خامسا ـ العالم

سرت إلى القاهرة.. وبجوار الجامع الأزهر.. تلك القلعة التي لم تستطع السنون مع طولها أن تنال من شموخها.. رأيت الوارث الخامس الذي تعلمت على يده من علوم النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما جعلني أوقن يقينا تاما لا يزاحمه الشك بأن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم قد اكتمل له من العلوم ما لا يكتمل إلا للإنسان الكامل الذي أسندت له أخطر وظيفة في الأرض.
لقد كان اسمه (محمد).. وكانت الجماعة التي تحيط به، وتنهل من علمه تطلق عليه (الباقر)([1]).. وكان أشبه الناس في غزارة علمه بالباقر.. حتى كأنه الباقر نفسه عاد للحياة من جديد ليقف في ذلك الموقف من شوارع القاهرة.
عندما رأيته كان واقفا، وأمامه جمع من الناس يسألونه:
قال أحدهم: يا محمد.. يا من هو من نسل محمد.. أخبرنا عن أفضل الصدقة.
قال: لقد سئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن ذلك، فأجاب: (أن تصدق وأنت صحيح شحيح، تخشى الفقر، وتأمل الغنى)([2])
قال آخر: إنا نرى القرآن يذكر المهاجرين بخير.. فهل انقطعت الهجرة؟
قال: لقد أجاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن هذا حين سأله أعرابي، فقال: يا رسول الله، أخبرني عن الهجرة إليك، أينما كنت أم لقوم خاصة أم إلى أرض معلومة أم إذا مت انقطعت؟
وقد أجابه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: (الهجرة أن تهجر الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، ثم أنت مهاجر، وإن مت في الحضر)([3])
قال آخر: أخبرنا عن ثياب أهل الجنة، أتخلق خلقاً، أم تنسج نسجاً؟
ضحكت الجماعة، فالتفت إليهم، وقال: أتضحكون من جاهل يسأل عالماً؟
ثم سكت قليلا، وقال: لقد سئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن مثل هذا، فاستلبث ساعة، ثم قال: أين السائل عن ثياب أهل الجنة؟ فقال: ها هو ذا يا رسول الله، قال: (لا، بل تنشق عنها ثمار الجنة) ثلاث مرات([4]).
قال آخر: هل في الجنة خيل؟
قال: لقد سئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن مثل هذا، فقال: (إن دخلت الجنة أتيت بفرس من ياقوتة له جناحان، فحملت عليه فطار بك في الجنة حيث شئت)، ثم سئل صلى الله عليه وآله وسلم هل في الجنة إبل؟ فلم يقل للسائل مثل ما قال للأول، بل قال: إن يدخلك الله الجنة يكن لك فيها ما اشتهت نفسك وقرت عينك([5]).
قامت امرأة، فقالت: إنا نسمع القرآن يثني ثناء حسنا على جمال الحور العين، فهل هن في الجنة أفضل منا ونحن فيها؟
ابتسم الباقر، وقال: لقد سئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن مثل هذا، فقال ـ لمن سأله: أنساء الدنيا أفضل أم الحور العين؟ ـ: (بل نساء الدنيا أفضل من الحور العين، كفضل الظهارة على البطانة)([6])
قالت المرأة: لم؟
قال: لقد أجاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن ذلك، فقال: (بصلاتهن وصيامهن وعبادتهن الله تعالى، ألبس الله وجوههن النور، وأجسادهن الحرير، بيض الألوان، خضر الثياب، صفر الحلي، مجامرهن الدر، وأمشاطهن الذهب، يقلن: نحن الخالدات فلا نموت، ونحن الناعمات فلا نبأس أبداً، ونحن المقيمات فلا نظعن أبداً، ونحن الراضيات فلا نسخط أبداً، طوبى لمن كنا له وكان لنا)([7])
قالت المرأة: والمرأة التي تتزوج الرجلين والثلاثة والأربعة، ثم تموت فتدخل الجنة، ويدخلون معها، من يكون زوجها؟
قال: لقد أجاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن ذلك، فقال لأم سلمة لما سألته عن هذا: (يا أم سلمة، إنها تخير فتختار أحسنهم خلقاً، فتقول: (يا رب إن هذا كان أحسنهم معي خلقاً في دار الدنيا فزوجنيه، يا أم سلمه ذهب حسن الخلق بخير الدنيا والآخرة) ([8])
قام رجل مغضبا، وقال: دعونا من مثل هذا.. دعوا لنا الفرصة لنتحدث عن الكسب الذي يدخلنا الجنة.. أما ما في الجنة.. فإن من دخلها سيعاين ما فيها.
ابتسم الباقر، وقال: سل ما بدا لك.
قال الرجل: حدثنا عما يقربنا إلى الله.. هل من ساعة أقرب إلى الله من الأخرى؟
قال: لقد سئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن مثل هذا، فقال: (نعم، أقرب ما يكون الرب عز وجل من العبد جوف الليل الآخر، فإن استطعت أن تكون ممن يذكر الله في تلك الساعة فكن)
قام آخر، وقال: أنا مؤرخ.. فحدثني عن أول عن أول مسجد وضع في الأرض؟
قال: لقد سأل أبو ذر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن هذا، فقال: المسجد الحرام، فقال: ثم أي؟ قال: المسجد الأقصى، فقال: كم بينهما؟ قال: أربعون عاماً، ثم الأرض لك مسجد، حيث أدركتك الصلاة فصل([9]).
***
ظللنا هكذا من أول النهار إلى آخره، والباقر لا يسأل سؤالا إلا أجاب عنه بما أجاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وكأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان هو المفتي في ذلك المجلس، وكأن الباقر لم يكن سوى وسيط يبلغ الناس ما يفتيهم به نبيهم صلى الله عليه وآله وسلم.
في آخر النهار، وبعد أن انفض الجمع، انتهزت الفرصة، واقتربت منه، وكان أكبر أمل لي أن يجيبني عن سؤال أو سؤالين.. ما كنت أطمع منه بأكثر من ذلك، فقد رأيت حرص الناس على التلقي عنه.. ولا يمكنني أن أطمع فوق ما يطمع فيه غيري.
لكني فوجئت عندما رأيته يحدق في وكأنه يعرفني، ثم يسرع إلي، ويضمني، ويقول: مرحبا بك في القاهرة.. لقد شاء الله أخيرا أن نلتقي.
تعجبت من موقفه هذا، وتصورت أنه توهمني بعض معارفه لشبه بيننا.. فأسرعت أصحح له، وأقول: لي شرف عظيم أن أكون من ذكرت.. ولكني لست من ذكرت.
قال: بل أنت من ذكرت.
قلت: ولكني لم أتشرف بمعرفتك من قبل.
قال: لقد أخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأن (الأرواح جنود مجندة، فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف)([10])
قلت: لقد امتلأت بالغفلة.. فنسيت تلك العوالم.. فهلا ذكرتني بها؟
قال: ألست من يبحث عن الإنسان الكامل؟
قلت: بلى.. أنا ليس لي هم في الحياة إلا البحث عن هذا الإنسان.
قال: لقد كنت مثلك أبحث عنه.. وهذه نقطة التقاء كبيرة بيننا.
قلت: فهل ظفرت به؟
قال: أجل.. ما كان الله ليضيع جهد مجتهد، ولا همة عازم، ولا صدق صادق.
قلت: فدلني عليه.
قال: هو أبعد من أن أدلك عليه.. ولكني أدلك على شعاع من أشعته.. لا يمكن للإنسان أن يكمل من دونه.
قلت: وما هذا الشعاع؟
قال: العلم.. لا يمكن للكامل أن يكمل وهو جاهل.. ألم يبدأ الله بتعليم آدم؟
قلت: بلى.. ولم تعلم الملائكة شرفه إلا بذلك.
قال: فكذلك شرف الإنسان الكامل لا يكتمل إلا بعلمه.
قلت: عرفت الشعاع.. فما الشمس التي وصلت إليها.. وتريد أن تدلني على هذا الشعاع من أشعتها؟
قال: شمس محمد صلى الله عليه وآله وسلم.. إنه الإنسان الكامل الذي اكتمل له من العلوم ما لم يكتمل لغيره.
قلت: ولكنه أمي.. لقد نطق القرآن بذلك.. ففيه:{ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (لأعراف:157)، وفيه:{ قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} (لأعراف:158)
قال: وهذا أعظم في كمال علمه..
قلت: لم أفهم.
قال: لأن من تعلم من الأوراق كان تبعا لمن كتب الأوراق.. ولو تعلم محمد صلى الله عليه وآله وسلم من الأوراق لكان أحسن أحواله أن يحمل ثقافة الهند أو ثقافة الفرس أو ثقافة الإغريق.. ولوجد بعد ذلك من يقول بأن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم تلقى علومه عن هؤلاء.
قلت: فأي ثقافة حمل محمد ما دام لم يحمل ثقافة هؤلاء؟
قال: لقد حمل ثقافة أرقى وأعظم تطورا..
قلت: لم أعرف التطور في ذلك الحين إلا في تلك الشعوب..
قال: إن ثقافة تلك الشعوب ثقافة بدائية بالنسبة لعصرنا.. والمتمسك بها في عرفنا رجعي.. وما كان للإنسان الكامل أن تكون له ثقافة تمحوها الليالي، وتكر عليها الأيام.
قلت: فأي مصدر تعلم منه محمد إذن؟
قال: لقد تعلم من الله.. فالله هو مصدر المعرفة الأول.. ولذلك فإن علومه لا يمكن مقارنتها بأي علوم أخرى.
لقد كانت أول بشارة تلقاها النبي صلى الله عليه وآله وسلم هي إخبار الله له بأنه سيتعلم من الله.. لعلك تعرف الحادثة.. هي أول حادثة عرف فيها محمد صلى الله عليه وآله وسلم وحي ربه.
كان في الغار.. وجاءه الملاك.. وقال له: اقرأ.. ولم يكن محمد صلى الله عليه وآله وسلم يعرف القراءة، فأجاب الملك: ما أنا بقارئ، فغطه([11]) الملك حتى بلغ منه الجهد، ثم أرسله فقال: اقرأ، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: ما أنا بقارئ.. وهكذا حتى غطه الثالثة، ثم أرسله، فقال:{ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)} (العلق)([12])
ثم ظل الوحي يتتابع..
في البداية خشي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن ينسى ما يعلمه ربه، فكان يتعامل مع الوحي معاملة الطالب النجيب الذي يردد ما يتعلمه خشية أن ينساه، لكن الله طمأنه بأن الذي علمه وهو أمي لم يقرأ ولم يكتب لن يعجزه أن يحفظ له ما تعلمه..
لقد قال الله تعالى يذكر ذلك:{ وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا } (طه: 114)، وقال:{ لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآَنَهُ (17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآَنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ (19)} (القيامة)
وبمثل هذا وردت الأسانيد، فعن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعالج من التنزيل شدة، فكان يحرك شفتيه، فأنزل الله عز وجل:{ لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ } أي جمعه في صدرك، ثم تقرأه، { فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ } فاستمع له وأنصت، { ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ } فكان بعد ذلك إذا انطلق جبريل قرأه كما أقرأه([13]).
وفي رواية أخرى عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا أنزل عليه الوحي يلقى منه شدة، وكان إذا نزل عليه عرف في تحريكه شفتيه، يتلقى أوله ويحرك به شفتيه خشية أن ينسى أوله قبل أن يفرغ من آخره، فأنزل الله:{ لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ }
وقال في الآية واصفا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (كان لا يفتر من القراءة مخافة أن ينساه، فقال الله له:{ لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا } أن نجمعه لك { وَقُرْآنَهُ } أن نقرئك فلا تنسى)([14])
لقد نص على هذا الوعد الجليل في آية أخرى.. فالله تعالى يقول مبشرا نبيه صلى الله عليه وآله وسلم:{ سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى} (الأعلى:6)
قلت: أقر لك بكل ذلك.. ولكن العلوم التي تلقاها محمد هي علوم الدين.. وهي علوم اختص بها رجال الدين.. ولا يمكن الحكم على مصداقيتها ما دمنا في هذا العالم.
قال: لا.. لقد تلقى محمد صلى الله عليه وآله وسلم كل ما يحتاج إليه الإنسان من علوم.. فلذلك يمكن أن تحكم على علومه ومدى صدقها من خلال هذا العالم.. بل يمكنك أن تقارن ما جاء به من علوم بمن شئت من العلماء.. ليتبين لك أن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم قد كشف له الحجاب ليرى الأمور على ما هي عليه في الوقت الذي يتيه فيه العلماء ويحتارون، وقد يصلون إلى بصيص من النور.. وقد يظلون في غياهب الجهل وظلماته.
قلت: إن ما تقوله عظيم.. ومن الصعب إثباته.
قال: لقد ذكرت لك بأني ظللت دهرا من عمري أبحث عن الإنسان الكامل.. وقد كان أول مقياس وضعته لهذا البحث هو حقائق العلوم.. وقد وضعت أربعة ضوابط لمن اكتملت له العلوم.. وقد وجدت أن هذه الضوابط الأربعة لم تكتمل لأحد كما اكتملت لنبينا صلى الله عليه وآله وسلم.
قلت: فما هي؟
قال: الصدق، والثبات، والشمول، والنفع.
قلت: فهل ستختصر لي الطريق لتعلمني ما وصلت إليه في أبحاثك؟
قال: يشرفني ذلك.. لقد دلني الله في أثناء رحلتي على كثير من الربانيين اختصروا لي من الطرق ما لو ظللت طول عمري أسير ما قطعته.. ويشرفني أن أفعل معك ما فعلوا معي.
قلت: فهلم نبدأ بالضابط الأول.
قال: ليس هنا.. هلم بنا إلى البيت.. ومن الغد ـ إن شاء الله ـ نبدأ البحث عن تحقق هذه الضوابط في علوم محمد صلى الله عليه وآله وسلم.. ولن نتلقى العلوم إلا من أهلها وفي محالها.
في اليوم الأول.. سرت مع الباقر إلى مكتبة عامرة بالمخطوطات القديمة.. وقد كانت مكتبة مختصة بما كتب من معارف بشرية قديمة ترتبط بعلم الفلك.
وقد شد انتباهي كثرة ما فيها من مؤلفات إلى درجة أن الانبهار أصابني، فصحت من غير أن أشعر: عالم هو من قرأ كل هذه الكتب..
التفت الباقر إلي، وقال: ماذا تقصد؟
قلت: من رزق أن يسجن في هذه المكتبة عشرة أعوام، فإنه لن يخرج منها إلا عالما جليلا، ينكب الناس على يديه بالتقبيل، وعلى كلماته بالتسجيل.
قال: بل قل: إن من تعلم من هذه الكتب لن يخرج إلا جاهلا.. وما أسهل على صبي في الابتدائية أن يصحح له ما يقع فيه من أخطاء.. بل ما أسهل على عامي بسيط شاهد شريطا من أشرطة علم الفلك على التلفاز أن يصحح له كل ما تعلمه من علوم.
قلت: كيف تقول هذا؟.. أليست هذه المخطوطات في علم الفلك.. وقد كتبها علماء كبار في علم الفلك؟
قال: ما تقوله صحيح.
قلت: فما الذي جعل من علمهم جهلا.. وما الذي حول كل هذه الخزائن مجرد لغو لا يسمن ولا يغني من جوع؟
قال: حولها إلى ذلك افتقارها إلى الشرط الأول من شروط العلوم، وهو الصدق.. ألم أذكر لك أنه أول ضابط تتحقق به من صدق المعارف، وصدق مصدرها؟
قلت: بلى.. لقد ذكرت لي هذا.
أشار إلى ركن من المكتبة، وقال: في هذا الركن ما كتبه الصينيون في علم الفلك..
أتدري.. لقد كان الصينيون يعتبرون الأرض عربة ضخمة في أركانها أعمدة ترفع مظلة (السماء)، ويعتقدون أن بلاد الصين تقع في وسط هذه العربة، ويجري النهر السماوي (النهر الأصفر) من خلال عجلات العربة، ويقوم السيد الأعلي المهيمن علي أقدار السماء والأرض بملازمة النجم القطبي بالشمال بينما التنينات تفترس الشمس والقمر.
وفي القرن الثاني ق.م. وضع الفلكي الصيني(هياهونج) نظرية السماء الكروية حيث قال أن الكون بيضة والأرض صفارها وقبة السماء الزرقاء بياضها.
أشار إلى ركن آخر، وقال: في هذا الركن ما كتبه الروس في علم الفلك..
لقد كان الروس يعتقدون أن الأرض عبارة عن قرص يطفو على الماء تحمله ثلالث حيتان عظيمة.
أشار إلى ركن آخر، وقال: في هذا الركن ما نقل عن زنوج إفريقيا في علم الفلك.. لقد اعتقدت بعض المجتمعات في افريقيا أن الشمس تسقط كل ليلة عند الأفق الغربي إلى العالم الاسفل، فتدفعها الفيلة للأعلى ثانية لتضيء الارض من جديد، وتتابع هذه الحركة يوميا.
أشار إلى ركن آخر، وقال: في هذا الركن ما نقل عن الهنود الحمر في علم الفلك..
لقد كان الهنود الحمر يعتقدون أن أميراتهم الصغيرات يجب أن يسهرن على ضوء المشاعل، ليأتي طائر الكونكورد (رسول السماء) ليأخذ المشاعل ويضيء الشمس من جديد وهكذا..
أشار إلى ركن آخر، وقال: في هذا الركن ما نقل عن السومريين في علم الفلك..
لقد اعتقد السومريون أن الأرض هضبة تعلوها القبة السماوية، وتقوم فوق جدار مرتفع على أطرافها البعيدة، واعتبروا الأرض بانثيون هائل تسكن فوق جبل شاهق.
أشار إلى ركن آخر، وقال: في هذا الركن ما نقل عن البابليبن في علم الفلك..
لقد رأى البابليون أن المحيطات تسند الأرض والسماء، وأن الأرض كتلة جوفاء تطفو فوق تلك المحيطات وفي مركزها تقع مملكة الأموات. لهذا أله البابليون الشمس والقمر. فغالبا ما تصورت الحضارات القديمة أنهما يعبران قبة السماء فوق عربات تدخل من بوابة مشرق الشمس وتخرج من بوابة مغرب الشمس. وهذه مفاهيم بنيت علي أساسها اتجهات المعابد الجنائزية.
أشار إلى ركن آخر، وقال: في هذا الركن ما نقل عن الكلدانيين في علم الفلك..
لقد استطاع الكلدانيون من خلال مراقبتهم لحركة الشمس ومواقع النجوم بالسماء وضع تقويمهم. واستطاعوا التنبؤ من خلال دورتي الشمس والقمر بحركتيهما ما مكنهم من وضع تقويم البروج، فربطوا من خلالها بين الإنسان وأقداره، واعتبروا أن حركات النجوم إنما هي خاضعة لمشيئة الآلهة، لهذا توأموا بين التنجيم والفلك، ومن خلال تقويم البروج تمكنوا من التنبؤ بكسوف الشمس وخسوف القمر، لكنهم لم يجدوا لها تفسيرا.
أشار إلى ركن آخر، وقال: في هذا الركن ما نقل عن قدماء المصريين في علم الفلك..
لقد كان قدماء المصريين يعتقدون أن الأرض مستطيلة طويلة يتوسطها نهر النيل الذي ينبع من نهر أعظم يجري حولها تسبح فوقه النجوم الآلهة، والسماء ترتكز علي جبال بأركان الكون الأربعة وتتدلى منها هذه النجوم..
أشار الباقر إلى أركان أخرى، لا أذكرها الآن بالضبط، فيها من المعارف مثل الذي سبقها، مما جعلني أقتنع في الأخير بما ذكر لي من أن العلوم التي سجلت في تلك المخطوطات ممتلئة بدجل كبير، وأن الذي يقرؤها ويضيع وقته بقراءتها، ويضيع جهد عقله بفهمها لن يظفر في الأخير إلا بالسراب.. وسيضحك عليه أبسط الناس إن هو راح ينشر علومه بين الناس.
***
انتقلنا إلى مكتبة أخرى وضع فيها ما نقله التاريخ من معارف بشرية ترتبط بعلم الأجنة.. وقد رأيت فيها من أوهام البشرية المرتبطة بهذا العلم ما رأيت في سابقتها([15]).
وقد ظللنا طيلة ذلك اليوم ـ أنا والباقر ـ نتجول على المكتبات القديمة لنرى ما سطر فيها من أنواع المعارف والعلوم.. وقد أذهلني ما رأيت فيها من أخطاء كثيرة، بل دجل كثير لا يصعب على تلاميذ المدارس الابتدائية أن يكتشفوه.
في ذلك المساء، وبعد أن عدنا إلى البيت قلت له: لقد كانت البشرية ترزح تحت أثقال ضخمة من الجهل.
قال: وأخطر ما فيه أنه جهل مركب.. لقد تبنت الكنيسة بعض تلك المعارف، وراحت تنسبها للدين، وتشنق وتحرق من يخالفها..
قلت: ألا ترى عذرا لمن نطق بتلك المعارف؟
قال: وما العذر الذي تراه أنت؟
قلت: العذر الذي أراه.. والذي قد يوافقني عليه الجميع.. هو أن تلك المعارف كانت تفتقر إلى الوسائل.. فلم يكن من السهولة التعرف على حقائق الفلك من دون التلسكوبات الضخمة.. ولم يكن من السهولة التعرف على الجنين من دون التطور في معرفة المجاهر وأجهزة التصوير المختلفة.. وهكذا..
قال: قد أعذرهم كما تعذرهم.. ولكن ألا ترى أن وقوعهم في الكذب يرفع الثقة في كثير من علومهم؟
قلت: بلى.. بل هو يرفع الثقة في كل علومهم.
قال: ولهذا كان الشرط الأول الذي وضعته لعلوم الإنسان الكامل أن تتحقق بالصدق المطلق الذي لا يخالطه شك ولا وهم ولا شبهة.
قلت: إن وجود مثل هذا مستحيل.
قال: لقد وجدته بحمد الله..
قلت: أين.. وعند من؟
قال: عند محمد صلى الله عليه وآله وسلم.. إن كل ما نطق به من علم في أي موضوع من الموضوعات، وفي أي مجال من المجالات كان حديث صدق لا يزاحمه شك، ولا تقاربه شبهة.
قلت: كيف تقول هذا.. وما محمد إلا بشر ولد في بيئة لها علومها التي لا تزيد على ما رأيناه من علوم الشعوب المختلفة إن لم تكن تنقص عليها.
قال: أنسيت من علم محمد؟.. إن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم تلقى علومه من الله.. وعند الله الحقيقة المطلقة التي لا تزاحمها الشبهات.
قلت: ولكنه كان يفتقر للوسائل.. فلم تكن له المجاهر، ولا المراقب، ولا المصورات، ولا الكواشف..
قال: وهل ترى من يسير في ضوء النهار محتاجا إلى سرج يستضيء بها؟
قلت: لا..
قال: فمحمد صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن محتاجا لأي واسطة في علومه ما دام يتلقاها من المصدر..
قلت: إن ما تذكره يصعب إثباته.
قال: بل ما أسهل إثباته.
قلت: كيف أستطيع التثبت منه؟
قال: دونك مصادر الإسلام المقدسة.. دونك القرآن الكريم.. ودونك دواوين السنة.. فهي دواوين تمتلئ بها رفوف المكتبات، وخزائنها بمخطوطاتها القديمة وبمطبوعاتها الحديثة.
قلت: ولكن السنة دخلها التحريف.
قال: ما أسهل تمييز الصحيح من المحرف.. إن معك القرآن.. وهو ما يساعدك على تمييز صحيح من السنة من ضعيفها.
قلت: فهلا ضربت لي مثالا يقرب لي تحقق علوم محمد بالصدق المطلق؟
قال: لقد عرفت الأخطاء الكبيرة التي وقعت فيها البشرية، ولفترة طويلة من تاريخها حول حقيقة الجنين، والمراحل التي يمر بها..
قلت: أجل.. ولولا أن من الله على البشرية بما اخترعت من وسائل لظلت في غياهب الجهل، أو لظلت متعلقة بما تكهن به الكهنة، وحدس به الحدسة.
قال: ولكن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم نطق بالحقيقة المطلقة من غير أي وسيلة([16])..
لقد ورد في الحديث تحديد للمواعيد التي تمر بها كل مرحلة من مراحل الجنين، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا مر بالنطفة ثنتان وأربعون ليلة بعث الله إليها ملكاً، فصورها، وخلق سمعها، وبصرها، وجلدها، ولحمها، وعظامها، ثم قال: يارب أذكر أم أنثى؟ فيفضي ربك ما شاء ويكتب الملك)([17])
إن هذا الحديث العجيب فيه حقائق كثيرة من حقائق علم الأجنة لم تصل إليها البشرية إلا بشدة، وبعد مرور زمن طويل.
أما الحقيقة الأولى، فهي تخلق الإنسان من النطفة المنوية المتكونة من ماء الرجل وبييضة المرأة، وقد أشار إلى ذلك النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قوله: (إذا مر بالنطفة) أي أن الإنسان يخلق من النطفة لا من دم الحيض، كما كان شائعاً بين الأطباء إلى القرن السابع عشر.
أما الحقيقة الثانية، فهي أن الحديث حدد ليلة معينة من عمر الجنين يدخل بعدها الملك: (إذا مر بالنطفة ثنتان وأربعون ليلة بعث الله إليها ملكاً)
أما الحقيقة الثالثة، فيشير إليها قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (فصورها) أي أن الصورة الآدمية للجنين تبدأ بالظهور بعد الليلة الثانية والأربعين.
أما الحقيقة الرابعة، فيشير إليها قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (وخلق سمعها)، وكذلك يبدأ ظهور الأذن وجهاز السمع.
أما الحقيقة الخامسة، فيشير إليها قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (وبصرها) أي وخلق بصرها ؛ فيبدأ ظهور العين وجهاز البصر.
أما الحقيقة السادسة، فيشير إليها قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (وجلدها) أي أن الجلد يخلق بعد الليلة الثانية والأربعين.
أما الحقيقة السابعة، فيشير إليها قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (ولحمها) أي أن اللحم (العضلات) يخلق بعد نفس الليلة.
أما الحقيقة الثامنة، فيشير إليها قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (وعظامها) حيث يخلق الملك العظام (الهيكل العظمي) بعد نفس الليلة.
أما الحقيقة التاسعة، فيشير إليها قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (ثم قال: يا رب أذكر أم أنثى)، أي أن الملك يبدأ بتشكيل الأعضاء التناسلية الخارجية (الفرج) في الذكر والأنثى، والتي بها يتم التمييز بين الذكر والأنثى وذلك بعد الليلة الثانية والأربعين أيضاً.
أما الحقيقة العاشرة، فهي أن الجنين يمر بأطوار قبل الليلة الثانية والأربعين ؛ وهو ليس في صورة آدمية، ولا توجد فيه الأعضاء والأجهزة التي ذكر الحديث أنها لا تخلق إلا بعد الليلة الثانية والأربعين.
إن ما ذكره النبي صلى الله عليه وآله وسلم يصدقه كل علماء الأجنة..
قلت: وعلم الفلك.. ذلك العلم الذي تاهت فيه شعوب الأرض؟
قال: في كل ذلك التيه الذي رأيته كان هناك إنسان واحد عرف من حقائق الكون ما لا يزال قومك يجهلونه، أو يكدون في البحث عنه.
قلت: هل استطاع محمد أن ينجو من كل ذلك التيه؟
قال: أجل([18]).. في ذلك الوقت الذي كان الناس فيه يتعاملون مع الكون بحشد من المخاوف والأساطير، وكانوا يخشون أنهم لو فشلوا في ممارسة السحر والطقوس والترانيم الوثنية في اتصالهم بالكون سيباغتون بانقلاب في نظام الطبيعة كله.
وفي ذلك الوقت الذي كانوا يفسرون فيه الكون تفسيرًا خرافيًّا عجيبًا: فمنهم من يفسر حركة الكسوف والخسوف بأن وحشًا ضخمًا قد قضم الشمس أو القمر.. ومنهم من يقول بأن الأرض محمولة على قرن ثور، وأن حركة المد والجزر ليست سوى أثر من آثار شهيق الثور وزفيره.. ومنهم من جزم بأن السماء (قبة) من نحاس، وأن من يزعم غير ذلك فهو ملحد مهرطق يجب قتله، ولم يكن العرب استثناء من هذه الأساطير والأوهام فيما يتعلق بالكون. فقد كانوا ملفوفين في ظلمة التنجيم والتكهن والتطير، وخرافات الهامة، وصفر، والغراب الأسود، كما قال شاعرهم:
يا عبل كم يشجى فؤاد بالنوى ويروعني صوت الغراب الأسود
في ذلك الوقت كان محمد صلى الله عليه وآله وسلم يقرأ من آيات القرآن ما يوضح به الحقائق التي لم تصل إليها البشرية إلا بعد أن اخترعت من الأجهزة ما ظلت تلهث طوال عمرها في البحث عنه([19]).
اسمع مثلا هذه الآية:{ أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ} (الانبياء:30)
إن كل كلمة في هذه الآية تحمل من الحقائق ما بذلت البشرية من أجله سنون طوالا وأسفارا ضخمة لأجل الوصول إلى بعض الحقائق التي تنص عليها هذه الآية الكريمة.
من الحقائق التي تشير إليها هذه الآية مثلا حقيقة البداية الأولى للكون.. فقد كانت البشرية منذ أطوارها الأولى تتساءل عن بداية الكون، وعن كيفية حصول ذلك.. وكيف كان شكله حين بدأ؟ ومتى بدأ؟ وإلى أين يسير؟
هذه الأسئلة وغيرها طرحها الإنسان منذ القديم، ولكنه أجاب عنها إجابات خاطئة كثيرة.. بل لم تكن هناك إجابة واحدة صحيحة، ما عدا الإجابة التي جاء بها محمد صلى الله عليه وآله وسلم والتي أيدها بعد ذلك العلم الحديث بأجهزته المتطورة.. وذلك منذ بداية القرن العشرين.
فمنذ نصف قرن تقريباً بدأ العلماء يرصدون الأمواج الكهرطيسية القادمة إلى الأرض، وقاموا بتحليل هذه الأمواج، وتبين أنها تعود لآلاف الملايين من السنين.
ومعظم العلماء الذين درسوا هذه الظاهرة أجمعوا على أن هذا النوع من الأشعة ناتج عن بقايا انفجار عظيم.. كان ذلك الانفجار هو بداية نشوء الكون وتوسُّعه.. لقد اكتشفوا أن الكون كله قد بدأ من نقطة واحدة([20]).
***
بقيت مع الباقر طيلة ذلك المساء أسأله عن تصحيح القرآن ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم لتلك الأخطاء الكثيرة التي وجدناها في المكتبات المختلفة.. وبعد أن نفذ ما عندي من أسئلة، قال لي: ألا أدلك على أعظم ما جاء به محمد صلى الله عليه وآله وسلم في هذا المجال؟
قلت: إن كل ما ذكرته عظيم.. فهل هناك ما هو أعظم منه؟
قال: أجل.. لقد علمنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم ما هو أعظم من تلك المعارف جميعا.
قلت: ما هو؟.. شوقتني إليه.
قال: لقد علمنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم المنهج الصحيح الذي نبحث بواسطته عن المعارف، وأزاح عن عيوننا تلك الخرافات والأساطير التي تحجبنا عن الرؤية الصحيحة للحقائق.
قلت: فاشرح لي ذلك.
قال: إن شرح ذلك يطول.. ولكني سأحدثك عن أمرين كانا من أخطر العقبات في تاريخ العلوم.
قلت: ما هما؟
قال: أما أولهما: فالأسطورة.. وأما الثانية:.. فالدجل.. ولكليهما علاقة كبرى ببعضهما، فالدجل يولد الأسطورة، والأسطورة تولد الدجل.
قلت: كيف ذلك؟
قال: الدجال المحتال قد ينشر أسطورة ترتبط بظاهرة من الظواهر الكونية، ليجني من خلال الأسطورة ما شاء له هواه أن يجني.. والأساطير تنتج الدجالين الذين يرمون بالغيب من غير تحقيق.
قلت: فكيف تخلص محمد صلى الله عليه وآله وسلم من هذين النيرين؟
قال: لقد خلصه ربه.. أنسيت أن محمدا كان تلميذا في حضرة الله يتعلم من الله مباشرة من غير وسائل؟
قلت: فكيف خلصه ربه؟
قال: إن الوحدانية التي جاء بها محمد صلى الله عليه وآله وسلم.. والتي تعني أن رب الكون واحد، وأنه الوحيد المتصرف في الكون قضت على كل الأساطير التي أثقلت كاهل البشرية.
لقد ذكر الله تعالى كيف كان المشركون يتخوفون من عوالم الجن، فقال:{ وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْأِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً} (الجـن:6).. لقد كانت الأسطورة هي التي تملأ القلوب بالمخاوف.. فلما جاءت حقائق التوحيد رفعت كل تلك المخاوف.. وعاد الشيطان.. ذلك الغول الذي استغله الدجالون صغيرا حقيرا لا يستحق كل تلك الهالات من الأساطير التي حامت حوله.
لقد قال الله تعالى يطمئن عباده المؤمنين:{ إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ((آل عمران:175)، وقال:{ إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ((لأعراف:201)، وقال:{ إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئاً إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ((المجادلة:10)، وقال:{ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً((النساء: 76)، وقال:{ وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ((لأنفال:48)
ولهذا، فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نهى أن ينسب ما يحصل من حوادث للشياطين، قال بعض الصحابة: (كنت رديف النبي صلى الله عليه وآله وسلم فعثرت دابة فقلت: تعس الشيطان، فقال: لا تقل تعس الشيطان، فإنك إذا قلت ذلك تعاظم حتى يكون مثل البيت ويقول: بقوتي ولكن، قل: بسم الله، فإنك إذا قلت ذلك تصاغر حتى يكون مثل الذباب)([21])
ونهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يفسر ما يحصل في الكون تفسيرا أسطوريا.. ففي الحديث أن الشمس انكسفت يوم مات إبراهيم، فقال الناس: انكسفت لموت إبراهيم، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتموها، فادعوا الله وصلوا حتى ينجلي)
إن هذا الحديث العظيم يرسم المنهج الصحيح للتعامل العلمي مع الكون، فكل ما في الكون آيات لله.. لا يؤثر فيها من الأسباب إلا ما أراد الله أن يؤثر..
إن هذا الحديث قاله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في واقع كان يموج بالأسطورة.. وفي واقع كان على أتم الاستعداد لتقبل أي تفسير أسطوري يستغله أي دجال أو خرافي..
لقد كان الكثير من الناس في ذلك الحين، وقبله يعتقدون أن الكسوف هو نتيجة لتصارع الآلهة، وكانت بعض الشعوب في الصين يرمزون للشمس بأنها طائر ذهبي، ويرمزون للقمر بضفدع وعند حدوث الكسوف فإن معركة ما تدور بين هذين الرمزين.
أما قبائل الأمازون فكانوا يعتقدون أن القمر أثناء الخسوف قد رماه أحد الأطفال بسهم في عينه مما أدى إلى نزيف في هذا القمر، ثم يُشفى القمر بعد ذلك ويعود لوضعه الطبيعي.
وكان الصينيون يفسرون ظاهرة كسوف الشمس على أن تنّيناً يحاول أن يبتلع قرص الشمس، لذلك كانوا يضربون بالطبول، ويقذفون بالسهام لأعلى محاولة منهم إخافة التنين وإعادة الشمس لهم من فمه.
وفي الهند كان الناس يغمرون أنفسهم بالماء عند رؤيتهم هذه الظاهرة لكي لا يسقط عليهم شيء منه..
وحتى يومنا هذا يعتقد الإسكيمو أن الشمس تختفي وتذهب بعيداً أثناء ظاهرة كسوف الشمس ثم تعود من جديد.
وفي ظل هذه الأساطير كان العرب ينظرون إلى كسوف الشمس على أنه يمثل موت إنسان عظيم، أو خسارة معركة عظيمة.
ولكن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم نظر إلى هذه الظاهرة نظرة علمية محضة، لقد أخبرهم أن الشمس والقمر مخلوقات وآيات مسخرة لله، ولا علاقة لهما بما يحدث على الأرض من ولادة أو موت أو غير ذلك.
وفي هذه العبارة وضع محمد صلى الله عليه وآله وسلم أساساً للبحث العلمي في الظواهر الكونية على اعتبار أنها آيات من عند الله ومخلوقات تخضع لإرادة خالقها.
زيادة على ذلك، فإن هنالك شيئا مهما يثبت أن محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن من الصنف الذي يريد الشهرة أو المال.. فقد جاءه من يمدحه ويجعل من كسوف الشمس مناسبة لموت ابنه، وكان في إمكانه أن يسكت عن هذا الأمر، وأن يترك الناس يقدسونه ويرفعون من شأنه لكنه لم يفعل.
قلت: عرفت العقبة الأولى.. وعلمت أنه لا يوجد دين من الأديان قضى على الأسطورة كما قضى عليها الإسلام.. فكيف واجه محمد العقبة الثانية؟.. وهي عقبة لا تقل عن العقبة الأولى إن لم تكن تفوقها.
قال: إن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم واجه العقبة الثانية بالتحذير من الدجل والكذب بكل أصنافه.. فالله تعالى يقول ـ راسما المنهج العلمي الصحيح ـ:{ وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} (الاسراء:36)، ويقول مطالبا بالبراهين في مواجهة الدجل:{ وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (البقرة:111)
فلذلك لم يعذر الإسلام من عذرتهم من الشعوب فيما وقعوا فيه من أخطاء.. ذلك لأن افتقارهم للوسائل لا يبيح لهم أن يتحدثوا فيما لا علم لهم به، قال تعالى:{ وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} (سـبأ:53)
وفوق ذلك، فإن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم جاء بالتعاليم التي توفر الاستعداد النفسي للتعامل العلمي مع حقائق الكون.. ولهذا، فإن عصر التنوير يبدأ في الحقيقة من الأيام التي تشرف فيها محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالجلوس بين يدي ربه للتعلم منه، ثم نشر ما تعلمه منه بين يدي عباده..
من ذلك الوقت بدأ التنوير..
لقد جاء محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالتعاليم التي جددت الإحساس بالكون وإزالة الغفلة المعطّلة لرؤية الأشياء بسبب الإلف الطويل.. فالله تعالى يقول:{ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ} (ابراهيم:19)، ويقول:{ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} (الحج:63)
بل إنه يحرض على النظر العلمي إلى الكون، ومكوناته.. والنظر، واستعمال كل وسائل الإدراك هو الأساس الذي ينبع منه المنهج العلمي الصحيح، قال تعالى:{ قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} (الأنعام:11)
وبعد ذلك يحث القرآن على استعمال الفكر وتوظيفه التوظيف الصحيح للتعرف على الكون وحقائق الكون بعيدا عن كل المؤثرات، قال تعالى:{ وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَاراً وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (الرعد:3)
إن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم بهذه التعاليم التي جاء بها.. والتي توجهت حياته كلها لتنفيذها.. كان المقدمة الصحيحة لعصر التنوير..
ولذلك، فإن الورثة الذين تعلموا هذه المبادئ من نبيهم صلى الله عليه وآله وسلم قاموا بتشييد بنيان صحيح للعلم يعتمد الصدق والتحقيق العلمي، ويبعد كل أسطورة وخرافة ودجل..
في اليوم الثاني.. سرت مع الباقر إلى متحف مختص بتراجم العلماء والعباقرة على مدار التاريخ..
لقد كان هذا المتحف تحفة من تحف الفن.. والسائر فيه كالراكب في عربة الزمن، فهو يدخل ـ بدخوله أول باب ـ التاريخ.. وينتهي بانتهائه ما وصلنا إليه منه..
كانت كل مسافة من ذلك المتحف تشكل مرحلة زمنية.. وفي كل مرحلة كنا نسيرها نرى المعلقات، وبجانبها المجسمات الملخصة لحياة ذلك العالم أو العبقري الذي نال شرف الدخول إلى ذلك المتحف.. وبجانبها الدراسات الملخصة لفكره، وما أنتجه في حقول المعرفة.
بعد أن سرنا مسافة طويلة في ذلك المتحف.. وبعد أن اطلعنا على ما كتب في كثير من تلك المعلقات، سألني الباقر: ألا تلاحظ شيئا مشتركا بين هؤلاء الذين مررت عليهم جميعا؟
قلت: هناك أشياء كثيرة مشتركة.. فأيها تقصد؟
قال: التطور.. ألا ترى أن كل عبقري أو عالم يمر بمراحل في حياته.. فهو في البدء يكون مبتدئا، وتكون له حينها أفكار وعلوم قد تختلف اختلافا جذريا عن مراحل أخرى متقدمة في حياته..
وليس ذلك خاصا بأفراد العلماء فقط.. بل هو يشمل الجماعات الكثيرة منهم.. فكل جماعة منهم تنتمي إلى مرحلة من المراحل.. وتلك المرحل تعبر عن توجه معين، يعقبه توجه أكثر منه تطورا..
قلت: ذلك صحيح.. فالإنسان كالنبات يبدأ براعم صغيرة، فإذا ما تعهدها بالسقي نمت ونضجت..
قال: إلا من تعلم من الله.. فإنه لن يحتاج إلى الزمن حتى ينضج.
قلت: كيف ذلك؟
قال: لأن السبب الذي جعل العالم لا يثبت على آرائه التي كان قد رآها هو ما فتح له من العلوم التي كانت منغلقة عليه.. لكن العلوم إن انفتحت له انفتاحا نهائيا، فإنه لن يحتاج إلى مراجعة ما رآه من آراء.
قلت: ولكن المسلمين يخبرون بأن في النصوص ما نسخ.
قال: إن صح ما ذكروا.. فإن ذلك لا يتعلق بالأخبار.. وإنما يتعلق بالتشريعات، والتشريعات قد تختلف البيئات فيها، فيختلف الحكم بسبب ذلك.. ثم إن ما ذكر من التشريعات المخصوصة لا يعدو قضايا بسيطة هي في نفسها محل خلاف..
أما أنا.. فقد بحثت فيما ذكروا، فلم أجد أي شيء مما يذكرونه من النسخ.. فكل النصوص التي قالها محمد صلى الله عليه وآله وسلم، أو التي نقلها عن ربه.. كلها محكمة ثابتة لا تزيدها الأيام إلا رسوخا.
قلت: ولكني أرى البعض يتحدث في بعض القضايا التي عرضها محمد، ويذكر أنها وليدة البيئة، وهي بالتالي لا تستحق أن تكون من العلوم الثابتة التي يمكن أن يستفاد منها في كل ظرف، وفي كل حال.
قال: مثل ماذا؟
قلت: لقد ورد في بعض الأحاديث ما قد يتوجه له أهل العلم بالنقد.. ففي الحديث أن بعضهم سأل محمدا عن الخمر، فنهاه عنها، فقال: إنما أصنعها للدواء فقال: (إنه ليس بدواء ولكنه داء)([22])
فإن هذا الحديث قد انتقد من طرف المختصين الذين يعتبرون الخمر علاجا لبعض الحالات المرضية.. وذلك مشتهر بين العامة.
قال: لقد ورد الحديث جازما بأن الخمر داء وليست دواءا.. ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم لا ينطق من عنده، فكل ما ينطق به تعليم إلهي، لقد قال الله تعالى:{ وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4)} (النجم).. فلذلك أنا أومن بما جاء في هذا الحديث، وأتيقن تماما أن حقيقته إن لم تدل عليها الأدلة اليوم، فستدل عليها الأدلة غدا.
قلت: أما إن قلت هذا.. فإني سأذكر لك علم كنت قد علمته يتعلق بهذا.. لقد سمعت مرة محاضرة لطبيب مشهور هو الدكتور (أوبري لويس) وهو رئيس قسم الأمراض النفسية في جامعة لندن قال فيها([23]): (إن الكحول هو السم الوحيد المرخص بتداوله على نطاق واسع في العالم كله، ويجده تحت يده كل من يريد أن يهرب من مشاكله.. ولهذا يتناوله بكثرة كل مضطربي الشخصية، ويؤدي هو إلى اضطراب الشخصية ومرضها)
ثم يقول: (إن جرعة واحدة من الكحول قد تسبب التسمم وتؤدي إما إلى الهيجان أو الخمود، وقد تؤدي إلى الغيبوبة.. أما شاربو الخمر المزمنون فيتعرضون للتحلل الأخلاقي الكامل مع الجنون)
قال: بورك فيك.. وأنا متيقن أن الأيام ستكتشف الكثير مما يقرر صدق ما قاله محمد صلى الله عليه وآله وسلم.. لقد قال الله تعالى يشير إلى ذلك:{ سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} (فصلت:53)
قلت: لقد توجة البعض ناقدا لما ذكر محمد في شأن الكلاب، وتربية الكلاب.. فالرقي الحضاري لأهل عصرنا جعلهم يجعلون من هذه الأحاديث تحذيرات لا مبرر لها..
قال: لقد نشر الدكتور (جراد فنتسر) في مجلة كوسموس الألمانية مقالاً تحت عنوان (الأخطار التي تنشأ عن اقتناء الكلاب والاقتراب منها) جاء فيه: (إن ازدياد شغف الناس بالكلاب في هذا العهد الأخير، يضطرنا إلى لفت الأنظار للأخطار التي تنجم عن ذلك، وخاصة إذا دفع اقتناؤها إلى مداعبتها وتقبيلها، والسماح لها بلحس الأيدي وتركها تلعق فضلات الطعام من أوانيها، فكل ما ذكره مع نبوّه عن الذوق السليم، ومنافاته للآداب، لا يتفق وقوانين الصحة فإن الأخطار التي تهدد صحة الإنسان وحياته بسبب هذا التسامح لا يستهان بها، فإن الكلاب تصاب بدودة شريطية تتعداها إلى الإنسان وتصيبه بأمراض عضالة قد تصل إلى حد العدوان على حياته.
وقد ثبت أن جميع أجناس الكلاب حتى أصغرها حجماً لا تسلم من الإصابة بهذه الديدان الشريطية.
وقد رؤي في إقليم فريزلند بهولندة حيث تستخدم الكلاب في الجر أن في كل مائة منها 12 إصابة، ووجد في إيسلاندا شخص مصاب بهذه الآفة في كل 43 شخصاً من أهاليها، وشوهد أن هذه النسبة تزيد في استراليا إذ ثبت وجود شخص في كل 39 شخصاً من سكانها مصاباً بها، وثبت كذلك أنها كانت سبباً مباشر للكثير من الأمراض في الأقطار الأخرى.
ومما تجب على الناس مراعاته عدم مداعبة الكلاب، وتعويد الأطفال التوقّي منها، فلا تترك تلعق أيديهم ولا يجوز إبقاء الكلاب بمحال نزهة الأطفال، وميادين رياضتهم، ويجب أن لا تطعم الكلاب في الأواني المعدّة لأكل الناس، وأن لا يسمح لها بدخول متاجر المأكولات والأسواق العامة أو المطاعم على وجه عام يجب إبعادها عن كل ما له صلة بمأكل الإنسان ومشربه.
قلت: لقد اخترع أهل عصرنا الكثير من مواد التنظيف.. وهذا قد يغني عما ورد في الحديث: (طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه كلب أن يغسله سبع مرات أولاهن بالتراب)([24])
قال: ومع ذلك، فقد أشار صلى الله عليه وآله وسلم في هذا الحديث إلى مطهر بسيط واقتصادي وموجود في كل مكان.. وهو التراب.. فقد اكتشف أهل عصرنا الكثير من مبيدات الجراثيم في التراب.. فالستربتومايسين والتتراسكلين والنيوماسين، كلها من مبيدات الجراثيم، استفيد من التراب في استخراجها لوجود ذيفان في جراثيمه يقضي على أنواع من الجراثيم الأخرى.
قلت: صحيح ما ذكرت.. ولا ينبغي لي أن أجادلك فيه.. ولكن هناك أمرا مثيرا يعتبره بعض أهل عصرنا نوعا من الدجل، وبعضهم يعتبره نوعا من الحيل.
قال: تقصد ما ورد في النصوص الكثيرة من كون البلاء والعقوبات مرتبطة بالذنوب..
قلت: أجل.. فقد اعتبره بعضهم دجلا متنافيا مع ما تنص عليه العلوم من اعتبار الذنوب لا علاقة لها بما يحصل في الكون من حوادث..
وبعضهم اعتبرها نوعا من الحيل التي قصد منها جر الناس إلى العمل الصالح، ولو بالكذب.
قال: كلهم قد يكذب، ويحتال ليكذب إلا محمدا صلى الله عليه وآله وسلم.. فقد تعلم من ربه.. ومن تعلم من ربه لن يحتاج إلى الكذب.
قلت: فكيف ترد على هذا الإشكال؟
قال: ألا يعرف هؤلاء الناقدون أن أكثر الأمور تكون نتيجة لعوامل كثيرة، كل عامل منها يكون سبباً من عدة أسباب مؤثرة فيه، وفي هذه الحال لو ذكر إنسان سبباً فقط، ولم يذكر الآخر لا يعني هذا أنه ينفي البقية؟
فقد يكون الكسل ـ مثلا ـ نتيجة لاجتماع الحر والتعب والضجر والعادة والملل، وقد تجتمع هذه الأسباب كلها عند إنسان، فلو قلت لهذا الإنسان: الحر جعلك تتكاسل لا يعني هذا أنك تنفي سائر الأسباب.
ولهذا، فإن هناك كثيرا من القضايا ربطها الله تعالى بأسباب حسية وأسباب غيبية، كالموت مثلاً، فإن له سبباً حسياً هو المرض، وآخر غيبياً هو قبض الروح من قِبَلَ الملك الموكل بذلك..
ولهذا فإن القرآن والحديث قد يتحدثان في موقف عن السبب الحسي لقضية، وقد يتحدثان في موقف آخر عن السبب الغيبي لها، ولا يعني أن ذكر أحدهما في موطن نفي للثاني([25]).
قلت: هناك شيء آخر أعظم خطرا.. لقد ورد في الحديث أن الرعد هو في الحقيقة (ملك من ملائكة الله موكل بالسحاب، معه مخاريق من نار يسوق بها السحاب حيث شاء الله)، وعندما سألت اليهود محمدا عن الرعد ما هو؟ قال: (ملك من الملائكة موكل بالسحاب معه مخاريق من نار يسوق بها السحاب حيث شاء الله)، فقالوا: (فما هذا الصوت الذي نسمع؟)، قال: (زجره بالسحاب إذا زجره حتى ينتهي إلى حيث أمر الله)، قالوا: (صدقت)
ألا ترى أن هذا يناقض التفسير العلمي للرعد([26])، والذي يختصره في كونه الصوت الناتج عن تصادم الكهربائية بين السحاب وبين بعضه، أو بين السحاب والأرض([27])؟
قال: إن هذا يصدق عليه ما ذكرته لك من قبل.. فالتفسير المادي الذي ذكرته لا ينافي التفسير الغيبي الذي ذكره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بل هو يكمله، بل يعطيه بعدا آخر أكثر جمالا.. فالتفسير المادي الهزيل غير النهائي ـ والذي نوافقهم فيه ـ يجعل من الرعد مجرد صوت جامد لا جمال فيه ولا حقائق يحملها، بينما التفسير الكامل هو ذلك التفسير الذي لا يتناقض أولا مع التفسير العملي، فينفيه، وفي نفس الوقت يضيف تفسيرا آخر يبين حقيقة الحال.
وبذلك تنتفي الخرافية من التفسير الغيبي، بل تجعل من ذلك التفسير تفسيرا علميا، يقصر العقل عن إدراكه لما غاب عنه من وسائل ذلك الإدراك.
فالرعد في المفهوم المادي صوت حتمي ناتج عن حالة فيزيائية معينة، فلا يحمل أي رسالة، ولا يفهم منه إلا ما يفهم من سائر أصوات الأشياء في ارتطاماتها.
بينما هو في المفهوم الشرعي صوت له معناه وله دلالاته العظيمة، والتي يفقهها أهل الله وأولياؤه، ولذلك قال تعالى:{ وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ} (الرعد:13)
وأنا أعجب من العقل المادي في استنكاره للمعاني التي يحملها صوت الرعد، وهو لا يستنكر المعاني التي تحملها أصواته، وهي في حقيقتها المادية كذلك لا تعدوا أن تكون مجرد ارتطامات للهواء الخارج من الرئتين بالحبال الصوتية وبمخارج الصوت.
فكلا الأمرين له تفسيره المادي، والذي لا ينافي في الذهن العلمي تفسيره الغيبي، وإلا صرنا بلها لا نعتقد في الوجود إلا ما تمتد إليه حواسنا القاصرة.
ثم ما الغرابة في اعتبار الكهربائية التي أنتجت الرعد خلقا من خلق الله له روحه وإدراكه ووعيه؟.. فلا غرابة في ازدحام هذا الفضاء الواسع والسموات ذات البروج والأنجم والكواكب كلها بالأحياء وبذوي الادراك والشعور، ولا مانع بناء على هذا أن يخلق الله ذوي مشاعر من النور والنار ومن الضوء والظلام والهواء ومن الصوت والرائحة ومن الكلمات والأثير وحتى من الكهرباء وسائر السيالات اللطيفة الاخرى([28]).
في اليوم الثالث طلب مني الباقر أن نسير إلى بعض الكليات الجامعية التي تمتلئ بها القاهرة.. فسرت معه.. وكانت أول كلية زرناها كلية طبية مختصة في أمراض العيون.. فطلب مني أن أسأل بعض أساتذتها عن مسألة هندسية، فقلت له: أتريد أن يسخر مني.. إن هذه كلية طب.. وليست كلية هندسة.. إن شئت الهندسة، فهلم نذهب إلى كليات الهندسة.
قال: ما دامت كلية طب.. فاسأله عن أمراض المعدة.
قلت: أراك لا تزال تسخر مني.. هذه كلية مختصة بأمراض العيون، ولا علاقة لها بما تسأل عنه.. إن شئت أن تبحث عن هذا، فهلم بنا إلى الكلية المختصة بأمراض الجهاز الهضمي.
سرنا إلى كلية من كليات الحقوق، وطلب مني أن أسأل بعض أساتذتها عن أسئلة مرتبطة بعلم الفلك.. فلم أجبه بما أجبته به.. بل أردت أن أبين له خطأ الأسلوب الذي يتعامل به مع المختصين، فاقتربت من بعض الأساتذة، ورحت أسأله، فتجهم الأستاذ في وجهي، وقال: أراك أخطأت.. فأنت في كلية حقوق، لا في مرصد فلك.. حاول مرة أخرى أن تقرأ واجهة الباب قبل أن تدخل.
بعد أن عدنا أدراجنا إلى البيت في المساء، من غير أن نستفيد أي فائدة سوى ما عرفنا من الجهل المطبق لعلماء أعلام بكل ما هو بعيد عن اختصاصهم، قلت للباقر: أراك ترمي إلى شيء.. فما هو؟
قال: لقد ذكرت لك أن من الضوابط المهمة التي وضعتها لعلوم الإنسان الكامل الشمول.
قلت: أجل.. فما تقصد به؟
قال: إن الذي يتعلم من الله يستحيل أن يحبس في سجن التخصصات.. فالله هو الواسع الذي لا يحده شيء، ولا يضيق دونه شيء.
لذلك قلت لنفسي: إن علوم الإنسان الكامل علوم لا تحدها التخصصات، ولا تقيدها.. لأنها إن كانت كذلك كانت علامة جهل كبير..
قلت: ما الذي تقوله؟
قال: ألا ترى أن المتخصص مقيد في سجن اختصاصه، فهو لا يفسر الأشياء إلا على ضوئها؟
قلت: أجل.. فالمسجون في سجن علم الاجتماع أو في سجن مدرسة من مدارسها لا أراه في مواقفه يتحدث إلا انطلاقا منها.. وهكذا المسجون في سجون علم النفس.. وهكذا المسجون في سجون التخصصات المختلفة.. حتى التخصصات الدقيقة منها.. ولكن ذلك ضروري، أو كالضروري، فلا يمكن لأحد أن يتقن فنا دون أن يتخصص فيه.. وأو يهب عمره جميعا له.
قال: لكني اكتشفت أن في علوم محمد صلى الله عليه وآله وسلم ما يختلف عن ذلك تماما.. فعلومه تستقي من محيط صبت فيه جميع بحار العلوم والمعارف، أو كانت هي مصدر جميع العلوم والمعارف.
لقد قال الله تعالى يذكر سعة علمه ـ على لسان إبراهيم u ـ:{ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ } (الأنعام: 80)
وقد أخبر تعالى أن القرآن الكريم نزل من مشكاة علم الله، قال الله تعالى:{ لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً} (النساء:166)
لهذا، فإنك تجد في القرآن الكريم، وفي تفسير النبي صلى الله عليه وآله وسلم له كل حقائق العلوم ما تعلق منها بالوجود، أو بالحياة، أو بتنظيم الحياة.. كل ذلك تجده واضحا جليا في القرآن الكريم وفي السنة المطهرة.
لقد أشار القرآن إلى هذا في قوله تعالى:{ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} (النحل: 89)
فكل الحاجات التي ترتبط بالإنسان توجد خلاصتها في هذا الكتاب الذي نزل على محمد صلى الله عليه وآله وسلم.. والذي قام محمد صلى الله عليه وآله وسلم في حياته جميعا بتفسيره..
قلت: ولكن العلوم كثيرة.. وقد وضعت في آلاف.. بل عشرات الآلاف من المراجع الضخمة..
قال: إن عشرات الآلاف من الكتب قد يمكن تلخيص ما يفيد منها في كلمات معدودات.. بل قد يمكن تلخيص جهود بشرية طويلة في معادلة واحدة..
قلت: ألا يمكن أن توضح لي هذه النقطة بمثال تضربه؟
قال: سأذكر لك مثالا يرتبط بعلم من العلوم.. هو علم الوراثة..
لقد حظي هذا العلم باهتمام البشرية منذ القديم([29])..
في البدء اقترح الفيلسوف الإغريقي أرسطو، الذي عاش في القرن الثالث قبل الميلاد، إحدى أقدم النظريات المعروفة في مجال الوراثة، حيث أشار إلى أن السمات تورث عبر الدم.. وقد كانت هذه النظرية خاطئة، ولكنها ظلت مقبولة لأكثر من ألف عام.
ولم يتمكن العلماء من التوصل إلى نظرية صحيحة عن الوراثة إلا بعد اكتشاف الخلايا الجنسية وتحديد وظائفها.
وخلال أوائل القرن التاسع عشر، اقترح عالم الأحياء الفرنسي شيفالييه دو لامارك أن السمات التي تكتسب أثناء حياة الكائن الحي يمكن أن تمرر إلى النسل، وأوضحت الاكتشافات الوراثية المتأخرة أن السمات المكتسبة لا تنتقل من جيل لآخر.
وكانت هذه النظرية، بالرغم من عدم صحتها، مقبولة لدى عالم الأحياء البريطاني تشارلز داروين، الذي اقترح نظرية الانتخاب الطبيعي في كتابه أصل الأنواع (1859م)، فقد اعتقد داروين، أن كل جزء من أجزاء الجسم ينتج جسيمات دقيقة تتحرك عبر مجرى الدم إلى البيوض أو النطاف، وأن هذه الجسيمات هي التي تسيطر على السمات الوراثية.
ولم يقبل العالم البريطاني فرانسيس جالتون، وهو ابن أخ داروين، هذه الفكرة، حيث أجرى عملية نقل دم من أرانب سوداء إلى أرانب بيضاء، ليرى ما إذا كانت الأرانب البيضاء ستنجب أرانب سوداء، ولكن الأرانب البيضاء أنجبت صغارًا بيضاء أيضًا.
خلال أواسط القرن التاسع عشر أجرى الراهب النمساوي وعالم الأحياء جريجور مندل سلسلة من التجارب على الوراثة، حيث درس في حديقة ديره السمات الوراثية في نبات البطاطس. وقادت نتائج هذه التجارب مندل إلى صياغة أول نظرية صحيحة عن الوراثة.
بعدها نشر مندل تقريرًا عن عمله في عام 1866م، وظل هذا التقرير مجهولاً حتى عام 1900م عندما أعاد ثلاثة علماء نبات أوروبيين، كل على حدة، اكتشافه أثناء تجاربهم حول الوراثة، فقد أجرى هؤلاء العلماء ـ وهم الهولندي هوجو دو فريس، والألماني كارل كونز، والنمساوي إيريخ فون تشيرماك ـ تجارب على استيلاد النباتات، وتوصلوا، كل على حدة، إلى نفس ما توصل إليه مندل من نتائج.
وتلا ذلك عدد من الاكتشافات الوراثية الهامة: فخلال أوائل القرن العشرين، اكتشفت مجموعة من العلماء بجامعة كولومبيا في نيويورك سيتي، بقيادة توماس هنت مورجان، عددًا من المبادئ الوراثية المهمة.
وقد درس مورجان ومجموعته، التي تألفت من كالفن بريدجز وهيرمان مولر وألفرد ستيرتفانت، توارث سمات مثل لون العيون وشكل الأجنحة في ذبابة الفاكهة، وبينوا أن المورثات توجد في الصبغيات، وصمموا أول خريطة وراثية، وأوضحوا انتقال المورثات عبر الصبغيات الجنسية، واكتشفوا التعابر.
وفي عام 1931م، أوضحت عالمة الأحياء الأمريكية باربارا ماكلنتوك أن التعابر ينطوي على تبادل عضوي لمادة الصبغيات.
بعدها أصبحت كيمياء المورثات محط اهتمام أبحاث كثيرة منذ عام 1940م. وبحلول أوائل خمسينيات القرن العشرين كان العلماء قد أثبتوا أن المورثات تتحكم في التفاعلات الكيميائية في الخلية بتوجيه إنتاج الإنزيمات وغيرها من البروتينات، وحددوا أن د ن أ هو المادة الوراثية.
وفي عام 1953م، اقترح عالمان، هما الأمريكي جيمس واطسون والبريطاني فرانسيس كريك، نموذجًا للتركيب الكيميائي السلّمي لـ د ن أ ـ أي الحلزون المزدوج، وكان نموذجهم نقطة تحول في مجال الوراثة، حيث أوضحوا لأول مرة كيفية تناسخ د ن أ. فقد بيّن العالمان أن د ن أ يتناسخ بالانشطار طوليًا عند منتصفه، وبناء سلمين باستكمال بناء نصفي السلم المنشطر. واقترح العالمان أيضًا أن الطفرة تنتج عن تغيير في تسلسل القواعد على امتداد السلم.
وفي عام 1958م، أوضح عالما الوراثة الأمريكيان ماثيو ميسلسون وفرانكلين ستال تجريبيًا أن د ن أ يتناسخ بنفس الطريقة التي أوضحها كل من واطسون وكريك.
وفي عام 1961م، سجل علماء في معهد كاليفورنيا للتقنية اكتشافهم لـ ر ن أ الرسول. وفي نفس العام، تعرَّف عالم الكيمياء الحيوية الأمريكي مارشال نيرنبرج وزملاؤه في المعهد الوطني للصحة على الكلمة الأولى للشفرة الوراثية ـ أي ي ي ي. وبحلول عام 1967م كانت الشفرة بأكملها قد حلت.
بعدها بدأ عصر الهندسة الوراثية.. حيث استخدمت العديد من الدراسات التي أجريت في مجال الوراثة منذ سبعينيات القرن العشرين تقنية تسمى الهندسة الوراثية أو تقنية د ن أ المولف، وهي تقنية تغير مورثات الكائن الحي لإنتاج جزيئات تسمى د ن أ المولف..
قلت: أعرف ما حصل بعد ذلك.. وآخر ما توصلنا إليه هو ما حصل في مطلع عام 2000م، حيث أعلن عن فك شفرة الخارطة الجينية، وهو إنجاز علمي جعله كثير من العلماء بنفس أهمية الإنجاز العلمي الذي حققه الإنسان عندما حط بقدمه على سطح القمر عام 1969م.
قال: ألا ترى أن كل الجهود السابقة تلخصت في هذه الخارطة التي تتحدث عنها؟
قلت: بلى.. ذلك صحيح.. ولو أن هذه الخارطة نفسها مجرد مفردات، أو مجرد حروف، وهي تحتاج بعد ذلك لأن تقرأ.. ولسنا ندري ما هي الجمل التي ستقرؤها البشرية من خلالها.
قال: فقد أجبت نفسك إذن.. فالعبرة ليس بما كتب، ولا بكثرة ما كتب، وإنما بالنتيجة الأخيرة التي توصل الباحثون على امتداد التاريخ إليها.
إن المعادلة التي تنص على العلاقة بين كتلة جسيم وطاقته، والتي تقول (ط = ك ث²).. أي: الطاقة = الكتلة مضروبة في مربع سرعة الضوء.. قد كتب من أجل الوصول إليها آلاف الأوراق، وبذل من الجهود ـ طيلة تاريخ البشرية ـ ما بذل من أجل التحقق منها.. ولم يكن ذلك في علم واحد.. بل في علوم كثيرة.
قلت: ولكني لا أرى مثل هذه المعادلة في العلوم التي جاء بها محمد.
قال: لقد جاء محمد صلى الله عليه وآله وسلم بآلاف المعادلات التي لا تقل عن هذه المعادلة..
إن اعتبار الصلوات خمسا، وفي أوقات محددة معادلة تحتاج البشرية إلى آلاف السنين للتحقق من صدقها..
وهكذا اعتباره البنت ترث عند انفرادها النصف، وعند التعدد الثلثين.. والأم السدس عند تعدد الفرع الوارث أو تعدد الإخوة، والثلث عدا ذلك.. وهكذا في كل المسائل التي وردت في علوم الفرائض.. بل هكذا في كل العلوم التي جاء بها محمد صلى الله عليه وآله وسلم..
فالتناسق بينها جميعا في منتهى كماله.. مع أنه لتشريع قانون بسيط نحتاج إلى تخصصات كثيرة مختلفة.
فالتشريعات التي جاء بها محمد صلى الله عليه وآله وسلم تخدم الفرد والمجتمع.. وتخدم الجسد والنفس والعقل والقلب.. وتخدم الدنيا والآخرة.. ولا تضر فوق ذلك بشيء من الأشياء دق أو جل.
سكت قليلا، ثم قال: وفوق ذلك كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يخبر أصحابه بكل شيء من التاريخ السابق أو اللاحق.. وكأنه يطلع عن كثب على كل ما حدث أو سيحدث([30]).
قال أبو ذر: ولقد تَرَكَنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وما يُقَلِّب طائر بجناحيه في السماء إلا ذكرنا منه عِلمًا([31]).
وعن أبي زيد الأنصاري قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صلاة الصبح، ثم صعد المنبر، فخطبنا حتى حضرت الظهر، ثم نزل فصلى العصر، ثم صعد المنبر، فخطبنا حتى غابت الشمس، فحدثنا بما كان وما هو كائن، فأعلمنا أحفظنا([32]).
وعن حذيفة: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قائما، فما ترك شيئا يكون في مقامه ذلك إلى قيام الساعة إلا حدثه حفظه من حفظه ونسيه من نسيه، قد علمه أصحابي هؤلاء وإنه ليكون الشيء فأذكره كما يذكر الرجل وجه الرجل إذا غاب عنه ثم إذا رآه عرفه([33]).
وافق اليوم الرابع من الأيام الأربعة التي تشرفت فيها بصحبة الباقر يوم توزيع جائزة نوبل العالمية، وقد طلب مني الباقر أن نحضر يوما دراسيا أقيم بالمناسبة في بعض المراكز الثقافية بالقاهرة، وكان يبحث في سيرة نوبل([34])، وحول سبب وضعه لهذه الجائزة العالمية، وحول مسائل أخرى ترتبط بهذه المواضيع.
كانت أول محاضرة أقيمت في ذلك اليوم حول سيرة نوبل.. وقد كنت أعرف الكثير مما ورد فيها.. فسيرة نوبل ـ بتفاصيل أحداثها ـ يكاد يعرفها العام والخاص..
لكن محاضرة تلت تلك المحاضرة شدت انتباهي كما شدت انتباه المستمعين، كان عنوانها (سلطة العلم والسياسة والأخلاق)([35]).. وقد بدأ المحاضر محاضرته بأن صاح في الحضور قائلا:
هل على العالم إذا خشي أن تفضي أبحاثه إلى اكتشافات قد يستغلها الإنسان لغاية غير أخلاقية أن يمسك عن مواصلة بحثه العلمي، فيكون بذلك ممتثلا لقاعدة اتقاء المحاذير، ومبدإ درء الشبهات، ولكنه ينخرط كليّا في مرجعية التعطيل؟
أم هل عليه ـ إذا تم له الاكتشاف ـ أن يتكتم عليه خانقا أنفاسه وهو في المهد؟
وما عسى أن يكون الأمر لو أن الاكتشاف كان قابلا لتقديم أعظم الخدمات للإنسانية إذا تم توجيهه وجهة الخير والمنافع، وكف الإنسان عن استغلاله تحت إغراء نوازع الشر؟
ثم أخذ يتحدث عن العباقرة الذين استغلت علومهم في تغذية قوى الشر، واقتصر منهم على شخصيتين كبيرتين:
أما أولهما، فهو ألفريد نوبل، ذاك الذي اخترع مادة النيتروغليسيرين، وهي الصيغة الأولى لكل التركيبات المتفرقعة، وهي كذلك نقطة الانطلاق لصناعة المتفجرات بأكملها.
لقد استفادت البشرية من هذا الاختراع خيرا كثيرا.. فلولاه ما حفرت قناة باناما، ولا نسفت صخور الهلغات في ممر نيويورك، ولا تمت السيطرة على نهر الدانوب عندما يسمى بأبواب الحديد.
لكن الأخلاق المنهارة سرعان ما راحت تستغله لتغذية الشر.. لقد أدخلت السياسة العفنة هذه المادة الجديدة إلى مصانع الأسلحة، فأصبحت آلة من آلات إنتاج الدمار، فقفزت أدوات الحرب من شكلها اليدوي البدائي إلى أشكال ميكانيكية رهيبة.
نتيجة لذلك أوصى نوبل بقسط وفير من ثروته الضخمة لإحداث جائزة تتوزع على مجالات الفيزياء والكيمياء والطب والآداب، وجائزة ترصد لقضية السلام في العالم.. لقد عرف أن السياسة بدون أخلاق تفسد العلم، وتسخّر المال، فتنتج الحرب وتصنع الدمار، وبناء على ذلك نصت وصيته على أن جوائز البحث العلمي في الفيزياء والطب والكيمياء تمنح لمن يقدم (أفضل الحسنات للإنسانية)، وعلى أن جائزة الآداب تعطى لمن (أشاد بالمثل)، وتعطى جائزة مخصوصة لمن ساهم في (إخاء الشعوب وتقليص الجيوش وتنظيم مؤتمرات السلام)
أما الشخصية الثانية التي تحدث عنها المحاضر، والتي استغلت اكتشافاتها العلمية أبشع استغلال، فهو ألبيرت أنشتاين..
فنظرية أنشتاين ـ فيما يعرف علميّا بالنسبية ـ هي التي قادت الباحثين إلى التسليم بمبدإ تكسير الذرة، ومن أجل نظريته أحرز سنة 1921 على جائزة نوبل.
لقد كانت الأجواء حينها تنذر باندلاع الحرب الكونية، والعدد الهائل من علماء أوروبا ولا سيما الألمان كانوا يتدافعون نحو الولايات المتحدة هاربين بعلمهم أكثر مما كانوا هاربين بأجسادهم، فتلقفتهم الجامعات هناك، فنقلوا إليها الخبر المخيف بأن بعض العلماء في ألمانيا توصلوا الى تكسير ذرة اليورانيوم، وأن ألمانيا قد وضعت يدها على كل ما تنتجه تشيكوسلوفاكيا من تلك المادة.
وهنا بادر أنشتاين بالكتابة إلى الرئيس الأمريكي روزفلت يستحثه أن يهتم بمشروع تفجير الذرة في إطار صنع القنبلة النووية قبل أن تمتلكها ألمانيا النازية تحت إمرة هتلر، وكان مسوّغه في ذلك هو اعتقاده أن سبق هتلر إلى القنبلة سيؤدي إلى كارثة إنسانية كبرى سواء أفجّرها أم اتخذها سيفا مسلولا على أعناق البشرية.
وهكذا دخل العلم في أحرج موقع عرفه في التاريخ، وهكذا انحشرت المعرفة في المضيق الخانق بين السياسة والأخلاق، فما فعله أنشتاين قد كان باسم فلسفة الردع، وكان ضربا من البحث عن التوازن الاستراتيجي، بل كان تشريعا لمبدإ التسلح الوقائي تماما كما سبق لنوبل أن أسّس وشرّع.
لقد هزم الحلفاء ألمانيا النازية، وخيل لأنشتاين أن زوال العلة يوجب زوال النتيجة طبقا لقوانين العقل الخالص، ولكن للسياسة منطقها الآخر، فاليابان كانت جاهزة للاستسلام، والاتحاد السوفياتي ـ حليف الولايات المتحدة ـ كان يتولى مفاوضة اليابانيين على حيثيات الاستسلام، ولكن ترومان أمر بإلقاء القنبلة، وإذا بالعلم يجد نفسه في قفص الاتهام الأخلاقي، وتحل بأنشتاين أزمة نفسية حادة من هول ما رأى ومن هول ما يستشرف به المآل.
وهذا صديقه (روبرت أوبنهيمر) الذي يتولى إدارة مشروع تفجير الذرة يصاب بالهلع، لأن السياسة قد قررت إخراج مجمع الأبحاث من يد السلطة الأكاديمية لجعله تحت إشراف المؤسسة العسكرية.
بعد هذا جرى بعض العلماء يَشون بأسرار القنبلة إلى الروس، لأن كواليس السياسة قد همست بأن قنبلة هيروشيما وناجازاكي قد كانتا لإرهاب الحليف السوفياتي وردعه أكثر مما كانتا لهزم اليابان.. وخاف هؤلاء أن يفقد الكون توازنه، وأن يختل قانون التعادل الاستراتيجي فسرّبوا الأسرار، وانتصبت محاكم التفتيش هنا وهناك، وكان من أشهر الذين حوكموا بتهمة التسريب وأقروا بها في شموخ فلسفي رهيب العالم (جوليوس روزنبرج) في أمريكا و(كلاوس فوخس) في بريطانيا.
لقد أدان أنشتاين نقل الأسرار إلى الروس، والحال أن الذين قدموها كانوا قد دافعوا عن أنفسهم بأنهم قدموها بدون مقايضة، وإنما كانوا في ذلك مستجيبين لنداء الضمير الإنساني النقي، وهم لم يفعلوا إلا ما سبق لأنشتاين أن فعله، فأما الرأي العام فقد انتفض بحملة شعواء على أنشتاين نفسه وعلى زميله أوبنهيمر، وأما الإدارة الأمريكية فقد حملت على أنشتاين لأنه لم ينخرط بحماس في هستيريا التمجيد للقوة الأمريكية، وطلبت منه الكف عن إثارة الشغب بين صفوف الرأي العام.
ندم أنشتاين على فتح طريق التصنيع النووي أمام الأمريكان، ولكنه لم يندم على اكتشافاته البحثيّة، تماما كما أن نوبل ما كان بإمكانه أن يندم على اكتشاف النيتروغليسيرين وعلى اختراع الديناميت وإنما كان أسفه على أن غريزة التسلط تدفع بأصحاب القرار إلى تحويل وجهة العلم من فضيلة إسعاد الإنسان إلى آلة جهنمية تصنع بؤسه وشقاءه.
بعد أن انتهى المحاضر من محاضرته التفت الباقر إلي، وقال: لكأن هذا المحاضر يتحدث من مشكاة قوله تعالى:{ وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} (البقرة:102)
قلت: لم أفهم ما الذي تشير إليه هذه الآية حتى أرى وجه التطابق بينهما.
قال: إن هذه الآية تشير إلى أن العلوم التي كان يبثها ذانك الملكان (هاروت وماروت) من العلوم التي تصف حقائق كونية.. كتلك الحقائق التي توصل إليها نوبل وأينشتين.. وقد كانت تلك العلوم تحمل ثمارا طيبة خيرة يمكن أن تستفيد منها البشرية، وتحمل في نفس الوقت ثمارا خبيثة يمكن أن تتحول إلى شر محض.. ولهذا، فإن هذين الملكين كانا ينبهان كل من يدرس على يديهما تلك العلوم إلى المحاذير التي تنطوي عليها المعارف التي يدرسونها.
قلت: فالبشرية تحتاج إذن إلى هذا النوع من التوجيهات؟
قال: أجل.. فالعلم وحده إن لم يصحبه التوجيه الأخلاقي سيكون وبالا على أصحابه.. بل يصير الأمر كما قالت العرب: (يبحث عن حتفه بظلفه)..
***
في ذلك المساء.. وفي طريقنا إلى بيت الباقر شاهدنا مظاهرة من جماعة قليلة من الناس، يظهر عليهم من الوقار ما يدل على مكانتهم الاجتماعية الراقية.. وقد كان كل واحد منهم يحمل لافتة تدعو إلى الحفاظ على الإنسان والحيوان والكون..
تعجبت من تلك اللافتات، فسألت الباقر عنها وعنهم، فقال: هؤلاء الذين تراهم خبراء علماء لا يقلون عمن كنت تسمع أحاديثهم في تلك المحاضرات.
قلت: فما بالهم؟
قال: سلهم.. فخير من عبر عن المرء لسانه.
اقتربت من أحدهم لأسأله.. فإذا به يبادر، فيسألني قبل أن أسأله، ويقول لي: أتعرف الهندسة الوراثية.
قلت: أجل.. فهل أنتم معارضون لها؟
قال: لا.. نحن لا نعارض الحقائق العلمية التي بنيت عليها الهندسة الوراثية.. ولكنا نعارض الاستغلال غير الأخلاقي لها..
إن العلماء الذين شرفهم الله بتلك المنزلة الرفيعة صاروا سدنة لهياكل الإجرام، وصارت أبحاثهم بيد إرهابيين ولصوص لا هم لهم إلا استغلالها في تحطيم الكون والحياة والإنسان.
قلت: ما علاقة هذا بالهندسة الوراثية؟
قال: لقد بدأ استخدام الهندسة الوراثية في الحقل الزراعي قبل استخدامها مع الحيوان (النعجة دولي) بسنوات عديدة، ولم يكن أحد يعارضها ما دامت في المختبرات.. ولكنها لم تبق في المختبرات.. ولا في يد من يريد الخير بالبشرية.
قلت: فهل سرقها بعض اللصوص؟
قال: بل سرقها الكثير منهم.
قلت: فماذا فعلوا فيها، وبها؟
قال: لقد نشروا بها أمراضا لم تكن في الحسبان.. وأصبح خطر الاحتكار وتحكم الشركات العملاقة ومعامل التجارب الجينية في غذاء الناس ماثلاً للعيان.. وصار كثير منا وهو يشتري متطلباته من مراكز التسويق أو أسواق الخضار والحبوب يحس بشيء من الخوف، ويشعر بهاجس يلازمه من أن يكون مشترياً حتفه بنفسه، فهو لا يدري المعالجات الجينية التي أُخضع لها ذلك الطعام، ولا كمية المخصبات والمبيدات الحشرية التي استخدمت في إنتاجه.
قلت: ولكن ألا يمكن أن يكون هذا مجرد هاجس لا مبرر له.. فهذه الأساليب الحديثة ربما تنقذ البشرية من خطر نقص الغذاء؟
قال: عن أي غذاء تتحدث.. إن الذي خلق البشرية خلق لها من الرزق ما يكفيها.. ألم تقرأ قوله تعالى:{ وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} (البقرة:57)؟
قلت: بلى قرأتها.. ولكن ما علاقتها بما نحن فيه.
قال: إن بني إسرائيل كانوا في ذلك الحين معاقبون من الله بسبب جرائمهم.. ولكن ذلك لم يحل بينهم وبين أن يتنزل عليهم رزق الله.. فالله أنزل عليهم من الرزق ما يتناسب مع حاجاتهم.
قلت: فهل تنتظر البشرية حال المجاعة المن والسلوى كما انتظر بنو إسرائيل.
قال: يحق لمن شاء أن لا يؤمن بتنزل المن والسلوى، ولكن لا يحق لمن شاء أن يضع للبشرية السموم ليطعمها بها بديلا عن المن والسلوى.
قلت: وهل هناك من فعل ذلك؟
قال: أجل.. أولئك الذين لم يرزقهم الله العلم النافع.. أو أولئك الذين لم يستنوا بسنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في علومه.. أو أولئك الذين ورثوا العلوم، ولم يرثوا معها الأخلاق.
قلت: فماذا فعل هؤلاء؟
بادر عالم كان قريبا منا، وقال: إن العلماء لا يمكنهم التنبؤ بالمخاطر الكامنة في الهندسة الجينية.. لقد ظهرت أنواع من الحساسية وحالات التسمم لم تكن معروفة من قبل، كما أن التحكم في الغذاء وإنتاجه سيصبح في أيدي شركات الزراعة الكيميائية، وسيؤدي ذلك إلى انقراض ـ إن لم يكن إهمال ـ التنوع النباتي، وسيصبح المستهلك مسيراً ليس أمامه أي خيار آخر غير الذي تحدده تلك الشركات، وهم لا يعرفون ما تسوقهم إليه..
قال آخر: إضافة إلى أن هذه التقنية تطرح أسئلة أخلاقية كبيرة عن حق التدخل في تغيير تركيب وتكوين النباتات والمحاصيل بصفة خاصة والمخلوقات بصفة عامة.
قال آخر: إن المعارضين لتقنية الهندسة الجينية في حقل الغذاء يعلنون أنهم على استعداد للوقوف أمام المحاكم للدفاع عن مواقفهم.. في بريطانيا حالياً أكثر من 325 حقل تجارب للمحاصيل المنتجة جينياً تمتلك معظمها شركة مونسانتو الأمريكية الرائدة في هذا المجال، إلى جانب شركات ومختبرات بريطانية، وقد قامت مجموعات مناهضة تقنية الجينات في الحقول الزراعية بتدمير 25 منها، وبعض الشركات لا تكشف عن مهاجمة حقولها خوفاً من الكشف عن مواقعها أمام مزيد من المهاجمين.
ويقول المراقبون: إن التحالف الحالي بين منظمات حماية البيئة وحركات السلام والتنظيمات الناشئة للدفاع عن الغذاء ليس سوى قمة رأس جبل الجليد ضد الشركات التي تروج لتقنية أغذية الهندسة الوراثية.. فهناك أعداد متزايدة في بريطانيا تعبّر عن رفضها أو خوفها من المستقبل الغذائي ولم تقتنع بحجج الشركات القائلة: إن الأغذية المستولدة جينياً سليمة وصحية وستفيد الدول النامية.
قال آخر: إن منظمة السلام الأخضر وأصدقاء الأرض والحزب الأخضر واتحاد الأرض جميعها تريد حظر إدخال بذور المحاصيل المعالجة وراثياً إلى بريطانيا، بل إن المنظمات العاملة في المجالات الإنسانية مثل أوكسفام وكريستيان ايد تعبر عن تحفظات عميقة تجاه الادعاء القائل بأن التقنية الجديدة ستعالج مشكلة الجوع.
قال آخر: الحكومة البريطانية كوّنت لجنة من أربع وزارات لاستباق ما يمكن أن يتحول إلى أزمة داخلية بعد أن احتج البريطانيون بأن الرأي العام ومؤسساته لم يُستشر في إدخال هذه التقنية إلى بريطانيا التي فرضتها اتفاقيات دولية وقوانين الاتحاد الأوروبي، وقد سببت عمليات الهجوم المنظمة على تلك الحقول خسائر للشركات المعنية بلغت ملايين الجنيهات ونجحت في تأجيل برنامج إنتاج تلك المحاصيل على مستوى تجاري.
قال آخر: دعونا.. نحن لا تهمنا المسائل الاقتصادية.. بل الذي يهمنا هو الإنسان..
قال آخر: كيف تقول هذا.. فلولا المصالح الاقتصادية للشركات الكبرى ما ارتكبت هذه الجرائم الكبرى في حق الإنسان.. في العام الماضي، وفي أربع عشرة ولاية امريكية صدرت قوانين تمنع المواطنين من الاعتراض على تغذية الحيوانات بأحشاء وبقايا الأبقار.. ألا ترى أن هذا يدل على المدى الذي يمكن أن يصل إليه المشرع الأمريكي لحماية مصالح الشركات في مواجهة مصالح المواطن العادي.
قال آخر: ليس ذلك فقط.. بل إن استغلال التقنية التطور العلمي في مجال هندسة الجينات النباتية (الثورة البايوتكنولوجية) يمكن أن يستخدم في إنتاج أسلحة بيوكيميائية، وبمثل ما فعلت الصناعات النووية من قبلها، فإن حمقى التقنيات البيولوجية يمكن أن يتجاهلوا خطورة ما يفعلونه فيرتكبون حماقة جديدة أسوأ من الحماقات النووية.
قال آخر: مثلما فعل مهندسو الطاقة النووية من قبل فإن علماء التكنولوجيا البايولوجية يقومون اليوم باللعبة نفسها، فيقللون من المخاطر التي يمكن أن يقود إليها عملهم.
***
بينما كان الجمع يتحدث بتلك الأحاديث إذا بأحدهم ينهار، ويسقط بجانبي، وإذا بالباقر يسرع إليه، ويحمله، ثم يسرع به إلى سيارة قريبة، فيمتطيها، وأمتطيها معه إلى مستشفى قريب..
في ذلك المستشفى وجدنا الرعاية التامة، ووجدنا الاحترام الكامل للمرضى..
لكني سمعت صوتا مرتفعا في قاعة من القاعات، فرحت أتصنت عليها.. لقد كانت القاعة مخبرا تجرى فيه التحاليل المختلفة للمرضى.. سأحكي لكم بعض ما وصل أذني من أحاديثهم، فكلها كانت تصب فيما كنا فيه.
قال الأول: إن ما تقوله خطير.. إننا نتلاعب بذلك بهذه الأمانات التي بين أيدينا.. ألا ترى إلى المرضى الذين ينظرون إلينا، وكأننا المنقذ الذي أرسله الله ليخلصهم من العلل التي تنهشهم.
قال الثاني: ولكنهم صائرون إلى الموت لا محالة.. ثم مصيرهم بعد ذلك إلى الدود الذي يلتهم تلك الأعضاء الثمينة التي يملكونها.
قال الأول: فهل تريد أن تتغذى بهم قبل أن يتعشى بهم الدود.
قال الثاني: سيجد الدود أكله لا محالة.. وتلك الأعضاء لن يضر الدود فقدها.
قال الأول: إننا أمة تسعى إلى الحضارة.. والحضارة تستدعي احترام الإنسان.. فهل تريد بنا أن نتحول إلى بدائيين من أكلة لحوم البشر.
أرسل الثاني ضحكة عالية، وقال: أتدري من طلب هذه الأعضاء، ومن يبذل فيها الأموال الضخمة.. إنهم أرباب الحضارة أنفسهم.. إنهم سدنة هذه الحضارة العظيمة التي نعيش في ظلها.
أتدري كيف وصلنا إلى هذه التطورات الطبيقة العريقة؟
قال الأول: بالعلم، وباحترام الإنسان، والبحث عما يوفر له الراحة والسعادة.
قال الثاني: ليس ذلك فقط.. هناك شيء آخر اسمه التضحية.
قال الأول: التضحية بالجهد والوقت..
قال الثاني: بل بالإنسان..
قال الأول: أعلم ذلك.. الأطباء قد يضطرون أحيانا إلى ذلك.. لقد اضطر ادوارد جينر إلى إجراء تجاربه حول لقاحات الجدري على ابنه وأبناء منطقته.. واضطر يوهان يورج إلى تناول سبعة عشرة دواء بجرعات مختلفة، وذلك لاختبار مميزات كل دواء على المرضى.. لقد كان لويس باستور يعارض إجراء التجارب على البشر، ولكنه في النهاية أذعن عندما أدرك أن موت أحد الأطفال الذين كان يعالجهم أصبح أمرا واقعا لا محالة.
قال الثاني: التضحية الاختيارية وحدها لا تكفي.. هناك تضحية أخرى قد تبرر ما نريد فعله.
قال الأول: التضحية الجبرية؟
قال الثاني: لقد لعب النازيون دورا بارزا في التجارب البشرية، وأسهبوا في استخدام أسرى الحرب، خلال الحرب العالمية الثانية، لإجراء تجارب علمية أو تجارب تعذيب بحق السجناء.
ويعتبر الطبيب الألماني النازي جوزف مينجيلي أشهرهم إذ أجرى العديد من العمليات والتجارب على الأحياء من السجناء في معسكرات الاعتقال والأسر، واشتملت التجارب على وضع الأشخاص في غرف لقياس الضغط وتجربة بعض الأدوية عليهم وتجميدهم في غرف مثلجة حتى الموت ووصل الأمر إلى تقطيع أجسادهم..
قاطعه الأول قائلا: لا تحدثني عن أولئك النازيين المتعطشين للدماء، فلا ينبغي أن نعتبرهم مقياسا للحضارة..
قاطعه الثاني، وقال: تريد أن أحدثك عن أمريكا إذن.. إن كنت تريد ذلك، فإن للولايات المتحدة الأمريكية تاريخ أسود في مجال التجارب البشرية يمتد لعقود طوال، وكان الشعب الأمريكي فأر التجارب الأول لحكومته.
ومن أشهر فضائح الحكومة الأمريكية تجربة توسكيجي لمرض الزهري عام 1932 عندما شخص 200 رجل أسود البشرة بمرض الزهري، ولم يذكر أي شيء لهم عن مرضهم ومنع عنهم العلاج أيضا، واستخدموا كفئران تجارب لمتابعة تطور المرض وعوارضه حتى توفوا جميعهم نتيجة المرض، ولم يتم إخبار عائلاتهم بأنه كان من الممكن إنقاذهم لو تم علاجهم، وفي عام 1965 وفي دراسة استمرت ثلاث سنوات، تطوع سبعون سجينا في سجن هولمزبيرج في فيلادلفيا للخضوع لتجارب على دايوكسن وهو أحد المواد الكيميائية الضارة، ولم تتم معالجة الجروح التي تعرضوا لها جراء التجربة لفترة استمرت سبعة أشهر، ولم يتم إخبار أي منهم بأنهم سيدرسون من ناحية تطور مرض السرطان.
أما في عام 1956 وفي سافانا بجورجيا وأفون بارك بفلوريدا، فقد أجري الجيش الأمريكي تجارب عملية خارج المختبرات التابعة له، فتم إطلاق العديد من البعوض في الضواحي السكنية من الأرض، ومن الجو حيث تعرض الكثيرون من السكان للدغات البعوض ومنهم من مرض ومنهم من مات أيضا، وبعد كل هذا يقوم عدد من رجال الجيش الأمريكي بالتنكر على هيئة مسئولي صحة عامة بتصوير وفحص المصابين، ويعتقد أن البعوض تم حقنه بالحمى الصفراء إلا أنه حتى الآن لم تكشف حقيقة ما حدث في تلك التجربة.
وفي عام 1955 اجتاحت منطقة تامبا باي في فلوريدا موجة حادة من حالات السعال مما أدى إلى مقتل 12 شخصا وذلك إثر قيام وكالة الاستخبارات المركزية بالتعاون مع مختبر الجيش للأسلحة الكيميائية والبيولوجية بنشر بكتيريا في البيئة ولم يعرف شيء عن فحوى أسرار هذه التجربة.
قال الأول: لا تحدثني عن أمريكا.. فهي لا تقل عن ألمانيا..
قاطعه الثاني، وقال: تريد أن أحدثك عن..
***
بينما أنا منهمك انهماكا كليا في سماع تلك الأحاديث، لم أدر إلا بيد الباقر تجذبني، وهو يقول لي: تعال.. كيف تركتني.. لقد تعبت في البحث عنك؟
قلت: اعذرني.. فقد شغلتني أحاديث ملأت قلبي احتقارا للعلم.
قال: لا تقل هذا.. العلم هو نعمة الله العظمى على عباده..
قلت: ولكن النعمة قد تحول نقمة؟
قال: أجل.. يمكن ذلك.. لقد قال الله تعالى يذكر ذلك:{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ} (ابراهيم:28)
صحت: أعد علي هذه الآية.. إنها تتحدث عن واقعنا تماما.
قال: إنها تتحدث عن واقع البشرية جميعا.. فكل من بدل نعمة الله، وتصرف فيها بهواه لا بد أن يحل به وبقومه الدمار.
إن الله تعالى برحمته خلق الخير المحض.. ولكن العابثين الكافرين بالنعمة راحوا يغذون ذلك الخير بما امتلأت به نفوسهم من الشر.. فصار الخير شرا، وصارت النعمة بلاء..
قلت: وصار العلم ـ الذي هو رسول السلام، وقنطرة الخير ـ رسولا للصراع، وقنطرة للمآرب الخسيسة.
قال: لقد ذكر الله تعالى ذلك، وضرب لذلك أمثلة:
قال في أولها:{ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } (لأعراف:175 ـ 176)، فهذا مثال من تبحر في علوم كثيرة، ربما نال منها ثمرات غيرت مسار حياته المادية، ولكنه لم يلتفت إلى حقيقته التي تحولت كلبا إن تحمله يلهث أو تتركه يلهث، فانسلخ بذلك من إنسانيته لأنه انسلخ قبل ذلك من آيات ربه.
قلت: إن هذا الكلب يذكرني بالدكتور جوزف مينجيلي..
قال: لم يكن الدكتور جوزف مينجيلي واحدا، كما أن الشيطان لم يكن واحدا.. هناك الآلاف من الذين ساروا سيرته، أو من الذين لا يزالون يسيرون سيرته..
قلت: كلهم كلاب لا هم لها إلا عض الأجساد التي تأوي إليها.
قال: ذلك مثل..
قلت بغضب: وهو ينطبق عليهم تماما.. لقد عرف القرآن كيف يعبر عن القلوب السوداء التي تختزنها تلك الجثث.
قال: لقد ضرب القرآن مثالا آخر لهؤلاء، فقال ضاربا المثل ببني إسرائيل:{ مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ((الجمعة:5)، فبنو إسرائيل حملوا كتبهم وعرفوا ما فيها، ولكنهم نسوا ما فيها من الهدي، ولم يشتغلوا بما يخرج حقيقتهم عن البهيمية التي أوقعتها فيها شهواتهم.
قلت: إن هذا المثل ينطبق تماما على هذه الحضارة.. إنها تدعي أنها تحمل القيم الرفيعة، بينما هي كالحمار، تحمل القيم كمصنفات تصيح بها، لا كحقائق تعيشها.
قال: وضرب القرآن لهؤلاء مثلا واقعيا آخر، فقال:{ وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ((القصص:38)، ففرعون يسعى ليرقى الفضاء لا ليتعرف على ملكوت الله ليجعله سبيله إلى الله، وإنما يسعى من رقيه إلى تحدي الله.
قلت: إن هذا المثل ينطبق تماما على هذه الحضارة الجاحدة التي جعلت العلم سلما للإلحاد، ولمنازعة الله.
قال: صدقت.. إن هذا المثل ينطبق على عصرنا، العصر الذي توهم فيه الإنسان أنه حقق حلم فرعون، فرقى إلى القمر، وقد يرقى إلى غيره من الكواكب، ولكنه لم يرقه إنسانا، وإنما رقاه بهيمة أو سبعا، رقاه لا ليقول:{ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً } (آل عمران: 191)، وإنما رقاه لينصب علم بلده الذي يمثل حقيقة عنصريته وأنانيته وجبروته.
قلت: وهو لم يكتف بذلك، بل راح يطلق كل القيم من أجل الوصول إلى هذه الأهداف([36])..
قال: لقد ضرب القرآن لهؤلاء مثلا آخر، وهو مثل قارون الذي اشتغل بالعلوم التي تنمي ثروته، سواء كانت علوما اقتصادية أو تقنية، ونسي أن يعرف حقيقته وحقيقة وجوده، فخسف به وبما يملكه، قال تعالى:{ قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي } (القصص: 78)
ومثل هؤلاء أقوام قال عنهم الله تعالى:{ فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ } (غافر:83)
قلت: إن هذا المثل ينطبق تماما على هذه الحضارة.. إن هذه الحضارة انشغلت بالفرح بما عندها، أو بما عند غيرها من تطور، وغفلت عن علوم تخرجها عن بهيميتها أو سبعيتها إلى حقيقة الإنسان المكرم.
قال: لقد اعتبر الله تعالى علوم هؤلاء جهلا.. لقد نفى الله العلم عن قوم، أو رماهم بالجهل، ثم قال مستدركا:{ يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ } (الروم:7)
قلت: أرى للقرآن سبقا عجيبا في الحديث عن هذه الظاهرة.
قال: ليس الحديث عنها فقط، وإنما وضع القرآن الكريم، والهدي النبوي منظومة كاملة لعلاجها، والوقاية منها.
قلت: فحدثني عنها.
قال: إن الآية الأخيرة التي قرأناها تشير إلى هذه المنظومة.. فالآية تقسم العلوم إلى قسمين: علوم تتعلق بظاهر الحياة الدنيا، وعلوم تتعلق بالآخرة:
أما العلوم المتعلقة بالدنيا، فهي العلوم المنظمة لحياة الإنسان في الدنيا، أو الميسرة للإنسان أسباب العيش فيها، وهي علوم مهمة، لأن وظائف الإنسان لا يمكن أداؤها إلا في جو صالح لذلك الأداء، وغاية هذه العلوم إما سياسة الأفراد والمجتمعات، أو الحصول على تقنيات تيسر مرافق الحياة، فهي علوم سياسية صناعية، أوهي سياسات وصناعات، لها حظها من العلم بقدر نجاحها في تحصيل هاتين الغايتين.
أما العلوم الثانية، فهي العلوم الحقيقية، لأنها تعنى بالهدف الذي من أجله وجد الإنسان واستخلف، والغفلة عنها أو وضعها في مرتبة تلي مرتبة العلوم الأولى تحرف حقيقة وظيفة الإنسان على الأرض، لأنها تجعل وظيفيته قاصرة على أن يؤمن في وجوده على الأرض ما يتصوره من وسائل السعادة، من غير أن يتطلع إلى ما بعدها، وكأنه وجد ليأكل ويلبس ويركب ويسكن، ثم يموت من غير أن يحمل شيئا مما أفنى عمره من أجله.
قلت: كأني بك تريد أن تقول بأن العلوم الثانية هي التي تحمي من استغلال العلوم الأولى.
قال: أجل.. ولهذا، فإن النصوص تحث على البدء بالعلوم الأولى قبل البدء بالعلوم الثانية.
قلت: لم؟
قال: هل يمكن أن تسلم لصبي صغير ثروة ضخمة، وهو لا يزال متعلقا باللعب؟
قلت: لو سلمت له لاشتراها كلها لعبا ومفرقعات.
قال: هكذا فعلت حضارتنا عندما راحت تعلم الأغرار كيف يصنعون المفرقعات، فراحوا يتنافسون فيها، ويهلكون الأخضر واليابس بتنافسهم.
قلت: فما عساهم يفعلون ليجنبوهم اللعب بالمفرقعات؟
قال: لقد بحثت في كل ما وصلنا من تراث في الهدي الصالح الذي يمكن أن يجنب البشرية هذا النوع من المخاطر، ويمحض العلم للخير المحض، فلم أجد ذلك إلا عند رجل واحد.. هو محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
لعلك تذكر بأن المقياس الرابع الذي وضعته لعلوم الإنسان الكامل هو النفع..
قلت: أجل.. وحق لك أن تضعه.. لقد كنت أتصور أن العلم مطلوب لذاته، وشريف لذاته.. ولكني اليوم أدركت أنه آلة من الآلات.. وأنه أحيانا كثيرة قد يكون سما قاتلا، أو سيفا جارحا.
قال: ولهذا ربى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ورثته على العلم النافع.. بل كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يستعيذ بالله من علم لا ينفع.. فقد كان يقول: (اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع، ومن نفس لا تشبع، ومن دعوة لا يستجاب لها)([37])
قلت: إن هذا النص الذي قرأته عجيب.. فقد قرن محمد بين العلم الذي لا ينفع بالقلب الذي لا يخشع، والنفس التي لا تشبع.. وكأنه يشير بذلك إلى الآفات التي تنجر عن العلم الذي لا ينفع.
قال: صدقت.. والنص واضح في الدلالة على ذلك.
قلت: حدثني عن المنظومة التي وضعها محمد لتجنيب المتعلمين مخاطر العلوم وأضرارها.
قال: الإسلام كله ـ بجميع تعاليمه ـ هو تلك المنظومة.. إن الإسلام يبدأ بالنفس، فيطهرها من نوازع الشر التي قد تتحكم فيها، فتحولها إلى ذلك الكلب الذي ضرب لنا القرآن الكريم مثله.
ولهذا، فإن أول ما يبدأ به المتعلم في الإسلام هو غرس الإيمان في قلبه، وغرس الأدب والطهارة في سلوكه.. حتى يصير سلوكه شجرة نافعة لا تنبت إلا الثمر الطيب.
وقد وصف بعض ورثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم صفات العالم المهتدي بهدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم والوارث له، فقال: (من صفته أن يكون لله شاكراً، وله ذاكراً، دائم الذكر بحلاوة حب المذكور، يعد نفسه مع شدة اجتهاده خاطئاً مذنباً، ومع الدؤوب على حسن العلم مقصراً، لجأ إلى الله فقوّى ظهره، ووثق بالله فلم يخف غيره، مستغن بالله عن كل شيء، ومفتقر إلى الله في كل شيء، أنسه بالله وحده، ووحشته ممن يشغله عن ربه، إن ازداد علماً خاف توكيد الحجة، مشفقٌ على ما مضى من صالح عمله أن لا يقبل منه،همه في تلاوة كلام الله الفهم عن مولاه، وفي سنن الرسول الفقه لئلا يُضيّع ما أمر به، متأدبٌ بالقرآن والسنّة، لا يُنافس أهل الدنيا في عزها، ولا يجزع من ذلّها، يمشي على الأرض هوناً بالسكينة والوقار، قال عز وجل:{ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا (107) وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا (108) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا (109)} (الإسراء)([38])
وبما أن الدنيا بشهواتها هي الفخ الأكبر الذي يقع فيه الدجالون من العلماء، فإن منهج التعليم الذي استفاده الورثة من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو التزهيد في الدنيا، وفي متاعها الحقير، حتى لا ينشغل طالب العلم بشهواته عن الرسالة العظيمة التي يحملها.. يقول الغزالي: (إن أقل درجات العالم أن يدرك حقارة الدنيا وخستها وكدورتها وانصرامها وعظم الآخرة ودوامها وصفاء نعيمها وجلالة ملكها ويعلم أنهما متضادتان، وأنهما كالضرتين مهما أرضيت إحداهما أسخطت الأخرى، وأنهما ككفتي الميزان مهما رجحت إحداهما خفت الأخرى، وأنهما كالمشرق والمغرب مهما قربت من أحدهما بعدت عن الآخر، وأنهما كقدحين أحدهما مملوء والآخر فارغ فبقدر ما تصب منه في الآخر حتى يمتلىء يفرغ الآخر. فإن من لا يعرف حقارة الدنيا وكدورتها وامتزاج لذاتها بألمها ثم انصرام ما يصفو منها فهو فاسد العقل. فإن المشاهدة والتجربة ترشد إلى ذلك فكيف يكون من العلماء من لا عقل له؟ ومن لا يعلم عظم أمر الآخرة ودوامها فهو كافر مسلوب الإيمان فكيف يكون من العلماء من لا إيمان له ومن لا يعلم مضادة الدنيا للآخرة وأن الجمع بـينهما طمع في غير مطمع؟ فهو جاهل بشرائع الأنبـياء كلهم، بل هو كافر بالقرآن كله من أوّله إلى آخره، فكيف يعدّ من زمرة العلماء؟ ومن علم هذا كله ثم لم يؤثر الآخرة على الدنيا فهو أسير الشيطان قد أهلكته شهوته وغلبت عليه شقوته فكيف يعد من حزب العلماء من هذه درجته؟)([39])
وما ذكره الغزالي هو ما ورد التصريح به في الأحاديث الكثيرة، فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (من تعلم علما مما يبتغى به وجه الله عز وجل لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضا من الدنيا لم يجد عرف الجنة يوم القيامة)([40])
ويقول: (من تعلم العلم ليباهي به العلماء أو ليماري به السفهاء أو يصرف به وجوه الناس إليه فهو في النار)([41])
ويقول متحدثا عن أخبار الأنبياء قبله صلى الله عليه وآله وسلم: (أنزل الله في بعض كتابه وأوحى إلى بعض أنبيائه: قل للذين يتفقهون بغير الدين ويتعلمون لغير العلم ويطلبون الدنيا بعمل الآخرة ويلبسون لباس مسوك([42]) الكباش وقلوبهم قلوب الذئاب ألسنتهم أحلى من العسل وقلوبهم أمر من الصبر، إياي يخدعون أو بي يستهزؤون فبي حلفت لأتيحن لهم فتنة تذر الحليم فيهم حيران)([43])
انظر إلى هذه الوصية.. وانظر إلى عظمها.. ألم تر أن العلم لما نزل لخدمة المستبدين راح يخترع لهم من صنوف الدمار ما يتناسب مع نوازع الإجرام التي امتلأوا به، وصاروا لا يتصرفون إلا بمقتضاها؟
ولما نزل إلى خدمة التجار.. صار يخترع لهم السموم ليسقوها زبائنهم..
قلت: صدقت في كل ما ذكرت.. ولكني لم أفهم شيئا واحدا.
قال: فهمت ما توقفت فيه.. فقد توقفت فيه مثلك في يوم من الأيام.. إن الدنيا التي حذر منها أهل الله من ورثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا تعني ما تقصده.. فالله أمرنا بعمارة الأرض، وحثنا على استعمال الأسباب من أجل ذلك..
لقد قص علينا القرآن الكريم قصة ذي القرنين الذي مارس كل الأساليب ليحقق الرفاه والأمن لمن ولي شأنهم.. لقد ذكر الله أنه اتبع الأسباب.. وما الأسباب إلا ما توفره العلوم من حقائق تستغل في التقنيات المختلفة..
بل إن الله تعالى ذكر بعض تلك التقنيات، فقال:{ آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَاراً قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً} (الكهف:96)
ومثل ذلك ذكر تقنيات الزراعة الناجحة المرتبطة بالبيئات الجافة([44])، فقال تعالى:{ وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعاً} (الكهف:32)
قلت: فما الدنيا التي حذروا منها؟
قال: هي الهمم الدنية.. هي همة ذلك المخترع الذي لا يبالي بمن يسقط من الضحايا في سبيل ما يكسبه من مال أو جاه أو مناصب..
هي همة ذلك الذي يسخر العلم من أجل الفتنة والفساد والانحراف..
هي تلك الهمم الكثيرة التي جعلت من العلم وسيلة من وسائل الرزق ـ أي رزق ـ لا تلك المعارف التي شرف بها الإنسان ليعرف بها حقائق الوجود، ويتعامل معها وفق ما تتطلبها.
***
بعد أن تفرغ الباقر لي في تلك الأيام الأربعة.. وبعد أن أحسست بتشوق عظيم للتعرف على العلوم التي جاء بها محمد صلى الله عليه وآله وسلم.. طلبت من الباقر أن يدلني على مدرسة أتعلم فيها تلك العلوم.. فأرشدني إلى القرآن الكريم والسنة المطهرة.. فبقيت في رحابهما أربع سنوات لا هم لي إلا تعلم العلوم التي ورثها الورثة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم..
بعد تلك السنوات علمت علم اليقين أن الأمة الوحيدة التي استفادت كل علومها من نبيها هي أمة الإسلام..
حتى اللغة التي تكلم بها نبيها لا زالت هي اللغة التي تدرس.. بل إن نحوها وصرفها وبلاغتها لم تستفدها إلا من نبيها صلى الله عليه وآله وسلم..
فمحمد صلى الله عليه وآله وسلم هو أستاذ المفسرين والفقهاء وعلماء الكلام والفلاسفة والمتصوفة والبلاغيين والأدباء والدعاة.. كلهم في مبدإ أمرهم ومنتهاه يعودون إلى محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليتتلمذوا على يديه.. ولولاه ما كان لعلومهم ذلك الرقي الذي وصلت إليه.
لقد قارنت هذا بسائر الأديان.. فوجدت العجب العجاب..
لقد وجدت أن كل الملل والنحل ـ عدا ملة
الإسلام ـ لا تعرف حتى اللغة التي تكلم بها نبيها.. بل تقف في معاني ما جاء به..
وليس لها عنه أي إسناد يمكن أن تثق فيه لتبصر أحقية ما جاء به([45]).
([1]) أشير به إلى الإمام محمد الباقر، ولا يخفى سر اختيارنا له في هذا المقام.
([2]) رواه البخاري ومسلم.
([3]) رواه أحمد.
([4]) رواه أحمد.
([5]) رواه أحمد.
([6]) رواه الطبراني.
([7]) رواه الطبراني، وهو جزء من الحديث السابق.
([8]) رواه الطبراني، وهو جزء من الحديث السابق.
([9]) رواه البخاري ومسلم.
([10]) رواه البخاري ومسلم.
([11]) الغط: العصر الشديد، والكبس، ومنه الغط فى الماء، الغوص. النهاية: 3/335.
([12]) الحديث.. رواه البخارى ومسلم.
([13]) رواه البخاري ومسلم.
([14]) رواه ابن جرير.
([15]) أشرنا إلى هذه المسألة بتفصيل في رسالة (معجزات علمية) من هذه السلسلة.
([16]) انظر التفاصيل المرتبطة بهذا في رسالة (معجزات علمية) من هذه السلسلة.
([17]) رواه مسلم.
([18]) الكلام التالي مقتبس بتصرف من مقال بعنوان (التنوير بالكونيات وأثره في الحضارتين الإسلامية والأوروبية)، لزين العابدين الركابي.
([19]) انظر التفاصيل المثبتة لهذا في رسالة (معجزات علمية) من هذه السلسلة.
([20]) انظر التفاصيل المرتبطة بهذه النظرية في رسالة (معجزات علمية) من هذه السلسلة..
([21]) ) رواه أبو داود وغيره.
([22]) رواه مسلم.
([23]) مرجع برايس الطبي- الطبعة العاشرة.
([24]) رواه مسلم.
([25]) انظر: الرسول، لسعيد حوى.
([26]) للأسف نرى هذا القول تمتلئ به كتب المبشرين، وفي موقع الكلمة وحده عشرات المواضع التي ليس من همها غير التشنيع باعتبار الرعد ملكا.
([27]) والتفسير العلمي لذلك أن في السحب كهربائية موجبة وفي الأرض كهربائية سالبة، وقد تكتسب السحب المنخفضة من كهربائية الأرض فتصير كهربائيتها سالبة مثلها، فإن اتفق مرور سحابة من السحب العلوية الجوية فوق سحابة من هذا النوع حصل بينهما تجاذب لأن الجسمين المتكهربين بكهربائيتين مختلفتين يتجاذبان وتتحد بينهما الكهربائيتان.
فتتجاذب تانك السحابتان حتى تتحد كهربائيتاهما وعادة يحصل من هذا الاتحاد حرارة شديدة وتتولد بنيهما شرارة مناسبة لحجم السحابتين فتلك الشرارة هي الصاعقة وما يرى من نورها هو البرق وما يسمع من الرعد هو صوت سريانها في الهواء فيكون الرعد هو صوت الشرارة الكهربائية تخترق طبقات الهواء..
([28]) ذكرنا المسألة بتفصيل في رسالة (أهل الله) عند الحديث عن الملائكة ـ عليهم السلام ـ
([29]) انظر المادة العلمية المرتبطة بهذا في (الموسوعة العربية العالمية) مادة (الوراثة)
([30]) انظر تفاصيل نبوءاته صلى الله عليه وآله وسلم المستقبلية في رسالة (معجزات حسية) من هذه السلسة.
([31]) تفسير عبد الرزاق (1/200) وتفسير الطبري (11/348)
([32]) رواه ابن سعد.
([33]) رواه أبو داود.
([34]) هو أَلفْرِد بيرنارْد نوبل (1833م – 1896م)، كيميائي سويدي اخترع الديناميت وأنشأ جوائز نوبل.. أجرى في شبابه تجارب على النتروجلسرين في مصنع والده. وكان يأمل في جعل هذه المادة الخطرة متفجرا آمنا وصالحًا للاستعمال، وأعد متفجرًا من النتروجلسرين، لكن وقعت العديد من الحوادث حينما عُرض للبيع، إلى درجة أن كثيرًا من الناس عدوه عدوا للشعب تقريبًا لبعض الوقت.
كان نوبل يعاني الإحساس بالذنب لصنعه مادة سببت الكثير من الموت والدمار، وكره فكرة إمكانية استخدام الديناميت في الحرب، بينما كان يعتقد أن اختراعه من أجل السلم، وأنشأ نوبل صندوقًا بمبلغ 9 ملايين دولار، يستخدم العائد منه لمنح جوائز سنوية، إحداها لأكثر الأعمال المؤثرة لتشجيع السلام العالمي (انظر: الموسوعة العربية العالمية)
([35]) أشير بهذا إلى مقال بعنوان (سلطة العلم والسياسة والأخلاق)، د. عبد السلام المسدي، أستاذ اللسانيات بالجامعة التونسية.. والذي ذكرت ملخصه هنا ببعض التصرف.
([36]) أشير إلى الحرب الباردة، والتي كان التقدم في مجال الفضاء من ثمراتها.
([37]) رواه مسلم.
([38]) أخلاق العلماء:64-67.
([39]) الإحياء: 1/60.
([40]) ) رواه أحمد وأبو داود والبيهقي والحاكم وابن ماجة عن أبي هريرة.
([41]) ) رواه الطبراني في الأوسط وابن أبي العاص، والدارقطني في الأفراد، وسعيد بن منصور.
([42]) ) مسوك: المسك: الجلد، والجمع مسوك مثل فلس وفلوس.
([43]) ) أبو سعيد النقاش في معجمه، وابن النجار – عن أبي الدرداء.
([44]) انظر التفاصيل المرتبطة بهذا في رسالة (معجزات علمية) من هذه السلسلة.
([45]) انظر لمزيد من التفاصيل المرتبطة بهذا رسالة (الكلمات المقدسة) من هذه السلسلة، وانظر ـ كذلك ـ الفصل الأخير من هذه الرسالة.