خامسا ـ القدوة

قلت: فحدثني عن رحلتك الخامسة.
قال: بعد أن خرجت من (شنقيط) قصدت بلدة من بلاد الجزائر العريقة يقال لها (غرداية).. وفيها التقيت حامل (مشعل القدوة) من مشاعل الهداية النبوية.. وفيها تعرفت على (النبي القدوة).. سأقص عليك القصة من البداية:
كنت أسير في تلك المدينة.. أقلب الطرف في متاجرها، معجبا بتناسقها ونظامها وسلامها.. وأمام أقدم مسجد من مساجدها العتيقة التقيت رجلا كان الناس يطلقون عليه لقب الشيخ أطفيش([1]).. لم يكن يتكلم كثيرا.. ولكني مع ذلك رأيت له من التأثير في ذلك المجتمع المحافظ ما لم أر لأفصح الخطباء.
قلت له: من أنت.. لكأني بك أحد الذين قصدهم (معلم الهداية)؟
قال: أنا الذي أنطق من غير لسان.. ولكني إذا نطقت خرس كل لسان.
قلت: فأنت الذي يحمل المشعل الخامس من مشاعل الهداية النبوية؟
قال: إن كان القدوة هو الذي يحمل هذا المشعل.. فأنا ذلك الرجل.
قلت: فـ { هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً} (الكهف: 66)
قال:{ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً} (الكهف: 67)
قلت:{ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً} (الكهف: 69)
قال: فسر معي، ولا تحدثني إلا إذا أذنت لك.
سرت معه طيلة ذلك اليوم، وطيلة أيام كثيرة.. وقد رأيت من أمره من العجب ما ملأني مهابة منه..
لقد اجتمعت في شخصه جميع الكمالات.. فقد كان عارفا عابدا ورعا زاهدا عالما يملك شخصية الإمام والقائد والمعلم من غير أن ينبس في كل ذلك ببنت شفة.
وقد أثار في نفسي من التساؤلات ما وددت أن يأذن لي معه بالكلام، ولكنه لم يفعل، ولولا أني ذكرت قصة موسى u، وما حصل بسبب كلامه من فراقه للخضر u لكنت ملأته بالأسئلة، وبالجدل.
بعد فترة طويلة من صحبتي له، وبعد ما عرف مني حرصي على التعرف على سر ذلك التأثير العظيم الذي أحدثه في مجتمعه، وفي غير مجتمعه أذن لي في الكلام، فلم أجد إلا أن أسأله عن سر ذلك التأثير الذي جمع بين القوة والصمت، فقلت: يا إمام.. لقد عهدنا الأئمة أصحاب ألسنة، فكيف قعد بك لسانك دونهم؟
قال: لم يقعد بي لساني.. فأنا ـ بحمد الله ـ سليم معافى.. ولكني رأيت الناس وخبرتهم، وعلمت أنهم يوظفون أبصارهم أكثر مما يوظفون آذانهم.. فلذلك رحت أملأ أبصارهم بما يقربهم من ربهم.
قلت: ولكن سنة نبينا صلى الله عليه وآله وسلم تحثنا على الكلام.
قال: وهي تحثنا على الفعال قبل أن تحثنا على الكلام.. بل قد تكتفي بالفعال عن الأقوال.. ألم تسمع قوله صلى الله عليه وآله وسلم:(صلوا كما رأيتموني أصلى)([2])
قلت: بلى.. وسمعت معها قوله صلى الله عليه وآله وسلم:(لتأخذوا عني مناسككم، فاني لا أدري لعلي لا أحج بعد حجتي هذه)([3])
قال: فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم دعا أصحابه إلى التأسي بأفعاله.. فدعا إلى أن يصلوا كصلاته، ويصوموا كصومه، ويحجوا كحجه.
قلت: ولكن الناس اختلفوا.
قال: اختلفوا في الأواني.. ولم يختلفوا في المعاني.
قلت: ما تقصد؟
قال: لقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوسع على أمته في أفعال الجوارح، فيؤدي العمل الواحد في صور مختلفة.
قلت: هذه الأواني.. فما المعاني؟
قال: الحقائق التي من أجلها تتحرك الجوارح.. ألا ترى أن الجوارح لا تتحرك في كل ذلك إلا لمرضاة الله خشوعا لله، وخضوعا له؟
قلت: بلى.. ولم أر من يخالف في ذلك.
قال: فهذا هو القدوة الذي يملأ الحياة بالإيمان وبحقائق الإيمان.. إنه لا يشغل الناس بالحركات، بل يشغلهم بما تعنيه الحركات.
قلت: أنا رجل رحل من بلاد بعيدة طلبا لمناهج الهدي.. ولا أريد منك إلا تفصيلا يؤكد لي هذا حتى أعلم أنه منهج نبوي صحيح.. فما أخطر البدعة في مثل هذه السبيل.
قال: لقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو القدوة الأول في كل أموره..
لقد كان العابد الأول الذي جعل من الصلاة قرة عينه، فكان يقوم الليل حتى تتفطر قدماه، ويبكي حتى تبلل دموعه لحيته.
وكان يديم الصيام حتى يظن من حوله أنه سيصوم الدهر كله، وأحيانا يواصل الليل بالنهار في الصيام، فيمضي يومين أو أكثر لا يتناول طعاما، بعد الغروب، وهو ما نهى عنه أصحابه ولهذا قالوا له: أتنهانا عن الوصال وتواصل؟ فقال:(وأيكم مثلي؟ إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني)([4])
وكان دائم الذكر لله تعالى في كل أحواله، وعلى كل أحيانه، بقلبه ولسانه.
ومع ذلك كله كان دائم الخشية له سبحانه، كثير الاستغفار، كثير التوبة، وهذا من كمال عبوديته، وعظم مقام الألوهية عنده، وفي هذا كان يقول:(إنه ليغان على قلبي، وإني لاستغفر الله في اليوم مائة مرة)([5])، وكان يقول:(يا أيها الناس توبوا إلى ربكم، فإني أتوب إلى الله عز وجل في اليوم مائة مرة)([6])
وكان مع هذا أزهد الناس في الدنيا، وأرضاهم باليسير منها، مع ما فتح الله له من الفتوح، وأفاء عليه من الغنائم، ولكنه لقي ربه ولم يشبع من خبر الشعير ثلاثة أيام متوالية، وكان الشهر يمر تلو الشهر ولا يوقد في بيته نار، إنما عيشه على الأسودين: التمر والماء.. وكان ينام على الحصير حتى يؤثر في جنبيه.. ورآه عمر بن الخطاب يوما كذلك، فبكى توجعا له وإشفاقا عليه، واقترح عليه بعضهم أن يهيئوا له فراشا ألين من هذا، فقال لهم:(ما لي وللدنيا؟ ما مثلي ومثل الدنيا إلا كراكب سار في يوم صائف، فاستظل تحت شجرة ساعة من نهار، ثم راح وتركها)([7])
وكان صلى الله عليه وآله وسلم مع ذلك كله يعيش في حياته قمة التوازن([8]):
فإذا احتج به الغزاة والمجاهدون على أنهم أفضل الطوائف، احتج به العلماء على مثل ما احتج به أولئك.
وإذا احتج به الزهاد والمتخلفون عن الدنيا على فضلهم، احتج به الداخلون في الدنيا والولاية، وسياسة الرعية، لإقامة دين الله، وتنفيذ أمره.
وإذا احتج به الفقير الصابر، احتج به الغني الشاكر.
وإذا احتج به أهل العبادة على فضل نوافل العبادة وترجيحها، احتج به العارفون على فضل المعرفة.
وإذا احتج به أرباب التواضع والحلم، احتج به أرباب العز والقهر للمبطلين والغلظة عليه والبطش بهم.
وإذا احتج به أرباب الوقار والهيبة والرزانة، احتج به أرباب الخلق الحسن والمزاح المباح الذي لا يخرج عن الحق، وحسن العشرة للأهل والأصحاب.
وإذا احتج به أصحاب الصدع بالحق والقول به في المشهد والمغيب، احتج به أصحاب المداراة والحياء والكرم أن يبادروا الرجل بما يكرهه في وجهه.
وإذا احتج به المتورعون على الورع المحمود، احتج به الميسرون المسهلون الذين لا يخرجون عن سعة شريعته ويسرها وسهولتها.
وإذا احتج به من صرف عنايته إلى إصلاح دينه وقلبه، احتج به من راعى إصلاح بدنه ومعيشته ودنياه، فإنه بعث لصلاح الدنيا والدين.
وإذا احتج به من لم يعلق قلبه بالأسباب ولا ركن إليها، احتج به من قام بالأسباب ووضعها مواضعها وأعطاها حقها.
وإذا احتج به من جاع وصبر على الجوع، احتج به من شبع وشكر ربه على الشبع.
وإذا احتج به من أخذ بالعفو والصفح والاحتمال، احتج به من انتقم في مواضع الانتقام.
وإذا احتج به من أعطى لله ووالي الله، احتج به من منع لله وعادى لله.
وإذا احتج به من لم يدخر شيئا لغد، احتج به من يدخر لأهله قوت سنة.
وإذا احتج به من يأكل الخشن من القوت والأدم كخبز الشعير والخل، احتج به من يأكل اللذيذ الطيب كالشوي والحلوى والفاكهة والبطيخ ونحوه.
وإذا احتج به من سرد الصوم، احتج به من سرد الفطر، فكان يصوم حتى يقال لا يفطر، ويفطر حتى يقال لا يصوم.
وإذا احتج به من ترك مباشرة أسباب المعيشة بنفسه، احتج به من باشرها بنفسه فآجر واستأجر، وباع واشترى، واستسلف وأدان ورهن.
وإذا احتج به من رحم أهل المعاصي بالقدر، احتج به من أقام عليهم حدود الله فقطع السارق وجلد الشارب.
وإذا احتج به من أرباب الحكم بالظاهر، احتج به من أرباب السياسة العادلة المبنية على القرائن الظاهرة، فإنه حبس في تهمة وعاقب في تهمة.
ولذلك كله استطاع صلى الله عليه وآله وسلم أن يؤثر في نفوس أصحابه ويحتويها ليعجنها بما يرضي الله، ويبلغها كمالها المستطاع.
قلت: وعيت كل هذا.. فما سره؟.. وما سر تلك النصوص الكثيرة التي تحدث عن كل حركة من حركاته صلى الله عليه وآله وسلم؟
قال: سرها هو أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يعيش معهم كواحد منهم.. فلم يكن في حياته يتميز بشيء عنهم.. لقد كان من سنته صلى الله عليه وآله وسلم مخالطة أصحابه ومشاركته في حياتهم الحلو منها والمر، وكان يربيهم خلال تلك المشاركة بفعله قبل أن يربيهم بقوله.
سأذكر لك هنا موقفا اعتاد العلماء نقله من باب إثبات المعجزات الحسية المتعلقة بتكثير الطعام، ولكني سأذكره هنا لنرى المعجزة التربوية في شخص رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فالرسول صلى الله عليه وآله وسلم هومعجزة الحديث لا كثرة الطعام:
فعن جابر قال: إنا يوم الخندق نحفر فعرضت لنا كدية شديدة، فجاءوا النبى صلى الله عليه وآله وسلم فقالوا: هذه كدية عرضت فى الخندق، فقال: أنا نازل، ثم قام وبطنه معصوب بحجر، ولبثنا ثلاثة أيام لا نذوق ذواقاً، فأخذ النبى صلى الله عليه وآله وسلم المعول فضرب فعاد كثيباً أهيل (أو أهيم) فقلت:(يا رسول الله إئذن لى إلى البيت)، فقلت لامرأتى:(رأيت بالنبى صلى الله عليه وآله وسلم شيئاً ما كان لى فى ذلك صبر، فعندك شىء؟)، قالت:(عندى شعير وعناق)، فذبحت العناق وطحنت الشعير حتى جعلنا اللحم فى البرمة، ثم جئت النبى صلى الله عليه وآله وسلم و العجين قد انكسر و البرمة بين الأثافى قد كادت أن تنضج، فقلت:(طعيّم لى فقم أنت يا رسول الله ورجل أو رجلان)، قال:(كم هو؟) فذكرت له، قال:(كثير طيب، فقل لها لا تنزع البرمة و لا الخبز من التنور حتى آتى)، ثم نادى المهاجرين و الأنصار فقال لهم:(يا أهل الخندق، إن جابر قد صنع سوراً فحىّ هلا بكم )، فلما دخل جابر على امرأته قال:(ويحك جاء النبى صلى الله عليه وآله وسلم بالمهاجرين و الأنصار ومن معهم ) قالت:(هل سألك كم طعامك؟) قال (نعم)، قالت:(الله ورسوله أعلم)
ثم جاء النبى صلى الله عليه وآله وسلم فقال: ادخلوا ولا تضاغطوا، فجعل يكسر الخبز ويجعل عليه اللحم ويخمّر البرمة و التنور إذا أخذ منه شىء، ويقرب الى أصحابه، ثم ينزع، فلم يزل يكسر الخبز ويغرف حتى شبعوا وبقى بقية، قال:(كلى هذا واهدى، فإن الناس قد أصابتهم مجاعة)([9])، وفى رواية:(فأقسم بالله لقد أكلوا حتى تركوا وانصرفوا، وإن برمتنا لتغط كما هى، وإن عجيننا ليخبز كما هو)
فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم يعصب الحجر على بطنه من الجوع، وعندما يدعى إلى الطعام يأبى أن يأكل والناس جائعون، وعندما يحضر مجلس الطعام لا يتصدر المجلس، وإنما يقوم يكسر الخبز ويجعل عليه اللحم ويخمّر البرمة و التنور، ويقرب إلى أصحابه، ثم ينزع، إلى أن اطمأن إلى شبعهم.
هذا هو القدوة الذي يبذل من التضحية ما يكسب به ثقة أتباعه ويحتويهم احتواء تاما ويصعد بهم إلى أرفع درجات التربية.
قلت: وعيت هذا.. فما تأثير ذلك كله في أصحابه.. إن المنهج الصحيح في الدعوة إلى الله هو المنهج المؤثر.. فهل كان هذا المنهج مؤثرا؟
قال: لقد كان تأثيره أعظم من كل تأثير.. لقد كانت مشاركة صلى الله عليه وآله وسلم للصحابة أكبر حافز لهم على تلك التضحيات التي قدموها، وقد كانوا يقولون عندما يرون جهد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم:
لئن قعدنا والنبي يعمل لذاك منا العمل المضلل
وهذه المشاركات كانت فرصة عظيمة له صلى الله عليه وآله وسلم لتربية أصحابه وتوجيههم بالمقال والفعال، فعن جابر قال: قال رجل للنبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم أحد: أرأيت إن قتلت فأين أنا؟ قال:(في الجنة) فألقى تمرات في يده ثم قاتل حتى قتل.
وعن سهيل بن سعد قال: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم خيبر:(لأعطين الراية غداً رجلاً يفتح على يديه يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله)، فبات الناس ليلتهم أيهم يعطى، فغدوا كلهم يرجوه، فقال:(أين علي؟)، فقيل: يشتكي عينيه، فبصق صلى الله عليه وآله وسلم في عينيه ودعا له فبرأ كأن لم يكن به وجع، فأعطاه فقال:(أقاتلهم حتى يكونوا مثلنا، فقال:(انفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم ؛ فوالله لأن يهدي الله بك رجلاً خير لك من أن يكون لك حمر النعم)([10])
***
ما استتم صاحبي حديثه هذا حتى وجدنا أنفسنا قد قطعنا المرحلة الخامسة من الطريق من غير أن نشعر بأي عناء أو تعب.. ولم يخطر على بالي طيلة هذه المرحلة ما كنا نقطعه من غابات موحشة، ومن سباع عادية تتربص بنا من كل اتجاه.
لقد تنزلت
علي بمجرد قطعي لتلك المرحلة أشعة جديدة اهتديت بها بعد ذلك إلى شمس محمد صلى الله
عليه وآله وسلم.
([1]) أشير به إلى العلامة الكبير محمد بن يوسف بن عيسى بن صالح أطفيش الإباضي (1236 – 1332هـ، 1820-1913م)، الملقب بقطب الأئمة.. ولد في جنوب الجزائر، وطلب العلم منذ صغره ونبغ فيه فاشتغل بالتدريس والتأليف في بدايات شبابه حتى قيل إن مؤلفاته بلغت ثلاثمائة مؤلف، على الرغم من مشاركته في قضايا عصره، من مؤلفاته الكثيرة، ثلاثة كتب في التَّفسير أشهرها (هميان الزاد إلى دار المعاد) في ثلاثة عشر مجلدًا، والهميان هو الوعاء الذي يضع فيه المسافر زاده. وهو كتاب كبير الحجم..
([2]) رواه البخاري ومسلم.
([3]) رواه مسلم.
([4]) رواه البخاري ومسلم.
([5]) رواه أحمد ومسلم والنسائي وابو داود.
([6]) رواه ابن ماجة وابن السني.
([7]) رواه أحمد والحاكم.
([8]) عدة الصابرين:229.
([9]) رواه البخارى.
([10]) رواه ابن سعد في الطبقات الكبرى.