرّة المدينة فاستقبلنا أحد، فقال: (يا أبا ذرّ)، قلت: لبّيك يا رسول اللّه، قال: (ما يسرّني أنّ عندي مثل أحد هذا ذهبا، تمضي عليّ ثالثة([110]) وعندي منه دينار، إلّا شيئا أرصده لدين، إلّا أن أقول به في عباد اللّه هكذا وهكذا وهكذا)- عن يمينه وعن شماله ومن خلفه- ثمّ مشى ثمّ قال: (إنّ الأكثرين([111]) هم المقلّون يوم القيامة، إلّا من قال: هكذا وهكذا وهكذا- عن يمينه، وعن شماله، ومن خلفه- وقليل ما هم) ثمّ قال لي: (مكانك، لا تبرح حتّى آتيك)، ثمّ انطلق في سواد اللّيل حتّى توارى، فسمعت صوتا قد ارتفع، فتخوّفت أن يكون أحد عرض للنّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، فأردت أن آتيه، فتذكّرت قوله لي: (لا تبرح حتّى آتيك) فلم أبرح حتّى أتاني، قلت: يا رسول اللّه، لقد سمعت صوتا تخوّفت (منه)، فقال: (وهل سمعته؟) قلت: نعم، قال: (ذاك جبريل أتاني فقال: من مات من أمّتك لا يشرك باللّه شيئا دخل الجنّة)([112]

بعد أن شنف آذاننا بهذه النصوص المقدسة سألناه عن حقيقة التكاثر، وعن مجالاته، فقال: التكاثر طبيعة من طبائع الإنسان التي غذيت بها فطرته، وأمدت بها جبلته، وهي دليل كمال، ومعراج وصول، ومسلك تحقيق.

 وهي في نفس الوقت مصيدة النفوس الشرهة والأفواه الجائعة والأجساد الظمآنة.

من أجلها بنيت الدور التي لم تسكن، وجمعت الأموال التي لم تنفق، وطرزت الثياب التي لم تلبس، ومن أجلها امتلأت القمامات بأصناف الطعام، وشغل الخلق الكثير بخدمة فرد لا يشبع.

ومن أجلها امتلأت الأرض بؤسا، وتجرع أهلها الشقاء بكل أصنافه، ورمي الطعام في البحر وتراشق الخلق بأصناف الفواكه والحلويات ليموت ملايين الآخرين جوعا.

إذا حلت حمياها في قلوب الملوك واستحلوا لذتها وفرحوا بنشوتها جندوا الجنود وملئوا الأرض حربا والديار خرابا.

وإن حلت في عقول المترفين خربوا الأكواخ وشردوا أهلها ليبنوا بدلها قصورا لا يسكنونها.

وإن حلت في عقول الحمقى تحولوا لصوصا..

وإن حلت في نفوس العامة تحولوا غوغاء..

وإن حلت في جيوب الأغنياء شحوا على أنفسهم وعيالهم لتكثر كنوزهم.

قال رجل منا: إنا نرى نفوسنا مفطورة على حب الكثرة والانشغال بها، فهي لا ترضى بالقليل، ولا تركن إليه، ولا تكاد تلتذ به.

قال سليمان: فابحثوا عن الكثرة النافعة.. فلا خير في السم الكثير.

قال الرجل: فأين نجدها؟

قال سليمان: لقد دلنا عليها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: (استكثروا من الباقيات الصّالحات) قيل: وما هي يا رسول اللّه؟ قال: (الملّة) (ثلاث مرّات) قيل: وما الملّة يا رسول اللّه؟ (للمرّة الرّابعة) قال: (التّكبير والتّهليل والتّسبيح والتّحميد، ولا حول ولا قوّة إلّا باللّه العليّ العظيم)([113]

ودلنا عليها قبل ذلك الله تعالى، فقال يصف المؤمنين ذكورهم وإناثهم:{ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (35)} (الأحزاب:35)

وقال يستثنهم من العذاب الذي حل بالمتكاثرين :{ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (227)} (الشعراء)، وقال :{ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21)} (الأحزاب)

وهؤلاء الذين انشغلوا بالكثرة الحقيقية هم الذين ينالون من فضل الله ما لا قدرة على العادين على عده، قال تعالى:{ مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (245)} (البقرة)، وقال :{ مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (11)} (الحديد)

***

بقيت مدة في هذا القسم أستفيد من سليمان علوم الترفع عن التكاثر.. وعندما أيقنت بأن متاع الدنيا أحقر من أن أبيع بسببه آخرتي طلب مني، كما طلب من جمع معي فقهوا ما فقهت أن نسير إلى قسم آخر من أقسام تلك المدرسة.

6 ـ البنيان

بعد أن فتح الله علي فتعلمت أسرار الترفع عن التكاثر سرت إلى القسم الخامس، وكان خاصا بالترفع عن ثقل شهوة البنيان، وقد أخبرني ولي الله (يوسف الصديق) أن شيخ هذا القسم ولي من أولياء الله يقال له (هود)، وأنه تعلم أسرار الترفع عن شهوة البنيان من نبي من أنبياء الله أرسله الله إلى قوم انشغلوا بالبنيان عن الإنسان، إنه هود u ذلك الذي خاطب قومه محذرا لهم من هذه الشهوة الخطيرة:{ أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (128) وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (129) وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (130) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (131)} (الشعراء)

عندما دخلنا عليه مجلسه تعجبنا إذ رأينا حوله صنفين من الناس، أما أحدهما فقد عضه الفقر بنابه، فلا يكاد يرى من الضعف والسقم، وأما الآخر، فقد احتضنه الغنى في قصوره، فامتلأ لحما وشحما وأنفة واستعلاء.

عندما دخلنا عليه رأيناه يلتفت إلى الفقراء المعوزين قائلا: لا تحزنوا ـ يامن فاتتكم سكنى القصور ـ وحولوا من أكواخكم قصورا منيفة تقصر أمامها قصور الجبارين.

لا تحزنوا ففي أكواخكم من القصور المبنية بلبنات السعادة، والمغشاة بطلاء السكينة، والمفرشة بفراش الرضا ما يغنيكم عن القصور المبنية بالحجارة والحديد، والمسقية بعرق المحرومين والمستضعفين، والمفرشة بفرش الكبرياء والعزة الوهمية.

ثم يلتفت إلى المترفين المشغولين بترفهم قائلا: التفتوا يا عباد القصور للحقائق المسجلة في دواوين القبور، فإنها تقول بلسان فصيح لمن انشغل ببنيانه عن نفسه:

يا من يُطيلُ بناءهُ متوقياً

   ريبَ المنونِ وصَرْفَه لا تَخْرَجِ

فالموتُ يفزغُ كل قصرٍ شامخٍ

   والموتُ يفتحُ كُلَّ بابٍ مرتجِ

وتقول:

تعالى اللّهُ! كم ملكٍ مَهيبٍ

  تبدَّلَ، بعد قَصْرٍ، ضِيْقَ لحدِ

وحقائق الآخرة المدونة في الدواوين المقدسة تقول:

لا دارَ للمرءِ بعدَ الموت يسكنُها

   إِلا التي كانَ قبلَ الموتِ يبنيها

فإِن بناها بخيرٍ طابَ مسكنها

   وإِن بناها بشرٍ خابَ بانيها

وتقول:

الموتُ ضيفٌ فاستعدَ لهُ

   قبلَ النزولِ بأفضلِ العددِ

واعملْ لدارٍ أنتَ جاعلَها

   دارِ المقامةِ آخرَ الأمدِ

وحكمة الحكماء تردد مع الإمام علي قوله:

رَأيْتُ الدهرَ مختلفاً يدورُ

   فلا حُزْنٌ يدومُ ولا سرورُ

وقد بَنَتِ الملوكُ به قصوراً

  فم تبقَ الملوكُ ولا القصورُ

إِن اللياليَ للأنامِ مناهلٌ

  تُطوُى وتُنْشَرُ دونَها الأعمارُ

فقِصارُهن مع الهُموم طويلةٌ

  وطِوالهنَ مع السُّرورِ قصارُ

وتردد مع أسامة بن منقذ:

احذرْ من الدنيا ولا

   تغترَّ بالعمرِ القصيرِ

وانظرْ إِلى آثارِ من

   صَرَعَتْه منا بالغرورِ

عَمَروا وشادو ما تَرا

   هُ من المنازلِ والقصورِ

وتحوَّلوا من بعدِ سُكنا

   ها إِلى سُكنى القبورِ

فإذا عرفتم هذا، فاحذروا أن تنظروا إلى قصوركم بعيونكم الفانية، بل انظروا إليها بعين الأزل والأبد، لتروها خرابا يبتني فوق الخراب.

فإن وصلت هذه الرؤية العرفانية إلى محل التحكم في سلوككم منعتكم من أن تذلوا أمام القصور والأبراج، وجعلتكم ترددون ما قال الشاعر:

شادَ الملوكُ قصورَهم وتَحَصَّنوا

  عن كُلِّ طالبِ حاجةٍ، أو راغبِ

غالوا بأبوابِ الحديد لعزِّهم

   وتنوقوا في قبحِ وجه الحاجبِ

وإِذا تلطفَ للدخولِ إِليهمُ

   راجٍ تلقَّوهُ بوعدٍ كاذبِ

فارغبْ إِلى ملكِ الملوكِ ولا تكنْ

  يا ذا الضراعةِ طالباً من طالبِ

***

بعد أن تحدث بهذا وغيره للفريقين ثارت في نزعة الجدل، فرحت أقطع حديثه بقولي: ولكن ما تقول؟.. وبم تستدل؟  أراك تريد أن تهدم بالأشعار ما أمرت النصوص المقدسة ببنائه.. ألم تسمع إلى الله تعالى، وهو يثني خيرا على صرح سليمان u، والذي كان سببا في إسلام ملكة سبأ، قال تعالى :{ قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (44)} (النمل)

التفت إلي مبتسما، وقال: صدقت.. لقد أثنى الله على صرح سليمان.. ولكنه في نفس الوقت ذم صرح فرعون.. لقد قال في ذلك :{ وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ (38) وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ (39) فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (40)} (القصص)، وقال: { وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ (37)} (غافر)

قلت: أتراك تريد أن تضرب القرآن بعضه ببعض؟

قال: معاذ الله.. ولكني أحذر هؤلاء من أن يقعوا ضحية لما وقع فيه فرعون من التعالي في البنيان.

قلت: ولم لم ترغبهم في صروح سليمان؟

قال: لا يبني صروح سليمان إلا سليمان أو هو على قلب سليمان.

قلت: ما تعنى؟

قال: لقد آتى الله سليمان حكمة وعلما، فلذلك لم يسقط في هاوية التثاقل إلى البنيان..

قلت: أهناك تثاقل للبنيان؟

قال: أجل.. ولا يحصل الكمال إلا بعد الترفع عنه.. ولذلك([114]) أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن لا نبني في هذه الدار بناء فوق الحاجة، ولا نزخرف لنا دارا خوفا من حب الإقامة في هذه الدار ونسيان الدار الآخرة.

قلت: إن المسافة بيننا وبين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عظيمة.. فكيف تذكر أن العهد قد أخذ عليكم منه صلى الله عليه وآله وسلم في هذا؟

قال: ألم تقرأ سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. إن كل حرف منها عهد من عهوده إلينا؟

قلت: فما في هذا؟

قال: لقد حدثنا الثقاة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (أما إن كل بناء وبال على صاحبه إلا ما لا بد للإنسان منه مما يستره من الحر والبرد والسباع ونحو ذلك)([115]

وقال: (إذا أراد الله بعبد شرا خضر له في اللبن والطين حتى يبنى)([116]

وقال: (إذا أراد الله بعبد هوانا أنفق ماله في البنيان) ([117])

وقال: (من بنى فوق ما يكفيه كلف أن يحمله يوم القيامة) ([118])

وقال: (وما أنفق العبد المؤمن من نفقة فإن خلفها على الله والله ضامن إلا ما كان في بنيان أو معصية)([119]

وقال: (يؤجر الرجل في نفقته كلها إلا التراب، أو قال في البنيان)([120]

وروي أنه لما بنى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المسجد قال: ابنوه عريشا كعريش موسى، قيل للراوي: وما عريش موسى؟ قال إذا رفع يده بلغ العريش يعني السقف([121]).

وفي الحديث المشهور الذي ذكر فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بيان الإسلام والإيمان والإحسان قال جبريل للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: أخبرني عن أماراتها – يعني الساعة – فقال: (أن تلد الأمة ربتها، وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان)([122])،  وفي رواية: (وإذا رأيت رعاء البهم يتطاولون في البنيان فذلك من أشراطها)

وفي حديث آخر أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مر بقبة على باب رجل من الأنصار فقال: ما هذه؟ قالوا قبة بناها فلان، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (كل ما كان هكذا فهو وبال على صاحبه يوم القيامة)، فبلغ الأنصاري ذلك فوضعها([123])، فمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد فلم يرها فسأل عنها؟ فأخبر أنه وضعها، لما بلغه عنه فقال: (يرحمه الله، يرحمه الله)([124])  

قلت: فأنت تحكم من خلال هذه النصوص على حرمة البناء؟

قال: معاذ الله أن أحرم ما أحل الله.

قلت: أراني لا أطيق فهمك؟

قال: نحن هنا في هذه المدرسة لا نحرم ما أحل الله من متاع، ولكنا نحرم التثاقل إليه، وأنا في هذا المحل لا أقول للناس: (اهدموا ما بنيتم من بناء.. أو اقعدوا عن بناء ما تريدون بناءه).. ولكني أقول لهم: (احذروا أن يتسلل غول البناء إلى قلوبكم، فتنشغلون ببناء الطوب عن بناء القلوب، أو تنشغلوا بقصور الدنيا عن قصور الآخرة)

***

بقيت مدة في هذا القسم أستفيد من هود علوم الترفع عن البنيان.. وعندما أيقنت بأن قصور الدنيا أحقر من أن أبيع بسببها قصور الآخرة طلب مني، كما طلب من جمع معي فقهوا ما فقهت أن نسير إلى قسم آخر من أقسام تلك المدرسة.

7 ـ الجاه

بعد أن فتح الله علي، فتعلمت من علوم الترفع عن ثقل البنيان بعض ما ذكرته لك، سرت نحو قسم آخر في تلك المدرسة كان اسمه (قسم الترفع عن الجاه)، وقد كان شيخه – كما ذكر لي ولي الله يوسف الصديق- رجل من أهل الله اسمه (زكريا)، وكان كسميه زكريا u يعيش بين قوم لا يأبهون به، ولا يستفيدون منه مع ما آتاه الله من العلم والحكمة.. ولذلك اختار يوسف الصديق أن يأتي به إلى مدرسته ليكون معلما في هذا القسم.

وقد فوجئت عندما دخلت لذلك القسم إذ وجدت فيه كثيرا من المشاهير.. كلهم – كما أخبرني يوسف الصديق- قصد زكريا ليتخلص من أوهام الجاه التي امتلأت بها نفسه، وكدرت عليه حياته.

كان أول ما سمعت من زكريا قوله في بداية حلقته التي اجتمعنا إليه فيها([125]): من أخطر أمراض النفوس تطلعها إلى غير مولاها.. فلا تكتفي بنظره.. بل تريد أن ينظر إليها غيره.. مع أن تطلعها لنظر غيره لا يزيدها إلا وبالا.. ولا تجني منه إلا هباء.

لقد ذكر القرآن الكريم هذا المرض من أمراض النفس، وحذر منه أشد تحذير، فقال في المتصدقين المرائين بصدقاتهم:{ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرابٌ فَأَصابَهُ وابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (264)} (البقرة)

انظروا كيف صور القرآن الكريم ثمرة تلك الأموال المبذولة.. إنها كالتراب الذي يكون على الصخر، ثم يأتي المطر ليحيله صلدا فارغا من كل خير.

بل صورهم القرآن الكريم بصورة أخطر من ذلك، حيث قرنهم بالشيطان مع أنهم يبذلون أموالهم، فقال:{ وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطانُ لَهُ قَرِيناً فَساءَ قَرِيناً (38) وَما ذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيماً (39)} (النساء)

واعتبر القرآن من امتلأ قلبه بحب الجاه والرياء منافقا يخادع الله، ولا يجني من يريد أن يخدع الله إلا الخداع، قال تعالى:{ إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى يُراؤُنَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا (142) مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (143)} (النساء)

ومثل المال، أخبر القرآن عن المرائين بجهادهم، فقال:{ وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَراً وَرِئاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (47)} (الأنفال)

وهكذا أخبر عن المرائين بصلاتهم، وأخبر عن الويل الذي ينتظرهم، قال تعالى:{ فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ (6) وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ (7) (5)} (الماعون)

وأخبر صلى الله عليه وآله وسلم عن جزاء من يريدون أن يراهم الناس، ويسمع بهم الناس، فقال: ( من سمّع سمّع اللّه به، ومن يرائي يرائي  اللّه به)([126]

وروي أن أعرابيّا أتى النّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا رسول اللّه، الرّجل يقاتل للمغنم، والرّجل يقاتل ليذكر، والرّجل يقاتل ليرى مكانه([127])، فمن في سبيل اللّه؟ فقال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: (من قاتل لتكون كلمة اللّه أعلى فهو في سبيل اللّه)([128]

وسأله بعضهم، فقال: يا رسول اللّه أخبرني عن الجهاد والغزو، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (إن قاتلت صابرا محتسبا بعثك اللّه صابرا محتسبا، وإن قاتلت مرائيا مكابرا بعثك اللّه مرائيا مكابرا، على أيّ حال قاتلت أو قتلت بعثك اللّه على تيك الحال)([129])

وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (الغزو غزوان، فأمّا من ابتغى وجه اللّه وأطاع الإمام وأنفق الكريمة، وياسر الشّريك، واجتنب الفساد. فإنّ نومه ونبهه أجر كلّه، وأمّا من غزا فخرا ورياء وسمعة وعصى الإمام وأفسد في الأرض فإنّه لم يرجع بالكفاف)([130]

وقال: (إنّ أوّل النّاس يقضى يوم القيامة عليه، رجلّ استشهد، فأتي به فعرّفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: قاتلت فيك حتّى استشهدت، قال: كذبت، ولكنّك قاتلت لأن يقال جريء، فقد قيل، ثمّ أمر به فسحب على وجهه حتّى ألقي في النّار، ورجل تعلّم العلم وعلّمه، وقرأ القرآن، فأتي به، فعرّفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: تعلّمت العلم وعلّمته وقرأت فيك القرآن، قال: كذبت، ولكنّك تعلّمت العلم ليقال: عالم، وقرأت القرآن ليقال: هو قاريء، فقد قيل: ثمّ أمر به فسحب على وجهه حتّى ألقي في النّار، ورجل وسّع اللّه عليه وأعطاه من أصناف المال كلّه، فأتي به فعرّفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: ما تركت من سبيل تحبّ أن ينفق فيها إلّا أنفقت فيها لك، قال: كذبت، ولكنّك فعلت ليقال: هو جواد، فقد قيل، ثمّ أمر به فسحب على وجهه، ثمّ ألقي في النّار)([131]

وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (تعوّذوا باللّه من جبّ الحزن([132])، قالوا: يا رسول اللّه، وما جبّ الحزن؟ قال: (واد في جهنّم يتعوّذ منه جهنّم كلّ يوم أربعمائة مرّة) قالوا: يا رسول اللّه، ومن يدخله؟ قال: (أعدّ للقرّاء المرائين بأعمالهم، وإنّ من أبغض القرّاء إلى اللّه تعالى الّذين يزورون الأمراء)([133])  

وقال: (إنّ أخوف ما أخاف عليكم الشّرك الأصغر)، قالوا: يا رسول اللّه، وما الشّرك الأصغر؟ قال: (الرّياء، إنّ اللّه تبارك وتعالى يقول يوم تجازى العباد بأعمالهم: اذهبوا إلى الّذين كنتم تراءون بأعمالكم في الدّنيا فانظروا، هل تجدون عندهم جزاء؟)([134]

وقال: (أتخوّف على أمّتي الشّرك، والشّهوة الخفيّة)، قيل: يا رسول اللّه، أتشرك أمّتك من بعدك؟ قال: (نعم، أما إنّهم لا يعبدون شمسا ولا قمرا، ولا حجرا ولا وثنا، ولكن يراءون بأعمالهم)([135]

وقال: (من صلّى يرائي فقد أشرك ومن صام يرائي فقد أشرك، ومن تصدّق يرائي فقد أشرك)([136]

وقال: ( إنّما الأعمال بالنّيّة، وإنّما لامريء ما نوى فمن كانت هجرته إلى اللّه ورسوله، فهجرته إلى اللّه ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة يتزّوجها، فهجرته إلى ما هاجر إليه)([137])

وقال: (قال اللّه تعالى: أنا أغنى الشّركاء عن الشّرك، من عمل عملا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه)([138]

وقال: (لا تعلّموا العلم لتباهوا به العلماء، ولا لتماروا به السّفهاء، ولا تخيّروا به المجالس. فمن فعل ذلك فالنّار النّار)([139]

وقال: (من أكل برجل مسلم([140]) أكلة فإنّ اللّه يطعمه مثلها من جهنّم، ومن كسي ثوبا برجل مسلم فإنّ اللّه يكسوه مثله من جهنّم، ومن قام برجل مقام سمعة ورياء فإنّ اللّه يقوم به مقام سمعة ورياء يوم القيامة)([141]

وقال: (الإيمان يمان، والكفر قبل المشرق، والسّكينة في أهل الغنم، والفخر والرّياء في الفدّادين([142]) أهل الخيل والوبر)([143]

وقال: (الوليمة أوّل يوم حقّ، والثّاني معروف، واليوم الثّالث سمعة ورياء)([144]

بعد أن ذكر زكريا هذا وغيره قام بعض الحاضرين، وقال: فليأذن لنا شيخنا أن نسأله عن بعض ما يرتبط بما تحدث عنه، فإن منه الواضح الجلي، ومنه ما يحتاج إلى مزيد بيان.

قال زكريا: سل ما بدا لك.. وسلوا ما بدا لكم.. فلم أجلس هذا المجلس إلا لتسألوني، وأجيبكم.

قال الرجل: الحكم على الشيء فرع عن تصوره.. ونحن نطلب منكم أن تذكروا لنا حقيقة الجاه أوحقيقة الشهرة التي امتلأت قلوبنا محبة لها.. فإن الغارق في شيء قد لا يدرك ما هو فيه كما يدركه من بعد عنه.

قال زكريا: الجاه كالمال.. كلاهما ركنان من أركان الدنيا.. وبما أن المال واضح جلي، ومحسوس وملموس، فإنا نتخذه مطية للتعرف على الجاه.. أجيبوني: أليس المال هو ملك الأعيان المنتفع بها؟.. أو ليس الغني هو الذي يملك الدراهم والدنانير، أي يقدر عليهما ليتوصل بهما إلى الأغراض والمقاصد وقضاء الشهوات وسائر حظوظ النفس؟

قلنا: بلى..

قال زكريا: فهكذا الجاه.. فهو ليس إلا ملك القلوب المطلوب تعظيمها وطاعتها.. وليس ذو الجاه إلا الذي يملك قلوب الناس، أي يقدر على أن يتصرف فيها ليستعمل بواسطتها أربابها في أغراضه ومآربه.

وكما أنه يكتسب الأموال بأنواع من الحرف والصناعات فكذلك يكتسب قلوب الخلق بأنواع من المعاملات.

قال رجل منا: فمعنى الجاه إذن هو قيام المنزلة في قلوب الناس، أي اعتقاد القلوب لنعت من نعوت الكمال فيه، فبقدر ما يعتقدون من كماله تذعن له قلوبهم، وبقدر إذعان القلوب تكون قدرته على القلوب، وبقدر قدرته على القلوب يكون فرحه وحبه للجاه.

قال زكريا: أجل.. الأمر كما تقول.. ولذلك ثمرات ينالها ذو الجاه كالمدح والإطراء، فإن المعتقد للكمال لا يسكت عن ذكر ما يعتقده، فيثني عليه.. وكالخدمة والإعانة فإنه لا يبخل ببذل نفسه في طاعته بقدر اعتقاده فيكون سخرة له مثل العبد في أغراضه.. وكالإيثار وترك المنازعة والتعظيم والتوقير بالمفاتحة بالسلام وتسليم الصدر في المحافل والتقديم في جميع المقاصد.. فهذه آثار تصدر عن قيام الجاه في القلب.

قام آخر، وقال: فما السبب في كون القلوب مفطورة على حب الجاه، بحيث لا تكاد تنفك عنه؟

قال زكريا: هو نفس السبب الذي جعل القلوب مفطورة على حب المال.. بل إن التأمل يدل على أن حب الجاه يلزم أن يكون أعظم من حب المال.

قال الرجل: كيف ذلك؟

قال زكريا:  أنت تعلم أن الدراهم والدنانير لا غرض في أعيانهما، إذ لا تصلح لمطعم ولا مشرب ولا ملبس، وإنما هي والحصباء بمثابة واحدة، ولكنهما محبوبان لأنهما وسيلة إلى جميع المحاب وذريعة إلى قضاء الشهوات، فكذلك الجاه، لأن معناه الجاه ملك القلوب والقدرة على استسخارها، وهو يفيد قدرة على التوصل إلى جميع الأغراض.. فالاشتراك في السبب اقتضى الاشتراك في المحبة، وترجيح الجاه على المال اقتضى أن يكون الجاه أحب من المال.

قال الرجل: أنا أسألك عن مرجحات الجاه على المال.

قال زكريا: لملك الجاه ترجيح على ملك المال من وجوه ثلاثة.

قال الرجل: فما أولها؟.

قال زكريا: أولها هو أن التوصل بالجاه إلى المال أيسر من التوصيل بالمال إلى الجاه، فالعالم أو الزاهد الذي تقرر له جاه في القلوب لو قصد اكتساب المال تيسر له، فإن أموال أرباب القلوب مسخرة للقلوب ومبذولة لمن اعتقد فيه الكمال، وأما الخسيس الذي لا يتصف بصفة كمال إذا وجد كنزاً ولم يكن له جاه يحفظ ماله وأراد أن يتوصل بالمال إلى الجاه لم يتيسر له.. وبذلك فإن الجاه وسيلة إلى المال، فمن ملك الجاه فقد ملك المال، ومن ملك المال لم يملك الجاه بكل حال، فلذلك صار الجاه أحب.

قال الرجل: وعيت هذا.. فما الثاني؟

قال زكريا: الثاني هو أن المال معرض للبلوى والتلف بأن يسرق ويغصب، ويحتاج فيه إلى الحفظة والحراس، وأما القلوب إذا ملكت فلا تتعرض لهذه الآفات فهي على التحقيق خزائن عتيدة لا يقدر عليها السراق.

قال الرجل: وعيت هذا.. فما الثالث؟

قال زكريا: الثالث هو أن ملك القلوب يسري ويتزايد من غير حاجة إلى تعب ومقاساة، فإن القلوب إذا أذعنت لشخص واعتقدت كماله بعلم أو عمل أو غيره أفصحت الألسنة لا محالة بما فيها، فيصف ما يعتقده لغيره ويقتنص ذلك القلب أيضاً له، ولهذا المعنى يحب الطبع الصيت وانتشار الذكر.. لأن ذلك إذا استطار في الأقطار اقتنص القلوب ودعاها إلى الإذعان والتعظيم، فلا يزال يسري من واحد إلى واحد ويتزايد وليس له مرد معين، وأما المال فمن ملك منه شيئاً فهو مالكه ولا يقدر على استنمائه إلا بتعب ومقاساة.

قام آخر، وقال: ما دام هذا هو غرض الجاه، فلم يحب الإنسان اتساع الجاه وانتشار الصيت إلى أقاصي البلاد التي يعلم قطعاً أنه لا يطؤها ولا يشاهد أصحابها، ليعظموه أو ليعينوه على غرض من أغراضه.. ومع اليأس من ذلك فإنه يلتذ به غاية الالتذاذ، بل إن حب ذلك ثابت في الطبع؟

قال زكريا: لذلك سببان، أحدهما: جلي تدركه الكافة.. والآخر: خفي وهو أعظم السببين، وهو أدقهما وأخفاهما.

قال الرجل: فما السبب الأول؟

قال زكريا: هو دفع ألم الخوف، لأن الشفيق بسوء الظن مولع، والإنسان وإن كان مكفياً في الحال فإنه طويل الأمل ويخطر بباله أن المال فيه كفايته ربما يتلف فيحتاج إلى غيره، فإذا خطر ذلك بباله هاج الخوف من قلبه ولا يدفع ألم الخوف إلا الأمن الحاصل بوجود مال آخر يفزغ إليه إن أصابت هذا المال جائحة، فهو أبدا لشفقته على نفسه وحبه للحياة يقدر طول الحياة؛ ويقدر هجوم الحاجات؛ ويقدر إمكان تطرق الآفات إلى الأموال، ويستشعر الخوف من ذلك، فيطلب ما يدفع خوفه وهو كثرة المال، حتى إن أصيب بطائفة من ماله استغنى بالآخر.

قال الرجل: صدقت في هذا، وقد أشار إليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عندما قال: (لو كان لابن آدم واد من مال لابتغى إليه ثانيا، ولو كان له واديان لابتغى لهما ثالثا، ولا يملا جوف ابن آدم إلا التراب، ويتوب الله على من تاب)([145]).. فما السبب الثاني.. ذلك الذي نعته بالخفي؟

قال زكريا: نعم هو خفي.. لأنه يرتبط بحقيقة الروح التي قال الله فيها :{ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (85)} (الإسراء)، فقد أخبر الله تعالى أن الروح أمر رباني.. وذلك يشير إلى أنها بطبعها تحب الربوبية، ومعنى الربوبية التوحد بالكمال والتفرد بالوجود على سبيل الاستقلال.. ولذلك قال بعض الصالحين: (ما من إنسان إلا وفي باطنه ما صرح به فرعون من قوله :{ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (24)} (النازعات)، ولكنه ليس يجد له مجالاً)

قام آخر، وقال: لقد بث تشبيهك للجاه بالمال في نفسي شبهة أستحيي من ذكرها.

قال زكريا: لا عليك.. سأجيبك عنها من غير أن تسألني.. أنت تريد أن تقول: بما أن

أنه لا بد من المال لتقوم الحياة، فلا بد من الجاه كذلك..

قال الرجل: ذلك ما أردت قوله.. فما جوابك عن هذه الشبهة؟

قال زكريا: كما أنه لابد من أدنى مال لضرورة المطعم والمشرب والملبس، فلا بد – قياسا عليه- من أدنى جاه لضرورة المعيشة مع الخلق.. والإنسان كما لا يستغني عن طعام يتناوله فيجوز أن يحب الطعام أو المال الذي يبتاع به الطعام، فكذلك لا يخلو عن الحاجة إلى رفيق يعينه، وأستاذ يرشده، وسلطان يحرسه ويدفع عنه ظلم الأشرار، فحبه لأن يكون له في قلب قلوب هؤلاء جميعا من المنزلة ما يدعوهم إلى رعايته والاهتمام به ليس حبا مذموما..

قال الرجل: لقد أورد علي حديثك هذا شبهة أخرى.

قال زكريا: والجواب عليها سهل يسير، فيمكن استعمال القياس لتفهم الحقيقة، وتزول الشبهة.

قال الرجل: أنت لم تسمع شبهتي.

قال زكريا: أنت تريد أن تقول: ما دام الأمر كذلك، فكيف يذم طلب الجاه مع أنه لا يذم طلب المال حتى لو كثر؟

قال الرجل: أجل.. هذا ما كنت أريد أن أقوله.

قال زكريا: والجواب عليه هو نفس الجواب في المال.. فالمال إن طلب من حله ووضع في محله كان مباركا.

قال الرجل: فهل للجاه محال حلال يكسب فيها، ومحال حلال ينفق فيها؟

قال زكريا: أجل.. ولهذا عرف الله برسله وجعل لهم من الشهرة ما صرف القلوب إليهم.. لأنه لا يمكن أن تعرف حقائق الإيمان من دون أن يعرف الناس مبلغيها.

وهكذا المؤمن الصالح الذي امتلك من القدرات ما يتيح له أن يخلف الرسل، فإنه إن أحب أن يكون له جاه في القلوب، وشهرة في المجتمع، فإنه لا يعاب في ذلك ما دام يريد بذلك نصرة دينه لا نصرة نفسه.

أما إن أراد الجاه لنفسه، فإنه يلام على ذلك كما يلام من أحب المال لذاته من غير أن يتوسل به إلى غرض شرعي صحيح.

وإلى هذا المعنى الإشارة بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الله تعالى إذا أحب عبدا دعا جبريل فقال : إني أحب فلانا فأحبه ! فيحبه جبريل ثم ينادي في السماء فيقول : إن الله يحب فلانا فأحبوه ! فيحبه أهل، ثم يوضع له القبول في الارض، وإذا أبغض عبدا دعا جبريل فيقول : إني أبغضه، فيبغضه جبريل ثم ينادي في أهل السماء : إن الله تعالى يبغض فلانا فأبغضوه ! فيبغضونه ثم توضع له البغضاء في الارض)([146]

قام آخر، وقال: وعينا هذا.. لقد ذكرت لنا أنه لا حرج على من طلب المنزلة والجاه في قلب أستاذه ورفيقه وسلطانه ومن يرتبط به، فهل ذلك مباح على الإطلاق؛ أو أنه يباح إلى حد مخصوص على وجه مخصوص؟

قال زكريا: لذلك ثلاثة وجوه؛ وجهان مباحان، ووجه محظور.

قال الرجل: فما الوجه المحظور؟

قال زكريا: هو أن يطلب قيام المنزلة في قلوبهم باعتقادهم فيه صفة وهو منفك عنها، مثل العلم والورع، فيظهر لهم أنه عالم أو ورع وهو لا يكون كذلك.. فهذا حرام لأنه كذب وتلبيس إما بالقول أو بالمعاملة.

قال الرجل: فما الوجهان المباحان؟

قال زكريا: أما أولهما فهو أن يطلب المنزلة بصفة هو متصف بها كقول يوسف صلى الله عليه وآله وسلم فيما أخبر الله تعالى عنه :{ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55)} (يوسف)، فإنه طلب المنزلة في قلبه بكونه حفيظاً عليماً، وكان محتاجاً إليه وكان صادقاً فيه.

وأما الثاني، فأن يطلب إخفاء عيب من عيوبه ومعصية من معاصيه، حتى لا يعلم فلا تزول منزلته به، فهذا أيضاً مباح لأن حفظ الستر على القبائح جائز، ولا يجوز هتك الستر وإظهار القبيح.. وهذا ليس فيه تلبيس، بل هو سد لطريق العلم بما لا فائدة في العلم به، كالذي يخفي عن السلطان أنه يشرب الخمر ولا يلقى إليه أنه ورع، فإنه قوله: إني ورع تلبيس، وعدم إقراره بالشرب لا يوجب اعتقاد الورع، بل يمنع العلم بالشرب.

ومن جملة المحظورات في هذا تحسين الصلاة بين يديه ليحسن فيه اعتقاده، فإن ذلك رياء، وهو ملبس إذ يخيل إليه أنه من المخلصين الخاشعين لله وهو مراء بما يفعله، فكيف يكون مخلصاً؟ فطلب الجاه بهذا الطريق حرام وكذا بكل معصية، وذلك يجري مجرى اكتساب المال الحرام من غير فرق، وكما لا يجوز له أن يتملك مال غيره بتلبيس في عوض أو غيره فلا يجوز له أن يتملك قلبه بتزوير وخداع، فإن مللك القلوب أعظم من ملك الأموال.

قام آخر، وقال: وعينا كل ما ذكرت.. ونحن نريد الآن أن تذكر لنا الجذور التي ينبت منها حب المدح الذي هو ثمرة حب الجاه، فلا يمكن معالجة شيء من غير معرفة جذوره.

قال زكريا: صدقت.. وقد تأملت هذا.. فوجدت أربعة جذور تنبت منها شجرة الجاه في القلب.

قال الرجل: فما الجذر الأول؟

قال زكريا: الأول هو شعور النفس بالكمال، فقد عرفنا أن الكمال محبوب، وكل محبوب فإدراكه لذيذ.. فمهما شعرت النفس بكمالها ارتاحت واعتزت وتلذذت.. ولذلك فإنها إذا مدحت ترسخ حب الجاه فيها، وصعب قلعه.

قال الرجل: فما الجذر الثاني؟

قال زكريا: هو أن المدح الذي هو مطلوب محب الجاه يدل على أن قلب المادح مملوك للممدوح وأنه مريد له ومعتقد فيه ومسخر تحت مشيئته.. وملك القلوب محبوب والشعور بحصوله لذيذ.. وبهذه العلة تعظم اللذة مهما صدر الثناء ممن تتسع قدرته وينتفع باقتناص قلبه، ويضعف مهما كان المادح ممن لا يؤبه له ولا يقدر على شيء، وبهذه العلة أيضاً يكره الذم ويتألم به القلب، وإذا كان من الأكابر كانت نكايته أعظم لأن الفائت به أعظم.

قال الرجل: فما الجذر الثالث؟

قال زكريا: هو أن ثناء المثني ومدح المادح سبب لاصطياد قلب كل من يسمعه، لا سيما إذ كان ذلك ممن يلتفت إلى قوله ويعتد بثنائه، وهذا مختص بثناء يقع على الملأ، فلا جرم كلما كان الجمع أكثر والمثني أجدر بأن يلتفت إلى قوله كان المدح ألذ والذم أشد على النفس.

قال الرجل: فما الجذر الرابع؟

قال زكريا: هو أن المدح يدل على حشمة الممدوح، واضطرار المادح إلى إطلاق اللسان بالثناء على الممدوح إما عن طوع وإما عن قهر، فإن الحشمة أيضاً لذيذة لما فيها من القهر والقدرة، وهذه اللذة تحصل وإن كان المادح لا يعتقد في الباطن ما مدح به، ولكن كونه مضطراً إلى ذكره نوع قهر واستيلاء عليه.

قام آخر، وقال: عرفنا حقيقة الجاه والجذور التي ينبت منها.. فعلمنا الآن كيف نوجهه التوجيه الصحيح؟

قال زكريا: سأذكر لكم سبعة أدوية من عرف كيف يستعملها فإنه لا يبالي إلا بنظر مولاه.

قلنا: فما أولها؟

قال زكريا: أن يتفكر في الأخطار التي يستهدف لها أرباب الجاه في الدنيا، فإن كل ذي جاه محسود ومقصود بالإيذاء وخائف على الدوام على جاهه ومحترز من أن تتغير منزلته في القلوب.. والقلوب أشد تغيراً من القدر في غليانها، وهي مترددة بين الإقبال والإعراض، فكل ما يبنى على قلوب الخلق يضاهي ما يبنى على أمواج البحر، فإنه لا ثبات له، والاشتغال بمراعاة القلوب وحفظ الجاه ودفع كيد الحساد ومنع أذى الأعداء كل ذلك غموم عاجلة ومكدرة للذة الجاه، فلا يفي في الدنيا مرجوها بمخوفها.

وقد راعى الشاعر الناصح هذا المعنى حين قال:

عش خامل الذكر بين الناس وارض به

   فذاك أسلم للدنيا وللدين

من عاشر الناس لم تسلم ديانته

   ولم يزل بين تحريك وتسكين

وقال بعض الحكماء: (الخمول نعمة والنفس تأباه، والظهور نقمة والنفس تهواه)

قلنا: عرفنا الترياق الأول.. فما الثاني؟

قال زكريا: أن يعلم أن السبب الذي لأجله أحب الجاه – وهو كمال القدرة على أشخاص الناس وعلى قلوبهم – إن صفا وسلم فآخره الموت.. فليس هو من الباقيات الصالحات، بل لو سجد لك كل من على بسيط الأرض من المشرق إلى المغرب إلى خمسين سنة لا يبقى الساجد ولا المسجود له، ويكون حالك كحال من مات قبلك من ذوي الجاه مع المتواضعين له.. فهذا لا ينبغي أن يترك به الدين الذي هو الحياة الأبدية التي لا انقطاع لها.

قلنا: عرفنا الترياق الثاني.. فما الثالث؟

قال زكريا: أن يعلم خطر حب الجاه على دينه، فإن من غلب على قلبه حب الجاه صار مقصور الهم على مراعاة الخلق، مشغوفاً بالتودد إليهم والمراءاة لأجلهم، ولا يزال في أقواله وأفعاله ملتفتاً إلى ما يعظم منزلته عندهم، وذلك بذر النفاق وأصل الفساد، ويجر ذلك لا محالة إلى التساهل في العبادات والمراءاة بها وإلى اقتحام المحظورات للتوصل إلى اقتناص القلوب، ولذلك شبه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حب الشرف والمال وإفسادهما للدين بذئبين ضاريين، فقال صلى الله عليه وآله وسلم 🙁 ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه)([147]

وذلك لأن النفاق هو مخالفة الظاهر للباطن بالقول أو الفعل، وكل من طلب المنزلة في قلوب الناس فيضطر إلى النفاق معهم وإلى التظاهر بخصال حميدة هو خال عنها، وذلك هو عين النفاق.

قلنا: عرفنا الترياق الثالث.. فما الرابع؟

قال زكريا: أن يملأ قلبه بما ورد في النصوص المقدسة من مدح الخمول وذم الدح..

أما مدح الخمول، فمما ورد فيه قوله صلى الله عليه وآله وسلم : (تعس عبد الدينار وعبد الدرهم وعبد الخميصة إن أعطي رضي، وإن لم يعط تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش طوبي لعبد أخذ بعنان فرسه في سبيل الله أشعث رأسه مغبرة قدماه إن كان في الحراسة كان في الحراسة وإن في الساقة كان في الساقة إن استأذن لم يؤذن له وإن شفع لم يشفع)([148]) وحسبك بهذا الحديث ثناء على الخاملين.

ومر رجل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقال لرجل عنده جالس : ( ما رأيك في هذا ؟ ) فقال : رجل من أشراف الناس هذا والله حري إن خطب أن ينكح وإن شفع أن يشفع. فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم مر رجل آخر، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ما رأيك في هذا ؟ ) فقال : يا رسول الله هذا رجل من فقراء المسلمين، هذا حري إن خطب أن لا ينكح، وإن شفع أن لا يشفع، وإن قال أن لا يسمع لقوله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( هذا خير من ملء الأرض مثل هذا)([149]

وأما ذم المدح، فمما ورد فيه قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (احثوا التراب في وجوه المادحين)([150])  

وقال الإمام علي لما أثني عليه: (اللهم اغفر لي ما لا يعلمون ولا تؤاخذني بما يقولون واجعلني خيرا مما يظنون)

وأثنى رجل عليه في وجهه، وكان قد بلغه أنه يقع فيه، فقال: (أنا دون ما قلت وفوق ما في نفسك)

قلنا: عرفنا الترياق الرابع.. فما الخامس؟

قال زكريا: أن يعمل على إسقاط الجاه عن قلوب الخلق بمباشرة أفعال مباحة يلام عليها حتى يسقط من أعين الخلق وتفارقه لذة القبول ويأنس بالخمول ويرد الخلق ويقنع بالقبول من الخالق.. كما روي أن بعض الملوك قصد بعض الزهاد، فلما علم بقربه منه استدعى طعاماً وبقلاً وأخذ يأكل بشره ويعظم اللقمة، فلما نظر غليه الملك سقط من عينه وانصرف، فقال الزاهد: الحمد لله الذي صرفك عني.

قلنا: عرفنا الترياق الخامس.. فما السادس؟

قال زكريا: أن يرجع إلى عقله، ويقول لنفسه: هذه الصفة التي أحب أن أمدح بها هل أنا متصف بها أم لا؟ فإن كنت متصفاً بها فهي إما صفة تستحق المدح كالعلم والورع، وإما صفة لا تستحق المدح كالثروة والجاه والأعراض الدنيوية فإن كانت من الأعراض الدنيوية فالفرح بها كالفرح بنبات الأرض الذي يصير على القرب هشيماً تذروه الرياح، وهذا من قلة العقل، بل العاقل يقول كما قال المتنبي:

أشد الغم عندي في سرور      تيقن عنه صاحبه انتقالا

فلا ينبغي أن يفرح الإنسان بعروض الدنيا، وإن فرح فلا ينبغي أن يفرح بمدح المادح بها بوجودها، والمدح ليس هو سبب وجودها..

وإن كانت الصفة مما يستحق الفرح بها كالعلم والورع فينبغي أن لا يفرح بها لأن الخاتمة غير معلومة، وهذا إنما يفتضي الفرح لأنه يقرب عند الله زلفى، وخطر الخاتمة باق، ففي الخوف من سوء الخاتمة شغل عن الفرح بكل ما في الدنيا..

فينبغي أن يكون فرحك بفضل الله عليك بالعلم والتقوى لا يمدح المادح، فإن اللذة في استشعار الكمال والكمال موجود من فضل الله لا من المدح والمدح تابع له فلا ينبغي أن تفرح بالمدح، والمدح لا يزيدك فضلاً وإن كانت الصفة التي مدحت بها أنت خال عنها ففرحك بالمدح غاية الجنون.

قلنا: عرفنا الترياق السادس.. فما السابع؟

قال زكريا: أن يعلم أن الذم – الذي لا يخاف محب الجاه من شيء كما يخاف منه – لا يخلو من ثلاثة أحوال: إما أن يكون قد صدق فيما قال وقصد به النصح والشفقة؛ وإما أن يكون صادقاً ولكن قصده الإيذاء والتعنت، وإما أن يكون كاذباً.

فإن كان صادقاً وقصده النصح فلا ينبغي أن يذمه ويغضب عليه بسببه، بل ينبغي أن يتقلد منته، فإن من أهدى إليك عيوبك فقد أرشدك إلى المهلك حتى تتقيه، فينبغي أن تفرح به وتشتغل بإزالة الصفة المذمومة عن نفسك إن قدرت عليها، فأما اغتمامك وكراهتك له وذمك إياه فإنه غاية الجهل..

أما إن كان قصده التعنت فأنت قد انتفعت بقوله إذ أرشدك إلى عيبك إن كنت جاهلاً به، وأذكرك عيبك إن كنت غافلاً عنه، أو قبحه في عينك لينبعث من حرصك على إزالته إن كنت قد استحسنته. وكل ذلك أسباب سعادتك وقد استفدته منه فاشتغل بطلب السعادة فقد أتيح لك أسبابها بسبب ما سمعته من المذمة.

وأما قصد العدو التعنت فجناية منه على دين نفسه، وهو نعمة منه عليك، فلم تغضب عليه بقول انتفعت به أنت وتضرر هو به؟

قال رجل منا: فإن افترى علي بما أنا بريء منه عند الله تعالى.

قال زكريا: لا تكره ذلك أيضا.. ولا تشتغل بذمه، بل تتفكر في ثلاثة أمور:

أحدها أنك إن خلوت من ذلك العيب فلا تخلو عن أمثاله وأشباهه، وما ستره الله من عيوبك أكثر، فاشكر الله تعالى إذ لم يطلعه على عيوبك ودفعه عنك بذكر ما أنت بريء عنه.

والثاني أن ذلك كفارات لبقية مساويك وذنوبك فكأنه رماك بعيب أنت بريء منه وطهرك من ذنوب أنت ملوث بها وكل من اغتابك فقد أهدى إليك حسناته، وكل من مدحك فقد قطع ظهرك.. فما بالك تفرح بقطع الظهر وتحزن لهدايا الحسنات التي تقربك إلى الله تعالى وأنت تزعم أنك تحب القرب من الله.

وأما الثالث، فهو أن المسكين قد جنى على دينه حتى سقط من عين الله وأهلك نفسه بافترائه وتعرض لعقابه الأليم، فلا ينبغي أن تغضب عليه مع غضب الله عليه فتشمت به الشيطان وتقول: اللهم أهلكه، بل ينبغي أن تقول: اللهم أصلحه اللهم تب عليه اللهم ارحمه، كما قال صلى الله عليه وآله وسلم : (اللهم اغفر لقومي.. اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون)، وهم قد كسروا ثنيته وشجوا وجهه وقتلوا عمه حمزة يوم أحد.

ودعا إبراهيم بن أدهم لمن شج رأسه بالمغفرة فقيل له في ذلك فقال: (علمت أني مأجور بسببه، وما نالني منه إلا خير، فلا أرضى أن يكون هو معقباً بسببي)

ومما يهون عليك كراهة المذمة قطع الطمع فإن من استغنيت عنه مهما ذمك لم يعظم أثر ذلك في قلبه، وأصل الدين القناعة وبها ينقطع الطمع عن المال والجاه، وما دام الطمع قائماً كان حب الجاه والمدح في قلب من طمعت فيه غالباً، وكانت همتك إلى تحصيل المنزلة في قلبه مصروفة، ولا ينال ذلك إلا بهدم الدين، فلا ينبغي أن يطمع طالب المال والجاه ومحب المدح ومبغض الذم في سلامة دينه فإن ذلك بعيد جداً.

***

لست أدري كيف ثارت في نزعة الجدل، فرحت أقطع حديثهم بقولي: ولكن ما تقولون.. ألم تسمعوا قوله تعالى لرسوله صلى الله عليه وآله وسلم  :{ وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ (4)} (الشرح).. أليس هذا قمة الجاه؟..

ثم أي شهرة تزيد على شهرة الأنبياء والأولياء ووأئمة العلماء! فكيف فاتهم فضيلة الخمول؟

 ثم ألا ترون أن عبد الله الحقيقي هو العبد الذي لا يبالي أظهره الله، أو أبطنه، رفعه أو وضعه.. فهو عبد ربه لا عبد الظهور، ولا عبد البطون.. كما قال أبو العباس المرسي: (من أحب الظهور فهو عبد الظهور ومن أحب الخفاء فهو عبد الحفاء وعبد الله سواء عليه أظهره أم أخفاه)

قال زكريا: صدقت يا بني.. وما قلته لا يناقض ما قلنا.. فأنت تتحدث عن الأنبياء والأولياء.. وهؤلاء لابد أن يسمع بهم الناس حتى يستفيدوا منهم.. ولكنا نتحدث عن قوم قد يتضررون بالشهرة أو بمحبتهم لها.

ثم إن المذموم هو طلب الشهرة، فأما وجودها من جهة الله تعالى من غير تكلف من العبد فليس بمذموم.. نعم فيه فتنة على الضعفاء دون الأقوياء، وهم كالغريق إذا كان معه جماعة منن الغرقى فالأولى به أن لا يعرفه أحد منهم فإنهم يتعلقون به فيضعف عنهم فيهلك معهم، وأما القوي فالأولى أن يعرفه الغرقى ليتعلقوا به فينجيهم ويثاب على ذلك.

وإن شئت قولا فصلا في هذا، فاعلم أن للناس أربعة أحوال بالإضافة إلى هذا:

أما أولاها، فهي أن يفرح بالمدح ويشكر المادح ويغضب من الذم ويحقد على الذام ويكافئه أو يحب مكافأته، وهذا حال أكثر الخلق.. وهذا ما كنا نبحث فيه وفي علاجه.

وثانيها، أن يمتعض في الباطن على الذام ولكن يمسك لسانه وجوارحه عن مكافاته ويفرح باطنه، ويرتاح للمادح ولكن يحفظ ظاهره عن إظهار السرور، وهذا من النقصان إلا أنه بالإضافة إلى ما قبله كمال.. وهو أيضا ما كنا نبحث فيه وفي علاجه.

وثالثها، وهي أول درجات الكمال أن يستوي عنده ذامه ومادحه فلا تغمه المذمة ولا تسره استثقالاً..

ورابعها، وهي الصدق في العبادة؛ أن يكره المدح ويمقت المادح، إذا يعلم أنه فتنة عليه قاصمة للظهر مضرة له في الدين، ويحب الذام إذ يعلم أنه مهد إليه عيبه ومرشد له إلى مهمه ومهد إليه حسناته.

وكل واحدة من هذه الرتب أيضاً فيها درجات..

 أما الدرجات في المدح فهو أن من الناس من يتمنى المدحة والثناء وانتشار الصيت، فيتوصل إلى نيل ذلك بكل ما يمكن حتى يرائي بالعبادات، ولا يبالي بمفارقة المحظورات لاستمالة قلوب الناس واستنطاق ألسنتهم بالمدح وهذا من الهالكين.

ومنهم من يريد ذلك ويطلبه بالمباحات ولا يطلبه بالعبادات، ولا يباشر المحظورات، وهذا على شرف جرف هاو، فإن حدود الكلام الذي يستميل به القلوب وحدود الأعمال لا يمكنه أن يضبطها فيوشك أن يقع فيما لا يحل لنيل الحمد، فهو قريب من الهالكين جداً.

ومنهم من لا يريد المدحة ولا يسعى لطلبها، ولكن إذا مدح سبق السرور إلى قلبه فإذا لم يقابل ذلك بالمجاهدة ولم يتكلف الكراهية فهو قريب من أن يستجره فرط السرور إلى الرتبة التي قبلها وإن جاهد نفسه في ذلك وكلف قلبه الكراهية وبغض السرور إليه بالتفكر في آفات المدح، فهو في خطر المجاهدة فتارة تكون اليد له وتارة تكون عليه.

ومنهم من إذا سمع المدح لم يسر به ولم يغتم به ولم يؤثر فيه وهذا على خير، وإن كان قد بقي عليه بقية من الإخلاص.

ومنهم من يكره المدح إذا سمعه ولكن لا ينتهي به إلى أن يغضب على المادح وينكر عليه، وأقصى درجاته أن يكره ويغضب ويظهر الغضب وهو صادق فيه، لا أن يظهر الغضب وقلبه محب له فإن ذلك عين النفاق، لأنه يريد أن يظهر من نفسه الإخلاص والصدق وهو مفلس عنه.

***

بقيت مدة في هذا القسم أستفيد من زكريا علوم الترفع عن الجاه.. وعندما أيقنت بأن الجاه والشهرة أحقر من أن أبيع بسببهما آخرتي أجازني، كما أجاز جمعا ممن كان معي ممن فقهوا ما فقهت ..

وبتخرجي من هذا القسم، تخرجت من هذه المدرسة العظيمة التي جعلتني أشعر بحرية عظيمة، بعد أن تخلصت من كل تلك القيود التي كانت تجذبني إلى الأرض.


([1]) رواه أحمد وأبو داود.

([2]) من خطبة الغزالي في كتاب ذم الدنيا من الإحياء.

([3]) رواه أحمد وهناد والترمذى – وقال: حسن صحيح – وابن ماجه وابن سعد والطبرانى والحاكم والبيهقى فى شعب الإيمان.

([4]) استفدنا الأمثلة والمواعظ الواردة هنا من كتاب (ذم الدنيا) من جملة كتب (إحياء علوم الدين) للغزالي.

([5]) رواه الترمذي وابن ماجة.

([6]) رواه مسلم.

([7]) رواه مسلم.

([8]) ذكره ابن أبي الدنيا في كتاب ذم الدنيا.

([9]) رواه الترمذي.

([10]) إحياء علوم الدين.

([11]) رواه ابن أبي الدنيا هكذا بطوله، ولأحمد والبزار والطبراني أخصر منه وإسناده حسن.

([12])  بحار الأنوار 178:77.

([13])  نهج البلاغة: الحكمة 131.

([14])  بحار الأنوار 366:78.

([15]) سنذكر تفاصيل أخرى ترتبط بموقف الإسلام من الدنيا في رسالة (أسرار الحياة)، وهي الرسالة التالية لهذه الرسالة.

([16]) اقتبسنا المعاني الواردة في تفسير هذه السورة من تفسير السيد محمد حسين فضل الله.

([17]) انظر: الإحياء.

([18])  رواه الطبراني.

([19]) رواه مسلم.

([20]) رواه النسائي واللفظ له، والترمذي وأبو داود.

([21]) برضف: الرضف الحجارة المحماة، الواحدة رضفة، مثل تمر وتمرة.

([22]) من نغض كتفيه: النغض هو العظم الرقيق على طرف الكتف، ويقال له أيضا: الناغض.

([23]) رواه البخاري ومسلم.

([24]) فلم أتقار: أي لم يمكنني القرار والثبات.

([25]) رواه البخاري ومسلم.

([26]) ) رواه أحمد والحاكم وابن سعد، وأبو يعلى والطبراني في الكبير والبيهقي.

([27])  رواه أبو نعيم.

([28]) ما نذكره هنا من محاسن المال ومذامه مقتبس بتصرف من (كتاب ذم البخل وذم حب المال)، وهو الكتاب السابع من ربع المهلكات من كتاب إحياء علوم الدين.

([29]) هذه الخطبة مقتبسة بتصرف من كتاب (كسر الشهوتين)، وهو الكتاب الثالث من ربع المهلكات من إحياء علوم الدين، وننبه هنا إلى أن ما ننقله هنا من فوائد الجوع ومذامه منقولة من هذا الكتاب بالتصرف الذي ألفناه في هذه السلسلة.

([30])  رواه البخاري وغيره.

([31]) رواه أحمد، والبخارى، ومسلم، وأبو داود، والترمذى، والنسائى.

([32])  رواه ابن ماجة.

([33])  رواه الترمذي، ورواه الحاكم وقال: صحيح الإسناد، وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب.

([34])  رواه أحمد والترمذي وابن ماجة والحاكم.

([35]) رواه البخاري ومسلم وغيرهما.. والأقوال التي تلي قولها هذا روايات في الحديث، وقد اخترنا اعتبارها أحاديث قائمة بذاتها.

([36]) رواه ابن عساكر.

([37]) رواه أحمد.

([38]) رواه الطبراني في الأوسط بسند حسن.

([39]) رواه الطبراني في الأوسط بسند حسن.

([40]) رواه البخاري ومسلم والبيهقي.

([41]) رواه ابن عساكر.

([42]) ذكرنا التفاصيل الكثيرة المرتبطة بهذا في رسالة (رقية الجسد) من سلسلة (ابتسامة الأنين).

([43]) رواه البيهقى فى السنن الكبرى، وفى شعب الإيمان.

([44]) من خطبة الغزالي في كتاب (آفات اللسان) من الإحياء.

([45]) رواه القضاعي والديلمي في مسند الفردوس.

([46]) رواه الديلمي في مسند الفردوس.

([47]) رواه أبو الشيخ.

([48]) رواه الديلمي في مسند الفردوس.

([49]) رواه الطبراني في الكبير.

([50]) رواه هناد.

([51]) رواه الديلمي في مسند الفردوس.

([52]) رواه القضاعي.

([53]) رواه ابن المبارك.

([54]) رواه البيهقي في شعب الإيمان.

([55]) رواه أحمد والترمذي.

([56]) رواه أبو الشيخ في الثواب.

([57]) رواه سمويه.

([58]) رواه الحاكم في تاريخه.

([59]) رواه ابن الانباري في الوقف والمرهبي في العلم والقضاعي والديلمي وابن عساكر.

([60]) رواه ابن أبي الدنيا في الصمت.

([61]) رواه الديلمي.

([62]) رواه الطبراني في الكبير.

([63]) رواه العسكري في الامثال.

([64]) رواه الديلمي.

([65]) رواه الديلمي.

([66]) رواه البخاري في التاريخ وقال: في اسناده نظر،  وابن أبي الدنيا في الصمت والبغوي والباوردي وابن السكن وابن قانع وابن منده والبيهقي في الشعب وأبو نعيم وتمام وغيرهم.

([67]) رواه أبو نعيم.

([68]) رواه الخرائطي في مكارم الاخلاق والبيهقي في الشعب.

([69]) رواه الترمذي وقال: حديث حسن غريب، وابن ماجة.

([70]) رواه الترمذي واللفظ له وقال: هذا حديث حسن غريب، والبيهقي.

([71]) رواه مالك في الموطأ والترمذي وقال: هذا حديث غريب، وابن ماجة.

([72]) لحييه، بفتح اللام وسكون المهملة والتثنية هما العظمان في جانبي الفم، والمراد بما بينهما: اللسان.

([73]) رواه البخاري واللفظ له. والترمذي.

([74]) رواه مسلم وبعضه عند البخاري.

([75]) رواه البخاري ومسلم.

([76]) رواه البخاري ومسلم والترمذي واللفظ له.

([77]) رواه الطبراني بإسناد صحيح وصدره في الصحيحين.

([78]) رواه أحمد وهذا لفظه بإسناد رجاله رجال الصحيح، والحديث أصله في مسلم.

([79]) رواه ابن أبي الدنيا. والطبراني بإسناد حسن والبيهقي.

([80]) رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح، وابن ماجة.

([81]) رواه الترمذي وقال: حديث حسن.

([82]) رواه ابن أبي الدنيا بإسناد جيد.

([83]) رواه الترمذي واللفظ له وقال: حسن صحيح وأحمد وابن ماجة.

([84]) رواه النسائي.

([85]) رواه ابن ماجه والترمذي في الزهد، وابن حبان وإسناده حسن.

([86]) رواه ابن أبي الدنيا بسند حسن.

([87]) رواه ابن أبي الدنيا من حديث قتادة مرسلا ورجاله ثقات ورواه هو والطبراني موقوفا على ابن مسعود بسند صحيح.

([88]) سبق ذكر هذا في فصل (الضعيف).. وسنكتفي هنا ببعض ما ورد في هذا من النصوص.

([89]) رواه الترمذي وابن ماجه وابن أبي الدنيا في كتاب الصمت وغيره وقال الترمذي حديث حسن صحيح.

([90]) الألد: هو شديد الخصومة.

([91]) رواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي.

([92]) رواه الترمذي وقال حديث غريب.

([93]) رواه أبو داود وابن حبان في صحيحه ورواه الطبراني وغيره.

([94]) رواه الترمذى وقال: هذا حديث حسن غريب.

([95]) رواه ابن أبي الدنيا والبيهقي في الشعب.

([96]) عبية الجاهلية: أى تخونها وكبرها وأصلها من العبء وهو الثقل.

([97]) أبو داود والترمذى واللفظ له وقال: حديث حسن غريب.

([98]) تكثرا: أي يكثر ماله.

([99]) رواه مسلم.

([100]) رواه أحمد ورواته محتج بهم في الصحيح، وابن حبان في صحيحه والحاكم وقال صحيح على شرط مسلم.

([101]) رواه أحمد والطبراني في الأوسط بنحوه، ورجال أحمد رجال الصحيح.

([102]) رواه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح.

([103]) رواه أحمد.

([104]) الأشر: أشدّ البطر.

([105]) البطر: الطغيان عند النعمة وطول الغنى.

([106]) الهرج: القتل والاختلاط، وأصله الكثرة في الشيء والاتساع فيه.

([107]) رواه ابن أبي الدنيا في ذم الحسد والطبراني في الأوسط بإسناد جيّد.

([108]) الشرف: أي الجاه، وقوله لدينه: أي أفسد لدينه، والمعنى: ليس الذئبان الجائعان بأفسد للغنم من إفساد المال والجاه لدين المسلم.

([109]) رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح، وأحمد.

([110]) المراد ليلة ثالثة، وقيّد الليالي بالثلاث لأنها الوقت الذي يلزم لتوزيع مثل هذا المال.

([111]) المراد الإكثار من المال والإقلال من ثواب الآخرة.

([112]) رواه البخاري ومسلم.

([113]) رواه أحمد.

([114]) هذا العهد من العهود المحمدية التي ذكرها الشعراني في عهوده.

([115]) رواه أبو داود.

([116]) رواه الطبراني بإسناد جيد.

([117]) رواه الطبراني بإسناد جيد.

([118]) رواه الطبراني بإسناد جيد.

([119]) رواه الدراقطني والحاكم.

([120]) رواه الترمذي.

([121]) رواه ابن أبي الدنيا.

([122]) رواه البخاري ومسلم.

([123]) وضعها: هدمها.

([124]) رواه أبو داود وابن ماجه.

([125]) من خطبة الغزالي في مقدمة (كتاب ذم الجاه والرياء)، وهو الكتاب الثامن من ربع المهلكات من كتاب إحياء علوم الدين، وننبه إلى أن هذا الكتاب من مراجعنا الأساسية في هذا المبحث.

([126]) رواه البخاري ومسلم والترمذي.

([127]) أي: لترى مكانته ومرتبته وقدرته على القتال أو شجاعته ونحو ذلك مما يقصد به الرّياء.

([128]) رواه البخاري ومسلم.

([129]) رواه أبو داود والحاكم.

([130]) رواه أبو داود والحاكم.

([131]) رواه مسلم.

([132]) الجب: هو البئر التي لم تطو، والمراد جبّ فيه الحزن..

([133]) رواه الترمذي، وابن ماجة، وقال الترمذي: حسن غريب.

([134]) رواه أحمد، ورجاله رجال الصحيح.

([135]) رواه أحمد والبيهقي.

([136]) رواه أحمد.

([137]) رواه البخاري ومسلم.

([138]) رواه مسلم.

([139]) رواه ابن ماجة والحاكم.

([140]) أكل برجل مسلم: أي اغتابه فأكل بسبب ذلك، ومثل ذلك اكتسى به، قال ابن الأثير: معنى ذلك: الرّجل يكون صديقا للرّجل ثم يذهب إلى عدوه فيتكلّم فيه بغير الجميل ليجيزه عليه بجائزة فلا يبارك اللّه له فيها. انظر: النهاية (1/ 57- 58)

([141]) رواه أحمد وأبو داود.

([142]) الفدّادين: هم الذين تعلو أصواتهم في إبلهم وخيلهم وحروثهم، ونحو ذلك.

([143]) رواه مسلم والترمذي.

([144]) رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجة.

([145]) رواه البخاري وغيره.

([146]) رواه أحمد وغيره.

([147]) رواه أحمد والترمذي.

([148]) رواه أحمد والبخاري.

([149]) رواه البخاري ومسلم.

([150]) رواه مسلم.

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *